قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور

الرقيق القيرواني

بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يَسِّر قال العتابيّ: بعث إليَّ طاهر بنُ الحُسين في يوم دَجنٍ فدخلت عليه وبين يديه خادم يسقيه فقال: يا عتابي، أما ترى يومنا ما أرقه وساقينا ما أظرفه فإن قلت ما نحن فيه شعراً يقع بموافقتي وهبتُ لك الخادم، فقلت: أَيُها الساقي الذي أصبح يسقينا الرَّحيقا سَقِّ نَدماني عُقاراً ... واسقني من فيكَ ريقا فَمُنى نفسي هذا ... نِ صبوحاً وغبوقاً طاهرٌ بَرٌّ جوادٌ ... فاتخذناه طريقا وكذا كان [حسينٌ] فحكى الغُصنُ العُروقا فقال: أحسنتَ، خذ الغلام، فلما صرت إلى الدهليز تبعني وكيله فقال: تبيع الخادم، فقلت: نعم. قال: بكم، قلتُ: بألف دينار وظننت أني لم أبقِ غايةً، فقال: هي لك، ودفعها إليّ، فلحقني رسول طاهر فردني فقال: ما صنعت بالخادم، قلت: بعتُهُ، قال: بكم؟ قلت: بألف دينار، قال: والله لو أبيت إلا مائة ألفٍ لأعطيتُها. قال ابن قتيبة: وخرج أبو عيسى ابن الرشيد متنزهاً إلى القفص ومعه أبو نواس، فأقام في نزهته شعبان كله، فلما كان أول يوم من رمضان، عزم أبو عيسى على الصوم، فقال له أبو نواس: هذا يوم شك وليس للشك حُجة على اليقين ومن يُفطره أكثر ممن يصومه، وأنشده: لو شئت لم نبرح من القفص ... نشربها صفراء كالجص نسرقُ هذا اليوم من شهرنا ... فالله قد يعفو عن اللص وخرج أبو عيسى مرة إلى القفص ومعه أبو نواس فأقاما في نزهتهما أُسبوعاً، ثم قال له: بحياتي صف مجلسنا، وأيامنا هذه، فقال: يا طيبَنا وقصورُ القفص مشرقةٌ ... فيها الدساكِرُ والأنهارُ تَطرِدُ لما اصطحبنا بها صهباء صافيةً ... كأنها لَهَبٌ في الكأس يَتَّقِدُ فقام كالبدر مشدوداً قراطُقُه ... ظبيٌ يَكادُ من التهييفِ يَنعقدُ فاستَلَّها من فمِ الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجَسد فلم نزل في صباح السبت نأخذُها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأَحدُ وفي الثلاثاءِ أعملنا المطيَّ بها ... صهباءَ ما قرعتها بالمزاج يَدُ والأربعاءِ كسرنا حدَّ شِرتِهِ ... والكأس يضحك في حافاتها الزبدُ ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفاً وتم لنا بالجمعة العددُ في مجلس حولَهُ الأشجارُ مُحدقةً ... وفي جوانبه الأطيار تغتردُ لا نستخفُّ بساقينا لِعزته ... ولا يَرُدُّ عليه حكمه أحدُ عند الهُام أبي عيسى الذي كملت أخلاقهُ فهي كالعِيقان تُنتقدُ وبالجزيرة دير يقال له دير حنظلة، قال أبو الفرج الأصبهاني: نُسبَ إلى رجلٍ من طيءٍ يقال له حنظلة ابن أبي عفراء أحد بني حية رهط أبي زبيد الطائي، وكان حنظلة من شعراء الجاهلية فتنصَّرَ وفارق بلاد قومه، وباع كل ما كان له وبنى هذا الدير وأقام به مترهباً حتى مات، وهذا الدير في أحسن مكانٍ من الجزيرة وأكثره مياهاً وشجراً ورياضاً وزهراً، وهو موصوف بالحسن والطيب، وقد قالت فيه الشعرراءُ فأكثرت، وغُنِّي في أشعارهم؛ فممن نزله عبد الله بن الأمين محمد بن زبيدة. حكى قدامة بن جعفر عن حمَّاد بن إسحق قال: حدثني أبو نجاح قال: كنت مع عبد الله بن الأمين وقد خرج إلى نواحي الجزيرة. وكانت له هناك ضياعٌ كثيرة حسنة فاجتزنا بدير حنظلة هذا، وكانت أيام الربيع، وكانت حوله من الرياض ما ينسي حُلل الوشي، وبُسط خضرة وزهر، فنزلنا فيه وبعث إلى خمار بالقرب من الفرات، فشربنا وكان عبد الله حسن الصوت، حاذقاً بالغناء والضرب، ظريفاً كاملاً فقال: أَلا يا دير حنظلة المفدى ... لقد أَودعتني تعباً وكدّا أَزُفُّ من العقار إليك زقَّاً ... وأجعل فوقه الورق المندى أَلا يا دير جادتك الغوادي ... سحائب جُليت برقاً ورعدا تزيد نباتك النامي نمواً ... وتكسو الأرض حسناً مستجدا فاصطحبنا فيه عشرة أيام، وعبد الله ومن معنا من المغنين يغنوننا. ولعبد الله في هذا الشعر لحنٌ من خفيف الرَّمل مليح، وفي هذا الدير يقول الشاعر:

طرقتكَ سُعدى بين شطي بارق ... نفسي الفداءُ لطيفها من طارق يا دير حنظلة المُهيج للبكا ... هل تستطيع دواء داء العاشقِ وبالجزيرة دير علقمة، بناه علقمة بن عديّ اللخمي وفيه يقول عديُّ بن زيد العُبادي، وفيه غناء: نادمتُ بالدير بني علقما ... عاطيتهم مشمولةً عندما كأنَّ ريح المِسْكِ في كأسها ... إذا مزجناها بماءِ السَّمَا من سَرَّهُ العيشُ ولذاتهُ ... فليجعلِ الراحَ له سُلما فاشرب على الدير ولذاته ... إذا اشتهيت اليومَ أن تنعما وكان متنزهاً لأُمراء الحيرة يأكلون عنده ويشربون وكثيراً ما تنزه فيه أمراء الحيرة، وبها دير حنظلة بن عبد المسيح اللخمي الذي يقول فيه الشاعر: بساحَة الحيرة دير حنظلة ... عليه أذيال السرور مُسبلة أحيَيْتُ فيه ليلةً مقتبلة ... وكأسنا بين الندامى مُعْملة والراحُ فيها مثل نارٍ مُشعلة ... وكلُّنا أنفذ ما قد خُوِّلَهْ فيها يلذُّ عاصياً من عذله ... مبادراً قبل يلاقي أجله قال أبو الفرج الأصبهاني: وبالحيرة دير هندٍ بنت النعمان ابن المنذر، ودخل عليها خالد بن الوليد فقال لها: أسلمي حتى أُزوجك رجلاً من المسلمين شريفاً أصيلاً يُشبهك في حسبك، فقالت: أما ديني فمالي عنه رغبة، ولا أبغي به بدلاً، وأما التزويج، فلو كانت فيَّ بقية ما تزوجت ولا رغبت فيه، فكيف وأنا عجوز، هامة اليوم أو غد؛ قال لها: فسليني حاجة أقضيكِها، قالت: أكبر حاجتي هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم، قال: نعم هذا فُرض علينا في ديننا، أَوصانا به نبينا (ص) فهل غير هذا؟ قالت: أنا في هذا الدير ملاصقة لهذه الأعظم البالية من أهل بيتي وملتي ألحق بهم، وأَمَرَ لها بمالٍ وكسوةٍ، فقالت: ما لي بشيء مما بذلته حاجة، معي عبدان يزرعان مزرعة أتقوت منها بما يُمسك رمقي، وأصرف ما بقي في ضعفاء أهل ديني، وقد اعتددتُ بقولك فعلاً، وبِعدَتِك نقداً، ولكن اسمع مني دعاءً كان يدعو به مُلاكنا، لا ملكتك يد افتقرت بعد غَناء ولا ملكتك يد استغنت بعد فقرٍ وأصاب الله بمعروفك مواضعه ولا أزال عن كريم نعمة، إلا جعل سبب ردِّها على يديك بِك. ودخل عليها المغيرة بن شُعبة وهو يلي الكوفة فحادثها، ثم قال لها: فيم كانت لذةُ أبيك؟ قالت: في محادثة الرجال وشرب الجريال، قال: إني جئتك خاطباً فضحكت وقالت: والصليب، فما ذاك رغبةً منك في مالٍ، ولا تمتعاً بجمالٍ، ولكنك أردت أن تفخر وتقول إني قد نكحتُ ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأَيُ خير في شيخٍ أعور وعجوز عمياء. وكان بعد ذلك شباب الكوفة يخرجون إلى هذا الدير متنزهين، يأكلون في رياضة ويشربون وفيه يقول الشاعر: ألا ليت شِعري هل أبيتَنَّ ليلةً ... لدى ديرِ هندٍ والحبيبُ قريبُ فتقضى لُبانات، وتُلقى أحبَّةٌ ... ويورق غصن للشباب رطيبُ وفيه يقول الآخر: لئن طال في بغداد ليلي لربما ... يُرى بجنوبِ الدير وهو قصيرُ وفيه يقول حسان بن ثابت: يا دير هند لقد أصبحتَ لي أنساً ... ولم تكن قطُّ لي يا دير مئناسا سَقياً لِظِلك ظِلاً كنتُ آلفهُ ... فيه أُعاشر قِسيساً وشماسا قِدماً وكانت الأوقات من طربٍ ... ومن سرورٍ به يا قوم أعراسا لا أعدمُ اللهو في أرجاء هيكله ... ولا أردُّ على الساقي به الكاسا وكان لإسحق بن إبراهيم غلامٌ قد رباه وعلمه فصار من أحذَقِ الناس فنفد له النبيذ يوماً فكتب إلى إبراهيم بن المهدي: جُعلت فداءَ الأمير، حضرني بيتٌ فصنعتُ فيه لحناً ووجهته إلى الأمير وأمرتهُ بإنشاده إياه. قال: فصار إلى إبراهيم فغناهُ الصوت وهو: نديمي قد خَفَّ الشرابُ ولم أجد ... له سورةً في عظم رجل ولا يد فضمَّ له إبراهيم هذا البيت: فدونك هذا الرِّيّ فاشرب مُسلماً ... فلا خير في الشرب القليل المُصَردِ وبعث إليه ثلاثة أبغُل عليها ألوان من الشراب مجللة بأثواب الديباج وثلاثة غلمان روم وأجاز زيداً بجائزة سنية.

قال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر عرضت لي حاجة إلى إبراهيم بن المهدي فبكرتُ إليه في يوم غيم ورذاذ فصادفتهُ قد لبس ثيابه وأُسرجت دوابه، فلما وصلت إليه خلعَ ثيابه وأَمَرَ بحطِّ السروج ثم قال لي: أردتُ الركوب إلى الخليفة، فلما رأيتك آثرت نفسي بك، وهذا يوم حسن لا يضيعه إلا من غُبن حظه، فأقم حتى أُطعمك اللحم طرياً وأسقيك الشراب صرفاً وأُسمعك الغناء، قلت: ما شيء أطيب إليَّ مما عرضه الأمير عليَّ، فدعا بضربٍ من لحوم الجدا والحملان والطير المسمن، فاتخذت له منه ضروب شواءٍ وكباب وقلايا، فأكلنا منها حاجتنا ثم أتينا بألوان من الشراب المطبوخ والمشمس، فاختار منه وسقاني، ثم دعا بجوارٍ فضربن عليه وغُنى أصواتاً من صنعته، فمرَّ لنا ألذُّ يومٍ وأطربه. وكانت لأم جعفر زبيدة جارية تسمى جُلنار أحسن الناس وجهاً وأطيبهم غناءً، وكانت عُليَّة بنت المهدي تمازحها وتكنيها بأبي الورد، فغلبت هذه الكنية على اسمها حتى صارت لا تُعرف إلا بها، فقالت أبو الورد: كنت ذات يومٍ واقفةً على رأس أم جعفر والسماءُ متغيمة، إذ هطل المطر، فقالت لي أم جعفر: اذهبي إلى أختي عُلية فأقرئيها مني السلام، وقولي لها ألا ترين إلى هذا اليوم وطيبه، فعلى أي شيء عزمت فيه. فخرجت عنها، حتى دخلتُ على عُلية فإذا هي جالسة في طارمة في وسط بستان لها والمطر يقع على الطارمة فيجيئُ له صوتٌ شديدٌ وفي يدها عود وهي تغني وعلى رأسها جاريةٌ كأنها خوط بانٍ، حسنة الوجه، فإذا غنت عليه صوتاً قالت لها اسقيني فتسقيها، فلما رأتني فرحت بي وقالت: الحمد لله الذي منَّ علي بك، فأكببت على البساط فقبلته، فقالت: لا والله إلا معانقة، فعانقتها، وقبلت فاها ورأسها ويديها وأديتُ إليها رسالة أم جعفر، فقالت: خبري أني منذ السحر أشرب فوق هذه الطارمة على صوت المطر، والذي عزمتُ عليه، إتمامُ السرور والشرب، فلستُ مفارقتك اليوم. فقلتُ لها: يا سيدتي أم جعفر تنتظرني، فأُدي إليها الرسالة وأرغب إليها في المسامحة بالعودة إليك فقالت: أنا أجعل الرسول غيرك. وبعثت إليها جارية تعرفها بحالها، وتسألها في أن تؤنسني في المقام عندها، فأقمتُ ودعت لي بالطعام فأكلتُ، وجعلت تسقيني وتشرب وتغنيني وأُغنيها، فبينا نحن كذلك إذ دخل الخادمُ فقال: إبراهيم أخوك، فدعت بطبق عليه مأكولٌ، وقالت: هاتوا عوداً حناناً فضعوه ناحيةً، فأتيت بذلك وإبراهيم واقفٌ بالباب، ثم أذنت له فدخل فأكب على رأسها، فقالت: لا تكلمني أو تأكل، ففعل، ثم دعت بقدحٍ فيه رطلان فشربه، ثم قالت: خذ عودك وآخذ عودي، ففعل، فما زالت تغني صوتاً ويغني صوتاً وأُغني ونشرب، إذ دخل الخادم فقال: أخوك يعقوب بالباب، فأمرت بإحضار طبقٍ عليه طعان، ثم قالت أحضروا ناياً جيداً، فأُحضر ثم أذنت له فدخل، وأكب على رأسها فقبله، فقالت: اجلس وكُل، فأكل، ثم دعت برطلين في قدح فشربه وتناول الناي فزمر وكان أحسن الناس زمراً وضرباً جميعاً، فسمعتُ والله شيئاً ما سمعتُ أحسن منه قط، فسكرتُ من الشراب والطرب فلم أعقل ورحت أتمايل سكراً حتى دخلت على أم جعفر فحدثتها بما جرى، فجعلت تضحك وأمرت لي بخلعةٍ من ثيابها. وكان يقال: لا يُعرف في بنات الخلفاء مثل عُلية بنت المهدي جودة شعر وحسن صنعة، وكانت أكمل النساء عقلاً وديناً وصيانةً ونزاهة، وكان الرشيد يعظمها ويجلسها معه على سريره، وكانت تحبُّ خادماً للرشيد يقال له ظلٌّ فتكنّي عنه، من ذلك قولها فيه: أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى (ظلٍّ) لديكِ سبيل من نلتقي من ليس يُرجى خروجُهُ ... وليس لمن يهوى إليه دخول ومن قولها فيه: قُل لذي الأصداغ والطُّرة والوجه المليحِ ولمن أشعل نارَ الحبالحبِّ في قلبٍ قريح ما صحيح أَثَّرت عيناك فيه بصحيح ومما قالت وغنته في طريقة الرمل: سلِّم على طرفِ الغزال الأغيد الحلو الدلالِ سلِم عليه وقلْ له ... يا غُلَّ ألباب الرجال خليت جسمي ساجياً ... وسكنت في ظلِّ الحجالِ وبلغت مني غاية ... لم أدرِ فيها ما احتيالي ومن قولها وغنائها: جاءني عاذلي بوجهٍ قبيحِ ... لائماً في وصالِ وجهٍ مليحِ

ظبيةٌ تسكن القِبابَ وترعى ... ثمر القلب لا أراكٍ وشيحِ ومن غنائها وشعرها: قُم يا نديمي إلى الشمولِ قد نمتَ عن ليليَ الطويلِ أما ترى النجم قد تولى ... وهم بهرامُ بالأُفولِ من عاقر الراحَ أخرسته ... فلم يجب منطقَ السؤولِ قال لي الهيثم بن عدي: قال: قال الشعبي: لما وَلِيَ بشرُ ابن مروان العراق، ولأني مظالمه. وبلغ حُنين بن بلوع المغنيّ وكان يسكن الحيرة: أن بشراً يشرب الشراب، ويسمع الغناء، فأتى الكوفة، فذُكر له أن ابن مُحرز قَدِمَها، فتلطف له جتى دعاه فغناه ابن محرِز، فسمع شيئاً هاله وحيره - وَعَلِم أن بشراً إن سمعه لم يُخل هو منه بطائل - فقال له: كم منَّتك نفسك من العراق، قال: ألف دينار، فقال: هذه خمسمائة دينار حاصلة، ونفقة سفرك عادياً وبادياً ودع العراق لي وامضِ مصاحباً حيث شئت، وكان ابن محرز صغير الهِمة لا يحب عِشرة الملوك فأخذها وانصرف، وقصد حنين بشراً فلطفت منزلته عنده وخصَّ به وأجزل عطيته. قال الشعبي: فاستأذنت على بشرٍ ذات عشيةٍ، فقال لي حاجبه، يا أبا عمرو، الأمير على حالٍ ما أظنك تصل إليه معها، فقلت: أعلمه وخلاك ذمٌ، فقد حدث أمرٌ لا بدَّ من إنهائه إليه، فاستأذنهفقال: يدخل، فدخلت، فإذا بشرٌ عليه غلالةٌ صفراءُ رقيقة، ومُلاءةٌ تقوم قياماً من شدة الصقال، وعلى رأسه إكليل من ريحان قد فصِّل بوردٍ ونرجس، وعن يمينه عكرمة بن ربعي وعن يساره خالد بن عتاب بن ورقاء، وبين يديه حنينٌ بن بلوع وعوده في حجره، فسلمتُ، فرد السلام، ورحب وقرَّب، ثم قال: يا أبا عمرو، لو كان غيرك لم آذن له على هذه الحال. فقلت: أصلح الله الأمير، لك الستر لكلِّ ما رأيت، والشكرُ على ما أوليت، فقال: كذلك الظنُّ بك، ثم غنى حنين، فقلت له: شُدَّ الزيرِ وأَرخِ البَمَّ، ففعل وضرب فأجاد، فقال بشر لأصحاب: أُلامُ على أن آذن لهذا على كلّ حالٍ كنتُ فيها؟ ثم التفتَ إليَّ وقال: من أين لك علمُ هذا. قلتُ: كنا نسمعه في أعراسنا. فظننت أن الأمر كذلك أصلح. فقال: إنه كما ظننت، ولما أردتُ القيام، أمر لي بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، فقمتُ مع الخادم حتى قبضتُ ذلك. وكان آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز من الخلعاء المجَّان. روى مُصعب الزُّبيري قال: كان آدم بن عبد العزيز يدمِن شرب الخمر ويفرط في المجون، وكان أديباً شاعراً فأخذه المهدي وجلده ثلاثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فقال: والله ما أشركت بالهه طرفة عين قال: فأين قولك: اسقني واسق خليلي ... في دجى الليل الطويل قهوةً صهباء صرفاً ... سُبئت من نهر بيل من ينل منها ثلاثاً ... ينس منهاج السبيل ومتى ما نال خمساً تركته كالقتيل في لسان المرءِ منها ... مثل طعم الزنجبيل عتقت حُولاً وحولاً ... بين كرمٍ ونخيلِ ريحُها ينفح منها ساطِعاً من رأسِ ميلِ قل لمن يلحاك فيها من فقيه ونبيل أنت دعها وارجُ أُخرى ... من رحيق السلسبيل نعطش اليوم ونُسقى ... في غدٍ نعتَ الطلول قال: وإن قلت ذلك فإني موحِّد، ولست بزنديقٍ أقول بلساني ما لا يعتقده جناني، فقال له: إذا عنَّ لك شيءٌ من هذا فاذكر سلَفَك، وخلي سبيله. قال مُصعب: وقال بعضهم لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن بنيك يشربون الخمر، قال: صِفوهم لي، قال: فلانٌ إذا شرب خرَّق ثيابه وثياب نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وفلان إذا شرب تقيأ في ثيابه وأفسدها، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا: وأما آدم فإنه إذا شرب أسكر ما يكون، لا ينال أحداً بسوء، قال: هذا لا يدعها أبداً، فكان كما قال.

وقال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر: جزت يوماً إلى إبراهيم بن المهدي فرأيته كئيباً مهموماً فقلتُ له: ما لي أراك بهذه الحالة، فقال: ويحك دعني، فقلت: والله لا أدعك حتى أعرف خبرك، قال: لم يكن أحد سمع غنائي غير الرشيد، فقال لي ليلة: جعفر بن يحيى صديقُك ولا تحتشم منه، وأنا أحب أن تغني له صوتاً، فبحياتي إلا فعلت، ودعا لي بألف درهم، فغنيته وحُمل المال إلى منزلي، وكنا البارحة عند المعتصم فقال لي سيما الشارباني: أشتهي أن تغني لي ذلك الصوت، قلت أيّما، قال: لا أدري، ولكن تغني كلَّ ما تدري فإذا مر عرَّفتُك، فورد عليَّ ما تمنيت معه الموت، فأيُّ غمٍّ يكون أشد من هذا. ودخل أحمد بن الحسين المتنبي على عليّ بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأساً فيها نبيذ دوشاب أسود فقال: أغار على الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحُسين كأن بياضها والراحُ فيها ... بياض مُحدق بسواد عينِ شربها فقال له: مَرَتكَ ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهُنئتها من شارب مسكر السُّكر رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر وكان بدر بن عمار قد تاب من الشراب مرة بعد أُخرى فرآه يشرب فقال: يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في مِلكِهِ لا مُلكهِ في كل يوم بيننا دمُ كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ من سفكه والصدق من شيم الكريم فقل لنا ... أمن الشراب تتوب أم من تركه وشرب عنده ليلة فلما كان من غدٍ عُرض عليه الصبوح فقال: رأيت المُدامةَ غلاَّبةً ... تهيج للمرءِ أَشواقهُ تُسيئ من المرءِ تأديبه ... ولكن تحسِّن أخلاقهُ وقد مُتُّ أمسِ بها موتةً ... وهل يشتهي الموت من ذاقه وقال يحيى خالد: كنت أهوى جاريتي دنانير وهي لمولاتها دهراً، فلما وضع المهدي الرشيد في حجرياشتريتها فلم أُسر بشيءٍ من الدنيا سروري بها، فما لبثت يسيراً حتى وجَّه المهدي الرشيد غازياً إلى بلاد الروم، فخرجت معه، فعظم علي فراقها، وأَقبلتُ لا يُهنئني طعامٌ ولا شرابٌ، صبابةً بها وذكراً لها، فتوغلنا في بلاد الروم وأصابنا برد شديد، وثلجٌ كثير، فإني ليلة في مضربي، أتقلبُ في فراشي تذكراً لدنانير، إذ سمعت عناءً خفياً وضرب عودٍ بالقرب مني فأنكرت ذلك، وجلست في فراشي وتسمعت صوتاً شجاني من غير أن أفهمه، فقمتُ وقد غلب النومُ أهل العسكر فتخللت المضارب حتى انتهيت إلى خيمةٍ من خِيم الجند فإذا فيها سراجٌ فدنوت منه، فإذا فتى جالسٌ وبين يديه زكرة فيها شراب وفي حجره عودٌ وهو يشرب ويتغنى: ألا يا لقومي أطلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ ... ومُنُّوا على مستشعر الهمِّ والحَزنْ أَلم ترَها بيضاء ورداً شبابُها ... لطيفة طيِّ البطنِ كالشادن الأغَنْ تذكر سَلْمَى وهي نازحةٌ فَحَنْ ... وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطن وكلما غنى بيتاً بكى وتناول قدحاً فصبَّ فيه من ذلك الشراب، فيشربُ ثم يعود فيفعل مثل ذلك وأنا اراه فأبكي لبكائه، ثم سلمتُ عليه فرد السلام، واستأذنت في الدخول فأذن، فلما دخلت أجلني وأوسع لي، فقلت: يا فتى، أخبرني بخبرك وما سبب هذا البكاء فقال: أنا فتى من الأبناء ولي بُنيَّةُ عمٍّ نشأنا حبيبين فعَلِقْتُها وعلقتني، ثم بلغنا فحُجبت عني، فسألت عميّ فزوجنيها، ومكثت حيناً أحتال لمهرها، حتى تهيأَ فأديته وأَعْرستُ بها، فلما كان يوم سابعها ضُرب علي البعث فخرجتُ وبي من الصبابة بها والشوق لها ما الله به عليم، فإذا أصبتُ شراباً أخذت منه الشيء ثم أفعل ما ترى تذكاراً لها، فقلت: هل تعرفني، قال: قلت أنا يحيى بن خالد، فنهض قائماً، فقلت له: اِجلس، اِلقني غداً أولَ حركة الناس، فإني صائرٌ من أمرك إلى ما تحب، ووافق ذلك رسولاً يُنفذ إلى المهدي، فلما كان من غدٍ وتهيأ الناس للرحيل، فأول من لقيني ألفني، فقلتُ ما اسمك، وفي قيادة من أنت فخبَّرني، فدخلت على الرشيد فخبرته خبره، فأمر له بعشرة آلاف درهم وأصحبته الرسول.

قال أبو هفان: دعاني أمير من أمراء الأتراك، وكانت له ستارة لم يكن ببغداد أطيبُ منها، فلما شربنا أقداحاً قال غنوا لنا: خِمار مليحٍ، فلم يدر أحد ممن حضر ما أراد حتى غُنى: قل للمليحة في الخِمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متزهِّدِ فشرب عليه أرطالاً وشربنا ثم أمسك ساعةً وقال: غنوا: (إني خَريت وجيت أنتقله) فضحكن وقلن: هذا يشبهك، ويصلح لك، فما عرفنا ما أراد حتى غنَّينَ: إن الخليط أجدَّ منتقلَه. وقال مصعب الزبيري: شربنا يوماً عند عبد الصمد بن علي عمِّ المنصور، وكان يغنينا الدارمي المَكي وكان حلواً ظريفاً فنعس عبد الصمد، وعطس الدارمي عطسةً هائلة، فوثب عبد الصمد مرعوباً وغضب غضباً شديداً وقال: يا عاض بظر أمه، إنما أردت أن تفزعني، قال لا والله، ولكن هكذا عُطاسي، قال: والله لأسفكن دَمَكَ أو تأتيني ببينة على ذلك، ووكل به غلمانه، وخرج لا يدري أين يذهب فلقيه رجل يعرفه من أهل مكة، فسأله عن أمره، فأخبره، فقال: أشهد لك أنا، ومضى معه حتى دخل على عبد الصمد فقال له: بما تشهد لهذا؟ قال: رأيته عطس عطسةً سقط منها ضرسُه وتطاير نصف لحيته، فقال عبد الصمد: خلوا سبيله. وقال عمر بن شَبَّة: حدثني إسحق بن إبراهيم عن أبيه قال: قال حكمُ الوادي: دخلتُ يوماً على يحيى بن خالد، وقد اصطبح فأمر لي بطعام، فأكلت وسُقيت ثلاثة أرطال وغنيته: بنفسي من قلبي له الدهر ذاكرُ ... ومن هو عني معرض القلب صابرُ ومن حبه يزداد عندي تجدداً ... وحبي لديه مُخلَقُ العهد داثرُ فاستعادني فيه مراراً وشرب عليه أرطالاً وقال لي: يا أبا يحيى، ألقه على دنانير، فإن أخذته فلك خمسمائة دينار، ودعا بها فجلست خلف الستارة، فقلت لها يا سيدتي، أشغلي نفسك بهذا، وأنت تهبين لي خمسمائة دينار، فقال يحيى: ولها إن أحكمته ألف دينار، وقام يحيى لبعض أشغاله فطرحت عليها الصوت حتى أخذته، وجاء يحيى فعرفته، فقال لي: غنه يا أبا يحيى، فقلت: يسمعه مني، وليس هو ممن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه فلا أحصل على شيء، فغنيته، ثم قال: غنيه أنت الآن، فغنته فزاد في طيبه ندى صوتها وحسنُهُ، فقال: والله ما أرى إلا خيراً، فقلت جُعلت فداك، أنا أمضُغُ هذا أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز، وهذه أخذته الساعة وهو يذل لها بعدي وتجترئ عليه ويزدادُ حسناً في صوتها، فقال: صدقت، يا غلام هات له خمسماية دينار ولها ألف دينار، ففعل، فقالت له وحياتك يا سيدي لأُشاطرن أُستاذي الألف، قال: ذلك إليكِ، ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار. قال إسحق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالد يوماً فوجدت الفضل وجعفر جالسين بين يديه، فقال لي: يا إسحق، أصبحت مهموماً فأردت الصبوح لأتسلى فغنني صوتاً لعلي أتفرجُ وأرتاح فغنيته: إذا نزلوا بطحاءَ مكةَ أَشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر فما خُلقت إلا لجودٍ أكفهم ... وأقدامهم، إلا لأعوادِ منبرِ فطرب وارتاح وأمر لي بمائة ألف درهم وأمر لكل واحدٍ منهما بمائة ألفٍ تنقص ألفاً فحمل المال بين يديَّ وانصرفت. وكان إبراهيم بن المهدي لما طلبه المأمون قد استخفى عند امرأة فوكلت لخدمته جارية وقالت لها: وقد وهبتك له فإن أرادك لشيءٍ فأعلميه ذلك وطاوعيه، وكانت توفيه حقَّهُ في الخدمة والإعظام ولا تُعلِمُهُ بما قالت سيدتها فجلَّ مقدارها في عينه إلى أن قربت له يوماً طعاماً فأكل وقامت على رأسه فسقته فلما ناولته الكأس قبَّل يدها وقال: يا غزالاً لي إليه ... شافعٌ من مقلتيه والذي أجللتُ خديهِ ... فقبلت يديه بأبي وجهك ما أكثر ... حسادي عليه أنا ضيفٌ وجزاءُ الضيف ... إحسانٌ إليه فقبلت الأرض بين يديه وأعلمته بما قالت مولاتها وعمل فيه لحناً في طريقة الهزج. وكان إبراهيم قد ترك الغناء في آخر أيامه وذلك أنه قال:

كنتُ عند الرشيد في مجلس خلوة لم يحضره إلا جعفر بن يحيى، إذ بكى، فقلتُ يا أمير المؤمنين: ما يبكيك، لا أبكى الله عينيك، قال: أنت أبكيتني يا إبراهيم، لأنك مع كمالك وأدبك ومعرفتك قد اشتهرت بالغناء، فاخترته ولزمته حتى عطَّلك عما يسمو إليك مثلك، وكأني بك غداً، وقد مَلَكَ بعض ولدِ أخيك فأمرك ونهاك وامتهنك في الغناء، وإنما امتهن المهدي بك، قال: فلما كان في أيام المعتصم حضر في يومٍ منها مجلسه وكان الأفشين حاضراً فلما أرادوا الانصراف قال الأفشين: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، تطول على عبدك بالتقدم إلى الندماء أن يكونوا غداً عندي، فأمرهم المعتصم بالمصير إليه، فقال: وليُجبني سيدي إبراهيم، قال: يا عم أجبه، فصار إليه إبراهيم في غدٍ، وبكر الندماء إليه جميعاً، فسُرَّ وسرِب حتى سكر، وكانى طاغياً، شديد العربدة لجوجاً، فلما عَمِلَ فيه السكر قال: يا إبراهيم غنِّ صةتك الذي فيه [مومو] قال لا أعرفه، قال: تغني والله أبداً كلَّ شيء تحسِنه حتى يمر هذا الصوت، قال فغني إبراهيم أصواتاً كثيرة والأفشين ساكتٌ ضاربٌ بذقنه على صدره، ثم خطر ببال إبراهيم قول الرشيد، وبكاؤه له وإشفاقه عليه فغنى متفجعاً لذكره: لم أَلقَ بعدَهُمُ قوماً فأُخبرهم ... ألا يزيد حُبا إليَّ هُمُ فرفع الأفشين رأسه وقال: هو هذا، فقال إبراهيم: أما إنك لا تدري ما استخرجته، وانصرف فقطع الغناء وأهله فلم يغنِّ بقية أيامه حتى اعتل العلة التي توفي فيها. فيقال: لما ثقل دعا المعتصم بصالح بن الرشيد فقال: صِر إلى عمي فقد بلغني أنه عليل فاحضره وانصرف إليَّ بخبره، قال: فسرتُ إليه فإذا هو شديد العلة، فسلمت عليه وسألته عن حاله فقال: سر إلى الحجرة فاخلع سيفك وسوادك، وعد إلي آنس بك ساعةً، ففعلت، ودعا خادماً من خدمه فأمره أن يحضر لي طعاماً فأحضره وأكلت منه وهو ينظر إلي وأتبينُ الأسف في عينيه، ثم دعا لي بأرطال مطبوخ عجيب فشربت ثم قال: يا غلام ادعُ لي بنعمة وخيزرانة، وكانت نعمة تضرب وخيزرانة تغني فجاءتا، فأمر هذه فضربت وهذه فغنت، ثم قال: أسندوني، فأسندوه وأمر خيزُرانة فحطت من طبقتها ثم اندفع يغني: رُبَّ ركبٍ قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماءِ الزُّلالِ ثم أَضحوا، لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال من رآنا فليوطِّن نفسه ... إنه منها عى قرني رئال قال: فاستوفاه، فما سمعتُ شيئاً قط كان أحسن من غنائه فيه، فقال: بأبي أنت وأزيدك، فقلت ما أريد أن أشقَّ عليك مع ما اراه من حالك، فليتني كنتُ فداك، فقال: دعني أُودِّع نفسي، وتغني: يا منزلاً لم تبلَ أطلالُه ... حاشى لأطلالك أن تبلى لم أَبكِ أطلالك لكنني ... بكيت نفسي فيك إذ ولى والعيش أَولى ما بكاه الفتى ... لا بدَّ للمحزون أن يسلى فبكيت لطيب غِنائِه، وشربت أرطالاً، ومال على جنبه فنهضت ولبست سوادي، فما خرجتُ من الحجرة حتى سمعت الصُّراخ عليه، وصِرت إلى المعتصم فأخبرته الخبر على وجهه، فاسترجع وبكى وتوجع. وكان عبد الله بن الفضل بن الربيع موصوفاً بالبراعة في الشعر والغناء، فأخذ منه إسحق الموصلي صوتاً من شعره وغنائه وهو: وصف الصدَّ لمن يهوى فَصَدّْ ... وبدا يمزح بالهجرِفَجَدّْ ما له يصرف عني وجهه ... وهو لا يعدله عندي أحد وغُني به الرشيدُ فقال: من يقول هذا يا إسحق، قال: بعض مواليك يا أمير المؤمنين، فقال: من من موالي يُحسن مثل هذا ولا أعرفه، قال: عبد الله بن الفضل، فقال للفضل: أحضرني ابنك عبد الله فقد بلغني أنه يجيد الغناء، فقال: وولائك يا أمير المؤمنين ما عرفتُ بشيءٍ من هذا إلا في ساعتي هذه، ومضى فدعا بابنه عبد الله وقال: قد بلغ من قدرك أن تجترئ عليَّ حتى تضع الغناء ويغنيه المغنون الخليفة، وأنا لا أعلم بشيءٍ من أمرك، وأمره أن يغنيه بشيءٍ من صنعته، فغناه صوتاً استحسنه وصار به إلى الرشيد فغناه، فأمر له بعشرة آلاف دينار. فقبضها الفضل، وقال له الرشيد: اشتر له بها ضيعة، ولم يزل من ندماءِ الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم.

وكان حلف بأيمانٍ مؤكدة أنه لا يغني إلا خليفةً أو ولي عهدٍ، وكان عهد الواثق قد التبس عليه حتى تحدث الناس به، وخاضوا فيه، فأحب الواثق أن يقف على صحة أمره، فقال له عبد الله بن الفضل: أنا أستخرج لك علم ذلك فأعزم على الفصد، ففصد الواثق وعلم المعتصم فأمر له بهدايا وتحف، وقال له عبد الله: سله أن يبعث لك المغنين ويجعلني فيهم، فسأل الواثقُ المعتصم فبعث بهم إليه، وأمر عبد الله بالمسير إليه معهم، فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك، قد عرفت يميني، قال: قد عرفتها، فسر إليه وغنه، فإنك لا تحنث، فسار إلى الواثق فأعلمه أن عهده صحيحٌ، فسُرَّ الواثق بذلك، وأمر لعبد الله بمائة ألف درهم ولكل واحد من المغنين بعشرة آلاف درهم. وحكى معبد الذي يقال له اليقطيني، مولى علي بن يقطين، قال: كنت منقطعاً إلى البرامكة، آخذ منه وأَلزَمُهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي، إذا بياني يُدق، فخرج غلامي ثم رجع، فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة جميل الوجه يستأذن عليك، فأذنتُ له، فدخل شابٌ ما رأيت أجمل منه وجهاً، وألطف ثوباً، وأحسن زياً، دنفٌ عليه أثر السقم ظاهرٌ، فقال لي: إني أُحاول لقاءَك منذ مدة، ولي إليك حاجة، قلت: ما هي؟ فأخرج لي ثلاثماية دينار فوضعها بين يديَّ، وقال: أُحبُّ أن تقبلها مني، وتضع لي لحناً في بيتين قلتهما، قلت: نعم وكرامة، هاتِ البيتين، فأنشدني: والله يا طرفي الجاني على كبدي ... لتطفئن بدمعي لوعة الحَزنِ أو لأبوحنَّ حتى يحجبوا سكني ... فلا تراه ولو أُدرجت في الكفن

فصنعت فيهما لحناً شجياً يشبه النوح، ثم غنيته إياه فأُغمي عليه حتى ظننت أنه قد مات، ثم أفاق وكأَنَّه أُنشر من قبرٍ، ثم قال: أَعِد فديتك، فنشدتُهُ بالله في نفسه، وقلت: أخشى والله أن تموت، فأبى وقال: ليت ذاك كان، وهيهات، نفسي المشئومة أشقى من أن أموت فأستريح، وما زال يخضع ويتضرع ويبكي حتى رحمته، فأعدتُ الصوت، فصعق صعقة أشدَّ من الأُولى فلم أك أن نفسه خرجت، وبقي ملقىً لا يتنفس إلا نفساً خفياً فما زلت أنضح ماءَ الورد على وجهه وأُبَّخر بين يديه وأُّشمه أصناف الطِّيب حتى فتح عينيه وأَفاق وبقي ساعةً ملقى ثم تحامل فجلس، فحمدتُ الله تعالى على سلامته ووضعت دنانيره بين يديه وقلت: خذ مالك وانصرف عني، قد قضيت حاجتك، وبلغت وطراً مما أردته ولست أُحب أن أشرك في دمك فقال لي: يا هذا لا حاجة لي في الدنانير ولك عندي مثلها وأعد عليَّ هذا الصوت مرة أُخرى فقط، وأنا أنصرف عنك وخلاك ذمٌّ، فشرهتُ إلى الدنانير، فقلت: لا والله ولا أضعافها إلاَّ على ثلاث شرائط، فقال: وما هن، فقلت: أما أولُهن فتقيم عندي، وتأكل من الطعام ما تقوي به نفسك، والثانية أن تشرب أقداحاً تمسك قلبك وتحفظ نفسك ويثبت في حافظتك ما تسمعه، والثالثة أن تحدثني بحديثك فلعل ذلك ينفعك، قال: أفعل، فدعوت بالطعام فأصاب منه إصابة مُعذر، ثم دعوت بالشراب فشرب أقداحاً وأنا أُغنيه من عرض الأغاني ما يحضرني وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله، فلما رأيته قد خف ما به، ورأيت النبيذ قد شدَّ قلبه، كررت عليه مراراً ثم قلت: حدثني، قال: أجل، قال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزهاً وقد سال العقيق في فتيةٍ من أقراني وأخداني فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له فجلسن وبصرت بفتاة منهن كأنها غُصنٌ قد طلله الندى تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس ملاحظهما، لإاطلنا وأطلن حتى تقَرَّض النهار " ثم تفرقنا وقد أبقت بقلبي جرحاً بطيئاً اندماله، فعدت إلى العقيق، أتنسم خبرها وأطنع في لقائها، فإذا هو خالٍ ليس فيه أحد، ولا أرى لها ولا لصواحبها أثراً، ثم جعلت أتتبعها في أسواق المدينة وطرقاتها فكأن الأرض أضمرتها، فمرضت أسفاً عليها، وصبابة بها وضنيت حتى يئس أهلي مني فخلت بي ظئر لي استعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها، والسعي فيما أحبه منها، فأخبرتها الخبر فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت بعد وهي سنة خصبٍ وليس يبعد عليك المطر وهذا العقيق، فتخرج حينئذ وأخرج معك فإذا جاء النسوة ورأيت من تريد فعرِّفني حتى أتبعها فلا أفارقها أو أقفعلى موضعها، وأصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به وسكنت إليه، وأصبت شيئاً من الطعام، وتراجعت نفسي، ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق فخرج الناس ينظرون إليه وخرجت فيهم مع إخواني أولئك وظئري فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة (إلا) كفرسي رهان، وأومأت إلى ظئري إيماءً، عرفتها به فجلسن قريباً منا، فقلتُ لظئري: قولي لهذه الجارية، يقول لك هذا، والله لقد أحسن الذي يقول: رمتني بسهمٍ أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحاً به وندوبا فمضت فقالت ذاك لها، فقالت: ارجعي فقولي له: لقد أحسن القائل وأحسن من أجابه حيث يقول: بنا مثل ما تشكو، فصبراً لعلنا ... نرى فرجاً يشفي السقام قريبا

فأمسكتُ عن الجواب خوفاً من أن يظهر ما يفضحنا جميعاً، وعرفت ما أرادت، فقمت منصرفاً، وقامت لقيامي، وتبعتها ظئري، حتى عرفت منزلها، وسارت إلي فأخذت بيدي، وسرنا إليها وما زلنا نتلطف حتى اجتمعنا معها على سبيل المجالسة والمؤانسة، واتصل ذلك حتى شاع حديثنا وظهر ما بيننا فحجبها أبوها عني وتشدد عليَّ، فلم أزل مجتهداً في لقائها، فلم أقدر عليه، فشكوت حالي إلى أبي، وسألته أن يخطبها إلي، فجمع مشيخة أهلنا، مضى إلى أبيها راغباً إليه في المصاهرة، فقال: لو كان بدأ بذلك قبل أن يفضحها لأسعفته بما التمس، لكنه قد شهرها وعيَّرها فما كنت لأُحقق قولَ الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفتُ على يأس منها ومن نفسي، فسألته عن منزله فعرفني فزرته وكثرت عنده، وكانت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى وحضرت على رسمي فغنيتُ جعفراً في شعر الفتى أولَ ما غنيت، فطرب طرباً شديداً، وشرب عليه أقداحاً، وقال: ويلك ما هذا الصوت، ومن أين هو لك؟ فقلت: صنعته منذ أيام، وحديثه أظرف منه، فقال: ما هو؛ فحدثته بحديث الفتى، فأمرني بالركوب إليه وأن أجعله على ثقة من بلوغه ما يحب، فمضيت إليه، وأحضرته، فاستعادة جعفر الحديث، فأعاده عليه، فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فطابت نفسه، وأقام معنا، فلما أصبح جعفر، ركب إلى الرشيد فحدثه بالحديث، فاستطرفه، وأمر بإحضارنا جميعاً فحضرنا واستعاد الصوت فأعدته وشرب عليه، وسأل الفتى عن حديثه فأعاده عليه فأمر بالكتاب إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وأهله وولده مبجلاً مكرماً إلى حضرته، والإنفاق عليهم نفقة واسعة سنية فلم يمض إلا مدة يسيرة حتى حضروا، فأمر الرشيد بإيصال الرجل إليه فأُحضر وأمره بتزويج الجارية من الفتى وأعطاه ألف دينار، فزوج الفتى الجارية بحضرته وانصرنا، وأمر جعفر لكلِّ واحد منا بألف دينار، نُقلت إليه أهله ولم يزل بعد ذلك من ندماء جعفر حتى حدث عليه ما حدث فعاد بأهله إلى المدينة. وممن أدركته وعاشرته، عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب، وذكرته هاهنا لأنه يلحق الأُمراء المتقدمين غير خارج منهم ولا مقصر عنهم، بل كان واحد عصره في الغناء الرائع، والأدب البارع والشعر الرقيقي، واللفظ الأنيق، ورقة الطبع، وإصابة النادر والتشبيه المصيب والبديهة التي لا يُلحق فيها، مع شرف النفس وعلوِّ الهمة، وكان قد قطع عمره وأفنى دهره، في اللهو واللعب والفكاهة والطرب، وأعلم الناس بضرب العود واختلاف طرائقه، وصنعة اللحون [و] كثيراً ما يقول الأبيات الحسنة في المعاني اللطيفة، ويصوغ الألحان المطربة البديعة المعجبة، اختراعاً منه وحذقاً، وكانت له في ذلك قريحة، وطبع، وكان إذا لم يزره أحدٌ من إخوانه حضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته، منهم حُبيش، ولده، وعبد الله ابن أخيه، وعلي، وإبراهيم وإسمعيل، بنو قيس، وعامر الشطرنجي، وبعض غلمانه، كل هؤلاء يغنون ويجيدون، فلا يزالون يغنون بين يديه، حتى يطرب فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم. وكان بشارةُ الزامر الذي يزمر عليه، من حذاق زمرة المشرق، وكان بعيد الهمة سمحاً بما يمجد، تغلُّ عليه ضياعُهُ في كل عام أموالاً فلا تحول السنة حتى ينفذ جميع ذلك ويستسلف غيره، فكان لا يطرأ من المشرق مُغن إلا سأل من يقصد لهذا الشأن فيدل عليه، فمن وصل إليه منهم استقبله بصنوف البر والإكرام، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحد من الناس، فلا يزال معه في صبوح وغبوق، وهو يجدد له في كل يوم كرامةٍ حتى يأخذ ما عنده من صوتٍ مطربٍ أو حكاية نادرة. وجلس يوماً وقد زاره رجلان من إخوانه وحضر أقرباؤه فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء فارتج المجلس، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال: بالباب رل غريب، عليه ثياب سفر، ذكر أنه ضيفٌ، فأمر بإدخاله فإذا رجل سياط، رث الهيئة فسلم عليه، فقال: أين بلد الرجل، قال: البصرة، فرحب به، وأمره بالجلوس، فجلس مع الغلمان حتى انتهى إلى آخرهم، فلما سكتوا اندفع يغني بصوت ندٍ وطبعٍ حسنٍ: ألا يا دار ما الهجرُ ... لسكانك من شاني سُقيت الغيث من دارٍ ... وإن هيجت أشجاني ولو شئتِ لما استسقيت عيناً غير أجفاني بنفسي حل أهلوكِ وإن بانوا بسلوان وما الدهر بمأمونٍ ... على تشتيت خلان

فطرب عبد الوهاب وصاح وتبين الحذق في إشارته، والطيب في طبعه، وقال: يا غلام، خذ بيده إلى الحمام وعجِّل عليَّ به، فأُدخل الحمام ونظِّف، ثم دعا عبد الوهاب بخلعةٍ من ثيابه فألقيت عليه، ورفعه وأجلسه عن يساره وأقبل عليه وبسطه فغنى له: قومي امزُجي التِّبر باللجين ... واحتملي الرِّطل باليدين واغتنمي نومة الليالي ... فربَّما أوقظت لِحيني فقد لعمري أَقرَّ منّا ... هلالُ شوال كلَّ عينِ ذات الخلاخيل أبصرته ... كنصف خلخالها اللُّجين فطرب وشرب واستزاده فغناه: من لي على رغم الحسود بقهوةٍ ... بكر ربيبة حانةٍ عذراء موج من الذهب المذاب يضمه ... كأس كقشر الدُّرة البيضاءِ والنجم في أُفق السماء كأنه ... عين تخالس أعيُن الرُّقباء فشرب عبد الوهاب ثم قال زدني، فغناه: وأنت التي أشرقت عيني بمائها ... وعلمتها بالهجر أن تهجر الغمضا وأغريتها بالدمع حتى جفونُها ... لتذكر، من فقد الكرى، بعضُها بعضا فمرَّ يوم من أحسن الأيام وأطيبها، ووصله وأحسن إليه، ولم يزل عنده مقرباً مكرماً، وكان خليعاً ماجناً مشتهراً بالنبيذ ولزوم المواخير، ثم وصفت له الأندلس وطيبها وكثرة خمورها، فمضى إليها ومات بها. وعلى نحو هذا الحال كان يفعل بكل طارئ يطرأ من المشرق، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب. وحضرنا عنده يوماً وقد أتى بنرجس نوري في غاية الحسن والرُّواء، ونهاية الطيب واذكاء، وقد تثاقل عن، الغناءِ ولم ير له نشاطااً فلما وضع النرجس بين يديه، أمر بمجامر فأُحرق فيها ندٌ وعنبر، لإاراد عليٌّ بن الطيِّب تحريكه، وكان من جملة الكتاب الرؤساء والشعراء والأُدباء، فقال: أتعرفون في وصف النرجس أحسن من قول عليّ بن العباس الرومي، وأنشد له: للنرجس الفضل المبين وإن أبي ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد فصل القضية، أن هذا قائدٌ ... زهر الرياض، وأن هذا طاردُ وإذا احتفظت به فأمنَعُ صاحبٍ ... بحياته لو أن حيًّا خالدُ ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المُدامة والسَّماع مساعِدُ هذي النجوم هي التي ربتهما ... بحيا السحابِ كما يُربي الوالدُ 3ف - انظر إلى الأخوين من أدناهما شبهاً بوالده فذاك الماجدُ أين الخدودُ من العيون نفاسةً ... ورياسةً لولا القياسُ الفاسِدُ فاستحسنها وتناول باقةً ودعا برطلٍ ليشربه فقلتُ له: مهلاً حتى أُنشدك ما جمع فيه من تشبيه ما في يمينك ويسارك، وأنشده: أدرك ثقاتك إنهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العِنبِ فهم بحالٍ لو بصرت بها ... سبَّحت من عجبٍ ومن عَجَبِ ريحانهم ذهبٌ على دُررٍ ... وشرابهم درٌّ على ذهبِ يا نرجس الدنيا، أقِم أبداً ... للاقتراح ودائم النُّخبِ وله في هذه الأبيات لحن طيب وإنما أردت تذكيره وتحريكه فلم يزل يُسر بذلك وارتاح له، وشب، وأمر بالعود، وكان يُصلح له قبل أن يؤتى به، فجسَّه وغنّى في نحو ما أنشد، وما علمنا في ذلك الوقت أن الشعر له أو لغيره، وهو: نبِّه نديمك يا غلا ... مُ فإنَّ ذا يومٌ أَغرُّ بادر إِليَّ بسكرةٍ ... فإذا فعلت فأنت حُرُّ واجمع لنرجسكَ المدا ... مَ فإِن جمعَها يَسُرُّ واشرب عليه شبيههُ ... وكلاهما ذهبٌ ودُرُّ ثم غنَّى بعده نشيداً: ما خابَ من جعل الجزيرة موطناً ... لا الزابُ يشبهها والخابورُ تحيا النفوس بطيبها فكأنها ... نيلُ الرضا يحيى به المهجورُ وكأن نرجِسها عيونٌ كُحلتْ ... بالزعفران جفونها كافورُ وبسيطهُ: على بغداد من قلبي السلامُ ... تحية من أَضرَّ به السَّقامُ لئن أُخرجت من بغداد كرهاً ... فإن القلب فيها مستهامُ أذوب صبابةً وأموت عشقاً ... وأَحسدُ من له فيها مقامُ

ثم لم يغن في مجلسه بقية يومه إلا في النرجس، ومنع من حفظه غلَبَةُ السُّكر، وكان قد صفا ذهنه، وخلصت قريحته في ذها الشأن، فحدثنا أنه نام ليلةً حتى رأى فيما يرى النائم كأن شخصاً نظيف الثياب، طيب الرائحة دخل عليه فسلم وجلس إلى جانبه، قال: فقلت: من تكون أصلحك الله، قال: إسحق بن إبراهيم الموصلي، قلتُ: ما أشوقني إلى لقائِك، وأشدَّ حرصي على استماع صوتٍ من أغانيك التي لحنتها ولم يسبقك أحدٌ إليها، فدعا بعودٍ فأصلحه وضرب وغنَّى: تلاعبت بي لا أنت بالهجر مِتلفٌ ... حياتي ولا بالوصل جددت لي عُمرا تؤاهلني طوراً، وتهجر تارةً ... دلالاً، فلا وصلاً تُديم ولا هجرا فلو دمت في هجري، لسببت مِيتتي ... ومن مات من جور الهوى عُرِّض الأجرا فكم عبرةً للعين أجريتها دماً ... وكم حرقةً في الصدِّ أذكيتها جمرا لعل الذي أضحى له الأمر كُلُّه ... على طولِ ما ألقاه يُحدث لي أمرا فقبلت يده فرحاً وأخذت عوداً وغنيته معه وانتبهت فكتبته وغنيته كما سمعته، فكان كثيراً ما يغنيه ويقترحه إعجاباً بحسن صنعته فيه. وتنزهنا معه في بعض أسفاره إلى المهدية، فبكرنا يوماً ومعنا طيور وكلابُ صيدٍ وتوجهنا إلى نحو سلطته فأخذت الأطيار حجلاً وأرانب ونزلنا بكرمٍ ظليل وأتينا بما أصطيد لنا من السمك فأمر غلمانه فحفروا حفيرة وأوقدوا ناراً وجعلوا يشوون من صيدنا ويلقونه إلينا ويديرون الكئوس علينا ونحن في ألذ عيش وأطيبه إلى أن غيَّمت السماء وأتت بطلٍّ ورذاذٍ وكان فصل الربيع فقال: الآن أكمل يومنا، ودعا بالدواة فكتب: يا طيب غنمنا طيبَ لذته ... حتىوصلنا به الآصال بالبكرِ ونحن نشربها صهباء صافيةً ... ونشتوي صيدنا في مُحكم الحُفر فالجو يخضب وجه النار من بردٍ ... والنار تخضب وجه الجو بالشررِ ضدَّانِ خوتُهما سِلمٌ لأنفسنا ... تراجما بحصى الياقوت والدرر فانعم به واحبُهُ باللهو تحلِيَة ... واعدًدْهُ في الدهر من أيامك الغُررِ وقام جيش ولده وبيده زورق فضة، فجعل يلتقط به ما استقرَّ من قطر المطر ويمزج به كأسه فنظر إليه أبوه فقال: وكأسٍ شربناها بماء قرارة ... تلقطها السَّاقي بزورق فضةِ فما زال يسقيني ويَمزُج كأسُه ... بزورقه حتى حظيتُ بسكرةِ فيا غيث خَيّم في ملاعب جنة ... فلم أنسَ فيها طيب يوم وليلةِ ثم انصرفنا فصاغ للشعرين لحناً وغنّى فيهما حتى الصباح. ونظر إلى بشارة غلامه وكان مليحاً ظريفاً يتولى السقي فأعجبه فقال، وغُنِّيَ فيه: أَحامِلها من لؤلؤ وعقيق ... وما زجها من سلسلٍ ورحيق أدرها علينا يا لك الخيرُ، إننا ... سلكنا إلى اللذات كلَّ طريق ومن شعره وغنائه: حيَّاك ظبيٌ وصلُهُ ... أبداً يُشاب بصده حيَّا بوردٍ أحمرٍ وبنفسجٍ في نضده فحكت تحيته سواد عذاره في خدهِ ومن شعره وغنائه، وكان قد عرف الأيام حقَّ معرفتها فقطعها اغتناماً: كُن عن العذلِ ذا صَممْ وانفِ عن نفسكَ النَّدَمْ واقطع الدهر بالسرور على رغم من رغم فالذي تبتغي وترجوه قد خطَّه القلم

وقال إبراهيم بن العباس الصولي: عزم الفضل بن مروان وزير المعتصم على أن يدعوه وخاصته إلى منزله وبلغني ذلك وكان لي صديقاً، فأشرت عليه ألاَّ يفعل، فأبى وقال: قد رهنت لساني بذلك، ورأيته يشتهيه فدعاه. قال إبراهيم: فإني لجالس إذا جاءني رسول الفضل بن مروان (يقول) : أحبُّ أن تصير إلأيَّ الساعة، فوافيته، فخرج إلي متحيراً، فقال: أشرت عليَّ بصوابٍ فأبيته، قلت: فما الخبر، قال: لم يبق شيءٌ حسن إلاَّ وقد علقتُهُ وفرشته، ولا آنية حسنةٌ، إلا وقد استعملتها وأظهرتُها، وجاءني أمير المؤمنين مسروراً وأمرتُ بالطعام فلما أحضرته، أمسك بطنه وقال: قد وجدت مَغساًن وامتنع عن الأكل، وأظنُّ ذلك لاستنكاره ما رأى لي، فما الحيلة؟ قلت: إذا أتتك رقاعي فأطهرها بين يديه، وأجبني عنها، وجعلت أُواترُ رقاعي إليه: أن أصحاب خزائن أمير المؤمنين قد طلبوا الآنية والأمتعة المستعارة منهم، وقد سألتهم الصبر إلى وقت قيام أمير المؤمنين، فأبعث إليهم من يعينني عليهم، فجعل يظهرها ويكتب أجوبتها بين يدي المعتصم، فقال ما هذا يا فضل؟ قال: أصحاب خزائن أمير المؤمنين استعجلوني في ردِّ ما استعرته منهم وتجملتُ به في هذا اليوم الذي شرفني فيه أمير المؤمنين بدخول منزلي، فقال المعتصم: يا فضل، هذا من خزائننا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وليس شيءٌ منه لك، قال: من أين أنا أملك هذا، قال: فإني أهبه لك، وأمر الخدم أن يضربوا رؤوس من يستعجله في ذلك، وقال: قد خفَّ ما كنتُ أجد فهات طعامك، فأكل وأكل الناس معه وشرب وشربوا، وأقام إلى ىخر النهار وانصرف مسروراً. ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، استشار أصحابه، فكلهم أشار بقتله، إلا الحسن بن سهل، فإنه قال: إن قتلتهُ فعلتَ ما فعله الناس قبلك، وإن عفوت عنه تفردت بمكرمة لم يأتها أحدٌ قبلك، قال: فإني أختار هذا، وعفا عنه. ودخل الحسن على المأمون وهو على شرابه فناوله قدحاً وقال له: بحق عليك إلا أمرت من شئت أن يغنيك لفأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فأمره المأمون أن يغني له، فاندفع يغني بشعر الأعشى: تسمعُ للحلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريحٍ عشرقٌ زَجِلُ فشرب الحسن وخرج، فوثب المأمون عن مجلسه مغضباً وقال: عليَّ بإبراهيم، فجاء وهو يُرعد، فقال له: لا تدعُ كبرَك وتيهَكَ، ولا تعرف حقَّ المنعم عليك، أنفت من إيماء الحسن إليك بالغناء، فغنيت معرِّضاَ بما يعرض من المراد، أَما والله ما أحياك بعد الله غيره، فلا تعد لمثلها، قال [يا] أمير المؤمنين: ومن يبحث عقله وتهتدي قريحته لمثل هذا، لست أعودُ إليه أبداً. ولما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل انحدر إلى " فم الصلح " وهي المدينة التي بناها الحسن بن سهل على دجلة، فبنى ببوران، وأقام المأمون وسائر قوادِهِ ورجاله، في ضيافته أربعين يوماً، يأكلون ويشربون ويسمعون كل ملهيةٍ ومُلهٍ كانوا ببغداد، وكتب رقاعاً صغاراً، فيها أسماء ضياع ومستغلات وعدد أموالٍ، وجعلها في بنادق مسكٍ وعنبر، ونثرت على القواد والوجوه، فما وقع منها بيد كل واحدٍ، مضى بها إلى وكلاء الحسن فتسلم ما فيها. ولما جُليت بوران على المأمون، أُشعلت بين يديه شمعة عنبر فيها مائة رطلٍ، وفرش له حصير من ذهب مرصع بالجوهر، وجيء بمكتلٍ من ذهب مرصعٍ بالجوهر فيه حبُّ دُرٍّ، فنثر على ذلك الحصير فقال المأمون: قاتل الله أبا نواس، كأنه كان يشاهد هذا حيث قال: كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء دُرٍّ على أرض من الذهب قال الحسن بن رجاء: فكنا نُجري على ستة وثلاثين ألف ملاَّح بالسفن، المقيمين بمقام المأمون عنده، وبلغ إنفاق الحسن في هذه الوليمة، أربعة آلاف ألف دينار، فعاتبه المأمون في حملِهِ على نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين أترى هذا من مال سهل؛ والله ما ههو إلا من مالك. وكتب الحسن بن سهل إلى الحسن بن وهب، وقد اصطبح في يوم غيم لم يمطر: أما ترى تكافؤ الطمع واليأس، في يومنا بقرب المطر، وبُعده [في] قول كثير: وإني وتهيامي بعزَّةَ بعدَماا ... تخليتُ مما بيننا وتخلتِ كالمرتجي ظِل الغمامة كلَّما ... تبوأَ منها للمقيل اضمحلتِ

وما أُمنيتي إلا في لقائك، ورقعتي هذه، وقد أدرتُ زجاجات أخذت من عقلي، ولم تتحيفه، وبعثت نشاطاً حركني على الكتاب إليك، فرأيك في إنظاري سروراً بسار خبرك، إذ حرمت السرور بالمطر في هذا اليوم، موفقاً إن شاء الله. فكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيده الله، ويدي عاملة، وفمي طاعم، ولذلك تأخر الجواب قليلاً، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استحق ذماً لأنه إن أشمَسَ حكى ضياءك وحسنك، وإن أمطر أشبه سخاءك وبرَّك وجودك، وإن أغام ولم يشمس ولم يُمطر، فقد أشبه طيب ظلك ولذة فنائِك، وسؤال الأمير، أيده الله، عنّي، نعمة من نِعَم الله عليَّ، أُعفي بها آثار الزمان المسيء، وأنا، كما يحب الأمير، صرف الله الحوادث عنه وعن حظِّي منه. وقال أحمد بن أبي سلمة الكاتب: حضرت مجلساً فيه عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف، فغنت قينة صوتاً أجادته وهو: أُناس مضوا كانوا إذا ذكر الأُلى ... مَضوا قبلهم صلُّوا عليهم وسلموا فقال عمرو بن مسعدة: هو والله حسن، إلا أنه بيت مفرد، فأضيفوا إليه بيتاً آخر فإنه أحسن له، وأمكن للغناء فيه، فقال أحمد بن يوسف: وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتَقدموا فأضيف إلى البيت الأول، وغنَّت فيه القينة، وطربوا وشربوا عليه بقية يومهم، وما زال أحمد بن يوسف مكيناً عند المأمون، يتولى له ديوان الضياع، حتى غضب عليه. وكان سبب ذلك؛ أن المأمون جلس يوماً فقال لأصحابه: نجلس غداً مصطبحين، نجلس خلوةً فلا يكون معنا من نحتشمه، ثم أقبل على أحمد بن يوسف، فقال: كن المختار لمن يجالسنا في غدٍ، فقال: نعم، يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن المهدي يلهيك ويؤنسك، وابن سمير يحدثك، قال نعم، وأنت يا أحمد، قال: وأنا يا أمير المؤمنين. وبكروا، فحجب الناس، وجاء الحسن بن سهل فاستُؤذن له فقال: يدخل، فقال أحمد: وكان الحسن اصطنعه، يا أمير المؤمنين، هذا خلاف ما ضمنت، قال: ويحك، أبو محمد لا يُحجب، فدخل فقال له المأمون، يا أبا محمد، هذا مجلس اقتضبناه ولولا ذلك لبعثت إليك، فأقم عندنا، فقال: يا أمير المؤمنين، تمم الله لك السرور، وأنا أجد في بدني شيئاً يمنعني من خدمة أمير المؤمنين، وحضور مجلسه، فإن رأى أن يأذن لي في الانصراف، وأَلحَّ المأمون في مسألته، ثم أذن له لما امتنع، فلما خرج، قال أحمد، يا أمير المؤمنين: [ليتك] ما اعتذرت إلى الحسن، قال: ليس هو باعتذار، قال أحمد: فترضى بإبراهيم بيننا حكماً، فأعانه إبراهيم، فقال له المأمون: لقد شاورت الناس فيك فكلهم أشار بقتلك، وما منعني من ذلك غير أبي محمد، وهو أجلسك هذا المجلس، فإذا لم تشكره فأنت حرٍ، أَلا تشكر غيره، والله لا جلست مجلسك هذا أبداً، وألزمه منزله حتى مات. قال سليمان بن وهب: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك، عذب سليمان بن وهب، وضيّق عليه وطالبه بالأموال، قال: فألبسني جبة صوف وقيَّدني، وكان يحضرني دار الخليفة، ويخاطبني أغلظ مخاطبة، ويتهددني، ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويُثبت أصحاب الأخبار بالخبر إلى الواثق فيعجبه ذلك، وإذا كان الليل، أمر بنزع قيودي وأخذ الجبة عني وخَلَع عليَّ، فنأكل ونشرب ونأنس، ونخرج إلى خواص جواريه تخدمنا ويفضي إليَّ بأسراره وأُموره، فإذا كان وقت انصرافنا، ضرب بيده على يدي وقال: يا أيوب أَيُوب، هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، فلا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكره على فعله، فإذا كان من غدٍ عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا، وهذا حديث غريب عن ابن الزيات.

وكان الحسن بن وهب يتعشق [بنان] جارية ابن حماد، وكان لا ينقطع عن منزلها، وأنفق عليها أموالاً جسيمة، وبلغ من اشتهاره بها أن الواثق أمر إيتاخ بعمل حُلتين على صورة دفعها إليه، فتقدم إيتاخ بذلك إلى سليمان بن وهب، وهو يومئذٍ كاتبه، فجد في أمر الحلتين حتى فرغ الصنّاع منهما وأُحضرتا، وعرضتا على الواثق، فاستحسنهما وأمر بقطعهما، وسأل سليمان الحسن النيابة عنه في ذلك، فقطع إحداهما وخلعها على " بنان " واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلاً لهما فلم يجده، فابتاع ما يقاربهما بخمسة آلاف دينار، وصدق إيتاخ عن خبره، وطلبهما الواثق، فرافعه إيتاخ، وتعلل عليه، إلى أن فَرَغَ الخياطون منهما، فلما رآهما الواثق أنكرهما، ودعا بإيتاخ، فسأله عن السبب فصدقه، فضحك ضحكاً شديداً، ونفَّذ خادماً إلى الحسن وأمره بإحضاره، فلما دخل إليه قال له: تأخذ ثوبي وتقطعه لصاحبتك، جرأة عليَّ، قال: يا أمير المؤمنين أنت تقدر على أمثاله وأنا لا اقدر على ذلك، فازداد ضحكاً، وخلع عليه وصرفه. وسأل الحسن " بَنان " زيارته فقالت: أفرقُ من مولاي، فقال: ويقول الحبيب أفرقُ مولاي فقل لي، مولاي، من مولاكا لك عبدٌ، عبيدُه فوق مولاكَ، ومولاك ليس ينكر ذاكا قال أبو الفرج الأصبهاني: كان الحسن بن وهب قد عشق " بنان " جارية محمد بن حمَّاد عشقاً مبرحاً، وكانت من الحسن والظرف والأدب وجودة الغناء، على غاية ما تسمو إليه النفوس، فأنفق عليها في مدة قريبةٍ ثلاثين ألف دينار، وإنما يزورها في بيت مولاها، فلامه بعض إخوانه على ذلك وعَذَله، وقالوا: لو أعطيت مولاها بعض ما أنفقت عليها لباعها فحظيت بملكتها، ولم تشارك فيها، فقال: هيهات، عندي ثلاثون جارية ما منهن واحدةٌ دونها، لو سُئِلتُهُن بساعةٍ منها لبذلتُهُن ثمناً لها، إن الملكة والإحاطة، تورث الملالة، وإنكم لا تدرون طعم لذة الممانعة، وكيف طيبُ المسارقة، والمخالسة، واستغفال الرقيب بانتهاز الفرصة وإيقاع المكشحَةِ بالمولى. قال: وغضبت عليه مرة غضباً شديداً، فأعرضت عنه وهجرته، فقامت قيامته، ولم يدر كيف يترضاها، فركب إلى أحمد بن المدبر وعليه ثياب سوادٍ، فقال: ما هذا اللباس وليس من عادتك، قال: غضبت عليَّ " بنان " فلبست الحداد حتى أموت أو ترضى، وقد عولتُ عليك في ترضِّيها لي، قال: فركب إليها أحمد بن المُدبر فلم يزل يستعطفها بلطافته وبلاغته ويترضاها حتى قالت: قد رضيت عنه بشفاعتك فيه، على أن تلبث عندي وترسل إليه حتى يجيء فأكايده بك قليلاً، ووقع ابم المدبر من قلبها موقعاً لطيفاً، فقال: نعم، وأرسل إليه، يعلمه أنها قد رضيت عنه، ويسأله أن يصير إليها، حتى يتولى بينهما العهد وتأكيد الصلة، فأقبل مسرعاً لا يعقل سروراً، فلما رأته أعرضت عنه وأقبلت على ابن المدبر بالضحك والمداعبة والمجاذبة، والحسنُ بنُ وهب جالسٌ في ناحية، فلما طال عليه ذلك، دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وكتب إليه: بعثت رسولاً، فأضحى خليلاً ... على الرغم مني فصبراً جميلاً وكنت الخليلَ وكان الرسول ... فصرتُ الرسول وصار الخليلا كذا من يوجِّه في حاجةٍ ... إلى من يحب رسولاً نبيلا ثد دفع القرطاس إليها، فلما قرأت ما فيه استحيت، وتذممت وأقبلت عليه، بالرضا والضحك، وعانقته وعانقها وتفرقوا ومضى من فوره، الحسنُ بن وهب، فأهدى إليها ثوباً بمائتي دينار، مُمسكاً بمائتي دينار، مبروداً في العنبر، والعنبر محشوٌ في برنيةِ بلور. وكان قد تعلق فيما بينها وبين ابن المدبّر، في مجلسها ذلك، هوىً أخذ بقلبيهما معاً، فبعث ابن المدبر يستزيرها فزارته، ولبست ذلك الممسك، فقال: ما هذا؟ قالت: أهداه وحياتك لي أمس، حسن ابن وهب فلبسته اليوم وجئتك به، قال: فليس يجب أن نقصر في حقِّه ولا نعطله من برِّهِ، قالت: رأيك أرشد وأمرك طاعة، وقربك أسعد السعادة، فقام إليها فأشبعها عملاً فيه ثم كتب إلى الحسن: أهدى إليها قميصاً ... والنَّيْكُ فيه لغيره فيها سعادة حرِها ... ويا شقاوة أَيْرِهِ

فاشتهر ذلك بسُر من رأى وبلغ عذال الحسن فيها ونُصحاءه فقالوا له، قد نصحناك فلم تقبل، فلا يُبعد الله إلا رأيك، فيقال إنه مات على إثر ذلك، حسرة وكمداً، وبلغها أمرُهُ فلبست حداداً وندبته وكانت كما قيل: لا أعرفنك بعد اليوم تندبني ... وفي حياتي ما زوَّدتني زادا وحجبها ابن حمَّاد مرَّة ومنعها منه، وبلغ الحسن أنه دعا جماعةً من إخوانه، في يوم جمعة وعزم على إخراجها إليهم، فكتب الحسن إليها: يومنا يوم جمعةٍ بأبي أنتِ وعند الوضيع لا شكَّ قومُ فامنعيهم منك البشاشة حتى ... يتغشاهم من البرد نومُ وليكن منكِ، طول يومِكِ، لله، صلاةٌ إلى المساء وصومُ وارفعي عنهم الغِناء، وإن نابكِ عذلٌ من الوضيع ولومُ واذكري مغرماً، بحبِّك أضحى ... همُّه أن يَسُره منك يومُ فوقعت الرقعة في يد ابن حمَّاد، فعلم أن جاريته، ستفعل ما أمر به الحسنُ، ومتى فعلت فسد مجلِسُهُ فكتب إليه يسترضيه، وسأله أن يصير إليه. ففعل الحسن ذلك وصَلُح ما بينهما وفيه يقول: ما لمولاكِ عاجلته المنايا ... وعلا فوقَهُ صفيح وتُربُ قد حمانيكِ قاصداً لي بما أكرهُ عمداً وأنت للناس نهبُ وكان الحسن لا يصحو من الشراب، فقال له سليمان أخوه: أراك اليوم فارغاً. قال: نعم، ولذلك لا أعده من عمري، وأنشده بديهةً: إذا كان يومي غير مُدامةٍ ... ولا يوم فتيانٍ فما هو من عمري وإن كان معموراً بعودٍ وقهوةٍ ... فذلك مسروق لعمري من الدهر وكان يوماً يشرب عند محمد بن عبد الله بن طاهر فعرضت سحابةٌ فبرقت ورعدت ومطرت فقال له: يا أبا علي، قل في هذا شيئاً، فقال: هطلتنا السماءُ هطلاً دراكا ... عارض المِرْزمانِ فيه السِّماكا قلت للبرقِ إذ توقَّد [ليلاً] ... يا زناد السماء من أدراكا أتشبهت بالأمير أبي العباس في جوده، فلست هناكا وحضرت [بنان] جارية محمد بن حمَّاد عند الحسن في يوم باردٍ وبين يديه كانون فيه فحمٌ فأمرت أن يُزال من المجلس، فقال الحسن: بأبي، كرهت النار حتى أُبعدت ... فعلمت ما معناك في إبعادها هي ضرة لك في التماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها وأرى صنيعكِ في القُلوب صنيعها ... بأراكِها وسيالها وقتادها شركتك في كل الأمور بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها وكتب إلى صديق له يدعوه: بحسن هذا الضباب ... وحرمةِ الأصحاب وطيب يوم التَّلاقي ... بطاعةِ الأحباب إلاَّ أَطعت مُرادي ... فكنت، أنت، جوابي وقال الحسن يوماً: شربت البارحة على وجه الجوزاءِ، فلما انتبه الفجر، نمت فما عقلت حتى ألحفني رداء الشمس. وكتب الحسن بن وهب، إلى الحسن بن رجاءٍ في يوم شكٍّ وقد أفطر الخليفة الواثق: هزَزْتُك للصَّبُوح وقد نهانا ... أميرُ المؤمنين عن الصِّيامِ وعندي من قِيان القصر عشرٌ ... يطيب بهنَّ إدمان المُدام فكن أنتَ الجواب فليس شيءٌ ... أسرّ إليَّ من حذفِ الكلامِ فلما قرأ الأبيات، ركب إليه فكان جوابه.

وسأل الحارث بن بُسْخنَّر الرشيد أن يُكرمه ويرفَع ذِكره بزيارته فأجابه، فأنفق أموالاً جليلةً واحتفل ووجَّه إلى ندماء الرشيد يدعوهم إلى مجلسه، ولم يبعث إلى جعفر بن يحيى، فلما همَّ الرشيد بالنهوض إليه؛ قال لجعفر: قم بنا، قال: يا أمير المؤمنين، لم يدعني، فكيف أنهض إليه، فغضب الرشيد واحمرَّ وجهُهُ وقال: ويلي على ابن الزانية، بحياتي إلا ركبت برذوني وتقنعت ومضيت ومعك خدمي حتى تصير إليه، ثم تنزل إلى باب مجلسه وتجلس على فُرشه التي هيأها لي، ولا تكلم أحداً حتى أُوافيك، فإذا طلعتُ عليك، إياك أن تقوم من مجلسك، ففعل ذلك، فلما طلع عليهم جعفر، ونظروا إليه، على برذون الخليفة وحوله مسرور وحسين وخاقان وكبار خدمه يمشون حوله وبين يديه، وقد قنَّع رأسه بطيلسانه، لم يشكوا أنه أمير المؤمنين، فوثبوا إليه وقبَّلوا الأرض بين يديه، فإذا هو جعفر، فدُهشوا، ونزل على الفُرش التي هُيئت للرشيد ولم يكلم أحداً، وجاء الرشيد في إثرهِ، فلم يقُم إليه، وجاء وجلس معه ثم قال: يا أخي، إنه لم يدعُك، فما جلوسنا هنا، وأخذ بيده، وقاما فانصرفا، ولا طعماً ولا شرباً، فخجل القوم، ومات ابن بُسخُنر مما صُنع به، وقام النُّدماء فانصرفوا عنه، وبقي في أخزى حالٍ وأذلها.

وجلس المأمون يوماً للنظر في المظالم فوقف إليه رجل [قال: من أنت؟ قال: محمد بن جميل، أحد كتاب الفضل بن يحيى] فقال: يا أمير المؤمنين كنت في ناحية البرامكة فلما أصابهم قد الله وقبضت ضياعهم، قبضت ضيعتي فيما قبض لهم، وقد أضر ذلك بي، فإن رأيت أن تلحقني بمن شمله عدلُك وغمره فضلُك، وتحقق حسن ظني بك، وجميل أملي فيك فعلت، قال: من أنت، قال: [محمد بن جميل أحد كتاب الفضل بن يحيى] ، فاستحسن المأمون هيئته وكلامه، وقال لأحمد بن أبي خالد: اكتب إليه برد ضيعته وضمه إلى جملته، وأحسن إليه، وكان يحضر طعامه وشرابه فلا يسمع منه حديثاً، إلا الافتخار بأيام البرامكة، وذكر مناقبهم وتعظيم شأنهم، فغاظَهُ ذلك فأمر بحبسه، فأقام في الحبس أربعة أشهر، إلى أن ذكره المأمون فسأل عنه فأخبر بامره، فأمر المأمون بإحضاره على حاله تلك، فحمل إليه فقال له: بلغني ما كان من إطرائك البرامكة فقال: أتكلم بأمان يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: والله لقد كانوا شِفاء سقامِ دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفاً للاجئين، ومفزعاً للملهوفين، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعض حديثهم فيعذرني على الميل إليهم قال: هات حديثك، قال: يا أمير المؤمنين قد كانت لي بهم حُرمة، وصارت إِليَّ من فضلهم نعمة، فقال لي الفضل يوماً، يا محمد، قلت لبيك، قال: اشتهي أن تدعوني إلى منزلك كما يدعو الصديقُ صديقَه، والأخُ أَخاه فتقعدني، على فرش بيتك وتطعمني من طبيخ أهلك، قلتُ: شأني أصغر من ذلك، وأحقر، وداري تضيق بذلك، فأبى عليَّ، وقال: والله لا قبلت عُذرك، قلت: فاستأجلني حولاً أتأهب فيه لهذه الدعوة، فقال: لا أفعل يا بغيض، من يعطينا أمانهُ من الموت إلى سنة، ولكن قد أجلتك شهرين، فخرجت، فأخذت في إصلاح داري وأثاثي وآلتي إلى انقضاء الشهرين، فقال: يا محمد، ما صنعت، قلت: ما أمر به الأمير، قال: فتأذن في البكور، قلت: يتفضل مولاي الأمير، قال: فبكرَّ عليَّ يحيى والفضل وجعفر في خاصة خدمهم، فقال لي الفضل: إعرض علي ما طبخت، فعرَّفته، فقال: عجل بلونِ كذا فإن الوزير يستطيبه، يعني إياه، فأحضرته وتتابع ما طبخ لهم، فأكلوا وخرج الفضل إلى صحن الدار فقال: من جيرانُك، قلت: عن يميني فلان التاجر وفي ظهر داري رجل قد ابتاع براحاً وجمع إليه الصُناع فهو لا يفترُ ولا يقصِّر في بنائه، قال: يا محمد أفتعرفه، قلت: لا والله، قال: علي ببناء ونجارٍ، فأتي بهما، فقال لهما: افتحا ها هنا باباً، فقلت: بالله أنشدك أن لا تؤذي جاري بسببي، فأبى، ولم أجسر أعاوده، ففتح باباً، ودعا أباه وأخاه، فدخلا معه ودخلت معهم إلى دار لم تر الناس أحسن منها ولا أبهى قد بنيت بالرُّخام والساج ومُرِّهَت بالذهب واللاذورد، وعمل في وسطها بستان قد نقلت إليه الأشجار المثمرة، وصنوف الزهر والرياحين، وإذا غلمان خصيان وفحول مُرد كالدرِّ المنثور، وأقبل الفضل يطوف بالدار والخزائن، وإذا هي مشحونةٌ بكل ما يشاكلها من الفُرش والأنية الحسنة، فقال: يا محمد، أيما أحسن، هذه الدار أم دارك وفرشك وآلتك، فقلت يا سيدي، وهل في الجنة إلا مثل هذه، ولا يجب أن يسكنها أحدٌ غيرك، فملاّك الله وعمَّرَك، قال: يا محمد، أتحب أن تكون لك، قلتُ: لا والله، ما أرى نفسي لها أهلاً، قال: فإنها والله لك، بكل ما فيها من آلةٍ وفُرشٍ وعبيد، فبُهِتُّ لا أُحيرُ جواباً، فقال: يا محمد، لا تستكبر هذا مع محلِّك عندنا ثم دعا بالطعام فأكلنا، وبالشراب فشربنا، فعطف يحيى على جعفر فقال: إن أبا العباس قد سبقك إلى ابتداء هذه المكرمة، فلا تفوتنك خاتمتها، قال: وما ذاك؟ قال: إن محمداً قد حصل في هذه الدار بما فيها من الحشم والغلمان ولا نادة له يستعين بها عليهم فضررها عليه أكثر من نفعها، وضيعتك الفلانية تقيم أوده وتصلحُ حاله، قال: قد أمرت له بها وحززته إياها ودعا بكتابها فدفعه إليه، فسُرَّ يحيى وقال: لا أخلاكما الله من عارفةٍ تشيدانها ويدٍ عند حُرٍّ تصنعانها وانصرفوا، فقال المأمون: لقد برز القوم في فضلهم فلا لوم عليك في إطرائهم وذكر مفاخرهم، وإفراطُك في شكرهم، يدلّ على صدق حديثك، ويُرَغِّبُ في اصطناعك وأمر له بمائة ألف درهم وأثبته في خواصه، وكان أحسن رجاله حالاً وأعلاهم هِمة.

قال إسحق بن إبراهيم الموصلي: غدوت يوماً إلى الفضل بن يحيى مُسلماً عليه فقال لي: إن أمير المؤمنين بعث إليَّ يعرفني أنه أحب اليوم الخلوة مع الحرُم وأمرني أن لا اركب، وقد كنت على البعثة إليك لنصطبح صبوحاً، وأمر بإحضار الطعام والشراب، ومدَّت الستارة، فطعمنا وشربنا وغنت جواريه فمرَّ لنا أَسرُّ وقت، فقال لي: يا أبا محمد، قد مللت كلَّ ما يمر على سمعي من هذه الصوات وإن كانت في غاية الجودة وإحكام الصنعة فأطرِبني بشيء تصنعُهُ الآن، فعمِلت في الوقت: وقائل لِيَ لمّا أن رأى زَمَني ... برى عظاميَ برَى القدِحِ بالسَّفَنِ هل كانبينكما فيما مضى تِرةٌ ... فصار سعيُك بالأوتار والإِحنِ فقلتُ لو كان لي بالفضل معرفةٌ ... فضل بن يحيى، لأعداني على الزمن هو الفتى الماجدُ الميمونُ طائِرهُ ... والمشتري الحمد بالغالي من الثمنِ وصنعت له لحناً مطرباً فَسُرَّ به واستعادني فيه مراراً، وأمر لي بثلاثمائة ألف درهم وجدتها حين انصرافي قد سبقتني إلى منزلي. وكان محمد بن إبراهيم قد ركبه دينٌ، فقَصَدَ الفضل بن يحيى ومعه حقٌ فيه جوهرٌ وقال له: قَصُرت غلاتنا، وأغفل أمرنا خليفتنا ولَزِمنا دينٌ احتجنا له إلى ألف ألف درهم، وكرهت بذل وجهي للتجار، ولك من يطيعك منهم، ومعي رهنٌ ثقةٌ بذلك. فإن رأيت أن تأمر بعضهم بقبضه وحمل المال إلينا، فدعا الفضل بالحُقّ ورأى ما فيه وختمه بخاتم محمد بن إبراهيم، وقال: تحُوجُ الحاجة أن تقيم اليوم عندنا، فأقام ونهض الفضل فدعا بوكيل له وأمره بحمل المال وتسليمه إلى خادم محمد بن إبراهيم وتسليم الحُقِّ الذي فيه الجوهر بختمه، ففعل الوكيل ذلك، وأقام محمد عنده في أكل وشربٍ ولهوٍ ولعبٍ إلى المغرب وليس عنده خبر، ثم انصرف إلى منزله فوجد المال والحُقّ فغدا على الفضل ليشكره، فوجده قد سبقه بالركوب إلى دار الرشيد فوقف منتظراً له، فقيل له قد خرج من الباب الآخر، فانصرف إلى منزله فوجد الفضل قد حمَّل إلى منزله ألف ألف درهم، فغدا عليه فشكره وقال: ما سبب هذا المال الآخر، جعلني الله فداك، قال: بتُّ ليلتي وقد طالت عليَّ غماً بما شكوته إلي، وأعلمتُ أمير المؤمنين بالحال، ولم أزل أماكِسُهُ حتى أمر بحمل ألف ألف درهم، وذكر أنه لم يصلك بمثلها قط، فقال له: صدق أمير المؤمنين، وإنما تهيأ هذا بك، وعلى يديك، وما أقدر على شيء أقضي به حقَّك، ولا شكرٍ أؤدي معروفك، غير أن عليَّ وعليَّ، وحلف بأيمانٍ مؤكدةٍ، إن وقفتُ بباب أحدٍ سواك أبداً، ولا سألت غيرك حاجةً أبداً، ولو استففتُ التراب، فكان لا يركب إلى غير باب الفضل حتى حدث من أمرهم ما حدث، فلزم بيته، فعوتب في إتيان الفضل بن الربيع فقال: والله لو عُمِّرت ألف عام، ما وقفت بباب أحدٍ بعد الفضل بن يحيى، ولا سألت أحداً بعده حاجة حتى ألقى الله، فلم يزل على ذلك حتى مات. وكان عمرو بن مسعدة، ويُكنى [االفضل: وزرَ للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد، وكان من نزاهة النفس وعلو الهمة متشبهاً بالبرامكة، وكان إذا عزم على عمل رسالة شرب ثلاثة أرطال، فصفت قريحته، وانبعثت بديهته: فحكى ميمون بن هرون أن رجلين مرا بقصر عمرو بن مسعدة بعد بنائه إياه، فقال أحدهما لصاحبه، كم أُنفق على هذا القصر، قال: أربعةٌ وعشرون ألف ألف درهم، فقال: تبارك الله وتعالى، هذا قَدِرَ على أربعة وعشرين ألف ألف درهم يصرفها في وجه واحد، وأنا أطلب ثمانية عشر ألفاً لا أقدر عليها، فبلغ قوله عمراً، فاستقصى عنه وعن سبب أمنيته ثمانية عشر ألفاً، فإذا هو يعشق جارية ثمنها عشرون ألفاً وليس في مَلَكته سوى ألفين، فاشتراها له وجهزها وضمَّه إليه، وكان في جملة ندمائه. وحضر عنده عبد الله بن طاهر يوماً، فلما وضع الشراب أخرج جاريةً يقال لها " نعمة "، حسنة الوجه، جيدة الضرب والغناء فافتُتِن بها عبد الله وأخذت بقلبه فتصبَّر ولم يظهر ما به، فلما انصرف كتب إلى عمرو: لعمرك يا عمرو ما بيننا ... إذا حصحص الحق من حِشمةِ وقلبي، وإن كنت في منزلي، ... بدارِكَ، في راحتي، (نعمةِ) فبعث بها إليه بجميع مالها من كسوة وفرش وخدم من ساعته.

*

دعا محمد بن عبد الله بن طاهر رجلٌ من أصحابه دعوة تقدَّم بها واحتفل فيها، فلما حضر محمد طالبه بالطعام فمطله، ليتلاحق ويتكامل، على ما أَحبّه من الكثرة والاحتفال، حتى تصرم أكثر النهار ومس محمداً الجوعُ، وتنغص عليه يومه، فشرب عنده أقداحاً، وانصرف وأراد بعد ذلك محمد سفراً فشيعه هذا الرجل، فلما دنا منه ليودعه قال: أيأمر الأمير بشيء، قال: نعم، اجعل طريقك في عودتك على محمد بن الحارث بن بسخنر فسله أن يعلمك الفتوة. فمضى حتى دخل على محمد بغتةً وقال: بعثني الأمير إليك لتعلمني الفتوة، فضحك وقال: يا غلام هات ما حضر، فجيء بطبق كبير عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز، وثلاث سكرجات من خلّ وملح من أجود ما يتخذ من هذه الأصناف، فأبتدأ يأكل فجاءته فضلة باردة من مطبخه، وتداركها الطباخ بطباهجة، ثم وافاه من منزل حرمه فضلة أخرى، وأهدى إليه بعض غلمانه جام حلوى فانتظم له أمر خفيف ظريف في زمانٍ يسير بغير إحشام ولا انتظار، إلى أن أدرك الطعام وأخذ في الشراب، فقال له: إذا دعوت أحداً من إخوانك، فليكن هكذا عملك، ولا تنتظر استكمال الطعام. وأفطر الواثق في يوم شك فأفطروا فكتب الحسن بن رجاء إلى الحسين بن الضحاك: هززتك للصبوح وقد نهانا ... أمير المؤمنين عن الصيام وعندي من قيان القصر عشرٌ ... يطيب بهنَّ إعمال المدام فكن أنت الجواب فليس عندي ... أحبّ إلي من حذف الكلام قال، فوافق رسوله حُسيناً وقد وردت عليه رقعة محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر النديم وقد أنفذها مع غلام له وضيء الوجه كان يتخطاه ومعه غلمةٌ له أقران وقد جعل الرقعة كالمنشور الذي يكتبه السلطان، وختمها في أسفلها، وكتب فيها: سر على اسم الله يا أكمل من غصن لُجينِ في بدورٍ من بني الروم إلى باب الحسين فاحمل الكلَّ إلى مولاك يا قُرةَ عيني أره العنف وطالبه إن استعفى بدين واحذر الرجعة من وجهك في خفي حنينِ قال: فوثب مع غلام محمد بن الحارث وكتب إلى الحسن بن رجاء دعوت إلى مدافعة الصيام ... بإعمال الملاهي والمدام ولو سبق الرسول لكان سبقي ... إليك ينوب عن كل الكلام وما شوقي إليك بدون شوقي ... إلى عهد التصابي والغرامِ ولكن سار في نفرٍ إلينا ... على عجلٍ حبيبُ المستهام فأزعجني بألفاظٍ عذابٍ ... وقد أعطيته طرفي زمامي ولو خالفته لوردت حتفي ... وعممني بمصقولٍ حُسام ودخل آدم يوماً على يعقوب بن الربيع وعنده قوم يشربون فرفعوا ما كان بين أيديهم، فلما دخل رأى في وجوههم أثر النبيذ وشم رائحته، فقال: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، فضحكوا، وأخرجوا شرابهم وشرب معهم. أخبار الشعراء والمجان

كان مطيع بن إياس الليثي، ويحيى بن زياد الحارثي وحمّاد الراوية وحمّاد عجرد، يجتمعون على الشراب ولا يكادون يفترقون وكان لأبي الأصبع جارية وكان له عدة قيان غيرها، وكان فتيان الكوفة يألفون منزله وينفقون عنده، وكان هؤلاء الأثدباء الذين سمينا يغشون منزله لجارية له يقال لها مولدة صفراء حسنة الوجه، طيبة الغناء، بارعة الظرف والأدب، وكان لأبي الأصبع ابن يقال له الأصبع، لم يكن بالعراق أحسن منه وجهاً، يتعشقونه فلا يقدرون عليه، وكان يحيى بن زياد كثير الإفضال على أبي الأصبع، وعزم الأصبع، على أن يصطبح يوماً مع يحيى بن زياد؛ فأهدى إليه يحيى جداءً ودجاجاً وفراخاً وفاكهةً وشراباً وقال أبو الأصبح لجواريه: إن يحيى يزورنا فأصلحن له ما يشبه مثله، فلما فرغ من الطعام لم يجد رسولاً يبعث به إليه لأنه وجه بغلمانه في حوائجه فوجه ابنه الأصبع فقال له لا تبرح أو يجيء معك، فلما جاء أصبع قال للغلام ادخله إليَّ، وتنح أنت واغلق الباب فإن أراد اصبع الخروج فامنعه، فلما دخل إليه اصبع وأدى الرسالة راوده عن نفسه فامتنع فثاوره يحيى فصرعه، ورام حلَّ تكته فلم يقدر على ذلك فقطعها وناكه فلما فرغ أعطاه أربعين ديناراً، وكانت عنده تحت مصلاته فأخذها وقال له يحيى: امضِ وأنا في أثرك، فخرج اصبع من عنده، فاغتسل يحيى وجلس يتزين ويتبخر، فدخل إليه مطيع فرأى ما هو فيه فقال له: كيف أصبحت فلم يجبه وشمخ بأنفه وقطب حاجبيه وتعظم وتفخم فقال له: أراك تتبخر وتتزين فإلى أين عزمت، فلم يجبه وازداد قطوباً، فقال له ويحك مالك؟ نزل عليك الوحي؟ كلمتك الملائكة؟ بويع لك بالخلافة، وهو يومئ برأسه، لا لا، فقال له: ما خبرك، قد بهتَّ فلا تتكلم، كأنك والله قد نكت الأصبع، قال أَي والله، الساعة نكتهُ وأعطيته أربعين ديناراً، قال: فإلى أين تمضي، قال: إلى دعوة أبيه، قال مطيع: فأمرأته طالق ثلاثاً إن فارقتك أو أُقبل ايرك فأبداه له يحيى حتى قبله، ثم قال: كيف قدرت عليه، فحدثه حديثه، وقام فمضى إلى منزل أبي الأصبع فأتبعه مطيع، فقال: ما تصنع معي والرجل لم يدعُك، وإنما يريد الخلوة معي، قال: أُشيعك إلى بابه، ونتحدث فمضى معه، فدخل يحيى ورد الباب في وجهه، فصبر مطيع ساعةً ثم دق الباب واستأذن، فخرج إليه الرسول وقال له: أنا عنك مشغول اليوم في شغلٍ لا أتفرغ معه لك فتعذر، قال: فابعث إلي بدواةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى أبي الأصبع: يا أبا الأصبع لا زلت على ... كل حالٍ ناعماً متبعاً لا تصيرني في الود كمن ... قطع التكة قطعاً شنعاً وأتى ما يشتهي لم يثنه ... خيفة أو حفظ حقٍ ضيعا لو ترى الأصبع ملقى تحته ... مستكيناً خجلاً قد خضعا وله دفع عليه عجلٌ ... شبقاً، ساءَك ما قد صنعا فادع بالأصبع فأعرف حاله ... سترى أمراً قبيحاً فظعا قال، فقال أبو الأصبع ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية، قال لا والله، فضرب بيده على تكة ابنه فوجدها مقطوعة، فأيقن بالفضيحة، فقال يحيى: قد كان الذي كان، وسعى (بي) إليك مطيع ابن الزانية، وهذا ابني وهو والله أفره من ابنك وأنا عربي ابن عربية وأنت نبطي ابن نبطية، فنك ابني عشر مراتٍ، مكان المرة الواحدة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير والواحدة بعشرٍ، فضحك أبو الأصبع وضحك الجواري، وقال لأبنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة فرمى بها إليه وقام خجلاً، فقال يحيى، والله لادخلَ مطيعٌ الساعي ابن الزانية، قال أبو الأصبع وجواريه، والله ليدخلن إلينا، فقد نصحنا وغششتنا، فادخل وجلس وشرب معهم، ويحيى يشتمه بكل لسان وهو يضحك. وكانت لبربر المدنيو جارية يقال لها جوهر أحسن الناس وجهاً وغناءً وأتمهم وأكملهم في كل فن، فتنت العالمين وعشقها أكثر فتيان ذلك العصر، وقال فيها الشعراء الأشعار فأكثروا فيها، يقول فيها مطيع ابن إياس: بيضاء واضحة الجبين كأن غرتها نهار تشفي بريقتها السقيم كأن ريقتها العُقارُ القلبُ قلبي وهو عند الهاشمية مُستعارُ

وكان لمطيع بن إياس خاصةٌ يهيم بها، فحكى الهيثم بن عدي قال: اجتمع حماد الراوية، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحكم الوادي يوماً على شراب لهم في بستان بالكوفة، وذلك في زمن الربيع ودعوا جوهر جارية بربر فقال مطيع في ذلك: حرجنا نجتني الزهرا ... ونجعل سقفنا الشجرا ونشربها معتقةً ... تخال شعاعها الشررا و (جوهر) عندنا تحكي ... بِسُنةِ وجهها القمرا يزيدك وجهاً حسناً ... إذا ما زدته نظرا لها لونٌ كلون الورد لو قطرته قطرا وغنى فيه حكم الوادي لحناً خفيفاً شربوا عليه بقية يومهم وثلاثة أيام متوالية وجوهر بينهم، فقال لهم يحيى بن زياد: ويحكم لنا ثلاثة أيام سكارى لا نعقل ولا يصلي أحدٌ منا، قم يا مطيع فأذن، وقالوا: من يصلي بنا، فكلما ذكروا رجلاً أبى، فقال مطيع: عليَّ وعليَّ إن صلى بنا غير جوهر، تقدمي صلي بنا حتى تكون صلاتنا عجباً بين الصلوات، فقالت: كيف تصلي امرأة برجال، قالوا: أنت لم تشربي كما شربنا، فتقدمت وهي تضحك، وصلت بهم، فلما سجدت بان فرجها من تحت غلالتها وكانت رقيقة، فوثب مطيع فقبله وقامت الجارية خجلة وجعلت تشتمه وضحك القوم وعادوا إلى شرابهم فقال مطيع في ذلك: ولما بدا حِرُها جاثماً ... كرأس حليقٍ ولم يعتمر خررت عليه فقبلته ... كما يفعل العابد المعتمر فزاد شتمها له والقوم يضحكون منه، وفيها قول مطيع: يا بأبي وجهك من بينهم ... فإنه أحسن ما أبصر جارية أحسن من حليها ... والحلي فيه الدرُّ والجوهر وريحها أطيبُ من طيبها ... والطيب فيه المسك والعنبر جاءت بها (بربر) حتفاً لنا ... يا حبذا ما جلبت بربر كأنما ريقتها قهوةٌ ... صُب عليها البارد الأخصر وشرب دعبل بن علي وصاحبان له في قرية يقال لها " بطياثا " فقالوا: ليقل كل واحدٍ منا بيتاً في يومنا هذا، فقال دعبل: نلنا لذيذ العيش في بطياثا وقال الآخر: لما حثثنا كأسنا احتثاثا وارتج على الآخر فلم يقدر أن يقول شيئاً فاستحيا، فقال: وامرأتي طالقةٌ ثلاثا فقالوا: ويحك وما ذنب امرأتك، قال والله ما لها ذنبٍ إلا أنها قعدت على طريق القافية. وكانت بالمدينة جارية من مولداتها يقال لها (بصبص) أحسن الناس وجهاً وأطيبهم غناء، أخذته عن معبد والغريض وغيرهما من طبقتهما، وكان مولاها يحيى بن نفيس يُقين عليها وكان الأشراف يهدون إليه وينفقون عنده، فاجتمع عنده جماعة منهم فتذاكروا أمر مزيد وبخله، فقالت بصبص: أنا آخذ لكم من دراهمه فقال مولاها: أنت حرة، لئن فعلت، إن لم أشتر لك عقداً بمائة دينار وأجعل لك مجلساً بالعقيق أنحر فيه بدنةً لم تُقنب ولم تُركب، فقالت: جيء به وارفه الغيرة عني، قال: أنت حُرة، لامنعته ولو رأيته بين رجليك إن خلصتِ درهماً، فقال عبد الله بن مصعب الزبيري، أنا لكم به، قال عبد الله: فصليت الغداة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به قد أقبل فقلت يا أبا إسحق، أما تحب أن ترى بصبص فقال: بلى قلت فإذا صليت العصر، فأنني هاهنا، قال امرأته طالق إن برح يومه هذا من هاهنا إلى العصر، قال فتصرفت في حوائجي حتى كانت العصر فدلت المسجد فوجدته بمكانه، فأخذت بيده وأتيتهم به، فأكل القوم وشربوا حتى صليت العتمة ثم تساكروا وتناوموا وأقبلت بصبص على مزيد فقالت: أبا اسحق، كأني بك تشتهي في نفسك الساعة أن أغنيك بصوت الغريض في شعر جميل. ألا ليت أيام الصباء جديد ... ودهراً تولى يا بثين يعود فنغني كما كنا نكون وأنتم ... صديق وإذ ما تبذلين زهيد فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إياه ساعة ثم قالت: يا أبا إسحق كأني في نفسك تشتهي أن تقوم من مجلسك فتجلس إلى جنبي وتدخل يدك في جلبابي فتقرص عكني قرصات وأغنيك بقول عروة بن أذينة. قالت وابثثتها شجوي فبحتُ به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستترِ ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري

فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غداً وبأي أرض تموت، قالت نعم. فقام فجلس إلى جانبها، وأدخل يده في جلبابها وقرصها وغنت له، ثم قالت: برح الخفاء، أنا أعلم أنك تشتهي تقبيلي شق التين،اغنيك هزجاً. أنا أبصرت بالليل ... غلاماً حسن الدلِّ كغصن البان قد أصبح مسقياً من الطل فقال: امرأته طالق إن لم تكوني نبية مرسلة، فقبلها وغنته ثم قالت له: إيه: أبا إسحق، أرأيت قط أنذل من هؤلاء، يدعونك ويخرجونني إليك ولا يشترون لنا بدرهم ريحاناً، يا أبا اسحق، هاتِ درهماً نشتري به ريحاناً، فوثب وصاح، واحرباه أي زانية، أخطأت استك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحي إليك، وتركها وجلس ناحية، وعطعط بها القوم وقالوا لم تنفذ حيلتكِ عليه وجددوا مجلسهم، ولم يعد إليها بعد ذلك. كانت سلاَّمة الزرقاء جارية ابن رامين، مولى بشر بن مروان، أحسن الناس وجهاً وغناءاً، من ساكني الكوفة، وكان ابن رامين مولاها يقين عليها، وينفق الناس في منزله الرغائب، وكان ممن يغشاها من الأشراف، روح بن حاتم المهلبي ومعن بن زائدة الشيباني ونظراؤهما، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه فقال لها: إن روح بن حاتم قد ثقل علي، قالت: وما أصنع وقد غمر مولاي ببره، فقال: احتالي له، فبات عندهم روحٌ ليلةً من الليالي فشرب، فلما سكر ونام أخذت سراويله فقالت: غسلته، فظن أنه قد أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فأستحيا من ذلك فانقطع عنها وخلا وجهها لبن جميل. وحكى حماد بن اسحق عن أبيه قال: حدَّثني عبد الرحمن بن مُقرن، قال: أتيت ابن رامين يوماً فاستأذنت عليه فقال: قد سبقك روح بن حاتم، فإن كنت لا تحتشم منه فهلم، فدخلت، وخرجت إلينا الزرقاء في ثوبين موردين، والله لكأن الشمس طالعةٌ من قرنها إلى قدمها، فغنتنا ساعة، ثم جاء الخدم الذين يستأذنون عليها، وكان الإذن إليها، لا إلى مولاها، فقالوا: يزيد بن عون العُبادي الصيرفي، الملقب بالماجن، بالباب، قالت: ادخله، فأدخل فلما استقبلها سجد لها ثم أقعى بين يديها، قال فتبينت والله فيه الوجد بها، وزاد حتى ظهر لنا ولمن حضر، وكان من أحسن الناس وجهاً، وأشكلهم فأقبلت عليه بغنائها ومُزاحها، ثم أدخل يده في كمه فأخرج درتين ما رأيت مثلهما، ثم قال: أنظري يا سيدتي إليهما جعلت فداكِ، وقال: والله لقد نقدت أمس فيهما أربعين ألفاً؛ قالت: وما أصنع بهما وما عليَّ من ذلك، ثم غنته صوتاً كان يشتهيه عليها، وأقبلت عليه وقالت: يا ماجن هبهما لي، قال: إن شئت والله فعلت، قالت: قد والله شئت، قال: أن تأخذيهما بشفتيك من بين شفتي، قال فأراد روح البطش به، فقلت له: ألك في منزل القوم حقٌ أو لك في رقِّ الجارية ملك، لو كان هذا يُنكر عندهم لأنكره مولاها، وها هو حاضرٌ، وإنما يتكسبون بما ترى، فإن كان لك في عشرتهم حاجة، فأمسك، قال: فعَلِم أني قد صدقته فأمسك، قال: وسمع ابن رامين قولهما فقام كأنه يبول، فقالت له الزرقاء، هاتِهما، فزحف إليها وجثا بين يديها وهما بين شفتيه، فلما ذهبت إليه تناولتهما بشفتيها، وهو يصد عنها يميناً وشمالاً ليستكثر منها، ثم أخذتهما بشفتيها من فيه، وقبلها وقام فرجع وقد لااحمرَّ وجهُها ورشح جبينها عرقاً، حياءً منا، ثم تجلدت علينا وقالت: (المغبون في أسته عود) قال: أما أنا فوالله لا أبالي بهذا، ولا يزال طيبُ هذه الرائحة، والنسيمُ من فيك في فيَّ أبداً ما بقيت. واشترى الزرقاء هذه جعفر بن سليمان أمير البصرة فسألها ذات يومٍ: هل ظفر أحد قط ممن كان يهواك منك بخلوة أو بقبلة، فخشيت أن يكون بلغه ما فعلت مع الماجن، لأنه كان بِحضرة جماعةٍ، فقالت: لا والله، إلا يزيد بن عون العبادي، فأنه قبلني قبلة وأخرج من فيه درتين بأربعين ألف درهم فجعلهما من فيه إلى فيَّ فلم يزل جعفر يحتال له ويطلبه حتى وقع في يده فضربه بالسياط حتى مات. وقال أبو الفرج الأصبهاني، حدثني جحظة قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: سمعت أبي يقول: كان، قبل أن يعلم الرشيد أني أغني ويسمعني، سمع حسنة وظلة، جاريتي المهدي عند أخته العباسة بنت المهدي وقد دعته إليها فغنتاه هذا الصوت وهما متراسلتان فيه: ولقد طرقت البيت يُخشى أهله ... بعد الهدوِّ وبعد ما سقط الندى

فوجدت فيه خريدة قد زُيِّنت ... بالحليِ تحسب أنه جمر الغضا واللحن لابن محرز من الثقيل الأول فطرب عليه الرشيد وقال: أحسنتما والله فقالت له ظلة، والله لو سمعت أخاك إبراهيم يغنيه ما استحسنت غناء واحدةٍ منا، قال إبراهيم، ولي يومئذٍ اثنتا عشرة سنة، فقال: ابعثوا إليه فليحضر الساعة، فقالت له حسنة، لا تبعث إليه، فوالله لو أعطيته ملكك أو عرضت عليه السيف ما غنى بحضرتك، قال ولِم، قالت: لجلالتك في صدره وهيبته لك، قال لها فإني أسقيه النبيذ حتى يسكر ويزول عنه الحياء وأطلب منه الغناء، فقالت: لو كان يشرب لتم ذلك، فاكفف عنه حتى نحتال عليه، فلما كان بعد ايام، اصطحبت العباسة، وعندها حسنة وظلة، وبعثت إلي تدعوني، فجئتها وقُدم الطعام فأكلنا، ووضع الشراب فشربت، ثم عمدت إلى طاس ذهب فملأته بياقوت ولؤلؤ وزبرجد لا تُعرف قيمته كثرةً، ثم صبت عليه نبيذاً وقالت لي: فدتك أُختُك، إشرب هذا الكأس، وكل ما فيه من الجوهر فهو لك، فغضبت وتداخلني أمرٌ عظيم، وقلت لها، قد والله كنت عزمت على أن أشرب النبيذ في هذه الأيام، ولو سألتني أن أشربه بغير عوض لفعلتُ، فأما إذ جعلتني فيمن يشربه برشوة، فأُم محمد بنت صالح طالق إن شربت النبيذ إلى سنةٍ، وقمت مغضباً من عندها، وبلغ الرشيد ذلك وكان متعلق القلب بقصتي، فغمَّةُ ذلك وغلظ عليه وفسد قلبه عليَّ، وأظهر إعراضاً عني، وتغير عليَّ، فساءني ذلك وقلت لأُختي عُلية، أما النبيذ فلا حيلة فيه سنتي هذه، ولكن ادعيني واشربي، فإذا سألتك أن تغني، فقولي على شريطة أن تغني لي فإني أُجيب، وابعثي إلى أمير المؤمنين فعرفيه حتى يجيء إليك فيكون بلوغُهُ ما أراد عندك، لا عند العباسة، ففعلت واصطحبت ودعتني وغنّى جواريها فقلتُ لها: يا أُختي غمي لي صوتاً فقالت: على أن تغني أنت، قلت نعم، قالت وحياة أمير المؤمنين، وتربة المهدي أنك لا تغدر بي، فحلفت لها، فغنت، ثم أخذتُ العود فغنيتُ، وبعثتُ إلى الرشيد فجاء مستخفياً حتى وقف، وغمزتني فغنيت الصوت الذي بلغه، فلما سمعه لم يتمالك أن هجم عليَّ وقال: أحسنت بأبي أنت، أحسنت فديتك، هذا عندك وأنت تستره عنيّ، وضمني إليه وأجلسني في حجره، وأمر لي بعشرة آلاف دينار وكسوة وطيب بمثلها، فحُمل ذلك من ساعته إلى منزلي وجلس يشرب والجواري يغنين وقمت قائماً، فأخذت العود فغنيت فأمرني بالجلوس، وقال لا تُغنِّ، فديتك، إلا إذا شئت ونشطت، ولم يزل يبسُطني حتى أنستُ، ولم يكن بعد ذلك يسمعني إلا منفرداً بسماعي، ثم أقسم عليَّ أن يشركه في ذلك جعفر بن يحيى ولا يسألني بعده أن يسمعني أحدٌ، فأجبته على كرهٍ مني، ولم أجبه إلا لما بيني وبينه وبين جعفر: فهذا كان سبب سماعه إياي. وكانت لأُم جعفر زبيدة، جارية من مولدات القصر اسمها، نهار، أحسن الناس وجهاً وغناءً وكان مخارق يتعشقها، فبلغ ذلك زبيدة، فرفضته ومنعته أن يمر ببابها وكان كَلِفاً بها مغرماً، فينا هو ذات ليلة قد انصرف من دار المأمون، إذ مر بباب أُم جعفر وهي تشرف على دجلة، فلما حاذى دارها ورأى الشمع يزهو، وقف وسط دجلة بحيث يعلم أنها تسمع صوته وغنَّى: إن تمنعوني مَمَرِّي عند داركمُ ... فسوف أنظر من بعدِ إلى الدار سيما الهوى عرفت حتى شُهرتُ بها ... إني مُحبٌ وما بالحب عارِ ما ضرَّ جيرتكم، والله يُصلحُهم ... لولا شقائي، بإقبالي وإدباري لايقدرون على منعي وإن جهدوا ... إذا مررتُ، وتسليمي بإضماري فقالت أُم جعفر، مخارق والله، ردوه فصاحوا بملاحِهِ؛ قدم، فقدَّم، وأمر الخدم بالصعود فصعد، وأمرت له أم جعفر بِتُكأَة وصينية فيها نبيذ، وخلعت عليه خلعة حسنة وأمرت الجواري فغنين له، ثم أمرته أن يغني، فأول صوت غناه: أغيب عنك بودٍ لا يغيرهُ ... نأَىُ المحلِّ ولا صرف من الزمنِ فإن أَعِش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول البث والحزنِ فاندفعت نهار في تمام الشعر مجيبة له فغنت: تعتل بالشغل عنَّا لا تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدنِ قد حسَّن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً ما ليس بالحسن

ففطنت أُم جعفر لهما، وأنهما تراسلا بما في نفوسهما، فضحكت وقالت: ما سمعت بأملح مما صنعتما، هي لك يا مخارق، انصرفي، في حفظ الله، مع مولاكِ بجميع مالك عندنا، فقبلا الأرض بين يديها وقاما فانصرفا. وهذه الأبيات للعباس بن الأحنف، واللحن لمخارق رمل. قال الجُمحي: خرج الأخطل وصاحب له إلى نزهة وحملا سُفْرةً وزُكرة وجَلسا بين غدير وروضة فبينما هما على ذلك من شرابهما إذ طرأ عليهما طارئٌ لا يعرفانه فجلس إليهما وثقَّل عليهما فقال الأخطل: وليس القذا بالعود يسقط في الإنا ... ولا بذباب خطبُهُ أَيْسَرُ الأمرِ ولكنَّ شخصاً لا تُسرُّ بقربه ... رمتنا به الأقدار من حيث لا ندري فلما سمع ذلك نهض وتركهما. ولما مات أو محجن الثقفي، وقف رجل على قبرِهِ فقال: يرحمك الله لقد كنت قليل المِراءِ، جيد الغناء غير نعاسٍ ولا حباسٍ للكأس. وقال أبو بكر بن الأنباري، كان العباس بن علي عمّ المنصور يأخذ الكأس بيده، ثم يقول: أما النفس فتُسخِّين، وأما القلب فتشجعين، وأما الهم فتطردين، أفتراك مني تفلتين، ثم يشربها ويميل على جنبه. وذكر سليمان بن سهل بن نوبخت قال: مرّ بي أبو نواس في غداة يومٍ من أيام الربيع وقد أتت السماءُ بطشٍّ ورذاذ فقال: ما مثل هذا اليوم في طيبه ... عُطِّلَ من لهوٍ ولا ضُيعا فما ترى فيه، وماذا الذي ... تُحبُّ هذا اليوم أن نصنعا هل لك أن تغدو على قهوة ... تسرعُ في المرء إذا أسرعا ما وجد الناسُ ولا جربوا ... للهمِّ شيئاً مثلها مَدفعا قال؛ فقلت: ما كان ليُساعدني على مثل هذا إلا مثلك، فأقِم، فهاهنا ما يُصلِحُكَ، فأقام، فمرَّ لي من محادثته وإنشاده أطيبُ يومٍ وألذه. وحكى محمد بن بشر قال: كان أبو نواس وهو غلام معي في مجلسي فحمل عليه النبيذ فانصرف بعد أن جهد به كل من في المجلس أن يقيم عندهم، فأبى وخرجتُ فاعتمد عليَّ يسقط مرِّة ويقوم أخرى ويقول في شدة سكره: قد كنت في منزل رُحابِ ... لكن أتت شِرَّةُ الشباب وشقوة تنحت الرواسي ... جاءَ بها نازِلُ الشراب قال: فجئت به إلى منزلي فنومته، فلما كان في الليل أتيته فحدثته بالحديث وأنشدته البيتين. وروى المدائني قال: بينما إبرهة بن الصبّاح الكندي عند عبد العزيز بفتيةٍ من أهل الشراب لهم جمال ومناظر، قد أُخذوا على شراب لهم، فأمر عبد العزيز أن يضربوا بالسياط، فقال ابرهة: نشدتك الله أيها الأمير أن لا تفضح مثل هؤلاء الفتيان بمصرِنا، فقال عبد العزيز: إن الحق في هؤلاء وفي غيرهم واحد، فقال ابرهة، يا غلام، أصبب من شرابهم في القدح وأدنه مني، فصبَّه ثم ناوله فشمَّهُ ثم شربه وقال: أصلح الله الأمير، ما نشرب في بيوتنا على غذائنا إلا من هذا، فقال عبد العزيز: أطلقوهم، فلما خرج ابرهة قيل له، أشربت الخمر، فقال الله يعلم أني ما شربتها صحيحاً ولا تعالجت بها سقيماً قط، ولكني كرهت أن يفضح مثل هؤلاء الفتية في بلدةٍ أنا فيها. ونزل بأبي عطاء السندي ضيف فبرّه وأكرمه وسقاه خمراً فلما عملت فيه جعل يعرض لامرأة أبي عطاء ويومئ إليها بعينه، فقال أبو عطاء: كل هنيئاً وما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً فغير كريم لا أحب النديم يومئ بالطرف إذا ما انتشى لعِرسِ النديم ونزل آخر برجل، فأحسن ضيافته فتعرضت للضيف امرأة صاحب المنزل فخرج مسرعاً وقال: رب بيضاء كالمهاةِ تهادى ... قد دعتني لوصلها فأبيتُ لم يكن بي تحرُّجٌ غير أنيّ ... كنتُ ندمان زوجها فاستحيت وأصاب آخر مثلُ هذا فقال: سأترك ما أخاف عليَّ منه ... فعالَ السوء عمري ما حيِيتُ ولا والله لا ألفى بليلٍ ... أراقب عِرس جاري، ما بقيتُ أبى لي ذاك آباءٌ كرامٌ ... وأجدادٌ بمجدهمُ رُبيتُ وفي خلاف هذا يقول عبد الرحمن بن أم الحكم: وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أُمَّ أَبانِ ترى شاربيها حين يغتبقانِها ... يميلان أحياناً ويعتدلانِ

دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعلُ الأخوانِ فما ظنُّ ذا الواشي بأبيضَ ماجدٍ ... وبيضاء خودٍ حين يلتقيان ودخل بعض الأدباء مجلساً فرأى فيه نبيذاً حسناً للأكابر، ونبيذاً دونه لقومٍ دونهم فقال: نبيذان في مجلس واحدٍ ... لإيثار مُثرٍ على مُعسِرِ فلو كنت تَفعلُ فعلَ الكرامِ ... فعلت كفِعل أبي البختري تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلَّ عن المكثر فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه خمسة آلاف درهم. وكان لأبي البختري إخوان يغشونه ولا يكادون يفارقونه فلما وُلي القضاء، شَغِل عنهم فقاطعوه، وجعلوا يسبونه ويقعون فيه وينسبونه إلى قلة الوفاء، فلما عُزل وجَّه إليهم فأحضرهم وقال: كأني بكم وقد أخذتم عليَّ في اشتغالي عنكم ونلتم مني إذ جفوتكم، وقد رجوتم نفعي فأسأتم بي ظناً، قالوا: قد كان ذلك، فقال: والله ما قطعتكم إلا نظراً لكم وتوفيراً عليكم، وأمر بإحضار ما اجتمع له أيام عمله من أرزاقه وصلاته، فأُحضرت أكياسٌ فيها عشرة آلاف دينار فقسمها فيهم وأخذ منها مثل ما صار إلى أحدهم وعادوا إلى ما كانوا عليه من المؤانسة. وفي مثل الأبيات الأُول: رأيت نبيذين في مجلسٍ ... فقلت لصاحبنا ما السبب فقال الذي نحن في بيته ... يُفضل قومٌ بسوء الأدبْ وكان المعروف بأبي هريرة المصري، من أهل الحديث والأدب، ظريفاً مليحاً، مُملقاً في حداثته وإنما معاشُهُ من النسخ، قال: فكنت أوانَ الربيع إذا أخذت الأرض زُخرفها، وازينت أخرج متنزهاً إلى بركة الحَبَش، في خُفي بلنسية فيها شراب وفي كُمي منديل نظيف فيه أوساط وكتاب أُنادمه، وأجلو بصري على ذلك الماء الرقيق والروض الأنيق إلى أن تصوب الشمس للغروب فانصرف إلى منزلي وأنا ثمل، فانصرفت عشية، فإذا بفارس خارج من مصر لا يتبين منه غير عينيه، فسلم وقال: من أين أقبل الشيوخ، فقلت في نفسي، أَجُنَّ الرجل، ومن الذي يرى معي، والتفتُّ فإذا ذَودٌ من تيوس يسوقها راعٍ، فقلت: حضرنا نكاح الوالدة حفظها الله، فضحك حتى كاد يسقط من سرجه، فلما كان بعد أيام يسيرة لقيني الأمير بُكير في موكبه، فقال لبعض غلمانه، ألِحقني بالرجل فأرتعت لذلك روعاً شديداً، فلما دخلت عليه، إذا بين يديه كيس فيه ثلاثة آلاف درهم، فقال لي: هذا حق حضور ذاك النكاح فغلمت أنه هو الذي لقيني. وخرج أبو هريرة هذا إلى (دَيْهور) مع إخوان له يشربون فسكروا وناموا، وأتى حمار أبي هريرة وقد عطش إلى جفنة مِزر فشرب حتى سَكِر ورقد، فاستيقظ أصحابه فوجدوه لا يقدر على النهوض، فأرادوا أن يركبوه الحمار سكران، فأكثروا جملاً وعادَلُوا بينه وبين حماره، ودخلوا به فقرعوا بابه، وقالوا لإمه، خذي إليك النديمين فأنهما سكرا جميعاً. ورُوي أن جعفر بن يحيى استأذن الرشيد في ليلة يخلو فيها، فأذن له، فوجَّه إلى كل من يتشوقه من أصحابه، وبعث إلى مسلم بن الوليد فلما صار إليه، قال له جعفر: أنشدني من شعك ما يشاكل ليلتنا هذه، فأني إنما خلوت لفرط صبابة بجارية لِنخَّاس تحكم عليَّ في ثمنها، ووالله ما يزداده ولكني أكره الخديعة، فقال: أصلح الله الأمير، لك أجل المراتب وأعلى الأمثال، وأنا أقول على قدري، وقد كانت لي ليلة مثل هذه فقلت فيها شيئاً، فدعني بخساسة عيشي واجعل وصفها لك فأنت أحقُّ به، فأنشده: تحملتُ هجر الشادِنِ المتدللِ ... وعاصيتُ في حُبِّ الغواية عذَّلي وما أبقت الأيام مني ولا الصِّبا ... سوى كبدٍ حَرَّى وقلبٍ مُقتَّل وكنتُ نديم الكاس حتى إذا طغت ... تعوَّضتُ منها ريق أحورَ عيطل نهاني عنها حبُّها أن أَسوءَها ... بلمسي فلم أفتِك ولم أَتبتل أخذت لطرف العين منها نصيبه ... وأخليتُ من كفّي مكان المخلخَلِ سقتني بعينيها الهوى وسقيتُها ... فدَبَّ دبيبَ الراح في كل مفصلِ وما العيش إلا أن تبيت موسداً ... ،صريع مُدامٍ، كفَّ أحورَ أكحلِ وممكورة رَوْد الشباب كأنَّها ... قضيب على دعصٍ من الرمل أهيل

خلوت بها والليل يقظان قائم ... على قدمٍ كالراهب المتبتلِ فلما استردت من دجى الليل دولة ... وكاد عمودُ الليل بالصبحِ ينجلي كررنا أحاديث الوداع ذميمة ... ليبلغ كلٌّ حاجةً، غير مُعجلِ فلم نرَ إلا عبرةً بعد زفرةٍ ... مودعةٍ أو نظرةً بتأملِ فقال له جعفر: والله لكأنك بلساني نطقت، وعن ضميري عبَّرت، فقال: أيها الأمير أن هذا الشعر لم يُنشر، فأجعله لك، قال: أنا إلى أن أنحلك مالي أحرى أن أنتحل شعرك وأمر له بمالٍ جليل. وكانت البرامكة، ويزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد يُفضلون عليه ويتفقدون من أحواله، فظهر ذات يوم، فلقي يزيد بن منصور الحميري بباب الرشيد فسلَّم عليه وسأله يزيد عن حاله، فخبرَّه أنه كان كاليائس من قرب الخليفة، وأن يُعد في مادحيه، فقال له: سيتأتى وصولك إلى الخليفة، بعد أن أُقرر عنده قرب نسبك، وتقدمك لسلفك، ودخل فأصاب الرشيد قد اشتمل عليه الفكر فقال له يحيى: ما بك يا أمير المؤمنين قال: الفكر في سُرعة تقضي الدنيا وأنَّ ما نحن فيه منها كالظل الزائل، فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين أتظن أن هذا شيء يحبس عنك الأيام، كان أنوشروان يقول: من أعظم الخطأ التشاغل بما لا يمكن دفعُهُ، وقال له سليمان بن أبي جعفر: يا أمير المؤمنين يروى عن لقمان أنه قال: الهمُّ نصف الهرم، والفقر الموتُ الأكبر، فكأنه نشط، فقال له الحميري: يا أمير المؤمنين، خلَّفت، بالباب آنفاً رجلاً من إخوانك الأنصار، متقدماً في شعره وأدبه أنشدني قصيدة يذكر فيها صبوته ولهوه ولعبه ومجالسه بأبلغ قول وأحسن وصف، يبعث، والله يا أمير المؤمنين، على الصبابة والفرح ويباعد من الهم والترح، قال، فأستفزه السرور إلى دخوله واستماع قصيدته أن جعل يُتبع الرُسل بعضهم بعضاً حتى دخل إليه، وكان حلواً ظريفاً حسن العبارة، فأمهل حتى تراجع عقله، وسَكَنَ جأشه، ثم أُذن له في الجلوس فأنبرى يُنشد قصيدته، وجعل الرشيد يتطاول لها ويستحسن ما حكاه من وصف شرابٍ ولهوٍ وغزلٍ، فأمر له بمالٍ وقام من ساعته إلى مجلس خلوتِهِ ولهوه، وجعل هو ومن معه يتذاكرون قصيدة مسلم، ويعارضون بها ما هم فيه، وسماه الرشيد يومئذٍ بآخر بيت منها: صريع الغواني، والقصيد: أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذَحْلي فما حزني أني أموت صبابةً ... ولكن على من لا يَحِلُّ له قتلي أُحبُّ التي صدَّت وقالت لتربها ... دعيهِ، الثريا منه أقربُ من وصلي أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقةٌ بين المواعيد والمطلِ وما نلت منها نائلاً غير أنني ... بشجو المحبين الأُلى سلفوا قبلي بلى ربما وكلتُ عيني بنظرة ... إليها تزيد القلبَ خبلاً على خبلِ كتمت تباريح الصبابةِ عاذلي ... فلم يدر ما بي، فاسترحتُ من العذل ومانحة شرابها المُلك قهوة ... يهودية الأصهار مسلمة البعل ربيبة شمسٍ لم تُهجن عروقُها ... بنارٍ ولم يجمع لها سعفُ النخلِ بعثنا لها منا خطيباُ لبعضنا ... فجاء بها يمشي العِرِضْنة في مَهل ق استودعت دناً لها فهو قائمٌ ... بها شفقاً بين الكروم على رجلِ فوافى بها عذراء كلَّ أخي ندى ... جزيل العطايا غير نكسٍ ولا وَغْلِ معتقةٌ لا تشتكي وطء عاصِرٍ ... حروريةٌ في جوفها دمها يغلي أغادرت على كفّ المدير بلونها ... فصاغت له منها أنامِلَ كالذُّبلِ أماتت نفوساً من حياةٍ قريبةٍ ... وماتت فلم تُطلب بوترٍ ولا ذَحْلِ شققنا لها في الدنِّ عيناً فأقبلت ... كما أَخضلت عين الخريدة بالكُحلِ كأن فنيقاً بازلاً شُكَّ نحرُهُ ... إذا أسفرت منها الشعاعَ على البزل كأن ظباءً عكَّفاً في رياضها ... أباريقها أوجسن قعقعة النبل

ودارت علينا الراح من كف ظبيةٍ ... مبتلةٍ حوراء كالرشإ الطفل وحنَّ لنا عودٌ فباح بسرنا ... كأن عليه ساق جاريةٍ عُطلِ تُضاحِكه طوراً وتُبكيه تارةً ... خدلجةً هيفاء ذات شوى عَبْل إذا ما اشتهينا الأُقحوان تبسمت ... لنا عن ثنايا لاقصار، ولا ثُعلِ وأسعدَها المزمار يشدو كأنه ... حكى نائحات بتنَ يبكين من ثُكل غدونا على اللذات نجني ثمارها ... ورُحنا حميدي العيش متفقي الشكلِ أقامت لنا الصهباء صدرَ قناتها ... ومالت علينا بالخديعة والختل إذا ما علت منا ذؤابة ماجِدٍ ... وإن كان ذا حُلم دعته إلى الجهل سأنقادُ للذات مُتبع الهوى ... لأمضي هماً، أو أصيب فتىً مثلي وعن المدائني قال: كان الأحوص بن جعفر بن حديث، من كبار المدمنين على الشراب، وكان يجالس حمزة بن بيض وعُيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري، وكان يُحمق فغمزوا به جماعة جاءَ كل واحد منهم على إنفراد فقال: أرى وجهك مصفراً، فما تجد، فلما فعلوا ذلك قال لأهله: ويحكم أنا عليل ولم تخبروني ولزم الفراش حتى عاده الناس، فشقَّ على أهله ذلك وبعثوا إلى شراعة وقالوا: إن لم يتكلم شراعة فهو لما به فصار إليه شراعة، وكلمه فلم يجبه ولم ير عليه أثر علةٍ، فأقبل شراعة على صاحب له فقال: كنا أمس بالحيرة فأخذنا الخمر، ثلاثين قنينة بدرهم، والخمر يومئذ ثلاثون قنينة بدرهم فرفع الأحوص رأسه وقال: الكاذب ايري في حِرِ أُمِهِ واستوى جالساً فقال له شراعة: إجلس لا جلست وهات طعامك وشرابك وأخذا في شأنهما. وكان السيّد بن محمد الحميري مطبوعاً في الشعر، جده يزيد بن مُفرغ الحميري. قال المدائني: وُلي الأهواز رجل من بني أسد وكان صديقاً للسيّد فتشدد في الشراب ومنع منه وجلد عليه، فأضر ذلك بالسيّد حتى نحف وهزل فدخل عليه يوماً فقال: ما لي أراك عليلاً، قال: كنت أصيب من الشراب فيقوى به بدني ونفسي، فلما حرَّمته تركته، فقال الأسدي: حقٌ لمن يمدح آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحتمل له الشراب، وكتب إلى عامله: أَحمل إلى أبي هاشم مائتي زورق شراباً. وأنشد إسحق الموصلي: مثل لون الفصوص ينفي قذاها ... قد تعللتها بماء سحاب زعم الشاربون أن قذاها ... ليس بالعود ساقطاً في الشراب بل قذاها نديم سوء عليها ... مُولعٌ بالمِراءِ أو بالشبابِ وهذا مأخوذ من قول الأخطل حيث يقول: ألا فأسقياني وأنفيا عنكما القذى ... فليس قذاها العود يسقط في الخمر وليس قذاها زائرٌ لا يضيرها ... ولا بذباب فزعه أيسرُ الأمر ولكن قذاها زائر لا نريده ... أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري ومنهم الكَسكَري، وهو الذي يقول: قد تولى النهارُ واستقبل الليلُ خليليَّ فاشربا وأسقياني شربةً تترك الفقير غنياً ... حسن الظنِّ واثقاً بالزمانِ وهذا مالك بن أسماء بن خارجة من بيت بني فزارة، جاهليتها وإسلامها، لا يُدفع عن الخطابة والبلاغة والسخاء والظرف، قال لابن عم له يقال له موسى، وقد تجهز الناس للحج: هل لك في الحج قال: نعم، فتجهزوا وخرجا حتى إذا حاذيا زُرارة وهي أكثر الأرض كروماً وثماراً وأطيبها خمراً، فقال لابن عمه: هل لك أن تعدل إلى زرارة فنقيم بها ونتنعَّم إلى أن ينصرف الناس، قال: ذلك إليك فعطفا إليها وأقاما بها معكفين على الشراب إلى أن انصرف الناس فانصرفا معهم فقال مالك: ألم ترنا ومالك قد حججنا ... وكان الحجُّ من خير التجارة خرجنا طالبي سفرٍ بعيدٍ ... فحال بنا الطريق إلى زرارة فآب الناس قد بَروا وحجوا ... وأُبنا موقرين من الخسارة وأبو دلامة، مع ظرفه ومجونه وحلاوة شعره، من المشتهرين بالشراب وقد ذكرنا خبره مع أبي العباس السفاح أمير المؤنين.

وحجَّ موسى بن داوود بن علي وأمره بالحجِّ معه ليأنس به وبنوادره وأشعاره في طريقه، ووصله بعشرة آلاف درهم وأعطاه جمالاً، فباع الجمال، وهرب إلى سواد الكوفة وانغمس في بيوت الخمارين وطلبه موسى فلم يجده فقال: دعوه إلى نار الله وأليم عذابه، ورَحًلَ فلما شارف القادسية، وإذا أبو دلامة قد خرج من قرية، يريد أُخرى فقبضوا عليه وأتوه به فقال: يا عدو الله يا فاجر، تفر من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حوانيت الخمارين، فقيدوه ورموه في بعض المحامل فلما سارت الإبل صاح أبو دلامة بأعلى صوته: يا أيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلّ الإله على موسى بن داوود كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا تبلج في أثوابه السود نبئت أن طريق الحج معطشةٌ ... من الطلاء وما شربي بتصريد والله ما فيَّ من أجرٍ فتطلبَهُ ... ولا الثناء على ديني بمحمود إني أعوذ بداوودٍ وتربته ... من أن أحج بكرهٍ يا ابن داوود فقال موسى: ألقوه عن المحمل، فعليه لعنة الله، ومضى موسى لوجهه. وهذا أبو الشِّيص، نقيُّ الكلام متخيَّرُ الألفاظ، مداحٌ للخلفاء، لاحقٌ للفحول، وهم عم دعبل بن علي يصف نفسه بالندام فيقول: وكميت أرقها وَهَجُ الشمسِ ... وصيفٌ يغلي بها وشِتاءُ طبختها الشِعري العَبُورُ وحثت نارها بالكواكب الجوزاءُ محضتها كواكب القيظ حتى ... أقلعت عن سمائها الأقذاءُ هي السُرج في الزجاج إذا ما ... صبَّها في الزجاجة الرصفاءُ ودم الشادن الذبيح وما يحتلِبُ الساقيان منها سواءُ قد سقتني والليل قد فَتَق الصبح بكأسين، ظبيةٌ حوراءُ عن بنانٍ كأنها قُضُبُ ... الفضةِ حَنّا أطرافها الحِناءُ وهو الذي يقول وقد اصطبح: عاطِني كأسَ سلوةٍ ... عن أذانِ المؤذنُ ما ترى الصبح قد بدا ... في إزارٍ متبنِ فاسقينها سُلافةً ... والطُمَنيّ وأرمني وقام فعثر [بد كدا] فسقط عليها وكسرها فذبحته ذبحاً. وكان أشجع وحمزة ويزيد السُّلَمُّيون ندماء لا يفترون فمروا بقبر أبي زبيد الطائي وكان نديماً للوليد بن عقبة بن أبي مُعيط فدفن إلى جبه، فقال حمزة: مررت على عظام أبي زبيد ... وقد لاحت ببلقعةٍ صلودِ وقد كان الوليدُ له نديماً ... فجاور قبرُهُ قبرَ الوليد وما أدري بمن تبدا المنايا ... بحمزة أم بأشجع أم يزيد فمات حمزة ثم أشجع ثم يزيد. وخرج ثلاثة فتيان إلى سجستان في بعث، فكانوا يتنادمون فتوفي أحدهم فكان صاحباه يغدوان بطعامهما وشرابهما إلى قبره فيشرب كل واحدٍ منهما قدحاً ويصبان قدح الميت على قبره، ثم توفي أحدهما فدفنه الآخر إلى جانب صاحبه، وضرب على قبريهما قبة وجعل يشرب قدحاً ويصب على على قبريهما قدحاً ويبكي ويقول: خليليَّ هبّا طالما قد رقدتما ... أَجدَّ كما ما تقضيان كراكما ألم تعلما أن ليس لي من مُحدثٍ ولا بسجستان نديمٌ سواكما مقيم على قبريكما لست نازحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما وأبكيكما بالوجد مني وما الذي ... يُرَدُّ على ذوي لوعة إن بكاكُما وكان يحيى بن زياد الحارثي ذا لامروءةٍ وظرفٍ، وهو الذي يقول: أعاذلُ ليت البحر خمرٌ وليتني ... مدى الدهر حوتٌ ساكنٌ لجةَ البحر فأُضحي وأُمسي لا أفارق لجةً أُرَوي بها عظمي وأشفي بها صدري طوال الليالي ليس عني بناضبٍ ولا ناقصٍ حتى أُساق إلى الحشرِ وكان حمران بن إسحق بن أبان اللاحقي، ماجناً مدمناً وكان أبوه يعذله، فخرج إلى ماخور بعيدٍ من البصرة وكتب إليه أبوه يلومه ويسأله الرجوع إليه؛ فكتب إليه: يا أبي لا ترث لي من غربةٍ ... أنا في عيشٍ وخفضٍ ودعة وسجولِ خمسةٍ أو ستةٍ ... وإذا قلوا فعندي أربعة وخوابٍ هادراتٍ دهرها ... وقناني ملاءٍ مُترعة ومغنٍّ هزج يطربني ... وإذا شئت، تغنيت معه

لا نبالي من لحا في شربها ... أبداً حتى يوافي مصرعه قال: فيئس أبوه من صلاحه وفلاحه فأعرض عن ذكره. وشرب رجلٌ في بيت خمارٍ فأصبح ميتاً، فقيل للخمار: أنت قتلته، قال لا والله، ما قتلته إلا شربُهُ على غير طعامٍ. وكان والبة بن الحُباب من كبار المدمنين، لو قلتُ إنه سنَّ الفتوَّةَ وشرع المنادمة لقلت حقاً، وهو الذي يقول: وندمانٍ يزيد الكأسَ طيباً ... حليمٍ عند طيشِ ذوي الحُلوم دعوت (لليلةٍ) وثنيتُ أُخرى ... بتغذية الخؤلة والعموم فقلت ألا اصطبح، أصبحتُ إلاَّ بقايا غابر الليل البهيم معتقةٌ كأن المسكَ فيها ... محرَّمة على الرّجُلِ اللئيمَ وحسبُكَ بي، بها خبراً وعلماً ... ملأتَ يديك من رجلٍ كريم وكان لوالبة إخوانٌ مثلُهُ في الفتوة والظرف وإدمان القصف واللهو قد خلعوا العِذار وأنفقوا الطارف والتليد، منهم، عُباد بن عُباد الذي يقول فيه: عُبادُنا أطيبُ الخلائق لا الغادر يوماً إذا هُمُ غدروا أصبحت؛ ماذا بالسكر تنتظرُ ... دونكها قد تبلَّجَ السَحَرُ دونكها يا عُبادُ صافيةً ... كأنها في الزجاجة الشَّرَرُ ومنهم مسعود بن عمرو وعمرو، اللذان يقول فيهما: لما رأيتُ الصبح قد لاحا وأقبل الفجر وقد لاحا نبهتُ مسعوداً وعَمْراً لها ... فقلتُ قُوما فاشربا الرّاحا كرخيَّةً كالمسك معشوقةً ... يحسبها الشارب تفاحا ومنهم أبو الغرثان حفص بن غيلان الذي يقول فيه: قلت لما بَرَق الفجر وأبصرت الصباحا ورأيت الديكَ قد أكثر في الصبح الصياحا أسقِ حفصاً يا أبا الغرثان من كفيكَ راحا قهوةً أذكى من المسكِ ... إذا ما المسكُ فاحا مُرة تأبى إذا ما ... مُزجت إلا جماحا ومنهم عبد الله بن عمرو، الذي يقول فيه: ونديم حُلوِ الشمائل كالدينار محض النجار سهل مُصَفَّى قلت عبد الإله قم بأبي أنت، فلبىَّ، فقلت لبيكَ ألفا هاكها، قال: هاتها، قلت: خذها [قال لا أستطيعها] ثم أغفى. ولو لم يكن من ظرف والبة إلا أنه أُستاذُ أبي نواسٍ لكفاه. وناهيك بالحسين بن الضحاك وأبي نواسٍ في صنعة الخمر ونعتها وفي الإدمان لشربها، والحضِّ على المثابرة عليها، ووصف المجالس وما فيها، والسقاةِ وبراعة جمالها و [آنيتها] واختلافِ نعوتها والحاناتِ ومن يُلِمُّ بها والخمارين ومسامحةِ بعضهم في بيعها، ومغالاة بعضهم فيها، قال الحسين: وندمان صدقٍ لا ترى بين جهرِهِ ... وبين الذي تخفي سريرتُهُ فرقا تنبَّه للناقوس أَوَّلَ نقرةٍ ... ولم تبقَ لذات الكرام له عِلقا أتانا بها زيتية ذهبية ... كأنَّ حبابا دُرّها، حدقاً زرقا وهو القائل: ومهفهف نازعتُ فضلَ وشاحه ... وكسوتُهُ من ساعديَّ وِشاحا ما زال يَضْحَكُ [بي] ويضحكني به ... لا يستفيق دُعابة ومزاحا وعواتِقٍ باكرت بين حدائقٍ ... ففضضتهن وقد عَيِين صِحاحا أتبعتُ وخزة تيكَ وخزةَ هذه ... حتى أنتزفت دماءَهن جراحا ولربَّ ملتبسِ الجفون بسكرةٍ شرّدتْ عنه منامه فأنزاحا فكأَنَّ رَيَّ الكأس حين ندبتُهُ ... للشرب أنهض في حشاه جناحا وقال إسحق بن إبراهيم: كان الأخطل نازلاً على عكرمة الفيّاض فإنه خرج من عنده يوماً فمر بفتيانٍ يشربون، وعندهم قينة يقال لها شقراء، فأقام عندهم أياماً، فلما أتى عكرمة، سأله أين كان فأخبره بخبره فبعث [إلى الفتيان] بألف درهم وأعطاه خمسة آلاف، فمضى بها إليهم وقال: أستعينوا بهذه على أمركم ولم يزل ينادمهم حتى رحل وقال: لعُمركَ ما لاقيتُ يوم معيشةٍ ... من الدهر إلا يوم شقراء أقصرُ حواريةٌ لا يدخل الذمُّ بيتها ... مطهَّرةٌ يأْوي إليها مطهَّرُ

وخرج الفرزدق إلى الشام فلما كان في بعض طريقه، رُفع له بيت أحمر من أَدَم ودنا منه وسأل فقيل للأخطل، ونزل به، والأخطل لا يعرفه إلا أنه ضيفٌ فأحضر له طعاماً، فلما أكل قال: أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا، فقال له الفرزدق: خفض عليك وأسقنا من شرابك فشربا وجلسا يتحدثان ويتناشدان، فوثب الأخطل وقال له: بحق من تعبد، أنت الفرزدق؟ قال: نعم، فجدَّد له التحية، وزاده في برِّهِ وإكرامه، وتحدثا وتناشدا إلى أن قال له الأخطل: والله إني وإياك لأشعر من جرير، ولكن يسير له من الشعر ما لا يسير لنا، لقد قلت بيتاً ما أعلم أحداً قال أهجى منه: قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبَهُم ... قالوا لأُمهِمِ؛ بولي على النار فقلَّ من يرويه، وقال هو: والتغلبيُّ إذا تنحنح للقرى ... حَكَّ أستَهُ وتمثَّل الأمثالا فلم تبق سقاة ولا أمثالها إلا رووه وسار له؛ فأقاما نصطبِحين أياماً كثيرة ثم افترقا. ومن المستهترين بالشراب، المدمنين عليه، إبراهيم بن هرمة، ولما مدح أبا جعفر المنصور بقصيدته: نضا ثوبهُ عنك الصِّبا المتخايِلُ حتى بلغ إلى قوله: كريمٌ له وجهان، وجه لدى الرضى ... أسيلٌ ووجهٌ في الكريهة باسِلُ له لحظات عن حِفافَيْ سريره ... إذا كرَّها، فيها عقابٌ [و] نائِلُ فأُمُّ الذي آمنت آمنةُ الرَّدى وأُمُّ الذي أوعدت بالثكل ثاكِلُ وكان زياد بن عبد الله، قد جلده الحدَّ مراتٍ في خلافةِ أبي العباسِ السفَّاح، واستحسن أبو جعفر شعرَهُ وقال: سلحاجتك، فقال: تكتب إلى عامل المدينة أن لا يَحُدَّني إذا أُتي بي سكران، فقال أبو جعفر: هذا حدٌ من حدود الله عز وجل، فلا يجوز لي أن أُعطِّلَهُ، قال: فاحتَّلْ لي يا أمير المؤمنين فكتب إلى عامل المدينة؛ من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده (مائة) جلدةً، واجلد ابن هرمة ثمانين فكان العَوْن يمر به وهو سكران، فيقول: من يشتري مائة بثمانين. فلما ولى الحسن بن زيد العلوي المدينة قال لابن هرمة: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحِك أو خوف ذمِّك، قد رزقني الله بولادة نبيه صلى الله عليه وسلم الممادح، وجنبني القبائح وإنَّ من حقِّهِ عليَّ أن لا أعصي في تقصير في حق ربيّ، وأنا أقسم لئِن أُتيتُ بك سكران، لأضربنكَ حَدَّ الخمر وحدَّ السكر ولأزيدنك لموضع حُرمتك بي؛ فليكن تركك لها لله عز وجلّ تُعَنْ عليها ولا تدعها للناس فتتوكَّل عليهم، فنهض ابن هرمة وهو يقول: نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرامِ وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوفِ الله لا خوف الأنام وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حبٌ تمكَّن في عظامي أرى طيبَ الحلال عليَّ خبثاً ... وطيبُ النفس في حُبِّ الحرامِ وهو القائل: هلم اسقني كأسي ودع عنك من أبى ... وروِّ عظاماً قصرُهُنَّ إلى بِلى فأَنّ نديمي، غير شَكٍّ، مُكرَّمٌ ... لديَّ وعندي من هواه الذي ارتضى ولست له في فضلةِ الكأس قائلاً، ... لأصرعهُ سكراً، تحسَّ وقد أبى ولكن أُحييه واكرمُ وجههُ ... واشرب ما بقي واسقيه ما اشتهى ومنهم، أبو محجن الثقفي، وكان مولعاً بالشراب، مشتهراً فيه، شاعراً، فارساً، فحُدَّ مراتٍ، وحضر القادسية مع سعد بن أبي وقصاص وكان سعد لا يزال شارباً، فلما طال عليه أمره ضربَهُ وقيدَّه وحبسه، فلما تواقع القوم يوم القادسية وأبو محجن مشرفٌ عليهم نظر إلى المسلمين وقد فشلوا فأنشأ يقول: كفى حزناً أن تردي الخيلُ بالقنا ... وأُترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قمتُ عناني الحديد وأُغلقت ... مصارع من دوني تُصمُّ المناديا

فلما سمعته إمرأة سعد، قالت له: أعطني عهد الله أت ترجع إلى محبسك حين أُطلقك، فأعطاها عهد الله إن هي حلَّته من وثاقه أن يعود إليها حتى تعيده في محبسه؛ وإن قُتل فالقتل أكبر مما أرادوا به، فَحَلَّته وأعطته سلاحاً، وركب فرساً لسعدٍ بلقاء، فخرج فجعل يشقُّ الصفوف مقبلاً ومدبراً، ويشد على المشركين حتى هزموا وسعد يقول: أما الفرس ففرسي وأما الشدّات فشدّات أبي محجن، فلم يزل يشدّ ويقتل حتى انهزم المشركون ورجع إلى إمرأة سعدٍ، فنزل عن الفرس وألقى سلاحه وردَّت رجليه في قيوده، فلما رجع سعد إلى منزله دعا بأمرأته فسألها: هل ركب أبو محجن فرسهُ، فأنكرت ذلك، فأقسم عليها، فأخبرته الخبر، فدعا أبا محجن، وقال: والله لا اعاقبك فيها أبداً، قال: وأنا والله لا أشربها أبداً، إنما كنت أشربها حين كنت أُحَدُّ عليها فيكون الحدُّ كفارةُ لشربها، فأما اليوم فلا ذقتها أبداً، وقال: إن كانت الخمر قد عزَّت وقد مُنعت ... وحال من دونها الإسلام والحَرجُ فقد أُباكرها صهباء صافيةً ... صرفاً وأطرب أحياناً، فأمتزجُ وقد تقوم على رأسي مُنَعَّمةٌ ... فيها، إذا رفعت من صوتها غَنَجُ ترفِّع الصوت أحياناً وتخفضهُ ... كما يطن ذباب الروضةِ الهَزِجُ ودخل إبن أبي محجن على معاوية، فقال له: أبوك الذي يقول: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقُها ولا تدفني في الفلاةِ فإنني ... أخاف إذا متُّ، أن لا أذوقها فقال ابن أبي محجن، لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره، قال وما ذاك قال: قوله: لا تسألي الناس ما مالي وكثرتُهُ ... وسائلي الناس ما حزمي وما خُلُقي القوم اعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرقِ أُعطي السنان غداة الرَّوع حصَّتُه ... وعامل الرُّمح أرويه من العَلَقِ قد أركب الهولَ مسدولاً عساكره ... وأكتم السِرَّ فيه ضربةُ العُنُق فحكى من رأى قبر أبي مِحجن في أرمينية [أنه] بين شجرات كرمٍ، وفتيان أرمينية يخرجون بطعامهم وشرابهم فيتنزهون عنده، فإذا شربوا [صبّوا] كأسه على قبره. ومنهم، أبو الهندي، عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شَبَث بن رَبَعِّي اليربوعي وهو القائل: إذا صليتُ خمساً كل يوم ... فإن الله يغْفِرُ لي فُسُوقي ولم أُشرك بربِّ الناس شيئاً ... فقد أمسكت بالحبل الوثيقِ فهذا الدين ليس به خفاءٌ ... فدعني من بُنيات الطريق وكان أبو الهندي كثيراً ما يقول في صفة الخمر، ومن مشهور أخباره أن قُدَيْد بن مَنبع المنقري دعاه إلى أن يكفَّ عن الشراب، ويقلعَ عما هو عليه من الأستهتار به على أن يزوجه ابنته، ففعل ذلك اياماً، وكان لقُديْد غلامٌ يقال له سالم، يغدو كلَّ يومٍ على أبي الهندي بوطب لبنٍ قيشرب منه، فمرَّ بأبي الهندي بعض من كان ينادمه، فقال له: هل لك يا أبا الهندي في شراب لم يُعاين مثله، ومجلسٍ لذيذٍ، ولم يزل به حتى أنطلق معه، فلما شرب وعاد إلى ما كان عليه، أنشأ يقول: يقول أبو الهندي إذ طاب ليلُه ... وحلَّقتِ الجوزاءُ بالكوكبِ الفردِ سيُغني أبا الهندي عن وطبِ سالمٍ ... أباريق لم يعلق بها وضَرُ الزُّبْدِ مُفَدَّمةٌ قُزٌّ كأن رقابها ... رقاب بنات الماءِ تفزع للرَّعدِ يمجُّ سُلافاً في قوارير صورت ... وكاسات صدقٍ كلها حَسُن القَدِّ كميت إذا ما ذاقها المرءِ أرعَشت ... مفصاله وازداد مجداً على مجد ويبكي على ما فاته من شبابه ... بكاءَ أسيرٍ في الصفاد وفي القِدِّ شهدتُ بفتيانٍ تميمٌ أَبوهُمُ ... حسانُ وجوهٍ من ربابٍ ومن سعد وحجَّ به نصر بن سيار مرةً، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله عزَّ وجل ومحل حَرَمِهِ فدع الشراب، فوضعه بين يديه وجعل يشرب ويبكي ويقول: رضيع مدامٍ، فارق الراح رُوحُهُ ... فظلَّ عليها مستهِلَّ المدامعِ

أديرا عليَّ الكأسَ إني فقدتها ... كما فقد المفطوم دَرَّ المراضِعِ وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد الكناني ناسكاً، فاستعدي عليه وعلى ابنه فهربا منه، فقال أبو الهندي: قل للسريّ أبي قيسٍ أتهجرنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا أبا الوليد أما والله لو عَمِلت ... فيك الشمولُ لما فارقتها أبداً ولا نسيت حميّاها ولذَّتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولداً وكان بسجستان رجل صُلب أبوه في خرابة وهي سرقة الإبل، فجلس إلى أبي الهندي، وطفق يعرض له بالشراب، فقال أبو الهندي: أحدهم يرى القذارة في عين أخيه ولا يرى الجذع في است أبيه، ومرَّ به نصر بن سيار وهو يميل سكراً، فقال له: أفسدت شرفك، فقال: لولا أني أفسدت شرفي لم تكن أنت والي خراسان. ويقال إنه تاب في آخر عمره وترك شرب الخمر وقال: تركت الخمور لأربابها ... وأقبلت أشرب ماءً قُراحا ولم يبق في الصدرِ من حبها ... سوى أن إذا ذُكرت قلت آحا وقد كنت حيناً بها معجباً ... كحبِّ الغلامِ الفتاةَ الرَّداحا وما كان تركي لها أنني ... يخاف نديمي عليَّ افتضاحا [و] لكنَّ قولي له مرحباً وأهلاً مع السهل وأنعم صباحا وهو القائل: أُعاذلُ لو شربت الراح حتى يكون لكل أُنُملةٍ دبيبُ إذن لعذرتني وعلمت أني ... لِما أَنفقتُ من مالي مصيب وأبو الهندي [هو] القائل: أتلف المال وما جمعته ... طلبُ اللذات من ماءِ العِنب واستبائي الزِق من حانوته ... شائل الرجلين معصوب الذنب كلما كُبَّ لشربٍ خاتَهُ ... حبشياً قُطعت منه الرُّكب وكان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على الحجاز أُتي بالصلت ابن أبي العاصي المخزومي سكران فجلده الحدَّ فغضب ولَحِقَ بالروم فتنصر، وبعث عمر رجلاً إلى ملك الروم في فداء من عندهم من الأسرى، قال: بينا أنا أجول في أزقة القسطنطينية إذ سمعت غناءً بلسانٍ فصيح عربيٍّ وصوت شجيٍّ في هذا الصوت: وكم بين الفرات إلى المصلَّى ... إلى أُحدٍ إلى ميقات ريم إلى الجمّاءِ من ثغرٍ نقيٍّ ... عوارضه ومن دلٍ رخيمِ ومن عين مكحلة المآقي ... بلا كحلٍ ومن كشحٍ هضيم فلم أسمع قط أطيب منه، ولم أدرِ، أهو كذلك حسن، أم لغربة العربية في ذلك الموضع، ودنوت من الصوت فلما قربت منه إذا هو في غرفة، فنزلت عن دابتي وصعدت إليه فسلمت فردَّ السلام وهو يبكي فقلت له: أبشر، فقد فك الله أسْرَك؛ بعثني أمير المؤمنين في فداء من بهذا البلد من المسلمين فما قصتك، قال: هربت إلى هذا البلد غصباً لما جرى عليَّ من عمر بن عبد العزيز، فمررت يوماً بهذا المكان وأشرفت على جارية من أحسن الناس وجهاًفعشقتها وكلمتها فقالت: إن دخلت في ديني لم أُخالفك، فدعتني شدة الوجد بها إلى أن تنصرت. فقلت له، أكنت قارئاً للقرآن، قال نعم، قلت فما بقي معك منه، قال لا شيئ إلا هذه الكلمة: [ربَّما يوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين] قلتُ يا هذا، أتقِ الله وعاوِد الإسلام فإن الله يقول، [إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان] قال: وكيف، بعد عبادة الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، انطلق صَحبك الله. وحُكي عن يونس الكاتب، قال: كنّا متنزهين بالعقيق أنا وجماعة من قُريش، فبينا نحن في أكلٍ وشربٍ ومذاكرة طلع علينا ابن عائشة، فلما رأى جماعتنا وسمعني أُغني في شعر جميل: إن المنازل هَيَّجت أطرابي ... واستعجمت آياتها بجوابي قفرٌ تلوح بذي الأراك كأنها ... تجير وشيءٍ أو سطور كتابِ لما وقفتُ بها القلوص تبادرت ... مني الدموع لفرقةِ الأحبابِ وذكرت عصراً يا بثينة شاقني ... إذ فاتني، وذكرت شرخ شبابي

جاءَنا فسَلَّم علينا وجلس فتحدث معنا، وكانت الجماعة تعرف سوء خُلقِهِ وغضبه إذا سئل أن يغني، فأقبل بعضهم على بعض يتحدثون [بأحاديث كثيِّر وجميل يستجرون] بذلك أن يطرب فيغني، فقلت: لقد حدثني اليوم بعض الأعراب حديثاً مليحاً، وإن شئتم حدثتكم به، قالوا هات: قلت: حدَّثني أنه أقبل من الربذة قال، فمررت بغدير، وإذا صبيان يتغاطسون فيه وإذا شابٌ جميل منهوك الجسم عليه أثر العلة، والنحولُ في جسمه بين وهو جالسٌ ينظر إليهم فسلمتُ عليه فردَّ السلام وقال من أين وَضَح الراكبُ، قلتُ من الحِمى، قال: ومتى عهدك به، قلت رائحاً، قال، واين كان مبيتك، قلت، بفناء فلان، فتأوه وألقى بنفسه على ظهره، وتنفس ظننت أنه خَرَق حجاب قلبه ثم أنشأ يقول: سقى بلداً أمست سليمي تحلُّهُ ... من المزن ما يروى به ويُسيمُ وإن لم أكن من قاطنيه فإنه ... يحلُّ به شخصٌ عليَّ كريم ألا حبذا من ليس يَعدلُ قُربُه ... لديَّ، وإن شطَّ المزار، نعيم ومن لامني فيه حبيبٌ وصاحبٌ ... فردَّ بغيظٍ، صاحبٌ وحميمُ ثم سكن كالمغشي عليه، فصحت بالصبية، فأتوا بماءٍ فنضحتُ على وجهه فأفاق وأنشأ يقول: إذا الصبُّ الغريب رأى خشوعي ... وأنفاسي تزيَّن بالخشوع ولي عينٌ أَضرَّ بها التفاتي ... إلى الأجزاع مطلقةُ الدُّموع إلى الخلوات، تأْنسُ فيك نفسي ... كما أَنس الوحيدُ إلى الجميع فقلت: ألا أَنزل فأُساعدك أو أكثر عودي على بدئي إلى الحمى، في حاجةٍ إن كانت لك، أو رسالةٍ، فقال: جزيت خيراً وصحبتك السَّلامة، إمض لِطيَّتِكِ، فلو علمت، أنك تُغني لي شيئاً لكنت موضعاً للرغبة، ولكنك أدركتني في صُبابةٍ من حياتي يسيرة، قال: فانصرفت وأنا لا أراه يُمسي ليلته إلا ميتاً، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث، فطرب ابنُ عائشة وقال ليونس الكاتب: أعِد علي الشِّعرين، فأعادهما عليه، فصاغ للأول منهما لحناً في خفيف الرَّمل المطلق في مجرى الوسطى، وقيل إنه منسوب إلى معبد، فأخذه ابن عائشة وعمل في الثاني لحناً في خفيف الثقيل وغناهم فيهما، قالوا فما سمعنا قط مِثاه ثم ختم مجلسنا بهذا الصوت: أفاطمُ إن النأي يُسلي ذوي الهوى ... ونأيك عن زادني بكُمُ وجدا وما هبَّ عرْفُ الريح، من نحو أرضكم ... فيبلغني، إلا وجدت له بردا على كبدٍ قد كاد يبدب بها الهوى ... صدوعاً، وبعض القوم يحسبني جلدا وجعل يعيده ونحن نشرب حتى ما عقل كلُّ واحدٍ منا كيف وصل إلى أهله سكراً. وحكى إسحق بن إبراهيم الموصلي، عن أبي عبيدة قال: قدم الفرزدق المدينة فنزل على الأحوص فقال له الأحوص: ما تشتهي، قال: شواء، ووطاء، وغناء، فأتاه بذلك وقينة من قيان أهل المدينة فشرب وغنته بهذا الصوت: ألا حيِّ الديار بسُعدَ إني ... أُحبُّ لُحبِّ فاطمةَ الديارا إذا ما حلَّ أهلُك يا سليمي ... بدارة جُلجُلٍ شحطوا مزارا أراد الطاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها، قال: أو ما تدري لمن هذا الشعر، قال: لا والله، قال: هو لجرير يهجوك به، قال: ويل ابن المراغة، ما كان أحوجه مع صلاحه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع قسوتي إلى رقة شعره. قال إبراهيم: كنت في زمان شبابي أُلازم الخمارين بِقُطْرُبُّل فجئت يوماً إلى خمارٍ ما رأيت أنظف منه، فقلت: ما عندك؟ قال: عندي شيءٌ يوافقك، وأخرج لي شراباً كشعاع الشمس لم أر مثله، فقلتُ: اكتل لي منه، وكنت قد صنعت في الوقت لحناً: اِشرب الراح وكن في ... شُربكَ الراح وقورا اِشرب الراح رواحاً ... وظلاماً وبكوراً

وطريقته: خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى، فجعلت أترنم به وأُردده لكي يستوي [وكان] الخمَّار قد قرَّب الإناء واكتال فيه حتى امتلأ وفاض وهو يزيد فيه والشراب يجري حتى استغدر بين يديه، فقلت له: ويحك، أتلفتَ شرابك وهرَقَت، فما بالك، فقال: والله يا مولاي، ما هو إلا أن سمعت ترجيعك في هذا الصوت فذهب عقلي فما أسمع ولا أُبصر، فذهبت لأزن له ثمن شرابه فحلف بدينه ألا يأخذ مني ثمناً ولو حملت كل ما في حانوته، وقبَّل أطرافي ورغب إلي في المُقام عنده، فأقمت في ضيافته ثلاثاً، لأولاني فيها من الخدمة والبر والإكرام ما لا أقدر على صفته، فكنت بعد ذلك لا أُفارقه زمناً طويلاً. وحكى جحظة عن موسى بن هرون، قال: كنت مع إسحق بن إبراهيم الموصلي في نزهة فمرَّ بنا أعرابي، فوجه اسحق غلامه زياداً فجاء بالأعرابي فلما شرب وسمع حنين الوتر والدَّواليب، قال: حنَّت وليس تحن عن وَجدِ ... وأَحِنُّ من طرب إلى نجد لو قيس وجدُ العالمين إلى ... وجدي لزاد عليه ما عندي قال: فما انصرف إسحق إلى بيته إلا محمولاً من السُّكر، وما شرِبَ إلا على هذه الأبيات، وغنى فيها إسحق بالبِنْصَر. وكان عُروة بنُ الوَرد أحد الصعاليك المجَّان المشهورين، مشتهراً بالشراب، فشرب الخمر بكل شيءٍ يملكه حتى ارتهن امرأته سلمى الغفارية ثم ندم وقال: أرقت وصحبتي بمضيق عمروٍ ... لبرقٍ من تهامةَ مستطيرِ لآنسةِ الحديث رضابُ فيها بُعَيدَ النوم كالعنب العصير سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عُداةُ الله من كذب وزور فلا والله لو مُلِّكت أمريومن لي، بالتدبُّر في الأُمور فيا للناس كيف غُلبت أمريعلى شيءٍ ويكرُهُه ضميري وعن إسحق بن إبراهيم قال: كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن عليّ، وكانت محسنة بارعةً، وكان بشار صديقاً لسيدها، فحضر مجلساص يوماً والجارية تغني، فإذا سكتت أخذ بشارٌ في إنشاده ونوادره، فسُرَّ الرجل ببشار وشرب حتى سكر ونام، ونهض بشار، فقالت له الجارية: يا أبا معاذ، أُحبُّ أن تذكر يومنا هذا في قصيدة ولا تذكر اسمي ولا اسم سيِّدي، فانصرف وكتب إليه: وذات دَلٍّ كأن البدر صورتُها ... باتت تغني عميد القلب سكرانا [إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا] [يَصرَعنَ عن ذا اللبِّ حتى لا حراك به وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا] فقلتُ أحسنتِ يا سؤلي ويا أملي ... فأسمعيني جزاكِ اللهُ إحسانا [يا حبَّذا جبلُ الرَّيان من جبلٍ وحبَّذا ساكن الرَّيان من كانا] فقلتُ أحسنتِ أنت الشمس طالعةً ... أضرمت في القلب والأحشاءِ نيرانا فأسمعيني صوتاً مطرباً هَزَجاً ... يزيد صبًّا محباً منك أشجانا يا ليتني كنتُ تفاحاً تقبله ... أو كنت من قضب الريحان أفنانا حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها ... ونحن في خلوةٍ مُثِّلت إنسانا [أصبحت أطوعَ خلق اللهِ كلَّهِمُ لأكثر الخلق لي في الحب عصيانا] لو كنت أعلم أن الحب يقتلني ... أعددت لي فيك إذ لقاك أكفانا فلما وقف على الأبيات سُرَّ بها وبعث إليه ثلاثة آلاف درهم. وحكى إبراهيم الموصلي قال: حدَّثني رجل ظريف من أهل الطائف قال: عشق العرجي امرأة من قريش فجعلني رسولاً إليها، فأتيتها برسالته وأخذت موعدها لزيارته لموضعٍ سمَّاه، ثم بكرت أنا وهو وحملنا معنا سُفرة وزُكرة على أتانٍ، فجاءت ومعها جارية، وجاءَ على حمار ومعه غلام، فأكلا وشربا وتحدثا ثم قمت عنهما فوثب عليها، ووثب الغلام على الجارية، والحمار على الأتان، وقعدت أسمع النخير من كل ناحية، فأنعظت ولم يكن لي حيلة إلا أن جلدتُ عُميرة، فرفع العرجيُّ إلي رأسه وقال: هذا يومٌ غابت عواذله؛ فما لي حسنة أرجو ثوابها رجائي لثواب ذلك اليوم.

وكان سعيد بن القعقاع الطائي يتقدم بشاراً في المجانة، وكان لا يزال ينادمه، فقال له: ويحك يا أبا مُعاذ، إن الناس ينسبون إلينا الزندقة، فهل لك في أن تحج حجة تنفي بها عنا ذلك، فقال له: نِعم ما رأيت، فاشتريا بعيراً ومحملاً وركبا حتى مرا بضيعة كثيرة البساتين والخمر، يقال لها زُرارة فقال له: ويحك يا أبا معاذ: مل بنا إلى زرارة ننعم بها فإن الحج بعيد، فإذا قفل الحاجُّ عارضناهم وكنا معه، فلم يشك الناس أنا جئنا من الحج، فقال له بشار: نِعم ما رأيت، لولا خبث لسانك فإني أخاف أن تفضحنا، قال: لا تخف، ومالا إلى زرارة، فما زالا يشربان الخمر ويفسقان حتى نزل الحاج بالقادسية راجعين، فحلقا رأسيهما وأقبى، وتلقاهما الناس يهنئونهما، فقال سعيد بن القعقاع: ألم ترني وبشاراً حججنا ... وكان الحج من خير التجارة خرجنا طالبي سفرٍ بعيدٍ ... فمال بنا الطريق إلى زُرارة فآب الناس قد حجوا وبروا ... وأُبنا موقرين من الخسارة وقال السندي بن الصبَّاح: شهد بشار مجلسنا، وقال: لا تصيروا مجلسنا هذا شعراً كلَّه، ولا حديثاً كلَّه، فإن العيش فرصٌ، ولكن غنوا؛ وتحدثوا، وتناشدوا، وانتهبوا العيش انتهاباً. وكان بالكوفة ثلاثة نفرٍ يقال لهم الحمَّادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحمَّاد بن الزبرقان، يتنادمون على الشراب، ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون ولا يكادون يفترقون، فكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة جميعاً. ودخل مطيع ابن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية، فإذا سراجُهُ على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين، فقال له يحيى بن زياد: يا حماد إنك لمسرفٌ تبذل حُرَّ المتاع، وقال له مطيع: ألا تبيع هذ المنارة وتبتاع أقل ثمناً منها وتنفق على نفسك الباقي وتتسع فيه، فقال له يحيى: من أين يكون له مثل هذه، أظنها وديعة عنده أو عارية، فقال مطيع: أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس حين أودعوه مثلها، قال يحيى: ما أظنها عارية ولا ويعة، ولكني أظنها مرهونة عنده على مالٍ، وإلا فمن يُخرج هذه عن يده، فقال لهما: قوما يا ابني الزانيتين اخرجا من منزلي، فشر منكما من يدخلكما منزله هذا. وقد كان أحد خلفاء بني أُمية يصلُهُ بماية ألف فيتلف كلَّ ما أفاد في إدمان الشراب. وقال إسحق الموصلي: حدثني أبو يعقوب الخُرَيمي قال: كنت في مجلسٍ فيه حماد الراوي ومعنا غلام أمرد فجعلنا نشرب، وينظر إليه حمَّاد، فقال لي: يا أبا يعقوب، قد عزمت الليلة أن أفتك بهذا الغلام، فقلت: شأنك، فلما سكرنا ونمنا لم أشعر إلا وحمَّاد ينيكُني، فكرهت أن أتكلم فينتبه الناس فأفتضح، فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني، فقال لي: قد عرفتك الآن، فيكون ماذا، وفديناه بذبح عظيم، فما برح وأنا أُعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل. قال أبو العباس المبرد، حدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: سمعت إسحق بن إبراهيم الموصلي يقول: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا ونزلنا آخيت بها رجلاً كانت له سنٌ ومعرفةٌ وأدبٌ وكان يُمتِعُني، فإني ذات ليلةٍ في منزلي إذا بصوته يستأذن عليَّ، فظننت أمراً أقدمه وفزع إليَّ فيه، فأسرعت نحو الباب وقلت: ما جاء بك؟ قال: إذن أُخبرك: دعاني صديق لي إلى طعام عتيدٍ وشرابٍ عتيقٍ وحديثٍ ممتع وغناء مطرب، فأقمت عنده إلى هذا الوقت، لإاخذت مني حميَّا الكأسِ مأخذها ثم غنيت بقول نُصيب: بزينب أَلْمِمْ قبل أن يرحل الركبُ ... وقُل إن تملينا، فما مَلَّكِ القلبُ فكدت أطير طرباً، ثم وجدت نقصاً في الطرب، إذ لم يكن معي أحد يفهم هذا كما فهمتُهُ، فنزعت إليك لأصف ذلك لك ثم أرجعُ إلى صاحبي، وضرب بغلته مولياً، فقلت: قف أُكلمك، قال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجةٍ.

وجرى بين معبد المغني وبين الأحوص كلام، فحلف معبد لا يكلمه ولا يغني في شعره، فشقَّ ذلك على الأحوص، فلما طالت هجرته إياه رَحَلَ نجيباً له وجعل زُكرةَ خمرٍ في حقيبته وأعدَّ معه دنانير ومضى نحو معبد فأناخ ببابه ومعبد جالس بفنائه، فنزل إليه الأحوص وكلَّمه فلم يكلمه معبد، فقال: يا عبّاد، أتهجرني وقد عرفت مودَّتي وصحبتي؟ فخرجت إليه امرأته أُم كردم فقالت: أتهجر أبا محمد، والله لكلَّمته، فاحتمله الأحوص وأدخله البيت وقال: والله لا رمتُ هذا البيت حتى آكل الشواءَ وأشرب الطلاء وأسمع الغناء، فقال له معبد: أخزاك الله، هذا الشواء أكلته، وهذا الغناء سمعته، أنى لك بالطلاء، قال: قم إلى تلك الحقيبة ففيها زُكرة خمرٍ ومعها دنانير فأصلح بها ما تريد من أمرنا، ففعل، فقالت أُم كردم: معبد، أتهجر من إن زارنا أغدر فينا نَيْلاً وفضلاً وأكلاً وشرباً! وغناه معبد، ثم انصرف الأحوص مع العشاء يميل بين شِقَّيْ راحلته. وقال أبو الفرج الأصبهاني: حكى يونس الكاتب، أنَّ معبداً، كان علَّم جارية لبعض أهلِ المدينة تسمى ظبية، وعُنيَ بتخريجها حتى حذقت عنه، فاشتراها من أهلها رجل عراقي وتوَّجه بها إلى البصرة، فغلبت عليه وشغف بها غاية الشغف، وعَلَّمَت له عدة جوارٍ ثم ماتت عنده، فكان لشدة وجده بها وأسفه عليها لا يزال يهذي بمعبد ويسأل عنه ويظهر له التعصب إلى أن بلغ معبداً خبرُهُ وعرف أنه من أهل اليسار والمروءة، وأنه لو قصده انتفع به فمضى نحوه. فلما قدم البصرة سأل عنه فقيل: اليوم انحدر إلى الأهواز، فأسرع معبد في أثره ليلحق به فطلب زورقاً فصادف الزورق الذي فيه الرجل، فقال له الرجل: أين تريد؟ قال: الأهواز، قال: وما تصنع هناك؟ قال: أنا رجل أُغني وأحببتُ أن أقصد بها الفتيان وأهل المروءة، فلما سمع الرجل ذلك قربه وأكرمه وفرش له موضعاً في الزورق من غير أن يعرف أحدهما الآخر، فلما حضر الطعام أكلا جميعاً وأتى بالنبيذ فشرب، وكان مع الرجل جوارٍ ممن كانت ظبية علمتهن، فأمرهن أن يغنين، فغنَّت إحداهن: بانت سعاد وأمس حبلها اتخذما ... واحتلت الغور والأجراع من إضما إحدى بَليٍّ وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذِكرةً حُلُما والغناء لمعبد [تجد أداءَه] فقال لها معبد: إن غناءَك هذا ليس بمستقيم، فقال له الرجل: أبلغ من قدرك في الغناء أن تميز هذا الصوت، فالزم شأْنك؛ فأَمسك، وغنت بعده عدة أصوات وهو ساكت، ثم غنَّت لحناً فاختلَّت به، فقال لها معبد: يا جارية قد أخللت بهذا الصوت إخلالاً شديداً، فقال له الرجل: ويلك مالك والفُضول، فسكت حتى فرغت الجارية، واندفع معبد يغني الصوت الأول حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت والله، أَعِده علينا، قال: لا والله، ولا كرامة، ثم اندفع في الصوت الثاني، فقلن لسيِّدِهن: هذا والله أحسن الناس غناءً، فسلْهُ أن يعيده علينا ولو مرة واحدة لعلنا نأخذه عنه فإنا لن نجد مثله أحداً، فقال: أسلفنا عنده إساءة وقد سمِعتن جوابه، وانا أخشى إن سألته مسألةً، فما فرغ الصوت حتى زلزل الأرض، فوثب الرجل فقبَّل رأسه واعتذر إليه، ولم يزل به حتى سكن، فقال له: من أين لجواريك هذا الغناء؟ قال: أخذنَهُ عن جارية كانت لي يقال لها ظبية ابتعتها من الحجاز من تعليم الأُستاذ معبد، وكانت تحل مني محلَّ روحي من جسدي، فاستأثر الله بها، فأنا إلى الآن أَتعصب لمعبد ولغنائه، فقال له معبد: وإنك لأنت هو، فأنا والله معبد، وإليك أردتُ ولك قصدتُ، فسُرَّ الرجل به وقبَّل رأسه، وخرج الجواري فقبلن يديه ورجليه، فقال له معبد: والله لأُقيمن عندك حتى أصير جواريك مثل ظبية وأكثر، فأقام عنده سنة، وانصرف عنه وقد أجزل صلتهُ وجائزته وأحسن إليه. قال إبراهيم الموصلي: حُدِّثتُ أن ابن عائشة وأصحاباً له كانوا يجتمعون كلَّ يوم عند واحد منهم ويطربون وبلغت النوبةُ إليه ولم يكن عنده ما يقوم به يومهم، فصاغ صوتاً في شعر مَدَحَ به العباس بن عليّ بن عبد الله بن العباس، فغدا عليه والعباس مريض وعند عُوادُه، فلما دخل إليه اندفع يغني: أسهر بالليل من تذكُّرِ ما ... تسهَرُ منه والناس قد هجعوا

فليت ما بي من صحةٍ بك أفديك وبي [منك] لا بك الوجع قال: فتهلل وجه العباس واستوى قاعداً ثم قال: يا غلام الدنانير، فجاءَ بها فقال: أُحشُ لي فيه، قال: فرأيته يوسع في شدقيه ودعا له بتخت ثياب، فلما خرج، عدَّ الدنانير فإذا هي تسعون ديناراً تنقص واحداً أو تزيد فأنفقها على أصحابه. وقال إسحق: حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: كان عبد الله بن عمرو بن عثمان يلي صدقات عثمان بن عفان رضي الله عنه وأحباسه وأوقافه وله أخٌ من أبيه يقال له عثمان بن عمرو ويلقب ب (خرا الزنج) سفيه مخنَّث مهتوك، فقيل له: ويلك أخوك من الجلالة والفضل على ما قد عَلِمه الناس، وهو يلي صدقات جدِّك، وأنت سفيه مهتوك، فلو لزمت المسجد واستقام مذهبك، جُعلت لك يدٌ مع أخيك، ولعلها كانت تفضي إليك بعده، وجعل قومٌ يحسدون عبد الله ويغرون أخاه بذكر هذا، وكان عبد الله أجمل أهل زمانه وكان يلقبب " قبة الديباج "، فذكر الماجشون قال: كان الناس يختلفون إليه وإلى عبد الله بن عبد الله بن عباس وهما بالمسجد يتأملون حسنهما ويزعمون أنهما أجمل أهل زمانهما فلزم " خرا الزنج " المسجد والصلاة والجماعة والقراءة حتى عُرف بالخير، ثم خاصم أخاه عبد الله عند القاضي وكان القاضي سيء الرأي في عبد الله فوجد " خرا الزنج " أن يدخل يده مع عبد الله في الوقف، ولم يأمنه عبد الله أن يفعل، لِلذي بينهما من الخلاف، فضاق به أمره، وكان يمزح مع أشعب، وجاءه أشعب فرآه مغموماً، فقال: ما لك يا سيدي يا ابن الشهيد، فعرَّفه، فقال: إن احتلت الآن لتصرفه عن رأيه فلك مائة دينار، فإنه يقبل منك لما بينك وبينه، فقال له أشعب: كفيتُك، وجاء أشعب حتى أتاه في المسجد فقال له: ويلك ما هذا الشؤم الذي ألزمته نفسك، ما لك وللصلاة والقراءة ولزوم المسجد، تركت اللهو والطرب والغناء وشرب النبيذ والأكْبار والنايات والطبول، فقال له " خرا الزنج ": ويلك أنا أُخاصم عبد الله أخي في الوقف وقد وعدني القاضي أن يدخل يدي مع يده، فإذا فعل رميت بهذا كله وعدت إلى كل شيءٍ تعرف فلا تغتَّم، قال: فاحتل عليَّ في يومٍ واحدٍ تذكرني به أيامنا، قال: واله ما عنديفي هذا الوقت شيءٌ، قال له أشعب: فأنا أستلف لك من فلان التاجر مائة دينار، قال: فافعل ذلك، فمضى أشعب إلى التاج فقال: قد علمت أن " خرا الزنج " يأخذ منك الدرهم بعشرة، وغداً يُدخل القاضي يدَه مع أخيه فلا يذهب لك عليه درهم واحد، فقد احتاج إلى مائة دينار تعامله عليها، فعرف التاجر الخبر بما ذاع عن القاضي فأعطاه المال وخرج " خرا الزنج " إلى قصره بالعرصة وأمر بفسطاط فضرب له هناك، وقال لأشعب: ويلك هل علم بنا أحد، قال: لا وحق أبيك الطيب، قال: اذبحوا لنا كذا، واطبخوا لنا كذا، فقال أشعب: يا سيدي أي شيء تأكل إلى أن يُدرك هذا الطعام؟ فإن: انتظاره يطول علينا، قال: ما تشتهي، قال: الرؤوس، قال: ويلك إن بعثت غلاماً لي إلى السوق في ابتياع الرؤوس لم آمن أن يسأل أحدٌ عنا فيخبر بموضعنا ويتصل بالقاضي فلا يتم ما نؤمله فقال له أشعب: فأنا يا سيدي أتلطف وآتيك بكل ما تحتاج إليه من غير أن يعلم أحد، قال: فدونك فركب دابةً وركض إلى السوق فأرهج السوق واشترى كل رأسٍ فيه، وجعل أهل السوق ينكرون ذلك لكثرة ما اشترى منها، فيقال له: ويلك يا أشعب ما تصنع بهذه كلها فيقول:

لابن الشهيد، لأنه أخرجنا إلى النزهة في قصره بالعرصة ومعنا الأكبار والطبول والنايات والعيدان والمخانيث وكل شيء طيب فملأ به الدنيا، ومر أشعب بعبد الله بن عمرو فقال له: وافِني وقت كذا بمن قدرت عليه من العدول إلى قصر أخيك بالعرصة؛ ووافى أشعب بالرؤوس فقال: يا سيدي ما علم بنا أحدٌ من خلق الله، فقال: أحسنت ولطفت، فأكلوا وقدَّموا النبيذ وتضمَّخوا بالخلوق ولبسوا المصبغات والحُلي والشنوف؛ ثم أرسل عبد الله إلى أهل المسجد وأهل الفضل ووجوه الناس فقال: إن أخي عثمان تحامل عليَّ في حائطٍ بيني وبينه ولست آمن أن يقع بيننا اختلاف فأحبّ أن تحضروا معي حتى تحملوني وإياه على الحقَّ. فأسرع الناس معه وجعل " خرا الزنج " يقول لأشعب: ويلك غنَّني، فيغنيه من أجود أغاني الناس، لابن سُريج ومعبد ومالك ابن أبي السمح و " خرا الزنج " يقول له: دعني من هذا يا ابن الفاعلةة ويعطف على من معه من المخانيث ويقول: شدوا طبولكم وأنفخوا في السريانات وغنوا معي، وارهجوا الأكبار والطبول والسريانات، وجعلوا يغنون معه: يا أُم حوفزانة ... هيِّ لنا الأتانة فما زالوا على هذا حتى هجم عليهم عبد الله بن عمرو ومن معه من الفقهاء والعدول وفي عنق عثمان وهو خرا الزنج كبرٌ، وفي عنق أشعب طبل وقد سكرا، فقال عبد الله للعدول: هذا الذي يريد القاضي [أن] يدخل يده معي في الوقف، فقال القوم: كلاّ والله، ما ذلك له، ولا هذا الرجل بأهلٍ أن يؤمن على نفسه فكيف يُؤمن على مال غيره، قبَّح الله هذا. فالتفت " خرا الزنج " إلى أشعب [وقال] : ماذا صنعت يا ابن الزاني، قتلني الله إن لم أقتلك فقال أشعب: يا مشؤوم، قد علمتث أنك متحوفز إلى النار حين جعلت تقترح عليَّ يا أُم حوفزانة، وقال للقوم: احملوني معكم وإلا قتلني، وجعل يحدثهم حديثه وهم يضحكون و " خرا الزنج " يعدو خلف دوابهم ويصيح: ردّوا عليَّ نديمي والقوم يلعنونه ويخنثونه حتى دخلوا المدينة فلقوا القاضي فأعلموه ما رأوا ولاموه في أمر عبد الله فعاد إلى إجلاله وتعظيمه وطرد " خرا الزنج " وإبعاده ووفى عبد الله لأشعب بالمائة دينار.

قال مخارق المغني: لقيني أبو العتاهية فقال: أنا شديد الصبابة بك، متشوق إلى مجلس منك، كثير الوله نحوك، فقلتُ له: وما ذاك؟ قال: تمتعني بمجلسٍ منك، قلت: نعم، قال: فمتى، قلت: متى شئت، قال: غداً، ثم قال لي: إني والله إن فارقتك على ميعاد ثم أخللت به اقترقنا، فندمتُ وقلتُ في نفسي: أنا عبد مملوك، فلا أدري ما يتهيأ لي من هذا، ولعل أمير المؤمنين يطلبني، وأبو العتاهية لا يقبل عذراً، و [أَمّا] أنا فلا طاقة لي بلسانه فما صنعت بنفسي، ولم أنم من الفكرة حتى أضاء الفجر فحمدت الله تعالى إذ لم يأتني رسول، غدوت إليه فوجدته قاعداً يُسبِّح بعد الصلاة فسلمت عليه فرَّحب بي وقصصت عليه ما أصابني فشكر ذلك وجزاني خيراً وأخذنا في الحديث وهو قاعد في غرفةٍ له مشرفةٍ على بستان قد فتح إليه أبواباً صغاراًتقابله، فمرة ينظر إلى البستان، ومرة ينظر إلى من يمُر في الطريق ونحن في أطيب موضع وقد أوسعني والله سروراً وفوائد وطرائق اختبار، ثم قال: هل اشتهيت الطعام، قلت: نعم، فقال لغلامه: أحضر الطعام، فقرب الوضوء فغسلنا أيدينا ثم جاء بخوانٍ لطيف عليه سُكرُّجات في إحداهن ملحٌ وفي الأخرى مرق، ثم أقبل الغلام برغيفين واسعين حسنين، على كل واحد منهما دجاجة باردة وسكين، فأصاب وأصبت منها ثم أقبل بطبق عليه سكرجات مثل الأول ثم برغيفين مثل الأَولين عليهما دجاجتان مشويتان حارتان وسكين فأصبت وأصاب ثم رفع باقي الدجاجتين والرغيفين، ثم جدَّد طبقاً آخر مثل الأول عليه سكرجات ورغيفان عليهما فرخان باردان ثم مثل ذلك حارَّان ثم طبق عليه جامان فيهما سُرَّتا حوت مملوحة، ثم مثل ذلك عليهما سثرتا حوتٍ طريٍّ، مثل ذلك من جدي بارد، ثم حارٍّ، وذلك سوى ما على المائدة من كل لونٍ حارٍ وبارد، ثم أتى الغلام فقال: فرغت من الطبيخ وعندي كذا وكذا حتى عدَّد ألواناً كثير، فالتفت إلي وقال: أدعُ بما شئت، فقلت: لم أُبقِ من شهوتي في الطعام شيئاً لما يأتي، فقال: الحمد لله، ثم جاء بالوضوء فغسلنا أيدينا، ثم جاء بحوضين من ساجٍ مرصعين، في كل واحدٍ منهما صينية فيها خرداذي، وقدح ومغسل وكوز ماءٍ باردٍ من نبيذٍ مصفَّى رقيق، ثم شرب وشربتُ حتى استوفينا ستةً وستةً، ثم قال: يا مخارق، غنِّ: ذهب الشبابُ وليته لم يذهبِ ... ونعى الشباب مخبرٌ لم يكذب بينا الشباب تسُرُّنا أَيامُهُ ... ونشوب لذته بلهوٍ معجب نزل المشيب وقال جانب عقبتي ... وإخال أني سابق بك فأركب فأندب عشيات الشباب فلن ترى ... مثل الشباب مودِّاً لم يُندب فغنيته فبكى ثم قال: غنِّ: بان الخليط، ولو طووعتُ ما بانا ... وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا يصرعنَ ذا اللب لا حراكَ به ... وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا فغنيته ثم قال: غنِّ: أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيَّة همَّ صحبُك بالرَّواحِ تقول العاذلات علاك شيبٌ ... أهذا الشيب يمنعني مراحي ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح

فغنيته فبكى، ثم قال: يا أبا المهنأ على اللهو السَّلام، والله لا يراني الله بعد هذا اليوم حاضراً لهواً ولا لعباً ولا ذائقاً مسكراً وقد ختمت الدنيا بغنائك، ثم عانقني وقال: [انصرف] إذا شئت، قال: وكنت من شدة حذري ركبت إليه وليس معي غلامٌ ولا شاكري ولا يعلم أحد في منزلي إلى أين غدوتُ، ورسلُ الرشيد في طلبي قد ربعوا بغداد وهم يضربون غلامي يسألونه عني ولا يعلم لي موضعاً حتى برزت من سكة أبي العتاهية فابتدرني غلامٌ لي ومعه الرسل، فكان وجهي معهم إلى القصر، فلم أُسأل عن شيءٍ حتى بطحت فضربت مائة مقرعة، ثم قيل لي: يقول لك أمر المؤمنين: أين كنت اليوم؟ فقلت: إن لي عذراً لا أتكلم به حتى أرى وجهه، فدعاني فقصصتُ قصتي وقصته من أولها إلى آخرها على ما كانت، فقال الرشيد: فجعتنا والله بأبي العتاهية، إني لإخاله خاتمة لهونا، ثم قال: غني أصواته، فكررتها عليه صوتاً صوتاً، ثم حدثته عن طعامنا وشرابنا ومجلسنا، فقال: ما أحسن كلّ شيءٍ كنتم فيه، ثم قال: يا غلام، عشر بِدر، فلما أُتي بها ووضعت بين يديه قال: هذه المائة بتلك المائة، فقلت: يا سيدي، وددت والله لو كانت مائتين، فضحك، وأمر بعشرٍ أُخرى، فانصرفت بمائتي ألف وغدوتُ على أبي العتاهية فحدثته بما جرى وعرضت عليه المال، فقال: وددت يا أخي أني وقيتك الضرب وأنهم أضعفوا لك الصلة. وحكى أحمد بن يحيى ثعلب عن عمرو بن شبَّة عن مخارق، قال: دخلت على أبي العتاهية في مرضه الذي مات فيه فلما رآني هشَّ إليوقال: ادنُ مني بأبي أنت وأمي فدنوت منه [وقلت] ما تحب، فقال: أحب أن أسمع منك: أحمدٌ قال لي ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة (عتبة) حقا فتنفست ثم قلت: نعم حُباً جرى في العروق عرقاً فعرقا لو تبينت ما يجن فؤادي ... لرأيت الفؤاد قرحاً تفقا قال: فغيته، فقال: كأني حييت بك واستعاده مرارا فأعدته فقال: انصرف راشداً، وسألني أن آتيه في غدٍ وقال: إن لم تأتني متُّ فجئته من الغد فقال: غنِّي: إذا ما انقضت عني من العيش مُدتي ... فإن غناء الباكيات قليل ستُعرض عن ذكري وتنس مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل فغنيته وأُغمي عليه وخرجت من عنده فلحقني من عرَّفني بوفاته. واجتمع دعبل وصريع الغواني وأبو نواس وأبو الشِّيص فقال أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كل امرئ بأحسن ما قاله فليُنشده، فأنشد أبو الشيص: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدمُ وأنشد صريع: أُجررت حبل خليعٍ في الصِّبا غَزِلِ ... وقصرت همم العذال عن عذلي أنشد دعبل: أين الشباب وأيةً سلَكا ... لا أين يطلب، ضلَّ، بل هلكا ثم سألوا أبا نوا أن ينشدهم فأنشد: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هندِ ... واشرب على الورد من حمراءَ كالورد فسجدوا له فقال: أفعلتموها أعجمية، لا كلمتكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً، ثم قال: تسعة أيام في هجر الإخوان كثيرة، وفي هجر بعض يوم استصلاح المفاسد وعقوبةٌ على الهفوة، فإن أيام العمر أقلُّ من أن تمحق بالهجر. وأُشيع عنه أنه نزع عما كان عليه من البطالة وشرب الخمر، فاجتمع أصحابه وأقبلوا عليه يهنئونه بذلك، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل عليه أحد يهنئه إلا شرب رطلاً وأنشد: قالوا انزعت ولمّا يعلموا وطري ... في كل أغيد ساجي الطرف ميّاسِ كيف النزوع وقلبي قد تقسمه ... لحظ العيون وقرع السن بالكأس لا خير في العيش إلا المجون مع الأكفاء والراح والريحان والآسِ ومسمع يتغنى والكئوس لها ... حَثٌ علينا بأخماس وأسداس يا موري الزَّند قد أعيت قوادحه ... اقتبس إذا شئت من قلبي بمقباس ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أُبصرك في الناس

وكان أبو عبّاد النميري يقول: لو وجدت خمراً زيتية ذهبية أصفى من عين الديك وعين الغراب ومن ماء المفاصل، وأحسن حمرةً من الزاد ومن نجيع غزال ومن قوة الصباغ، لما شربتها حتى أعلم أنها من عصير الأرجل وأنها من نبات القُرى ووسط دسكرة وأن العنكبوت قد نسج عليها، وحولها دجاج وفراريج، وتمام ما أُريد أن تكون رقطاء، ويكون بائعها شيخاً، لا يفصح بالعربية مجوسياً اسمه شهريار أو يهودياً اسمه شلوما أو نصرانياً اسمه يامروا. وفي وصية أبي ثمان الجاحظ لشطار اللصوص: إياكم وحبَّ النساء وسماع ضرب العود وشرب نبيذ الزبيب واللعب بالشطرنج، وعليكم باتخاذ الغلمان، فإن غلامك غداً أنفع لك من أخيك وأعونُ لك من ابن عمك، وعليكم بنبيذ التمر وضرب الطنبور واللعب بالنرد وما كان عليه السلف، واجعلوا النقل باقلاء، وإن قدرتم على السفرجل ووالتفاح والفستق واللوز، واتخذوا الريحان، وإن قدرتم على الورد والياسمين، واجعلوا لهوكم الحمام وهراش الكلاب، وإن قدرتم على الكباش والصقور والفهود والديكة فلا تقصروا في أمره، فإن له صبراً ونجدةً ورغواناً وتدبيراً وإعمالاً للسلاح، هذه وصيتي فافهموها واعملوا بها ولا تتعدوها. ودعا الأخطل شابٌ من شباب الكوفة فقال: يا ابن أخي، أنت لا تحمل مئونتي، فلم يزل يسأله حتى مضى معه فأتى البا فنادى: يا شقراء، فخرجت إليه أمه، فقال لها: هذا ضيفي أبو مالك فباعت غزلاً لها واشترت له لحماً ونبيذاً وريحاناً فأكل وشرب فقال: لعمرك ما لاقيت يوم معيشةٍ ... من الدهر إلا يوم شقراء أقصرُ حوارية لا يدخل الفقر بيتها ... مطهرةٌ يأوي إليها مطهرُ إذا قلت يا شقراءُ قامت كأنها ... من الوحش ظبيٌ فاتر الطرف أحور أقمنا بها نسقي سلافة قهوةٍ ... تموت بها أوصالنا ثم تنشر كأن جلود القوم من طيب نشرها ... يُعَلُّ بها مسك ذكيٌ وعنبر وكان جحظة من أنبناءِ البرامكة، كاتباً شاعراً ومغنياً حاذقاً، وكان مع ذلك قبيح الوجه، جاحظ العينين، مشوه الخِلقة، فحدث عنه علي بن سعيد الكاتب قال: حدَّثني جحظة قال: إن كتمت عليَّ حدثتك بحديث ما مرَّ على مسامعك قطُّ مثله، قلت: أنا موضع لسرِّك والمجالس بالأمانة قال: بينا أنا جالس على باب داري يوماً إذ أقبلت جاريةٌ متنقبة راكبة على حمارٍ، بين يديها وصائف كالغزلان يحففن بها، ويمسكن عنان حمارها، وقد سطعت السكة من روائح طيبها، فبقيت حائراً مبهوتاً أعجب من كمال خلقها، ونور ما بدا لي من وجهها، فلما حاذتني وقفت فسلمت عليَّ بعد أن تأملتني ساعة، فرددت عليها أحفي سلام وأبرَّه، وقمت على قدميَّ إجلالاً لها وإعظاماً، فقالت: يا فتى هل لك في منزلك محتَمَل للقائلة، في هذا اليوم، قلت: يا سيدتي، على الرحب والسعة ولك الفضل والمنة، فما كربت أن ثنت رجلها ونزلت وقالت: ادخل بين يديَّ، وأمرت جواريها فتوارين بموضعٍ أشارت إليه ثم دخلت وأنا أحسب جميع ما أراه نوماً لا يقظة وشكاً لا يقيناً، فلما استقر بها المجلس، مدت يدَها إلى خمارها فحلَّته، فكانت كما قال أبو حيَّة النُّميري: فألقت قناعاً دونه الشمس واتَّقت ... بأحسن موصولين كفًّا ومعصما

ثم فكرتُ في أمري وأنا لا أعقل من السرور، فقلت هذه جارية مغنية بلغها صوت من صنعتي فأرادت أن تأخذه عني، فقلت: يا سيدتي: أتأذنين في أن أقرّب ما حضر من طعام وشراب وأُغنيك ما لعله بلغك عني من متخيَّر أصواتي، فقالت: ما على ذلك من فوتٍ ولكن قُم الآن وشأانك، فاقض حاجتك ثم تصير إلى ما تريد، فقمت إليها وقد أخذني الزَّمع حتى لا أملك نفسي مهابةً لها فلما فرغت مما لك أكن آملُهُ لا تسمو همَّتي إليه قلت: يا سيدتي هل لك في الطعام وأدعو بالعود فأُغنيك ما قصدتِ إليه قلت: يا سيدتي هل لك في الطعام وأدعو بالعود فأُغنيك ما قصدتِ إليه، قالت: عسى أن يكون ذلك في يوم غير هذا، ومدت يدها إلى قناعها فاعتجرت به ونهضت مسرعةً ولم أُحر جواباً وبقيت متحيراً فلما صارت إلى الدهليز ودعت بجواريها قلت: سألتك بمن ترتجين شفاعته ما خبرك؟ قالت: لو تركت المسألة كانت أَحب إليك وأعود عليك، قلت: لا بد لي من علم حالك، قالت: أما إذا آليت فسأصدقك: لي ابن عمٍّ، وهو بعلي، وكان يضنُّ بي وأضنُّ به، وكلانا معجَب بصاحبه، فخالفني إلى حبشية لي مشوهة المنظر، فأقسمت بالأيمان المحرجة أن أطوف بغداد حتى أبذل نفسي لأقبح من أرى وجهاً، وأوحش من أقدر عليه صورة، فأنا أنصرف من الفجر إلى هذه الساعة من الهاجرة، فما رأيت بها على غاية ما طلبته، سواك، فبررت قسَمي، وإن عاد إلى مثل فعله عدتُ إليك لأني لم أجد أقبح منك. وهذا يسيرٌ في جنب ما تبلغه الغيرة بصاحبها، ثم تولت عني، وبقيت أخزى ممن دخل النار، فوالله يا أبا الحسن ما ظننت أن فرط القبح ينتفع به قط حتى كان ذلك اليوم، قلت: هوِّن عليك فإن القرد إنما يقعُ السرور به والضحك منه لتجاوزه الحّد في قبح الصورة، قال: فاكتم ذلك عليَّ، قلت: نعم. وحكي أن أبا نواس والحسين بن الخليع وصريعاً والعباس ابن الأحنف خرجوا إلى متنزه لهم ومعهم رجل يقال له يحيى بن المعلى، فحضرت الصلاة، فقام يصلي بهم فنسي الحمد وقرأ: قل هو الله أحد فأُرتج عليه في نصفها، فقال أبو نواس: أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد وقال الخليع: قام طويلاً راكعاً ... حتى إذا أعيا سجد وقال ابن الأحنف: يزحرُ في محرابه ... زحير حبلى بِوَلَد وقال صريع: كأنما لسانُه ... شُدَّ بحبل من مَسَد قال محمد بن يزيد المبرِّد: خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد بأرمينية فامتدحه، فأمر له بعشرة آلاف درهم فقبضها، وسأله الإذن له في رحيله، فأعطاه نفقةً لسفره وودعه، ومضت أيام كثيرةٌ، فركب خالد متصيداً، فرآه تحت شجرةٍ وقدامه زُكرة فيها نبيذ وغلام حسن الوجه بيده طُنبورٌ يغنيه، فقال: حبيبٌ قال: نعم، خادمك وعبدك، قال: ما فعل المال، قال: علمني جودُك السماح فما ... أبقيتُ شيئاً لديَّ من صِلَتِكْ ما مرَّ شهر حتى سمحت بِهِ ... كأن لي قدرةً كقدرتك تنفق في اليوم، بالهبات وفي ... أشياءَ ما تجتنيه في سَنَتِكْ فلست أدري من أين تنفق لولا أنَّ ربي يُمدُّ في هبتك فأمر له بعشرةِ آلاف أُخرى فأخذها وانصرف.

وروى المبرِّد قال: كان حارثة بن بدر الغداني رجل بني تميم في وقته، وكان قد غلب على زيادٍ، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو مشتهرٌ بالرشاب، فقال زياد: كيف لي باطِّراح رجلٍ يسايرني مذ دخلت العراق، فلم يَصْكك ركابي ركابه، ولا تقدَّمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فأدرت عنقي إليه، ولا أخذ عليَّ الشمس في الشتاء قط، ولا الرَّوْح في صيف قط، ولا سألته عن علمٍ إلا ظننت أنه لا يحكم غيره، فلما مات زياد جفاه عبيد الله فقال له حارثة: أيها الأمير ما هذا مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة، فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعاً لا يلحقه معه عيبٌ، ولا حدث، وإنما أُنسب إلى من يَغْلب عليَّ، وأنت رجل تُديم الشَّراب فمتى قرَّبتك وظهرت رائحة الشراب منك، لا آمن أن يُظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخِل وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرِّي ونفعي، أفأدعه للمال عندك، قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني رام هرمز، فإنها أرض طيبة وسُرق فإن شراباً وُصف لي، فولاّه إياها، فلما خرج شيَّعه الناس، فقال أنس بن أبي أُنيس: أحار بن بدر قد وليت ولايةً ... فكن جُرذاً فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئاً وليته ... فحظك من ملك العراقيين (سُرقُ) وباهِ تميماً بالغنى، إن للغنى لساناً به المرءُ الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما مكذِّبٌ ... يقول بما تهوى وإما مصدِّقُ وحكى الهيثم بن عدي قال: بعث الحجاج بن يوسف أربعة آلاف رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فاصطحب في الجيش ثلاثة فتيان يقال لأحدهم أوس بن خلد، وللآخر نصر بن غالب والآخر أُنيس بن بدر، فنزلوا مدينة مَرْو فأقبلوا على لذتهم، مدمنين على شرابهم بالخوض في مستعذب الحديث وإنشاد الشعر ومذاكرة أيام الناس والمؤانسة، فاعتلَّ أوسٌ فمات، فاشتد عليه جَزَعُ أخويه وطال بكاؤهما وحنينهما إليه وكانا يخرجان كل يومٍ إلى قبره فيرثيانه ويتحدثان ويتناشدان كالذي كانوا يفعلون، وإذا دارت الكأس شرب كل واحدٍ كأسه لاوصبَّا على قبر أوس كأساً، فإذا أمسيا رجعا إلى رحلهما فلبثا على ذلك برهةً من زمانهما، ثم إن أُنيساً مرض أياماً فمات، فدُفن إلى جنب صاحبه، فكان نصر يخرج كل يوم فيجلس بين قبريهما فيرثيهما ويبكي عليهما، وكلما شرب كأساً صبَّ على قبر كل واحدٍ منهما كأساً ومعه غلام كان يخدمهم، قال: فلما عمل الشراب فيه ذات يوم جعل يلزم هذا القبر تارةً وهذا أُخرى ويبكي ويقول: خليليَّ هبَّا طالما قد رقدتما ... أجِد كما ما تقضيان كراكما أجِد كما ترثيان لموجعٍ ... حزينٍ على قبريكما قد رثاكما أُقيم على قبريكما لست نازحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما تنامان عمَّن لا ينام صبابةً ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما أُناديكما وجداً وشوقاً إليكما ... فلا تسمعان الصوت ممن دعاكما أصبُّ على قبريكما من مدامتي ... فإلاَّ تذوقاها تروِ ثراكما سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يُرَدُّ على ذي لوعةٍ إن بكاكما فلم يزل يردد هذا الشعر حتى زفر زفرةً فاضت فيها نفسه فدفن إلى جانب صاحبيه، فقبورهم تسمى قبور الإخوة، وفتيان المدينة ينتابون قبورهم فيشربون ويصبون من شرابهم عليها. وكان يحيى بن عبيد الله الحارثي ماجناً شاعراً متهماً في دينه، وهو القائل: أقول لذي طربٍ فاتكٍ ... إذا ملَّ ذو النسك من نُسكه دع النسكَ ويحكَ لا تبغِهِ ... وعاون أخاك على فتكه لا تقع الدهر في صاحبٍ ... وإن أكثروا فيه بل نَكِّهِ ولا تبكين على ناسك ... وإن مات ذو طربٍ فابكِهِ ومنهم عليٌّ بن الخليل وكان مشتهراً في الشراب مدمناً عليه، وهو الذي قال: لا تكمل اللذات إلا بالقيان وبالخمور هتك الستور وإنما اللذاتُ في هتك الستور واخلع عذارك في الهوى ... واصبر لنوبات الدُّهور ودع العواذل لا يفقن عليك من دقِّ الصدور واعلم بأنك راجعٌ ... حقاً إلى ربٍّ غفور

ومنهم حمَّاد عجرد وكان خليعاً ماجِناً متهماً في دينه، وفيه يقول الشاعر: نعم الفتى، لو كلن يعرف ربَّهُ ... ويقيمُ وقت صلاته حمَّادُ هدلت مشافرَهُ الدِّنانُ وأنفه ... مثل القدوم يسُنُّها الحدَّادُ وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ ... فبياضُه يوم الحساب سوادُ وكان يهاجي بشاراً، وكان حمَّاد يؤدب ولد الربيع الحاجب، فقال بشار: يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئبُ في الغنم إن حماد عَجْردٍ ... شيخ سوءٍ كما اعتلم بين فخذيه حربةٌ ... في غلافٍ من الأدم فهو إن راءَ غفلةً ... مجمج الميم بالقلم فلما بلغت البيات الربيع صرف حماداً عن تأديب ولده. ومنهم والبة بن الحباب الأسدي وهو الذي ربّى أبا نواس وأدَّبه وعلَّمه الفتوة وقول الشعر، وكان والبة ظريفاً، شاعراً ماجناً، يقال إنه كشف يوماً عن فقْحةِ أبي نواس فأعجبه حُسنها، فضرط عليه أبو نواس، فقال له والبة: ما هذا؟ فقال: أما سمعت المثل: جزاءُ من قبَّل الاست ضرطة، فزاد عجباً، وعَلِكم أنه سيخرج ماجناً، ووالبة القائل: مزجت له مشعشعة شمولاً ... معتقةً كرقراق الشراب فخلت على ترائبها نجوماً ... مطوفةً على ذهبٍ مذابِ ومنهم فضل القراشي، وكان شاعراً ماجناً خليعاً يهاجي أبا نواس، وهو القائل: ألا لا تعذلاني قد وهبت للذتي نسبي إذا ما الماء أمكنني ... وصفو سلافة العنب صبيت الفضة البيضاء فوق قُراضة الذهب فأَسبُك منهما طرباً ... فزرني تلفِ ذا طربِ ومنهم سلم الخاسر، وكان شاعراً ماجناً، وسميَّ الخاسر لأنه باع مصحفاً ورثه عن أبيه واشترى بثمنه طنبوراً، وهو القائل: أمزج الراحَ براح ... واسقني قبل الصباح ليس من شأني فدعني ... شربُ ذا الماء القراح ونظر رجل إلى أبي نواس وهو بقُطْرُبُّل وفي يده كأسٌ وبين يديه عنب وزبيب، فقال له: ما هذا يا أبا علي، قال: الأب والابن والروح القدس، وهو القائل: إن تكونا كرهتما لذة العيش م حذار العِقاب يوم العقاب فدعاني وما ألذ وأهوى ... وادفعاني في نحر يوم الحساب وروى أحمد بن صالح قال: رأيت أنا نواس يوماً وقد كنس مسجداً ورشَّه ونفض ترابه فقلت له: ما هذا، قال: يرتفع إلى السماء خبر ظريف! وروى الحِرمازي قال: قدم البصرة أعرابيان يقال لأحدهما جيدان وللآخر سيدان من تهامة، فقصدا الوالي وقد امتدحاه، فبينما هما في بعض الطرقات إذا هما ببرذون عابر فاتقاه جيدان فطرده عن نفسه فعاج على رجل سيدان فقطع اصبعاً من أصابعه، فتعلقا بالبرذون ولحقه صاحبه فقدماه إلى الوالي فأخذ لهما منه أرْشَ الإصبع خمسمائة درهم فقال جيدان لسيدان: ما تبغي من الوالي وهذه الدراهم معنا، مِل بنا إلى دار الخمار فإذا أنفدنا ما معنا رجعنا إليه فمالا إلى بيت خمَّار، فلما سكر جيدان أنشأ يقول: فلا عطش ما دام في الدنِّ قطرةٌ ... وما بقيت في رجل سيدان إصبع قال أبو جعفر الحنفي: دعاني يوماً بعض إخواني فوجدت عنده العباس بن الأحنف وأبا نواس فما زالا لا يتذكران ويتناشدان إلى ان قام العباس، فقلت لأبي نواس: كيف رأيك في العباس؟ قال: هو أرق من الوهم وأحسُّ من الفهم، ثم عاد وقام أبو نواس فسألت العباس عن رأيه فيه، فقال: أبو نواس أقر للعيون من إنجاز وعدٍ بعد يأسٍ، فلما أخذ الشراب منا مأخذه قال أبو نواس: إذا آخيت ذا مجدٍ ... فلا تعدل بعباس فنعم المرء إن نازعت يوماً ذروة الكاس فقال العباس: إذا نازعت صفو الكاس يوماً ... أخا ثقة فمثل أبي نواس فتى يرضى الخليل ويصطفيه ... إذا ما خَلَّة نزلت بناس ثم تناول أبو نواس قدحه فقال: أيا عباس خذ كأسك إني آخذ كاسي فأخذه وقال: نعم يا واحد الناس على العينين واراس فقال أبو نواس: فقد طاب لنا المجلسُ بالنسرين والآس فقال العباس: وأقوامٌ بها ليلٌ ... كرامٌ غير أنكاسِ فكنا في أطيب يوم بهما، قد شغلانا عن السماع بما يدور بينهما.

وحُكي عن الحسين الخليع أنه قال: كنت مع أبي نواس إذ سمع غلاماً يقرأ: كلما أضاءَ مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فقال اسمع، وأنشدني: وسيارة ضلت عن القصد بعدما ... تجلَّلهم جنح من الليل مظلم فلاحت لهم منا على البعد قهوةٌ ... كأن سناها ضوءٌ نار تَضرَّم إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حشو الركاب وأمموا فلُمتُه على التعرض لمثل هذا، فقال: لسان نطق عن خاطرٍ لا يعتقد. وقال محمد بن مصعب: لم يسرق أأبو نواس هذا من القرآن ولكنه أخذه من قول شاعرٍ سبقه: وةليلٍ بهيم كلما غورت لهم ... كواكبه عادت فما تتزيَّلُ يتيهون، إما أومض البرق يمَّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جُهل وذكروا أن أبا نواس، وداوود بن رزين وحسين الخليع وعمراً الوراق وحسيناً الخياط، اجتمعوا في منزل عنان جارية الناطفي، فتذاكروا وتناشدوا، فلما أرادوا الانصراف قالوا: أين نحن العشية، فقال كل واحد منهم عندي، فقالت عنان: بالله إلا قال كلُّ واحدٍ منكم شعراً وتراضيتم بحكمه فيكم، فقال داوود بن رزين: قوموا إلى طيب لهو ... في ظل بيت كنين فيه من الورد والمزرجوش والياسمين وريح مسكٍ ذكيٍّ ... من ابنة الزرجون وقينة ذات غنجٍ ... وذات عقل رصين تشدو بكل ظريفٍ ... من محكم ابن رزينِ وقال أبو نواس: لكن إليَّ ثقاتي ... قوموا بنا بحياتي قوموا نلذ جميعاً ... بقول هاكَ وهاتِ فإن أردتم فتاةً ... أتيتكم بفتاةِ وإن أردتم غلاماً ... صادفتموه مواتي فساوروه جميعاً ... في وقت كل صلاةِ وقال الخليع: أنا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع إلى شراب ولهوٍ ... وأكل جدي رضيع ونيك أحوى رخيمٍ ... بالخندريس صريع في روضة جادها صوب غاديات الربيع قوموا تنالوا جميعاً ... منال ملك رفيع وقال عمرو الوراق: قوموا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر وقُرطُقيٍّ رخيم ... يزهي بجيدٍ ونحرِ فذاك برٌ وإن شئتمُ أتينا بهُجر هذا وليس عليكم ... أولى ولا وقت عصر وقال حسين الخياط: قضت عنان علينا بأن تزوروا حسينا وأن تقروا لديه ... باللهو والقصف عينا فما رأينا كظرف الحسين فيمن رأينا قوموا قولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا وقالت عنان: لكن لدينا أقيموا ... بالله كي نتسلى وكي تنالوا لدينا ... أشهى النعيم وأحلى فإن عندي حراماً ... من الشراب وحِلاّ لا تطعموا في سوايَ ... من البرية كلاّ يا إخوتي خبروني ... أجاز حكمي أمْ لا؟ فقالوا كلهم بكلمة واحدة: قد رضينا بحكمك وأجزنا اختيارك وأقاموا عندها فمرّ أطيب ليلٍ وألذه. قال الكلبي: صحب ذو الرمة رجلاً من بني أسد فيما بين البصرة والكوفة، فلما دنوا من الكوفة، جعل ذو الرمة يتشهى النبيذ والأسدي يشتهي الخمر فقال رجل من القوم: يا أبا الحارث هل لك في النبيذ إذا دخلت الكوفة، فقال ذو الرمة: فكيف لنا بالشرب إن لم يكن لنا ... دراهم عند الخاتوي ولا نقدُ أنحتال أم ندان، أم ينبري لنا ... فتىً مثل نصل السيف شيمته الحمد له معشر بيض الوجوه مصالتٌ ... سما بهم آباؤهم وسما الجدُّ قال: فسما له الأسدي، وقال: أنا والله أنبري لك يا ذا الرمة، فأدخل ناقةً له السوق فباعها بأربعمائة درهم فقصف بها عليهم. يروى أن الفرزدق قدم المدينة ونزل على الأحوص فأكل وشرب وقال: وددت لو سمعنا غناءَ، فأتاه بمغنٍ فغناه: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرعِ بشامة سقي البشام ولو وجد الحمام كما وجدنا ... بسُليمان لاكتأب الحمام فطرب الفرزدق، وقال: لمن هذا الشعر فقالوا: لجرير: ثم غناه:

أسرى لخالدة الخيالُ ولا أرى ... عيشاً ألذَّ من الخيال الطارق إن البلية من تملُّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق فقال: لمن هذا الشعر، فقيل: لجرير، ثم غناه: إن الذين غدوا بلبِّك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: لمن هذا الشعر، فقيل لجرير، فقال الفرزدق، ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره. وكان العماني الراجز مداحاً للملوك من بني أمية وبني العباس مشتهراً بالشراب وهو الذي يقول لجاريته: قومي أنظري كيفف نبيذي يا مُلَحْ ... إن لم يكن جاد فبولي في القدح وناولينيه وقولي قد صَلحْ قال أبو محجن الثقفي: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها فأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال: خليليَّ إن متُّ لا تحفرا ... لي القبر إلاَّ بقُطْرُبّلِ خلال المعاصرِ بين الكروم ... ولا تكثرا لي من الجندلِ لعلي أسمع في حفرتي ... إذا عصرتْ موقع الأرجل وأخذه بعد أبي نواس بكر بن خارجة فقال: ادفنوني إن متُّ في أصلِ كرمٍ ... إن روحي تحيا بماءِ الكروم واحنطوني بتربتها ثم رشوا ... كفني من رحيقها المختوم وادفنوني بحانةٍ عند دنٍّ ... بفِنا عسكرِ الدنان مقيم وقال أبو الهندي: إذا حانت وفاتي فادفنوني ... بكرم واجعلوا زقاً وسادي وإبريقاً إلى جنبي، وطاساً ... تروي هامتي وتكون زادي أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: مرَّ العجير السلولس بإخوانٍ له يشربون فعوه لمنادمتهم، فنزل عن ناقته وشرب، واحتاجوا إلى طعام على النبيذ فقال: هذه ناقتي فانحروها وكلوا لحمها، فنحروها وبقروا خاصرتها وأكلوا من كبدها وسنامها، وجعل العجير يتغنى: عللاني إنما الدنيا عَلَل ... ودعاني من عتابٍ وعَذَلْ إدرأا باللهو يوماً صالحاً ... واسقياني علَلاً بعد نَهَلْ وانشلا ما اغبَّر من قِدرَيْكما ... واصبحاني، أبعد الله الجَمَلْ وحكى الهيثم بن عدي قال: خرج عمارة بن الوليد، وكان أجمل فتيان قريش وأسمحهم، متنزهاً، فمرَّ بقوم يشربون فعرضوا عليه، فنزل عن ناقته فجعلوا يسقونه ولا يشربون، فقال لهم: لم لا تشربون؟ قالوا: نبيذنا قليل وقد أحببنا أن نؤثرك به، فقال لفتى منهم، يقال له غياث بن ديهب، اذهب بناقتي هذه فبِعها ولا تماكس، وابتع بثمنها شراباً، ففعل، وأنشأ عمارة يقول: خليليَّ قد خف الشراب ولم أجد ... له سورةً في عظم رأسٍ ولا يد خليليَّ هذي ناقتي فاشربا بها ... فلا خيرَ في الشرب القليل المصرد ولا تبعثا إلا غياث بن ديهبِ ... إذا سيم عند البيع لم يتشددِ وجاء الشراب فشربوا وانصرف إلى امرأته، فسألته عن ناقته فأخبرها الخبر فقالت: كلاّ ولكنهم أسكروك وخدعوك فقال: أسَرَّك لما صُرع القومُ نشوةً ... أن أخرج عنهم غانماً غير غارم وحتى كأني لم أكن قبلُ فيهمُ ... وليس خداعٌ من فعال الأكارم ولكننا شربٌ كرامٌ نديمنا ... بنا بَهِجٌ باللهو ليس بواجِمِ وشرب مالك بن أسماء مع إخوانٍ له، ففني شرابهم ولم يحضره نقدٌ فأعطاهم مُطرفاً كان علي، فاشتروا بثمنه شراباً، فلما عاد إلى منزله لامته جاريته فقال: يسُرُّك أن أكون، وذاك عيبٌ ... عليَّ، كمن ينال ولا يُنيلُ ويغرم من ينادمه اغتناماً ... وذاك على أخي جودٍ ثقيلُ أبت لي ذاك، مأثرةٌ نماها ... كريمٌ، فضلُ نائلِهِ جزيلُ ودخل رجل على قومٍ يشربون وعندهم قينة تغنيهم فقيل له: أي صوت تشتهي أن تغني لك، وكان جائعاً فقال: لشيش مقليٌّ. وقيل لأعرابي: كم تشرب من النبيذ، فقال: على قدر النديم.

ودخل حارثة بن بدر الغداني على زياد، وكان مدمناً للشراب وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذاالأثر بوجهك؟ فقال: أصلح الله الأمير، ركبت فرساً أشقر فجمح بي حتى صدمني الحائط، فقال زياد: [لو] ركبت الأشهب لم يُصبك مكروه. وسقى قوم أعرابياً فقالوا له: ألا تمزج كأسك، فقال: حسبها ما شَرَبَت في كرمها. دعا أعرابي فقال: اللهم أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، قيل له: وما ميتته؟ قال: أكل لحم جمل وشرب نبيذ عسلٍ ونام في الشمس، فمات شبعان ريَّان دفآن. وقال يحيى بن خالد: الأيام أربعة؛ ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب، ويوم الشمس للحوائج. وكان رجلٌ من الأزد يكنى أبا شملة قد تتابع في الخمر وغلبت عليه، فأُتي به رسول الله (ص) وهو سكران، فأخذ رسول الله (ص) قبضة من تراب فضربه بها وقال: اضربوا الخبيث، فضربه الناس بأيديهم وبالنِّعال وأطراف النخل، فلما وليَ أبو بكر رضي الله عنه، أُتي بسكران، فسأل: كم ضرب رسول الله (ص) أبا شملة؟ قالوا: ما ندري، قال: كم كنتم؟ قالوا: عشرين رجلاً، قال: فكم ضرب كل رجل؟ قالوا: الضربة والربتين والثلاث، قال: فلو رددنا قليل ذلك على كثيره فجعلنا لكل رجل ضربتين، فضربه أربعين. فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إليه أبو عبيدة ابن الجراح (رض) من الشام: إن الناس قد تتايعوا في شرب الخمر، وقد ضربت فيها الأربعين فلم تغن شيئاً، فجمع عمر رجالاً من أصحاب رسول الله (ص) فشاورهم، فقال عليّ: إني لا أرى حداً أشبه بحد الفرية منه، إن الرجل إذا سكر وإذا هذى افترى، فقال عمر للرسول: قد سمعت ما قال فمر أبا عبيدة أن يضربها، فضرب أبو عبيدة بالشام ثمانين، وضربها عمر بالمدينة. وعرض عبد الملك بن مروان على الأخطل الإسلام، فقال: يا أمير المؤمنين إني مشغوف بالخمر، أفرأيت إن أسلمت تدعني وشربها؟ قال: لا يا أخطل، لا أُحل لك ما حرم الله عليك، وإن أسلمت ثم شربتها حددتك، قال: لا حاجة لي في الإسلام، ودين آبائي أحبُّ إليَّ، فقال عبد الملك: وما تبلغ الخمر منك؟ قال: فلسن بصائمٍ رمضان طوعاً ... ولست بآكلِ لحمَ الأضاحي ولست بقائمِ أبداً أُنادي ... كمثل العير، حي على الفلاح ولكنِّي سأشربها شمولاً ... وأسجدُ عند مُنبلجِ الصباح ودخل الأخطل على عبد الملك وهو سكران، فقال: ما هذا يا أبا مالك فقال: إذا شرب الفتى منها ثلاثاً ... بغير الماء حاول أن يطولا مشى قرشيَّة لا عيب فيها ... وأرخى من بنائقه فضولا قال أبو أُمية التميمي: دخلتُ على الأخطل وبين يديه شراب، فناولني منه كأساً، وقال: أنعم حيَّاك الله، فقلت: إني حنيف، ولا تحلُّ لي الخمر، فكلح في وجهي ثم قال: ما أدخلك عليَّ؟ قلت: إني رجل أُحبُّ أحاديث العرب وأشعارها فأحببت الاجتماع بك، قال: فسُرِّيَ عنه، ثم قال: أما والله ما نعتها أحدٌ نعتي لها، يعني الخمر، فقلتُ: وما صلت يا أبا مالك، قال: قلت: وإذا تعاورت الأكفُ زجاجتها ... نفحت فنال رياحَها المزكوم وكأن شاربها أصاب لسانه ... من دار خيبر أو تهامة مُومُ قال: قلت ولابن عمِّك الأعشى (مثلُها) قال: وكيف قال؟ قلت: قال: من خمر عانة قد أتى لعصيرها ... حول تسلُّ غمامة المزكوم قال: فضرب بكأسه الأرض وقال: أنا والله ما رأيت كاليوم قطّ، أني جعلته يجد ريحها، وأنه استلَّها استلالا. وحكى ربعي الأنصاري: أن عجوزاً من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذاً لهم فَسَقَوْها قدحاً، فطابت نفسها، وتبسمت، ثم سقوها قدحاً آخر، فاحمرَّ وجهها وضحكت فسقوها قدحاً ثالثاً فقالت: خبِّروني عن نسائكم بالعراق أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم، قالت: زَنَيْنَ وربِّ الكعبة، والله لئن صدقتم لما فيكم أحد يعرفُ من أبوه.

وكانت طيف جارية عُلية بنت المهدي، مولدة عراقية حسنة الوجه والغناء، فلما ماتت عُلية خرجت من دارها وهي حرة فتزوجها رجل مقيِّن يُقيِّن عليها، وحضر عندها يوماً أبو نواس والحسين الخليع وجماعة من الأُدباء فأكلوا وشربوا وغنَّتهم، واقترح عليها أبو نواس صوتاً فكايدته وأبت أن تغنيه فقال لها كالعابث بها: رأيت البارحة في النوم كأني راكب على رَمَكة شهباء وعليها جُلٌّ وكانت عليها غلالة خضراء، فعلمت أنه يعرض بها فقالت له: إن صدقت رؤياك استدخلت في استك فجلة، فضحك والله كل من حضر، وخجل أبو نواس وغضب ولم يُنتفع به ذلك (اليوم) ، ولم يحضر مجلسها بعد ذلك. وأما عبد الصمد بن المُعذل، فسلك طريقة أبي نواس والحسين الضحاك فتوةً وظرفاً وإدماناً وشعراً، وهو الذي يقول: لما رأيت الدِّيك قد صاحا ... والكوكب الدرِّيَّ قد لاحا والليل قد أسبل ثوب الدُّجى ... والورد والخيريّ قد لاحا ناديت فتياناً ترى فيهم ... للكأسِ إفساداً وإصلاحا من هاشمٍ في بيت أكرومةٍ ... طووا على اللذات أكشاحا يا إخوتي نال الكرى حظه ... فاغتبقوا الريحان والراحا فرافعٌ رأساً ومستلقياً ... ونائم سكراً ومرتاحا ومن عجيب قوله: أسقني إن سقيتني بالكبير ... إنَّ في شربه تمام السرور أنا والله لست أكذبكم آنفُ من أن أُرى صريع صغير وكان الأُقيشر الأسدي، مولعاً بالشراب وهو الذي يقول: وصهباء جرجانيةٍ لم يطُفْ بها ... حنيفٌ ولم تَنْغِرْ لها ساعة قِدرُ أتانب يها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غادرت الجوزاءُ أو خفق النسر ولم يَحْضُضِ القس المتيم نارها ... طروقاً ولم يشهد على طبخها جمر فقلتُ اغتبقها أو لغيري أسقها ... فما أنا بعد الشيب، ويبك، والخمر تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأ العمر إذا المرء وفىّ الأربعين ولم يكن ... له، دون ما يأتي، حياءٌ ولا سترُ فدعه ولا تنفِس عليه الذي ارتأى ... وإن جرَّ أسباب الحياة له العمرُ وكان له جار صالح يقال له يحيى فقال: يا فاسق، أ، اجئتك بها، فقال له: يرحمك الله، ما أكثر يحيى في الناس. قال إسحق الموصلي: أنشدت أُم الهيثم الإعرابية: وكأس سلافٍ يحلف الديك أَنَّها ... لدى المزج من عينيه أصفى وأحسن فقالت: لقد بلغني أن الديك من صالحي طيوركم وأعرفها بأوقات الصلاة، وما أحسبه كاذباً. وقال أبو يوسف القاضي: كان لأبي حنيفة جارٌ كيال وكان لا يبيت إلا سكران، وكان أبو حنيفة طويل قيام الليل فكان الكيال إذا سكر غرَّد بصوتٍ عالٍ: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسدادِ ثغرِ وفقد أبو حنيفة صوته ليلةً أو ليلتين، فقال لجاريته: ما فعل جارنا الكيَّال؟ قالت: أخذه صاحب الحرس، فلما أصبح أبو حنيفة أتى باب عيسى بن موسى فاستأذن به فأذن له، وكان قليل الزيارة للسلطان، فلما دخل عليه، قام إليه ورفع مجلسه وقال: أمرٌ ما غدا بك أبا حنيفة، قال: نعم، جارٌ لي أخذه صاحب العسس منذ ثلاث ليالٍ، فأمر عيسى أن يخرج كل من أخذ تلك الليلة إكراماً لصاحب أبي حنيفة، وانصرف أبو حنيفة، فلما صار ببابه فإذا الكيال يقفوه، فقال، وتبسم إليه: هل أضعناك يا فتى، قال: لا والله، جعلتُ فداك، بل حفظت وأكرمت. وقال المتوكل لبختيشوع الطبيب: ما أفضلُ النُقل على النبيذ؟ قال: نقلُ أبي نواس. قال: وما هو؟ قال: قوله: ما لي في الناس كلّهم مَثَلُ ... مائي خمرٌ، ونُقلي القُبَلُ يوميَ حتى إذا العيونُ هَدَت ... وحان نومي فمفرشي كَفَلُ

وشرب أحمد بن أبي طاهر وأبو هفان حتى فني ما معهما وكانا بجوار المعلى بن أيوب، فقال ابن أبي طاهر لأبي هفان: تماوت حتى أسأل المعلى في كفنك، فسجَّاه بثوبٍ وخرج إلى المعلى فقال: أصلحك الله، نزلنا في جوارك، فوجب حقنا عليك، وقد مات أبو هفّان، وليس له كفنٌ، فقال لوكيله: امضِ معه لتشاهده وادفع إليه كفناً، فأتاه فوجده مسجىً، فنقر أنفه فضرط، فقال: ما هذا؟ قال: أصلحك الله، عُجلت له ضرطة القبر لأنه مات وعليه دين، فضحك وأمر لهما بدنانير. ودعا ابن المعتز جماعة من المغنين فخلع عليهم، ولم يكن جحظة حاضراً، فبعث إليه خلعةً إلى منزله وزاده عليهم فرساً، فغاظهم ذلك، فنالوا منه، وبلغه قولهم، فكتب إلى ابن المعتز: أطال لك العمر ربُّ السماءِ ... وزادك في الخير من خيره أتاني الكُميت بلونٍ غريبٍ ... يباري الجنائب في سيرهِ فأقعدتني منه في ظهرهِ وأُم الحسودِ على أيرهِ وقال أبو العنبس: دخلت على محمد بن إبراهيم بن مُصعب وهو على الرَّيّ فقال: يا أبا العنبس، إني سائِلُك عن ستة أشياء فأَعِّدَّ لهن جواباً، [فإني سائِلُكَ] عن أطيب الطعام وألذالشراب وأذكى الرائحة وأمتع الغناء، وأشهى النساء، وأفره الخيل، قلت: أيها الأمير، ومتى عوَّدتك إعداد الجواب؟ سلْ عما أحببت بديهةً، فقال: ما أطيب الطعام؟ قال: طعامٌ وافق الجوع بلونٍ زافق الشهوة. قال: صدقت، فما ألذُّ الشراب؟ قال: كأس راحٍ يعاطيكها خليل، أو شربة ماءٍ باردٍ يُنقع بها غليلك، قال: صدقت، فما أذكى الرائحة؟ قال: رائحة بدنٍ تحبه أو ولدٍ تربه قال: صدقت، فما أشهى النساء؟ قال: التي تخرج من عندها كارهاً وتعود إليها والهاً، قال: صدقت، فما أفره الخيل؟ قال: الأسوق الأعنق الذي إذا طلب لم يُسبق، وإذا طُلب لم يُلحق، وإذا صهل أطربك، وإذا نظرت إليه أعجبك. قال: صدقت وأجدت، يا غلام أعطه مائة دينار، قال: قلت، أصلح الله الأمير، ومايتا دينار تكفيني، قال: وقد زدت نفسك مائة، يا غلامُ أعطه مائتي دينارٍ. وقالوا: ثلاث يضيِّقن الصدر: رسولٌ بطيء، وسراجٌ لا يضيء، ومائدةٌ ينتظرُ لها من يجيء. وقال أبو الرقعمَق: كان لي أخوانٌ أربعةٌ وكنتُ أُنادمهم في أيام الأُستاذ كافور، فجاءَني رسولهم في يوم بارد وليست لي كسوةٌ تحصنني من البرد، فقال الرسول: إخوانك يقرؤون عليك السلام ويقولون: ذبحنا اليوم إرخة سمينة فاختر ما يعمل لك منها مما تشتهيه، فكتب إليهم: إخواننا عزموا الصبوح بسُحْرةٍ ... فأتى رسولُهُم إليَّ خصوصا قالوا اقترح لوناً يجاد طبيخُهُ ... قلتُ اطبخوا لي جبةً وقميصا فذهب الرسول بالرقعة فما شعرتُ حتى عاد ومعه أربع خلع وأربع صررٍ في كل صرةٍ عشرة دنانير، فلبست إحدى الخِلع وعدتُ إليهم. وقيل لأبي الطمحان الشاعر: أخبرنا عن أدنى ذنوبك، اقال: ليلةُ الدير، قيل: وما ليلةُ الدير؟ قال: نزلتُ على نصرانية فأطعمتني طَفَيْشلاً بلحم خنزير، وسقتني خمراً، وزنيتُ بها، وسرقتُ كُساها. قال قتيبة بن مُسلم لقاضي مَرو: بلغني أنك تشرب النبيذ، فقال: نعم أصلحك الله أَشرب منه ما يبل العقل ويُطيب النفس ويغني عن الماء ويهضم الطعام، قال: فما أبقيت منه، قال: أبقيت أخبثه وأرداه؛ الاتكاء على الشمال، ومنادمة الأوغاد والاختلاف إلى المَبال. ومات ابنٌ للعُتبي فجاء بعض معاشريه يعزيه فقال: رحم الله ابنك، فوالله ما حَبَسَ دوراً ولا ردّ تحية ولاتبرم من رطلٍ ولا فرَّ من دعوة، ولا سبق إلى خدر غلامٍ، ولا عربد على جليس، فقال العتبي: والله لقد سليتني عنه. وقال يعقووب بن بشر: كنت مع إسحق بن إبراهيم الموصلي في نزهةٍ فمرَّ بنا أعرابي، فأرسل إليه غلامه زياداً الذي يقول فيه: وقولا لساقينا زيادٍ يُرِقُّها ... فقد هدَّ بعض القوم سَقْيُ زيادِ فأتى الأعرابي فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال: حنَّت وليس تحنُّ من وجد ... وأحِنُّ من طربٍ إلى نجد فدموعها تحيا الرياضُ بها ... ودموعُ عيني أقرحت خدي وبساكني نجدٍ كلفت وما ... يغني بهم كلفي ولا وجدي لو قيس وجد العاشقين على ... وجدي لزاد عليه ما عندي

فطرب إسحق وشرب حتى ما مضى إلى منزله إلاَّ محمولاً. وقال إسحق: كنا في مجلسٍ ومعنا مغنية طيبة وعندنا غادي المدني، وكان طيباً حاضر النادرة، فتحركت الجارية فضرطت فتغافلنا فخجلت وقطعت الوتر، فلما سكنت التفتت إلى غادي وقالت: أيّ شيء تشتهي أُغنيك قال: غنِّني؛ يا ريح ما تصنعين بالدمن. فكان خجلها من قوله أشدَّ من خجلها لِما بدر منها ولم ننتفع بها سائر يومها. وخرج إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع إلى روضة معشبةٍ فتغديا وشربا فقال إبراهيم: غنِّني صوتاً خفيفاً ... واسقني سقياً عنيفاً وامزج الكأس بماءٍ ... تلثم الخمر الشنوفا وغنَّيا فيه بقية يومهما. دخل مجنون على محمد بن سلاَّم مولى خزيمة بن خازم عندما قُتل أَبوه وهو كئيب حزين، فقال له المجنون: ما لي أراك مغموماً؟ قال: وكيف لا أغتم، وأخٌ قد قتل، وسلطان جائر، ومكروهٌ يُتوقع، فقال له المجنون: إذا أصبتَ يوماً صالحاً فأسلخ جلده قبل أن يجيء سوم سوءٍ فيسلخ جلدك، فضحك ودعا بالطعام والنبيذ. قالوا: أراد نصراني الانحدار إلى واسط، فاكترى زورقاً مفرداً وجلس فيه وحده، فلما همَّ بالانحدار وثب رجلٌ وثبةً فصار معه، فقال: ما هذا، ما هو زورق كِراء. قال: قد علمتُ ولكن لا بدَّ أن تحملني، فسارا وأخرج النصراني سفرته، فتقدم الرجل، فقال النصراني: إن هذا اللحم لحم خنزير. قال: معاذ الله، لحم خنزير بغداد لا يوجد رطلٌ منه بألف دينار، قال: فإني ذبحته بيدي، قال: تراني أقبل دعواك واندفع يأكل، ثم أخرج شرابه، وقال: هذه خمرة كما ترى، قال: معاذ الله أن تكون خمراً، قال: أنا عصرتها بنفسي، قال: أنت عصرتها بيدك؟ قال: عصرها يهودي، قال: ما يكون إسناد أضعف من هذا، نصراني عن يهودي، نحن نكذِّب أكثر من يروي عن سفيان الثوري،ابي حنيفة، والله لو لم أشربه إلا كياداً لهذا الإسناد الضعيف [لفعلت] . وأخذ الطائف رجلاً صفعان وهو سكران فقال: اصفعوه، فقال وهو يُصفع: هكذا كنا نعمل منذ الغداة، فعلم أنه صفعان فتركه. وكان للضحاك بن مزاحم صديق نصراني، فقال له: ما يمنعك من الإسلام؟ فقال له: حبِّي للخمر، فقال له: أَسلم واشربها، فأسلم، فقال له الضحاك: يا هذا إنك قد أسلمت، فإن شربتها حددْناك وإن رجعت قتلناك، فحسُن إسلامه. قال الموصلي: ضُرب صهيبٌ المدني في الشراب، وكان الجلاَّد قصيراً دميماً فقال له: تقاصر لينالك السوط، فقال: ويلك، إلى أكل الخبيص تدعوني والله لو وددت أني أكون أطول من عوجٍ وأنت أقصر من يأجوج ومأجوج. وقال جحظة البرمكي: خرج عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات إلى المطيرة متنزهاً ومعه جاريته شَمول، وكانت من المحسنات فاستطاب المكان فأقام به مدةً طويلةً وكتب إليَّ: شربنا بالمطيرة ألف يومٍ ... صبوحاً قبلَ أن يبدو النهار وأفنينا العقار بها جرااً ... فلم يصبح بحانتها عُقار فضج البائعون بها وقالوا ... أُناسٌ يشربون أم البحار هُمُ ناسٌ ولكن أي ناسٍ بصحبة مثلهم خلع العذار وسألني أن أصنع فيه لحناً فصنعته هزجاً وزرته فأقمت عنده أياماً في ألذ عيشٍ وأطيب متنزه، فلما انصرفت وصلني بأربعمائة دينار. وكان الجمَّاز واسمه محمد بن عمرو صاحباً لأبي نواس حتى فرَّق بينهما الدهر، وقيل له: صف لنا أبا نواس، فقال: كان أظرف الناس منطقاً وأغزرهم أدباً وأقدرهم على كلامٍ وأسرعهم جواباً، وأكثرهم حياءً، وكان أبيض اللون جميل الوجه مليح النغمة والإشارة، لا بالطويل ولا بالقصير، حسن العينين والضحك، فصيح اللسان، عذب الألفاظ حلو الشمائل كثير النوادر وأعلم الناس بكلام العرب راوية للأشعار علاَّمة بالأخبار. قال ابن عائشة: مات رجل من أهل الشام فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم القدر فيهم فصلىّ عليه وجلس على قبره وقال: لينزل قبره بعض إخوانه؛ فنزل نفرٌ منهم فقال أحدهم وهو يسوِّي عليه: رحمك الله أبا فلان فلقد كنت، ما علمتُ، تجيد الغناء وتسرعُ ردَّ الكأس، ولقد وقعت بموضع سوء لا تخرج منه إلى يوم القيامة، قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، كان لا يضحك في جدٍّ ولا هزل، وقال للرجل: هذا موضعُ هذا، لا أُم لك، فقال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس في سبيل الله لو سمعه الأمير يتغنَّى:

يا لُبينيَ أوقدي النارا ... إن من تَهْوين قد حارا رب نارٍ بتُّ أرمقها ... تقضمُ الهنديَّ والغارا عندها ظبيٌ يؤرثها ... عاقد في الجيد تِقصارا لأنبس الأمير على سَعَنَة، وكان الأمير يُلقب سَعَنة، وكان أقبح خلق الله صورة، فقال الحجاج: بالله أخرجوه من القبر، يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم، فلم يبق أحدٌ حضر القبر إلا استفرغ ضحكاً. وقال سليمان بن أبي جعفر للأمين: لقد صحَّ عندي يا أمير المؤمنين أن أبا نواس زنديق، وشهد عليه جماعةٌ أنه أبرز كأس خمرٍ إلى المطر، فقيل له: لِم فعلت ذلك؟ قال: لأنهم يزعمون أن مع كل قطرةٍ ملك فأنا أشرب عدداً من الملائكة فأمر بحبسه. ودخل الحسن خال الفضل بن الربيع، وكان يتعهد المحبوسين ويشفع فيهم، وكانت غفلة فقال لأبي نواس: ما جُرمُك حتى حُبست في حبس الزنادقة، أزنديق أنت؟ قال معاذ الله، قال: أفتعبد الكبش؟ قال: لا والله ولكن آكله بصوفه، قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها من بغضها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله بل آكله، ولقد نقرني ذيكٌ مرةً فذبحتُ من أجله ألف ديك. قال: فلأي شيءٍ حبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة وأنام خلف الناس. قال: وأنا أيضاً أفعل ذلك، ثم خرج إلى الفضل، فقال: ما أحسنتم جواز نِعَمِ الله، تحبسون من لا ذنب له، سألت رجلاً في الحبس عن ذنبه فقال كذا وكذا، وعرَّفه بكل ما جرى بينه وبين أبي نواسٍ فضحك، ودخل على الأمين فأخبره، فأمر بتخليته، وقال في هذا: يا ربّ إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف خطيئةٍ حبسوني أما الأمين فلست أرجو دَفعَه ... عنِّي فمن لي اليومَ بالمأمونِ فبلغت المأمون وهو بخراسان فقال: والله لئن بقيتُ له لأرفعنَّ شأنه، فمات قبل دخول المأمون بغداد سنة أربع ومائتين. ولما بعث المأمون طاهر بن الحسين فظفر بعلي بن عيسى بن ماهان عمل كتباً، فقرأ على المنابر بخراسان معائب الأمين يقول فيها: وإنَّ نديمه وجليسه رجل شاعر ماجن كافر يعرف بأبي نواس استخلصه دون سائر الناس لشرب الخمور وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، ويقوم رجل بين يديه فينشد للحَسَن مثل قوله: ألا سَقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعني من الكُنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر وقوله: يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعصِ جبار السموات فقام والليل يجلوه النهار كما ... جلا التبسم عن غرِّ الثَّنياتِ وقوله: ما جاءَنا أحدٌ يخبر أنه ... في جنةٍ من مات أو في نار وقال إسحق بن إبراهيم: كان عندي أعرابي له فصاحة، فذكرته للفضل بن الربيع، فقال لي: أرسل به إليَّ، فلما دخل إليه قال: فيم كنتم، قال: في قدرٍ تفور، وكأس تدور، وغناءٍ يصور، وساقٍ لا يحور. وقال بعض الأدباء: رأيت قاضياً يقصُّ ويعظ، ثم رأيته بالعشيِّ في بيت نبَّاذ، فقلت: ما هذا. فقال: أنا بالغداة قاضٍ وبالعشي ماضٍ. ودخل أبو الطيب المتنبي على عليّ بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأساً فيها شراب أسود من الدُّوشاب [فقال] : أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسينِ كأن بياضها والراح فيها ... بياضٌ محدقٌ بسوادِ عَيْنِ ورآه قد شرب كأس خمرٍ فقال: مرَتْكَ ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهُنئتها من شاربٍ مسكرِ السكرِ رأيت الحميا في الزجاجة بكفهِ ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر وكان بدر بن عمار قد تاب عن الشراب مرةً بعد أخرى فدخل عليه أبو الطيب وهو يشرب فقال: يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في مِلكِهِ لا مًلكِهِ في كل يومٍ بيننا دمُ كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ في سفكه والصدق من شيم الكرام فقل لنا أَمِنَ الشراب نتوب أم من تركِهِ وشرب عنده ليلةً، فلما أراد الانصراف قال: مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمضِ

سلام الذي فوق السموات عَرشُه ... تُخَصُّ به يا خير ماشٍ على الأرض ولما كان في غدٍ عرض عليه الصَّبوح فقال: رأيتُ المدامة غلاَّبة ... تُهيج للقلب أشواقه تُسيء من المرءِ تأديبه ... ولكن تحسنُ أخلاقه وقد مُتُّ أمسِ بها موتةً ... وهل يشتهي الموت من ذاقه وشرب مع أبي محمد الحسن بن عبيد الله وأتى ببخور فقال: أنشر الكباءِ ووجه الأمير ... وحسن الغناءِ وصافي الخمور فداوِ خُماري بشربي لها ... فإني سكرتُ بشرب السرور وشرب عند سيف الدولة كأساً فوصفها، فقال أبو الطيب: ألا أَذّنْ فما أَذكرت ناسي ... ولا لينت قلباً وهو قاسي ولا شُغل الأميرُ عن المعالي ولا عن حق خالقه بكاس قال ابن نوبخن: توفي أبو نواس في منزله فشيعته [وكان] يوم مات يترنم بشيءٍ سألته عنه فأنشدني: باح لساني بمضمر السرِّ ... وذاك أني أقول بالدهر وليس بعد الممات منقلبٌ ... وإنما الموت بيضة العُقر والتفت إلى من حوله فقال: لا تشربوا الخمر صِرفاً فإنها أحرقت كبدي ثم طَفَى. والأُقيشر من شعراءِ بني أسد وحلفائهم وفتيانهم، مدمن للشراب، وكان له حمارٌ يكنيه أبا المضاءِ، يركبه كل يوم إلى الحيرة ومعه درهمان هما قوته لطعامه وشرابه. ومدح قيس بن محمد الأشعث فأعطاه ثلاثمائة درهم، فقال: لا أُريدها جملة، لكن تأمر وكيلك يعطيني كلَّ يوم درهمين، ففعل ذلك، فكانت إذا نفدت أمر له بمثلها. وكان أبو دلامة ظريفاً ماجناً حلو الشعر مدمناً للشراب. دخل على إسحق بن الأزرق وهو عليل وعنده الأطباءُ يصفون له ضروباً من الأدوية، فقال بديهةً: نحِّ عنك اطبيب، واسمع لنعتي ... إنني ناصح من النُّصَّاح لا تعرج على دواءٍ ولكن ... غادِ هذا الكباب كل صباحِ وإذا ما عطشت فاشرب ثلاثاً ... من عتيق في الشم كالتفاح ثم عند المساءِ فاعكف على ذا ... وعلى ذا بأعظم الأقداح فتقويالضعيف منك وتُلفى ... عن قريب أصحَّ كل الصحاح وهذا أبو الشِّيص، نقيُّ الكلام متخير الألفاظ، مدَّاحٌ للخلفاءِ، لاحق بالفحول، يقول الشعر وهو مدمن على الشراب، قال فيها: وكُميتٍ أرقَّها وضحُ الشمس وصيفٌ يغلي بها وشتاءُ طبختها الشِّعري العبور وحثَّتْ ... نارها بالظهائر الجوزاءُ كدم الشادن الذَّبيح إذا ما ... صبَّها في الزجاجة الوُصفاءُ قد سقتني والليل قد فتق الصبحَ بكأسين ظبيةٌ حوراءُ عن بنانٍ كأنها قضب الفضة حنّى أطرافها الحِنَّاءُ وهو الذي يقول: وصهباء لم تفترعها السقاةُ ... ولا استامَها الشربُ في بيت حانِ ولا احتبلتْ درَّها أرجلٌ ... ولا وسمتها بنارٍ يدان ولكن غذتها بألبانها ... ضروع يحفّ بها جدولان إلى أن ترحل عنها [الصبا] ... وأهدى الفُطام لها المرضعان فيا حسنها عند شكِّ البِزال ... يمج سلافتها في الأواني يطوف علينا بها أحورٌ ... يداه من الخمر مخضوبتان وهذا أشجع السُّلمي يقول لصديق له وقد هاجره: ولو كنت العُقارَ فإن روحي ... تعيش إذا تمازجها العُقار لما انصرفت إليك الدهر نفسي ... ولو كانت على الأحشاء نار وكان الرقاشي من المدمنين وهو الذي يقول: وهبتُ للذتي نشبي ... ومني العِرضَ لم أهبِ إذا ما الماءُ أمكنني ... وصفوُ سلافةِ العِنَبِ صببت الفضة البيضا ... ءَ فوق قُراضة الذهبِ فأسبكُ منهما طرباً ... فزُرني تُلفِ ذا طربِ وهو الذي يقول: وسقِّ إخوانك النبيذ على حسن سماعٍ يزيد في الطرب لا تَحْسُنُ الراحُ عند شاربها ... إلا بحسنِ الحديث والأدب ودعا عبد الصمد بن المعذل صديقٌ وكان يشربُ من نبيذ طيِّب بين يديه ويسقي عبد الصمد من نبيذ حامض، فقال:

شربت مدامةً وسَقيتَ خلاً ... لقد جاوزت في اللؤم اللئاما شراباً كان للمقرور دهراً ... فجُرِّع من يُسَقَّاه الحِماما أُشبِّهُهُ بوجهك فهو وجه ... عبوس قمطرير لن يُراما وأما أحمد بن يوسف فأظرف الكتاب وأكمل الناس مروءة وأشهرهم في إدمان الشراب وهو القائل: فأصبحت مخموراً أُحدث عن نفسي ... وما لي علم بالذي كان بالأمسِ سقاني عبيدٌ من يديه ثلاثةً ... وأعجلني فيها ولام على الحبسِ فيا رب يومٍ قد حمدت مساءَه ... وباكرني ذمٌّ له مطلع الشمس فأصبحت قد حدثت نفسي بتوبةٍ ... ويعتادني للهوِ عندي إذا أُمسي ودعا محمد بن هارون بن أبان صديقاً له يوم عَرفة فتأخر عنه فكتب إليه: باكِر الصهباء يوم عرفة ... من عقارٍ جاوزت حدَّ الصِّفةْ بنت حولين إذا ما صفقت ... خِلتَ فيها سُرُجاً مختلفة إنما النُّسك لمن حلَّ (مِني) ... ولِمن أصبح (بالمزدلفة) فاشرب الراح وداهِن كأسها ... لا تكوننَّ قليل المعرفة وعلى دجلة بين حدِّ السَّواد وأرض تكريت دير قديم يعرف بدير الجاثليق، وعنده كانت الحرب بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، فقال ابن الرُّقَيَّات: لقد أورث [المصريون] حزناً وذِلَّة ... قتيل بدير " الجاثليق " مقيمُ فما قاتلت في الله (بكر بن وائلٍ) ... ولا صبرت عند اللقاءِ (تميمُ) وكان بكر بن خارجة يتعشق غلاماً نصرانياً كان فيه فقال بكر: فبالإنجيلِ تتلوه شيوخٌ ... رهابنةٌ بدير " الجاثليقِ " وبالقربان والصلبان إلاّ ... رثيت لقلبي الدِنفِ المشوقِ أَجِرني، متُّ قبلك من همومي ... وأرشدني إلى نهج الطريق فقد ضاعت عليَّ وجوه أمري ... وأنت المستجار من المضيقِ وكان دعبل بن عليّ يستحسن قوله فيه: زناره في خصره معقودُ كأنه من كبدي مقدود وكان كثير المقام بهذا الدير مشتهراً بالشراب فيه افتتاناً بهذا الغلام النصراني وفيه يقول أُرجوزة مليحة منها قوله: من عاشِقٍ ناءٍ هواه دانِ ... ناطق دمع صامِتِ اللسانِ موثَقِ قلبٍ مطلَقِ الجثمانِ ... معذب بالصَّدِّ والهجران من غير ذنب كسبت يداهُ ... إلاّ هوىً نمت به عيناه شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أبلاه يا ويحه من عاشقٍ ما يلقى ... بأدمعٍ منهلةٍ ما ترقا ذاب إلى أن كاد يخفى عشقا ... وعن دقيق الفكر فيه دقّا لم يبق فيه غير طرف يبكي ... بأدمعٍ مثل نظام السِّلكِ كأنه قطرَ السماء يحكي ... يُخمد نيران الهوى ويذكي إلى غزالٍ من بني النصارى ... عِذارُ خديه سبى العذارى يترك ألباب الورى حيارى ... في ربقةِ الحب له أَسارى ريم بدير الروم رام قتلي ... بمقلةٍ كحلاء لا من كُحلِ وُطرَّةٍ بها استطار عقلي ... وحسنِ دلٍّ وقبيح فعل ها أنا ذا من قدِّهِ مقدودُ ... والدَّمع من خدِّي له أُخدود ما ضرَّ من قلبي به معمود ... لو لم يكدِّر صفوه الصدود يا ليتني كنت له صليباً ... فكنتُ منه أبداً قريبا أُبصر حسناً وأَشمُّ طيبا ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا أو ليتني كنتُ له قُربانا ... أَلثُمُ منه الفمَ والبنانا أو " جاثليقاً " كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطَّاعة لي إيمانا أو ليتني كنتُ له زنارا ... يدور بي خصراه حيث دارا حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له تحت الدُّجى إزارا يا ليتني في النحر منه عُوذَة ... أو خمرةٌ يشربني ملذوذة

منافع الأشربة ومضارها على مذاهب الفلاسفة

أو حلة يلبسني مقدودة ... ليست إذا ما أخلقت مقدودة يا ليتني كنت لعمرو مُصحفاً ... أو قلماً يكتب بي ما ألفا من حسن أشعارٍ له قد صنفا ... فإن لي من بعض هذا ما كفى يا للَّذي بحسنِهِ أضناني ... وابتز صبري والضنى كساني ظبيٌ على البعاد والتداني ... حلَّ محلَّ الروح من جثماني واكبدي من خدِّه المضرَّج ... واحزني من ثغره المفلج لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهبُ للنُّسك وللتحرج إليك أشكو يا غزال الأُنسِ ... يا من هِلالي وجهُه وشمسي ما بي من الوحشة بعد الأُنسِ ... لا تُقتل النفسُ بغير النفسِ ها أنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبَّك لا أُفيق محترقٌ ما مسني حريقُ ... يَرحمني العدوُ والصديقُ ويقول فيها: يا عمرو ناشدتُك بالمسيح ... ألا سمعت القول من نصيحِ يُعرب عن قلبٍ له قريح ... ليس من الحبِّ بمستريح يا عمرو بالحق من اللاَّهوت ... والرُّوح روح القدس والناسوت ذاك الذي قد خُصَّ بالنعوتِ ... النطق في المهد وبالسكوتِ بحقِّ من في شامخ الصَّوامع ... من ساجدٍ لرَبِّهِ وراكِع يبكي إذا ما نام كلُّ هاجع ... خوفاً من الله بدمع هامِع ثم يقسم عليه بكل قسمٍ يعرفه النصارى ويقول: إلاَّ نظرتَ يا أَمير أَمري ... محتسباً فيَّ عظيمَ الأَجر منافع الأشربة ومضارُّها على مذاهب الفلاسفة قال يحيى بن ماسويه: نبيذ الزبيب في جميع الأشربة المتخذة من الكرم يغدو غذاءً محموداً. كما قال " أبقراط "؛ الشراب ينفع من الأوجاع الحادَّة التي تكون من الدم الغليظ لأنه يقوِّي الأعضاء ويقوي الحرارة الغريزية ويهضم الطعام ويسخِّن المعدة ويحسِّن اللون بتوليده دماً صحيحاً محموداً، فإن شئت النبيذ بالماء البارد برِّده لإيصاله إلى الأعضاء الداخلية بلطف حرارته، ولذلك قال جالينوس: النبيذ يغدو غذاءً محموداً إذا شُرب منه بمقدار تنقيته الأوساخ من البدن وتحليله بلطافته الأخلاط الغليظة وفتحه ما في العروق من السُّدد، ولا يدع خلطاً ينعقد في البدن. والأحمر منه يولِّد دماً كثيراً، وكلما اشتدت حمرته وغلظ كان توليده للدم أكثر فعلاً، وما كان منه عفصاً، كان توليده للدم أقل من توليده إياه، وأقل الشراب غذاءً ما كان في بياضه يشبه الماء، وكان لطيفاً فلا يغذو ولكنه يدرُّ البول. والنبيذ العتيق الذي قد أتت عليه السنون يا بس في آخر الدَّرجة الثانية حار في الدرجة الثالثة. فإذا ما أتت عليه سنة فهو حارٌ في الدرجة الأُولى يابسٌ ويُبسه أقلّ. والطريُّ منه يولد نُفَّاخاً وهو عسير الانهضام مدرٌّ للبول. وما أفرط عتقه أضرَّ بالعصب والحواسِّ لحرارته ويُبسه ويضرُّ بالمحرورين وإقلالٌ منه أصلح من الإكثار. وأحمدُ الشراب لكل الناس وفي جميع الأوقات ما توسطت حاله بين العتيق والحديث. وينبغي أن يُمنع منه الأطفال لضعف أدمغتهم وعصبهم. والأبيض اللطيف منه سريع النفوذ في البدن مدرٌ للبول محلِّلٌ للبخار الذي ليس بمحسوس، والأسود من النبيذ بطيء في المعدة عسير الانهضام سريع الإسكار لغلظه وكثرة تبخيره إلى الرأس، إلا أنه إذا انهضم انهضاماً جيداً غدا غذاءً كثيراً. والحلو منه كثير النفخ بطيءُ الانهضام يولد قراقر ونفخاً في المعدة والمِعاء، مُليِّنٌ للطبيعة، دافع للفضول المنحدرة إلى المعدة.

ومن كتاب روفس في الشراب ترجمة قسطا بن لوقا قال: إن النبيذ يهضم الطعام هضماً جيداً ويزيد في جوهره، وهذا الفعل إنما يكون بالحرارة، وليس يوجد شيءٌ يُعين الحرارة ويوقدها غيره إذا كان ملائماً لها خاصياً بالطبيعة، وإن أنت غذيت رجلين غذاءً واحداً، وجعلت شراب أحدهما الماءَ والآخر النبيذ، وجدتَ بينهما من الاختلاف في مقدار الحرارة بوناً بعيداً. وإذا انهضم الطعام في المعدة وسائر أعضاء البدن انهضاماً جيداً كان ذلك معيناً على دولم صحة البدن بقوة وزيادة. ولما كان النبيذ يزيد في الحرارة الغريزية والدَّم جميعاً، زاد لون البدن عند شربه إشراقاً وحسناً. ويرى أن تقوية النبيذ وتغذيته ليست تخص البدن دون النفس لأنا قد نجد من شرِب سريع الحركة إلى الأعمال بسهولة من غير أن ينالُه تعب ولا إعياء، وكذلك [من] أصاب منه عند الحرب كان في نفسه حرباً وفي أعضائه قوياً.

وأما ما يفعله النبيذ في النفس من الطرب والفرح والسرور والنشاط وتنسية الأحزان، وتسلية الهموم، فليس إلى ذكره حاجةٌ لأن أحداً لا يجهله. ومن فضائله العجيبة أنه موافق للناس جميعاً في الأسنان والأزمان والبلدان كلها. وينبغي أن يعطى منه الأطفال والصبيان بقدر احتمالهم وفوق ذلك، للأحداث والشباب والكهول، فأما الشيوخ فليس يوجد شيءٌ أعونُ على سلامتهم وصحة أبدانهم منه، إذ كانت حاجتهم إلى ما يسخنهم شديدة. وأما الصبيان فيحتاجون إلى ما يفيدهم حرارته إذ كانت الحرارة لم تبلغ فيهم نهايتها. فأما من كان في نهاية الشباب فإن النبيذ يُلائمه بمشابهته إياه وزيادته بجوهره في جوهره. ومثل هذا القول، في الأزمان، لأنا لم نر طبيباً يطلق شربه في الصيف ويمنع منه في الشتاء، ويأمر باستعماله في الخريف ويأباه في الربيع إلا أن يكون ذلك في الزيادة والنقصان والكثرة والقلة على سبيل الاستظهار والتوقي. والمواضع الباردة يحتاج أهلها إليه ليسخنهم. [و] المواضع الحارة يحتاج [أهلها] إليه ليرطبهم إذ كانت شدة حرارة البدن تيبسهم، والنبيذ يقوم مقام الطعام لمن كانت له الشهوة الكلبية فإنه يأكل دائماً ولا يشبع، فإن سُقي النبيذ أعان على شبعه وذهب بجوعه. وأما العطش الشديد المفرط الذي لا يقطعه الماء، فإن النبيذ الممزوج بالماء يقطعه ويذهب بغلظ الماء وكذلك إن كان الماء رديئاً لم يوجد شيءٌ يصلح رداءَته وفساده أقوى فعلاً من النبيذ. وكذلك من يسكن السِّباخ والمواضع اللثقة العفنة الرديئة المياه، ليس لهم أنفع من أن يمزجوا مياههم بالنبيذ ويشربوه، وكذلك الذين مياههم مالحة أو فيها آفات تفسدها. فأما المياه الباردة ومياه الثلوج فإنها مضرة، شديدة إن هي شُربت مفردة من غير أن تُمزج بالنبيذ لأنها تولد انفجار عروق الصدر ونفث الدم ووجع البطن وتشنجاً وضيق نَفَس [و] فالجاً، فإذا خالطتها حرارة النبيذ مع ما تفيدها من الذلة، مُنع أذاها وضُرُّها. والإكثار في النبيذ يجاوز الرجل فيه مقدار طاقته يلزمه الخطأ في رأيه والضعف في بدنه فتقبح أفعاله ولا يحمده جميع من يحضره. والشرب الكثير للنبيذ والتمادي عليه يورث في الجسم أمراضاً كثيرة منها الداء المعروف ب (الماخوليا) ، والوساوس السوداوية، ويخفق منه القلب ويذهب بالمروءة ويتلف المال. فإذا شرب بقصدٍ بين القلة والكثرة كان محموداً. وينبغي لشارب النبيذ أن يفتقد نفسه وبدنه فمتى أنكر رأيه وفكره وحركات بدنِهِ وقوته أمسك عن شربه ولم يتماد فيه حتى يبلغ السُّكر، لأن السكر إنما يكون من بخاراتٍ نيةٍ غير نضجة ترتفع إلى الدماغ فتستره كما يستر السَّحاب الشمس فتحول بينه وبين عقله. وكانت الفرس تشرب عند المناظرات والمشاورات والمفاوضات في الرأي والتدبير. أما اليونانيون فإنه يستعملونه عند ضرب العيدان والغناء وإنشاد الأشعار ليعلموا مبلغهم من الفكر والتمييز وقوة البدن، لأن من شربه منهم لا يحمل نفسه على ذهاب عقله ونهك بدنِهِ بل يشربه بمقدار ما يقطع العطش ويولِّد الطرب والسرور وينفي الهموم ويُنسي الأحزان، فإذا جرى النبيذ هذا المجرى انتفع به البدن منفعةً كبيرةً لأنه على هذه الحال ينقي المثانة ويجلو العروق وينضج ما كان نِياً فَجاً فيهضمه ويحلله إلى خلطٍ جيِّد محمود. وينبغي أن يتوقى شربه في حالٍ يبلغ خطل (الرأي) والمنع من القيام بحق الله في فرائضه. وأن يُريد منزلة فلا تهتدي إليه مع سوء العاقبة في العلل المزمنة والأمراض المردية. ويجب أن يستعمل الاستحمام بالماء الحار ويتوقى طول المكث في الحمام لأنه يُخِل البدن ويضر بالرأس، وكثير من الناس يرى أن طول المكث في الحمام وإخراج الكثير من العرق يجلي العروق فيعين ذلك على الإكثار من الشراب، وذلك أضر الأشياء لمن شرب النبيذ. ويجب ألا يكون شربُهُ بالمبادرة والسرعة، بل بتؤدةٍ وأمانٍ وأناةٍ من غير تعبٍ بتصرف أو مشيٍ وغير ذلك. ويجب لأصحاب النبيذ ألا يأكلوا طعامهم في أكلة واحدةٍ، فإنهم يكثرون من الطعام، وإذا خفف أحدهم في غدائه وجعل تمامه في عشائه كان ذلك عوناً له على الشرب وزائداً فيه وأما النقل فإنه يبقى في المعدة غير منهضم ويُولد رياحاً وصداعاً فإن نال منه القليل كان مستدعياً لشرب النبيذ، فاتحاً للشهوة.

وقال جالينوس: أوفق الشراب كله لتوليد الدم ما كان أحمر غليظاً فإذا مزج يسيراً ينقلب فيصير دماً. وأما الشراب الأسود الغليظ فيولد دماً غليظاً، وأقل أنواع الشراب كلها غذاءً ما كان لونه أبيضَ وقوامه رقيقاً وكان شبيهاً بالماء. والشراب الغليظ أكثر غذاءً من الرقيق. والشراب الحلو أسرع انهضاماً في المعدة من الشراب القابض وأسرع نفوذاً إلى الكبد وإلى سائر الأعضاء لأن قوته أسخن. وما غلظ من الشراب كثيراً فهو أبطأ انهضاماً ونفوذاً إلى الكبد وإلى الأعضاء إلا أنه إن صادف معدةً لها فضل قوةٍ حتى ينهضم على ما ينبغي، غذيّ البدن غذاءً كثيراً. وقال إسحق بن عمران في النبيذ المطبوخ من الزبيب، إنه دواء. وقال في النبيذ النقيع إنه يغذي البَدَن كاللبن للمولود وبخاصةٍ للشباب والصفراويين، وغذاءُ كل شراب بمقدار غلظه، وأوفق الأغذية للبدن الضعيف الشرابُ الحلوُ، ولا سيما لمن لم يكن في كبده ولا طحاله ولا كلاه آفةٌ وأوفقها لما كان في عروقه خلطٌ. وما كان من الشراب طيبَ الرائحة فالدم الذي يتولد منه أجودُ. والشراب اللطيف أعون على إدرار البول. وينبغي أن يجتنب من الشراب ما كان غليظاً كريه الطعم قابضاً لأنه أردى غذاءً. والأشربة القابضة لا تولد دماً محموداً وإن كانت قد تقوي المعدة إذا استرخت وضعفت، وكذلك البطن لا سيما إذا كانت علة البطن والمعدة من مزاجٍ حار، وإنما تستعمل الأشربة القابضة عند الحاجة إلى حبس البطن المنطلق، وأما في غير ذلك فلا ينبغي لأنه ليس بجيدٍ لنفوذ الغذاء ولا لتوليد الدم ولا لجودة الغذاء ولا لدرور البول وخروجه، ولا لإطلاق البطن. وما كان من الشراب أصفر يضرب إلى الحلاوة طيِّب الرائحة، فلا ينبغي أن يشربه من كان الغالب عليه المرار ولا من أصابه حرٌّ أو تعب أو اغتم، ولا في الأوقات الحارة والبلدان الحارَّة. وهذا الشراب الأصفر جيِّد التسخين لمن كان الغالب عليه البرد والبلغم والمزاج البارد، ولمن في بدنه أخلاطٌ نِيَّة ولِمَن شأنه السكون والخفض في البلاد الباردة، وفي الشتاء والهوى البارد. وينبغي أن يجتنب من الشراب ما عتق حتى صار مُراً فإنه يسخن أكثر مما ينبغي، والشراب الحديث جداً لأنه يسخن ولا يُمري الطعام، وهو بطيئ الانحدار، بطيء النفوذ، وليس يُدرُّ البول ولا يعين على توليد الدم ولا يغذي البدن لبقائه في المعدة مدةً طويلةً طافياً في أعلاها مثل الماء. فإن شرب منه قليلاً أسرعت إليه الحموضة، ومن كان مزاج بدنه مفرط الحرارة، فشرب الماء أوفق له من شرب الشراب، فإن احتاج إلى الشراب شرب منه ما كان رقيقاً معتدلاً فيه قبض. وما كان من الشراب الحلو صافياً وكان لونه إلى الصفرة والحمرة الناصعة، ولَّد دماً متوسطاً بين اللطيف والغليظ. وأما الغليظ الأسود فيملأ العروق دماً غليظاً، والشراب الأبيض اللطيف يقطع الأخلاط الغليظة وينقي الدم ويخرج فضله في البول. والشراب الغليظ الحلو إذا خلط بشيءٍ من الأدوية المطلقة نفع أصحاب العِلل التي في الصدر والرئة إذا لم يكن فيه قبضٌ. وقال أبقراط: إن الخمر الحديثة أغذى وأعون على تليين البطن من العتيق. والشراب العطري الطيِّب الرائحة أغذى وألطف وأنفذ مما لا رائحة له. وأما دياسقوريدس فإنه قال: إن الشراب العتيق يضر بالعصب وسائر الحواس فينبغي أن يحذره من كان به شيءٌ في هذه الأعضاء، وأما الأصحاء، فإن شربوا منه المكسور بالماء لم يضرهم. وأما الحديث فنافخ عَسِرُ الانهضام يولّد أخلاطاً رديئة ويكثر البول. والمتوسط بين العتيق والحديث أفضل إذ لا مضرة فيه. وأما الشراب الأبيض الرقيق فإنه سريع الانهضام والنفوذ. وأما الشراب الأسود فإنه أبطأ انهضاماً ونفوذاً. وما يعرض منه في السُّكر أشد وغذاؤه أكثر ويزيد في اللحم. والأحمر الناصع متوسط بينهما. والشراب الحلو الغليط نافع للمعدة والأمعاء، مطلقٌ للبطن، وسكره أقلّ وهو نافع للكلى والمثانة. والشراب العَفِص يشُدُّ البطن ويدر البول ويصدِّعُ الرأس ويسكره. والشراب الذي فيه قبض هو معتدل سريعثالنفوذ مقوٍّ للمعدة مُهيج لشهوة الطعام صالح للغذاء، للغذاء، جالبٌ للنوم محلِّلٌ للنفخ ويحبس الاختلاف ويقطعُ العرقَ الذي يكون من ضعف القوة.

وقال هيوفراطيس: الشراب دواءٌ من الأوجاع الحادة التي تكون من الدم الغليظ لأنه يقوي الأعضاء ويحيي الحرارة الغريزية ويهضم الطعام ويسخِّن المعدة ويحسن اللون بتوليده الدم الصحيح المحمود، فإن شرب النبيذ بالماء برد لإيصاله إياه إلى الأعضاء الداخلية بلطف حرارته. وقال جالينوس: إن الشراب يغدو غذاءً محموداً إذا شرب بمقدار، لتنقية الأوساخ من البدن وتحليله بلطافته أخلاطهُ الغليظة، وفتحه ما في العروق فإن النبيذ لا يدع خِلطاً غليظاً ينعقد في البدن، والأحمر منه يولِّد دماً كثيراً، وكلما اشتدت حمرته كان في توليده الدم أثر فعلاً. وأما شراب العسل فيغذو ويهضم ولا سيما إذا كان حلواً ولا يفعل ذلك إذا كان عفصاً أو مراً. وأَحْمَدُ الشراب لكل الناس وفي كل الأوقات ما توسطت حالته بين الحديث والعتيق، وهو نافع لصاحب المِرةالصفراء، لأن الشراب يزداد حراً ويبساً على مرور الدهر وليلق [صاحب الصفراء في شرابه التفاح والسفرجل والورد وليُكثر مزاجه، وليلق صاحب البلغم] في نبيذه المصطكي والحلبة ويتجنب الأشربة الحلوة الغليظة التي ليست بصافيةٍ ولا رقيقة فإنها تورث السَّدد. ونبيذ الزبيب المتخذ مع العَسَل يجفف المعدة والأمعاء، وفعله كفعل المطبوخ فيه صلاحٌ للرطوبات العارضة للبدن، فإن عتَّق المطبوخ كان أقوى فعلاً. ونبيذ الزبيب المطبوخ أخفُّ وأقل رطوبةً من النقيع وأَنفع لأصحاب البلغم. والنبيذ النقيع أنفع لأصحاب الصفراء من المطبوخ لرطوبة الماء الذي معه. وينبغي لمن أراد الإكثار من النبيذ أن يأكل من الطعام ما خفَّ وليُقللْ. فإن كان محروراً أكل السَّمك الطَّري، وإن كان صاحب بلغم فيأكل اللحم المتَّخذ بالكرنب، والكرنب نفسه معينٌ على الإكثار من شراب النبيذ وليس بمحمودٍ لتوليده السوداء. وكلما انتقل على النبيذ ولَّد على الكبد والعروق والمفاصل سُدداً إلا أن المحرور يمصُّ الرمَّان الحلو. ومصُّ الرمّان نافع من الالتهاب الذي يكون في الكبد من شرب النبيذ. وعصير ماءِ الرمان بقشرِهِ الداخل يسهل المُرَّة الصفراء ويقوي المعدة ويشد الثّات. ومصّ السفرجل العذب والتفاح المرّ والأجاص اليابس ينقيّ جسمه. ومص السفرجل يمنع من بخار النبيذ أن يترقى إلى الدماغ. وليس ينبغي أن يكثر من مصِّه لئلا يُخرج ما في المعدة قبل هضمه، لأن السفرجل مسهل للطبيعة بعصره، وإن أراد عقل طبيعته فليأكله قبل طعامه وليؤخر أكل الطعام إلى أن يتمكن فعل السفرجل من معدته. وأحمدُ النَّقل لأصحاب البلغم اللوز المرّ والسفرجل والفستق المملح ولا سيما إذا أراد تفتيح السُّدد وجلاء ما في المعدة والكبد. قال محمد بن زكريا الرازي: منافع الشراب عظيمة منها إمداده الحراة الغريزية ونشره لها في أقطار البدن بأوفق وأصلح من جميع الأغذية وذلك أنه يبعث إلى المغشي عليه الغذاء بسرعة فيرد قوته وينعشه ويدفع ضرر السموم التي خاصيتها تجميد الدم وإطفاؤه للحرارة الغريزية كالأفيون والسيكران ونهش الأفاعي ولدغ الحيات وما أشبه ذلك لأن مادته موافقة لاغتذاء الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة وله مع ذلم ما ليس لشيء من الأغذية من طرد الفكرة الباطلة وبسط النفس وشرحها، حتى أنه من أعظم علاج [المالخوليا] إذا استعمل على ما ينبغي، وهو سبب لجلب النوم اللذيذ فيصير ذلك سبباً لجودة الهضم وتوليده للدم الغريزي الكثير وإخصابه البدن وتحسينه اللون والذبول والهرم والإبطاء به، وهو يفتح السُّدد والمجاري وينفِّذ الفضول حتى يبرز من البدن بسهولة النجو والبول والعرق ويقوِّي جرم المعدة وتسخينها، ويسخِّن الكبد ويمنع عظام الطحال ويلطف. وكثيراً ما يدفع المِرار الأصفر في البول، ولا سيما إذا كان في جنسه رقيق القوام وأكثر مزاجه فيكسر عاديته في البطن والكبد حتى لا تكون له حِدَّة ورداءة.

قد ذكرنا من منافعه هذه الجملة فينبغي أن نذكر جملةً من مضاره لئلاَّ يحملَ الجاهلُ على الانهماك به. ومن مضارِّه العِظام الإضرار بالدماغ والعصَب إذا أدمَنَ [شاربه] ، ولا سيَّما إذا كان الشارب ضعيف العصب أو متهيئاً للأمراض الكائنة من ضعف العصب والدماغ، فإن إدمان الشرب يوقعه في الفالج والرعشة سريعاً، وقد يوقع بعضهم في الهذيان والوسواس، ويجلب أيضاً إحماء الكبد وورمها والحمَّيات الحارة والصداع والرمد والأورام والجرب والخوانيق والشوصه ونحو ذلك من الأمراض التي تحدث من حدَّة الدم أو من كثرته. وذلك أن الشراب في الجملة يزيد في الدم وفي سخونته وحدته لا سيَّما إذا كان المزاج متهئياً لذل. وقال: يحتاج إلى شرب الشراب ضرورة من إذاا لم يشربه أبطأ هضمه وتجشأ جُشاءً حامضاً وقلت شهوتُهُ للغذاء. وإذا شرب الماء ثقل عليه، وثقل الطعام في جوفه وكثر النفخ والقراقر في بطنه، فإذا أمسك هؤلاء عن الشراب وقعوا في الأمراض الباردة. ويحتاج إلى تركه ضرورة من إذا شرب وحمي جسده أصابه صداعٌ أو عطش شديد وتجشأ جُشاء دخانياً وخمر عليها خُمارارً شديداً وأصابه الغشي وسقوط الشهوة وفساد الطعام في معدته، فأما شربُه للسُّكر فلا خير فيه فإنه لم يعقب قط إلا مضَّرة أو علة عظيمة كالسكتة والاختناق وفساد الكبد والرعشة والفالج ونحو ذلك، فأما السَّكرة، تقع في الأيام الكثيرة ولا تكون مع ذلك مفرطة جداً، فإنها تنفع في الأكثر لأنها تفتح مجاري الدم وتذيب خلطاً منعقداً أو جامداً وتنشر الحرارة الغريزية وتدفع الفضول غاية الدفع فيكون ذلك سبباً لدفع الأمراض الباردة ولانفتاح المجاري والمسام وذلك ينفع في حفظ الصحة. وأحوج الأسنان إلى استعمال الشراب المشائخ، وذلك أن أبدانهم تبرد وتجف والشراب يسخنها ويرطِّبها، ونومهم قليل فالشراب يُعينهم ويذهب عنهم الحكة التي تعتري المشايخ في أجسادهم لترصيقة لجلودهم وتوسيعه مسامهم وتجويد هضمهم. ويمنع سرعة الهرم ويدفع عنهم النزلة والزكام والسُّعال الذي لا يزال يعتريهم ويبسط من أنفسهم. وهم بالجملة أحوج الأسنان إليه وأكثرهم عليه سلامة من الكهول والشيوخ ولا سيمَّا من كان منهم حارَّ المزاج ملتهباً فإنه يُحمي كبده ويكثر صُداعه ويسقط شهوته، فالماء لهم أوفق من الشراب، فأما الصبيان فغير محتاجين إلى الشراب.

فأمّا الصيف كلّه فليشرب فيه رقيقه ويكثر مزاجه ويتنقل الفواكه الحامضة ويشرب السَّكنجبين الساذج الحامض بعد الإفاقة منه، ويُتوقى السُّكر في هذا الزمان فإنه يجلب الأمراض الحادة. وأما في الخريف فيستعمل العتيق منه بمزاجٍ كثيرٍ، وإن كان حديثاً فليختر أرقه. فإذا برد أول النهار وآخره، فأصلح الشراب له ما يطيب نفسه، فإن ذلك أمانٌ من التسكير والقشعريرة. وإذا جاء الشتاء فليكن الشراب أقوى وأكث مقداراً مما يستعمل في سائر الأزمان، فإن الأبدان تحتمل في هذا الزمان ما لا تحتمل في غيره. ليس للخُمار فيه سورة، والخمار في الصيف داءٌ، وفي الشتاء دواءٌ. وأما استعمال الشراب بحسب مزاج الأبدان، فالبدن النحيف أحوج الأبدان إليه، ولكن يكثر المزاج ويجدد القُوى، واللحيم من الأبدان، أقلها حاجةً إلى الشراب، فقد يعتريها منه حمأٌ وأمراض حادة، وأما الشحمية فتحتاج إلى المقدار اليسير من الشراب القويّ الصِّرف منه ويضرهم المزاج الكثير ويؤديهم إلى الأمراض البلغمية. وينبغي أن يُجتنب الشراب بعقب الخروج من الحمّام سريعاً، وبعقب التعب إلا بعد ساعتين وأكثر، وبعقب الصُّداع والرَّمد والزكام والتثاؤب والتمطِّي، وعند الغضب وهمِّ النفس المفرط، وبعقب كثرة الجماع وطول السهر وإسهالٍ عنيف ولا يُكثر حين يَسْكر، وبعقب أخذ الغَسْل أو الرُّطب أو الدواء أو غذاءٍ حادٍّ حريف ووجع لا يُعرف سببه. وأوفق الأحوال له إذا كان البدن هادئاً ساكناً في حركاته الجسدانية وهمومه النفسانية، وفي حال نشاط النفس وانشراحها وشوقها إلى الطعام الذي يتقدم الشراب، وينبغي أن يشرب المحرورون والشباب، في الأزمان الحارة، على الأطعمة الباردة الحامضة، مثل ما أُتخذ من ماء الحِصرم وماء الرمان والسِّكباج ونحو ذلك. ولا ينبغي أن يخلو هذا الطعام من لدونة أو دهن، وليكن الطعام في الشتاء للمبرودين، الأغذية التي معها أدنى حرارة كاللفتية والكرنبية والمغمومة الكثيرة البصل والمطجنات والمالح ونحو هذا. ولا يشرب على طعام ليس فيه دسم كمن يقتصر على الخبز والزيتون والكوامخ والسمك المالح فإن ذلك رديء جداً يودع العروق أخلاطاً رديئة تفسد الدم، وأضر ما يكون ذلك بالأبدان النحيفة. والنقل لأصحاب الأبدان النحيفة، السفرجل المز والرمّان الحامض والأُترج، وأما الحصرم فيفسد الشراب في المعدة ويمنعه من النفوذ إلاّ أن يُقل منه، وأما أصحاب الأبدان المعتدلة فالرمّان والسُّكر الطبرزد الأبيض واللوز المقشَّر. وأما المشايخ والمبردون، فالفستق وحبّ الصنوبر وبزر الكتان والسمسم المقلو والجوز والكعك. وأما العشاء على الشراب فإنه في أكثر الأمر مضر إلا أن يكون الطعام قبله قليل المقدار أو رقيق القوام سريع النفوذ. ولكن لا ينبغي أن يشرب بعد الأكل والعشاء البتة. فإن كان، وحدث في البطن قراقر ونفخ وغثى فليبادر إلى القيء وطول النوم والإمساك عن الطعام ثم الاستحمام بعد ذلك وتلطيف الغداء وترك الشراب. وأما الطيب على الشراب فمن كان محروراً وافقه اشتمام الصندل والكافور وماء الورد. والبخور ليس بموافق لمن يُسرع إليه الصداع، ومن كانت به الرعشة نفعه شم الغالية والمسك على الشراب، وذلك أضر الأشياء لمن يتأذى بالشراب، والبخور بالجملة يملأ الرأس ويسرع السِّكر ويسقط شهوة الطعام، وأما الجِماع فمضرٌ في أكثر الأوقات وعظم ضرره بمن يعتريه النِّقرس وأوجاع المفاصل وضعف العصب فإنه يجلب التشنج، وبحسب بطء إنزالهم وجَهدهم أنفسهم في ذلك، يكون قد ضررهم ولا سيما إن كان في نهاية السُّكر، والبطن ممتلئ يتخضخض فيه الشراب. وأما إذا كان على تناول شيءٍ من الشراب مع خفةٍ في البطن فليس بضارٍّ إلا أصحاب الأبدان النحيفة، لأن الجماع يضر بهم ليبس أبدانهم، فإن فعل فبعد مداعبةٍ طويلة ليسرع إنزاله وليستلق بعده على قفاه ساعة ثم يتطهر بالماء البارد إن لم يكن في زمانٍ بارد، وإلا فالماء الفاتر.

وأما المُغرى بالسكر، المسرف فيه الذي إذا صحا اغتَّم ولزمته كآبة وحزن حتى يبادر إلى الشراب، فينبغي أن يشتغل بأشغال اضطرارية تمنعه من الشراب، ويتدرَّج في ذلك لأنه لا يطيق الإقلاع عنه ضربةً [واحدة] وتعرض له على ذلك أعراض قوية صعبة تؤدي إلى أمراض رديئة، والموت فجأة، والاختناق والسعلة، فإذا رأيت السكران قد اربدَّ وجهُهُ ودرَّت أوداجه واحمرَّت عيناه وضاق نفسه بعد الشرب بأقداح كبارٍ فاعلم أنه مشرف على الاختناق، فليُقطَع عنه الشراب، فإن نقصت الأعراض دلَّ على خير، وليمتنع من النوم ليلته تلك إلى [أن] تسكن الأعراض. فإن تزيَّدت فليفصد في كلتا يديه، وليخرج من الدم إلى أن يغشى عليه، وليمتنع أيضاً من النوم ليلته تلك، فإنه بذلك يسلم من الاختناق. وأما إذا رأيت السكران قد قلَّت شهوته للطعام، فليدرج على تقليل الشراب وأكل الأغذية الرطبة في كل ساعةٍ حتى ينال منها الكثير إلى أن يعتدل ويعود إلى حالته الطبيعية، وإلا فقد وقع في الدِّق والذبول والسهر والوسواس، ومتى رأيت السكران قد بدت به عند الصحو بلادة أو ثقل لسانٍ أو رعشة أو اختلاج في البدن، فليقطع الشراب البتة وليتجنب الحمام وليشرب الماء البارد ويغتسل به، ويلزم الأغذية التي تُسخن وتجفف كالقلايا بالزيت والتوابل فبذلك يسلم من السكتة والفالج ونحوهما من أمراض الدماغ والعصب. والعرق من الشراب أنفع للبطن وأضر بالرأس والممزوج أوفق لمن يسرع إليه الصداع. والصِّرف في الأبدان والأزمان الباردة الشديدة البرد والكثيرة الرطوبة أنفع من الممزوج ومضرة الصِّرف في الصيف أشد، ومضرة الممزوج في الشتاءِ أشد، لنفع الصِّرف في الشتاء والكثير المزاج في الصيف. ولا ينبغي أن يتعرَّض للصِّرف من به صداع أو ضعف دماغ في العصب والعين أو حدة في الكبد، ومن تسرع إليه الحميات والخراجات. ومن لم يجد عند الطواعين وكثرة العفونة في الهواء فإن الصرف في هذه الأحوال شيءٌ قاتل. والصِّرف نافع لمن يحتاج إلى ترطيب بدنه كالناقهين والمسلولين، والكثير المزاج ضارٌ لأصحاب القولنج والطحال وتقطير البول وما أشبه ذلك. ويحتاج إلى إدمان الشراب من لا يستمرئ طعامه إلا عليه، وإذا فارقه تجشأ جُشاء حامضاً وكثرت به القراقر والنفخ والرياح فإن هؤلاء متى لم يدمنوا الشراب نما هضمهم وانطلقت طبائعهم انطلاقاً رطباً وأداهم ذلك إلى فساد المزاج. وأما الذين تحمى أكبادهم إذا شربوا وإذا امتنعوا منه أياماً كثيرة لم يجدوا في هضمهم نقصاً ولا اعتراهم النفخ والقراقر ويجدون عند تركهم، أبدنهم أقوى، وحركاتهم أخف فاغتيابهم عنه أفضل، ويؤمر بعد اليوم الذي يشرب فيه الشراب بشرب الماء. ويُسرع بالسكر قلة الطعام وقرب العهد بالحمام وبالتعب وبالمشي المفرط أو شربه على أغذية كثيرة التبخير إلى الرأس كالباقلاء والبصل والثوم أو طعام يكثر فيه الزعفران أو سائر الأفاويه الحارَّة أو البخور العودي الذي يملأ الرأس كالعود والندّ وريح القار أو الكبريت. ومما يُسكر السُّكر القويَّ، الشراب الذي نُقع فيه العود الهندي والسَّعدي والقرنفل، ومن أحبَّ أن يبطئ بالسكر ويستكثر من الشراب فليكن عهده بالنوم الطويل قريباً، وليأكل من الأغذية اللدنة مقداراً معتدلاً وما يضادّ الشراب كالكرنب وما اتخذ من الطعام بالحصرم وبحماض الأُترج، ويتنقل باللوز المُرّ. ويشتم الصندل والكافور وماء الورد، ويشرب من الماءِ البارد بين الأقداح إن لم تنضر معدته.

ومما يُفيق من السكر تجرُّع الخلّ والشرب منه وصبّ الماء البارد على الرأس والشرب منه. ومما يقطع ريح النبيذ هو السعدى إذا مضغ وابتلع ماؤه والكسفرة الرطبة واليابسة والباقلا والكبابة وشرب الخل والأخذ من حب المسك ومصّ الكرفس والتمضمض بماء الورد وشرب السكنجبين، والشراب المطبوخ أشد إسخاناً وتخفيفاً للبدن، فهو موافق لمن احتاج إلى هذا وكذلك المشمش، إلا أنه ضارٌ لأصحاب الأبدان الملتهبة، يسرع إليهم بالحميَّات ويُسرع بالدم إلى العفونة ويصدِّع بسورته، لكنه نافع من الرياح والنفخ والقراقر وتبلغ حرارته إلى الأعضاء البعيدة بغوصه ولطفه. ويطيب ريح العرق والبول والنجو ولا يضر بالنكهة كالشراب. وأما نبيذ الزبيب فهو أشد لتقوية المعدة وأقل إسخاناً وأكثر غذاء من الشراب. والدم المتولد منه أغلظ وأفرط في الاستحالة إلى السوداء، وأنفع لأصحاب الذرب وضعف المعدة. ومن يلتهب من الشراب فالمطبوخ والعسل يزيده إسخاناً وقوةً وصعوداً إلى الرأس، وهو يُدر البول ويسخن الكُلى والمثانة ويخرج منها الفضول والحجارة ويصلح الصدر والرئة، وأما نبيذ العسل فقويّ الإسخان سريع الاستحالة إلى المرار الأصفر، ضارٌ بصاحب المزاج الحارّ ويصلح للمشايخ والمبلغمين وهو أوفق الأنبذة للذين بهم ضعف العصب، وأضرُّها بأصحاب المعدة والأكباد الحارَّة. وأما النبيذ الذي يطرح فيه اللوز المرّ فإنه يزيده إسخاناً ولطافة ونفوذاً جيداً لأصحاب السُّدَد في الكبد وعظم الطحال. غير أنه سريع الاستحالة إلى المرار مصدع مورِّث للرمد وأما الرادي فإنه مصدع ليس يجيد للمعدة ويصلح لأصحاب البواسير، وأما ألأفاويه فإنها تزيد النبيذ إسخاناً وتصديعاً وتقوي المعدة وتخففها كالسعدى والمسك والمصطكي والزعفران إلا أنه يصدع وإن كان أكثر في بسط النفس وتفريحها، وإذا أكثر منه حدثت بسببه الرعونة. وأما نبيذ التمر والدوشاب فوخمٌ ثقيل قريب من الماءِ، يولد النفخ والقراقر ويضر بالمعدة والأمعاء، وخيره العتيق وأرداه الطريّ وهو يزيد في أعصاب البدن وإسمانه لحلاوته وكثرة غذائه، وأما نبيذ التين فجيد للصدر والرئة والكلى والمثانة، مسمِّنٌ مخصب للبدن بدفعه للفضول. يولد جرباً وحكةً ويقمّل. ومن الشراب أبيض وأصفر وأحمر، وبين الصفرة والحمرة، وهو الزيتي، فأبردها الأبيض، وأكثرها إدراراً للبول وأوفقها للمحرورين وأسخنها الأصفر الناريّ. وأما الأحمر فمعتدلٌ بينهما. وأما الأسود فإنه دون الأصفر في حرارته، وهو أكثر في إخضاب البدن. وأما الشراب الأحمر اللون الطيِّب الريح الذي إلى الحلاوة فأعدل الأشربة وأوفقها للأصحاء والمعتدلي المزاج. [و] العتيق أوفق لمن يحتاج إلى تخفيف بدنه، وأنفع لأصحاب المرة الصفراء من مطبوخه لرطوبة الماء الذي معه. ونبيذ القَنَدْ والعسل ألين وأسهل للطبيعة وأنفع للمرة الصفراء ومن كانت به علةٌ في صدره وكلاه ومثانته فالزبيب والدوشاب غير محمودٍ، وهو يسهل الطبيعة لرطوبته التي خصَّ بها من الماءِ. والزبيب والتمر أكثر فساداً، وأرادوا ما فيه التمر، والمطبوخ، إذا كان صافياً تقرب أحواله من أحوال الخَمر، يولد دماً صحيحاً، فأما العسل المطبوخ بالماءِ فنافع من برد المعدة، ومن الورم البارد فيها، ومن وجعه المتولد من البلغم المانع من شهوة الطعام، نافع من الرطوبة واللقوة وهو لأصحاب الفالج أنفع من النبيذ لقلة تبخره إلى الرأس، ويغدو غذاءاً حسناً هاضماً يدر البول، ويجلو الأخلاط الغليظة الرديئة. وقال حنين بن إسحق في كتاب " الكرمة ": إن عددت ما فيها من الأدوية والأغذية لم أجد في سواها من سائر الشجر ما يشبهها.

وقال أرسطاطاليس: إن الذي استخرج القوة التي غيرت ماءَ الكرم حتى صيرته خمراً يتولد عنها لشرابها الفرح والسرور، قد أتى بشيءٍ تقصر عنه عقول المستنبطين، وقد أتى بما فاق وعلا كلَّ قوة شجرية، ولقد أشرقت الأرض بفعله، وأزهرت بصنيعه لأن نور الخمرة لا يعدله نور من الأنوار الأرضية، وإذا عدَّت المحاسن كلها وجدتها قد كملت فيها فصارت غاية المحبوب ونهاية المطلوب. وكما أنها ملكة الأشجار، صار من يشربها مَلِكاً بها. ومن فضائلها أنها لا تدع الشارب لها من الطرب والفرح والسرور [يكتم] ما يحسن من الملاهي والموسيقى والنغم التي في الخمرة إلاَّ أبداه وأَخرجه، ولو أنه كان زاهداً من الزهاد، أو عابداً من العبَّاد. ومن فضائلها أن الذي يميل إليها ويهواها لا يصبر عنها ولا يلهو عن ذكرها ولا يقبل فيها لوم لائم ولا عدل عادل ولا يجد في ملاذ الدنيا ما يكون له عوضاً عنها. وقال أفلاطون: كم غدرة لأصحاب الشراب إذا ذكروها رجعوا إليها، وكم حلف يمين حنث أصحابها، وكم عهد نُقِض بسببها، وكم كفارة أُديت عنها، لأنه لا صبرَ دونها ولا احتمال على تركها. وقال اصطفن الرهاوي: على أي شيءٍ نشكر رب الكل ومبدع الأشياءِ، أعلى اصطناعه الخمرة أم على أنه ملكنا إياها وأباحها لنا مع ما أباح من الذهب والفضة، فمن بيم محروم وبين مرزوق، لأن هذه الثلاث معادن بها قوام هذا العالم، والخمرة أفضل الثلاثة لأن الاثنين جوهرٌ للبدن، والخمرة جوهر الروح لأن النفس تتربى بالخمر وتسرُّ بها وتفرح لها، والبدن يتربى بالآخرين ويشربهما ويفرح لهما، والخمرة تستعمل من داخل والجوهر من خارج، والداخل أفضل. وقال الحكيم في شعره: الخمرة جوهر ذائب، والجوهر خمرة جامدة. وقال أرسطاطاليس، في كتاب " الكرمة " أيضاً: كلها منافع، لد جاءت الحكمة في أمرها، ودقت العظمة والقدرة في خلقها محضة المنافع، وإن أحدثت مضرة، فإنما ذلك بسوء تدبير من يستعملها بالخروج عن التقدير. وقال بيلسون: عجبت لمن يأكل ثمرتها إذا بلغت بقصدٍ، ويشرب من خمرتها بقصدٍ كيف يمرض مرضاً عرضياً أو يألم بأحد الآلام إلا أن يقع في الأمر إفراطٌ في شيء من الأشياء. واليونانيون يسمون هذه القوة التي تعيد ماء الكرمة خمراً، القوة المتقدمة في الشرف على جميع الأنوار لأنها أشرف الشجر، وماؤها أشرف المياه لأنها تولد السرور والفرح، ففي خيرها أكون باقي حياتي. وقال شاعر آخر وذكر الشراب: هو أخو إخوانٍ ونديم ندمانٍ، يشربه أقوامٌ كرام يشاكلونه في الأفعال، يتصاحبون وينزاورون ويتحابون ويتآلفون، لا كأقوامٍ يرون الحسنات مساوئ والمساوئ حسناتٍ، غفران الذنوب طبعٌ لهم، وترك الأحقاد سنةً لهم، لا يتجاوزون طبعهم ولا يتركون سنَّتهم، الحسنة الصغيرة عندهم عظيمة، والسيئة العظيمة عندهم صغيرة مغفورة. وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون. وقال لبيروس: يُنتقد بالخمرة الناس، فيعرف الزائف منهم والمغشوش كالحجر اليذ يُحلُّ به الذهب فيعرف خالصُهُ من مغشوشه، كذلك الخمر في الأشربة إن عُدَّت فيما يطرب النفس وينشر السرور والفرح ويسليّ الأفكار الرديئة كانت حقيقة بذلك، وإن عُدَّت فيما يُزيل الهموم ويذهب الغموم اجتمع ذلك فيها، وإن قلنا إنها تنشط الكسلان وتروي العطشان وتشجع الجبان وتسخِّي البخيل، فيعطي الجزيل ويراه نزراً قليلاً، وتعزِّي عن المصائب وتسلي عن العشق المبرح، ولولاها لم تعمل الملاهي، ولكانت الأحزان والهموم دائمة لا تبرح، لكنها تزيلها وتذهب بها وتبدلها بأضدادها. وقالت فيها طريطاوس الشاعرة: الشراب معدن اللذات وجالب المسرات، يُطيب النفوس ويصرف البوس ويُعفي على النحوس، ويُولد طرب الجليس ويشد القلب ويُزيل الكرب، ويُذكي الأذهان ويغسل الأدران، ويُنير البصر ويُصفي الكبد ويغرس العلوم ويُوفر الحلوم إذا كان بقصدٍ واعتدالٍ، وإذا جتاوز الحد، وزاد، عادت أفعاله إلى الأضداد. وقال جالينوس: لولاه لما تمازجت الأدوية المختلفات، ولولا وقوعه في الدرياق الكبير لما صار الرئيس على سائر المعجونات.

وأما منافع الكرمة على مذاهب الأطباء فإن الغالب على عروقها التي في الأرض طبائع البرودة واليبوسة فمتى جُففت في الظل وسحقت ونثرت على المواضع العميقات من الخراجات، أنبتت فيها اللحم بسرعة، وهي تنشف الرطوبات التي في الجراحات العظام وتلحم قطع السيف والسكين، ومتى نثرت على المواقع التي فيها الشوك من البدن جذبته وأخرجته. ومن منافعها الكبرى أنها إذا نثرت على الإحليل المختون أبرأته في الوقت ولم تقلع إلا بالبرء، وقشور هذه العروق إذا طرحت مع أدوية الحقنة وطبخت معها وحُقن بها أسهلت للوقت وأبرأت من القولنج، وإذا شربت نفعت من المغس الشديد، وإذا احتملت مسحوقة بدهن الورد حبست الدم من المقعدة، وأما حطب الكرم فإنه إذا أحرق وسحق من رماده درهم في كل يوم مع درهم خل خمرٍ سبعة أيام نفع منفعة عظيمة في تفتيته الحصى الكائنة في المثانة ونفع من المغس وسكَّنه، وإذا أخذ عوده الرقيق الملتف وشُرب منه كلَّ يوم خمسة دراهم سبعة أيام نفع نفث الدم من الصدر، وإن كان من الرئة لم ينفعه، وبه يفرق بينهما، وإذا دُقَّ بعد جفافه وسحق وعجن بماءِ الورد وطلي على الأورام وبخاصة في الأرنبتين وتحت الإبطين حللهما وأبراهما وإن كانت رياحية لم يعمل فيها، وإذا أخذت أطراف ورقة الغصن وجففت وسُحقت وأُخذ منها وزن ثلاثة دراهم في كل يوم مع مثلها سكر نفع من القروح الكائنة في الصدر منفعة عظيمة، ومتى دُقَّ واستخرج ماؤه بالعسل وخل الخمر وطُلي منه بالحمام فتَّح المسام وسمَّن البدن وقوَّاه ومنع من البثور والقروح التي تخرج من الجلد، وأما ورقه اليابس فإذا دقَّ وسحق وغُسل به الرأس مع الخطمي وخل الخمر أذهب الإبرية والحزاز من الشعر وقوىّ أُصوله وإذا دق ونُثر على السعفة بعد أن يندَّى بالخمر العتيق مراراً سكن ضربانها ومنعها من التزيُّد والترقي،. وإذا نثر على السعفة وقطع عنها بالكليَّة بعد ذلك نزيدت السَّعْفة وعظمت فصار داءً بعد أن كان دواءً، ومضرةً بعد أن كان منفعة. وأما الحصرم فإذا دُقَّ وعُصر ماؤه وطبخ إلى أن يبقى منه النصف وجفف في إناء في الظل وقُرِّص وجُفف أيضاً ورُفع فيحك منه على المسن بماءٍ وتكحل بع العين الجربة فإنه يذهب الجرب في مدة قريبة. وإذا عجن بمائه الأُشنان الأبيض، كانت المنفعة فيه سريعة. وإذا جعل منه جزءٌ في التوتيا جلا البصر وقواه قوة عجيبة. قال أبقراط: ومما يخص به الشراب من المسامع أنه يذكي الذهن تذكية عجيبة إذا شرب بمقدار ويسدّد الرأي ويدل على الصواب ويغسل الأدران والأوساخ التي في بطون الدماغ ويقوي المسامع ويفتح السُّدد ويصفي الكدر الذي يحدث في العصبتين المجوفتين اللتين يخرج منهما النور من الدماغ إلى العينين ويقويّ البصر ويحفظه ويجوّد النظر ويبقيه مدة طويلة لا يتغير، ويظف ما بين الدماغ والأنف حتى يشُمَّ الأشياء بسرعةٍ وجودة ويقوي اللسان وعصَبَه، ويغسلُ اللهوات فيذوق الإنسان الأشياء بجودةٍ ويميز بينها وبين غيرها، فهو يحفظ البصر والشمَّ والسمع والمذاق. ومنها أنه يقوي سائر الأعضاء ويشدها ويقويِّ الحفظ ويذهب بالنسيان ويغسل الأوساخ الرطبة والأدران اللزجة التي قد سدَّت أوعية المنيّ ومنعته من الخروج إلى الأُنثيين فيمتنع الرجل من الجماع فيقول من لا بصر له، إنه مربوط من السحر، وإذا انفتحت الطرق المسدودة جرى المنيُّ وعاد الجماع إلى حاله. وإذا استعمل الرجل في كل يوم ثلاث أواقٍ منه مع ثلاثة أمثاله لبن حليب غنميّ شهراً عمل له منياً كثيراً غزيراً، والمولود الذي يتولد من هذا المنيِّ يخرج جميلاً نقي البياض حسن اللون رطب البدن حسن الصورة تام القد.

ومن منافعه أنه يسلس اللسان الثقيل من البلغم إذا شرب منه كل يوم أوقيتين على الرِّيق بوزن درهم دار صيني مسحوق، سبعة أيام، ويُقطع عنه أربعة عشر يوماً، يفعل ذلك إلى أن يبرأ، وإذا أدمن الاستنجاء به أصحاب البواسير نفعها ودملها وذهب الصفار من وجوه أصحابها. ومن منافعه أنه يقوي المعدة، ويسُدُّ خَمَلها ويحفظ القوى الأربع التي فيها: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة، ويجلو الرطوبات الراكدة المفسدة من سائر البدن، وإذا غسلت به الجراحات، أذهبت الأدران والأوساخ منها، وإذا نام الإنسان عليه من غير سكر نعم البدن وسمَّنه وحسنَّ اللون. ويجلو الطحال من الأخلاط العكِرة، ويغسل الأمعاء من بقايا الأدوية المسهلة إذا شُرب مفتَّراً ممزوجاً. ومنها أن البدن يغتذي به غذاءً محموداً ويزيد في أفكاره وقوته، ومنها أنه يبرئ الأسقام الطويلة المزمنة، ويُحسِّنُ الخلقَ السيِّئ الشديد. ومنها أنه ينفع من الحمى الرِّبع الطويلة إذا شُرب منه في كل يوم الشيء اليسير الخفيف مقدار خمسة دراهم بالماء، وهو مع ذلك يسهّل سلوك الماء ويُنفذه إلى الأعضاء التي قد جفَّت من الحمّى، ويرطبها إذا كُسر بالماء، تكون واحدة شراباً وخمسة ماءً، [فإنه] ينفع صاحب حمّى يومين الحادثة من الأرق والسهرِ، يرطبه ويصيره إلى النوم، وكذلك الحمّى المتولدة من الحرِّ والغضب لأنه يصير إلى الرضى والسرور، وينفع من الغثيان الدائم إذا شُرب بالماء الحار وألقي فيه شيء من الخل الخمر، لأنه إن كان من مرار أحدره إلى أسفل، وإن كان من بلغم أثاره إلى فوق، وأصحاب الوسواس السوداوية إذا سُقوا منه وأُسمعوا الألحان والملاهي، ويكون ممزوجاً، فإن ذلك يرطب من يبس أدمغتهم ويسكِّن من كثرة كلامهم وينومهم. ومنها أنه يثير الرارة الغريزية وينبهها حتى تدور في البدن، ومنها أنه يشدُّ القوى انفسانية التي بها تقوى الحواس والأعضاء، وتحدث النشاط، وجملة الأمر في الشراب، أنه إذا شرب على هدوءٍ وسكون ومع من يُحب أن يشرب معه وبمقدار كان الدواء أقرب منه إلى الداء.

وأما أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فإنه قال: منافع الشراب المتخذ من العنب كثيرة، منها أنه يمد الحرارة الغريزية وينميها وينشرها ي جميع أقطار البدن بأوفق وأنفذ وأسرع وأصلح من جميع ما يعرف من الأغذية، ومنها أنه يدفع ضرر السموم التي حاصتها تجميد الدم وإطفاء الحرارة الغريزية كنَهَش الأفاعي ولدغ العقارب وأكل الأفيون وما أشبه ذلك، فهو كأنه مادة متهيئة موافقة لإنماء الحرارة الغريزية التي بها قوام الحيوان وله مع ذلك ما ليس لشيءٍ من الأغذية من طرد الفِكر الباطنة وبسط النفس وانشراحها حتى أنه من أعظم علاج للماليخوليا إذا استعمل ما ينبغي، وهو سبب لجلب النوم وجودة الهضم وتوليد الدم الغريزي وإخصابه البدن وتحسينه اللون ورفع اليبس والذبول والهرم، ومع ذلك يفتح السُّدد والمجاري وينفذ الفضول حتى يبرز من البدن بسهولة النجو والبول والعرق، ويقوي المعدة ويسخنها ويسخِّن الكبد ويمنع من عظم الطحال ويلطفه ويدفع المرار الأصفر في البول ويكسر عادية ما تبقى منه في البطن والكبد وحتى لا تكون له حدة ولا رداءة مفرطة، وذلك إذا أكثر مزاجه وأغب شربه، وأعظم منافعه في شرب القدر من غير إفراط فيه، فإن الإسراف منه يضر بالدماغ والعصب ويوقع السكتة والفالج والرعشة وربما وقع في الهذيان والوسواس، وإدمانه ربما أحمى الكبد وللد فيها الورم وأورث الحميّات الحادَّة والصُّداع والرمد والخراجات والأورام والشوصة ونحو ذلك من الأمراض التي تحدث من حِدَّة الدم أو كثرته، وذلك أن الشراب بالجملة يزيد في الدم وحِدَّته لا سيما إذا كان المزاج متهيئاً لذلك؛ ويحتاج إلى الشراب ضرورة من إذا لم يشربه أبطأ هضمه وتجشأ جُشاءً حامضاً وقلَّت شهوته للغذاء، ومن إذا شرب الماء ثقل عليه بدنه وثقل الطعام في معدته وكثر النفخ والقراقر في بطنه، فمثل هذا متى أمسك عن الشراب وقع في الأمراض الباردة. وأحوج الناس إلى استعمال الشراب الشيوخُ، وذلك أن أبدانهم تبرد وتجفّ، فالشراب يسخنها ويرطبها، ونومهم قليل، فالشراب ينعشهم ويذهب الحكة التي تعتري الشيوخ في أجسادهم بتوسيعه مسامهم وترقيقه لجلودهم ويجود هضمهم ويُمسك الهَرَم أن يسرع إليهم ويدفع عنهم النزلة والبحوحة والزكان والسعال الذي لا يزال يعتريهم، وينشطهم ويبسط من أنفسهم وهم بالجملة أحوج الناس إليه وأكثرهم سلامة عليه، ويتلوهم في الحاجة إلى الشراب الكهول. فأما الشباب فأقل حاجةً إلى الشراب لا سيما من كان منهم حار المزاج ملتهباً فإنه يزيد في سخونة بدنه ويحمي كبده ويسقط قوته، والماء أوفق لهؤلاء من الشراب.

وأما الصبيان فليس يحتاجون إليه وخاصةً من كان منهم حسن اللحم سريع النمو وقد يحتاج إليه منهم من كان بضدِّ ما وصفنا فيُسقي المائي القليل السِّورة. فأما الحاجة إلى الشراب بحسب الأزمان فإنه ينبغي أن يكون شرب الشراب في آخر الربيع والصيف كلّه على أقل ما يمكن وليختر رقيقه وليكثر مزاجه في صميم الحرارة وشدة الصيف وليتنقل عليه الفواكه الحامضة ويستعمل السكنجبين الساذج الحامض بعد الإفاقة منه، وينبغي إلا يسكر في هذا الزمان فإن ذلك مخوفٌ جالبٌ للأمراض الحارة، وبقدر كثرة شربه في الصيف والتعرض للشمس يقع في الحميّات، فإذا جاء الخريف فينبغي أن يستعمل العتيق منه ممزوجاً، ويختار من الحديث أرقه، فإذا جاء الشتاء فليكن الشراب أقوى ويُستعمل صرفاً ويكون أكثر مقدارارً وأطول زماناً مما يستعمل في أكثر الأزمان، فإن الأبدان تحتمل منه في ذلك الزمان ما لا تحتمل في غيره، وليس للخمار فيه سورة عظيمة، بل كثيراً ما ينتفع به لأن الخمار في الشتاء دواءٌ وفي الصيف داءٌ، والبدن النحيف أحوج الأبدان إليه إذا أكثروا المزاج ويجتنبون القويَّ والصِّرف من الشراب، وينبغي أن يُجتنب الشراب بعد الخروج من الحمام وبعد التعب بساعتين وأكثر، وبعقب كثرة الجماع وطول السهر وإفراط الإسهال، فإن احتاج إليه فليكن القليل منه ولا يبلغ السكر، ويستعمل بعقب الإمتلاء من العسل والرطب أو غذاءٍ حادٍّ حريّف يُسرع النفوذ إلى الكبد، وأوفق أحواله إذا كان البدن ساكناً هادئاً في حركاته الجسدانية وهمومه النفسانية، وفي حال نشاط النفس وانشراحها وتشوقها إليه، وينبغي أن يشرب المحرورون والشباب في الأزمنة الحارة على الأطعمة الباردة الحامضة كالتي تتخذ من ماء الحصرم وماء الرمان والكباجة ونحوها، مع لدونة ودسمٍ، وأما في الشتاء للمبرودين، فالأغذية التي فيها أدنى حرارة كالمغمومة الكثيرة البصل، والمطجنات بالزيت والمريّ ونحوه، [و] لا ينبغي أن يشرب على طعام عديم الدَّسم، كمن يقتصر على الخبز والزيتون والكوامخ والسمك المالح ونحوها فإن ذلك رديء يودع العروق أخلاطاً مفسدة وأضر ما يكون هذا بأصحاب الأبدان النحيفة، وأنفع النَّقل للمحرورين السفرجل والتفاح المزّ، وإن كان حار الكبد فالرّمان الحامض وحُماض الأُترج، وأما أصحاب الأبدان المعتدلة الخصيبة فالرمان الحلو والسكر الطبرزد باللوز المقشر، وأما الشيوخ والمبرودون فالفستق والصنوبر وبذر الكتان والسمسم المقلو وما أشبه ذلك.

ذكر ما جاء في مبادرة اللذات

والجماع على الشراب مؤذٍ في أكثر الأحوال، وأعظم ضرره أن يعتريه النقرس وأوجاع المفاصل والظهر والكلى. ومن كان ضعيف العصب جلب عليه التشنج، وقد ضرره بقدر بطء إنزاله وإجهاده نفه. وهو أقل ضرراً بالقويِّ العصب، الصلب اللحم إذا لم يكن إنزاله بحركةٍ شديدةٍ أو طويلة، ولم ولم يكن في نهاية السكر، والبطن يتخضخض بما فيه، والجماع في تناول شيءٍ من الشراب وخفةٍ من البطن ليس بضائر، وأما الزبيب فطبعه الحرارة واليبوسة لأن الزمان قد أفنى أكثر رطوبته ولم يترك منها إلا الشيء القليل وفيه عشر منافع تغذو البدن غذاءً أجود من غذاء سائر الأشياء الحلوة ويقويّ المعدة ويشدها وينشف الرطوبات من المعدة، المنحدرة إليها من الرأس، ويمنع من سرعة الشيب ومن اجتماع البلغم في موضعٍ من البدن وإذا أُكل بحبه أسمن البدن وإذا أُكل بغير حبه عدل الطبيعة وأصلح مزاج البدن لأنه يحدث الرطوبات المفرطة فيه ويحمي البرودة الزائدة التي فيه، والمدمن عليه لا تناله الأمراض بسرعة بل تندفع أبداً عنه وهو يعدّ في الأغذية الدوابية والأدوية الغذائية، وهو أوفق من العسل في كثير من المعجونات إذا أخرج حبُّهُ، والشراب الذي يتخذ منه فيه منافع كثيرة، وأما العنب فهو على الجملة خير من الفاكهة كلها، لا مضرة فيه ولا أذى إذا بلغ في شجرة وهو يغذي البدن غذاءً محموداً ويزيد في لحمه وشحمه لا سيما ما كان منه صادق الحلاوة يعدِّلُ الطبيعة ويبيض اللون ويوَرِّده ويزيد في المنّي ويُنهض إلى الجماع بقوة، ويزيد في شحوم النساء ولحومهن وينعِّم أبدانهن ويصفيها من الأدران ويذهب النمش والكلف من وجوههن، وإن أكلته الحوامل وأدمن عليه خرج الولد في نهاية ما يكون من السِّمن والبياض، ويكون قليل الأمراض قليل البكاء قليل الجدري والحصباء ويحفظ الصحة على الأصحاء. وهو غذاءٌ موافق للناس كلهم ومن أدمن على أكله قام له مقام الخبز واللحم وهو أجود كل غذاء يخرجه الشجر لأنه وحده الراكب والشجر بين يديه يمشون رجاله حفاةً كعلو الإنسان على سائر الحيوان، وليست على الجملة، فيه مضرة إلا أن خرج من الإكثار منه عن الحد. قد أَثبتُّ لك أعزك الله من قول الفلاسفة والحكماء بعض ما شرطته لك في أول هذا الكتاب وقصد الصواب إن شاء الله تعالى. ذكر ما جاء في مبادرة اللذات بأوَّل من فتح هذا الباب امرئ القيس فقال: تمتَّع من الدنيا فإنكفان ... من النشوات والنساء الحسان وأبو داود الإيادي فإنه قال: تأتي الأمور وأنت منتبهٌ لها ... فإذا مضت فكأنها أحلامُ وقال الطِّرماح: إنما ذِكرك ما قد تقضى ... ضلة مثل حديث المنام وقال إبراهيم بن العباس الصولي: إنما المرء صرة ... حيث تمَّت تناهت أنا مذ كنت في التصرف لي مثل ساعتي وقال أحمد بن علي الماذرائي: عاقِر الراح ودع نعت الطَّللْ ... واعصِ من لامك فيها أو عَذَلْ غادِها، واغن بها واسعَ لها ... وإذا قيل تصابى، قل: أجَل إنما دنياك، فاعلم، ساعةٌ ... أنت فيها وسوى ذاك أملْ يزيد بن معاوية: أقول لصحبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنَّمُ خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرمُ ألا إن أحلى العيش ما سمحت به ... صروف الليالي والحوادث نُوَّمُ ابن المعتز: ألا علِّلاني إنما العيش تعليل ... وما لحياةٍ بعدها ميتةٌ، طولُ خذا لذةً من ساعةٍ مستفادةٍ ... فليس لتعويق الحوادث تمهيل دعاني والدنيا أنل من نعيمها ... فإني عنها بعد ذلك مشغولُ وأنشد المبرد للرياشي: بادر صَبوحك بالتي ... تنفي همومك والفِكر خذ من زمانك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر فالوقت يقصر عن معاتبة الخليل على الغِيرْ عبد الله بن الحسين القُطرُّبلي: دنياك شيئان فانظر ... ما ذانِك الشَّيانِ ما فات منها فحُلمٌ ... وما بقي فأماني عبد السلام بن رغبان (ديك الجن) :

تمتَّع من الدنيا إذا هي ساعدت ... فإنك في أيدي الحوادث عانِ ولا تنتظر باللهو يوماًإلى غدٍ ... فمن لك منها في غدٍ بأمان فإني رأيتُ الدهر يُسرع بالفتى ... وينقله؛ حالان مختلفان فأما الذي يَمْضي فأحلام نائمٍ ... وأما الذي يبقى له فأماني أبو العتاهية: كلّنا يأمُلُ مدًّا في الأجل ... والمنايا ماثلات بالأمل ما صفا عيشك فاستمتع به ... وارضَ بالرزق وإن رزقك قلّْ إنما الدنيا كظلٍّ زائلٍ ... حل فيه راكبٌ، ثم رَحلْ المُهَلبي: بَكِّر على غَيْمٍ أتاك مُجدَّدِ ... طَلَعتْ عليك نجومُهُ بالأسعد وبعقب ليلٍ ثرَّةٍ أخلافه ... رقد المُحب [و] عينُهُ لم ترقُدِ يومٌ يردُّ على الفتى أطرابهُ ... ويكفُّ عادية الزمان المعتدي لبس السحائبَ جوُّه وكأنه ... يختال بين مُمسكٍ ومُوردِ إن السرور قصيرة أيَّامُهُ ... إن لم تبادر وقته، لو يوجدِ وأنشد النوبختي: قد ظهر اليومُ من عجائبهِ ... ما يُسعِدُ الصبَّ في مآربه وأصبح الجوُّ في مُمسكةٍ ... ينسجها الغيمُ من سحائبهِ والغيمُ منهلَّةٌ مدامعه بِواكف القطر أو بساكبِه يبكي على لئوم من يضيعه ... مخافة اللومِ من معائبه فبادر العيش إنه خُلسٌ ... مُقبلهُ سُرعةً كذاهِبِه ابن المعتز بالله: تعالوا فشقّوا أنفساً قبل موتها ... فتمضي إلى الداعي وهنَّ رِواءُ نبادر أيام السرور فإنها ... سراع وأيام الهموم بطاءُ وخل عنان الحادثات لوجهها ... فإن عنان الحادثات عناءُ وأنشد يعقوب بن الربيع: أظلَّلكَ شهر الصومفاطلب مساعداً على الراح فيه وانتهاك المحارم فإنك لا تدري أتُدرك فَطرَهُ ... وأنت سليم فيه أو غير سالم فاتصل هذا الشعر بأخيه الفضل، فكتب إليه يعاتبه على ذلك ويقول: أخشى أن يتصل هذا بأمير المؤمنين مع تثاقلك عن خدمته فيعاقبك، فكتب إليه: إاذ كان عندي قوت يوم وليلةٍ ... من الراح تنفي الهمَّ عني إذا اكتنع فلست تراني إنس سائلاً عن خليفةٍ ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع وأنشد لعلي بن بسام: واصِل خليلَك إنما الدنيا مواصلة الخليلِ وانعم ولا تتعجل المكروه من قبل النزول بادر بما تهوى فما تدري متى وقت الرحيلِ وارفض ملامة لائم ... إن الملامَ من الفضولِ أبو العتاهية: اقنع النفسَ بالكفاف وإلاَّ ... طلبت منك فوق ما يكفيها ليس فيما مضى ولا في الذي لم يأتِ من لذةٍ لمستحليها إنما أنت، طول عمرك، ما عُمِّرت، في الساعة التي أنت فيها ومثله قول عمران بن حِطَّان: يأسف المرءُ على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضِها وتراه فرحاً مستبشراً ... بالتي أمضى كأن لم يُمضها إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريبٌ، بعضها من بعضِها وأنشد أحمد بن أبي طاهر: مضى أمسِ بما فيه ... ويومي أنا راجيه ولي في غدٍ الجائي ... خطبٌ سأُلاقيه فإمَّا هو يُمضيني ... وإمَّا أنا أُمضيه ومحمد بن يحيى الصولي: عاقِر عُقارك واصطبح ... واقدح سرورك بالقدح واخلع عذارك في الهوى ... وأرح عذولك واسترِح وافرح بيومِك إنما عمر الفتى يوم الفرح وأنشد العلاءُ بن برد: إن كنت تعلم حين تصبح سالماً ... أن المنية ما أقمتَ تقيمُ فاركب هواك بما اشتهيت فإنه ... لامثل يومك في النعيم نعيم يزيد المهلبي: احمدوا اللهَ وحُثوا كأسكم ... إنما المغبون من لا يَحمُده أعجزُ الناسِ مضيعٌ يومَهُ ... وهو لا يعلم ما يجني غَدُه أعرابي: بادِر إلى اللذات يوماً ما أمكنت ... بركوبهنَّ بوادر الآفاتِ

ذكر ما جاء في المنادمة

كم من مضيعٍ لذةً قد أمكنت ... لغدٍ، وليس غدٌ له بمواتي حتى إذا فاتت وفات طلابُها ... ذهبت عليه نفسه حسراتِ ابن المعتز: ألا فاسقياني قبل أغبرَ مظلمٍ ... بعيدٍ من الخِلاَّنِ من هو نازلُهْ رأيت الفتى إن مات يورث مالُهُ ... وتنكح أزواجاً سواد حلائله ذران أنعم في الحياة معيشتي ... وآكل مالي قبل من هو آكلهْ محمد بن أُمية: أما ترى اليوم قد رقَّت حواشيهِ ... وقد دعاك إلى اللذات داعيهِ وجاد بالقطر حتى خلتَ أن له ... إلفاً نآه فما ينفك يبكيه فبادِر اللهو واغنم طيبَ ساعته ... فإن للدجن ديناً يَقتضِنِيهِ وقال آخر: اعصِ من لامكَ في الشُّرب تعِش عيشاً لذيذاً ليس من عمرك يومٌ ... لم تذق فيه نبيذا وقال آخر: ومن عَرَفَ الأيام لم يغترر بها ... وباكَرَ باللذات قبل العوائقِ بحمراءَ قبل المزج، صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجسٍ وشقائقَ حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلَّطوا ... عليها شعاعاً فاكتست لون عاشِقِ عبد الوهاب: كن عن العَذلِ ذا صَمَمْ ... وانف عن نفسِك النَّدم واقطع الدهر بالسرو ... ر على رغم من رغم فالذي تتقي وترجوه قد خطَّهُ القلمْ ذكر ما جاء في المنادَمَة قالوا: اشتقاقُ النديم من النَّدم لأنه يُندم على فراقه، وقد فخر امرؤ القيس مع شرفه وملكه فقال: ونادمت " قيصر " في ملكِهِ ... فأوجهني وركبت البريدا وقالت الخِرنِق بنت بدر التغلبية ترثي بشرَ بن عمرو زوجها وبنيها، وكانت العرب لا ترثي إلاَّ بأفضل الأشياءِ وأرفعها: فكم بعُلاه من أوصالِ خرقٍ ... أخي ثقةٍ وجمجمةٍ فليق ندامى للملوك إذا لقوهم ... حُبوا وسُقوا بكاسات الرحيقِ وقوالوا: لسان الملك كاتبه، ووجهه حاجبه، وجليسه كلّه، وقالوا: إذا وليت عملاً فانظر من كاتبك، فإنما يعلم مقدارك من بعد عنك بكاتبك، وأنظر حاجبك، فإنما يقضي عليك الوفود قبل الوصول إليك بحاجبك، واستكرم نديمك وجليسك، فإنما يزنك الداخل عليك بمثقال من يراه معك، وقال رسول الله (ص) : المرءُ على دين خليله فلينظر أحدٌ من يخالِل. وقال طرفة: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرينٍ بالمقارنِ مقتدي وفاخر كاتبٌ نديماً، فقال الكاتب: أنا معونة وأنت مئونة، وأنا للجد وأنت للهزل، وأنا للشدة وأنت للذَّة، وأنا للحرب وأنت للسلم، فقال النديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، وأنا للحضرة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس، تدأب لراحتي وتشقى لما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت مُعين، كما أنك تابع وأنا قرين. وقال بعضهم في فضل النديم: أرى للكأس حقاً لا أراه ... لغير الكأْس إلا للنديم هو القطب الذي دارت عليه ... رحى اللذات في الزمن القديم ولم تفتتح أبيات في مدحِ نديمٍ بأحسن مما ابتدأ به أبو مسهرٍ الطائي: وندمانٍ يزيد الكأس طيباً ... سَقيْتُ وقد تغوَّرتِ النجومُ رفعت برأسه وكشفت عنه ... بمعرفةٍ ملامة من يلومُ فلما أن تنشَّا قام خرق ... من الفتيان مختلقٌ هضيم إلى وجناء ناجيةٍ فكاست ... وهي العرقوب منها والصميم فأشبع شربه وجرى عليهم ... بإبريقين كأسهما ردُوم تراها في الإناء لها حميّا ... كُميتاً مثل ما فقع الأديمُ فنشرب ما شربنا ثم نصحو ... وليس بجانبي أحدٍ كُلُوم فبتنا بين ذاك وبين مسكٍ ... فيا عجباً لعيشٍ لو يدوم نطوِّف ما نطوِّف ثم يأوي ... ذوو الإكثار منا والعديمُ إلى حفرٍ أسافلهن جوفٌ ... وأعلاهنَّ صُفاحٌ مُقيمُ

معنى قوله: فنشرب ما شربنا، البيت، وصفهم بطهارة الأخلاق وأنه لا يخرج أحدٌ منهم إلى أن يطلق يده، ولا لسانه على جليسه، وهذا حسن وأمدح من قول حسان: نوليها الملامة إن ألِمنا ... إذا ما كان مغث أو لِحاءُ وللعطوي أشعار كثيرة في النِّدام كلُّها مختارة، فمنها قوله: يقولون قبل الدار جارٌ موافق ... وقبل الطريق النهج أُنسُ رفيقِ فقلت وندمان الفتى قبل كأسِه ... فما حثَّ كأسَ المرءِ مثل صديقِ وقال أيضاً: ما حثَّ كأسك كالصديق الوامِقِ ... ونفى همومك كالشراب العاتِقش الكأسُ والندمان أحسن منظراً ... من كل ملتف الحدائق رائِقِ فإذا جمعت صفاءَها وصفاءَه ... فاقذف بكل ملَّمةٍ من حالِقِ ومثله قول الآخر: ورضيع راضعت في كبر السنِّ أخاً لديَّ مُطاعا لم يكن بيننا رِضاعٌ ولكن ... صيَّرت بيننا الكئوس رِضاعا قالوا: وليس أحد من أصحاب الملوك ولا من خلطائهم هو أولى باجتماع محاسِنِ الأخلاق وأفاضل الآداب وطرائف الملح وغرائب النتف من النديم، حتى إنه يحتاج أن تكون فيه أشياء متضادة، فيكون فيه مع شرف الملوك تواضعُ العبيد، ومع عفاف النسَّاك، مجون الفُتَّا، ومع وقار الشيوخ مزاح الأحداث وكل واحدةٍ من هذه الخلال هو مضطر إليها في حالٍ لا يحسن أن يُخِلَّ بها، ووقتٍ لا يسعه العدول فيه عنها، وإلى أن يجتمع له من قوة الخاطر ما يفهم به ضمير الرئيس الذي ينادمه على حسب ما يتلوه من خلائقه، ويعلم من معاني لحظه وإشارته ما يغنيه عن تكلف عبارته فيسبقه إلى إرادته ويبدُرُهُ إلى شهوته كما قال بعض الكتاب: ونديم حلو الحديث يجاريك بما تشتهيه في ميدانِك ألمعيٌّ كأنَّ قلبَكَ في أضلاعه أو كلامه بلسانِك وكما قيل: إن غلاماً كان يحضر مجلس الواثق، قائماً برسم نديم، وكان صغير السنّ، فلم يكن لهذه العلة، يُلحقه في الجلوس بمراتب الشيوخ والأكابر، وكان مع ذلك قد أُذن له في المفاوضة معهم في كل ما يخوضون فيه، والتكلم بما اعتلج في صدره، من مثلٍ سائرٍ، أو بيتٍ نادرٍ، وحديثٍ ممتعٍ وجواب مُسرعٍ، فقال الواثق: وكان من شدة الشهوة للطعام على الحال المشهورة، ما تختارون في النقل؟ فبعض قالوا: نبات، وقال بعض: رمّان، وقال بعض: تفاح، وقال بعض: قصب سكر في ماء ورد، ويعضٌ تناعص فقال: ملح يعطى تحففاً بمذاههب النبيذيين، فقال: ما صنعتم شيئاً، فما تقول أنت يا غلام، فقال: خشكنانِك مُتَنَّر، فوافق بذلك إرادته وأصاب به ما كان في نفسه، فقال له: أصبت وأحسنت، اجلس بارك الله عليك، فكان ذلك أول جلوسه. وكما فعل بعض ندماء بشر بن مروان بحسن قريحته ولطف حيلته، وكان عبد الملك بن مروان ولَّى بشراً الكوفة ووجَّه معه روح بن زنباع الجذامي وقال له: يا بنيَّ، روحٌ عمُّك، فلا تقطع أمراً دونه لصدقه وعفافه ومحبته لنا أهل البيت، وقال لروح أخرج مع ابن أخيك فخرج معه حتى قدم الكوفة، وكان بشرٌ أديباً ظريفاً أريباً يحب الشعر والسَّمر والسَّماع والنِّدام، فراقب روحاً، واحتشم منه وقال لندمانه: أخاف أن يكتب هذا إلى أبي بأخبارنا فيقبل منه، وإني لأُحب من الأُنس والاجتماع ما يحبه الشباب، ولكني أجتنب ذلك لمكانه، فضمن له بعض ندمائه أن يكفيه أمره، ويردَّه إلى عبد الملك، من غير سخط ولا لائمة، فسرَّ بذلك ووعده المكافأة عليه بأعظم الحِباء، وكان روحٌ غيوراً، إذا خرج من منزله أقفله ثم ختمه بخاتمه حتى يعود إليه فيفضّه بيده، فأخذ الفتى دواةً وقلماً ثم أتى باب روحٍ ممسياً فقعد بالقرب منه مستخفياً، وخرج روحٌ للصلاة، فتوصل الفتى إلى أن دخل الدهليز وكمَنَ تحت درجةٍ فيه، وعاد روحٌ ففتح الباب ثم أغلقه على نفسه ودخل، فعمد الفتى إلى الحائط فكتب في أقرب المواضع من مَمَرِّ روح: يا روح من لُبنَيَّاتٍ وأرملةٍ ... إذا نعاك لأهلِ المشرقِ الناعي إن ابن مروان قد حانت منيَّتُهُ ... فاحتل لنفسِك يا روح بن زنباع ولا يغرك أمرٌ قد ظفرت به ... واسمع هُديت مقال الناصح الداعي

ثم رجع إلى مكانه من الدهليز فبات به، فلما أصبح روحٌ خرج في الغلس للصلاة ومعه غلمانه فاختلط الفتى في جملتهم، فلما عاد روح وأسفر الصبح تأمل الكتاب وقرأه فراعه وأنكره، وقال: ما هذا، والله ما يدخل حجرتي إنسيٌ سواي، ولاحظَّ لي بالمقام بالعراق، ثم نهض من ساعته فدخل على بشر فقال له: يا ابن أخي وصِّني بما أحببت من حجةٍ أو سببٍ عند أمير المؤمنين فقال: ولِمَ يا عم، هل سمعت شيئاً كرهته، أو رأيت أمراً أنكرته فلم يسعك المقام معه، فقال: لا والله بل جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكن، أمرٌ حدثَ لا بدَّ من الشخوص له، فأقسم عليه أن يخبره، فقال: إن أمير المؤمنين قد مات، أو هو ميتٌ إلى أيام، فقال له بشر: ومن أين علمت ذلك؟ فأخبره بخبر الكتاب، وقال: ليس يدخل أحدٌ حجرتي غيري وغير جاريتي فلانة فمن كتب ذلك إلاَّ الجنّ أو الملائكة، فقال له بشر: أقم، فأرجو ألاَّ يكون لهذا حقيقة، فلم يثنه ذلك عن الخروج، فسار إلى الشام، وأقبل بشرٌ على الشراب واللهو والطرب، فلما وافى روحٌ عبد الملك أنكر أمره، قال: ما أقدمك، الحادثة حدثت على بشر، أم لأمر كرهته، فشكر حسن سيرته، ووصف سلامته في نفسه، وقال: بل جئتُ لأمرٍ لا يمكنني ذكره حتى تخلو، فقال عبد الملك لمن حضر: إذا شئتم، وخلا بروحٍ فأخبره بقصته، وأنشده الأبيتات، فضحك عبد الملك حتى استغرب، وقال: ثقلت على بشرٍ وأصحابه حتى احتالوا لك ما رأيت فلا تُرع لذلك، ووفى بشر لنديمه بما وعده وأجزل جائزته. وكان محمد بن يزيد المبرِّد يقول: لم أرَ في أهل زماننا من الرؤساء وأصحاب السلطان أشدَّ رغبةً في الأدب ولا في مواظبةٍ عليه ومحبة له من محمد بن عبد الله بن طاهر والفتح بن خاقان، فأما الفتح فبلغ من شهوته للأدب أنه كان يذهب من مجلس المتوكل إلى علماء المذهب فيغنم زمان تلك الخلوة اليسيرة فلا يقطع مسيره بادئاً ولا راجعاً إلا بالنظر في كتاب، فعلمت أنه لم يكن لينال تلك المنزلة في النِّدام إلا بهذه القريحة، وأما العبث والمزاح، فله من المنادم موقع لطيف وموضع خصيص إذا تبين النديم منه نشاطاً لذلك. وقال قائل للمأمون: أيأذن أمير المؤمنين في المداعبة، فقال: وهل العيش إلا فيها. واجتمع على مائدة أبو عيسى بن الرشيد وطاهر بن الحسين، فأخذ أبو عيسى ورقة من الهندباء فغمسها في الخل وضرب بها عين طاهر الصحيحة، فغضب طاهر وقال: يا أمير المؤمنين، إحدى عينيَّ ذاهبة والأخرى على يديْ عدل، ويُفعلُ في هذا بين يديك، فقال: يا أبا الطيب: إنه والله ليعبث معي أكثر من هذا العبث فاضحك له. وروي عن إسحق الموصلي أنه قال: مكثت أيام الرشيد أغدو إلى هشام ووكيع فأسمع منهما وآتي إلى عاتكة بنت شهدة فتطارحني صوتين، ثم إلى زلزل فيلقي عليَّ من الضروب طريقين، ثم أوجِّه إلى الأصمعي وأبي عبيدة فلا يزالان عندي إلى الظهر، ثم أروح إلى أمير المؤمنين. وقال إبراهيم بن المدبر لمحمد بن يزيد المبرِّد: أُحبُّ أن تنظر لي جليساً يجتمع مع إيناسي ومنادمتي، فناديت ولدي فبعث إليه علي بن سليمان النحوي، وكتب إليه معه هذا: أنفذت إليك أعزَّك الله فلاناً وجملة أمره كما قال الشاعر: إذا زرتُ الملوكَ فإنَّ حسبي ... شفيعاً عندهم أن يخبروني ومما يزيد النديم في المحل تقدماً، وعند نفسه تمكناً أن يكون عالماً. وقيل لأعرابي: كم تشرب من النبيذ، قال: على قدر النديم، وقالوا: من شرط المنادمة قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، وترك الجواب، والمسامحة في الشراب، وإسقاط التحيَّات واجتناب اقتراح الأصوات وإدمان الرضى واطراح ما مضى وإحضار ما تيسر، وأكل ما حضر وستر العيب وحفظ الغيب. ومن صفات الندامى قول أبي عبد الرحمن العطوي: اخطب لكاسِك ندماناً تسرُّ به ... أولا فنادم عليها حكمة الكتب اخطبه حراً كريماً ذا محافظة ... يرى نِدامَكها من أقرب النسب فإن لم يكن حلبَ الأيام أشطرَها ... وقومته وراضته يد الأدبِ فقد ملأتَ به كفيك من رجل ... يرعى ذمامك رعيَ الواصل الحَدِب وقال أيضاً: جَدِّدا مجلساً لعهد الشباب واسقياني على الهوى والتصابي في كهولٍ إذا استدرت حمَّيا الكأس لم ينطقوا بغير الصواب

نظروا في الكلام والنحو والشعر فهم حجَّة على الألباب وإذا ما هفا النديم أقالوه ... وردوا الأحلام دون الوثاب وقال آخر: وما خير ندمانٍ صموتٍ كأنما ... يدور عليه الكأس وهو كئيبُ إذا ما نفوس القوم طابت فنفسه ... أبت، لا تراها عند ذاك تطيبُ وقال آخر: لا تشرب الراح إلا مع أخي ثقةٍ ... إن سيل أعطى، وإن غنَّيته طَرِبا تزيده الكأسحلماً، والغنا طرباً ... والسكرُ تقوى، وما سقيته شُربا فاشدد يديك عليه، إن ظفرت به ... واكثر مودته، لا تكثر الذَّهبا وقال ابن المعتز: وما أنا للندمان في الشرب مكرهاً ... على الكأس، يأبا [ها] ، ولا قائلاً هُجرا وإن ردَّ فضلاً في الإناء شربتُه ... ولم أسقِهِ كَرهاً لأصرعه سكرا أُفديه أحياناً بنفسي ووالدي ... وأجعل ما يهوى لما رابه سِترا وإن نام لم يوقظ، وإن قام لم يُرَع ... وإن قال لي: يا صاح، لبيته عشرا أرى ذلك حقاً للنديم، وإنني ... لأحفظه سِراً، وأحفظه جهرا وقال آخر: وبالشام فاطلبني إذا ما فقدتني ... وداوِ همومي بالتي تطرد الهَما وفتيان صدقٍ لا ضغائن بينهم ... إذا شربوا زادهم شربُها حلما إذا جلسوا، جاؤوا بكلِّ غريبةٍ ... فيزداد بعض القوم من بعضهم علما وقال أبو عبد الرحمن العطوي: حقوق الكأسِ والندمان خمس ... فأولها التزيُّن بالوَقارِ وثانيها مسامحةُ الندامى ... فكم حَمَت السماحةُ من ذِمارِ وثالثها، ولو كنت ابن خيرِ البرية محتداً، تركُ الفخارِ ورابعها وللندمان حقٌّ ... سوى حقَّ القرابة والجوارِ إذا حدثته، فاكسُ الحديث الذي يصغي له، ثوبَ اختصارِ فما حُثَّ النبيذُ بمثل حسن الأغاني والأحاديث القصارِ وخامسةٌ يدُلُّ بها أخوها ... على كرم الخليقةِ والنِّجار حديثُ الأمسِ ننساهُ جميعاً ... فإن الذنب فيه للعقار ألم تر أن شرب الراحِ صِرفاً ... ومزجاً بالصغارِ وبالكبارِ يرد الشيخ ذا الستين غِراً ... غلاماً، ما يُفيق من الخُمار فمن حكمت كأسك فيه فاحكم ... له بإقالة عند العثارِ وقال آخر: لعهدي بالنبيذ وشاربيه ... إذا شربوا زادهُم سكونا وحيَّا بعضُهم بعضاً عليه ... ولم يُلفوا عليه مُعربدينا فما بال النبيذ أحال عهدي ... وأورث من يعاقره جنونا أم الندماء قد رَذَلوا فليسوا ... كما كان النَّدامى الأولونا وقال العطوي: طيب النديم يفوق طيبَ الرَّاحِ ... ويحثُّ شاربها على الأقداحِ تصفوا الزجاجة بالنديم إذا صفا ... ويكدِّرُ النَّدمان صفو الراحِ وفي مراضعة الكأس يقول بعضهم، وقيل إنه لابن الزيَّات: اذكر أبا جعفرٍ حقاً أَمُتُّ به ... إني وإياكَ مشغوفان بالأدبِ وأننا ضد رضعنا الكأس درَّتها ... والكأس درَتَها أولى من النسب وقال آخر: ونديمٍ نادمتُ في كِبَرِ السِّنِّ فأضحى [فيه] أخاً لي مُطاعا لم يكن بيننا رضاع ولكن ... ولدت بيننا المُدامُ رضاعا وقال آخر: ألم تعلمي يا سلم أني موكَّلٌ ... بما سرَّ ندماني في العُسر واليُسرِ وإني لم أبسط لساني ولا يدي ... لوجه نديمي حين خالطني سُكري وقال آخر: وندامى تفردوا بالرحيق ... واصلوا من صبوحِها بالغَبُوقِ كلما دارت الكئوس عليهم ... ملكوا للعلوم كلَّ طريق وتعاطوا على المُدام حديثاً ... مونِقَ النصِّ مُحكَمَ التنميقِ سبقوا كل سابقٍ للمعالي ... واستبدوا بكل فهمٍ دقيق

فهم بين لذةٍ كجَنَى اللثمِ وشِعرٍ كلذةِ التعنيقِ وقال آخر: ولي أملٌ بعيدٌ ليس أثثني ... على شيءٍ سواه وهو سُوْلي أخٌ يلقي نحفظه إذا ما ... خلت بشمائلي شيَمُ الشَّمولِ فأما هيبة نديم السلطان فإنه يلزمه أن يحضر في الزي الذي يُعرف به من غير أن يتفضل أو يشتهر، فإن شاء الرئيس أن يغيِّر زيَّهُ بشيءٍ من ثيابه حَسُن أن يلبس ذلك في وقته حتى ينقضي المجلس ولم يَحْسُن أن يظهر به في مجلسٍ ثانٍ لأنه شيءٌ اختاره الرئيس في شاعةِ طربِهِ وتبذُّلهِ لا في كلِّ أوقاته. وأما العمامة والخفّ فلا يُخَلُّ بهما، وإنما الغرض في ذلك إجلال السلطان عن مشاركته فيما اتسع له من التبذل، وتخيُّر الزِّي الذي لا يثقل عليه، والانفراد به عمَّن هو دونه، وهذا إنما سلك به مسلك الأعاجم، وكانوا قد رسموا لكل طبقةٍ من طبقات أهل مملكتهم برسمٍ من الزِّي ليتميزوا، ولا يتشبه سوقةٌ بملكٍ ولا دنيء بشريف ولا تابع برئيس. ومما يأخذ به نفسه الإسراع في الخطو إذا كان يراه الرئيس، ولهذا، وما أشبهه صار نِدامُ الرؤساء أنعَمَ وأترف، وإن كان ندامُ العظماء أجلَّ وأشرف. وخُبِّرت عن الطبقة العالية من ندامى الخلفاء الماضين أنهم كانوا يجتمعون في منزل أحدهم، فإذا مشى بعضهم في ذلك الموضع مشى مسرعاً وسُئل أحدهم عن السبب في ذلك فذكر أنه إنما يفعله في كل موضعٍ، وإن كان لا يلزمه إلاَّ في موضع الخلافة حذراً من أن يخل بالعادة فينساها في موضعها، وهذه رياضةٌ حسنةٌ، ومما يلزمه أيضاً أن يتحفظ منه ويروض نفسه به، أن لا يصبِّحه ولا يُمسيه ولا يشتمه ولا يستخبره، وإنما ترك ذلك كله لما فيه من تكلف الجواب. وليس من حق ذي الرياسة والسلطان إذا تبين لنديمه منه لينُ الخلوة [و] وِطاء الكتف وخلع ثوب الكبر، أن يستعمل معه من الدالة ما يُنقصه به حقَّ الرئاسة ويقدح في سلطانه. وقالوا: ينبغي لمن خُصَّ بالسلطان أن يكون آنسَ ما يكون به وأوحش ما يكون منه. وقال عبد الله بن جعفر: من أعظم الخَرَق الدالة على السلطان والوثبة قبل الإمكان. وبينما المأمون ينادم إبراهيم بن المهدي، بعد رضاه عنه، وتعمده ما كان منه، تبيَّن منه دالة أذكرته ما تقدم من ذنبه فنهض وأمر بإقراره ومن كان معه على حالتهم، ثم صار إلى مجلسِ جده وتزيَّا بِزِّيِ الخلافة، واستوى على سريره وأذن للجيوش في السَّوادِ والأسلحة، ومُدَّ السماطان وشهرت السيوف، ثم أحضر إبراهيم مغتبقاً مَعْسوفاً، فلما مَثَل بين يديه أطرق عنه مَلياً، ثم رفع طرفه وإبراهيم يُرعد، فقال: يا إبراهيم، من حملك على ما كان، فقال: قد سبق [من] عهد أمير المؤمنين ما لا أخاف عليه التغيير، واعتذر بعذرٍ قبله منه، وردَّه إلى مكانه، وعاد المأمون من وقته إلى مجلس النَّدام. وكان يزيد بن معاوية ينادم الأخطل النصراني. وهجا الأخطل النصرانيُّ الأنصار كثيراً اعتدَّ به على بني أُمية في قوله: بني أُميَّة، قد ناضلتُ دونكُمُ ... أبناء قومٍ، هُمُ، آووا، وهم نَصَروا فأجازه، وكان يُسوي بينه وبينه في أكثر المواضع من مجلسه. وحُكي عن الشريد من كرم المجالسة وحسن البرِّ والمؤانسة ما يجاوز هذا كله وهو أن الفَزازي قال: دخلت عليه بالرقة، ولم يكن معنا ثالث، فتحادثنا ملياً ثم أومأ إلى خادم له فجاء بطبق كبير مغطى بمنديل فوضعه بين يديه فاستخرج من تحت المنديل رطبةً فأكلها ثم استخرج أُخرى فأومأ بها نحوي، فقمت وتناولتها وقبَّلتُ يده وأكلتها، ثم رفع المنديل ولم أرَ في الطبق شيئاً، فقال: أُهدي لنا من العراق هاتانِ الرُّطبتان ولاتَ حينَ الرُّطب، قال: فعلمت أنه أمر بتغطيته لئلا أرى ما فيه فأمتنع من الأكل. وقد رأينا جماعة من جلَّة الرؤساءِ يَتَبدلون أتباعهم ويمتهنونهم من الخدمة فيما يرفعون عن مثله بعض مماليكهم، فإذا خلوا معهم للعشرة والمنادمة استوت بهم العشرة وأوسعوهم من البرِّ والتكرمة حتى إنهم ربما خدموهم أو أخدموهم فلا يقدح ذلك في رئاستهم ولا يحطّ من منزلتهم بل يسترقُّ لهم قلوبهم وتخلص به نياتهم. قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما فيَّ إلا تلك من شيم العبد وقال العطوي: نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مُثرٍ على مُعسرِ

ذكر عدد الندامى وكثرتهم وقلتهم

فلو كنت تفعل ذا في الطَّعا ... م لزمت قياسَك في المسكرِ وكان بعض الكرماءِ يأخذ نفسه بإحضار الدَّنِّ بطينه وينصبه بحيث يراه إخوانه ومنادموه فتُملأ منه الآنية بين أيديهم حتى يتبينوا أن الشراب واحد لا خلط فيه. ومن أكثر الإنصاف في هذا أن يُفرد كل نديم بآلته ومزاجه ويُحكمه على نفسه ويُقلده سقيها على حسب طاقته واحتماله إلا أن من كان غير متسع في الآلة والآنية، فما أعجزه وتعذر عليه منها، فإن العدل في السقي يُمكنه ولا يُعجزه، ويستحسن لأبي نواسٍ قوله: ولست بمستعفٍ من السكر صاحياً ... إذا كان يهوى أن أصير إلى السكر ولكنني أسعى إلى السكر واثقاً ... بما فيه إت أخطأت من سعةِ الصدر فأما طلب الحاجة على النبيذ، فقبيح بالنديم أن يستميح رئيسه على سكره ويُرى ذلك منه يجري مجرى الخديعة ويدخل في باب الحيلة. وكان بعض الأجواد لا يُعطي على الشراب شيئاً حتى يصحو إشفاقاً أن يقال أن السكر جرَّأه على ذلك. فأما إن عدل عن المسألة لنفسه واستماح لغيره فإن ذلك يدخل في باب حسن المحضر، وإذا رفعت الضرورة إلى المسألة فالأحسن في ذلك أن يتوخى له في الأحاديث والمعاريض ما يتدرج السؤال في أثنائِه على ألطف ما يمكن في ذلك وأقربه من النادرة والفكاهة، كما فعل المفضل الضبِّي، وقد رأيت المهدي فلم يزل يحدثه ويناشده حتى جرى ذكر حمَّاد الراوية، فقال له المهدي: ما فعل عياله؟ من أين يعيشون؟ قال: من ليلةٍ مثل هذه كانت له مع الوليد بن يزيد. ذكر عدد الندامى وكثرتهم وقلتهم فأمَّا كثرة عدد الشَّرب وقِلتهم فإنهم يسمّون الإثنين مِنشاراً ويكرهونهما، وكأن الثلاثة أتمُّ مجلساً، لأن الإثنين ينهض أحدُهما لبعض شأنه فيبقى الآخر واجماً منفرداً، فتعرض له الفِكر إذ لم يكن لجليسه من يخلفه في مؤانسته، وليس كذلك أمر الثلاثة، وعندي أن الأربعة أحسن لأن أحد الثلاثة إذا اشتغل الإثنان بحديث لم يعرف الثالث ابتداءه وسببه، احتشم، لا محالة، فمقت نفسه كما قال الشاعر: خِلاَّنِ لي أَمرُهما عجيبُ ... كلاهُما لِخلِهِ حبيبُ ما لي من نجواُهما نصيبُ ... كأنني بينهما غريبُ والأربعة متكافئون وهم أركان المجلس وفيهم [قال] الراجز: إذا عددت صاحبي ونفسي فنحن والشربُ معاً كالنفس وفي الأربعة يقول بعض الكتاب: ثلاثة منحتهم صفائي كأنهم كواكب الجوزاءِ فأراد ثلاثة هو رابعهم. وقال آخر في الثثة: إخالك تدعونا إذا ما دعوتنا ... دعاء يهود مُسْنتين على نهرِ فلا خير في الندمان إلاَّ ثلاثة ... سواء كأمثالِ الأثافي من القدرِ ولمنصور الفقيه إلى بعض إخوانه في ذكر الخمسة: ثم ادعُ منّا خمسةً ... مُتخيرين ولا تزدْ فَدُوَيْنَ هذا وحشةٌ ... وفوَيقَهُ سوقُ الأحدْ وقال آخر في وصفه الندامى من وحدٍ إلى سبعةٍ: إن المعاقر كأسه متفرداً ... من صحبه نكِسٌ لئيمٌ أرجَسُ واثنان يشتد النِّدام عليهما ... وثلاثةٌ بهم يطيبُ المجلسُ ولقد يلَذُّ حديث أربعةٍ لهم ... فيطيبُ مجلسُهم معاً والأنفسُ والغاية القصوى أراها، خمسة ... في دورهم نفسٌ لمن يتنفسُ فإذا هم كثروا فصاروا ستةً ... عطشوا لِحبسِ الكاس [إماّ تُحْبَسُ] وإذا تجمع سبعة في مجلسٍ ... سنحت لهم دون السعود الأنحسُ فظللتَ في سوق المِراء معسكراً ... وترى حلومهم بجهل تُخلسُ وكان رجل من جِلَّةِ الكتاب إذا أصاب أهلَ بلدِهِ شدةٌ رفع الحُوَّارَى عن خُوانه وأكل الكُشكار، ورأى أن يساويهم في أكثر ما يقدرون عليه إذ لم يمكن أن يَعُمَّهم، وهذه مكرمة سبق إليها السابق بالخيرات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رض) فإنه عامَ الرَّمادة لم يذق لحماً ولا سمناً حتى أحيا الناس، وإنماكان غذاؤه الخبز والزيت حتى وصف لونَهُ بالأُدمة من كان يصفه بالبياض. وذمَّ رجل رجلاً فقال: أَمّا فلانٌ فدعواته ولائم وأقداحه محاجم.

ذكر ما جاء في طي بساط النبيذ

وقال إسحق الموصلي وذكر النُّدماء: الواحد غمٌّ، والإثنان همّ، وثلاثةٌ قِوامٌ، وأربعةٌ تمامٌ، وخمسةٌ زحامٌ، وسبعةٌ جيشٌ لُهام. وأنشد البريدي: وخير الندامى ستَّة من ذوي الحِجى فخمسة إخوانٍ وآخرُ مُسمعُ ويبقى لديهم جاهل ومعربدٌ ... ومبدٍ لأسرار الندامى مُضيِّعُ وقال دعبل، ورويت للفرزدق: إذا ما جاوز الندماء كَفِّي ... بربِّ البيت والساقي الأديبِ فأيري في حِرِ أُمِّ فتىً دعانا ... وأيري في حِرِ أمِّ فتىً مُجيبِ وقال محمد بن أحمد الكاتب: ثلاثةٌ في مجلسٍ طيِّب ... وصاحب المنزل والضاربُ فإن تجاوزتَ إلى ستةٍ ... أتاك منهم شغب شاغِبُ وقال ابن الطليق الثقفي: ولا خير في الندمان إلا ثلاثةٌ ... سواءٌ كأمثال الأثافيّ في القدر فإن كان فيهم رابعٌ كان مُسمِعاً ... يُسلي بأصوات له شجنَ الصدر ذكر ما جاء في طيِّ بساط النبيذ أول من قال ذلك المأمون. قال: النبيذ بساط فإذا رُفع طُوي بما كان عليه. أخذه بعض الشعراء فقال: إذا رفع النبيذ فليس حزماً ... إعادة ما يكون على النبيذِ إعادة ما يكون من السكارى ... ينغِّصُ لذَّة العيش اللذيذِ وكان المأمون قد نقل معلمه أبا محمد اليزيدي إلى حضور مجلس الأُنس والمنادمة فقال المأمون، في بعض حديثه، سداد من عَوَز، فقال له اليزيدي، أخطأت، إنما ياقل: هاهنا سِدادٌ من عوز، ومنه قول العرجي: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثغرِ فقال له: مقبولٌ منك يا أبا محمد، فلما انصرف وصحا من سكره كتب إليه معتذراً: أنا المذنب الخطَّاءُ والعفو زاسع ... ولو لم يكن ذنب لما عُرف العفوُ سكرتُ فأبدت منِّي [الكأسُ] بعض ما ... كرِهتَ، وما إن يستوي السكرُ والصحوُ ولا سيما إذ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلسٍ ما إن يجوز به اللغوُ فإن تعفُ عنِّي ألفِ خطوي واسعاً ... وإلا يكن عفوٌ، فقد قَصُرَ الخطوُ فوقع عليه: يا أبا محمد، النبيذ بساط يطوى بما كان عليه، ولا يُنشر، ويُنسى ما كان منه ولا يذكر، فأخذ هذا القول الناشئ فقال: إنما مجلس الندامى بساطٌ ... للأحاديث بينهم بسطوهُ فإذا ما انقضى الشراب وقاموا ... لانصرافٍ من فوقهِ رفعوهُ وشرب مع يحيى بن جعفر بعضُ ندمائه فلما سَكِر كلَّمه كلاماً جفا عليه، فلما صحا ندم، وكتب إليه: سيدي أنت إن تعاظم ذنبي ... فاعف عنِّي فأنت للعفو أهلُ لا تؤاخذ بما جنته يدُ السُّكرِ فتى ما له على الصحوِ عقلُ فوقع إليه: عذرك مبسوطٌ، واللوم عنك محطوط، وحقُّ ما جرى على النبيذ أن يغفر ويُستر وينسى فلا يذكر. وكان الحسين بن الضحاك الخليع ينادم المعتصم، فغضب عليه في شيءٍ جرى على النبيذ أحجبه أياماً فكتب إليه: غضب الإمام أشد من أدبهْ ... وبه استجرتُ وعذتُ من غضبه لا والذي لم يُبق لي سبباً ... أرجو النجاة به سوى سببه ما لي شفيع غير رحمته ولكلِّ من أشفى على عطبه فلما قرئت عليه، التفت إلى الواثق فقال: إن هذا الكلام ليعطف الكرام، لقد زال ما بنفسي عليه، ورضي عنه وأمر بإحضاره. وكان ابن جوار، كاتب العباس بن أحمد بن طولون، ينادم أبا حفصٍ الشطرنجي، فنقل ما يجري في مجلسه إلى العباس، فكتب إليه أبو حفص: إنما مجلس النبيذ مجلس أنسٍ ومسرح لبانة وذائدُهم ومرتع لهوٍ ومعهد سرورٍ وموطن لذَّة، فإذا انقضى طُويَ ما كان فيه ولم يذكر ما دعت إليه دواعيه، ثم قال: ولقد قلت للأخلاءِ يوماً ... قول ساعٍ بالنصح لو قبِلوه إنما مجلس النبيذ بساطٌ ... للمودَّات بينهم وضعوه فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيمٍ ولذةٍ رفعوه

باب الإكثار والإقلال من الشرب

وشرب كوران المغني عند الشريف الموسوي فافتقد رداءه فلما أصبح قال: سُرِقَ ردائي، فقال له الشريف: يا سبحان الله، ما مَعَنا من يُتَّهَم، أو ما علمت أن النبيذ بساط يطوى بما عليه، فقال كوران: انشروا بساطكم حتى أجد ردائي، ثم اطووه إلى يوم القيامة. وشرب الرشيد يوماً وإبراهيم الموصلي يغنه: إلى أن أخذ الشراب من إبراهيم فكلَّم الرشيد كلاماً أغضبه ثم استيقظ إبراهيم لذلك فغناه: ما لعبدٍ أذلهُ مولاه ... ما له شافعٌ إليه سواه يشتكي ما به إليه وخشاه ويرجوه مثل ما يخشاه فقال له: لِيَفْرُخْ رَوْعُك، يا إبراهيم فإنا لا نؤاخذ بما يجري على النبيذ من الزَّللْ واستعادَه فيه مراراً، وأمر له عند انصرافه بصلةٍ سنيَّة. باب الإكثار والإقلال من الشرب الناس في هذا الباب مختلفون، وعلى قدر طبائِعهم متباينون، لأن التركيب والمزاج والقوة والضعف أمرٌ لا يتساوون فيه، فليس من العدل بين المتنادمين أن يُكلفَ القويُّ على الشرب من ضَعُفَ عنه أن يشرب كشربه بل يشرب كل امرئٍ بقدر طاقته، واحتمال مزاجه. قال: ومما يغلط فيه أكثر المتنادمين وجمهور المتعاقرين، افتتاح الشرب بالقدح الصغير، والترقي منه إلى الكبير، وهم [أجدر] بالابتداء بالكبير، في حال جُمامِهم، وحاجتهم إلى هضم طعامهم، وإحماء مجلسهم، حتى إذا ترنحوا وانتشوا كانوا بالنزول إلى الصغير أولى، وبالأبقاء على عقولهم أحرى. وربما لم يكن غناؤهم ممتعاً فيُعفى تعجيلهم الطرب على تقصيره، ويغطي ارتياحهم على معايبه. ولو صادفهم على غير تلك الحال للحقهم الفتور وقل نشاطهم للكبير. فأما الإكثار والإقلال فليس النديم فيهما مختاراً. وقال أبو نواس: الكرم ثلاثة عناقيد، عنقود التذاذ وعنقود سكرٍ وعنقود عربدة. قال كشاجم: قلت لبعض النبيذيين، هذا أميركم وكبيركم أبو نواس يقول: سألت أخي أبا عيسى ... وجبريل له عقلُ فقلت: الراح تعجبني ... فقال: كثيرها قتلُ فقلت له: فبيِّن لي ... فقال: وقوله فَصْلُ وجدت طبائع الإنسان أربعة هي الأصل فأربعة لأربعةٍ ... لكل طبيعةٍ رطلُ يعني جبريل بن بختيشوع، فاقتدِ به في هذا القول، فقال: إنه لم يعترف لنا أن هذا رأيه، وإنَّما حكى عن الطبيب، أنه أشار عليه، وسكوته عن الجواب يدل على أنه لم يرض الابتداء، فأما الرئيس ذو الملك والأمر النافذ فلو كان السكر حلالاً لا اختلاف فيه لكان عليه حراماً لا اختلاف فيه لأن بادرته إلى نفسه وغيره لا تستقال، وأمره لا يراجع ولأنه يَقهر ولا يُقهر، فتقع منه الجناية العظيمة التي تُلحقه الندامة وتلبسه العار والمسبة. الصولي قال: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: كنا عند الحسن بن وهب وبنانٌ تغنِّيه، فابتدأ الحسن يسكر من أول شربه، فقلنا له ذلك، فجذب الدواة وكتب: من كان لا يزعمني عاشقاً ... أحضرتهأوضَحَ برهان إني على رَطلينِ أُسقاهُما ... أروح في أثواب سكران وكنت لا أسكر من سبعةٍ ... يتبعها رطل ورطلان فصار لي من، سكرات الهوى ... والراح؛ سكران عجيبان قال الأعشى: ولقد شربت ثمانياً وثمانياً ... وثمان عشرة واثنتين وأربعا وقال الفرزدق: أسقني خمساً وخمساً ... وثلاثاً واثنتينِ من عقارٍ كدم الجَوْفِ بحرّ الكلبتين واسقِ هذين ثلاثين يروحا فرِحين وقالت الأطباء على الجملة، لا خير في الإكثار من النبيذ لأن الإكثار منه مضرَّة، وكما أن الإقلال منه منفعة وكل ما كان بقدر الحاجة إليه فهو محمود. وقال اليزيدي: ألا قل لإخوان المدام تسمعوا ... فإن كلامَ النُّصح يوعى ويُسمعُ ثلاثة أرطالٍ لدى اللُّب مقْنعٌ ... وفي أربعٍ أُنسٌ له وتمتعُ وقال أبو تمام: شربُ المدام على الطعام ثلاثة ... فيها الشفاءُ وصحة الأبدانِ تمري الطعام وتبتلى بمسرةٍ ... وتزيل كلَّ الهم والأحزانِ واحذر هُديت كثيره فكثيرُهُ ... سَرْجٌ عليك لموكب الشيطان

ذكر ما جاء في الصبوح

وقالت الفلاسفة: من أحب ألا يسكر سريعاً فلا ينبغي أن يمتلئ من الطعام جداً ولا يأكل الحلاوة، بل يأكل من ثريدة دسمة ومن اللحم أكلاً معتدلاً، ومما يُعين على الشراب والاستكثار منه أكلُ الكرنبية والقُنّبيطيَّة والعدسية ويتنقل بحماض الأُترج والأشياء المملوحة، ومما يعجل صحو السكران أن يسقى خلاًّ بماءٍ بارد ويجرَّع من لبن رائب شديد الحموضة ويصبُّ على رأسه خل خمر ودهن ورد وشم الكافور والصندل وماء الورد ويضع أطرافه في ماء حار وإن كانت في معدته بقية شراب فليتقيأ ويطعم لُقماً من ماء الحصرم والعدس والكرنب، وقال بعض الكتاب: غادِنا بالمُدام غُرَّة يوم السبت إني أُحب فيه المُداما وأدِرها عليَّ في الأحد المقبل إني نذرت ذاك اغتناما وأطعني في السكر يومَ الثُّلاثا ... واعصِ فيه امرءاً على السُّكر لاما واقطع الأربعاءِ تنفي [بها] النَّحسَ [لئلا] يكون يومُك عاما والخميس الخميسُ أنيسٌ ... فابتسم بالمدام فيه ابتساما وأصبحني من المُدامة في الجمعة تجمع بها سروراً تماما إنما القادر العظيم تعالى ... جدَّه يغفر الذنوب العظاما وقد تقدمن أبو نواس في ذكر هذه الأيام ومواصلتها تقدماً لا يسبق فيه وقد مضت قصيدته الدالية في هذا. ذكر ما جاء في الصبوح لم يُرو أن أحداً من الملوك والسراة المتقدمين والجلة الأولين والآخرين حث على التغليس بالطعام ولا اللِّباس ولا شيء مما يلتذونه غير الشراب فإنهم رأوا الجاشرية وهي شرب السحر عُنماً حاضراً والصبوح حظاً وافراً وأقروا بذلك، واستظرفوا أصحابه ونسبوا مستعمله إلى المروءة ووصفوه بالمروءة، قال شاعرهم: وأبيض، لا وانٍ، ولا واهنُ القوى ... سقيتُ، إذا أُولى العصافير غَنَّتِ وقال آخر: قم فاسقني قبل أصوات العصافير ... أما ترى الصبح ق نادى بتنوير وقال إسحق الموصلي: خليليَّ هيَّا، نصطبح بسواد ... ونَروِ قلوباً هامُهنَّ صَوادِ وقد استقصينا كثيراً مما قيل في الصبوح عند ذكرنا الأشعار التي أوردناها على حروف المعجم في آخر هذا الكتاب. وسأل قيصر ملك الروم قُسَّ بن ساعدة الإيادي: ما أصلح أوقات الشراب، قال: أول النهار، ألا ترى الدواء يبكر به والمسافر يدلج لحاجته، لأن العقول أول النهار أذكى والفِطن أصح. قال والبة بن الحباب: قم يا نديمي ق قضيت لبانةً ... من طول ليلِك في رقادك فاقعُدِ وتداوَ من مرض الخمار بشربه ... تنفي الخُمار وإن بدا لك فارقدِ قال: الصبوح، فقلت: هعات، فقال: خذ منِّ، فقلت: أبتْ تطاوعني يدي فرددت منه الروح فيه بشربةٍ ... درياقةٍ تشفي سليم الأسود وقال آخر: اشرب الراحَ على روحِ السِّحرْ ... وأرِح قلبَكَ من حوكِ الفِكرْ واسقينا قهوةً مشمولة ... ليس للهمِّ لديها مُستقَرٌّ حاجة الروح فإن قضيتها ... فنجاح الأمر يُرجى في البُكرْ أي شيءٍ حسنٍ لم تَرَهُ ... في عروس القُفص تُجلى في القمر وهي عذراءُ ولمَّا تُفتَرع ... عذرة العذراء في مثل السحر واغتنم فيه الهواءَ المُرتدي ... برداءِ الصفوِ من قبل الكدر وارتضع في السَّحرِ الأكبر ما ... ما يترك العَيْنَ من الهمِّ أثَر وقال كُشاجِم: هذا الصباحُ فما الذي ... بصبوح صحبك تنتظرْ خذ من زمانك ما صفا ... ودَع الذي فيه الكَدَرْ فالعمر يقصر عن معاتبة الزمان على الغيرْ وقال: ألذُّ العيشِ إتيان القبيح ... وعصيان النصيحة والنصيح وإصغاءٌ إلى وترٍ ونايٍ ... إذا ناحا على دنٍّ جريح غداةَ دُجنةٍ زطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزَّهَر المليح وكان عبد الله بن المعتز ربما كَرِهَ الصبوح فكتب إليه النميري: قبَّح الله شرب كل نبيذٍ ... يُتوخى في وقت شُرب التجار إنما يشربُ الملوك مع الفجر وفي الروح قبل نصف النهار

قد تأذت بنا الشياطين والجنُّ جميعاً وصالح العُمَّار ودعوا ربَّهم علينا وقد أمن أيضاً غلمانُ هذي الدار حيث يحيا ليلُ التمامِ إلى الصبح ويهوي في ساعةِ الانتشار وشُربُ الصَّبوح سمِّي بطلوع الصُّبح، وكل شرب في أول النهار قبل انتصافه فهو صبوح، وإنما أكثر الشعراء في الصَّبوح دون غيره من أوقات الشرب وحَثوا عليه ليسبقوا من يعذلهم قبل أن يعدُو عليهم لأن من شأن العاذِل أن يعدو على من يريد عذله على ما فعل في أمسه لأن ذلك في وقت صحوِهِ وإفاقته من سكره فيعظه عن معاودة مثله ويقرِّعه بزَلَّةٍ إن كانت منه في سُكره، فاستعملوا مسابقة عُذَّالهم بمباكرة صبوحهم في الجاهلية والإسلام. وقال طرفة بن العبد: ولولا ثلاث هُنَّ من لذةِ الفتى ... وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي فمنهن سبقي العاذلات بشربةٍ ... كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماء تُزيدِ وقال القطاميُّ: أفِرُّ أصبحتُ من كل عاذلٍ ... وأُمسي وقد هانت علي العواذلُ وقال ابن الرُّقيات: بكر العواذل في الصباح يلُمنَني وألومُهُنهْ ويقُلن شيبٌ قد عَلاكَ وقد كبرت فقلتُ إنَّهْ إنه: بمعنى نَعَم وقال كشاجم: إذا ما اصطبحت وعندي الكباب وكان الطباهج في جانبي وكانت رياحيننا غضة ... وصفراء من صنعةِ الراهب فليس الخليفة في ملكه ... بأنعم مني ومن صاحبي وقد استحسن أكثرهم الصبوح على الرياض المونقة والأزهار المشرقة والصباح المغيِّم. قال الصنوبري: يومُ دَجنٍ فما انتظاري ويومُ الدَّجن يومٌ إلى القلوب حبيبُ ولزهر الرياض ضحكٌ وللغيم بكاءٌ على الثرى ونحيبُ فالصبوحُ، الصبوحَ، يا سيد النَّاس فمستعملُ الصبوح مصيبُ وقال أبو عبد الرحمن العطوي: قبَّح الله أولَ الناس سَنَّ الشُّرب ظهراً ماذا أتى من خَسارِ مجلس مُونقٌ وكأس وندمانٌ وتأخيرها إلى الأظهارِ نكتةٌ في السرور بادية الشَّيْنِ لأهل العقول والأبصار إن شرب المدام سيرٌ إلى اللهو وخير المسير صدرَ النهار ما رأينا الكواكب الصبح شكلاً ... كنديم مساعِدٍ وعُقار وغناءٍ يفتُّ في عضدِ الحُلم ... ويزرى على النهار الوقار وأحاديث في خلال الأغاني ... كابتسام الرياض غِبَّ القطار وقال عبد الله بن المعتز: لي صاحب قد لامني وزادا في تركي الصبوح ثم عادا قال: ألا تشرب في النهارِ وفي ضياء الفجر والأسحار إذا وشى بالليل صبح فافتضح وذكر الطائر شجوٌ فصدحْ والنجم في حوض الغروب واردُ والفجر في إثر الظلام طاردُ ونفض الليلُ على الأرض النَّدا وحركت أغصانه ريح الصَّبا وقد بدت فوق الهلال كرَتُهْ كهامة الأسود شابت لِحيته فحسَّن الدار ببعض نورِهِ والليل قد رقَّع من سُتورِهِ أما ترى البستان كيف نورا ونشر المنثور بُرداً أصفرا وضحك الورد إلى الشقائِق واغتبق القطر اغتباق وامق في روضةٍ كحلل العَروسِ وخُرَّمٍ كهامة الطاووس وياسمين في ذُرا الأغصان منتظماً كقطع العِقيان والسَّرو مثل قُضُب الزبرجدِ قد استمد الماء من تربٍ نَدِ على رياض وثرى ثَرِيِّ وجدول كالبَرَد المَجلِيِّ وفَرَّخَ الخشخاش جيباً وفتق كأنه مصاحِفٌ بيضُ الورق أو مثل أقداحٍ من البلورِ كأنما تجسمت من نور وبعضه عُريان من أثوابهِ قد خجل البائس من أصحابهِ تبصره بعد انتشار الورد مثل الدبابيس بأيدي الجندِ والسوسنُ الآزرُ منشور الحِللْ كغصن قد مسَّهُ بعض البللْ وقد بدت فيه ثمار الكنكرِ كأنها جماجم من عنبرِ وجلنارٍ كاحمرار الخدِّ أو مثل أعراف ديوك الهندِ والأُقحوان كالثنايا الغُرِّ قد صقلت أنيابه بقطرِ قل لي أهذا حسنٌ بالليل ويلي مما تشتهي وعَولي بتْ عندنا حتى إذا الصبح سَفَر كأنه جدول ماءٍ ينفجر

ذكر ما جاء في ذم الصبوح

قمنا إلى زادٍ لنا مُعَدِّ وقهوةٍ صرَّاعة للجِدِّ كأنما حبابها المنشور كواكب في فلكٍ تدور ومسمعٍ يلعب بالأوتارِ أرقّ من نائحة القماري ذكر ما جاء في ذمِّ الصبوح قال عمرو بن بحر الجاحظ: سمعت أبا الفاتك قاضيي الفتيان يقول: أنهاكم عن الصَّبوح فإنه لا يصلح إلاَّ لملك مهيب قد كفاه ما وراء بابه، وزراؤه وأعوانه، فإذا اصطبح وأقبل على لهوه ولذته لم يلمه على ذلك لائم، ولا عذله فيه عاذل، وليكن صبوحه أيضاً: وقتٌ بعد أوقات، فإنه إن أدمنه شغله عن النظر في أمور مملكته ولم يأمن سوءَ عاقبته، فأما من دونه من خدمه وطائفته وبطانته فليجتنبه بالجملة، فإنه قد يعرض للملك حاجة إليه وهو على تلك الحال فربَّما كان في ذلك تلف مهجته وذهاب نعمته، فأما دون هؤلاء من أوساط الناس والتجار وأشكالهم والصناع بأيديهم وأمثالهم فإنه مفسدة لأحوالهم، مشغلة عن قوام معايشهم وما يعود بمصالحهم إلا أن يكون في الفلقة والندرة، أو في يوم غيمٍ مطبقٍ وسماءٍ تهطل وزلقٍ ولثقٍ يمنع من التصرف ويقطع عن قضاء الحاجة. وأما الصَّبوح على هذا الوجه فغلط لا معنى له لما يحدث فيه من الآفات وما يجلبه من الهموم التي لا يفي بصغيرها كثير سروره، ولا يقوم محبوبه بدفع محذوره، أول ذلك تفاوت الندماءِ في اجتماعهم للحاجة فتعرض لأحدهم فلا يجد بداً من النظر في قضائها، فإن انتظروه بطعامهم أفسدوه، فإن أكلوا وشربوا دونه، فإذا جاء طلب ما يأكل، فربَّما لم يحضر وقُدِّم إليه طعام لا يوافقه فلم يستوف منه ما يُذهب به عادية الشراب، ثم بادروا إلى سقيه ما فاته حتى يلحق بهم، فإن كان مساعداً شرب ما لا يطيقه وربما ألفى منه ما أكله، وكان شربه مما يحرق كبده ويطيل كمده، وإن كان حَرِجاً متبرماً صار إلى المحاربة، ووقع القوم في قيل وقال حتى ربَّما خرج الأمر إلى العربدة، وقلَّ صبوح سلِمَ أهله من عربدة، ولا بد أن يرقد القاعد ويقوم الراقد فإذا استيقظ النائم طلب معاودة الطعام فلم يتفق له، وإن وجده وانتبه آخر طلب أيضاً طعاماً فيحصل صاحب المنزل وأهله في الحركة والاضطراب، ومقاساة أليم العذاب، ومع منام من نام وبسكر من يسكر، ذهابُ النقل بسرقة الغلمان ونقل الصبيان وشربهم بالصغار والكبار، ةربما ثقل الغلام يده بالجرة الملأى، أو المنتصفة، وربما مدَّ يدَهُ إلى المنديل والأُشنانة والشيء الخفيف الذي يمكنه أخذه. فإن نام المولى وأراد بعضهم المسير إلى منزله منعه الغلام، وحال بينه وبين ثوبه أو خُفِّه أو نعله، وقال: لا أدعك حتى ينتبه مولاي، لأني أخاف سطوته، وقوله: هلاَّ حبسته حتى ينتبه، فيشتم مولاه فإن غلب عليه [و] خلاَّه كان في خروجه الفضيحة، وقال الناس: لعن الله من أخرجه من منزله على مثل هذه الحال، ولم يعرف ما يجب لضيفه عليه، ولا رعى حقه، وفي خلال ذلك التعرِّي في الدار ومغازلة الخادم والتكشف للبول حيث لا ينبغي مع قلة التحفظ من النجاسة وترك الصلوات وإضاعة المفروضات وشعث الشعور ووسخ الجلود وغير ذلك من الآفات التي يطول ذكرها.

وأما الوجه الآخر، فإن أراد ندماؤكم الانصراف فلا تمنعوهم من ذلك ولا تحبسوهم للمبيت، واحذروا ذلك غاية الحذر، فإنن آفات المبيت أعظم ضرراً مما ذكرنا منن آفات الصبوح لأنه قد يكون في القوم الخفيف المنام، السريع القيام فيفرّ عنه نومُه، ويحتاج إلى المؤانسة فيقيم من يطيب له النوم ويشتد عليه القيام، ويمتنع منه الكلام، فإن ساعده بعضهم، احتاج إلى تجديد المجلس وطلب الطعام، ولعل ذلك يتعذَّر على العيال في جوف الليل فلم يكونوا أعدُّوا منه عُدة، ولو كان معداً، لقد كان في إيقاد السِّراج، وإيقاظ النيام، وإحضار الطعام والشراب أشدّ الإبرام. وإن كان في القوم دبَّابٌ عند إطفاء السِّراج ونزول الظلام. وقد بيَّت على الغلام فأخطأه وأصاب المولى وبعض الندماء، فيا لك من رفسةٍ ولكمةٍ ولطمةٍ وجدع أُذن بكدمةٍ، فإن احتيج إلى إشعال السراج لينظروا من الفاعل ولم يكن في الدار نار وفتح الباب وخرج الغلام ورافق ذلك مرورُ الحرس فقُبض عليه وحُبس فإن أَحسُّوا بهيمنة العربدة، كسروا الباب ودخلوا الدار وولَّد ذلك أكثر مما كانوا فيه وكانت الفضيحة بين الجيران وثقل المغرم لأعوان السلطان، وإن سلموا من هذا كلّه وانتبهوا عند الصباح، طلبوا الرؤوس وعرفوا بالصبوح، ووصلوه بالغبوق، فحلَّ على صاحب المنزل يوم ودعوتان في دعوة، واتصل نصبُه وطال تعبه. وآفات هذا الباب كثيرة، ولو استقصيتها لكم لطال بها الخطاب. والذي أُوصيكم به أن يجوِّدوا نبيذكم ما استطعتم وإن قلَّ طعامكم وتعذَّر، فإن مسافة الطعام قصيرة قليلة، ومسافة الشراب كثيرة طويلة، فإنكم إذا اهتممتم للفتيان في الطعام، وأتيتموهم بالحار والبارد من الجداء والحملان والسمك والدجاج والبط والدُّرَّاج والحلو والحامض ثم قدَّمتم إليهم شراباً غير طيب، نغَّصتم عليهم جميع ما أكلوه عندكم، ولو عظم إنفاقكم عليه ولو أتيتموهم بكل غريب من النقل والريحان والطِّيب والأدهان لما أصلح ذلك كله خسار شرابكم. فإن غبت تشاكوا، وإن حضرت كانت غاية أحدهم حبس كأسه في يده وإن غفل الساقي عنه كبه في ذلك الريحان فيدعي أحدهم مغساً في جوفه، وآخر صداعاً برأسه، وآخر يقول في نفسه ليتني اعتذرت ولم أكن جئت، وأنتم إذا قدَّمتم اليسير من الطعام الذي لا كلفة فيه عليكم وجودتم شرابكم حُمدت دعوتكم ولذَّت معاشرتكم وسَرَّت منادمتكم وعرف موقعها، فأحسنوا التدبير في جودة النبيذ، فإنه من أفضل ما تحوطون به أنفسكم وتحفظون به مروءاتكم وفقكم الله وسدَّدَكم. وقال ابن المعتز في ذم الصبوح: اِسمع فإني للصَّبوح عائبُ عنديَ من أخباره عجائبُ إذا أردت الشرب عند الفجرِ والنجم في لجة ليلٍ يجري وكان بردٌ بالنسيم يرتَعِدْ وريقُهُ على الثنايا قد جَمَدْ وللغلام ضجرة وهَمْهمة وشتمة في صدره مُجمجمة يمشي بلا رجلٍ من النُّعاسِ ويدفق الكأسَ على الجُلاَّسِ ويلعن المولى إذا دعاهُ ووجههُ، إن جاءَ، في قفاه فإن أحسَّ من نديمٍ صوتاً قال مجيباً: طعنةً وموتا أعجل من مسواكهِ وزينتهْ وهيئة تظهر حسن صورتِهِ وإن يكن للقوم ساقٍ يُعشقُ فجفنه بجَفنه مُرَنَّقُ ورأسهُ كمثل فروٍ قد مُطِرْ وصدغهُ كالصولجان المنكسِرْ فإن طردتَ البردَ بالسُّتورِ وجئت بالكانونِ والبخورِ فأي فضلٍ للصبوحِ يعرفُ على الغبوقِ والظلام مُسدفُ ولو دَسَسْت في استِ محمومٍ لما نجوت من قُرادٍ إما صَمَّما تحسب في رياحه الشمائل صوارماُ ترسب في المفاصل وقد نسيت شررَ الكانونِ كأنه نثار ياسمينِ يرمي بها الجمر إلى الأحداقِ فإن وَنَى قرطسَ في الآماق وترك البساط بعد الخمدِ بنقطٍ سودٍ كجلد الفهدِ وقطَعَ المجلس في اكتئابِ وذكر حَرْقِ النار للثياب ولم يزل للقوم شغلاً شاغلاً وأصبحت ثيابهم مناخِلا حتى إذا ما ارتفعت شمس الضحى قيل فلان وفلانٌ قد صحا وربما كان ثقيلاً يحتشِمْ فطوَّلَ الكلام حيناً وجَشَم ورفِعَ الرَّيحان والنبيذ وزال عنا عيشنا اللذيذ ولست في طول النهار آمناً

ذكر ما جاء في التداعي

من حادثٍ لم يك قبل كائنا أو خبرٍ يكرَهُ أو كتابِ يقطع طيبَ اللهوِ والشراب واسمع إلى مثالب الصبوحِ في الصيف قبل الطائر الصدوح حين حلا النوم وطاب المضجعُ وانكسر الحرُّ ولذَّ المهجَعُ وانهزم البق وكن رتَّعا على الدماء وارداتٍ شُرَّعا من بعد ما قد أكل الأجسادا وطيرت عن الورى الرقادا فقرب الزاد إلى نيامِ ألسنهم ثقيلة الكلام من بعد أن دبَّ عليه النملُ وحيةٌ، تقذف سُمًّا، صلُّ وعقرب ممدودة قتالة وجُعلٌ، وفارة، بوَّالة وللمغني عارضٌ في حَلقِهِ ونفسه قد قدحت في حذقِهِ وإن أردت الشُّرب بعد الفجر والصبح قد سَلَّ سيوفَ الحرِّ فساعةٌ ثم تجيءُ الدامغة بنارها فلا تسوغ سائغة ويسخن الشراب والمزاجُ ويكثر الخلاف والضجاجُ من معشرٍ قد جرعوا الحَمِيما وطعموا من زادهم سمُوما وغيمت أنفاسُهم أقدحهم وعذبت أبدانهم أرواحهم وأولعوا بالحكِّ والتفركِ وعصب الآباط مثل المرتكِ وصار ريحانهُمُ كالقَتِّ فكلُّهم لكلِّهمْ ذو مَقْتِ وبعضهم يمشي بلا رجلينِ ويأخذ الكأس بلا يدين وبعضهم عند ارتفاع الشمسِ يحسُّ جوعاً مؤلماً للنفسِ فإن أسرّ ما به تهوسا ولم يُطق من ضعفه تنفُّسا وطاف في أصداغه الصُّداعُ ولم يكن بمثلِهِ انتفاع وكثرت حدَّتُهُ وضجره وصار كالحمى يطير شررُه وهم بالعربدة الوحيَّة وصرف الطاسات والتحيَّة وظهرت شِرَّتُهُ في خُلقِهْ ومات كل صاحب من فَرَقِهْ فإن دعا الشقيُّ للطعام خيَّط جفنيه على المنام وكلما جاءت صلاة واجبة فسا عليها فتوَّلت هاربة فكدَّر العيش بيوم أبلقِ أقطارُهُ بلهوهِ لا تلتقي ومن أدام للشقاءِ هذا من عله والتذَّه التذاذا لم يلفَ إلا دَنِسَ الأثوابِ مُهَوَّساً، مُهَوَّس الأصحاب يزداد سُهداً وضنى وسُقما ولا تراه، الدهر، إلا فَدْما ذا شاربٍ وظُفرٍ طويلِ ينغصُ الزادعلى الأكيلِ وعينه محمرة الآماقِ وأُذنه كجفنة الدَّقاقِ وجسد عليه جلدٌ من وسخ كأنما أشربَ نفطاً أو لَطَخ تخال تحت إبطه إذا عَرِقْ لحية قاضٍ قد نجا من الغَرَقْ وريقه كمثلِ طوقٍ من أَدَمْ وليس من ترك السؤال يحتشِمْ في صدره من واكفٍ وقاطِرِ كأثرِ الذَّرْقِ على الكنادِرِ هذا لنا وما تركت أكثرُ فجربوا ما قلتُهُ وفَكِّروا ذكر ما جاء في التداعي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من دخل على غير دعوةً دخل سارقاً، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله. وعنه " ص " أنه قال: إذا دُعيَ أحدكم فجاء مع رسولٍ فإن ذلك له إذنٌ. ودعا رجل عليَّ بن أبي طالب " رض " إلى طعامٍ فقال: نأتيك على ألاَّ تتكلف لنا ما ليس عندك، ولا تدَّخِر عنا ما عندك. وكان يقول: شرٌ الإخوان من تُكُلِّفَ له. وقال ابن عباس (رض) : من نقل قدمه إلي فله الفضل عليَّ، وكان بعضهم يقول: بليَّةٌ تضني البدنن؛ رسولٌ بطيء، وسراج لا يضيء، وانتظار من لا يجيء. وقال ابن عباس (رض) : دعاني رجل إلى وليمة يوم جمعة، فبكَّرت إلى المسجد، فلم أنصرف إلى العشيِّ، فلقيني الرجل فقال: عصَيْتَ الله في هذا اليوم ثلاث مرات؛ قال الله عز وجل: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، فسعيت قبل النداء، وقال: إذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، فتركت الانتشار إلى العشي، ووعدتني فأخلفت، فلم يكن لي جواب إلاَّ أن قلتُ: لا أعود. وكتب العدوي إلى صديق له: كنتَ المُعَزِّي بفقدي ... وعِشْتَ ما عِشت بعدي أَهدي إليَّ أخٌ لي ... سُلَيْلَ مِسْكٍ وورد أرقَّ من دمع صَبٍّ ... يشكو صبابة وجدِ فاخلع عليَّ سروراً ... بكونك اليوم عندي وكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى صديق له:

صباحٌ مطيرٌ، ووجهٌ نَضيرُ ... وقدرٌ تفور، وكأسٌ تدورُ وبيني وبينك ما قد علمت ... ببيتٍ يَسُرُّ وشعرٍ يَسيرُ فقم نصطبح قبل فوت الزمانِ ... فإن زمان التلاقي قصير وكتب البحتري إلى المبرِّد: يوم سبتٍ، وعندنا ما كفى الحُرَّ، طعامٌ، والوردُ منّا قريبُ ولنا مجلس على النهر فيَّاح فسيحٌ، ترتاح فيه القلوبُ ودوامُ المُدام يدنيكَ مِمَّن ... كنت تهوى، وإن جفاك الحبيب فأْتِنا يا محمدُ بن يزيدٍ ... في استتارٍ كي لا يراك الرقيب تطرد الهمَّ باصطباح ثلاثٍ ... مُترَعاتٍ، تُنفي بِهِنَ الكروبُ إن في الراح راحةً من جوى الحب وقلبي إلى الأديب طَروبُ لا يرعك المشيب منِّي فإني ... ما ثناني عن التصابي المشيب إبراهيم بن إسماعيل: صباح مطيرٌ، وعيش نضيرُ ... وقدرٌ تفور، وكأس تدور وفينا مساعدة جمَّةٌ ... يتمُّ بها لي فيك السرورُ فإن كان هذا كما قد وصفت فإنَّالتفرُّقَ خطبٌ كبيرُ فقم نصطبح قبل فوت الزمان ... فإن زمان التلاقي قصير قال إسحق: وكتب إلي العباس بن جرير: لو لم يكن في الاجتماع عندنا إلاَّ طرح الحشمة، وتأكيد المودَّة، لكان كافياً، فكيف وفيها من مفارقة الأحزان ما أنت عارف والسلام. وقال آخر: اليوم يوم كتابِ ... ويوم إغلاق بابِ ويوم ناي وعودٍ ... ونرجس وشرابِ وقال آخر: يومنا طيب ولو شاء ربي ... زادني فيه باقترابك طيبا ليس يصفو إلاَّ بقربك لي عيشٌ، ومن لي بأن تكون قريبا ولعمري لو شئت زرتَ، ولو زرت، لما كان ذاك منك عجيبا وكتب ذيك الجن، إلى بعض إخوانه: لك عندي من طِّيب الورد أطباق ملاحٌ تدني بعيد سرورِكْ وشرابٌ كطِيب نشرك يلقي ... فوق أيدي السقاة نوراً كنورِك فبحقي، أهدِ السرور إلى من ... لا يلذُّ الدنيا بغير حضورك وكتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: عندي سكباج يرغب [فيه] المحبون، وحديث يطرب المحزون، وإخوانك المحبُّون فلا تعلُ عليَّ وأأتونْ. فكتب إليه أبو العيناء: اخسأُوا فيها ولا تكلِّمون. وكتب كُشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك: هو يوم شكٍّ يا عليُّ وأَمرُهُ قد كان يُحذَرْ والجوُّ حُلَّتُه مُمسكةٌ ومُطرَفُهُ مُعنبرْ ولنا فضيلات تكون ليومنا قوتاً مُقدَّرْ ومدامة صفراءَ أدرك عمرَها كسرى وقيصر فانشط بنا لنَحُثَّ من كاساتنا ما كان أكبر أو لا فإنك جاهل إن قلت إنك سوف تُعْذَرْ وكتب العباس بن جرير: يومنا طاب أولُه ودجا آخرُهُ، مستقبلٌ ذو سماءٍ قد أقشعت بعد أن أروت، وأنت تُكثِّر القليل، ونشفي الغليلَ، فلا توحشنا بتخلفك عنا، ولا تستوحش بتفردك منا فإنك إن تأتنا نشكرُ وإن تخلفت عنا لا نعذر. الفضل بن جعفر: يومنا يوم رقيق الحواشي، ليِّن النواحي وأنت موضع السُّرور، ونظام العيش والحبور، فأقبل إلينا وكن جواب رقعتنا، نَسْعد بك وتسعد بنا. وكتب آخر: يومنا قد أشرق نوره، وكمل سروره، ذو سماءٍ قد هطلت، وجادت بوبلها وأسبلت، وبك تمام كل لذة، فأجمع شملنا بقربك. وكتب آخر: رؤيتك أحسن من العافية وأزين من المال والولد، وقد اشتقت إلى نِعَمِكَ العذاب، فبحف العشرة وعظيم حق الخدمة، إلا مننت برد الجواب فكنته. وكتب آخر: أنا ظمآنٌ إلى رؤيتك، صادٍ إلى تكرار الطرف في غُرَّتك، فإن رأيت أن تبرِّد غليل أخيك، وتبهج وجهه بماءِ وجهك، وتؤنس وحشته بقربك، وتؤثره على كل شغلك، وتدفع همومه بمحاضرتك. سعيد بن حميد: قد جعلك الله للشمل نظاماً، وللسرور تماماً، وجعل مشاهد الأُنس إذا خلت منك رثة المنظر، وجعلها بك محمودة الأُر، فرأيك في إيجاب المنة على أخيك، االزيارة موفقاً. علي بن عبده: الإبطاء ينتج القطيعة، وإدمان العهد ينمي المودة، وعلى حسب تشاكل الأخلاق يدوم التواصل، والحديث يبهج القلوب ويزيد في الأُنس، كما أن المنظر المُونق متنزَّه الأبصار. الصنوبري:

تعالَ، عندي مجلسٌ مونِقٌ ... يزيد أضعافاً على المونقِ ونرجسٌ أبلقُ والنفس لا ... تمَلُّ قرب النرجس الأبلق وكلنا من نمطٍ واحدٍ ... في الرأي والمذهب والمنطق وكتب كشاجم: عندي معتَّقة كودِّك صافية ... ونديمك الدَّمِث الرقيق الحاشية وإذا طربتَ إلى السماعِ ترنَّمت ... بيضاء زاهية تسمىَّ زاهية وتجيبها سوداء تُعمِلُ نايَها ... فتريك كافوراً يقاوم غالية 3ف - احضُر فقد حضر السرور ولا تدع يوماً يفوتك، فهي دنيا فانية وقد آثر الظرفاء في إسقاط التصنع في هذا الباب ما هو أليق بالمؤانسة وأنفى للانقباض والحشمة، ولو لم يكن في الاحتفال من النقيصة، و [في] الاقتضاب من الفضيلة إلاَّ أن المحتفل قد ضيَّق على نفسه العذر في تقصير كان منه، والمقتضب مُغتفرٌ له ذلك، وكفى ذلك. وكتب محمد بن الحسين إلى صديق له: قم بنا نقتضب صبوحلً مليحاً ... يُسعِدُ الله فيه لي بك جَدِّي لم أُبيتْ له اعتزاماً من الليل ولا قلت كُنْ فديتك عندي فهو طيباً وموقعاً كحبيبٍ ... جاءَني زائراً على غير وَعْدِ وكان محمد بن نصر بن بسَّام يقول: قبَّح الله علياً - يعني ابنه - فما أخوفنا من هجائه، وأَنشَد قوله: خبيصةٌ تُعقد من سُكرة ... وبرمة تطبخ من قُبرَّة وليس ذا في كل أيَّامِهِ ... لكنه في الدعوة المنكرة فأما الأول فإنه يدل على ظرف الطبَّاخ، وظرف يده لأنه من مدحه أن يوصف بأنه يطبخ من الطائر ألواناً، وأما الدعوة المنكرة فإنه جعلني متصنعاً محتفلاً، ولعلَّ نعمتي وهمتي تشهدان بغير ذلك. وكان آخر لا يسرع في شيءٍ من الدعوة حتى يحضر إخوانه ويأمنَ تخلّفهم فحينئذ يأمر بإصلاح ما يقدره لمن حصل منهم، فلا يلحقُ طعامهم حتى يتصرم يومُهم وتضطرم نار الجوع في أحشائهم. وقال فيه بعضهم: خاف الضياع على شيءٍ يعجله ... من المطاعم إن إخوانُه ثقلوا فليس تعلو على الكانون برُمته ... حتى يرى أنهم في البيت قد حَصَلوا قال: حدثني من أثق به عن بعض البخلاءِ أنه دعا قوماً فابتاع لهم جدياً وأشفق أن يذبحه ولا يحضرُه كهيئة المسموط وإن تأخروا استحياه وكفله وربَّاه، وانتهى إليهم الخبر من جهةٍ لطيفةٍ فدعوه إلى منزل بعضهم واحتالوا عليه حتى ظفروا بالجدي فجاؤوه به مُنوراً، فأخجلوه، وفضحوه، وقال بعضهم فيه: ومستظهر مفرط الاحتياط ... بخيل بمذهبه مغتبطْ دعا مرَّة بعض إخوانه ... على غير عمدٍ ولكن غَلطْ فجاء بجديٍ كبعض الجداء ... أعظم من جسمِهِ جسمُ قِط فقال لغلمانهِ نَوِّروه ... على أنه أجردٌ ممتعط فإن جاء من نتقي أن يجيء ... رأى أَنَّه ذابحٌ قد سُمِط وإلا أَمِنا على جدينا ... وكان حقيقاً بأن يرتبط وليس هؤلاء بإفراطهم في الاستظهار القبيح والنظر الدقيق بأَذَمَّ ممَّن يدعى فيجيب، ويوثق منه بالوفاءِ ثم يتثاقل عن الداعي الملهوف حتى يجيعه ويجيع إخوانه وينغص عليهم يومَهم ويبرد طعامهم، ويرد غلامه، ويطيل التشوف إليه، ويوغر بذلك الصدور عليه فجزاء هذا عندي بعد الاستظهار بالحجة، وإعادة الغلام إليه بالرسالة، أن يستأثر إخوانه بالمؤاكلة متعمدين بذلك الاستخفاف به ليؤدبوه بذلك إن كانت به مسكة، وينبهوه إن كانت له فطنة. وكان بدمشق شاعران يتشاعران فكان أحدهما يكثر [الجلوس] عند الآخر، ولا يدعوه ذلك إلى منزله، فكتب إليه: أبداً تحصلُ عندي ... ثم لا أحصل عندك إن تناصفنا وإلاَّ ... بت يا طائيُّ وحدك فبلغ بعض الأدباء فقال: أرى الدعوات قد صارت قروضاً ... وأمراً في البرية مستفيضا وحالي ربما نهضت وحينا ... تضيق فلا أرى فيها نهوضا وأكره أن أجيب فتىً دعاني ... ولا أدعوه، أن أُلفى بغيضا وقال العطوي: قِدران عندي ما للمسك طعمهما ... ونشوةٌ لهما من طبخ بيضاء

ذكر ما جاء في الثقلاء

ودرهم بين ريحانٍ ومنتقلٍ ... جهدُ المقلّ، ولا كفرٌ بنعماء وكتب بعضهم: أنا في البيت وحيد ... واشتياقيك شديد ولدينا الراح والريحان والعيش الحميد فأْتِ من يبدا بذكراك اشتياقاً ويعيد وكتب كشاجم إلى آخر وقد دعاه فتثاقل عليه: جُعلت فداءك ماذا الجفاء ... قل لي متى كنت عنِّي صبورا رددت الرسول بذلّ الحجاب ... فحجبتَ عن مرسليه السُّرورا وقد حضروا كلُّهم كالنجوم ... ولو قد رأوك لصاروا بدورا وقد أحكم الطبخَ طبَّاخُنا ... وأعجله واستتم القدورا وفاحت بمثل ثناء العفاةِ ... غداة انتحوا لِنداك الغزيرا وبُلَّ لنا الخَيْشُ في قبَّةٍ ... تعيد الشتاء وتنفي الحرورا وحبلٌ تساقَطَ قطرُ المياه ... عنه إلى الأرض دراًّ نثيرا فلو أنها نُصبت في الجحيم ... لغادرها بردُها زمهريرا وعندي ثلجٌ توهَّمتُه ... بياض أيادٍ أصابت شكورا يريك بياض ثغور القيان ... رأين برأس محبٍّ قتيرا ويعدل عن شاربيه المزاج ... ويعدل صفراءَهم أن تثورا وساقٍ أغنّ ومشمولةٌ ... غدا المسكُ من ريحها مستعيرا ومسمعةٍ تطرب السامعين ... برنَّات طفل يشوق الكبيرا وتُهدي إلى القلب زور السرور ... إذا حركت منه مثنىً وزيرا فلا تُخلِنا منك يا سيدي ... وكُنْ بالمسير إلينا جديرا ذكر ما جاء في الثقلاء قيل لبعض الحكماء: لِم صار الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ قال: لأن الحمل الثقيل يشارك البدن الروح في حمله، والرجل الثقيل تنفرد الروحُ وحدها بحمله. وقال بعض الأطباء لبعض الملوك: لا تكثرن شرب الدواء فإن أثر الدواء في البدن كأثر الصابون في الثوب ينفقه ويخلقه، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً، فاجتنب رؤية الثقلاء إذا شربته، فإن مشاهدة الثقيل حمّى الروح، قال الشاعر: شخصُك في مقلة النديم ... أثقل من رعيةٍ النجوم يا رجلاً ظلُّه علينا ... أثقل من مَنَّة اللئيم إني لأرجو بما أُلاقي ... منك خلاصاً من الجحيم وقيل: ثلاثة تشتدُّ مئونتهم: النديم المعربد، والجليس الثقيل، والمغني البارد. وقال إبراهيم النظام: إذا علم الثقيل أنه ثقيل فليس بثقيل وكان يقال: من خاف أن يثقل لم يثقل. وقال الحسن البصري: ذكر الله الثقلاء في كتابه فقال: وإذا طمعتم فانتشروا، الآية؛ وكان أبو هريرة إذا استثقل أحداً قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه. وكان الأعمش قد نقش على خاتمه، وكان حرجاً ضيِّق الأخلاق: أبرمت فقُم، فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إياه، وقال بعضهم: ونديم جليسه في سياقٍ ... ساعةٌ منه مثل يوم الفراقِ ليته مثل ما أراه يراني ... ليلاقي من الأذى ما أُلاقي ودخل أبو الهندي بيت خمار، فوجد فيه الأخطل وقد سكر فلما رأى أبا الهندي استثقله ولم يعرفه، فقال: ألا فاسقياني وانفيا عنكما القذى ... فليس القذى بالعودِ يسقط الخمرِ ولكن قذاها زائرٌ لا تريده ... رمتنا به الأقدار من حيث لا ندري فقال أبو الهندي: إن كنت ندماني أبا مالك ... فاسقِ أبا الهندي بالكُندره من قهوةٍ صهباء كرخيَّةٍ ... تأخذ بالرأس وبالحنجرة تُسكب من زقٍّ لنا مسندٍ ... أسحم رشاشٍ له قرقرة كأنما أكرعُهُ، إذ بدت، أيدي لصوصٍ، قُطعت، مُنكرة فقام إليه الأخطل فاعتنقه ورحب به، وأقاما متنادمين أياماً كثيرة. وقال أبو المستهل: مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه طوعاً لحظةُ الوامق يظلُّ في مجلسنا مُبغضاً ... أثقل من واشٍ على عاشقِِ وقال آخر: أيا من ضجَّت الأرض ... إلى الرحمن من ثقلِهْ ويا غضب الله على آدم من أجله

باب في أخبار الوحدة

وما كان له ذنبٌ ... سوى أنك من نسله وجلس إلى أبي عبد الرحمن العُتبي رجل ثقيل فلم يحدِّث العتبي حديثاً إلاَّ عارضه بجهلٍ وقلة معرفة، فلما أبرمه أنشده: أما والذي نادى من الطور عبده وأنزل فرقاناً وأوحى إلى النحل لقد ولدت حواءُ فيك بليَّةً ... عليَّ أُقاسيها، وثقلاً من الثقلِ وكان رجلٌ من التجار له ولدٌ ثقيل يتقعَّر في كلامه، فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به، فاعتَّل الأبُ عِلَّة شديدة أشفى منها على الموت، فاجتمع إليه ولده وقالوا: ندعو بفلانٍ أخينا، فقال: والله هو يقتلني بكلامه، قالوا: ضد ضَمِنا ألاَّ يتكلم بشيءٍ تكرهه، فأذِن لهم، فلما دخل عليه قال: السلامُ عليك يا أبتِ، قل لا إله إلا الله وإن شئت قلتَ لا إله إلا الله، فقد قال الفرَّاء: كلاهما جائز، والأول أحبّ إليَّ، لأنه أخفهما، والله يا أبتِ ما شغلني عنك غير أبي عليٍّ، فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدسَ وسبدجَ وسكبَج وزرنج وطبهج وأمصل وأمضر وأفرخ ودجج ولوزج وأفلوذج فصاح العليل: السلاحَ اسلاحَ، غمِّضوني فقد سبق ابنُ الزانية ملِكَ الموت إلى قبض روحي. وقال أحمد بن الحسين الكوفي: علامة الثقيل أنه يطيل الجلوس ويصدِّع الرؤوس ويوجس النفوس. وقال أبو العيناء: رب وحشةٍ أمتع من جليس، ووحدةٍ أنفع من أنيس. وقال الأعمش: النظر إلى الثقيل يمييت القلب ويذهل العقل ويسقم البدن. وجلس ثقيل إلى بشار فأطال فضرط بشار، فقال الثقيل لبشار: ما هذا؟ قال: وما هو، أرأيت أم سمعت؟ قال: بل سَمِعتُ صوتاً منكراً، قال: فلا تصدق حتى ترى. وقال ابن وكيع: وبغيض كتب البغض إليه من علامه لست أسطيع من المقت له ردَّ سلامه ما له عاجله الله سريعاً بحمامه وقال الأعمش: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء، وكان إذا حضر مجلسه ثقيل قال: فما الفيل تحمله ميِّتاً ... بأثقل من بعض جُلاسِنا وأتى أبو حنيفة الأعمش عائداً في مرضه فقال: لولا أن أُثقل عليك أبا محمد لعُدتك في كل يوم، فقال له الأعمش: والله إنك لتثقل عليَّ وأنت في بيتك فكيف لو جئتني في كل يوم. وقال بشار: ربَّما يثقل الجليس وإن كان خفيفاً في كِفَّةِ الميزانِ ولقد قلت حين وَتَّدَ في البيت ثقيل يُربي على ثهلان كيف لا تحمل الأمانة أرض ... حملت فوقها أبا سفيان وقال حبيب بن أوس الطائي: يا من تبرمت الدنيا بطلعتِهِ ... كما تبرَّمت الأجفان بالرَّمد يمشي على الأرض مختالاً فأحسبُهُ ... من ثقل طلعته يمشي على كبدي لو أن في الخلق جزءاً من سماجته ... لم يقدم الموتُ إشفاقاً على أحدِ وقال أيضاً: وصاحبٍ لي مللتُ صحبته ... أفقدني الله شخصهُ عجلا سرقت سكينه وخاتَمَهُ ... ليقطعا بيننا فما فعلا وقال الصنوبير: أثقلُ من حُمى إذا ما بَدَت ... ترعَدُ بالنافض والصالبِ لو مَرَّ من ميل توهَّمتَهُ ... قد مرَّ بين العين والحاجب ولو مشى في جانب الأرض من ... ثقلٍ إذن مالت إلى جانب باب في أخبار الوحدة هذا باب لا يختاره إلاَّ من فقد نديماً مساعداً وخليلاً موافقاً وتبرَّم من معاشرة ثقيل ممن قدمنا ذكره في الباب الذي قبل هذا، فلزم الوحدة ضرورةً، إذ كانت أدعى إلى السلامة من مخالطة الإنسان غير شكله ونظيره ممن يُخشى بوائقه، ألا ترى قول أبي نواس، وهو أمير هذا الشأن وفارسه، يقول: خلوتُ بالرَّاحِ أُناجيها ... آخذ منها وأُعاطيها نادمتها إذ لم أجد مسعداً ... أرضاه أن يشركني فيها فهذا مما يدلك على فضل النبيذ، وأنه لم ينفرد بالنبيذ مختاراً، وإنما توجد بشربه ضرورةٌ إذ كانت أدعى إلى السلامة من مخالطة الإنسان غير شكله، ولقوله: إذ لم أجد مسعداً، أو ليس هو القائل: والراح طيبة وليس تمامُها ... إلا بطيب خلائق الجلاَّسِ وقال آخر: لما عدمت رفيقاً ... جعلت زقيّ رفيقي فتىً إذا جف ريقي ... بريقه بلَّ ريقي

ذكر ما جاء في استهداء النبيذ

قالوا: اتخذت صديقا ... فقلتُ: زقيّ صديقي وقال كُشاجم: إذا بدا لي من أخي ودٍّ جَنَفْ ... وراح في أثواب تيهٍ وصَلَف خلوتُ وحدي بمناجاة الصُّحف ... فكان لي فيهنَّ لهوٌ وطُرف وكن لي من كلِّ ما شئت خَلَفْ وله: إذا وجدتَ المُدام فاغْنَ بها ... عن كل من في نِدامهِ سُخُفُ فيها لنا من نِدلمه خَلَفٌ ... وليس فيه من شربها خَلَفُ فلا يُشاركَ في السرور بها ... مشاركٌ، كلُّ شِركةٍ أَسَفُ وقال آخر: لم أجد فيما تصرَّفت على الكأس كريما فشربت الكأس وحدي ثم أقصيت النديما وقال آخر: أيها اللائم الذي لام في الوحدة أقصر فقد لهجتَ بِعَذْلِ كيف لي بامرئٍ توافق روحي ... روحَهُ عند كل جدٍّ وهزلِ وقال أبو الهندي: يدي لا تعاف الكأس أُنساً بشربها ... ولكن تعاف الكأس مع دنسٍ وغد على مثلها مثلي يكون منادمي ... فإن لم أجد مثلي خلوت بها وحدي وكان أبو نواس مع استهتاره بالنبيذ ومحبته للأخوان والمنادمة كثيراً ما يستعمل الخلوة ويغيب الغيبة المنقطعة منفرداً. حكى يوسف بن الداية قال: غاب أبو نواس عن إخوانه فلم يعرفوا له خبراً، ولا وقعوا منه على أثر حتى مضت له سنة فظنوا أنه قد قتل، وبلغ ذلك الرشيد فقال والله لئن صحَّ عندي أنه قتل لأقتلن قاتله ولو كان محمداً، انظروا كلَّ من كان هجا من الناس فاكتبوا اسمه وارفعوه إليَّ، فارتجت بذلك بغداد، فلما كان على رأس الحول إذا نحن به قد وافى فقلنا يا أبا عليّ، غبت هذه الغيبة، فغممتنا، وظننا بأمرك الظنون. قال: كنتُ في موضع أرتضيه وأشتهيه، قلنا: ألم تسمع بافتقادِنا لك وقول الرشيد فيك، ولم يبق أحدٌ من إخوانه إلاَّ عَذَلَهُ وعنَّفه، فأشأ يقول: إني لفي شُغلٍ عن العاذلين ... بالراح والريحان والياسمين عند غلامٍ حسنٍ وجههُ ... قلبي حبيسٌ في هواه رهين قولي إذا صِرتُ على ظهرهِ ... كقولِ قومٍ رحلوا ظاعنين سبحان من سخَّر هذا لنا ... منه وما كنَّا له مُقرنين فلما أنشدنا قال: بحياتي من يساعدني منكم ختى أريه إياه فيعذرني أو فيحسدني، فمضى بنا إلى الموضع فإذا بغلام من أحسن الناس وجهاً، فقال له: بحياتي غنِّ، فإذا هو أحسن الناس غناءً، فقال: من يلومني أن أنقطع عن أهل الدنيا وأعتكف على هذا الوجه، وقد جُمع لي فيه كل شيءٍ أشتهيه. ولو لم تسحبَّ الوحدة على النبيذ إلاَّ لِما امتحن الإنسان به من مثل ما قدمناه من ذكر الجليس الثقيل [لكفى] ، بل تركُ النبيذ بالجملة آنسُ من منادمته، والصبرُ على الوحشة أخفُّ من مؤانسته، فقال أبو نواس: لنا نديم لا أُسميهِ ... لكنني أكني وأعنيه إذا انتشى خاصم في الدين إن صادف إنسناً يماريه ويدَّعي الشرب بلا غايةٍ ... والقدح الواحد يكفيه يحبس كأسَ القوم في كفِّهِ ... حتى إذا قالوا [له] إيهِ أفضل ثلثَ الكأسِ في قعرها ... ومجَّ ثلث الكأس من فيه وقال آخر: ظهروا فكانوا للعيون مدامعاً ... وخَفَوا فكانوا للنفوس هموما فلذلك آثرتُ التفرد والنوى ... وغدوت للراحِ المدامِ نديما الأمير تميم بن المعز: اِشرب فما لَؤم الزمان وإنما ... أبناؤه مَسخوا المكارم لوما قومٌ تناهى الجهل فيهم، وانتهى ... بهم، وعوَّج منهم التقويما ذكر ما جاء في استهداء النبيذ قال مياديس الحكيم: الخمرة لا عارَ على طالبها ولا منقصةَ في استهدائها ولا يجري ذلك في شيءٍ من المآكل، ولا حشمةً في طلب الخمرة ولا حياءَ، فإنك لترى الفقير يطلبها من الغنيِّ والغنيُّ يطلبها من الفقير بلا أنفةٍ لأنها صديقة روحه ومخالطة جسمه، بها ابتهاجه ولذته، ومنها ارتياحه ومسرته. وكان لإسحق بن إبراهيم الموصلي غلامٌ قد رباه وعلَّمه فصار من أحذق الناس نجز له النبيذ يوماً فكتب إلى إبراهيم بن المهدي:

جعلت فِداءَ الأمير، حضرني بيتٌ فصنعت فيه لحناً وروَّيته بُدَيْحاً ووجهته إلى ألمير وأمرته بإنشاده إياه، قال: فسار بديح إلى إبراهيم فغنَّاه الصوت وهو: نديمي قد خفَّ الشراب ولم أجد ... له سورة في عظم رجلٍ ولا يد فضمَّ إليه إبراهيم هذا البيت: فدونك هذا الرِّيَّ فاشرب مُسلماً ... فلا خير في الشرب القليل المصرَّدِ وبعث إليه ثلاثة أبغل عليها ألوان الشراب مجللة بأثواب ديباج وثلاثة غلمان روم وأجاز بديحاً بجائزة سنيَّة حسنة. وكتب محمد بن علي بن بسَّام يستهدي نبيذاً: قد سقتنا من ماءِ مُزنٍ ... فاسقِنا من سُلاف صفو الدِّنانِ ولأعنِّي على الزمان فإني ... بك أرجو دفاع صرف الزمان وكتب إسحق بن إبراهيم الموصلي رقعة إلى أحمد بن معاوية يستهديه نبيذاً فبعث إليه بدنٍّ فلما توسط الغلام الجسر رجمه بعض المارَّة فكسره، فلما صار إلى إسحق وأخبره أعاده إليه برقعةٍ فيها: يا أحمد بن معاوية ... إني رميت بداهية أشكو إليك وأشتكي ... كسر الغلام الخابية يا ليتها سلمت وكان فداءَها ابن الزانيو فبعث إليه بدَنَّيْن. وقال الصنوبري: ما شفاني إلاَّ النبيذ فما رأيُك في أن تجود لي بشفائي وليكن صافياً إذا لحظته العين فازت منه بحسن الصفاءِ فهو مثل الهواء في رقَّة الصنعة بل لا يجوز حدَّ الهواء مُلبِسٌ لونُه الإناءَ شُعاعاً هو من ظاهر الإنا بإناءِ مثل ريق العذراء في اللون والتوريد في صحن وجنة العذراءِ وكشمِّ المعشوق يشتمه العاشِق في غفلةٍ من الرقباء وكتب أبو البصير الشاعر إلى صديقٍ له: كتبت إليك في آخر يوم من أيام الدنيا بخروج شعبان وأول يوم من أيام الآخرة بدخول رمضان، ولا نبيذ عندي فابعث إليَّ من نبيذك ما أكون به ضيفك في بيتي والسلام. واستهدى أبو شراعة من سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم الباهلي نبيذاً، وكان على أبي شراعة يمين ألا يصحو من أيام الأُسبوع يوماً واحداً. وكتب إليه: أستنسئ الله في أجلك، وأستعينه من المحذور فيك، وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة بك، الكرم منك سجيَّة مطبوعة، وعن غير كلالة ورثته، موسى أبوك، وسعيد جدُّك، ففي أيِّ درجات المجد يطمع قرينك على أن يستولي على الأمر دونك. فبعث إليه شراباً كثيراً، وكتب إليه: وصلت إليَّ ذات الحسب العتيق والمنظر الأنيق فسرَّت القلب وطردت الغمَّ، ولاءَمت الروح، ونفت الهم، لها نفحة المسك والكافور، وتضوع العنبر والعبير، تدب خلال ضلوع الفتى، دبيب رياَّ الروضة المنعش، إذا فتحت عبقت ريحها بريَّا البنفسج والمردقش. وأهدى عبد الله بن الحسين بن سعيد إلى البحتري شراباً أصفر في زجاج أزرق، فكتب إليه: طرقتنا تلك الهدية والصهباء من خير ما تبرَّعت تُهدي لبست زرقة الزجاج فجاءت ... ذهباً يستنير في اللاَّزوردِ وكتب بعض الكتاب إلى صديق له: عندي غناءٌ وألوانٌ من الزهرِ ... والشرب مجتمع والورد منتثرُ وليس يصلحنا إلاَّ النبيذ وما ... في ظرفنا منه إلاَّ الريحُ والأثرُ فنحن مثل رحى الطحان أحضرها ... حبًّا لتطحنه والقطبُ منكسِرُ وقال آخر: إني لأُظهرُ للرَّبيع محبَّةً ... إذ كنت أعتد الربيع أخاكا ما للمدام تأخرت عن فتيةٍ ... عزموا الصبوح وأملوا جدواكا ما كان صوب المُزنِ يطمعُ قبلها ... في أن يجيء نداه قبل نداكا تجلو برونقها العيون إذا أتت ... عفواً ونشربها على جدواكا يغني النديم عن الغناءِ حديثنا ... بمحاسنٍ لَكَ لم تكن لسواكا قال محمد بن يزيد، وكتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذاً: جعلت فداك عبد الله عندي ... بعقب الهجر منه والبعاد له لُمةٌ من الكتاب بيض ... قضَوا حق الزيارة والوداد واحسب يومهم إن لم تجدهم ... مصادف دعوةٍ منهم جماد فكم يوم من الصهباء سارٍ ... وآخر منك بالمعروف غادٍ وقال ابن المعتز:

باب أدب السقاة

أما ترى اليوم في سحائبه ... قد ضحك البرقُ في جوانبهِ وليس في الدنِّ غير قوت فتىً ... يعجز بعضٌ عن قوت صاحبه فامنن علينا من المدام بما ... نقضي به اليوم حقَّ واجبه باب أدب السقاة يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ساقي القوم آخرهم شرباً. وأُتي عليه الصلاة والسلام بإناءٍ من لبنٍ فشرب منه، وكان على يمينه غلامٌ حديث السن، وعن يساره أبو بكر " رض " ودفعه إلى الغلام، وقال: الأيمن فالأيمن. ومما دلَّ على مذهب الجاهلية في إدارة الكأس على اليمين قول عمرو بن كلثوم: صددت الكأس عنَّا أُمَّ عمرٍو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شرُّ الثلاثة أُم عمرٍو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا قالوا: ولا ينبغي أن يكون الساقي إلا مليح الوجه نظيف الثوب طيب الرائحة أديباً ظريفاً إن سكر أحدٌ من الشراب فأشار إليه بالإعفاء من النبيذ، فعل، ولم يُكره أحداً على الشراب، وأدار الكأس عن يمينه، فإن الأدب فيه موافقة سنَّةِ الإسلام لمذهب الجاهلية. قال عبد الله بن المعتز بالله: قد حثَّني بالكأس أ، َّل فجره ... ساقٍ علامةُ دينه في خصره وكأنَّ حُمرة خدِّه من لونها ... وكأن طيب نسيمها من نشرِهِ حتى إذا صبَّ المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبتها من ثغِهِ وقال أبو نواس: لا نَستَخِفُّ بساقينا لغِرَّتِهِ ... ولا يَرُدُّ عليه حكمه أحد وقال أبو نواس أيضاً: عوجا بنا نصطبح معتَّقة ... من كفِّ ظبي يسقيكها، فَطِنِ يخبر عن طيبه مُجالسُه ... مكتحلُ المقلتين بالفِتَنِ قال له الله كن على قدرٍ ... فكان بين الهزال والسِّمَنِ حتى إذا ما الجمال تمَّ له ... والظرف، قالا له كذا فكُن ما تنظر العين منه ناحية ... إلاَّ أقامت به على حَسَنِ وقال ابن المعتز: يطوف بالراح بيننا رشُ ... مُحكم في القوب والمُقّلِ أفرغَ نوراً في قشر لؤلؤةٍ ... فحِلَّ عن قيمةٍ وعن مثل يكاد لحظ العيون حين بدا ... يسفِك من خدِّه دمَ الخَجَلِ وحضر قوم من أهل الأدب عند عليٍّ بن محمد العلوي فأبرز غلاماً له نفيساً في قراطقه فجعل يسقيهم ويستحثهم فأخذت عيونهم منه مأخذها، فلما رأى ذلك مولاه أمره بالانصراف وتولى هو سقيهم وخدمتهم وأنشأ يقول: كأنما يسعى، لوجدي به، ... من بينهم في ثِني أحشائي أغار من وقفته كُلَّما ... قال لحاسي الكأس مولائي حتى لقد أمسوا، وهم إخوتي ... من شدةِ الغيرة أعدائي واصطبح أبو تمام يوماً عند الحسن بن وهب، وكان مع أبي تمام غلامٌ له رومي يحبه حباً شديداً، وعلى رأس الحسن غلام آخر كأنه الشمس، فطفق الحسن يلحُّ بالنظر إلى الرومي، فلما أدمَن ذلك؛ دعا أبو تمام بدواة وقرطاس وكتب فيها: سبحان من سبّحته كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طمح العينينِ والنظر إن أنت لم تدع السير الحثيث إلى ... جآذر الرُّوم أعنقنا إلى الخزر فاستحيا الحسن بن وهب، ووهب له الغلام. وقال أبو نواس: غادِ المدام بكفِّ ظبيٍ أهيفِ ... يسقيكها صرفاً وغير مُصَرَّفِ وشت العُقار بوجنتيه فأبدتا ... للناس وردَ حديقةٍ لم تُقطف فالق الحرامَ، إذ لقيت، بمثله ... وامزج سلافة ريقه بالقرقف وقال أيضاً: لا تبكِ ربعاً أقوى ولا طللا ... ولا تصف ناقة ولا جملا وعاطني قهوةً إذا مُزجت ... أرتك منها في نفسها شُغُلا بكف ساقٍ يُزهى على غصنِ البانِ إذا ما انثنى وما اعتدلا إذا سقاني العُقار جمَّشهُ ... طرفي فيحمر خدُّه خجلا وقال أيضاً: طاف في قرطقٍ وقد عقد الزنار من فوق خصره تسعينا بعقار تنفي الهموم وتستخرج شوقاً من الفؤاد دفينا طاف سعياً بها فخلت طلوع الشمس ليلاً والبدرمما يلينا

باب ما جاء في السكر

ولقد راع ذاك قوماً على بعدٍ فصاحوا: الصلاة يا غافلينا وقال أيضاً: وقائلٍ لي: أفق يوماً، فقلت له ... من سكرة الحب أو من سكرة الكاسِ لا أشرب الراح إلا من يدَيْ رشإٍ ... مهفهف كقضيب البان ميَّاسِ قل للذي لام فيه هل ترى كَلِفاً ... بأملح الناسِ إلا أملح الناسِ ومن الناس من يختار سقي الوصائف المقرطقات المنصَّقات المتشبهات بالغلمان رشاقةً وخفةً. قال أبو نواس: من كفِ ذات حِرٍ، في زيِّ ذي ذكرٍ ... لها محبَّان لوطيٌّ وزنَّاءُ قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاءُ فأفرغت من فم الإبريق صافيةً ... كأنما أخذها بالعقل إغفاءُ رقّت عن الماء حتى يمازجها ... لطافةً، وجفا عن شكلها الماءُ وقال ابن المعتز: لا شرب إلا بكفِّ ساقيةٍ ... ذات دلالٍ في طرفها مَرَض كأن في الكأسِ حين تمزجها ... نجوم درٍّ، تعلو وتنخفض وقال الصنوبري: عاتِقٌ في الدِنان بكرٌ أدارتها علينا عواتِقٌ أبكارُ كل مجدولةٍ يجول الوشاحان على خصرها ويشجى السِوار يُقطف الياسمينُ من جسمها الرَّطب ويُجنى من خدِّها الجُلنارُ وقال ابن المعتز: قد سقتني خمراً وريقاً كخمرٍ ... بنت عشرٍ في كفّها بنت عشر ذرَّ في وجهها الملاحة ذَرًّا ... خالقٌ هزَّ غصنها تحت بدرِ وقال آخر: وساقٍ صبيحٍ دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمضِ يطوف بكاساتٍ علينا كأنجمٍ ... فمِن بين منقضٍّ وغير منقضِّ وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجواد دُكنا وهي خضرٌ على الأرض يطرِّزها قوسُ السماءِ بحمرةٍ ... على أخضرِ في أصفرٍ وسط مبيضِّ كأذيال خوْدٍ أقبلتفي لائلٍ ... مصبَّغةٍ والبعضُ أقصَرُ من بعضِ وقال ابن المعتز: لبسنا إلى الخمار والنجم غائرٌ ... غلالة ليلٍ طُرِّزت بصباح فظلت تدير الكأس أيدي جآذرٍ ... عتاق دنانير الوجوه ملاح وقال: درى كيف يطرد أوجاله ... فروى من الخمر أوصاله وبادرها قهوةً مُرَّةتُقرب للمرءِ آمالهُ بكفٍّ هضيم الحشا كالهلال ... أوفى به السعدُ إكمالهُ ولولا مخافة ربِّي لقلتُ لم يخلق الله أمثالهُ وقال: تدور علينا الكأ من كفٍّ شادِنٍ ... له لحظ عين يشتكي السُّقم مُدنفُ كأن سُلاف الخمر من ماء خدِّه ... زعنقودها من شعرها الجعد يُقطف وقال البحتري: ألا ربَّ كأسٍ قد سقاني سلافها ... رهيفُ التثنِّ، واضح الثغر أشنبُ إذا اختضبت أطرافه من شعاعها ... رأيت لجيناً بالمدامة يُذهب وقال أبو نواس: ومهفهف يجري الوِشاح بخصرِهِ ... ويضيق عنه دملُجٌ وسِوارُ نازعته صهباء تحسب أَنَّها ... برقٌ تأَلَق ضَوءُه أو نار وقال الصنوبري: وهضيم الحشى يجول وشاحاه ويشجى الردفين منه الإزار ثغره لُؤلُؤٌ، وريقته خمر شمولٌ وخدُّه جُلنار هو كالبدر بل إن نورَ البدر من نور وجهه يستعارُ صَرَعتني عُقار عينيه سُكراً ... قبل تسطو براحتيه العُقار وقال ابن المعتز: وندامايَ في شبابٍ وعيشٍ ... أتلفت ما لهم نفوسٌ كِرامُ بين أقداحِهِم حديثٌ قصيرٌ ... وهو سحرٌ وما عداه كلام وكأن السُّقاة بين الندامى ... ألفاتٌ على السُّطور قيام باب ما جاء في السكر

يقال: إشرب من النبيذ ما لم يشرب عقلك. وقيل للرِّياشي: ما حدُّ السكر؟ قال: أن تعزُبَ عنه الهموم ويظهر سرُّه المكتوم، والناس في السكر على ضروب؛ منهم من تراه يشرب وهو يتحدث لا تنكر منه شيئاً حتى يغلب عليه السكر ضربةً واحدةً، ومنهم من تراه يأخذ منه النبيذ الأول فالأول. وتراه كيف تثقل حركته، ويغلظ حسُّه ويُمتحق عقله حتى يطمس عليه السكر، ويطبق عليه النوم، ومنهم من يأخذه السُّكر بالعبث لا يعدوه، ومنهم من لا يرضى ما دون السيف، ولا بأن لا يضرب أُمه ويطلق امرأته، ومنهم من يعتريه البكاءُ والضحك، ومنهم من يعتريه الملق والتفدية والتسليم على المجالس والتقبيل لرؤوس الناس، ومنهم من يثبُ ويرقص ويعرض له ذلك لضربين، أحدهما من فضل الأشر والآخر من تحريك المرار، ثم اختلافهم على قدر اختلاف طبائعهم وبلدانهم وأزمانهم وأسنانهم وأخلاقهم، ومن الناس من لا يسكر البتة، كان منهم محمد بن الجهم. وقالوا: العقل كالمرآة يرى صاحبه فيه مساوئه، فلا يزال في صحوه مهموماً حتى يشرب النبيذ فيصدأ عقله بمقدار ما يشرب فإذا كثر، غشيهُ الصدأ كله، فلم تظهر فيه صورة تلك المساوئ له، ففرح ومرح، والجهل كالمرآة الصدِّئة أبدا، فلا يرى صاحبه إلاَّ فرحاً، شرب أم لم يشرب. وسأل قيصر ملك الروم قُسَّ بن ساعدة الإيادي عن السُّكر قال: زعموا أن القلب يُصعد سورة الشراب إلى الرأس بالقوة التي جعلت فيه، فإذا احتوت على الدِّماغ حجبت العقل عن منافذه فاحتجب البصرُ بغير عمىً ولا نوم، والسمعُ بغير صم واللسان بغير خرس، فلا يزال بذلك حتى تفكّه الطبيعة من إسار السكر قال: فتقول، إن السكر يذهب بشيءٍ من عقله، قال: ما أنكر ذلك لأنه يدخل على العقل داخل ليس كالنوم الذي جعل فيه صلاح البدن، فيقهره ويأخذ منه فيوهنه، وكل مأخوذ منه مستفيض، وكل مقهورٍ ضعيف، قال: فتشربه أنت؟ قا: نعم، ولا أشرب منه ما يغير عقلي. قال رجل: رأيت يونس بن عُبيد فضحك، فقلت: ما يضحكك؟ قال: مرَّ بنا سكران فسلَّم علينا، فلم نرد عليه، فقعد يبول في وسطنا فقلنا: ويحك، ما تصنع؟ قال: ما ظننت أن هاهنا أحداً. لقي سكران أبا حنيفة، فقال له: يا أبا حنيفة لقد أحسنت إلينا في تحليلك النبيذ، فقال: ما أحسنتُ حين يشربه مثلك، وقال الشاعر: رهبان دير سقوني الخمر صافيةً ... مثل الطواويس في دور السلاطين مشوا إلى الراحِ مشيَ الرُّخ وانصرفوا ... والرَّاح تمشي بهم مشيَ الفرازين غدوا إليها كأمثال السهام مضت ... عن القِسيِّ وراحوا كالعراجين وكان شربهم في بدءِ مجلسهم ... شرب الملوك وباتوا كالمساكين وقال ابن شُبرُمة: مررت برجل سكران وقد ألقى عنه ثيابه وهو يبكي بكاءَ شديداً، ويقول: وا أسفي عليهم، ليت الأرض أخرجتني إليهم، فقلت: من هؤلاء الذين تتقلب عليهم بهذا الغيظ، قال: إخوة يوسف، ألقوه في البئر حتى أكله الذئب، قلت له: إن الله خلصه من الجُبِّ، ولم يأكله الذئب، ولا الأسد، فقال: بشرك الله خير وأحسن جزاءك، وأغمد خنجره ولبس ثيابه وانصرف. وقال بعض الأُدباء: كنت مستشرفاً على سطح لي بالبصرة، فجاء سكران، ةى فوقف في ظل الجدار، والليل مقمر، فأوهمه السُّكر أن ضوء القمر نهرٌ، فنادى: يا ملاَّح، قرِّب السُّمارية، قرِّب ويحك السُّمارية، مراراً، فلما لم يجبه أحد، وطال ذلك عليه، نزع ثيابه ورمى بنفسه على الأرض كما يرمي السابح نفسه في الماء، فتهشَّم وجهه وتكسر أنفه، وجعل يضرب بيديه ورجليه كأنه يسبح. ونظر رجل إلى صديق له سكران، وقد حمل في كساءٍ على رأس حمال، وأخرج رأسه من الكساء، فقال له: فلان ما هذا؟ قال: بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة.

ركب المأمون يوما فإذا بثمامة بن أشرس سكران، فتوارى ثمامة عنه، فقصده

قال أبو عثمان الجاحظ: وممن لا يسكر أبو عبد الله العميّ، وإن بني عبد الملك الزيات دعوني مرة ليعجِّبوني منه ولا ينبِّهوني على هذه الخاصية التي فيه، لأكون الذي ينبه عليه، فدخلت على رجل فدمٍ ضخم، غليظ اللسان، عليه من الكلام مئونة شديدة حتى تظن أن كلامه كلام مهموم أو مجنون، فشرب القوم شرب الهيم، وكنت كأني من النظارة، فما زال العمِّي يشرب رطلاً بعد رطل، ولسانه تنحل عُقده وذهنه يصفو وكدره يذهب، فأقبلت على القوم أُعجبهم منه، فقالوا لولا مكان هذا العجب ما عنَّيناك اليوم وعرَّغوني أنه كثير المنازعة عند القضاة، ولكن بعد أن يشرب عشرة أرطال، فإذا فعل ذلك قطع الخصم اللحن بحجته واستمال رأي القاضي القطوب المنعقد. قال الشاعر: وجدت أقلَّ الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا يزيد حسا الكأس السفيه سفاهةً ... ويترك أخلاق الكرام كما هيا وقد رأينا أسفه الناس صاحياً أحل الناس سكران، ورأينا أحسن الناس خلقاً وأرزنهم حلماً، حتى إذا دخل رأسه رطل نبيذ صار أخف حلماً من فراشه، وأكثر نزقاً من جرادة، وإن المثل بهما يضرب. وكان محمد بن سليمان، إذا كان على البصرة، سقى سائر الحيوان الشراب ليختبر سكرها، فوجدها في اختلاف أحوالها كاختلاف الناس في أحوالهم، فزعم أنه لم يجد في جميع الحيوان شيئاً أملح سكراً من الظبي، وقال ابن ميَّادة: ولقد سبقت العاذلات بقهوةٍ ... حمراء مثل سخينة الأوداج تدع الغوِّي كأنه، في نفسه، ملكٌ يُعصِّبُ رأسه بالتاج ويظل يحسب كل شيءٍ حولَهُ ... تحت العِراق يُشَدُّ بالأحداج وسكر رجل فجعل يبكي بكاءً شديداً فقيل له: ما يبكيك؟ قال: لأن طالوت قتل جالوت ظلماً ولم أحضر لنصرته. ومررت يوماً بحسن المصري وقد انصرف من عند أحمد بن الدهَّان الكاتب، فلما كان ببعض الطريق غلب عليه السكر فسقط ونام فتقيأ وملأ لحيته وثيابه، فجاءَ كلب فجعل يلحس فمه، ففتح عينيه وقال له: خدمك بنوك وبنو بنيك، فلما فرغ منه رفع رجله وبال عليه، وأمرتُ من يحمله إلى داره. وقال بعض العلماء حرَّم الله عز وجل السكر الذي يزول معه العقل، وكذلك هو في كل شريعة لأن كثيراً من الناس يأتي في سكره من السخف والقبائح والأحوال الدنيئة ما لا يرضى به لنفسه عاقلٌ، كزوال العقل، وبطلان الفهم، وهما أشرف ما في الإنسان مع استرخاء الجوارح، وخدر الأعضاء، حتى إن السكران أن لا يملك دفعاً لمكروه عن نفسه، ومن ضيّع أشرف ما فيه وأبطله وأصار نفسه إلى هذه الحال فقد عرَّض نفسه للتلف إذ كان لو أراده أحدٌ بكيدٍ ما قدر على دفعه، ولو قصده بكل مكروه ما أمكنه أن يمنع نفسه منه، ثم هو مع ذلك يضيع فرائضه وما أخذه الله عليه أن يفعله، وقد ألزمه الله تلك الفرائض ونهاه أن يُدخل على نفسه ما يقطعُهُ عما أمره به فقال عزَّ وجلَّ: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. يعني: لا تشربوا ما يكون السكر منه وزوال عقولكم ولا يمكنكم أن تُصلوا وتقيموا قراءتكم وسائر فرائض الصلاة الواجبة عليكم تأديباً منه لعباده وإرادة للمحافظة على الصلاة والقيام بما أوجبه الله علينا منها. والسكران عند العرب هو الذي أزال الشرابُ عقله، ومنه سكرْتُ النهر أي سددت مجراه. ركب المأمون يوماً فإذا بثُمامة بن أشرس سكران، فتوارى ثمامة عنه، فقصده المأمون حتى وقف عليه، وقال ثُمامة؟ قال: إي والله، قال: سكران؟ قال: لا والله، قال: أفتعرفني؟ قال: إي والله، قال: فمن أنا. قال: لا أدري والله، قال: عليك لعنة الله، قال: تترى إن شاء الله، فضحك ثم أمر بتشييعه إلى منزله. وقال الرَّقاشي: حدُّ السكر أن يُعزِبَ عنك الهموم ويظهر منك المكتوم. قال البلاذري: كان ابن هرمة، مغرىً بالنبيذ، فمرَّ يوماً على جيرانه، وهو شديد السكر حتى دخل منزله، فلما كان من الغد، دخلوا عليه فعاتبوه على الحالة التي رأوه عليها، فقال: أما علمتم أني في طلب مثلها منذ دهرٍ، فما قدرت عليها، أما سمعتم قولي: أسأل الله سكرة قبل موتي ... وصياح الصبيان يا سكران قال: فنفضوا ثيابهم وخرجوا وقالوا: ليس يفلح هذا أبداً.

قال سهل بن هرون: ثلاثة من المجانين: الغضبان والسكران والغيران، فقال رجل: والمنعِظ، فضحك وقال: وما شر الثلاثة أُمَّ عمرٍو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا وقال المنخل اليشكري: ولقد شربت من المدامة بالصغير ولالكبيرِ ولقد شربت الخمر بالخيل الإناث وبالذكور فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسديرِ وإذا صحوت فإنني ... رب الشُّوَيْهة والبعير يا رب يومٍ، للمنخل قد لَهَى فيه، قصيرِ وفي السُّكر يقول الآخر: ولقد شربت الخمر حتى خلتُني ... لما خرجتُ أجرُّ فضل المئزرِ قابوس أو عمرو بن هندٍ قاعداً بحاليه ما دون دارةِ قيصرِ وقال الفلاسفة: ينبغي لشارب النبيذ ألاَّ يتجاوز فيه مقدار طاقته، وأن يتفقد نفسه تفقداً شديداً فمتى أنكر رأيه وفكره وحركات بدنه وقوتِّه أمسك عن شربه ولم يمعن فيه حتى يختلط لأن السكر إنما يكون مع بخاراتٍ غليظة نِيَّة غير نضيجة ترتفع إلى الدماغ فتستره كما يستر السحاب الشمس فيحول ذلك البخار بين العقل وبين ما يشرقُ عليه من قوةِ النفس والطبيعة فتسترخي لذلك الأعضاء والأعصاب كلها، وتضعف الحواس ويفسد الفكر ويغشى النُّعاس. وروي الواقدي أن عبد الله بن عُمر قال: خرجت أنا وأخي عبد الرحمن وعقبة بن الحارث غُزاة، ونحن نريد الإسكندرية، فلّما قدِمنا مصر، شرب أخي وعقبة فسكرا فلما أصبحنا انطلقنا إلى عمرو بن العاص وهو يليها لعُمر فقالا له: طهِّرنا، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه؛ فجلدهما الحدَّ في صحن داره، وبلغ ذلك عمر فكتب إلى عمرو بن العاص: أن أبعث إليَّ عبد الرحمن بن عوف، وقال: يا أمير المؤمنين قد أُقيم عليه الحدُّ، وما لك أن نقيمه عليه ثانية، فلم يلتفت عمر إلى قوله وجعل عبد الرحمن يصيح: إني مريض، وأنت قاتلي، فضربه الحد ثانية، فما زال مريضاً حتى مات، وقال له في مرضه هذا: يا أبتِ، قتلتني، فقال له: يا بنيَّ، إذا لقيت ربَّك فقال لك: فيمَ قتلك أبوك، فقل: أيْ ربِّ فيك. قال بعض الحكماء: لا فضيلة في السكر سوى فقدان الهموم وذلك عندنا لا يفي بفقدان العقول. وقالت الفلاسفة: في السكر الشديد أنواع من العلل أقلُّها أنه يورث الارتعاش في اليدين حتى لا يُمسك بهما شيئاً، وقد أكثروا ذلك في أشعارهم، وربَّما أورث السكتة والفالج واللقوة، وقد حمد قوم السكر من الشراب، وقالوا: إنما اللذة كلها فيه لأنه يستطيب من السماع ما لم يكن يستطيبه صاحياً، ويستحسن حديث ندمائه ويخفون على قلبه ويهون عليه ما أنفقه وإن كان جليلاً وتسخو نفسه عنه وإن كان بخيلاً وتنبسط آماله وتذهب غمومه وهمومه وتكثر أفراحه وسروره، وذلك كله قبل الاختلاط وعدم الحِسِّ. وكان السُّرادِقُ الدِّهلي مولعاً بالشراب فمرَّ بمجلسٍ من مجلس الأزد وهو سكران ورِجلاه تضطربان من السكر فتغامزوا عليه، وقال شاب منهم: سكران، سكران، فأقبل عليه السُّرادِق وقال: معاذ إلهي، لست سكرانَ يا فتى ... وما اختلفت رجلاي إلا من الكِبر ومن يك نهباً لليالي ومُرها ... تدعه قليل القلب والسمع والبصر وكان الأُقيشر الأسدي مولعاً بالشراب، فأخذه الأهوان بالكوفة وقالوا: سكران شارب خمرٍ، فأنشأ يقول: يقولون لي أن قد شربت مدامة ... فقلت لهم: لا بل أكلتُ سَفَرجلا وسأل بعض الملوك حكيماً عن السكر وما يُحدثه، فقال: أيها الملك، مسكن العقل في الدماغ، وهو للإنسان كالمرآة يريه محاسنه ومساويه، فإذا شرب الرجل الخمر صعد من بخارها إلى الدماغ ما يحول بينه وبين عقله كما تحول الغمامة بين العيون وبين الشمس المضيئة فيكون مقدار ما يغشى مرآة العقل من الصدأ بقدر إكثاره من الشراب وإقلاله منه، فإذا نام على ذلك ذهب الصدأ شيئاً فشيئاً حتى يصحو، قال: فهل يعود العقل بكمالِهِ، قال: وما أنكر نقصانه، لأنَّا ما رأينا شيئاً ذهب جملةً فعاد جملةً. ولم يصف أحدٌ السكران كما وصف الأخطل فإنه قال: صريع مدام يرفع الشرب رأسه ... ليُحنى وقد ماتت عظامٌ ومفصلُ تهاديه أحياناً، وحيناً تجرُّهُ ... وما كان إلا بالحشاشةِ يعقِلُ إذا رفعوا عظماً، تحامل صدرُهُ ... وآخر مما نال منها مُخبَّلُ

وأخذ الوالي في الليل رجلاً سكران، فقال له: من أنت؟ قال: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدرُهُ ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود ترى الناس أفواجاً إلى ضوءِ ناره ... فمنهم قيام تارةً وقعود فقال: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: تجاوزوا عن ذوي الهَنَات، خلّوا سبيله، فلما أُطلق قال له أصحابه إنه ابن باقلاَّني، فقال: إن لم يترك لنسبه تُرك لأدبه. وكان بالبصرة خياط أحدب مولع بالشراب، فشرب ليلةً فوق سطح فمشى وهو سكران فوقع على حدبته فذهبت وصارت به أَدُرة عظيمة، فدخل إليه جيرانه يهنِّئونه، فقال لهم: جئتموني للتهنئة، ولم تعلموا أن الذي جاءَ شرٌ من الذي ذهب. وقال رجل لسعيد العامري: لقد حظيت بكثرة المال، قال: فإني بعتك مالي كله بحبة من عقل عفان الموسوس، قال: وأي شيءٍ رأيت من عقله؟ قال: رأيته يوماً وقد وقف عليه رجلان أحدهما سكران، فجعل السكران يفتري عليه وهو يفتري على الصاحي، فقلت له: ألا تشتم الذي يشتمك؟ قال: لا، لأن معه شيطاناً لا أقوى عليه، فالتفت إليَّ السكران وقال: يا ابن الزانية، تحرضه على شتمي، ورفع حجراً من الأرض فشجَّني به، ومرَّ يعدو، فقال عفّان: من هذا فررتُ. وزار عبادياً رجلٌ من إخوانه فأجلسه على مصلى نظيف وغدَّاه وسقاه، فسكر الضيف وسَلَح على المصَلَّى، فأخذ العبادي بيده وأدخله الكنيف فنام فيه، فقال: فديتك يا سيدي، أنت تخري حيث ينام الناس، وتنام حيث يخرون. وحكي عن ابن أحمد البصري أنه دخل على قومٍ يشربون فرأى فيهم رجلاً سكران، فأقبل يكبِّر ويهلِّل، فقيل له: ما بالك؟ قال: لم أر سكران قبل هذا، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: كنتُ أسكر قبل الناس فلا أراهم إذا سكروا. وذكر حمدون النديم أن إبراهيم بن المهدي دعا جماعة من أصحابه بحيث يصطبحون عنده، فجاء مخارقُ سكران لا فَضْلَ فيه، فعاتبه إبراهيم، فقال: لا والله أيها الأمير، ما كانت آفتي إلا أن سُليم بن سلام مرَّ بي فغنى صوتاً له، صنعه قريباً فشربت عليه إلى السحر، قال: وما هو، أنشده وغناه: إذا كنت ندماني فباكر مدامةً ... معتَّقةً زُفت إلى خير خاطب تردَّت رداءَ الحسن في غير ناظرٍ ... ومُدَّ لها عمر فطابت لشارب قال المدائني: لقي طائف من أهل خراسان سكران بالكوفة فأخذه، وقال: أنت سكران، فأنكر ذلك، فقال: إقرأ حتى أسمع، قال: نعم ثم قال: ذكر القلبُ الرَّبابا ... بعدما شابت وشابا إن دين الحب فرضٌ ... لا نرى فيه ارتيابا فخلاَّه، وقال: قاتلكم الله ما أقرأكم للقرآن سُكارى وصُحاة. وقال محمد بن زياد الثقفي: مررت ذات ليلة بباب الشام، والقمر يزهو، فإذا شيخ سكران، متوشِّح في إزارٍ أحمر وبين يديه قنينة، وهو يخاطبها ويقول: عشرون ألف فتىً، ما بينهم رجلٌ ... إلاَّ كألفِ فتىً مقادمةٍ بطل كانت عيابُهُم مملوءةً ذهباً ... ففرَّغوها وأوكوها على الإبل فقلت له: أحسنت لله أنت، أبو من؟ أعزك الله، قال: أبو عيشونة الخياط، قلت: ومن هؤلاء الصعاليك الذين وصفت في شعرك، قال: فتيان الوغى وفرسان الهيجاء، شهدت بهم حروب الأمين وصليت معهم نيران فتنة المستعين ولولا [ما] خامر قلبي من الجوى وأخرس لساني عن الشكوى لحدثتك عن حروبنا يوماً فيوماً وساعةً فساعة، فقد حاربت صعاليك الفتيان وسابقتهم إلى غاية كل ميدان، واعترف إليَّ كل فاتكٍ وأذعن لي كل شاطرٍ، ونزلتُ هذه الدار ثلاثين سنة، وأشار إلى السجن ببغداد، ثم تنفس الصعداء، فقلت: ومن عشيقك هذا الذي همت به حتى أذهل لبَّك وخامر هواه قلبك، قال: حبيب لي بالبصرة، عُلِّقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت ثلاثاً وأربعين سنة، فلما عيل به صبري، خرجت إلى البصرة فطفت في أزقتها وشوارعها حتى رأيته وقد خضب الشيبُ عارِضَهُ، فما كدت أعرفه إلا بسحر عينيه ورفيف ثِنْيَيه وأنا الذي أقول فيه: لي فؤاد مستهامُ ... وجفون لا تنامُ ودموع مثل صوب القطر في خَدِّي سجامُ وحبيب كلما خاطبتُه قال: سلامُ فإذا ما قلتُ صِلني ... قال لي: ذاك حرامُ وكان فراغ قنينته بفراغه من إنشاد هذه الأبيات، ثم نام فانصرفت متعجباً منه.

وأُتي عليُّ بن أبي طالب (رض) بالنجاشي وهو سكران في شهر رمضان فجلده ثمانين لشربه، وجلده عشرين بعدها، فقال: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن، قال: لإفطارك في شهر رمضان وولداننا صيام. وإذا أكثر الإنسان من الشراب وأفرط فيه سدَّ مجاري الروح المنحدرة من الدماغ إلى سائر البدن، فامتنعت الروح من النفوذ إلى الأعضاء فعُدمت عند ذلك الحركة بالحس والنبض والتنفس، وإذا كان كذلك بطل الحيوان لأن الحيوان مشتقٌ من الحياة بالحركة، وإذا لم تكن حركة صار في عِداد الميتة والحجارة والتراب. مثال ذلك؛ إن الماء الكثير يميت النبات ويذهب به، وكان القصد منه حياته وكل مفرط قاتل، وكذلك الدهن إذا كثر حتى يغمر السِّراج أطفأه، وقد رأينا الإكثار من الشراب يولِّد السكتة والفالج وموت الفجأة والأمراض الحادة مثل البرسام والذبحة وآفات كثيرة وبليات عظيمة؛ زونجد الذي يشرب الشراب بهدوء وقرار وسكون وبمقدار معتدل، ويكون إلى النقصان عن الحد أقرب منه إلى الزيادة، كيف يزهر وجهه ويظهر فرحه وسروره مع قلة كلام بل بعقل ورزانة من غير تخليط ولا عيب ولا سوء خلق وشيمة، فكأنه ملك، والذين معه ممن تجاوزوا الحدَّ شياطين، فهو يعجب من أفعالهم ويحصيها عليهم لأنهم خرجوا من حدّ الإنسانية وصاروا في حدِّ القرود فيُكثر الواحد منهم حتى يذهب عقله، ويرمي بنفسه كالميت، هذا إن لم يصارع ويواثب ويقاتل وربما خرج إلى الطرقات وتعرَّض للآفات؛ فأي علةٍ مستعجلة لا تحل بهذا وأي خلط لا يجتمع في بدنه، أم أي مرضٍ لا يحدث به، فإذا انتبه من سكرته، وأفاق من علته، رأيته منكسر اليدين مخموراً مصدَّع الرأس، فإن دخل الحمام على ذلك الامتلاء فأي شيء [مانع] للسكتة أن تناله، والآفات أن تحل به، ثم إنه يعود بعد ساعةٍ إلى شر مما كان فيه، ويوقل: ما دواء الخمار إلا الخمر، فيشرب ولا يقتصد، وقد ضعفت القوى، وكلت الأعضاء فتنحدر إليها المواد لسرعتها إلى العضو الضعيف، فليس نعجب لمن كان هذه حالته أن تكثر أمراضه وتعظم أوصابه، ويقل عمره، وتنصرم ليلته. وسئل بعض حكمائهم عن السكر فقال: مجلبة للبلايا والآفات وسائر الأسقام والعاهات، ومفرِّق بين الأرواح والأبدان، وكل ذلك من الامتلاء والكثرة، وأنشد أبو عبادة النمري قول ابن ميَّادة: حُبِسَتْ ثلاثة أحرسٍ في دارةٍ ... قوراء بين جوازلٍ ودجاج تدع الغويَّ كأنه في نفسه ... ملك يُعصِّب رأسه بالتاج ويظل يحسب كل شيءٍ حوله ... تحت العراق يُشَدُّ بالأحداج فحين سمع أبو عبادة البيت قال: لو وجدت حمراء ياقوتية ذهبية أصفى من عين الغراب وعين الديك وماء المفاصل ولعاب الجندب، وأحسن حمرة من النار ومن نجيع غزالٍ وقوة الصباغ لما استطبتها حتى أعلم أنها من عصير الأرجل وأنها من نبات القرى وأن العنكبوت قد نسج عليها وفي قرية سوادية وحولها دجاج وفراريج وإن لم تكن رقطاء ولم تتم كما أُريد، وأعجب من هذا أني لا أنتفع بشربها حتى يكون صاحبها على غير الإسلام ويكون شيخاً لا يفصح بالعربية، ويكون قميصه منقعاً بالقار، فإن كان مجوسياً كان اسمه شهريار، ومازيار، وما أشبه ذلك، وإن كان يهودياً فاسمه مانشا وشكوما، وإن كان نصرانياً فاسمه يوشع وشمويل وما أشبه ذلك. وقال عطارد الففزاري: شربنا شربة من بيت راسٍ ... بأطراف الزجاج من العصير وأخرى بالمروق ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير وحتى خلتُ ديكَ أبي نُميرٍ ... أمير المؤمنين على السرير كأن دجاجهم في الدار قُطا ... بنات الروم ترقص في الحرير فبت أرى الكواكب دانيات ... يَفلن أنامل الرجل القصير أُدافعهن بالكفين عني ... وأمسحُ جبهة القمر المنير وقيل لبعضهم: لم تركت النبيذ؟ قال: رأيت صاحبه لا يروي منه، ورأيت بعضه يدعو إلى بعض، فتركت قليله لكثيره، قال الشاعر: من عاقر الراح يرجو أن يغالبها ... ثنته عنها بحدٍّ غير مفلول حتى تراه صريعاً لا حراك به ... لايعرف الحد بين لعرض والطول وقال آخر: أسقني بالكبير يا سعد حتى ... أحسب الناس كلَّهم لي عبيدا

ذكر من حرم الخمر في الجاهلية

وتراني إذا انتشيت كأني ... أعمر الأرض خيفةً أن تميدا لو رأى الناسُ في المدامة رأيي ... لم يبيعوا بدرهم عنقودا وقال أعرابي: كأن أباريق المدام عليهم ... ظباءٌ بأعلى الرقمتين قيام وقد شربوا حتى كأن رقابهم ... من اللين لم يُخلق لهنَّ عظام وقال آخر: بكروا عليَّ بسُحرة فصبحتهم ... من عاتقٍ كدم الذبيح مُشعشع يتبطحون عى الكثيب كأنهم ... يبكون حل جنازة لم تُرفع وأنشد لأعرابي: ولقد شربت الخمر حتى خلتني ... لما خرجت أجر فضل المئزر قابوس أو عمرو بن هند ماثلاً ... بحياله، ما دون دارة قيصر وأنشد لحسان: نوليها الملامة إن المنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسداً ما ينهنهنا اللقاءُ وأنشد للعباس بن الأحنف: أراني سأُبدي عند أول سكرة ... هوايَ إليها في خفاءٍ وفي ستر فإن رضيت كان الرضى سبب الهوى ... وإن غضبت منه أحلت على السكر وأنشد لآخر: شربت على تذكر آل كسرى ... شراباً لونه كالأُرجوان ورحت كأنيي كسرى إذا ما ... علاه التاجُ يومَ المهرجان وقال الصنوبري: شربنا في بغادينِ ... على تلك الميادينِ على ضحك الهزارات ... على نوح الشَّنانينِ شربنا فتعال أنظر ... إلى شرب المجانين إلى شرب العفاريتِ ... إلى شرب المجانين فطوراً بالهواوين ... وطوراً بالأجاجين فلما أن مشى السكر ... بنا مشيَ الفرازين وملنا فتلوَّينا ... تلوي الثعابين تدافعنا إلى البرك ... ةِمن فوق الدكاكين فرحنا في الخلوقين ... من الخلوق والطين أبو نواس: ومُترَّفٍ عقد الشراب لسانه ... فكلامه بالوحي والإيماءِ حركته بيدي وقلت له انتبه ... يا سيد الكتَّاب والأُمراء فأجابني والسكر يخفض صوتَهُ ... والصبحُ يدفع في قفا الظلماءِ إني لأفهم ما تقول وإنَّما ... غلبت عليَّ سلافةُ الصهباء وأنشد إسحق بن إبراهيم الموصلي: وصافية تغشى العيون رقيقةٍ ... رهينةِ عام في الدِّنانِ وعامِ أدرنا بها الكأس الرويَّة موهناً ... من الليل حتى إنجاب كل ظلام فما ذرَّ قرن الشمس حتى رأيتنا ... من الغيّ نحكي أحمد بن هشام ذكر من حرَّم الخمر في الجاهلية كان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية عبد المطلب بن هاشم، وعتبة ابن ربيعة ربيعة بن عبد شمس، وعثمان بن عفّان وورقة بن نوفل والوليد ابن المغيرة، وضرب في شربها هشامٌ أخاه، وصفوان بن أُمية، والعباس بن مرداس السُّلمي، وقال: لا أشرب شراباً أُصبح سيِّد قومي وأُمسي سفيههم، وممن شرب الخمر صِرفاً حتى مات من سادة العرب، عمرو بن كلثوم التغلبي، وكانت الملوك تبعث إليه بحبائه وهو بمنزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه الأسود ابن عمرو، بعث الملوك إليه بحبائه كما بعثت إلى أبيه، فغضب عمرو، وقال: سأُوافي بولي وحلف ألا يذوق دسماً حتى يموت، وجعل يشرب الخمر صرفاً حتى مات. وقد قيل: كان سبب فعله هذا أنه أغار على بني حنيفة باليمامة فأسره يزيد بن عمرو الحنفي، وقال له: ألست القائل: متى تعقد قرينتنا بحبلٍ ... نجذّ الحبلَ أو نعصي القرينا لأقرننَّك بناقتي هذه ثم لأطردنكما جميعاً، فنادى بالربيعة فاجتمعت إليه بنو لجيم ونهته فانتهى وقبل منه الفداء، فلما صار إلى قومه أنف مما جرى عليه فشرب الخمر صرفاً حتى مات.

ومنهم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة، عمّ لبيد بن ربيعة، وكان سأل رسول الله (ص) أن يبعث معه قوماً يعرضون على بني جعفر الإسلام ويفقهونهم في الدين؛ فبعث إليهم قوماً من أصحابه فعرض لهم عامر بن الطفيل يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين. فاغتم أبو براء غماً شديداً لإخفار عامر بن الطفيل ذمته، ودعا بني عامر إلى الوثوب به فلم يجيبوه، فشرب الخمر صرفاً حتى مات. ومنهم زهير بن جناب الكلبي رأس قضاعة، وكان قد كبر وأسَّن فنازعه الرئاسة ابن أخيه عبد الله، فقال زهير يوماً: ليظعَنِ الحيُّ، فقال ابن أخيه: إن الحي مقيمٌ، فأعادها مراراً وأعادها ابن أخيه مراراً، فقال: من هذا يردُّ عليَّ؟ فقالوا: ابن أخيك. فقال: وما أحدٌ ينهاه؟ قالوا: لا، قال: شرّ الناس للرجل ابنُ أخيه، فشرب الخمر صرفاً حتى مات. وربما بلغت جناية الكأس إلى زوال النعمة وسقوط المروءة وتلف النفس، وأكبر عيوب النبيذ السُّكر، حتى أن المِلل كلها مجتمعة على تحريمه غير مختلفة فيه. ولقد حرَّم الخمر في الجاهلية جماعة من كبراء العرب وأفاضلهم لما نالهم من معرَّة السُّكر، ومنهم قيس بن عاصم المنقريّ، وذلك أن خماراً استجار به فأنزله وأكرمه فسقاه الخمار حتى سكر فأخذ رمحه وشقَّ زِقاق الخمر فوافته أُخته فساورها وأرادها على نفسها فشقَّ ثوبها وخمَّش وجهها، فلما صحا وخرج، نظر إلى الخمر جارية وجاره الخمار يدعو بالويل والثبور، فرجع إلى أخته، فقال: من فعل هذا بجاري اخمار؟ قالت: الذي راود أُخته وفعل بوجهها وثوبها ما ترى، فاستحيا من ذلك وحَرَّم الخمر حتى مات. وقال في ذلك: لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً ... لسالبةٌ مالي ومذهبةٌ عقلي وتاركتي بين الضِّعاف قُواهُمُ ... ومورثتي حرْب الصديق بلا تَبل قال أبو عبيدة: شرب البرْجُ بن مسهر الطائي الخمر فسكر، فسمع أُخته تبول، فقال: إني لأسمع شخَّة لا بد أن أزَّجها زجَّة، ووثب على أُخته فنالها، فلما صحا أُخبِر بذلك، فمضى هارباً إلى الشام ثم تنصَّر بها وشرب الخمر صرفاً حتى مات ندامة على ما كان منه. وحرَّم صفوان بن أمية الخمر في الجاهلية، وقال: رأيت الخمر صالحةً وفيها ... مناقب تفسد الرجل الكريما فلا والله أشربَها حياتي ... ولا أشفي بها أبداً سقيما إذا دبَّتْ حمَّياها تبدَّت ... ظوالِعُ تفضحُ الرجلَ الحليما ولا أُعطي بها ثمناً حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديما وحرَّم الخمر في الجاهلية عفيف بن معدي كرب عمُّ الأشعث ابن قيس وقال: وقالت لي هلُمَّ إلى التصابي ... فقلتُ عففتُ عما تعلمينا وودعتُ القِداح وقد أراني ... بها [في] الدهر مشغوفاً رهينا وحرَّمتُ الخمور عليَّ حتى ... أكون بقعر ملحودٍ دفينا وكان اسمه شرحبيل، وإنما سمِّيَ عفيفاً بالبيت الأول، وقال أيضاً: فلا والله لا أُلفى وشرباً ... أُنازعهم شراباً ما حييتُ أبي لي ذاك آباءُ كرامٌ ... وإخوانٌ بعزِهِمُ ربيتُ قال: وحرَّم الخمر في الجاهلية سُويد بن عطاء الطائي، وأدرك الإسلام، وقال: تركتُ الشِّعر واستبدلت منه ... إذا داعي منادي الصبح قاما وودعتُ الخمور وقد أراني ... بها سَدِكاً وإن كانت حراما وشرب مِقْيَس بن صُبابة السَّهمي الخمرَ في الجاهلية فسكر سكراً شديداً قبيحاً حتى مر ينادي قومه ويخطّ ببوله ويقول: أصنع لكم نعامةً أو بعيراً، فلما صحا، خُبِّر بما صنع فحرَّمها على نفسه، وقال: تركت الرَّاح إذا أبصرت رُشدي ... فلست بعائد أبداً لراح أأشرب شربةً تزري بعِرضي ... وأصبح ضحكةً لذوي الصَّلاح معاذ الله لا يُودى بعقلي ... ولا أشري الخسارة بالرَّباح سأترك شربَها وأكفُّ نفسي ... وألهيها بألبانِ اللقاح

ذكر ما جاء في الخمار

وقال حاجب بن زُرارة لبنيه يوصيهم: إياكم والخمر فإنها مُفسدة العقول، ذهابةٌ بالطارف والتليد. وقال بعض الكُتُب، إن إبليس لقي يحيى بن زكريا عليه السلام فقال له: ألا أُعلمك أربع خصال تَتَّعِظُ بهنَّ؟ قال: بلى. قال: إياك والحسد فبه سخط الله عليَّ وأُخرجت من الملائكة، وإياك والطَّمع فبه سخط الله على أبيك آدم وأُخرج من الجنة، وإياك والنساء فإنهتَّ مصايدي، وما خلا رجل بإمرأة إلا كنت ثالثهما، وإياك والخمر فإنها حَبلي، ومن جعلت حبلي في عنقه قُدته حيث شئت. وقيل لأعرابي: اشرب النبيذ، قال: لا أشرب ما يفني تالدي ويشغل عن معادي ويذهب عقلي ويكثر خبلي. وقال مقيس بن صبابة حين حرَّمها في الجاهلية: رأيت الخمر طيبةً وفيها ... خصالٌ كلها دنسٌ ذميم فلا والله أشربها حياتي ... طوال الدهر ما طلع النجوم وكان عبد الله بن جدعان قد سكر فجعل يساور القمر فلما أصبح وأُخبر بذلك حرمها وقال: شربت الخمر حتى قال قومي ... ألست عن السفاه بمستفيقِ وحتى ما أُوسدُ في منامٍ ... أنام به سوى الترب السحيق وحتى أغلق الحانوت رهني ... وأنكرت العدوَّ من الصديق وأنشد أبو بكر الأنباري: تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأقبلت أشربُ ماءً نُقاخا رأيت النبيذ يُذِلُّ العزيز ... ويكسو النقيَّ النقيَّ اتِّساخا فهبي عذرت الصبي جاهلاً ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا قال الهيثم بن عدي: كنا نقول بالكوفة: إنه من لم يَروِ هذه الأبيات فلا مروءة له، وهي لأيمن بن خُريم: وحمراء جرجانيةٌ لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قِدرُ أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد مالت الجوزاء أو جنح النسر فقلت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فمالي بعد الشيب، ويبك والخمرُ تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأَ العمر إذا المرءُ وفَّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جرَّ أسباب الحياة له الدهرُ ؟؟؟ ذكر ما جاء في الخُمار رأيت أكثر الناس اختدعوا بالمثل الذي يضرب وهو: الخمر دواءقللخُمار، فأتبعوا السُّكر فعرضت لهم أمراض صعبة، فإن فعل ذلك قومٌ وسَلموا من الأمراض لِقوة أبدانهم وصحة أعصابهم، فإنَّ ذلك غير مخرجهم من الخطأ في فعلهم. قال بعضهم: داوِ الخمار بخمرة الكأس المشعشعة العُقارِ لو خامرت عقل العُزير لزلَّ عن ظهر الحمارِ وشرب رجلٌ عند خَمَّارٍ نصراني أياماً فأصبح ميتاً فاجتمع عليه الناس وقالوا: قتلته، قال: لا والله، ما قتله إلا قوله: وداوِ بالخمر الخُمارا، واستعماله قول الشاعر: وكأس شربت على لذةٍ ... وأُخرى تداويت منها بها لكي يعلم الناس أني امرؤٌ ... أتيت الفتوَّة من بابها وقال الفرس: بالخمر تُدفعُ الخمرُ، وشبَّهت المكثر منها بدود الخلِّ لا يحيا إلا فيه ولا ينتفع إلا به. قال أبو نواس: اشرب الخمرَ العُقارا ... وانفِ بالخمر الخمارا واسقنيها من سُلافٍ ... تدع الليل نهارا قال الرازي: أعظم علاج الخمار النوم والحمّام، فمن أصابه عليه غثيان وتقلب، شرب اسكنجبين بالماء الفاتر، واستعمل القيء مراراً، فإن اصابه صُداع صبَّ على رأسه ماء ورد بكافور وشرب الجُلاَّب وأكل الرُّمان الحامض. ومن أصابه على الخمار بهتةٌ وبلادة استعمل التَّعب ثم دخل الخمام ليعرق، ومن أصابه طيشٌ وهذيان شرب شراباً كثير المزاج وغرَّق رأسه بدهن البنفسج وغَسَل أطرافه بالماء الفاتر وطلب النوم. ودواء الخمار العسِر البطيء الطويل شربُ اليسير من الشراب الكثير المزاج. وبالجملة إن الشراب صرفاً في الشتاء أنفع من الممزوج، وكذلك الممزوج في الصيف أنفع من الصِّرف، غير أنه لا ينبغي أن يتعرض له من به صُداع أو ضعفٌ في الدماغ والعصب والعين أو حدَّة في الكبد، ومن تسرع إليه الحميات؛ قال أبو نواس:

ذكر ما جاء في العربدة

وندمانٍ ترادفه خُمارٌ ... فأورث في أنامله ارتعادا فليس بمستقلِّ الكأس مالم ... تكن يسراه لليمنى عمادا وقال: وندمانِ صدقٍ باكرَ الراح سُحرةً ... فأضحى وما منه اللسان ولا القلبُ فناولته كأساً جلت من خُمارِهِ ... وأتبعته أُخرى فثاب له لُبُّ وقال الصنوبري: ما دواء العقار [غير] العُقارِ ... لعليلٍ يُدعى قتيلَ الخُمارِ فاشرب البكر من يد البكر واعلم ... أن خير الهوى هوى الأبكارِ واصطبحها على ميادين خيريٍّ ووردٍ ونرجسٍ وبَهارِ جمعت زرقة البنفسج مع خضرة آسٍ وحمرة الجُلنارِ وقال عبد الله بن المعتز: قُم يا نديمي قد قضيت لُبانةً ... في طول ليلِك من رقادك فاقعُدِ فتداوَ من داءِ الخُمار بشُربةٍ ... تنفي الهمومَ وإن بدا لك فازددِ قلت: الصبوح، فقال: هاتِ، [فقلت] ها خذها، فقال: أبت تطاوعني يدي وقال آخر: وصرعغة مخمورٍ دفعتُ بقرقَفٍ ... وقد صرعتني بعد ذلك قرقَفُ فقام يداوي صرعتي متعطِّفاً ... وكنتُ عليه قبلها أتعطَّفُ نموت ونحيا تارةً بعد تارةٍ ... وتخلفنا لأأيدي السقاة وتتلفُ وقال ابن أبي فنن: لما بدا من أواخر الغلَس ... أقبل صُبح كغرَّةِ الفرس نبهتُ ندماني إلى مسعدٍ ... زين بكاسٍ كشعلة القبس فقلت خذ من أخيك صافية ... أطيب من نيل قبلة الخَلسِ فقام من شدة الخمار له ... كف فروقٍ وقلب مفترسِ وقال بعضهم: إذا أنا ميزت الخمارَ وجدته ... يكدِّرُ ما في الخمر من لذَّة الخمر فأحجم عن شرب النبيذ مخافة ... على جسدي من أن يئول إلى الضُّرِّ وإن امرءاً يبتاع لهواً بصحةٍ ... له سكرةٌ تغنيه عن طلب السُّكر ذكر ما جاء في العربدة شرب الحسين بن الضحاك الخليع يوماً عند إبراهيم بن المهدي فجرت بينهما ملاحاة في الدِّين والمذهب، فدعا إبراهيم بالنطع والسيف وقد أخذ منه الشراب، فانصرف الحسين غضبان، فكتب إليه إبراهيم يعتذر من ذلك وسأله أن يجيبه فكتب إليه الحسين: نديمي ليس منسوباً ... إلى شيءٍ من الحيفِ سقاني مثل ما يشرب فِعلَ الضيف بالضَّيفِ فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيفِ كذا من يشرب الراح مع التنِّين في الصيف ولم يعد إلى منادمته [ثم أن إبراهيم تحمَّل عليه ووصله فعاد إلى منادمته] . وكان إبراهيم بن المهدي يلقب بهذا البيت أو لقب به من قبل. ويقال أن عمر بن هبيرة الفزاري كان إذا سكر عربد على ندمائه وكان قصيراً، فقال يوماً لنديم له يقال له غيداق وكان طويلاً: أينا أطول، أنا أم أنت؟ فقلت: وقعت والله في شرٍّ، إن قلت أنت قال تهزأ بي، وإن قلت أنا، قال تحقرني، فقلت: أيها الأمير أنا أقصر منك ظهراً وأنت أطول مني ساقاً وفخذاً، فقال لي: ما أحسن ما خلصت منها. وقال محمد بن خالد الأصفهاني: لعمري بالنبيذ وشاربيه ... إذا شربوه زادهُم سكونا وحيّا بعضهم بعضاً عليه ... ولم يُلفوا عليه مُعربدينا فإياك النبيذ أحال بعدي ... فأورث من يعاقره جنونا أرى الندماء قد رذلوا فليسوا ... كما كان النِّدام الأولونا

ومرَّ إبراهيم الموصلي بصبية تُسلي الناس على الجسر اسمها (نَظْم) فسمع لها صوتاً عجيباً أطربه فأمر بحملها إلى منزله وتزوجها وعلّمها الغناء فبرعت فيه، وطرب الرشيد ذات ليلة وقد أخذ منه النبيذ، فركب حماراً وسار إلى دار إبراهيم متنكراً، فأخرج إليه إبراهيم جواريه خلف ستارة، وفيهن نظم، فغنَّت أحلى صوتٍ وأنغمه وأملحه، فقال لإبراهيم: من هذه الجارية؟ فقال: صبيَّة اشتريتها، فأفردها وأمرها فغنَّت مفدرة غناءً أطربه، فوثب إلى الستارة فهتكها، فإذا صبيةٌ ملفوفة، فضحك وقال لإبراهيم: ويلك ما هذه، فأخبره بقصتها، فشرب على غنائها حتى سكر ومكثت في دار إبراهيم إلى خلافة المعتصم، وكانت لها نوبةٌ في داره، وكانت شديدة العربدة، فكلمت المعتصم ذات ليلةٍ بكلام غليظ، قالت له في بعضه: إني أُمٌّ من أُمهاتك تعرَّض لها الرشيد وقد وطِئها؛ فأمر المعتصم بنفيها إلى السند فنُفيت إلى السند. وكان عمر بن موسى البرمكي يلي السند، فعربدت عليه ليلةً فقتلها. قال الشاعر: ونديم معربد ... مفسدٍ كلَّ مقعَدِ إن تعاتبه باللِّسان يعاتبك باليَد وقال آخر: لا تشربن ومعربداً في مجلسٍ ... إلا وعندك من دَمِ الأخوين ريحانُهُ بدمِ الشجاع مخضَّبٌ ... وتحيَّة الندمان لطم العين وقال آخر: رأيت القلب كاد يطير لمَّا ... رأيت معربداً يَهوِي إلينا فقلت وقد سمعت له نخيراً ... حوالينا الصدود ولا علينا وقالت الحكماء: استعذ بالله من جليس السوء فإن الشرَّ منه لا يكاد يخطئك. وحكى عمرو بن بحر الجاحظ عن الأصمعي قال: عربد بعض المجَّان على القمر فقال له: والله إنك لتغيِّر الألوان، وتصفر الأسنان وتخدِّر الأبدان وتفضح السكران وتظهر الكتمان وتبيض الأُرجوان وتلحس الزعفران وتهزل الحيتان وتمحق الأدمغة في النقصان. وقالوا: إن سبب العربدة لا يكون ممَّن بلغ به السُّكر ولا ممن لم يشرب، ولكن يكون ممن توسط هاتين الحالتين لأن من بلغ منه السكر لم تكن له حركة صحيحة ولا إرادة تامة. وأما من لم يشرب فإن عقله ثابت وحكمه، فيما يحكم به، على الصواب، وأما المتوسط، فليس في حدّ من عقله ثابت وتمييزه صحيح، ولا في حدِّ من بلغ في سكره مبلغ من قد بطلت معرفتُهُ. فعند ذلك يكثر فكره ويسوءُ ظنُهُ ويتخيل أشياءَ على غير ما هي عليه في الحقيقة، فيستخف ببعض أصحابه أن بعضهم قد استخف به فيعربد حينئذس من غير أصل. فما وجدت لمن كانت هذه حاله واخترت في مثلها أفعاله إلا كما قال بعضهم: لذتي في اثنتين لي ... من بديع التمرُّدِ صفع من تاه بالغناء وضرب المعربد ولذلك اختار بعضهم التفرد على الصاحب السوء والخدين المعربد للمثل السابق في قولهم: الوحدة خير من خدين السوء. وكان بالبصرة مجنون يقال [له] عبَّاس، فدعا أصحاباً من المجانين وأطعمهم وسقاهم نبيذاً، فعربد أحدهم، فأخذ بيده وأخرجه وأغلق بابه دونه ثم دخل وهو يقول: ومعربدٍ أخرجته ... لما تعرَّض للندامى أغلقت بابي دونه ... وتركته يرعى الخُزامى يرنو بمقلةِ مغضبٍ ... نظر الوصيِّ إلى اليتامى وعربد فتىً من بني هاشم على قومٍ فأراد عمُّه أن يعاقبه فقال: يا عم إني أسأت وليس معي عقلي فلا تسيء بي ومعك عقلك. وحضر مغن مع قوم فعربدوا، فقام ليصلح بينهم فأخذوا بحلقه فجعل يصيح: معيشتي يا قوم، الله الله في معيشتي، يريد أن معاشه من حلقه. وحكى المدائني قال: شرب رجل من بني ثعلبة يقال له المعدل، ورجل من بني عجل، وكانا يتنادمان ويدمنان الشرب، فقال العجلي يوماً وقد سكر: ألا فاسقياني على لذةٍ ... بفضل لُجَيمٍ على ثعلبة فقال المعدل: ومخزية قالها فاسق ... لئيم القفا معرق الأرنبة وضرب العجلي فقتله وهرب فاستجار بنهش بن ربيعة العتكي فأجاره وطلبه بنو عجل فمنعته العتيك وحملوا عند الدية. فقال المعدل: جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم، خير ما كان جازيا خلطوني بالنفوس وأحسنوا ... الثواية، لما حُمَّ ما كان آتيا

كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت في الأبطال كان تحاسيا وقال عبد الصَّمد المعذَّل يهجو المبرِّد: يا رب إن كنت ترى المُبرِّدا إن قاس في النحو قياساً أفسدا ويكسر الشعر إذا ما أنشدا وإن تحسَّةى الكأس يوماً عربدا فاقدُدْ له حيَّة قُفٍّ أسودا أنيابه عوج كأمثال المدى لو نكز الفيل العظيم الأربدا بنابه جرَّعه كأس الرَّدى قال: فقلت له: أتهجوني؟ فقال: ما هجوتك، إنما قلت: إن قاس في النحو قياساً أفسدا. وأنت لا تفسد القياس. وقلتُ: يكسر الشعر، وأنت لا تكسره، وقلت: وإن تحسَّى الكأس يوماً عربدا، وأنت لا تعربد، فما الذي يلزمك من هجائي؟ قال المبرِّد: فعزمت أن أُعربد عليه، فاجتمعنا يوماً، فقام ليبول، فقلت: إلى أين؟ قال: أبول، فقلت منتهراً: وكأنك فضلت البول علينا، فقبَّل رأسي وقال: أنا أعربد منذ ثلاثين سنة ما أحسنت قطّ مثل هذا. ويروى أن سبب تحريم الخمر في أوَّل الإسلام كان من حمزة بن عبد المطلب وعقره بعيري عليّ (رض) وقد تقدمت هذه الحكاية مشروحة في صدر هذا الكتاب. وكان النعمان بن المنذر شديد العربدة قتالاً للندامى، وكان له نديم يقال له عمرو بن عمار الطائي، من أعلم الناس وآدبهم، فنهاه أبو قردودة عن منادمته فلم ينته حتى عربد عليه ليلةً فقتله، فقال يرثيه: إني نهيتُ ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشَّعره إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بثوبك من نيرانهم شرره يا جفنة بإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقاً مثل وشي اليمنة الحبِرة وقد تقدم خبر جذيمة الوضاح وعربدته على نديميه، ملك وعقيل، حتى قتلهما بعد أن نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه فيها حديثاً، وقد تقدم فيما مضى في بدءِ الكتاب. وقالوا: كان بالبصرة رجل شديد العربدة، وكان له إخوان ظراف صابرون عليه، وهو لا يدع العربدة على حالٍ، فقالوا يوماً: تعالوا نحترز منه ما استطعنا، ولا نجعل له طريقاً إلى العربدة، قال: فأخذوا في تجنبه ومسارعته فساعدوه على كل ما أحب فضاق صدرُه، ولم يجد ما يتوسل به، إذ سمع صائحاً في الدار يقول: يا أبا روح، فنخر وقال: أبو [روح] كنية فرج، وفرج إذا صُحِّف فهو فَرْخ، وفرخ هو ولد زنا، وأنا والله المراد بذلك، ثم أخذ في أخلاقه من العربدة وكسر الماعون وضرب القوم، فعلموا أنه لا يملك الصبر عن أخلاقه فانقطعوا عن عشرته. وكان للنعمان بن المنذر نديم يقال له سعد، فقال له بعض الندماء يا سعد لقد خضمك الهُمام بشرابه حتى لقد كدت تنقد شحماً وتقطر دماً، قال: ذاك لأني آخذ ولا أُعطي، ولا أُلام ولا أُخطي، وأنا الدهر جذلٌ مسرور، وفرحٌ محبور، فسمعه النعمان من حيث لا يعلم، فجرَّد السيف ودخل عليه، فقال: أنت القائلك أُخطي ولا أُلام، فخبطه حتى مات. وكان المتوكل قد دعا أبا يوسف يعقوب بن السكيت إلى منادمته، فشاور بعض إخوانه من العلماء، فكل حذره وأشار عليه ببعد السلطان في تلك الحال، فغلبه هواه، ونادمه أياماً، فسكر المتوكل يوماً ونظر إلى المنتصر والمعتز ولديه قائمين على رأسه، فالتفت إلى ابن السكيت فقال: أيهما أفضل، هذان أم الحسين والحسن ابنا فاطمة، فقال: بل قنبر عبدهما أفضل من هذين ومن أمهما، فقال: خذوا برجل ابن الفاعلة، فجُرَّ برجله من بين يديه وكان آخر العهد به. وأنشد لأبي نواس: وإذا رام نديمي عربدة ... فاقرعن بالكأس من كبده كرِّر الخمر عليه بحْتةً ... كي تقيم الخمر منه أوده ثم وسده، إذا ما غلبت ... سورة الكأس عليه، عضُده خصلتا سوءٍ تشينان الفتى ... حيثما كان، الخنا والعربدة وشياطين من الأُنس هُمُ ... أحدثوا الفتك، غواة مردة قد سَقيت الخمر حتى ثملوا ... ليلةً ذات رياح حَرِدة وقال آخر: ونديم إن أنت نادمته مُتَّ بالندم حجر المنجنيق ليس يبالي بمن صدم وقال آخر: لا تقعدن ومعربداً في مجلسٍ ... إلا وترسٌ في شمالك واقِ وبكفك اليمنى حُسامٌ صارمٌ ... عضبٌ يقط جماجم الأعناقِ

ذكر ما جاء من الاختلاف في الأشربة

فبذاك تنجو إن نجوت وخير من ... هذا اجتنابُ مجالسِ الفساق ذكر ما جاء من الاختلاف في الأشربة أما تحريم الخمر فمُجمَعٌ عليه، لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء وتحريم النبيذ مختلفٌ فيه بين الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) والتابعين بإحسان حتى لقد اضطر محمد بن سيرين مع علمه وورعه، أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ، فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ. وكان عبيدة ممن أدرك أبا بكرٍ وعمر، فما ظنُّك بشيءٍ اختلف فيه الناس وأصحاب النبي (ص) متوافرون، فمن بين مطلِقٍ وكاره، وكلٌّ يقيم الحجة لمذهبه والشاهد على قوله، والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفِّت فاشتد حتى يسكر كثيره، وما لم يشتد فليس يسمّى نبيذاً، كما أنه ما لم يغل من عصير العنب فليس يسمى خمراً. قال الشاعر: نبيذ إذا مرَّ الذباب بدنِّهِ ... تقطَّر أو خرَّ الذُّبابُ وقيذا وقيل لسفيان الثوري، وقد دعا بنبيذ فشرب منه، ووضعه بين يديه: أبا عبد الله، لو غطيته لئلا يقع فيه الذباب فقال: قبَّحه الله، إذا لم يذبَّ عن نفسِهِ. قال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش، وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قومٌ من طلبة الحديث فسترته فقال: لم سترته؟ فكرهت أن أقول لئلا يراه من يدخل، فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب، فقال لي: هيهات هو أمنع من ذلك جانباً، ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرَّمها الله في الكتاب ما اختلف في تحريمه اثنان. قال محمد بن وضاح: سألت سحنوناً فقلت له: ما تقول فيمن حلف بطلاق امرأته، إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر التي حرَّمها الله عز وجلَّ في كتابه، قال: بانت منه زوجته. قال أبو محمد بن قتيبة: أما الذين ذهبوا إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر وبين ما طبخ وبين ما نُقع وبين ما اشتد وما سَهُل، فإنهم غَلوا في القول واشتدوا في الحذر ونحلوا قوماً من البدريين ومن خيار التابعين وأئمة السلف المقتدى بهم في الدين شُرْب الخمر، وزيَّفوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل، فاتهموا القوم ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ وبرَّؤوا منه أنفسهم. وقد كان قوم من الصحابة يرون المتعة بالنساء جائزة ويفتون بها، منهم ابن مسعود وابن عباس، وجماعة غيرهما، ومن التابعين عطاء وطاووس وسعيد بن جبير وهي عند غيرهم زنى، فهل يجوز أن يقال: هؤلاء زَنوا، وأفتوا به على التأويل. وأما الآخرون الذين ذهبوا إلى تحليل ما دون السُّكر منه، فإنهم أفرطوا في الإطلاق كما أفرط الأولون في الحظر، ولو كان ما احتجوا به في حديث ابن مسعود، في نسخ تحريم المسكر بتحليله، وأنه حضر من التحليل ما غاب القوم عنه، صحيحاً لما عدلنا عن القول به إلى غيره ولرأيناه شبيهاً بالمتعة لأن الله جلَّ ثناؤه رخص فيها فقال: لا جناح عليكم فيما استمتعتم به منهنَّ، فأذن رسول الله (ص) بها فاستمتع المسلمون، ثم حرَّمها رسول الله " ص " إلى يوم القيامة، ولم يحضر التحريم إلا ال من الصحابة، وقُبض رسول الله " ص " فأقام كثير منهم على الفتيا بها، فاتبعهم على ذلك قوم من التابعين، وشبيهاً بالظروف التي كان نهى عن الانتباذ فيها ثم أذن في ذلك فقال: انتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً، وفي حديث آخر: ولا تسكروا. وكما نهى عن زيارة القبور ثم رخَّص في ذلك فقال: زوروها ولا تقولوا هجراً. وكما نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وأطلق ذلك، فقال: كلوا وادخروا ما بدا لكم. ولكنا لم نرَ أهل الأثر يثبتونه عندهم، وهم عندنا القدوة في معرفة صحيح الأخبار وسقيمها، وإذا كان ذلك لا يصح فكيف يجوز لنا أن نُحِلَّ المسكر وقد حرَّمه رسول الله " ص " بالأخبار الصحاح [و] الطرق الممتنعة عن حيَل الناس، فإن قال قائل: إن السُّكر هو الشربة المسكرة والقدح المنيم أكذبه النظر، لأن القدح الآخر إنما أسكر بالأول وكذلك اللقمة الأُخرى، إنما أشبعت باللقمة الأُولى، والجرعة الأُخرى إنما أروت بالجرعة الأُولى، وتلك الشربة التي أسكرت المعاقر عندهم لو جعلت [أول] شربة لآخره لم تسكره. وقوى الحبل إذا اجتمعت وأُمرت ثم اتخذ منها مرس يوثق به البعير لم تكن قوة منها أولى بحبس البعير وضبطه من الأُخرى، فكيف يعرِف القدح المسكر [من شرب] فيجتنبه إلا بالظن الذي قد يخطئُ ويصيب.

وأما من قال إن الحديث: كل مسكرٍ حرام، وفي بعضها، كل مسكر خمر، فهل يجوز أن يكون كل مسكر خمراً، وإنما كان له أن يُعارض هذه الأخبار، بهذا التأويل لو وجد له أصلاً في الروايات الصحاح فيجعله شاهداً، لما قال وتوهم على الناقلين لِما خالف مذهبه الغلط، ومن قال أن السكر حرامٌ فإنما ذلك مجاز من القول، والحقيقة، ما يكون منه السكر حرام، ومثل ذلك التخمة، حرام، وإنما يريد أن أكلك ما تكون منه التخمة حرام. وأما الفرقة التي أحلت بالنار، فإنها أيضاً غلت في القول فشربت الشديد والعتيق الذي يسكر بعضُه وحَرَّموا الفقاع لأن النار لم تمسه، وهذا الذي أحلوه أشدُّ إسكاراً من الخمر وأصعب خماراً وأبطأ تحللاً، وأما الذين حرموا بالظروف وأحلوا بها فرأوا الحلوَ والنقيع في الجر حراماً، و {ا، االصلب الشديد في السقاء حلالاً والظروف لا تَحِلُّ ولا تُحَرَّم، وإن ما ذكره رسول الله " ص "، الظروف المزفتة والحنتم، لأن النبيذ يشتد فيهما ويتصلب فنهى عنها، ثم أذن فيها فقال: اشربوا في كل ظرفٍ ولا تسكروا. قال ابن قتيبة: وأما ما نذهب إليه ونراه عدلاً من القول خارجاً عن الإفراط [والتقصير] ، فتحريم الخمر بالكتاب وتحريم المسكر بالسنة، والمحرم ما حرَّمه الله تعالى نصاً في القرآن نحو، الميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا فرض على المسلمين أن يجتنبوه، فمن طعم شيئاً منه عامداً غير مستغفر منه ولا نادم عليه كانت النار مثواه إلاَّ أن تلحقه رحمة الله التي وسعت كل شيء وعفوه الذي لا ييأس منه إلا الكافرون؛ وترك الفرائض، نحو الصلوات الخمس وزكاة المال وصوم شهر رمضان، فمن ترك شيئاً من هذا ثم لقي الله غير مستغفرٍ منه ولا نادم عليه فهو بحال الأول. ومحرَّم آخر حرَّمه رسول الله " ص "، كسباع الطير والوحش ولحوم الحمر الأهلية، وكتحريمه الحرير والديباج، وهذا واجب على المسلمين أن يحرموه، وليس كوجوب الأول، ولا التغليظ فيه على من خالف كالتغليظ في الأول، وقد أتت الرخصة في بعضه كالقليل من الديباج يكون في الثوب والقليل من الحرير. واستأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله " ص " في لبس الحرير لعله كانت به فأذن له. ولا بأس إذا خالطه في نسجه القطن إذا لم يكن بحتاً، وكان كالتفريط في صلاة الوتر وركعتي الفجر، فلا نقول إن تاركها كتارك الفرائض من الظهر والعصر. وروي أن البراء بن عازب تختَّم بالذهب، وأُصيب أَنف عرفجة بن سعد يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أَنفاً من ورق فأنتن فأمره النبي " ص " أن يتخذ أنفاً من ذهب. وكان شريح يقضي بين الناس على جلد أسد، وقد أجمع الناس على أن من أكل لحم ثعلب ليس كمن أكل لحم ميتة، ومن لبس جلد سمور ليس كمن لبس جلد خنزير، ومما يدل على هذا أيضاً حديث رفعه إلى مدرك بن عمَّار قال: دخل النبي " ص " حائط رجل من الأنصار فرأى رجلاً معه نبيذ في نقير فقال: أهرقه، فقال: أو تأذن لي فأشربه ثم لا أعود فقال " ع " فاشربهُ ثم لا تعد. وروي في حديث يرفعه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني رجل مسقام فأذن لي في جرة أنتبذ فيها فأذن له. وكان ذلك قبل أن يأذن في الظروف. وهذا يدل على أنَّ ما يحرمه النبي " ص " قد يجوز أن يرخِّص فيه لمن شاء وعلى حسب العلة والعذر، ولا يجوز له [الترخص] فيما حظر الله له إلاَّ في الموضع الذي أطلقه. ونهى رسول الله " ص " عن شيءٍ، وأمر بشيءٍ، على جهة التأديب، فالعمل به فضيلة ومثوبة وليس على تاركه عقوبة كنهيه عن لحوم الجلاَّلة وعن كسب الحجام، وليس هذا مما حرَّم الله ولا مما حرَّم رسول. والأشربة بهذا السبيل وأحدها الخمر وهي محرمة بكتاب الله عزَّ وجلَّ كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل منها قليل ولا كثير حتى يفسد ويفارقها العرض الذي حرمها. والخمر نوعان، أحدهما مجمعٌ عليه، والآخر مختلف فيه، فأما المجمع عليه فهو ما غُلي من عصير العنب من غير أن تمسه النار، وأجمع المسلمون جميعاً أن هذه الخمر لا يحل منها قليل ولا كثير ولا يستعمل في طعام ولا شراب ولا دواء حتى ينقلب فيصير حلاًّ. والجنس الآخر المختلف فيه، نقيع الزبيب والتمر، إذا اشتد وصلب، ونبيذ التمر هو المسكر. وقال آخرون هو خمر، وهذا القول هو الأولى، لأن تحريم الخمر نزل وخمور الناس مختلفة وكلها يقع عليه هذا الاسم في ذلك لبوقت.

قال أبو موسى الأشعري: خمر أهل المدينة من البُسر والتمر وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن البتع وخمر الحبشة السُّكركة وهو من الذرة والمزر من الحنطة والشعير. وقال عمر " رض " الخمر من خمسة أشياء: البُرّ والشعير والتمر والزبيب والعسل، والخمر كل ما خامر العقل، فأما ما شربه النبي " ص " وأصحابه من نبيذ السقاية وهو نقيع فإن نبيذ السقاية يتخذ قبل يوم التروية بيوم أو يويمن فيشربه الناس حلواً وربما دخله شيءٌ من عَرَض النبيذ كالرائحة من حرارة البلد وسرعة تغير الأطعمة والأشربة فيه، فليس يكون في شيءٍ من هاتين الحالتين حراماً، وإنما يُحرم إذا دخله عرض الخمر واعترته النشوة وصَلُب. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُنقع له التمر والزبيب فيشربه ثلاثاً، فإذا جاوز ذلك أمر فسُكب أو سقاه الخدم لأنه بعد ثلاث يتغير شيئاً فيتنزه عنه لا لأنه حرامٌ، ولو كان حراماً ما سقاه أحداً. وهذا كتركه أكل الثوم تنزهاً عنه وصوناً للوحي وإذنه للمسلمين في أكله إذا طبخ. والثاني من الأشربة، المسكر وهو محرَّم بسنة رسول الله " ص " كما حرمت لحوم السباع ولحوم الحمر الأهلية ولحوم ذوات المخالب من الطير وليس التغليظ في الخمر وإن كانت حراماً ولا يكون من شَرِبَ نبيذ زبيبٍ أو نبيذ تمرٍ، وإن أسكر كثيرهما، كمن شرب خمراً، كما أن أكل لحم الحمار الأهلي ليس كأكل لحم الخنزير، على ما مثلت لك [من] تشبيه المحرم في كتاب الله عز وجل بالفروض وتشبيه المحرم بسنة رسول الله " ص " بالسنن. والمسكر من الشراب كل ما صَلُب واشتد وازداد على مرَّ الأيام جودة من نبيذ الزبيب المطبوخ ونبيذ التمر المطبوخ مفردين وخليطين، والطِلاء غير ذلك، وإنما سُمِّي مسكراً لأنه مدخل في السكر [والسكر] ذهاب العقل. وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه، في باب السكر من هذا الكتاب، وأما قول رسول الله " ص ": كل مسكر خمر، فعلى مجاز اللغة، يريد أنه بمنزلة الخمر لأنه حرَّمه بالسُّنة، كما حرم الله الخمر بالكتاب، كما قال ابن شبرمة: يا أخلاَّيَ إنما الخمر ذيب ... وأبو جعدة الطلاء الممريب ونبيذ الزبيب ما اشتد منه ... فهو للخمر والطلاءِ نسيب أخذه من قول عبيد الأبرص: هي الخمر يكنونها بالطلاءِ ... كما الذيب يكنى أبا جعدةِ وسئل أبو الأسود عن نبيذ الزبيب فقال: فإلاَّ يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أُمُّه بلبانها أما قولهم أن خياراً من الصحابة شربوا الصُّلب، وشربوا النبيذ فتوهموا أنهم شربوا المسكر ووجدوا محبَّة من النفوس لذلك يتبعها الهوى، فإذا الصلب الذي شربوا ما زايلته الحلاوة فصار صلباً لمفارقة الحلاوة وعذوبتها، وهو في نفسه رقيق ضعيف لا يكون منه إذا شرب الرجل ما في وسعه أن يشرب مثله، إطباقٌ على العقل وإنما يكون في الإكثار منة خدرٌ وفتور. وخيرٌ لك، إن كنت تخاف أن يدعوك ما رخَّص الله فيه إلى ما حرَّمَ عليك، أن تدعه كله، كما قالوا: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقال آخرون: قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالٌ وكثيره حرام، والشربة المسكرة هي المحرمة ومثل الأربعة الأقداح التي يُسكر منها الرابع مَثلُ أربعة رجال اجتمعوا على رجل فشجَّه أحدهم [شجة] مُوضِحة ثم شجه الآخر منقِّلة ثم شجَّه الثالث مأمومة، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه، فلا نقول إن الأول قاتله، ولا امتنع الثاني ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه، [وعليه] القوَد. وقال آخرون من أهل النظر إن الخمر إنما حرمت لإسكاهرا وجرائمها على شاربها فالعلة التي حرِّمت لها الخمر من الإسكار والصداع والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة قائمة بعينهافي النبيذ كله فسبيله سبيل الخمر لا فرق بينهما في لالدليل الواضح والقياس الصحيح. وقالوا لِمن أجاز قليل ما أسكر كثيره، إنه ليس بين شارب امسكر ومواقعة السكر حدٌّ ينتهي إليه ولا يقف عنده، ولا يعلم متى يسكر حتَّى يسكر، كما لا علم للناعس متى يرقد حتى يرقد.

من الشراب المسكر أقداحاً كثيرة ولا يسكرر، وقد يشرب منه غير القليل فيسكر، وقال المُحِلّون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ، إنما حرمت الخمر بعينها، خمر العنب خاصة، بالكتاب، وهي معقولة مفهومة لايمتري فيها أحد من المسلمين، وإنما حرَّمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس ولو كان ذلك كذلك، لما أحلها الله للأنبياء والمتقدمين والأُمم السالفين، ولا شربها أصحاب النبي " ص " في صدر الإسلام. وأما قولكم إنها رجس فقد صدقتم في اللفظ، وغلطتم في المعنى إن كنتم إنما أردتم أنها نَتَنٌ لأن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة، ولا وصفها أح بذلك، وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم، وكذلك سمى الله تعالى المحرمات كلها خبائث، وسمي المحللات كلها طيبات، وقد ذكر الله الخمر فيما امتنَّ به على عباده قبل تحريمها فقال: ومنثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سُكراً ورزقاً حسناً. ولو أنها رجس على ما تأولتم، ما جعلها الله في جنته وسمّاها: لذة للشاربين، فإن قلتم إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا وإن الله نفى عنها عيوب خمر الدنيا، فقال: لا يُصدعون عنها ولا يُنزفون. وكذلك قوله في فاكهة الجنة: لا مقطوعة ولا ممنوعة، فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأنها تأتي في وقت، وتنقطع في وقت. وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضدّ ما ذكرتم، من طيب النسيم وذكاء الرائحة، قال الأخطل: كأنما المسك نهباً بين أرجلنا ... إذا تضوع من ناجودها الجاري وقال الحسن: فتنفست في البيت إذ مُزجت ... كتنفس الريحان في الأنف وقال: نحن نخفيها ويأبى ... طيب عَرفٍ فتفوح وإنما قوله: رجس، كقوله: فأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم. أي كفراً إلى كفرهم. وأما منافعها التي ذكرها الله عز وجل في قوله: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فإنها كثيرة لا تحصى، قدَّمنا منها في صدر كتابنا ما فيه كفاية. واحتجوا في قول رسول الله " ص ": كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، وهو ستة عشر رطلاً، فملء الكف منه حرام. مما رواه مالك بن أنس عن أبي سعيد الخدري أنه قدم من سفرٍ فقُدِّم إليه لحم من لحوم الأضاحي، فقال: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ناهكم عن هذا بعد ثلاثة أيام، فقالوا: قد كان بعدك من رسول الله " ص " فيها أمر، فخرج إلى الناس، فسألهم، فأخبروه، أن رسول الله " ص " قال " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا وتصدقوا، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هُجراً. والحديثان صحيحان رواهما مالك وأثبتهما في موطئه، وإنما هما ناسخ ومنسوخ [وإنما] نهينا عن النبيذ الشديد وأن نشربه حتى نسكر، ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكراً أما أباح لنا منه شيئاً. وقد شرب رسول الله " ص " من سقاية العباس فوجده شديداً فقطَّب بين عينيه، ودعا بذنوب من ماءِ زمزم فصبَّ عليه، وقال: إذا كان هكذا فاكسروه بالماء. ولو كان حراماً لأراقه وما صبَّ عليه من ماء ثم شربه، فقد نسخ بشربه الصُّلب في حجة الوداع ما كان قبله. والدليل على ذلك أنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر، ثم وفدوا عليه بعد ذلك فرآهم مصفرةً ألوانهم، سيئة حالهم، فسألهم عن قصتهم، فأعلموه: أنهم كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم منه، فأذن لهم في شربه. وأن ابن مسعود قال: شهدنا التحريم وشهدتم، وشهدنا التحليل وغبتم، وأنه كان يشرب الصلب من نبيذ الجر، حتى كثرت الروايات به عنه وشُهرت وأُذيعت واتبعه عليها التابعون من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم: قال في ذلك شاعرهم: من ذا يُحرِّم ماء المزن خالطه ... في جوف خابيةٍ ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيها ويعجبني قولُ ابن مسعود وإنما أراد أنهم كانوا يعمدون إلى الرب الذي قد ذهب ثلثاه فيزيدون عليه من الماء قدر ما ذهب منه يتركونه حتى يغلي ويسكن جأشه ثم يشربونه.

وكان عمر يشرب على طعامه الصلب ويقول: يقطع هذا اللحم في بطوننا. وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة خمرٍ فحدَّه عمر للسكر لا للشرب. ودخل عمر على قوم يشربون فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم وهمَّ بتأديبهم، فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين، نهاك الله عن التجسس فتجسستَ، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلتَ، فانصرف وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عُمر. وإنما نهاهم عن المعاقرة، وإدمان الشراب حتى يسكروا ولم ينههم عن الشرب. وأصل المعاقرة من عقر الحوض وهو مقام الشاربة، ولو كان عنده، ما شربوا، خمراً، لحدهم. وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال: لا، قيل: ولِمَ؟ قال: أترك كثيره لله وقليله للناس. وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصُّلب الذي تحمر منه وجنتاه. واحتجوا من جهة النظر أن الأشياء كلها حلال إلا ما حرم الله، قالوا: فلا نزيل يقين الحلال باختلاف ولو كان المختلفون أكثر الناس. وأهل الكوفة فقد أجمعوا على التحليل لايختلفون فيه، وتلوا قول الله عز وجل: أفرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل الله أذن لكم أم على الله تفترون. قال عبد الله بن مُصعب لشريك بن عبد الله: يا أبا عبد الله، أتشرب النبيذ، قال: نعم. فقال: سبحان الله، وكيف تشربه وقد جاء في الحديث: ما أسكركثيره فقليله حرام، قال شريك: اختلف الناس فيه، فشربنا ما اختلفوا فيه، فليتك تدعُ ما أجمعوا على تحريمه. واحتجوا في تحليل قليله بحديث علي بن أبي طالب " رض ": أن القوم يجلسون على الشراب وهو حلال فلا يزالون حتى يكون عليهم حراماً. وقال بعض أهل النظر، قال الله عز وجل: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. فنصَّ على الخمر ولم يذكر غيرها مع كثرته وشهرته، فعلم أنه قد تركه على إباحته، ولو كان أراد تحريمه لذكره ونصَّ عليه، فوجب أن القليل من هذه الأشربة الذي لا يكون منه سكرٌ، حلالٌ، للإجماع على تحريم السكر. ويُروى عن ابن مسعود أنه قال: رأيت رسول الله " ص " يطوف بالبيت فاستسقى فأُتي بقدح من نبيذ فشمَّه، وقطب، ثم دعا بماءٍ من زمزم فصبَّه فيه وشرب ثم قال: إذا اشتد عليكم نبيذكم فاكسروه بالماء. وما تقدَّم من قول ابن قتيبة أقرب إلى الصواب في التأويل. وقد قال القوم من أهل النظر: إن السكر حرام، وما كان دون السكر أو بعيداً منه فلا بأس به. واحتجوا أن عصير العنب، ما دام حلواً، فهو حلال مطلق، وكذلك إذا استحال وصار خلاً، وإنما يُحرم منه ما أسكر بالسبب المتوسط بين الحالين. وقال بعض أهل النظر: إذا انقلبت العين بطبخٍ أو مزج ماءٍ أو غيره فقد زال التحريم على القياس. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا كان الإنسان منتهى سكره من هذا النبيذ عشرة أقداح فشرب ثمانية أقداح أو تسعة فلم يسكر فهو رُخصة في ذلك لقول رسول الله " ص " كل مسكر حرام وفي رواية أُخرى: كل سكرٍ حرام. وروي عن عثمان بن أبي العاص أن عمر " رض " لما فطر قال: أعندكم من شرابكم شيء، قالوا: نعم، فأتوه به فشمه فسطع في خياشيمه فكسره بالماءِ وشربه. وعن أبي هريرة أن عمر شرب في جفنةٍ لناسٍ من أهل الطائف، فلما ذاقه قطَّب وقال: إذا اشتد متنه فاكسروه بالماءِ، ثم قال: إن نبيذ الطائف له عرامٌ، ثم شربه. وعن حسان بن مخارق أن رجلاً كان صائماً فأهوى، حين أفطر إلى قربةٍ فشرب منها فسكر، فأُتي به عمر رحمه الله، فقال الرجل: إنما شربتُ من قربتك، فقال عمر: إنما أجلدك لسكرك لا لشربك وقال: من رابه ريبٌ فليُسبحه بالماءِ. وروي عن عمرو ابن ميمون أن عمر قال: إنا لنشرب من النبيذ الشديد ليقطع لحوم الإبل في بطوننا، قال: وشربت مما عُمِل له فكان نبيذاً شديداً. وعنه قال: شهدت عمر حين طُعن فجاءه الطبيب فقال: أيُّ الشراب أَحبُّ إليك؟ قال: النبيذ، فأتي بالنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعنتيه. وروى الأعمش عن النخعي عن علقمة قال: شربت عند ابن مسعود نبيذاً صُلباً آخره يسكر. وعن ربعيٍّ بن حراش أن عمر " رض " أتى قوماً فأخرجوا إليه نبيذاً حلواً، فقال: أعندكم ما هو أشد من هذا؟ قالوا: نعم ولكن كرهنا أن نأتيك به، فأتوه به فكسره بالماء وشرب حتى روي، ثم أعطاه الذي عن يمينه.

وكتب يعلى بن أُمية إلى عمر " رض " إنا نؤتى بقوم شربوا الشراب، فكتب إليه: من أُتيت به فاستقرئه أُم الكتاب وألقِ رِداءَه وأردية [أُخرى] فإن لم يعرف رداءه فأقم عليه الحد. وروى نافع بن الحارث: أن عمر قال: اشربوا هذا النبيذ فإنه يقيم الصُّلب ويهضم ما في البطن وإنه لن يغلبكم ما وجدتم الماء. وروى الأعمش 'ن موسى بن طريف عن أبيه، أن علياً " رض " كان يشرل النبيذ في الجرِّ الأخضر. وسأل رجلٌ علياً قال: أفتني في النبيذ، قال: إشرب ولا تسكر. وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: تعشيت عند علي " رض " فسقاني طلاءً فلما قمت لأخرج، كان الطريق يمنةً فأخذت يسرة، فدعاني عليّ فقال: لعل شرابنا أخذ برأسك. يا جارية، خذي معه قبساً. وروي أن رجلاً شرب من إداوةِ عليّ فسكر فجلده عليّ وقال: حدُّ النبيذ إذا أسكر ثمانون كجلد الخمر. وروي عن الحسين بن عليّ أن رجلاً سأله عن النبيذ قال: اشربه فإن خفت أن تسكر فدعه. وعن العمش عن المنذر قال: رأيت محمد بن الحنفية يشرب من نبيذ الدنِّ وكان يشرب الطلاءض الشديد. وروي عن أبي جعفر أن علي بن الحسين كان رجلاً ممعوداً وكان يوافقه انبيذ الصلب فيشربه. وقال عاصم: أدركت أقواماً يتخذون هذا الليل جملاً كانوا يلبسون المعصفر، ويشربون نبيذ الجر، لا يرون به بأساً، منهم، زِر بن حبيش وأبو وائل شقيق بن سَلَمة، وكانا يشربان نبيذ الخوابي. وكان شريح يشرب الطلاء الشديد. وروى الأعمش عن أبي إسحق قال: عرَّست فدعا أبي أصحاب عليّ وعبد الله بن مسعود، فشربوا نبيذ الخوابي وهم يرونها يسقي منها بالزواريق. والأحاديث عن هذه الطبقة من أصحاب علي " رض " كثيرة جداً. وعن غيلان ابن زيد قال: رأيت أبا عبيدة بن عبد الله يشرب النبيذ في جرٍ أخضر ويقول: إن محرم ما أحل الله كمستحل ما حرَّم الله عز وجل، وكان يشرب الطلاء حتى تحمر عيناه. وقال مكحول: إذا شرب الرجل النبيذ فطابت نفسه وطرب فليحرم بقيته عليه فإنه ليس بعد الطرب إلا السكر. وكان إبراهيم النخعي وعامر الشعبي يشربان المسكر من النبيذ، وكان يقول لا خير في النبيذ إلا الشديد منه. وقال: أفسد الناسُ النبيذ بميم زادوها في الحديث، قالوا: كل مسكر حرامٌ، وإنما هو كل سكرٍ حرام. وقال: الشربة التي تسكر من النبيذ حرام، ولم يكن يرى بنقيع الزبيب بأساً، ولم يكن يرى على سكران النبيذ حدًّا، ويقول اكتموه عن أصحاب النبيذ. وعن إسماعيل بن عبد الله قال: رأيت سعيد بن جبير يشرب نبيذ الخوابي. وحضر الحسن البصري وليمةً ومعه عشرة من أصحابه فأُتوا بطعامٍ فأكل ثم أُتي الحسنُ بنبيذ شديدٍ فشرب منه ثم ناول القوم فشربوا فقال أحدهم: الماءُ أحبُّ إليَّ، فقال الحسن: إن ذلك عليك لبيِّن. وسئل مطرف بن عبد الله بن الشخِّير عن النبيذ فقال: اشرب ما لا يهلك فيه مالك أو يذهب منه عقلك. وعن أنسٍ قال: كانت أُم سُليم تنبذ نبيذاً لها في جرٍّ أخضر، فكان رسول الله " ص " يجيءُ فيشرب منه. وسئل الضحاك بن مزاحم عن نبيذ الجرِّ فقال: لا بأس به. وسئل أبو بكر الهُذلي عن النبيذ فقال: تمادى فيه السفهاءُ حتى كرهه العلماءُ. وقال أبو بكر بن عباس المنتوف: أجمع الفقهاء على أن المسكر والخمر حرام وإذا اشتد النبيذ كُسِر بالماء وهذا لا بأس به، والله لو كان النبيذ حراماً ما اختلف فيه اثنان. وكانوا يرون ما اشتد من الأشربة التي قد طبخت على النار، حلالاً، إلا ما كان من عصير العنب فإنهم تحرجوا منه إلا ما ذهب ثلثاه وبقي عسلاً لا يشتد فإنهم أجازوا ثلثه. وكان أبو حنيفة يرى أن شرب النبيذ من السنة. وقال ابن المبارك: أما النبيذ الذي كثيره [حرام] فلو أن رجلاً شدد فيه لم أُنكر عليه ولو أن رجلاً رَخَصَ فيه لم أُنكر عليه. قال ابن المبارك: روي عن ثقات أهل الكوفة عن عمر " رض " تحليله، وروي عن ثقات أهل المدينة تحريمه، فمثله عندي كمثل رجلين تنازعا في سلعةٍ في يد أحدهما، كل واحد يقول: هي لي، وليس لواحد منهما بينة، فأقضي بينهما، فلا أقول حلالاً ولا حراماً. وقد فرقَتِ العرب بين الخمر وبين سائر الأشربة، قال الفرزدق: إن الأخامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديماً مولعاً الخمر واللحم السمين أحبُّه ... والزعفران به أروح من وعا وقال حسَّان:

إذا ما الأشربات ذُكرن يوماً ... فهنَّ لطِّيب الراحِ الفِداء ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء وقال القلمس: نهاني امرؤٌ عن لذتي أن أنالها ... فقلت دع التقييد في الشرب للخمرِ تقضت لذاذاتي فلم تبقَ لذةٌ ... سوى شربها صهباءَ طيِّبة النشرِ إذا ما حساها المرءُ ظلَّ مرنحاً بسورتها يهذي مراراً ولا يدري أروي بها نفسي فتحيا بشربها ... ولا أشتهي شرب النبيذ من التمر ففرق بينها وبين النبيذ. وقال سوادة بن الصامت: الكأس همي والندى هِمَّتي ... والموت عندي شرب صفو النقيع والعيش صفوُ الراحِ صرفاً إذا ... نادى المنادي بصلاةِ الجميع ففرق بينها وبين النقيع ولم يعدَّه خمراً. وقد جاء أبو الأسود الدُّؤلي بأوضح من هذا فقال: دعِ الخمر يشربها الغُواة فإنني ... رأيتُ أخاها مغنياً بمكانها فإلاَّ يكنها، أو تكنه، فإنه ... أخوها، غذته أمه بلبانها فهؤلاء فُصحاء العرب، فرَّقوا بين عصير العنب وغيره فسمَّوه خمراً دون سائر الأشربة، وهكذا صفتها بكل لسان وعند كل أُمةٍ. وقد أجمعوا أن قليل الخمر وكثيره حرامٌ. وأكثرهم يشرب ما دون السكر من سائر الأشربة لأنها لا تُعرف عندهم بخمر، ولو كانت خمراً لكان القليل منها حراماً. وقد رووا عن ابن عباس، عن النبي " ص " أنه قال: حرِّمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب. فلو أن الأشربة الشديدة كلها محرمة لما كان لقوله: حُرمت الخمر بعينها، معنىً، لأن ذلك إنما يقال لما حُرِّم وحده، فإن قال قائل: قد روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله " ص " منهم عمر " رض " أنهم قالوا: إن الخمر من الزبيب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، وأن الخمر ما خامر العقل. وما رُوي عن أنس أنه كان يسقي عمومته من الأنصار، حتى دخل عليهم داخل فقال: إن الخمر قد حُرِّمت فأمروه بإراقتها ولم يكن خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ. وما شابه ذلك من الأخبار. قيل له إن هذه أخبار آحادٍ لا يثبت بها أن يُطبقوا على تحريم سائر الأشربة الشديدة لوجود اسم الخمر لها عندهم، فلما لم تُجمع المسلمون على هذه التسمية ولا اشتهرت عن العرب وجب بطلان ما ادعاه من سمَّى هذه الأشربة خمراً إذ كانت الأسماء لا تؤخذ بالقياس. وقد صحَّ بالأخبار المتواترة أن نبيذ التمر كان فاشياً بالمدينة يشربه أهلها غنيهم وفقيرهم ويجري عندهم مجرى أقواتهم، فلولا أنه أراد إطلاق الأشربة لهم لنصَّ عليه كما نص على الخمر لأن النص عليه أولى لشهرته وكثرة متناوليه ولقلة الخمر، فإنها لا تكاد توجد عندهم. العلماءُ في هذه الأشربة طبقتان: طبقة تحلُّها وطبقة تحرِّمها، وتذهب في تحريمها إلى القياس على الخمر وإلى أخبار آحادٍ جاءَت بتحريمها، نحو الخبر: بأن كلَّ مسكرٍ حرام، والخبر الآخر: ما أسكر كثيره فقليله حرام. ولم يذهب أحد في تحريمها إلى أن اسمها خمر، وقد اضطربت الرواية في هذا المعنى واختلفت اختلافاً يدل على فسادها. وهو أن بعضهم روى أن الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة. وروى آخر أنه، عليه السلام، قال: كل مسكرٍ خمراً، فقد صارت الخمر من مائة شيءٍ مثلاً، ومن قال أنها من شيئين كان قوله فاسداً، وكذلك من قال أنها من خمسة أشياء. ووجه آخر يوجب بطلان قول من حمل هذه الأحاديث على ظاهرها وهو أن كل مسكرٍ حرام، منها أن اللبن الرائب يسكر كثيره كقول بشر بن أبي خازم: فأما تميم، تميم بن مُرٍّ ... فألفاهُم القوم روبي نياماً قال: شربوا الرائب حتى سكروا، وليس أحد من المسلمين يُسمي اللبن خمراً. والبنج يسكر، والنوم يسكر، وإذا جاز أن تخرج هذه الأشياء من جملة قوله: كل مسكر خمر، جاز أن تخرج سائر الأشربة الشديدة التي من عصير العنب، من جملة الخمر.

قالوا وأما قولكم إن الخمر ما خمر والنبيذ كله يخمر فهو خمر، فإن

ومنها ما جاء بأن الخمر ما خامر العقل، وقد يخامر العقل النوم، والبنج، والإغراق في الفكر، والغشي، وما أشبه هذا مما يعرض للدماغ، فظاهر الخبر يوجب أنه خمر. وقد روى ابن عباس قوله " ع ": حُرِّمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب، فقد أباح بقوله هذا القليل مما لا يسكر كثيره، وأوجب أنها لا تكون خمراً، إذ قليل الخمر وكثيرها حرام بالإجماع. ورووا عن عليٍّ (رض) أنه قال: ما أُبالي أخمراً شربت أم مسكراً، ففرق بين الخمر والمسكر، ولو كان الخمر عنده ما أسكر، لما كان لقوله هذا معنى لأنه قال: ما أُبالي شربت خمراً أو شربت مسكراً، وهذا من قول عليٍّ، مع سائر الأخبار المروية في تحليل النبيذ الشديد، يدل على أن هذه الأشربة لم تكن خمراً عند أحدٍ، ولو كانت خمراً في الحقيقة، ما أقدموا على شرب قليلها وإنما أراد القائل منهم، حُرِّمت، وهي من خمسة أشياء، إلى ما يقيمونه مقامها من خمسة أشياء، وما يتناولونه عَرَضاً منها، من خمسة أشياء تفعل فعلها كقول القائل: فلان يأكل الخبيص، وما خبيصنا إلا التمر، وكذا قول عائشة (رض) وقد ذكرت الطيِّب فقالت: وما كان طيبهم إلا الماء. وكذلك قوله (ص) : كل مسكر حرام، أي يقوم مقام الخمر ويكون فيه من الصد عن ذكر الله، وفساد العقل ما يكون في الخمر، وكذلك قوله: ما خمرته فهو خمر، أي هو في معنى الخمر لشدته، ومعنى قول النبي (ص) : لا تشربوا مسكراً، يعني القدح الذي يوجب شربُكم له السكر، وذلك هو الآخر مما يشرب إذا كان الأول لم يوجب ذلك، ولا كان الإنسان عند شربه إياه سكران. وأما قوله: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ، فإنما أُريد به قليل ما قُصد إلى السكر بكثيره، لأن من قصد ذلك فشربه لأول قدح يشربه، عليه حرام، لأنه قصد أن يدوم فيه إلى السكر. وسُئل ابن عباس عن قول النبي (ص) : كل مسكر حرام، فقال: إن شرب أحدكم تسعة أقداح فلم يسكر فهو حلالٌ وإن شرب العاشر فسكر فهو حرام، وروى الضحاك عن ابن عباس قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم، وأما شراب ملوك الروم فإنه شراب يطبخ من عصير العنب وتطرح فيه الأفاويه فتعبق روائحها وطعومها وتزداد حرارة وطيب نكهة، وأهل الشام يسمونه الرساطون، والإسفنط لتطييبه، النفس وروى شريك عن عمرو بن حُريث، قال: سقاني ابن مسعود نبيذاً شديداً من جرِّ أخضر. وروى ابن قتيبة يرفعه إلى أنس بن مالك، أنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوابي. وقد أجمع الناس جميعاً على تحريم الخمر بكتاب الله عزَّ وجل إلا قوماً من مجَّان أصحاب الكلام فإنهم قالوا ليست الخمر محرمة، وإنما نهى الله عن شربها تأديباً كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس فيها فرضٌ، كقوله في العبيد والإماء، فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وكقوله في النساء: واهجروهن في المضاجع واضربوهن، وكقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، وقالوا: لو أراد تحريم الخمر لقال: [حرمت عليكم الخمر كما قال] حرمت عليكم الميتة والدم، وليس قول هؤلاء حجة على ما أوردناه من الإجماع على تحريمها. وكان عبد الله بن داوود يقول: ما هو عندي وماء البركة إلا سواء. وقال لا بأس أن يشربه الرجل على أثر الطعام كما يشرب الماء، وأكره إدارة القدح. وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته وشهد [رجل] عند سوَّار القاضي، فلم يُجز شهادته، فقال: أما النبيذ فإني لست تاركه ... ولا شهادة لي ما عاش سوار وكان كثير من الحجازيين يترخص فيه حتى غلط فيه مالك. وما حرَّم الله شيئاً إلا عوض ما هو خير منه، ما يطيِّب النفس ويصفي اللون ويهضم الطعام، فلا يبلغ منه إلى ما يذهب العقل ويصدع الرأس وإن كان يشرك الخمر في جناياتها وجميع آفاتها. قالوا وأما قولكم إن الخمر ما خُمِّر والنبيذ كله يُخمَّر فهو خمر، فإن الأشياء قد تتشاكل في بعض المعاني فيُسمى بعضها بعلةٍ فيه، ولا يطلق ذلك على الاسم الآخر، ألا ترى أن اللبن قد يخمر بروبة تُلقى فيه ولا يسمى خمراً، وأن نقيع التمر يسمى سُكراً ولا يُسمى غيره من النبيذ سكراً، وإن كان يسكر، وهذا في كلام العرب أكثر من أن يحاط به، ورأيت اللبن قد يسكر إسكاراً النبيذ، يقال قوم ملبنون، وقوم روبي إذا شربوا الرائب فسكروا منه. قال بشر بن أبي خازم

فأمَّا تميم، تميم بن مُرٍّ ... فألفاهمُ القومُ رَوْبي نياما وأما قولكم للرجل: مخمورٌ وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر وأنه يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نُباذ، فإن حجتنا فيه أن الخمار إنَّما يعرض مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه ما ياقل في الخمر، وإنما كان شربةُ النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء وما لا يعرضُ منه خمار. وحدَّث إسحق بن راهويه قال: سمعت وكيعاً يقول: النبيذ أحلُّ من الماء. وعابه الناس بذلك فقالوا: كيف يكون أحلَّ من الماء، إذا كان حلالاً. وليس على وكيع في هذا عيب، ولا يُرجع عليه فيه بكذب، لأن كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم، كما يقولون: هو أشهر من الصبح، وأسرع من البرق، وأبعد من النجم، وأحلى من العسل، وأحرُّ من النار، ولم يكن أحد من الكوفيين يحرِّم النبيذ غير عبد الله بن إدريس وكان بذلك معيباً. وقيل [لابن] إدريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ. قيل وكيف، وهم يشربون ما يُحرِّم عندك، قال: ذلك مبلغهم من العلم. وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ ويخالف رأي المشايخ، وقال له أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك للنبيذ ومخالفتك أهل بلدك، قال: هو شيء اخترته لنفسي، قلت له: فتعيب من يشربه، قال: لا، قلت: فأنت وما اخترت لنفسك. وعن أبي سلمة يحيى بن دينار قال: بينا زيد بن عليّ في بعض أزقة الكوفة إذ بصر برجلٍ ن الشيعة فدعاه إلى منزله وأحضر له طعاماً، فتسامعت به الشيعة فدخلوا عليه حتى غصَّ المجلس بهم فئاكلوا معه ثم استسقى، فقيل له: أي الشراب نسقيك يا ابن رسول الله؟ قال: أصلبه وأَشدُّه، فأتوه بعُسٍّ من نبيذ فشربه، وأدار العُس عليهم فشربوا، ثم قالوا: يا ابن رسول الله، لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديث رويته عن أبيك عن جدك، فإن العلماء يختلفون فيه، فقال: حدثني أبي عن جدي أن النبي (ص) [قال] لتركبن [أُمتي] طبيعة بني إسرائيل حذو القُذَّة بالقُذَّة والنعل بالنعل حتى لو أن رجالاً من بني إسرائيل نكحت نساءَها بالأسواق لكان فيكم من يفعل ذلك، ألا وإن الله ابتلى بنهر طالوت أحلَّ منه الغرفة والغرفتين وحرَّم الري، وابتلاكم بهذا النبيذ، أحلَّ منه القليل وحرَّم عليكم الكثير. وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ نهر طالوت، قال فيه الشاعر: اشرب على طربٍ من نهرِ طالوت ... حمراءَ صافيةً في لون ياقوت من كف ساحرةِ العينين شاطرةٍ ... تُربي على سحر هاروت وماروت وحضر ابن أبي الحواري بالشام، وكان معروفاً بالرقائق والزهد مع فقهاء البلد، فبعث إليه صالح العباسي بقدحٍ من نبيذ فشربه، ثم بعث إليه بثانٍ فامتنع من شربه، فأخذه الناس بألسنتهم وقالوا: شربت المسكر لهؤلاء فصرت لهم حجة، فقال: أحسبتم أن أكون ممن قال الله فيه " يستخونَ من النَّاس ولا يستخفون من الله وهو معهم " فكيف كنت أدعه لكم وأشربه لغير الله. وقال بعض القضاة لرجلٍ كان يعدله ويعتب عليه بقوله: بلغني أنك تشرب المسكر، فقال: ما أشرب المسكر ولكني أشرب النبيذ الصلب ولا أسكر منه. وعن هُشيم بن بشير قال: ربما شربت من هذا النبيذ ثم أركب ناقتي ما أُبصر أُذنيها. وقال علقمة: سألت الشعبي عن النبيذ فقال: ما اشتد فهو أحب إليَّ. وعن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: النبيذ حلالٌ والمسكر حرامٌ. وشرب النبيذ جلَّة من قضاة أهل القيروان وفقائهم.

ذكر عن ابن البرغوث المقري قال قال لي عبد الرحمن بن أبي حسان وجه إلي

ذكر عن ابن البرغوث المُقري قال قال لي عبد الرحمن بن أبي حسان وجَّه إلي الأمير زيادة الله بن إبراهيم، فدخلت عليه فوجدت عنده أبا محرز وأسد بن الفرات فقال لي يا ابن أبي حسان ما تقول في النبيذ الشديد؟ فقلت أيها الأمير أنت تحله وتشربه، وهذان قاضيان يُحلاتنه ويشربانه فما عسيت أن أقول؟ قال لا بدّ، قلت شرب الكثير منه حتى يزيل العقل محرَّم عند جميع الناس، وقد أحلوا منه القليل الذي لا يسكر؛ فكانت عند زيادة الله مأدبة جمع لها وجوه أهل القيروان وأهل العلم والفقه فجلس على مائدة جمع لها وجوه أهل القيروان وأهل العلم والفقه فجلس على مائدة بين يديه سحنون بن سعيد وابن أبي حسان ومعمر ابن منصور الفقيه وعمران بن أبي محرز، فاستسقى معمر ماءً فقال له الأمير إن عندنا شراباً كثيراً؛ عندنا الماء، وشراب الورد وشراب الجُلاَّب وما أشبههما، ومطبوخ العنب، ومطبوخ الزبيب، ونبيذ العسل، ونقيع الزبيب، فاختر أيها شئت [فطلب نبيذاً] فأمر أن يؤتى به، فسقاه أحد الغلمان ثلاثة أقداح، فالتفت إليَّ فقال ما تقول في النبيذ؟ فقلت أنت تراني أيها الأمير أشربه وتسألني عنه روينا عن عبد الله بن عباس قال حُرِّمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب، وأتى بأحاديث كثيرة يحتج بها في تحليله، فقال لسحنون رحمه الله وأنت ما تقول؟ قال اختلف الناس فيه، وأنا أقول بتحريمه، فقال لعمران بن أبي محرز فأنت؟ قال كان أبي وأخي يشربانه وكنت أشربه ثم تركت شربه، قال ولِمَ؟ والله إن أباك وأخاك خير منك، قال إن ذلك لعلةٍ وهو لا يوافقها. وكان معمر لا يستأثر في شرب النبيذ، وكان لسحنون بن سعيدٍ خلاًّ وصديقاً لا يغير ذلك ما بينهما وكان يفتقده كثيراً ويزوره. فيقال أنه دخل يوماً إليه وكأس كبير ملآن بالنبيذ مكشوف بالقرب منه، فقال: ألا تخاف عليه من الذباب؟ قال: هو أمنع جانباً من ذلك. ودخل معمر يوماً على زيادة الله بن إبراهيم فقال له: يا معمر إني أحب النبيذ، وما تراني أصبر عنه، فما ترى لي أن أشرب منه؟ فقال: أرى أن تشرب قدحاً واحداً، قال: لا يقوم بي، قال: قدحين، قال: لا يقومان بي، قال: فثلاثة، قال: لا تكفيني، قال: وثلاثمائة ما لم تسكر. وأتاه رجل فقال: أصلحك الله ما تقول في نبيذ هذا الزبيب الطرقوني، المنقع المضروب بالعسل، فقال له معمر: بختك أشقى من أن يكون هذا في بيتك. قال معمر بن زرزور: سمعت معمراً، وأتاه رجل يسأله عن النبيذ النقيع الذي يعمل من الزبيب، يقول: يا شحيح، يا بخيل، أهدِ لنا منه جرَّة. ولمعمر في تحليل النبيذ كتاب حسن يدل على حذقه ومعرفته، وكان أخذ تحليله من عبد الله بن فروخ، وكان عبد الله على زهده وورعه وصيانته يحلل النبيذ ويرى شربه غير مستترٍ فيه. وروي أنه حضر يوماً عرساً بالقيروان لبعض إخوانه فلما أُتي بالطعام جلس إلى جانب ابن فروخ رجل متصوف ممن يرى تحريم النبيذ، فنظر إليه ابن فروخ، وقد أخذ دجاجة من على المائدة فلفها في منديله وجعلها تحت المائدة، ثم أُتي بالنبيذ فدُفع إلى ابن فروخ قدحٌ كبير فشربه، ثم مُلئ فدُفع إلى ذلك الرجل الذي كان إلى جانبه فامتنع من شربه وامتعض وغضب وأظهر كراهة شديدة، وقال: أنا أشرب النبيذ؟ فالتفت إليه ابن فرّوخ كأنه يُساره وقال: اشرب يا سارق الدجاجة، لأنه أخذها من غير إذن صاحبها. وعن علقمة بن قيس قال: أكلت مع عبد الله بن مسعود خبزاً ولحماً وأُتي بنبيذ شديد فشرب من وسقاني. وعن علقمة قال: سألت عبد الله بن مسعود عن حديث رسول الله (ص) في المسكر فقال: الشربة الآخرة منه حرام. وقال: دُعي أبو موسى الأشعري إلى وليمةٍ فأتي بطعام فأكل ثم أتي بعسٍّ فشرب منه وناول رجلاً عن يمينه، قال: فشربت فإذا طلاءٌ شديد. وكان عمر بن (الخطاب) يتزود الراوية من نبيذ الزبيب، وعن مجاهد قال: قلت لابن عباس: فسِّر لي قوله (ص) كل مسكر حرام، قال: تشرب الشراب وهو لك حلال، فإذا سكرت منه فهو حرام. وسئل أيضاً عن مثل ذلك فقال: الشربة التي تسكر منها (حرام) . وسئلت عائشة عن النبيذ فقالت: اشربوا ولا تسكروا. وعن قتادة بن دعامة قال: سألت أنس بن مالك عن النبيذ فقال: ما سمعت عن النبي (ص) فيه شيئاً.

ذكر ما جاء في تحريم الخمر وشدة النهي عنها

وقال العبر بن حريث: سقاني أنس (رض) طلاءً من زقٍّ مُقير. وعن الشعبي قال: شهد عندي عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه شرب نبيذاً شديداً في جرٍّ أخضر عند البدرية من أصحاب محمد (ص) وعن عوف بن أبي جحيفة قال: زوجني أبي وأعرس عليَّ وأولم فأُهدي لي عشرون دناً من طلاء قد طبخ على النصف فسقى الناس من ذلك الطلاء. وروي عن أبي حازم الثوري قال: بعثني الربيع ابن خثيم ابتاع له طلاءً فأتيته به وفيه بعض الحلاوة فقال: ردَّة واشترِ لي ما هو أشد منه. ذكر ما جاء في تحريم الخمر وشدَّة النهي عنها قال الله عز وجل: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق. وقال: وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسون الإثم سيُجْزون بما كانوا يفترون. ثم قال في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع. فدخلت الخمر في اباب ما حرَّمه القرآن، لأنه أخبر بتحريم الإثم وجعله في الخمر كبيراً. فأما شدة النهي فقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون. فقالوا انتهينا، فصَّح في العقل أنَّ كلَّ ما خُمِّر من عنبٍ وزبيب وتمرٍ وعسلٍ وحنطة وغير ذلك، فاذهب العقل، وأوقع العداوة والبغضاء، وصدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وثبتت فيه هذه المعاني فهو خمرٌ محرَّمٌ. ويروى عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة وأُبيَّ لن كعب شراباً من تمر فضيخ، فأتاهم آتٍ فقال: إن الخمر قد حُرِّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراسٍ لنا فضربته بأسفله حتى تكسر. وروي عن أبي مالِك الأشعري أن رسول الله (ص) قال: ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويُضرب على رؤوسهم بالمعازف، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردةً وخنازير. رواه سحنون قال: لأنهم يسمونعها نبيذاً واستحلوها فأخبر الله بذلك نبيَّه أنه سيكون في أُمته فحذَّرهم منه. ولم يروِ من قال بإحلال النبيذ الشديد عن رسول الله (ص) حديثاً واحداً مكشوف المعنى مشروحاً يُثبت مثله أهل المعرفة بالحديث. وروا في ذلك أحاديث لا تقوم بها حجة. ومن الناس من يشرب المسكر ويعلم أنه حرام فإذا عوقبوا على ذلك قالوا: نشربه، ونعلم أنه ذنب، ونستغفر الله منه، أحب إلينا من أن نشربه مستحلين له غير مستغفرين منه ويحتجون بقول المأمون: سأشربها وأزعَمُها حراماً ... وأرجو عفو ربٍّ ذي امتنانا ويشربها ويزعمها حلالاً ... وتلك على الشقيِّ خطيئتان وهذه جرأة على الله وطمع في المغفرة، وأنى لهم المغفرة وهم مصرون، لا ينصرم عنهم يوم إلا عقدوا النية على شربه في الغد وبعد الغد وإنما يغفر الله بالاستغفار للمُقلعين. وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرم الزنى وآخر زنى وهو يعلم أن الزنى من الكبائر التي تسخط الله وتوجب النار، أيهما أقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو؟ الذي لا يعلم، لا حدَّ عليه ولا رجم، وعلى الآخر حدّ البكر أو الرجم إن كان مُحصناً. وروي عن أبي هرريرة أنه قال: صنعت لرسول الله (ص) نبيذاً في الدُّباء وكان صاعاً فجئت به عند إفطاره، فقال: أدنِهِ، فأدنيته منه فإذا هو ينشُّ، فقال: اضرب به الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. وقال الله تعالى فاجتنبوا الرجسَ من الأوثان واجتنبوا قول الزور، فجعل الأوثان رجساً وجعل الخمر رجساً.

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص) كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، مع أحاديث كثيرة، هذا أشدُّها إفصاحاً وأبعدها من حيلة التناول. والشاهد على ذلك من النظر، أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجرائرها على شاربها، وسائر هذه الأنبذة تفعل كما تفعل. ويوروى عن رسول الله (ص) أنه قال: أكبر الكبائر قتل النفس التي حرَّم الله، وشرب الخمر وعقوق الوالدين وقذف المحصنات، والرار من الزحف، وترك الصلاة متعمداً، فمن فعل منها شيئاً فهو بريء من الإيمان. وعن أبي موسى الأشعري أنه قال: والله ما كنت أُبالي شربت قدح خمر أو عبدت هذه السارية من دون الله، سمعت رسول الله (ص) يقول: لا يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يشرب خمراً أو يهرق دماً. وعن عائشة رضي الله عنها: سئل عن البتع، وهو نبيذ العسل فقا: كل شراب أسكر فهو حرام، [و] قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وقال (ص) من شرب شراباً حتى يذهب بعقله الذي أعطاه الله فقد أتى باباً من أبواب الكبائر. وعن مسروق بن الأجدع قال: شارب الخمر كعابد وثن. ومدمن الخمر كعابد الات والعُزى. وعن شعيب بن حرب قال: قال الله عز وجل: لأن يسرق أَحبُّ إليَّ من أن يسكر لأنهإذا سكر لم يعرفني. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي (ص) قال: إن المؤمن إذا تناول الخمر ليشربها قال الله تعالى، عبدي راقِبني في شربها، فوعزتي وجلالي لئِن شربتها لأسقينك من طينة الخبال. فمن شربها صباحاً أمسى وهوكافر بالله، ومن شربها مساءً أصبح كعابد اللات والعزى وإنه لبريء من الإيمان والإيمان بريءٌ منه، وإن مات على ذلك مات ميتة جاهلية وحشر يوم القيامة مع عبدة الأوثان والأصنام إلى النار. وعن جعفر بن محمد قال: قا رسول الله (ص) : من أدخل عِرقاً من عروقه قليل ما أسكر كثيره، عذَّب الله ذلك العرق بثلاثمائة وستين لوناً من العذاب. وعنه أن رسول الله (ص) قال: لا أشفع لمن تهاون بطلاءٍ ولا أشفع لمن شرب مسكراً. وقال (ص) : من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاةً أربعين يوماً فإن عاد لم يقبل [له] الله صلاة ثمانين يوماً، فإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار وقيحهم. قال: وسمعت رسول الله (ص) يقول: لُعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها وبائعها وشاريها وحاملها والمحمولة إله وآكل ثمنها. وقال سمعته (ص) يقول: من قعد على مائدة فيها شراب فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. قال: وسمعته (ص) يقول: من مات والخمر في جوفه قبض ملك الموت روحه وهو سكران، ودُليَّ في قبر هـ وهو سكران وأُمر لبه إلى النار وهو سكران. قال، وسمعته يقول: من شرب من الخمر شربةً لم يشربها وإن دخل الجنة، يسلبه الله ذكرها وشهوتها ولا يدعو بها في الجنة. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (ص) : من شرب الخمر فاجلدوه، وإن عاد فاجلدوه، وإن عاد فاجلدوه، وإن عاد الرابعة فاقتلوه، قال، فأتي رسول الله (ص) برجل من الأنصار يقال له نُعيمان، شرب الخمر فجلده، ثم عاد فجلده ثم عاد فجلده، ثم عاد الرابعة جلده، فرأى المسلمون أنَّ الحد قد ثبت وأن القتل قد رفع، وكان لا يزال يؤتى به شارباً فيقول: اضربوه فيضربونه بالجريد والنعال، فقال رجل من القوم، إلعنه، ما أكثر ما ؤتى به، فقال رسول الله (ص) لا تسبه فإنه يحب الله ورسوله. وقيل لعدي بن حاتم: ما لك لا تشرب النبيذ؟ قال: لئلا أُصبح حليم قومي واُمسي سفيههم. وقيل لعثمان بن عفان (رض) ما منعك من شرب الخمر، ولا حرج عليك في شربها؟ قال: لأني رأيتها تذهب العقل جملةً، وما رأيت شيئاً ذهب جملةً فعاد جملةً. وقال عبد العزيز بن مروان لنُصيب: هل لك فيما يُحسن المجالسة وينتج المؤانسة، فقال: أصلح الله الأمير، الشعر مفلفل، واللون مُرمد ولم أقرب إليك بكلام عنصر ولا حسن منظر وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت ألا تفرق بيني وبينهما فأفعل. وقال النعمان العبدي لابنه ساعدة: يا بني إن كثررة الشراب تفسد القلب وتغير اللب، واعلم أن الظمأ الذابح خير من الرِّيِّ الفاضح؛ وقال بعض الحكماء: الشراب أول الخراب ومفتاح كل باب، يمحق الأموال ويذهب الجمال ويهدم المروءة ويوهن القوة ويضع الشريف ويهين الظريف ويُذل العزيز ويبيح الخريز ويفلس التجارة ويهتك الأستار، وقال الشاعر:

تركتُ الخمور لأربابها ... وأقبلت أرشب ماءً قَراحا ود كنت حيناً بها معجباً ... كحبِّ الغلام الفتاة الرَّداحا وما كان تركي لها أنني ... يخاف نديمي علي افتضاحا ولكنَّ قولي له مرحباً ... وأهلاً مع السهل وانعم صباحاً وكان رجل من الأزد يكنى أبا شملة قد تتابع في الخمر وغلبت عليه، فأُتي به رسول الله (ص) وهو سكران فخلّى سبيله، ثم أُتي به وهو سكران، فأخذ رسول الله (ص) قبضة من تراب فضربه بها، وقال: اضربوا الخبيث فضربه الناس بأيديهم وبالنعال وأطراف النخل، فلما وُلِّي أبو بكر، أُتي بسكران فسأل: كم ضرب رسول الله (ص) أبا شملة، قالوا: ما ندري، قال: كم كنتم؟ قالوا: عشرين رجلاً، قال: فكم ضربه كل واحد منكم؟ قالوا: الضربة والضربتين، فضربه أربعين، فلما ولي عمر كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح من الشام، إن الناس قد تتابعوا في شرب الخمرة، وقد ضربت فيها الأربعين فلم تغن شيئاً، فجمع عمر رجالاً من أصحاب رسول الله (ص) فشاورهم، فقال عليّ: إني لا أرى أحداً أشبه بحدِّ الفِرية منه لأن الرجل إذا سكر هذىوإذا هدى افترى، فقال عمر للرسول: قد سمعت ما قال، فمر رأبا عبيدة أن يضربها فإنا ضاربوها، فضرب أبو عبيدة ثمانين، وضربها عمر بالمدينة. وقال الضحاك بن مزاحم لبعض أصحابه: مالك ولشرب النبيذ؟ قال: يهضم طعامي، قال: والله لما يهضم من عقلك ودينك أكثر. وسُئل شريك بن عبد الله عن النبيذ قال: إشرب منه ما لا يشرب عقلك. ويُروى أن عثمان بن عفان (رض) خطب الناس يوماً فقال: أيها الناس، اجتنبوا الخمر فإنها أُم الخبائث، ومفتاح كل شر، وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: من شرب الخمر في الدنيا حرَّمها الله عليه في الآخرة، أيها الناس اتقوا الخمر فإنها من أجل الذنوب وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر وقع على أمه وأخته وهو لا يعلم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشرب الخمر ولا يقعد على مائدة يُشرب عليها الخمر فإنَّ اللعنة تنزل عليهم ما داموا في مجلسهم ذلك. ومن عيوب الشراب أن صاحبه يتكرهه عند شربه ويكلحُ عند شمِّه ويغتم أن يفضل منه شيءٌ في قدحه، ويكثر عتاب ساقيه ويمزجه ليغيِّر طعمه ويتجرعه ولا يكاد يسيغه ويستعين بالنقل من بعده ليغيِّر طعمه ويلقى من الدوار والخمارما لا قوام له، مما يكدر كل لذة وينغص كل طيبة، كما قال بعض الحكماء: اولا أن المخمور يعلم علته لأوصى وصيته، وقد رأيت كثيراً من الناس خدعوا أنفسهم بقول الأعشى: وكأسٍ شربت على لذةٍ ... وأُخرى تداويت منها بها وقولهم الخمر علاج الخمار، فأتبعوا السكر سكراً فعرضت لهم أمراض صعبة منها الفالج والسكتة. وإن فعل ذلك قوم وسلموا من الأمراض لصحة أبدانهم وقوة أعضائهم فإن ذلك ليس بمخرجهم من الخطأ في فعلهم ولا يُحتج بهم على غيرهم. وذكروا أن رجلاً شرب عند خمار نصراني أياماً فأصبح ميتاً فاجتمع الناس عليه وقالوا: قتلته، فقال: لا والله ما قتله إلا استعماله ما كان يغني فيه من هذا الشعر: داوِ الخُمار بخمرة الكأس المعتقة العُقار لو خامرت عقل العزير لزلَّ عن ظهر الحمار وقوله: وكأس شربت على لذةٍ ... وأُخرى تداويت منها بها وإكثاره منها على قلة الطعام فصار إلى ما ترون. وقال عبد الملك بن مروان وذكر الخمر: إن أولها لمُرّ، وآخرها لسُكر وإنها لتُذهب العقل وتكسب الجهل وتسقط المروءة وتفسد الفتوة، وتدعو إلى عشرة الوضيع وتحط درجة الرفيع، ولهي أسرع في عِرض الرجل وماله من النار في يبس العرفج. قال الزبير بن بكار، ذكر أبو الزناد، أن رجلاً من ثقيف جُلد في الشراب في خلافة عثمان بن عفّان (رض) وكان لذلك الرجل مكان من عثمان ومجلس في خلوته فلما جُلد أراد ذلك المجلس فمنعه عثمان إياه وقال له: لا تعود إلى مجلسك أبداً إلا ومعنا ثالث. وعمل محمد بن عبد الملك الزيَّات أبياتاً، وكتبها في كتاب وعنونه إلى إبراهيم بن رياح وختمه ودسَّ رجلاً فدفعه إليه وهو متولي ديوان الضياع، فلما فضَّه إبراهيم تغير لونه وأمر فطلب الرجل فلم يوجد، وإذا في الكتاب أبيات منها: يا أبا إسحق إن الراح ضدٌّ للفلاح ؟ خدمة الواثق والطاسات في أيدي الملاحِ

ليس يلتامان فاختر خدمةً أو شرب راح فرفع صاحب الخبر ذلك إلى محمد بن عبد المك الزيات فضحك وقام من وقته إلى الواثق فعرَّفه وأنشده الأبيات فقدح ذلك في قلب الواثق فصرف إبراهيم بن رياح ونكبه وأخذ ماله وضياعه. وقال النميري: خلا بين ندمانيّ موضع مجلس ... ووقرني بعد الشباب مشيب ورُدَّت على الساقي تفيض وربَّما ... رددتُ إليه الكأس وهي سليبُ وما اشتهر اللذاتِ والنشوة الفتى فكان له في المكرمات نصيبُ وعن عبد الله بن عمر، أنه قال: والذي نفسي بيده لقد أُنزل تحريم الخمر بالمدينة وما بها زبيبة واحدة. عروة عن عائشة أنها كانت تقول: من تداوى بالخمر فلا شفاه الله. وقيل لعائشة: إن النساء يمتشطن بالخمر، فنهت عن ذلك وقالت: إنها رجس. وقال (ص) : ثلاثة حرم الله عليهم الجنة؛ مدمن الخمر، وقاطع الرحم، والشيخ الزاني؛ وولى عمر (رض) النعمان بن نضلة العدوي بميسان فأراد رحيل امرأته معه، فكرهت، فلما وصل إلى ميسان أراد أن يُغيرها فترحل إليه فكتب إليها: ألا هل أتى الحسناءَ أن حليلها ... بميسان يُسقى في زُجاج وحنتم إذا شئتُ غنتني دهاقين قريةٍ ... وصناجة تجثو على كل مِيسمِ فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... منادمنا في الجوسقِ المتهدم فبلغت عمر، فقال: أي وأبيك، إنه ليسوؤني، يا غلام، اكتب بعزله، فلما قدم على عمر بكتَهُ بها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما شربتها قط، ولا قلت الأبيات إلا لسبب كذا، فقال عمر: أظنُّ ذاك، ولكن لا تعمل لي أبداً. وقال أبو نواس: أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما نالني بالملام فيه إمامٌ ... لا أرى لي خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما كبر حظِّي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما فكأني وما أزيِّنُ منها ... قَعَديٌّ يزيِّن التحكيما كلَّ عن حمله السلاح إلى الحرب فأوصى المطيق ألا يقيما وما سبقه أحد إلى هذا المعنى وزعم بعض بني نوبخت أن آخر ما سمع من أبي نواس قوله: شعر ميت أتاك من لفظ حيٍّ ... صار بين الحياة والموت وقفاً قد برت جسمه الحوادث حتى ... كاد عن أعين الحوادث يخفى لو تأملتني لتثبت وجهي ... لم تَبِن من كتاب وجهي حرفا ولكرَّرت طرف عينك في جسمٍ برته الهموم حتى تعفى ثم التفت إلى من حوله وقال: لا تشربوا الخمر صرفاً فإنها أحرقت كبدي ومات. وسأل رجل شريكاً عن النبيذ فقال: حلال، قال: قليله خير أم كثيره؟ قال: قليله، قال الرجل: ما رأيت خيراً إلا وكثيره خير من قليله إلا هذا. وقيل لابن شبرمة: لِم تركت النبيذ؟ فقال: إن كان حلالاً فحظي تركت، وإن كان حراماً فبالحزم أخذتُ. وقيل لأعرابي: ما لك لا تشرب النبيذ؟ قال: لثلاث خصال فيه: مَتلفة للمال مَذهبة للعقل مسفهة للحلم. قال عبد الله بن إبراهيم: لو كان العقل يُشترى ما كان عِلقٌ أنفس منه، والعجبُ العجبُ لمن يشتري ذهابه بماله فيدخله رأسه فيقيء في جيبه، ويسلح في ذيله ويمسي عديماً ويصبح فضيحة. وقال عيسى بن مريم (ع) : الهوى رأس كل خطيئة، والنساء حِبالة الشيطان والخمر داعية كل سوء. ويروى عن أُم سَلَمة أنها قالت: اشتكت ابنة لي فنبذت لها في كوز فدخل عليَّ النبيُّ (ص) وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فقلت: ابنة لي اشتكت فنبذت لها هذا النبيذ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يجعل شفاءَكم حراماً. وقال بعض العلماء: رخَّص الله للمضطر في الميتة والدم ولحم الخنزير ويم يرخِّص في الخمر لمضطر ولا غيره، وقال رجل من قريش: ومن تقرع الكأسُ اللئيمة سِنهُ ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا ولم أرَ مشروباً أشد سفاهةً ... وأوضع للأشراف منها وأخملا

باب ما جاء في الخمر من الشعر مرتبا على حروف المعجم

أجمع الناس على أن الخمر المحرمة في كتاب الله، عصير العنب، وهو ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار ولا يزال خمراً حتى يصير خلاً، وذلك إذا غلبت عليه الحموضة وفارقته النشوة، لأن الخمر ليست محرمة العين كما حُرِّم عين الخنزير، وإنما حُرِّمت لعرضٍ دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً كما كانت قبل الغليان حلالاً، وعينها في كل واحدة قائمة، وإنما انتقلت أعراضها من حلاوة إلى مرارة ومن مرارة إلى حموضة كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء، بطول المكث، فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة، وكذلكسبيل المِسك، الذي هو دمٌ غليظ حرمٌ، ثم يجف فيصير طيباً حلالاً. باب ما جاء في الخمر من الشعر مرتباً على حروف المُعجم حرف الألف قال أبو نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّتهُ سرَّاءُ من كف ذات حرٍ في زِيّ ذكرٍ ... لها محبان لوطيٌّ وزناءُ قامت بإبريقها والليل معتكرٌ ... فلاح من وجهها في البيت لألاءُ فأرسلت من فم الإبريق صافيةً ... كأنما أخذها بالعين إغفاءُ رقَّت عن الماءِ حتى ما يلائمها ... لطافةً وجفا عن شكلها الماءُ فلو مزجت بها نوراً لمازجها ... حتى تولََّ أنوار وأضواءُ دارت على فتية دان الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاؤوا وقال أيضاً: وكأس كمصباح السماءِ شربتها ... على قبلةٍ أو موعدٍ بلقاءِ أنت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقُط نورٍ من فتوق سماءِ ترى نورها من ظاهر الكأس ساطعاً ... عليك ولو غطيتها بغطاءِ فإن تكن الصهباء أودت بتالدي ... فلم تنسني أُكرومتي وحيائي وقال أيضاً: يا رب مجلس فتيان نزلت به ... والليل ملتحفق في ثوب ظلماءِ يلهو بصافية كالشمس مشرقة ... تغشى عيون نداماها بلألاءِ كأن قرقرة الإبريق بينهم ... رجع المزامير أو تغريد فأفاءِ وقال أيضاً: ومدامة سجد الملوك لذكرها ... جلَّت عن التصريح بالأسماءِ شمطاء تذكر آدماً وزمانه ... وتخبر الأخبار عن حواءِ والكوبُ يضحك كالغزال مسبحاً ... عند الركوع بلثغة الفافاءِ وكأن أقداح الرحيق إذا جرت، جنحَ الظلام، كواكبُ الجوزاءِ وقال الحسن بن وكيع: هيفاء تبدي طُرَّةً في غُرةٍ ... كسواد غدرٍ في بياض وفاء بذؤابتين على الغلالة حاكتا ... ألفَيْنِ وسط صحيفةٍ بيضاء وافت بكأس الراح تحمل نارها ... تحت الظلام براحةٍ من ماءِ راح حكت بحبابها شمس الضحى ... قد قُلِّدت بكواكب الجوزاء وقال أيضاً: قم هاتها مشمولةً ... تسرع في ثلم الحجا تحكُم في الهمِّ كما ... يحكم في الصبِّ الهوى كأنها أهدت لها ... خلعتها شمس الضحى كأنها في كأسها ... ذوب عقيق قد جرى ألذ من عافيةٍ ... وافت على طول الضنى وموعد طال على ... وعد حبيب فوفى تسعى بها وافرة الأرداف هيفاء الحشا كأنما قرونها ... تعشق ما تحوي البرى وقال صريع: خطبنا إلى الدهقان بعض بناته ... فزوجنا منهنَّ في خِدرها الكبرى وما زال يغلي مهرها ويزيده ... إلى أن بلغنا فيه غايته القصوى فتاه أبوها الماءُ والكرم أُمها ... وحاضنها حرُّ الهحير إذا يحمى وقال ابن المعتز: وكأس حيرية شكَّت بمبزلها ... أحشاء مُشعرةٍ بالقار كلفاء أجرى الفرات إليها من سلاله ... نهراً تمشى على أحشاء ميثاءِ

حرف الباء

يسقيكها خَنَثُ الأعطاف ذو هيفٍ ... كأن ألحاظه أفرقن من داءِ لها شعاع على كفيه ملتهب ... كأن أطرافه عُلَّت بحناءِ كأنه صبَّ سلسال المزاج على ... سبيكة من بنات التِّبر صفراءِ وقال أيضاً: داو الهمومَ بقهوةٍ عذراءِ ... وامزج بنار الراح نور الماءِ لم يترك منها تقادُمُ عهدها ... في الدنِّ غير حشاشةٍ صفراء بُزِلت كمثل سبيكة قد أُفرغت ... أو حية وثبت من الرمضاءِ واستبدلت من طينةٍ مختومةٍ ... تفاحةً في رأسِ كل إناءِ وقال ابن المعتز: رب يومٍ عامر الكأس ظَلنا ... نقرع القهوة فيه بماء في دجى الليل وطيِّ الحواشي ... مدنف الريح قصير البقاء أسقط الأقطار حتى تثنى ... النور وابتل جناح الهواء زمن مدَّ لنا في نعيم ... في صباحٍ غافلٍ ومساءِ وقال دعبل: شفاءُ ما ليس له شفاءُ عذراء تختال بها عذراء حتى إذا ما كُشف الغِطاء وملكت أحلامنا الصهباءُ وخطب الريح إلينا الماءُ جرى لنا الدهر بما نشاءُ وقال آخر: مُرْ لي على رغم الحسود بقهوةٍ ... بكرٍ ربيبة حانةٍ عذراءِ موج من الذهب المذاب تضمه ... كأس كقشرِ الدُّرة البيضاءِ وقال البحتري: إشرب على زهر الرِّياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء من قهوةٍ تُنسي الهموم وتبعث الشوق الذي قد ضلَّ في الأحشاء يُخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناءِ ولها نسيم كالرياض تنفست في أوجه الأرواح والأنداءِ وحبابها مثل الدموع ترددت ... في صحن خدِّ الكاعب الحسناءِ يسقيكها رشأٌ يكاد يزيدها ... سكراً بفترةِ مقلةٍ حوراء يسعى بها وبمثلها من طرفِهِ ... عوداً وإبداءً على الندماء وقال ابن المعتز: ملكته السلافة العذراءُ ... فلها ودُّ قلبه والصفاء روح دنٍّ لها من الكأس جسمٌ ... هي فيه كالنار وهو هواء فكأن النديم يلثُمُ منها ... كوكباً كفُّهُ عليه سماءُ وكأن الحباب إذ مزجوها ... وردة فوق درةٍ بيضاءُ وقال: مررت بكرمةٍ جذبت ردائي ... سُقيت الغيث جاذبة الرداء فقالت: لِم مررت ولم تُسلم ... وقد رويت عروقُك من دمائي وقال الخليع: فضَّت خواتمها والصبحُ منتبهٌ ... عن مثل رقرقة في جفن مرهاءِ تمازج الروح في أقصى مداخلها ... كما تمازح أضواءٌ بأضواءِ كأنما هي إذ صُبَّ المزاج بها ... سَلخ تجللها عن بطن رقشاء وقال الصنوبري: قم فاسقني كأساً كأن حبابها ... طلٌّ أحاط بوردة حمراء والنجم في أُفق السماء كأنه ... عين تخالسُ أعين الرقباءِ وقال دعبل بن عليّ: شربت وصحبتي يوماً بغمرٍ ... شراباً كان من لطف هواءَ وزَنَّا الكأس فارغةً وملأى ... فكان الوزن بينهما سواءَ حرف الباء قال أبو نواس: أعاذلَ أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عمَّا في الضمير وأعربا وقلت لساقينا أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا فجوزها عني عُقاراً ترى لها ... إلى الشرف الأعلى شعاعاً مطنبا إذا عبَّ فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داجٍ من الليل كوكبا ترى حيثما كانت ن البيت مشرقاً ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا يطوف بها ساقٍ أغنَّ ترى له ... على مستدار الخدِّ صُدغاً معقربا سقاهم ومنانيّ بعينيه قُبلة ... فكانت إلى قلبي ألذ وأعجبا وقال: ساعٍ بكاسٍ إلى ناشٍ على طرب ... كلاهما عجبٌ في منظرٍ عجبِ

قامت تريني وجنح الليل منسدلٌ ... صبحاً تولِّدَ بين الماء والعنب كأن صغرى وكبرى من فوقعها ... حصباءُ على أرض من الذهب وقال: قُطْرُبُّل مربعي، ولي بقرى الكرخ مصيفٌ، وأمي العنب ترضعني درَّها وتلحفني ... بظلها والهجير يلتهب إذا ثنته الغصون جللني ... فينان ما في أديمه جوَبُ ترنُّ في مأتم حمائمهُ ... كما تُرِنُّ الفواقدُ السلب يهب شوقي وشوقهن معاً ... كأنما يستخفنا الطَّربُ فقمت أحبو إلى الرضاع كما ... تحامل الطفل مسَّه السَّغبُ حتى تحيرت بنتَ دسكرةٍ ... قد عجمتها السنون والحِقبُ هتكت عنها والليلُ معتكر ... مهلهل النسج ما له هُدُبُ من نسج خرقاء ما تُشَدُّ لها ... آخيةٌ في الثرى ولا طُنُبُ ثم توجأتُ خصرها بشبا الأشفى فجاءت كأنها لهب أقول لما تحاكيا شبهاً ... أيهما للتشابه الذهب هما سواءٌ وفرقُ بينهما ... أنهما جامدٌ ومنسكبُ ملسٌ وأمثالها محفَّرةٌ ... صُوِّرَ فيها القسوس والصلب يتلون إنجيلهم وفوقهم ... سماءُ خمرٍ نجومها الحببُ كأنه لؤلؤ تبعثره ... أيدي عذارى أفضى بها اللعبُ وقال أيضاً: أيا باكي الأطلال غيَّرها البلى ... بكيت بعين لا يجف لها غرْبُ أتنعت داراً قد عفت وتغيرت ... فإني لما سالمت من نعتها حربُ وندمان صدقٍ باكر الراح سُحْرَةً ... فأضحى وما منه اللسان ولا القلب فأنتبهته كيما يفيق فلم يُفق ... إلى أن رأيت الشمس قد حازها الغرب فقام يخال الشمس لما ترحلت ... فنادى: صبوحاً، وهي قد قربت تخبو فناولته كأساً جلت عن فؤاده ... وناولته أُخرى فثاب له لب إذا ارتعشت يمناه بالكأس رقَّصت ... بها ساعة حتى يسكنها الشُّربُ وقال ابن وكيع: ماذا انتظارك باللذات والطرب ... قل للسقاةِ صلوا الأقداح بالنُجب وأفرغوا الماءَ في راحٍ معتقةٍ ... ما أحسن الفضة البيضاء في الذهبِ آخر: أديرا علي كؤوس المُدام ... يدر فلكُ اللهو [ثم] الطرب أما تريان نجوم السماء ... تلوح لنا في سواد الغَهَبْ كأن الدجى فرسٌ أدهمٌ ... وأنجمه لببٌ من ذهب وقال آخر: لا تدع عُمرك يمضي باطلاً ... لست تعتاض بعُمرٍ إن ذهب ليس من عمرك يومٌ [لم] تُقِمْ ... فيه سوقاً للملاهي والطرب وقال آخر: لا ووعد اللحظ بالوصل على رغم الرقيبِ واختلاس القُبل الحلوة من خدِّ الحبيبِ وسماع مستطابٍ جاء في لفظ مصيبِ ما سوى الراح لداءِ الهم عندي من طبيب وقال ابن الرومي: طربت إلى ريحانة الأنف والقلبِ ... وأعمالها بين العوازف والشرب فلا عيش إلا بين أكواب قهوةٍ ... توارثها عقبٌ من الفرس عن عقبِ تأنت أكف القاطفين قِطافها فسالت بلا عصر ودرت بلا عصب أطافت بها الأيام حتى كأنها حُشاشة نفسٍ شارفت منقضى نحب لها منظر في العين يشهد حُسنُهُ ... على مخبرٍ يُهدي السرور إلى القلب تردُّ صفاء العيش مثل صفائها ... وتكشِف عن ذي الكرب غاشية الكرب فلو رفعت في رأسٍ علياء لاهتدى ... بكوكبها السارون في الشرقِ والغربِ غنيٌّ عن الريحان مجلسُ شُربها ... بنشرٍ كنشرِ المِسْكِ في مُحتوى نهب ولم تر مرَموقاً إلى النفس مثلها ... يُشمُّ فيُلقي بالعبوس وبالقطبِ لها مكرعٌ سهلٌ يُخبِّر أنَّها ... ذلولٌ وفيها سورةُ الجامح الصعِب

وكم مثلها من بنت كرمٍ جلوتها ... على كل خرقٍ ماجد الجدِّ من صحبي له خُلُقٌ عذب المذاقِ ولن ترى ... مزاج كئوس الراح كالخُلق العذب بمونقة الرُّواد، حُوٍّ تِلاعها ... تُراعي بها الأُدمان آمنة السِّرب صففنا أباريق اللُّجين حيالها ... فمثَّلن سِرباً مُشرئباً إلى سرب تظل تُرانيها الظباءُ تخالها ... ظباءً، وتدنو فهي منا على قُربِ وقال آخر: ما زلت أشربُها سُلافاً قرقفاً ... والصبح دُرِّيُّ الغِلالةِ أشهبُ حتى نظرت إلى الكواكب قد دنت ... في جوِّها، والليل داجٍ غيهبُ فكأن جنح الليل طرفٌ أدهمٌ ... وكأن أنجمه لجامٌ مُذهبُ وقال: أتى البدرُ يحمل تحت الدُّجى ... مُشعشعة اللون كالكوكبِ تميت القنوط، وتُحيي الرجاءَ ... وتهدي الشباب إلى الأشيبِ وتصلح ما بين شرابها ... وبين زمانهم المُذنب أسَرُّ من المُلك بعد الخمولِ ... ومن طلعة الولد المُنجب وقال: خليليَّ لا ترقبا مأثما ... فعُمر المُراقب لا يحسبُ وهُبا إلى شرب مشمولةٍ ... يتوب لها الزمن المذنب بكفَّي أغرَّ ترى خده ... إلى الراح في صبغها يُنسبُ إذا اجتمعا اشتبها للنديم ... فلم يدر أيهما يشرب وقال: وشمس راحٍ يديرها قمرٌ ... شاهده فتنةٌ وغائبه أقبل في كفِّهِ مشعشعة ... عائبها كاذب وعائبه تحت ظلامٍ كأنما نَفَضَت ... عليه من صبغها ذوائبُهُ وقال كُشاجم: كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل سقطت أنيابهُ طفنا به وكلنا يهابُهُ ... وهو كطيرٍ مِتأقٍ إهابهُ مُخضبُ وحبذا خضابُهُ مجَّ رحيقاً غدقاً سَحابه فالبيتت من عبِقٌ ترابُهُ ... سال براحٍ قرقفٍ لعابُهُ رُضابُ من أعشقه رُضاب ... من لم يَرُق بمثله شرابُهُ لم يدر كيف العيش واكتسابه وقال أيضاً: إذا ما اصطحبت وعندي الكبابُ ... وكان الطَّباهِجُ من جانب وكانت رياحيننا غضَّةً ... وصفراء من صنعة الراهب فليس الخليفة في ملكه ... بأنعم مني ومن صاحبي وقال ابن المعتز: قم فاسقني [قهوة] عروس دساكير عليها طوقٌ من الذهب وصبَّ في الكأس من أبارقنا ... ماءَين من فضة ومن ذهبِ في مجلس غاب عنه عاذبه ... نطرد عنه الهموم بالطرب كم من عناقٍ لنا ومن قُبلٍ ... مختلسات حذارَ مرتقب نقر العصافير وهي خائفةٌ ... من النواطير، يانِع الرُّطب والزق في روضة، تسيل دماً ... أوداجه، جاثياً على الركب وقال التميمي: لكأس المدام بماء الغمام في مجلسٍ مُونقٍ معجب أسَرُّ إلى القلب من مقنبٍ ... يجرُّ المنايا إلى مقنبِ ألم تر أن فصول الزمان يلعبن بالحُولِ القُلَّبِ وقال الرقاشي: إذا ما الماءُ أمكنني ... وصفو سلافة العنبِ صببتُ الفضة البيضا ... ءَ فوق قراضة الذهب فأسبك منهما طرباً ... فزرني تلفِ ذا طربِ تجد عندي مساعدةً ... وما أحببتَ من أدبِ وقال عكاشة العمي: يا ليلة جمعت لنا أحبابنا ... لو شئت دام لنا النعيم وطابا بتنا نُسقاها شمولاً قرقفاً ... تَدَعُ الصحيح بعقله مُرتابا ومن كفِّ جاريةٍ كأن بنانها ... من فضةٍ قد طوقت عُناباً وكأن يمناها إذا نطقت بها ... تُلقي على يدِها اليسار حِسابا وقال الأمير تيم: إشرب فإن الزمان غضٌّ ... وصرفُهُ ليِّنُ الجنابِ من قهوةٍ مُزَّة كُميت ... تُذكرني غرَّة الشباب

أرق من أدمع التصابي ... ولمعة الآل والسرابِ صاغ لها النسجُ حين شُجَّت ... نِطاقَ درٍّ من الحبابِ كأن في كأسها صباحاً ... والليل محلولك الثياب يسعى بها ساحرُ المآقي ... لا يمزجُ الوصلَ بالعتاب كأنها لونُ وجنتيه ... وطيب ألفاظه العذابِ وقال أيضاً: يا مهمل العيش إن الدهر ذو نُوبٍ ... جمّ الحوادث صعبٌ غير منجذبِ كم من مؤخر أمرٍ، حين يمكنه ... إلى غدٍ، وغد في قبضة الكذب فاستنهض العيش بالصهباء مُعمِلةً ... وافر الهموم بسيف اللهو واللعب سلافة ورثتها عاد عن إرمٍ ... كانت ذخيرة كسرى عن أبٍ فأبِ في جوف أكلف قد طال الوقوف به ... لا يشتكي الساق من لينٍ ولا وصب وانظر إلى الكأس في كفِّ المدير لها ... كفضةٍ حملت ذوباً من الذهبِ وقال صريع: وقهوةٍ من بنات الكرم قلدَها ... طوقاً من الدُّرِّ في كاساتها الحببُ حمراء إن برزت، صفراء إت مزجت ... كأن فيها شرارَ النارِ تلتهبُ محمرة كفُّ ساقيها بحمرتها ... كأنما هو بالفرصاد مُختضبُ وقال ابن المعتز: نبَّهتُ ندماني فهبَّا ... طرباً إلى كأسي وأبا نشوان يحكي ميلُهُ ... غصناً من الريحان رطباً ما زال يصرعه الكرى ... وأذبُّ عنه النوم ذبا وسقيته كأساً على ... مضضِ الخُمار فما تأبّى والليلُ مشمطُّ الذُّرا ... والصبح زاد صِبا وشبا وقال أيضاً: يا من يفندني في اللهو والطرب ... خذ ما تراه ودع لومي فحسبك بي وقد يباكرني في الساقي فأشربها ... راحاً تريح من الأحزان والكُرب فسبَّح القومُ لما أن رأوا عجباً ... نوراً من الماءِ في نارٍ من العنب لم يُبقِ منها البِلى شيئاً سوى شبحٍ ... يقيمه الظنُّ بين الصدقِ والكذبِ وقال أيضاً: سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعرها ... شبيهةَ خدَّيْها بغير رقيب فأمسيتُ في ليلين بالشعر والدجى ... وشمسين من خمرٍ وخدِّ حبيب وله: قهوةٌ زُوجت بماءِ سحاب ... فكسا وجهها نقابَ حبابِ مثل نسج الدُّروع أو مثل واواتٍ تدانت أشكالها في كتاب فتراها وكأسها مثل شمسٍ ... طلعت في مُلاءَةٍ من شرابِ وله: وبكرٌ مَجوسيةٌ ... عليها قِناعُ الحببْ صفت من قذاها كما ... يُنقي أديمُ الذهبْ وطال زمانٌ بها ... ودارت عليها الحِقب يطوف بها شادنٌ ... مليح الرضى والغضب وقال أيضاً: وصفراء باكرتُها والنُّجوم خافقة كفؤاد يُحِبّ كأن الحباب إذا صُفقتْ ... سموطٌ من الدرِّ فوق الحبب وقال أيضاً: وساقٍ إذا ما الخوف أطلق لَحظَهُ ... فلا بدّ أن يلقى بتسليمه صَبَّا يطوف بإبريق علينا مُفَدَّمٍ ... فيسكب في أقداحنا ذهباً رطبا وقال الصنوبري: ومجلسٍ لا ترى فيمن يطوف به ... إلا فتىً صيغ من ظَرفٍ ومن أدب نلهو بعذراء لا تُفتضُّ عُذرتها ... إلا بكف الذي يحويه من نشب بكف ساقٍ كأَّن الكأس في يده ... جسمٌ من النور أو روحٌ من الحببِ كأنما الماءُ لما سال من يده ... في كأسها، فضةٌ سالت على ذهب ناهيك من فضةٍ تجري على ذهب ... نور من الماءِ في نارٍ من العنب تخال هذا وذا في الكأسِ، إذ جمعا، ... ماءَ اللُّجين، على ماءٍ من الذهب وقال الأمير تميم بن المعز: وراحٍ بزلنا دنَّها فتفجرت ... بأحمر قانٍ مثل ما سطع اللهبْ فلما شربناها طربنا كأننا ... شربنا السرور المحض واللهو والطرب

كأن كئوس الشَّرب وهي دوائرٌ ... قطائع ماءٍ جامد يحمل اللهب يمدُّ بها كفا خصيباً مديرُها ... وليس بشيءٍ غير حِنائها اختضب فبتنا نُسقى الشمس، والليل راكدٌ ... ونقرب من بدر السماءِ وما اقترب كأن الثريا تحت حالِك ليلها ... مداهنُ بلورٍ على الأُفق تضطرب آخر: قم يا غلام فهاتها مشمولةً ... ذهبية تنفي الهموم فتذهب وأدر علينا في الزجاجة قهوةً ... حمراء شمس شعاعها لا تغربُ فأدر بها لين الزمان فإنه ... زمنٌ على أبنائه يتقلب وقال آخر: الكأس قطبُ السرور والطربِ ... فاظَ بها قبل حادث النُّوبِ أما ترى الليل كيف تفضحه ... راياتُ صبح مبيضة العَذَبِ كراهب حنَّ للدجى طرباً ... يشُقُّ جلبابه من الطرب وقال آخر: يووم سعدٍ قد أطرق الدهر عنه ... حاسداً لي، وما رأته الخطوبُ فيه ما يشتهي نديم وريحانٌ وراح وقينة وحبيبُ ولنا موعد إذا هدأ النُّوام عنَّا والليل منا قريبُ وقال الصنوبري: يومٌ ذيولُ سحبه ... على الثرى منسحبة برزقةٍ سافرةٍ ... وشمسه منتقبة والرعد في أرجائه ... ذو أَلسنٍ مصطخبة أما ترى سماءَه ... ضاحكة منتحبة نشربُها عذراء قد ... قامت بحقِّ الشربة كأنما الراحات من ... شعاعها مختضبة متى سكبناها تقلْ ... عقيقةٌ منسكبة في مجلسٍ أطنابه ... على العلى مُطَنَّبة بين رياضٍ كلُّها ... في حُلل مكتبة فروضة مشرقةٌ ... وروضة ملتهبة تذهب فيها العين في ... مثل الحُلى المُذهبة أعذب به يوماً مضت ... ساعاته المستعذبة كلحظة مخلوسةٍ ... وقبلةٍ مُستلبة قال ابن المعتز: وإلف ساعاتٍ دعاني دعوةً ... والصبحُ بالليل البهيم منتقبْ قال اسبقِ الصبحَ بها نوريةً ... كالصبح إلا أنها من العنب مقتولة قتالةٌ مغلوبةٌ ... غلابةٌ جرّدَها مرَ الحِقب وقال أيضاً: عاد الزمان بمن نحبُّ فأعتبا ... يا صاحبيَّ فسقياني واشربا من قهوة ما خامرت ذا لوعةٍ ... إلا تعرَّض للحقوف تصوبا قام الغلامُ يديرها من كفهِ ... فحسبت بدر التِّمِّ يحمل كوكبا وقال الأعشى: وكأسٍ كلون التبر باكرتُ شُربها ... بفتيان صدقٍ والنواقيس تُضربُ سلافٌ كلون الزعفران وعندمٌ ... تصفق في راووقها حين تقطُبُ لها أرَجٌ في البيت عالٍ كأنما ... ألم بنا من بحر " دارين " أركب وقال ابن المعتز: وحلو الدلالِ مليح الغضب ... يشوب مواعيده بالكذب سقاني وقد سُلَّ سيف الصباح ... والليل من خوفه قد هرب عقاراً إذا مزجتها السقاة ... ألبسها الماءُ تاج الحبب فكم فضةٍ فضها في سرورٍ ... هناك ومن ذهب قد ذهب فتصلِحُ بيني وبين الزمان ... وتُبدِلُني بالهموم الطرَبْ لدى مجلسٍ أرضه نرجسٌ ... وأوتار عيدلنه تصطخب وحيطانه خِرطُ كافورةٍ ... وأعلاه من ذهب يلتهب وقال آخر: وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال على الشراب ولئمك وجنتي قمرٍ منيرٍ ... يجول بوجهه ماءُ الشباب ابن المعتز: سعى إلى الدنِّ بالمبزال ينقُرُه ... ساقِ توشَّح بالمنديل حين وثبْ لما وجاها بدت صفراء فاقعةً ... كأنما قد سيرا من أديم ذهب وقال: ألا فاسقنيها قد نعى الليل ديكه ... وعُرِّي ثوبُ الأُفق فهو سليبُ

حرف التاء

وقد لاح للساري " سهيلٌ " كأنه ... على كل نجمٍ في السماءِ رقيبُ وقال أيضاً: وكأن الراح لمّا مُزجت ... حُليت بعد عقيق ذهبا وتخال الظبيَ إذ طاف بها ... بعد أن أعطاكها مختضبا مزجوها قهوةً مُحمرةً ... فأثار الماءُ فيها حببا مرحباً بالبدر لما حملت ... كفه شمساً بليل مرحبا آخر: ادنُ من الدنِّ بي فِداك أبي ... واشرب وهات الكبير وانتخبِ أما ترى الطلَّ كيف يلمع ف ... عيون نورٍ يدعو إلى الطرب والصبح قد جُردت صوارمه ... والليل قد هَّم منه بالهرب فهاتها كالعروس مُحمرة الخدينِ ي مِعجرٍ من الذهبِ كادت تكون الهواء في أرج العنبرِ لو لم تكن من العِنب وقال ابن المعتز: أدر الكأس علينا ... أيها الساقي لِنطرب ما ترى الليل تولى ... وضياءُ الصبح يقرب والثريا مثل كأسٍ ... تارة تطفو وترسُبْ فكأن الشرقَ يسقس ... وكأن الغربَ يشربْ وقال: أما ترى يومنا قد جاء بالعجب ... فلا تعطله من لهوٍ ومن طرب فقام مثل قضيبٍ حركته صباً ... حلوُ الشمائل مطبوعٌ على الأدب يزف كأساً، بمنديل، متوَّجةً ... ورأسها فضةٌ والجسمُ من ذهب حرف التاء وخاتمي سما في فرع مكرمةٍ ... من معشرٍ خلقوا في الجود غاياتِ ناديته بعدما مال النجوم وقد ... صاح الدَّجاج ببشرى الصبح مرَّاتِ فقام والليل يجلوه النهار كما ... جلا التبسُّم عن دُرِّ الثَّنياتِ يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعصِ جبار السماوات وهاكها قهوةً صهباءَ صافيةً ... منسوبةً لقرى هيتٍ، وعاناتِ ألزُّه بحمياها وأبسطه ... باللين طوراً، وبالتشديد تاراتِ حتى تغنى وما تمَّ الثلاثُ له ... حلوَ الشمائلِ، محمودَ السجيَّات: " يا ليت حظي من مالي ومن ولدي ... أني أُجالس لبنى بالعشيات " وقال أيضاً: يا رُبَّ خمَّارةٍ بالفم حانتُها ... عادية ذات أطمارِ مهاريت في روضةٍ من رياض الفم مشرقةٍ ... تنوح فيها مشاكيل الفواخيت نبهتها سُحرةً والليل معتكر ... والديك يخلط تصفيقاً بتصويتِ فأوجست خيفةً مني وما علمت ... أني طروقٌ لرباتِ الحوانيتِ فقلت: عندك خمرٌ تُمتعين بها ... يكون حكمكِ فيها كلَّ ما شيتِ قالت: أصبت المنى من عاتقٍ عُتقت ... في الدنِّ من صاحب اليقطين والحوتِ فودجت خصْر دنٍّ في زجاجتها ... فأبرزت قهوةً في لونياقوت فقلت لما رأيتُ الخمر مقبلةً تجلو الظلام: ألا يا خمرُ، حُيِّيتِ ترى لها في أعالي كأسها حدقاً ... بلا جفونٍ كأحداق المباهيت يرفضُّ منها شرار كلّما مُزجت ... كالشهب تنقضُّ في إثر العفاريت ترى وجوههم منها إذا سكروا ... [منها] تلألأ حسناً كالمصاليتِ وقال أيضاً: وحامل كأساً على كفه ... صبغتها تقرب من صبغته حبابها كالدر من ثغره ... زطعمها كالعذب من ريقته وانتشرت أنفاسها بيننا ... فخلتها تصدر عن نكهته فهو إذا غابت بديلٌ لها ... وهي بديلٌ منه في غيبته وقال ابن المعتز: ومدامة يكسو الزجاج شعاعها ... حُللا مُذهبة إذا ما سُلتِ حُبست ولم تر غيرها في دنها ... فتعطرت من نفسها، وتحلتِ قد حثَّني بكئوسها ذو عغُنَّةٍ ... صامت له صور الملاح وصَلَّتِ وقال أيضاً: بُدلت من ليل كظل حصاةِ ... ليلاً كظل الرُّمح غير مواتي وتجارب الإنسان عدة عقله ... لحوادث الدهر الذي هو آتِ

حرف الثاء

ولقد علمت بأن شرب ثلاثةٍ ... ترياق همٍّ مسرعٍ بنجاتي فاشرب على مُوق الزمان ولا تمت ... أسفاً عليه دائم الحسرات وانظر إلى دنيا ربيع أقبلت ... مثل البغيّ تبرَّجت لِزُناةِ جاءتك زائرة كعام أولٍ ... وتلبست وتعطرت بنبات وإذا تعرى الصبح من كافوره ... نطقت ضروب طيوره بلغات والورد يضحك من نواظر نرجسٍ ... [نديت وآذن حَيُّها بممات] وتتوج الزرع الفتي بسنبلٍ ... غض المكاسر أخضر الشعرات آخر: إن أذكر الكرخ لا أنسى الدويراتِ ... وبالمطيرة أيامي وليلاتي منازل لم يُضر عُنقود كرمتها ... أن لم يكن بقرى هيت وعاناتِ حتى إذا تمَّ أهدته معاصره ... للشمس بين دساكير وحاناتِ حاموا علينا بأنهارٍ مفجَّرة ... من [نهر] دجلة تجري بين جنات فظل خمارُ [نا] يكسوه من مدرٍ ... قلانساً رُكبت في غير هامات يا مستطيلاً على ذلي بعزَّته ... وفارغ القلب من داءِ الصبابات ماذا ترى في جريحٍ أن من حُرق ... مقسمٍ بين أفواه المنياتِ ويح المحبين ما أشقى جدودهم ... إن المحبين أحياءٌ كأموات وقال أيضاً: لا والمدامة، ويكَ، لا وحياتها ... وذمامِ عاصرها وحَقِّ سُقاتها ما هم قلبي أن يهيم بغيرها ... فلذاك قلبي مغرمٌ بصفاتها لا شيء أحسن في المسامع نغمة ... من قول هاك إذا طربت وهاتها جاءَتك بِكرٌ من يدي بِكرٍ غدت ... حركات قلبك في الهوى حركاتها وقال الصنوبري: يا أيها الساقي قد ضُمِّنتْ ... أجفانه هاروت أو ماروتا ليت الغزال رآك حتى كان لا ... يرتاب أنك منه أملحُ لِيتا أودعت في بطن الزجاجة شربةً ... جعلت تودع درةً ياقوتا وصبغت منها إذ صبغت أكفاً ... صبغاً يشبه عندما أو توتا وفتيتَ مِسك في الأُنوف بمزجها ... لما استماحت مِسكها المفتوتا وأرق فوق النار جوهر جسمها ... أحبِب بذلك جوهراً منحوتا وقال آخر: أهل النبيذ هُمُ أهلُ المروءات ... العالمون بآداب الفُتواتِ أهل الوقار عليه والسكينة لا ... أهل التنازع فيه والملاحاةِ إن يطوَ، يُطو على صُلح بساطهم ... لأن زلاتهم ليست بزلات حرف الثاء قال عبد الله بن المعتز: وفتيةٍ لا يخوض الشكُّ رأيهم ... مؤيدين بعزمٍ غير منكوثِ لما طفا النجم من بحر الدُّجى وصلوا ... حبل السُّرى بذميل غير تلبيث حتى إذا هزم الإصباحُ ليلهم ... بعسكرٍ من جنود النور مبثوثِ وصفق الدِّيك من وجدٍ ومن أسفٍ ... على الظلام وناداهم بتغويثِ حطوا الرِّحال إلى خمَّار دسكرةٍ ... مستعجل بانفتاح الباب محثوث تميل من سكرات النوم قامته ... كميل ماشٍ على دُف بتخنيث ففض خاتمهُ عن رأس مدخر ... من الدنان قديم العهد موروث تُحيي زجاجته هذا وتقتلُ ذا ... فالناس ما بين مقتولٍ ومبعوث استرزق الله عطف الحبّ من رشأٍ ... يشوب تذكير عينيه بتأنيثِ كأن في طرفِهِ هاروت يُقعدني ... منه بسحرٍ إلى الأحشاء منفوث وقد بدا الحبُّ في دمعي وفي نظري ... فلا تسل غير هذا من أحاديثي آخر: إن عوني على الهموم ثلاث ... مُترعاتٌ من بعدهن ثلاثُ بعدها أربعٌ تتمةُ عشرٍ ... لا بِطاءٌ، لكنهن حِثاثُ حرف الجيم قال كشاجم: بليتُ ولجَّ بي وجدي بظبيٍ ... يَصُدُّ وما به إلا اللجاجُ

حرف الحاء

وعذبني قضيبٌ في كثيبٍ ... تشارك فيه لِينٌ واندماجُ أغارُ إذا دنت من فيه راحٌ ... على دُرٍّ يقبله زُجاج وقال الأمير تميم: وراحٍ عليها كالجمان المُدحرج ... تلوح كماء الوجنة المتضرجِ ملأنا بها بيض الكئوسِ فأقبلت ... تُحَثُّ علينا في رياض بنفسجِ وخلف رداءِ الغيم شمس منيرةٌ ... تلوح كوجه الغادة المتبرِّجِ وقال ابن المعتز: وعروسٍ زفت على بطن كفٍّ ... في قميص منقَّشٍ بزجاج هي بعد المزاج توريدُ خدٍّ ... وهي مثل الياقوت قبل المزاج وقال الأمير تميم: نقبت وجهها بخزٍّ وجاءت ... بشرابٍ منقبٍ بزجاج فتأملت في النِّقابين منها ... قمراً طالعاً وضوءَ سراج فاسقياني بلا مزاجٍ فإني ... في المعالي صرفٌ بغير مزاجِ وأنظر الأُفق كيف قلَّده الإصباحُ من بعد آبنوسٍ بعاجِ آخر: ولي صاحب كالشهد والمسك طبعُهُ ... إذا وجد الصهباء لم يتحرجِ منيع نواحي السرّ، طوع يد الصِّبا ... أغرُّ كريعان الضحى المتبلجِ وقال الصنوبري: بيضاء تُجلى للعيون فتنجلي ... ورداً يلوح على صفيحة عاج ولقد أُنازعها سلافة قرقفٍ ... كدم الذبيح جرى من الأوداج حمراء تزهر في الإناء كأنها ... ياقوتة كُسيت قميص زجاج وقال ديك الجنّ: وليلةٍ بات طلُّ الغيث يَنسجها ... حتى إذا كملت أضحى يدبجها يبكي عليها بكاء الصب فارقه ... إلفٌّ ويضحكها طوراً ويُبهجها إذا تضاحك فيها الورد نرجسها باهى زكيَّ خزاماها بنفسجُها فقلت فيها لساقينا، وفي يده ... كأسٌ كشُعلةِ نارٍ بات يوهجها لا تمزجنها بغير الماءِ منك فإن ... تبخل يداك، فدمعي سوف يمزُجُها أقلُّ ما بي من حبِّيك أن يدي ... إذا سمت نحو قلبي كاد يُنضجها وقال أبو نواس: كل ميت مُحرم فأدرها ... غير مقتولةٍ بسيفِ المِزاج وأُسليت إلى السِّراج فكانت ... هي في ضوئها سِراجَ السِّراج ضحكت في الزجاج، إذ صبَّها الساقي، فكادت تذيب جسم الزجاج زقال ابن المعتز: قُم يا غلام فهاتِها كرخية ... حمراء تحكي حمرة الماذينج وأنظر إلى حسن الهلال كأنه ... نونٌ مذهبةٌ على فيروزجِ وكأن أنجمه فرادى نرجسٍ ... خضل تطلع من رياض بنفسج ناغى بها كأساً كأن حبابها ... خرزات دُرٍّ في العقيق مُدحرج يسقيكها خنث الجفون كأنها ... معصورة من خدِّهِ المتضرج حرف الحاء قال أبو نواس: ذكر الصبوح بسحرةٍ فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا أوفى على شعف الجدار بسُدفةٍ ... غرداً يصفق بالجناح جناحا بادر صباحك بالصَّبوح ولا تكن ... كمسوِّفينغدوا عليك شحاحا وخدين لذات، معلل صاحب ... يقتات منه فكاهةً ومراحا نبهته والنوم ملتبسٌ به ... وأزحت عنه رقاده فانزاحا قال: ابغني المصباح قلت له اتئِدْ ... حسبي وحسبُك ضوءُها مصباحا فسكبت منها في الزجاجة شربةً ... كانت له حتى الصباح صباحا من قهوةٍ جاءتك قبل مزاجها ... عُطلاً فألبسها المزاج وشاحا شك البزال فؤادها فكأنها ... أهدت إليك بريحها تُفاحا صفراء تفترس النفوس فما ترى ... منها بهنَّ سوى النُّعاس جراحا عمرت يكاتمها الزمانُ حديثه ... حتى إذا بلغ السآمة باحا وقال أيضاً: جريتُ مع الصبا طلق الجُمُوح ... وهان عليَّ مأثور القبيحِ وجدتُ ألذ عارية الليالي ... قرانَ النغم بالوتر الفصيح

ومسمعةٍ إذا ما شئت غنَّت: ... متى كان الخيام بذي طُلوح تمتع من شبابٍ ليس يبقى ... وصِل بعُرى الغبوق عُرى الصَّبوح وخذها من مشعشعةٍ كميتٍ ... تنزل دِرَّة اللحزِ الشَّحيح تخيرها لكسرى رائداهُ ... لها حظان من طعم وريحِ ألم ترني أبحت اللهو مالي ... وعضَّ مراشف الظبي المليح وله: غرَّد الديك الصَّدوح ... فاسقني طاب الصَّبوحُ اسقني حتى تراني ... حسناً عندي القبيحُ قهوةً تُذكر نوحاً ... حين شاد الملك نوحُ نحن نخفيها ويأبى ... طيب نشرٍ فتفوحُ فكأن القوم نهبٌ ... بينهم مسكٌ يفوحُ وله: ومدامة سجد الملوك لها ... باكرتها والديك قد صدحا صرفٍ إذا استنبطت سورتها ... أدت إلى معقولك الفرحا وكأن فيها من جنادبها ... فرساً إذا سكنته رمحا ولقد حزنت فلم أمت حزناً ... ولقد فرحت فلم أمت فَرَحا وقال إبراهيم النظّام: ما زلت أستلُّ روح الدنِّ في لُطفٍ ... وأستقي دمه من جوف مجروحِ حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والدنّ منطرحٌ، جسم بلا روحِ وقال أبو شراعة: لا خير في العيش فاسمع قول ذي نُصُح ... إن أنت لم تغدُ سكراناً ولم ترح من قهوةٍ كشعاع الشمس صافيةٍ ... تنفي الهموم بأنواع من الفرح ما زلت أشربها والليل معتكرٌ ... حتى أكبَّ الكرى رأسي على قدحي وقال ابن وكيع: قد عُزل الليل على رغمه ... وقد أتتنا دولةُ الصبح فانهض إلى الراح فقفل الأسى ... ما لم تدرها عَسِرُ الفتح واربح على دهرك في شربها ... فلذة العاقل في الربح راح إذا دارت على قاطبٍ ... عاد بها ذا خُلقٍ سمحِ إذا الفتى أغضبه دهرُهُ ... فإنها واسطة الصلح وقال أيضاً: رفعت كفُّهُ إلى شفتيه ... كأسه والظلام وحف الجناح فكأن العقار فوق ثناياه بهارٌ مقبِّل للأقاح وقال كشاجم: أطلق عقال الروح والراحِ ... إني إليها جدُّ مرتاح قد كدت الحكمة روحي فزوِّجها بأوتار وأقداحِ وقال أيضاً: ما ترى في الصَّبوح أيدك الله فهذا أوانُ طيب الصَّبوح غسقٌ راحلٌ وديك صدوحٌ ... فأجب دعوة المنادي الصَّدوح وكأن الصباح أوجُهُ رهبانٍ تطلَّعن من خلال المُسوح وقال ابن المعتز: عناني صوتُ مُسمعةٍ وراحُ ... يباكرني إذا برق الصباحُ ومعشوق الشمائلِ عسكريٌّ ... له من لحظ عينيه سِلاحُ كأن الكأس في يده عروسٌ ... لها من لؤلؤٍ رطب وشاح وقائلةٍ متى يفنى هواه ... فقلت لها: إذا فني المِلاحُ وقال: لبسنا إلى الخمار والنجم غائر ... غلالة ليلٍ طُرزت بصباحِ وظلت تدير الراح أيدي جآذرٍ ... عِتاق دنانير الوجوه مِلاحِ وقال أيضاً: خليليَّ اتركا قول النصيح ... وقوما فامزجا راحاً بروحِ فقد نشر الصباح رداءَ نورٍ ... وهبت بالندى أنفاس ريحِ وحان ركوع إبريق لكأسٍ ... ونادى الدّشيك حيّ على الصبوح هل الدنيا سوى هذا وهذا ... وساقٍ لا يخالفنا مليح وقال: طافت علينا بماء المزن والراح ... معشوقةٌ مزجت راحاً بأرواح مخلوقةٌ من نعيم كلها بِدعٌ ... كأن وجنتها محمر تفاح وقال: ما العذر في حبس كأسٍ ... المِسكُ منها يفوحُ والغيم رطبٌ ينادي ... يا غافلين الصبوح فقلت أهلاً وسهلاً ... ما دام في الجسم روحُ وقال الصنوبري: لاح لك الصبح فقمْ فاصطبح ... واربح على دهرك فيمن ربح

الديك قد صاح مراراً وما ... عليك، صاح الديك أم لم يصح هاك انتخب، هاك اقترح ما الفتى ... إلا فتىً منتخبٌ مقترح ووالٍ بين الكأس والطاس أو ... يبطحك الزِّقُّ كما قد بطح ذا دمه ينصبُّ من حلقه ... كما رأينا حبشياً ذُبِح ما العيش إلا في ركوب الهوى ... وأن تُرى منهمكاً مفتضح في فتيةٍ ما شئت من فتيةٍ ... يحلو في مدحهم الممتدح إبريقهم بينهم ضاحكٌ ... باكٍ كإنسانٍ حزينٍ فَرِحْ وقال: وحاملٍ جسماً من النور قد ... صُيِّرت الراحُ له روحا إذا سقانا منح الكأس من ... صفاته ما كان ممنوحا من خده لوناً ومن ريقه ... طعماً ومن نكهته ريحا وقال: لائمي في النبيذ لم أر من قبلِك من لام في الحلال المباحِ هي مفتاح قفل كل سرورٍ ... أيُّ قفلٍ يُرى بلا مفتاح جمحت بي الكئوس في حلبة اللهو فمن ذا يردُّني عن جماحي إذ تدير الكئوسَ كلُّ هضيم الكشح ريّا السِّوار غرثى الوشاح من عُقارٍ يَغني الندامى بها عند حلول الدجى عن المصباح وإذا ما المدام دارت رأيت الشرب صرعى وما بهم من جراح وتراها قد استباحت من القوم حريماً ما كان بالمستباحِ أنا لولا هذا لما كنتُ إلاَّ ... رجلاً سائحاً مع السُّياحِ وقال: حنت أباريقي وأقداحي ... وارتاح ريحاني إلى الراح واشتاق مصباحي إلى ضوئها ... فإنها مصباح مصباحي وافتقد التفاح خد الذي ... في خده وردي وتفاحي هذا حديثي يا عليَّ العُلى ... فمن منادِيَّ بإصلاحِ وقال: من ذا يكون مبشِّري بالصبح قد طاب الصَّبوحْ وعلى النصيح ملامتي ... وعليَّ أن أعصي النصوح فلأطلبن مسرتي ... ما دام لي جسدٌ وروح وقال: دُرَّةٌ حيثما أُديرت أضاءت ومشم من حيث ما شُمّ فادحا لونها كالعقيق وهي نسيمٌ ... ومُدام تحكي لنا التفاحا وقال: ومدامة علت الأكف كئوسها ... فكأنها من دونها في الراحِ وكأنما الكاسات فيما بيننا ... من نورها يسبحن في ضحضاح لو بُثَّ في غسق الظلام شعاعُها ... طلع الصباحُ بغرةِ الإصباح وقال: وعواتقِ باكرات بين حدائقٍ ... ففضضتهنَّ وقد عَيين، صِحاحا أبرزتهن من الخدور حواسراً ... وتركت صونَ حريمهن مباحا وموشح نازعت فضل وشاحه ... وكسوته من ساعديَّ وشاحا وصبحته كالورسِ بثّض روائحاً ... كالورد باكره النسيمُ ففاحا وفعلتُ ما فعل المشوقُ بليلهِ ... عادت لذاذته عليَّ جماحا وقال أبو نواس: لا تحفِلنَّ بقول الزاجر اللاَّحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح كأسٌ إذا مزجت والليل معتكر ... أغناك لألاؤها عن كل مصباح ما زلت أسقي نديمي من مُجاجتها ... والليل ملتحف في ثوب أمساح حتى تغنّى وقد مالت سوالفه: ... [يا دير حنّة من ذات الأُكيراح] وقال علي بن العباس الرومي: ومدامة أغنت عن المصباح ... يلقى المساءَ إناؤها بصباح لطفت مسالكها وخُصَّ محلها ... فكأنها اشتقت من الأرواح بكرٌ تردُّ على الكبير شبابه ... فتراه بين صبابةٍ ومراح من قهوةٍ تهب المكارم للفتى ... فتراه بين شجاعةٍ وسماحِ وتعير نكهتها النديمَ لأية حالةٍ ... يدعونها في الشرب باسم الرَّاحِ ألريحها أو روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح وأنار منها الماء لما صُفِّقَت ... ناراً بنور طوالِع الأقداح

حرف الدال

فتغللت من تبرها بغلالةٍ ... وتوشحت من دُرِّها بوشاح وقال ديك الجن: خليليَّ هُبا عَلِّلاني مُدامةً ... معتقةً مما تخير نوحُ فما العيش إلا أن أفوز بسكرةٍ ... وما الغبن إلا أن يقال صحيح سأجمح في حبِّ البطالة والصّشبا ... وإن لام فيه عاذلٌ ونصيحُ وقال ابن الصائغ: رأيت دجناً فقلتُ الراحُ أشبه بي ... فقم بنا أيها المخمور نصطبحُ فقام يمسح وجهاً كله قمرٌ ... وقمتُ ألثمه من شدة الفرح وقلت قم فاسقني صرفاً فقد طلعت ... شمسان، من وجه ساقينا، ومن قدحي آخر: ولقد قال لي نديمي والليلُ على الأرض رفرفٌ وجناحُ داوِ همّي ببنت كرمٍ لها نفحة مِسكٍ تحيا بها الأرواحُ فحسرت اللثام عن خندريسٍ ... ضحكت عن شعاعها الأقداح آخر: حبذا صبحٌ تبدى ... والدجى وحف الجناح طلعت لي فيه شمسٌ ... أشرقت حتى الصباح وشربت الراح صرفاً ... من ثنايا كالأقاح من غزالٍ شرقِ الخلخالِ عطشان الوشاح وقال: وليلةٍ أحييتُها بالرَّاحِ محسنةٌ مسيئة الصَّباح مقمرة مرفضَّة الرياح أمنت فيها سخط اللواحي الحسين بن الضحاك الخليع: ماذا انتظارك بي إن كنت مصطبحاً ... لا نِمتَ إن لم أكن قد نمتُ ما صلحا قم يا نديمي فأحيِ الليل والفرحا ... أما ترى الليل تحت الصبح مفتضحا أمِت بكاسك عني الهمَّ والترحا ... واصدح بعودك، هذا الديك قد صدحا لا تبرح الدهر عنِّي بالشمول وقلْ ... للدهرِ شأنك فاقطع حبل من نزحا لله في اللوح شيءٌ لست ماحيه ... إن شاء أثبته أو إن يشاء محا إني لأُوقن ما قالوا وما كتموا ... علماً وأعلم أن الرشد قد وضحا لكن قيادي في كف فقد ... أضحى الذي غشَّ عندي كالذي نصحا وقال التميمي: إله بالبيض الملاح ... وبقينات وراحِ لا يصدنك لاحٍ ... هو عن سكرك صاح ليس للهم دواءٌ ... كاغتباقٍ واصطباح ولعمري ما يداوي الهمُّ بالماءِ القراحِ وقال أبو نواس: دعِ الأعاريب تندب الشيحا ... والقفر والبيد والصحاصيحا وعوج بنا نصطبح معتقةً ... تُذكر من قدم عهدها نوحا كأنها في الإناء إذ برزت ... شعلة نار تقابل الريحا وقال: طاب شربُ الراح مصطبحا ... لا تدعْ من كفِّك القدحا إنما عمر الفتى فرحٌ ... فاغتنم من عمرك الفرحا حرف الدال قال أبو نواس: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هندٍ ... واشرب على الورد من حمراء كالورد كأساً إذا انحدرت في حلق شاربها ... أجدته حمرتها في العين والخدِّ فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كفِّ جارية ممشوقة القدِّ تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سُكرين من بُدِّ لي نشوتان وللندمان واحدةٌ ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي وقال أيضاً: قد أسحب الزقَّ يأباني وأكرهه ... حتى له في أديمِ الأرض أُخدودُ لا أشرب الراح إلا أن يكون لنا ... ساقٍ بُمنتخلِ الأشعار غِرِّيدُ فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطقُ اللهوُ حتى ينطق العودُ وقال: سقياً لغير العلياء والسَّنَدِ ... وغير أطلال ميَّة الجُدد ويا صبيب الغمام إن كنت قد ... جُزت اللوى مرَّة فلا تَعُدِ أحسن عندي من انكبابك بالفِهر ملحاً بها على وتدِ يسقيكها من بني النصارى رشا ... منتسبٌ عيده إلى الأحد إذا بنى الماء حولها حبباً ... صلب فوق الجبين بالزبدِ

أشرب من كفه شمولاً ومن ... فيه رضاباً يجري على بردِ فذاك خيرٌ من البكاءِ على [الربع] وأنمى في الرُّوح والجسد وقال: جاءتك من بيت خمار بطينتها ... صفراء مثل شعاع الشمس تَتَّقدُ وقام كالبدر قد شُدَّت مناطقه ... ظبيٌ يكاد من التهييف ينعقدُ فاستلها من فم الإبريق فانبعثت ... مثل اللسان جرى واستمسك الجسدُ فلم نزل في صباح السبت نأخذها ... والليل يأخذنا حتى بدا الأحد واستشرفت غرَّة الإثنين واضحةً ... والجدْيُ معترضٌ والطالعُ الأسد وفي الثلاثاء أعملنا المطيَّ بها ... صهباء ما قرعتها بالمزاج يدُ والأربعاء كسرنا حدَّ شِرَّتها ... [والكأس يضحك في تيجانها الزبد] ثم الخميس وصلناه بليلته ... قصفاً وتم لنا بالجمعة العددُ يا حسننا وبحار اللهو تغمرنا ... في لجة القصف والأوتار تغترد في مجلس حوله الأشجار محدقةٌ ... وفي جوانبه الأنهار تطردُ لا نستخف بساقينا لعِزته ... ولا يرد عليه حكمه أحد وقال أيضاً: رضعت والدهر ثدياً ... وتلته في الولادِ فهي فيها كل ما يبلغ مقروحُ الفؤاد فشربنا شرب قومٍ ... عطشوا من عهد عاد بين افنان عريشٍ ... عمدوه بعماد ودنانٍ مسنداتٍ ... معلمات بسواد أنفذوهن بطعنٍ ... مثل أفواه المزاد ثم لمَّا مزجوها ... وثبت وثبَ الجرادِ ثم لما شربوها ... أخذت أخذ الرقادِ وقال ابن وكيع: أقول والكأس على خده ... تلمع مثل الكوكب الواقدِ أكأسه من خدِّه صبغها ... أم صبغها من عصفرٍ واحدِ وله: قمْ فأدرها عليَّ راحاً ... تطرد طيف الهموم طردا تثني رجاء القنوط بسطاً ... فيما تمنى وكان حقدا كأن أقداحها بهارٌ ... يعود فوق الخدود وردا وله: وكأسٌ كنجح الوعد ممن أحبه ... تناولتها منه على غير موعد شربت مُجاج الكرم تحت ظلاله ... على وجه معشوق الشمائل أغيدِ كأن عناقيد الكروم وظلها ... كواكب درٍّ في سماء زبرجدِ وقال بشار: وصفراء مثل الزعفران شربتها ... على صوت صفراء الترائبِ رثودِ حسدت عليها كلَّ شيءٍ يحبها ... وما كنت لولا حبُّها بحسود ظللنا بذاك الديدن اليوم كلَّهُ ... كأنا من الفردوس تحت خلود وقال أبو العتاهية: قلتُ والإصباح قد ألبسه ... سُدُفُ الليل ستور السوادِ أسقني واشرب عتيقة راحٍ ... حبباً يحكي عيون الجرادِ تلك مني بمكانٍ عزيزٍ ... أرشدتني أم أرادت فسادي وقال المعتز: ونار قدحناها سريعاً بسحرة ... متى ما تُرق ماءً عليها توقد يجول حباب الماءِ في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدٍّ مُوردِ وقال كشاجمك ويوم تشهد الأيام حُسناً ... وطيباً أنه فيهن فرد لبست نهاره حتى تقضى ... بلهوٍ لا يُعد ولا يُحدُّ وراح يقدحُ النيران منها ... مُعاقرها إذا لم يور زندُ ويعلوها إذا مُزجت حبابٌ ... كما نصبت خلال الشرب بُردُ بكف رشاً لها شِبهان منه ... شفاؤك فيهما ريقٌ وخدُّ وله: بدر بدا يحمل شمساً غدت ... وحدها في الحُسن من حدِّهِ تغربُ في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده وقال الصنوبري: هل لك في ليلةٍ بيضاء مقمرةٍ ... كأنها فضةٌ سالت على البلد وقهوةٍ كشعاع الشمس صافية ... كأن أقداحها غُشين بالبرد وقال ابن المعتز: [و] قُمْ فاسقني والنجم يلمع في الدجى ... عقاراً لها في الدنِّ عهد ثمودِ

وللصبح سلطانٌ على الليل قاهرٌ ... يُرحِّلُهُ عنَّا بغير جنودِ وله: إشرب هنيئاً على وردٍ وتوريد ... ولا تبع طيب موجودٍ بمفقود نحن الشهود وخفق العود خاطِبُنا ... نزوج ابن سحابٍ بنت عنقود كأساً إذا أبصرت في القوم محتشماً ... قال السرور له: قم غير مطرود وله: ومشمولة قد طال في الدنِّ حبسُها حكت نار إبراهيم في اللون والبردِ حططنا إلى خمارها بعد هجعةٍ ... رحال مطايا لم تزل يومها تخدي ملوك بلذات الشباب تواصفوا ... ولم يحفلوا فيها بلومٍ ولا حمد فباتوا لدى الخمار في بيت حانةٍ ... وأخلوا قصوراً بالرصافة والخلد فطاف عليهم بالمدام ممنطق ... بزناره، حلو الشمائل والقدِّ يمج سلاف الخمر في عسجديةٍ ... توقد في يمناه كالكوب الفردِ محفّرةٌ فيها تصاوير فارسٍ ... وكسرى غريقٌ حوله خرِق الجند وله: خليليَّ قد طاب الشرابُ المُبرد ... وقد عدت بعد النسك والعود أحمد فهاتا عقاراً في قميص زجاجةٍ ... كياقوتةٍ في درةٍ تتوقدُ يصوغ عليها الماء شباك فِضةٍ ... له حلقٌ بيضٌ تحل وتُعقدُ سقاها بعاناتٍ خليعٌ كأنه ... إذا صافحته راحة الريح يبرُدُ وله: قم يا نديمي نصطبح بسواد ... قد كاد يبدو الفجر أو هو بادِ وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدَّتْ من ثياب حِداد فاشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصيف من أيلول أسرع حادِ وأشمَّنا في الليل بردَ نسيمهِ ... فارتاحت الأرواح في الأجساد تبدو إذا جاد السحابُ بقطره ... فكأنما كنّا على ميعاد وله: يا ليلةً وفيتُ ميعادها ... وقد أراد الصبح إفسادها فبتُّ أُسقى ن يدي بدرها ... كأساً كساها الماء ازبادها لها عناكيب القرى حاكةٌ ... دائبةٌ تنسج أبرادها أُمُّ سنينٍ مزمنٌ عهدها ... قد نسي التاريخ ميلادها أما ترى الدنيا، فداك الورى ... كهرةٍ تأكل أولادها وله: ما زال يسقيني على وجهه ... بدرٌ منير طالع بالسعود حتى توفي السكرُ عقلي فألقاني صريعاً بين ناي وعود جدد لي أحمد فرط الهوى ... يا قلب أبشر بشفاء جديد عجل بوصلٍ منك يا سيدي ... لا فضل في عمري لطول الصدود وله: يا رب صاحب جانةٍ نبهته ... والليل قد كحل الورى برقاد في ساعةٍ فيها الجفون سواكنٌ ... قد سِمْنَ أعينهن في الأغماد فمشى وقد أخذ النعاس برجلِهِ ... مشي الأسير يميس في الأقياد لا تسقني حبشيةً ذاذية ... صبغت بياض زجاجها بسواد فأتى بها كالنار تأكل كفَّهُ ... بشعاعها من شدَّةِ الإيقاد وله: غدا بها صفراء كرخيةً ... كأنها في كأسها تتقد وتحسب الماء زجاجاً جرى ... وتحسب الأقداح ماءً جَمَدْ وله: قم يا نديمي من منامك واقعدِ ... حان الصباحُ ومقلتي لم ترقُدِ أما الظلام فحين رقَّ قميصُهُ ... وارى بياض الصبح كالسيف الصدي وله: عللاني بصوت ناي وعود ... واسقياني دمَ ابنةِ العنقود يا ليالي بالمطيرة والكرخ ودير السُّوسيِّ بالله عودي كنت عندي أنموذجاتٍ من الجنة لكنها بغير خلود وله: ألا رب يومٍ بالدويرة صالح ... فكيف بيومٍ بعده لي فاسد ظللت به أُسقى سلافة كرمةٍ ... بكف غزالٍ ذي جفونٍ صوائد على جدولٍ ريان لا يكتم القذى ... كأن سواقيه متون المبارد وله:

ومقتول سكرٍ عاش لي إذ دعوته ... فبادر مسروراً يرى غيَّه رُشدا وقام بكفيه بقايا خُماره ... وعيناه من خديه قد جَنَتا وردا وقال كشاجم: للمهرجان عليك حقٌّ سَنَّهُ ... آباؤك المتقدمون فأدِّهِ باكره بالراح الشمول تحثُّها ... صرفاً على زهر الربيع وورده كأساً ترى فيها مثالك من يدي ... رشأٍ يريك مثالها من خدِّه وقال الناشئ: ومدامة لا يبتغي من ربه ... أحدٌ حسا دمها لديه مزيدا في كأسها صُورٌ تُخال لحسنها ... عرباً برزن من الحجاب وغيدا وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهباً ودراً توأماً وفريدا فكأنهن لبسن تلك مجاسداً ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا وقال ابن المعتز: وليلٍ قد سهرتُ ونام فيه ... ندامى صُرعوا حولي رقودا أُسامرُ فيه قهقهة القناني ومزماراً يحدثني، وعودا فكاد الليل يرجمني بنجمٍ ... وقال أراك شيطاناً مريداً وقال أيضاً: قل لأحلى العباد شكلاً وقدا ... ألجد ذا الهجر أم ليس جدا ما بذا كانت المنى وعدتني ... لهف نفسي أراك قد خنت عهدا بيننا الله والمواثيق لا تقطع حبلاً ولا تُغير وُدا إن زَنَتْ عينه بغيرك فاضربها بسوط السُّهاد والدمع حدا صاحِ إني ملكتُ رقيَ مولىً ... لا يراني في الحب أصلحُ عبدا أهيف القدِّ قد تورد خداه ... بنورين؛ جُلناراً ووردا رب كأسٍ شربتها من يديه ... وصباحٍ بوجهه كان سعدا حيث لا تهتدي الهموم إلينا ... ونظن السرور والقصف خُلدا في دساكير تحت ظل ظليل ... نتلقى بها نسيماً وبردا بين كأسٍ ومزهرس وصفَ الصوت بألفاظه الفصاح فأدا ودنانٍ كمثل صفِّ رجالٍ ... قد أقيموا ليلعبوا دست بندا إذ جعلنا الورد الجنِّي علينا ... مطراً، والغمام عوداً وندا وقال كشاجم: سعت علينا بنور الماء تسكبه ... على حشاشة نارٍ جسمها بردُ يزيدها المزج وقداً في قرارتها ... فكلما أُطفئت بالنار تتقدُ كانما بطن الياقوت لؤلؤةً ... جوفاء صيغ [لها] من فضةٍ زردُ وله: أهلاً وسهلاً بالناي والعود ... وشرب كأسٍ من كفِّ مقدود قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشَّر سقمُ الهلالِ بالعيد يتلو الثريا لاكفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود وقال الحسين بن الضحاك: ومورد الخدين يخطر حين يخطر في مُورد يسقيك من جفن اللُّجين إذا سقاك دموع عَسْجد حتى تظن النجم ينزل ... أو تظن الأرض تصعد حيَّاك بالياقوت ثم الدر من تحتِ الزبرجد وقال أبو نواس: وجدة من زمان نشرت يده ... على الربا حُللاً من وشيه جُددا والجو قد رقَّ والريحان قد لبست ... أوراقه حُللاً والماء قد بردا والكأس في كف ساقيها قد اتقدت ... كأنها خدُّ ساقيها إذا اتقدا وقال أيضاً: بتنا نُعلل من ساقٍ أغنَّ لنا ... بحُمرتين من الصهباء والخد كأنه حين أذكى نار وجنته ... سُكرٌ، فأسبل [منه] فاحمِ الجعد وقال ابن الرومي: شمسٌ من الراح في غيم من الزبد ... تمشي الهويني كمشي الراح في الجسدِ لها شعاع إذا صفقتها، وثبت ... وثب الدنانير عن إحرار منتقد وقال الناشئ: ولكرم من كرم الطباع وفضلها ... والراح روح أخي الغرام الجاهد وكذاك سُميت الشمول لجمعها ... شمل الخليط وضمَّها للفارد وتفاءَلوا باسم المدام لأن في ... إدمانها إسعادَ كل مساعد وهي العقار لأنهم عقروا بها ... ما جمعوا من طارفٍ أو تالد فاعتض بها من كل شيءٍ فائتِ ... واغضض بها عين العدو الحاسد وقال ابن المعتز:

حرف الذال

ربما طاف بالمُدام علينا ... عسكريٌّ كغصن بانٍ يميدُ يكرع الكرعة الرَّوِيَّةَ بالكاس ولحظي بلحظه معقودُ حرف الذال قم فاسقني بالرّطل والخرذاذ ... إن العدول عن المدامة هاذي فكأنهن بيننا ... بيضاً لبسن غلائلاً من لاذِ حرف الراء قال أبو نواس: أعطتك ريحانها العُقارُ ... وحان من ليلِك انسفارُ فانعم بها قبل رائعاتٍ ... لا خمرَ فيها ولا خمارُ ووقِّرِ الكأس عن سفيه ... فإنما شأنها الوقار فلم تزل تأكل الليالي ... جثمانها، ما لها انتصار حتى إذا مات كل ذامٍ ... وخُلِّصَ السرُّ والجهارُ عادت إلى جوهرٍ لطيفٍ ... عِيان موجوده ضِمارُ كأن في كأسها سراباً ... يُخيله المهمه القِفارُ كأنها ذاك حين تُزهى ... لو لم يشب لونها اصفرارُ لا ينزل الليلُ حيث حلَّت ... فدهر شرابها نهارُ حتى لو استودعت سراراً ... لم يخف في ضوئها السِّرارُ ما أسكرتني الشمول لكن ... مدير طرفٍ به احورارُ وله: هي الخمرُ لا زالتتذيع فضائحي ... وتفعل ما شاءَت [بي] الخمرُ من أمرِ متى اكتسبت مالاً فللخمر شطرُهُ ... ويحكم ربُّ الخُرَّدِ العينِ بالشطر وله: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر فما الغبن إلا أن تراني صاحياً ... وما الغنم إلا أن يتعتني السُّكر فبح باسم من تهوى ودعني من الكُنى ... فلا خير في اللذات من دونها سترُ وخمارة نبهتُها بعد هجعةٍ ... وقد غابت الجوزاءُ وارتفع النسر فقالت: من الطُرّاق، قلنا: عصابةٌٌ ... خفاف الأداوي، يُبتغى لهم خمرُ ولا بد أن يزنوا، فقالت: أو الفدا ... بأبلج كالدينار في طرفه فترُ فقلت: فهاتيه، فما إن لمثلنا ... فديناك بالأهلين عن مثله صبرُ فجاءت به كالبدر ليلةَ تِمِّه ... تخال به سكراً وليس به سكرُ فقمنا إليه واحداً بعد واحدٍ ... فكان به من صوم غربتنا فِطرُ وبتنا يرانا الله شرَّ عُصابةٍ ... نجرِّر أذيال الفسوقِ ولا فخرُ وله: دع لباكيها الديارا ... وانفِ بالخمر الخُمارا وأدرها من كُميتٍ ... تدع الليل نهارا بنت عشرٍ لم تعاينْ ... غير نار الشمس نارا لم تزل في قعر دَنٍّ ... مشعر زفتاً وقارا ثم شجت فأدارت ... فوقها طوقاً فدارا كاقتران الدرِّ بالدُرِّ ... صغارا وكبارا فإذا ما اعترضته العين من حيث استدارا خلته في جنبات الكأس واواتٍ صغارا من يدَيْ ساقٍ طريف ... كسي الحُسن شعارا ومغنٍّ كلما شئت ... تغنى وأشارا: صاحٍ هل أبصرت ... بالحيَّينِ من أسماء نارا وله: إذا كان يومي ليس يوم مدامةٍ ... ولا يوم فتيان فما هو من عمري وإن كان معموراً بعودٍ وقهوةٍ ... فذلك مسروق لعمري من الدهر وله: ألف المدامة فالزمان قصير ... صافٍ عليه وما به تكدير وله بدورِ الكأس كل عشية ... حالان، موتٌ مرَّةً ونشور حمراءُ صفراءُ الترائب رأسها ... فيه لِما نسج المزاج قتيرُ وله: وفتيان صدقٍ قد صرفت مطيَّهم ... إلى بيت خمَّارٍ نزلت بها ظهرا فلما حكى الزُنار أن ليس مسلماً ... ظننا به خيراً، فظن بنا شرا فقلنا: على دين المسيح بن مريم؟ ... فأعرض مزوراً، وقال لنا هُجر!

ولكن يهوديٌّ، يحبُّك ظاهراً ... ويضمر في المكنون منه لك الخترا فجاء بها زيتية ذهبيةً ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا خرجنا على أن المقامَ ثلاثةٌ ... فطابت لنا حتى أقمنا بها عشرا عصابة سوءس لا ترى الدهر مثلهم ... وإن كنتم منهم لا براءً ولا صِفرا إذا ما دنا وقت الصلاة رأيتهم ... يحثونها حتى تفوتهم سُكرا وله: مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأذكى نارها الشِّعرى العبورُ فقول ما فامزجا خمراً بماءٍ ... فإن نتاج بينهما اسرور إذا ما الكأسُ كرَّ بها علينا ... تكون بيننا فلك يدور تسير نجومه عجلاً ووثباً ... مشوفة وتاراتٍ تغورُ إذا لم يجرهن القطبُ مشياً ... ففي دورانهن لها نشور وله: يقولون في الشيب الوقارُ لأهله ... وشيبي بحمد الله غير وقار إذا كنت لا أنفك ذا أريحيةٍ ... إلى رشأٍ يسعى بكاسِ عُقارِ شمولٌ إذا شجت تقولُ عقيقةٌ ... تنافسَ فيها السومُ بين تِجارِ كأن بقايا من عقار حبابها ... تفاريق شيبٍ في سواد غمار تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفرِّي ليلٍ عن بياض نهارِ يعاطيكها كفٌّ كان بنانها ... إذا عارضتها العين صفُّ مداري وله: وخمارٍ أنختُ إليه وهناً ... قلائِصَ قد وَنينَ من السفارِ فجمجم، والكرى في مقلتيه ... كمخمورٍ شكا ألم الخُمارِ أبنْ لي، كيف صِرتَ إلى حريمي ... وجفنُ الليل مكتحلٌ بقارِ فقلت له: ترَّفق بي فإني ... رأيت الصبح من خللِ الديار فكان جوابُهُ أن ليس صبحٌ ... ولا ضوءٌ سوى ضوءِ العُقارِ وقام إلى الدِّنان فسدَّ فاها ... فعاد الليلُ مسدولَ الإزارِ فودَّجَ خصرَها في قعر كأسٍ ... محفرةِ الجوانب والقرارِ وجال الفرس حول ركاب كسرى ... بأعمدةٍ وأقبيةٍ قصارِ وقال ابن المعتز: وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ ... بدت لك في قدحٍ من نهارِ هواءٌ ولكنه جامدٌ ... وماءٌ ولكنه غير جارِ فهذا النهاية في الابيضاضِ ... وهذا النهايةُ في الاحمرارِ كأن المدير لها باليمين، إذا قام للسقي، أو باليسار تدرع ثوباً من الياسمين له فردُ كمٍّ من الجُلنارِ وقال أيضاً: وليلٍ بتُّ أُسقاها سُلافاً ... معتَّقةُ كلون الجُلنارِ نعمت بشربها طرباً وعندي ... بناتُ اللهوِ تعبثُ بالوقار ونجم الليل يركض في الدياجي ... كأن الصبح يطلبه بثارِ قال ابن وكيع: وحديثٍ كأنه ... أوبةٌ من مسافرِ كان أشهى من الرُّقادِ إلى طرف ساهر بتُّ ألهو بطيبه ... في رياضٍ زواهرِ بين ساقٍ وسامرِ ... ومُغنٍّ، وزامر ليلة غاب شخصها ... عن عيون الدوائر كان ذهن الزمان ... [عندها] غير حاضرِ وقال أيضاً: وليلة ساهرتها ... إلى طلوع السَّحرِ سهرتها من طربٍ ... يا طيب طعم السَّهرِ رأيت فيها منظراً ... يجلو القذى عن بصري شمساً بكفَّي قمرٍ ... يديرها في قمرِ وقال أيضاً: حملت كفُّه إلى شفتيه ... كأسه والظلامُ مُرخى الإزار فالتقى لؤلؤاً حبابٍ وثغرِ ... وعقيقانِ من فمٍ وعقار وقال أيضاً: رأيت الدهر حالاً بعد حال ... كأنَّ صروفه فينا قمارُ فلا تسخط على ذنبٍ أتاه ... فليس له من الذنب اعتذار وخذ كأس العُقار فربَّ جرمٍ ... له عقبٌ مفاتحه العقار إذا ضاع السرور سلكت منها ... إليه مسلكاً فيه اختصار

وقال أيضاً: وليلةٍ بتُّ في ظلماتها طرباً ... يسعى إلي بشمس القهوة القمرُ سهرتها سهراً من طيب لذته ... وددت لو أن عمري كله سهرُ وقال أيضاً: ليهنكَ نيروزاً أتاك كأنهُ ... رسول حبيب بالأمان من الهجرِ فبادر إلى لذات يوم كأنه ... من الحُسن قرط لاح في أُفق الدهر وخذها على رغم الحسود مُدامةً ... أرق من الشكوى وأحلى من النصر لها صورةٌ في الكأسِ عند اجتلائها ... حكت صورة الإقبال في فسحة العُمر وقال أيضاً: وحانةٍ خمارٍ أنخت مطيتي ... إليه وقد أرخى الظلام له سترا وقد زهرت وسط السماء نجومُها ... كديباجةٍ زرقاء قد نقطت تبرا فأبرز لي صهباء يهدي نسيمها ... إليَّ إذا ما فاح فائحها عصرا ودارت لنا كاساتها بمدامة ... ترى دُهم خيلٍ صرن من نورها غُرا تُشتِّت شملَ الهم حتى كأنها ... إذا نزلت بالهم، طالبةٌ وترا إذا التقيا في القلب ولَّت جيوشه ... بخذلان مهزوم وأُعطيت النصرا إذا ضاق صدر المرء بالهمِّ وانثنى ... إلى كأسها ألفيته يحمد الدهرا فما زال يسقيني ويشرب مسعدا ... عليها غزالٌ طوفُهُ ينفث السِّحرا إلى أن رأيت الشمس قد خلعت لنا ... على الأُفق من أنوارها خلعاً خضرا وقال أيضاً: اشرب فقد طابت العُقارُ ... وابتسم الورد والبهارُ لها جيوشٌ من الملاهي ... للهمِّ قدمها فرار لألاؤها في الدُّجى نهارُ ... يُظلم من نوره النهار إذا استقرت حشى وقورٍ ... رأيته ما له وقار فالحزن عن أهلها مُطارُ ... والحلمُ في إثره مُطار يسعى بها جؤذرٌ غريرٌ ... في لحظ أجفانه احورار أغار منيّ عليه حتى ... عليه من نفسه أغار كلَّ جمالٍ ترى فمنه ... إذا تأملت مستعارُ وقال أيضاً: قم فاسقني كأساً كأنَّ نسيمها ... مِسكٌ تضوعه يدا عطار أحكامها في العقل إن هي حُكمت ... أحكام صرف الدهر في الأحرار يرضى عن الأقدار شاربها الذي ... ما زال ذا سخطٍ على الأقدار وكأنها والكأس ساطعةٌ بها ... ذوبٌ تحلل من عقيق جارِ لا سيما من كفٍّ أغيد شادِنٍ ... يسبي العقول بطرفِهِ السَّحارِ فضل الغصون لأنها من غرسنا ... عند التأملوهو غرسُ الباري وقال أيضاً: يا لائماً يعذلني في طربي ... حسبُك قد أكثرت من هذا الهذرْ أعرف فضل العقل إلا أنه ... بدلّ طعم العيش صفواً بالكدر الجهلُ ينبوع مسراتِ الفتى ... والعقل ينبوع الهموم والفِكر فاجسر على ما تشتهي جهالةً ... ما فاز باللذة إلا من جَسَرْ واشرب عقاراً لو أصابت حجراً ... لطار من خفته ذاك الحجر عدوةُ الحزن الذي ما ظفرت ... قط به إلا أساءت في الظفر لو رام أن يجيره من كيدها ... صرف القضاء الحتم يوماً ما قدر أرقها الدهر إلى أن شاكلت ... من رقةٍ شعر جميلٍ وعُمر خفية الحيلة في جسم الفتى ... تحدث في الجسم دبيباً وخدر كأنما الأوطار فيها جمعت ... فليس في العيش لجافيها وطر لا سيما من كف ظبي لم يُشن ... بفرط طولٍ لا ولا فرط قِصر له سهام من لحاظٍ صُيَّبٍ ... كأنما يرمين عن قوس القدر لو لم يكن زناره في وسطه ... يُمسك ضعف الخصر منه لانبتر وبان منه نصفه عن نصفه ... لكنه جاء له على قدر يا لك منه منظراً أشهى إلى ... قلبي من جنةِ عدنِ وأسرّْ

يا طيب ذي الدنيا لنا منزلةً ... لو لم نكن نُزعجُ منها بسفَر وقال أيضاً: ظفرتُ بقبلةٍ منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار ألذ من الصبوح على غمامٍ ... ومن برد النسيم على خُمار وقال تميم: إذا رحت من سكرٍ غدوت إلى سكرٍ ... وأنفقت في لهوي وفي لذتي عُمري ولم لا أَجرُّ الذيل في ساحة الصبا ... وشرخ شبابي قائمٌ لي بالغدر ومهتزة الأعطاف، تهتز للصبا ... كما اهتز غصن البان في الورق الخُضر مهفهفة صفراء، إلا لآلئاً ... إذا ابتسمت بيضاً يلحن من الثغر قطعتُ بها ليل التمام وبدرُهُ ... إذا ما رآها ظنَّها غرَّة البدر وقال: وقهوة في كأسها تزهرُ ... يفوحُ منها المسك والعنبرُ وردية يحتثها أحورٌ ... كأنها من خدِّهِ تُعصر مهفهف لم يبتسم ضاحكاً ... مذ كان، إلا كسد الجوهرُ وقال أبو العتاهية: لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق والسدير إذ نحن في غُرف الجنان نعوم في بحر السرور في فتيةٍ ملكوا عنان الدهر أمثال الصقور يتعاورون مدامةً ... صهباءَ من حلب العصير عذراء ربَّاها شعاع الشمس في حرِّ الهجير ومقرطقٍ يمشي أمام القوم كالرشأ الغرير بزجاجةٍ تستخرج السرَّ الدفين من الضمير زهراء مثل الكوكب الدِّري في كف المدير وقال ايضاً: أحلَّ العراقي النبيذ وشربه ... وقال: الحرامان المدامة والسكر وقال الحجازي الشرابان واحد ... فحلَّت لنا بين اختلافهما الخمرُ سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربها، لا فارق الوازر الوِزرُ وقال تميم: السكر في أسكر عندي وقارْ ... فاخلع بها للهو عنك العِذار ولا تطع في نشوةٍ لائماً ... إن قبول اللوم في السكر عار وهاكها تسلب عقل الفتى ... وحُلْمه في لطف واختصار حمراء في الكأس فإن شعشعت ... ولد قرع الماء فيها اصفرار في قدحٍ ليس له مشبهٌ ... إلا صفا الماء وضوء النهار كأنما الساقي إذا مجه ... في صفوها يجمع ثلجاً ونار فرُح صريع الكأس إن كنت من ... أبنائها واغدُ خليع العذار أما ترى النيل وريح الصبا ... تنظم فيه زردات صغار لا سيما إن غرد النايُ أو ... ناولك الكأس صموتُ السُّوار وبتَّ تجني لعساً أشنبا ... مستعذب الظلم برود القطار ومقلة مضمرة فتكةً ... ووجنة منبتة جُلنار كأن لامَ الصُّدغ في عاجها ... ليلٌ تبدى جنحُه في نهار وقال أيضاً: ربَّ صفراءَ عللتني بصفراء وجنح الظلام مُرخى الإزارِ بين ماءٍ وروضة وكرومٍ ... وروابٍ أنيقة الأزهار تثنى بها الغصونُ علينا ... ويجيب القيان فيها القُماري وكأن الدُّجى غدائر شعرٍ ... وكأن النجوم فيها مداري وانجلى الغيم عن هلال تبدى ... في يد الأُفق مثل نصف سوار فأسقياني فأنني أطلب المجد بثأرٍ والحادثات بثار وندامى لو لم يكونوا من الإنس لما ناسبوا سوى الأقمار بتُّ أسقيهم ويسقونني الراح على طيب رَنة الأوتار وبساطٍ من الحديث شهيٍّ ... كنبات النسرين بين البهار لم نزل نلثُم الكئوس إلى أن ... دُفن الليل في فؤاد النهار وقال عبد الله بن المعتز: وقد يباكرني بالراح صافيةً ... كأنها قبسٌ بالكف مشهور يريق في كأسها من صوب غادية ... فالخمر ياقوتةٌ والماءُ بلور وقال صريع: وبنت يهودي حضرت زفافها ... وقد حُليت دراً تزين به النحرا

بعثت إلى خطابها فأتوا بها ... وسقت لها عنهم إلى ربها المهرا فجاءتهم بكراً [بخاتم] ربِّها ... محجبةً قد عتقت حججاً عشرا أناخ عليها أغبر اللون أجوفٌ ... فصارت له قلباً وصار لها صدرا أبت أن ينال الدنُّ مسَّ أديمها ... فحاك لها الإزباد من دونها سترا قلوب الندامى في يديها أسيرةٌ ... يصيدونها مكراً وتقتلهم قهرا إذا ما تحسَّاها النديم أخو الهوى ... أسرَّ بها تيهاً وأبدى بها كبرا أخص الندامى عندها وأحبُّهم ... إليها الذي لا يعرف الظُهر والعصرا إذا مسَّها الساقي أعارت بنانهُ ... جلابيب كالجادي في لونها صُفرا إذا ما أدار الكأس ثنى بطرفه ... فعاطاهم خمراً وعاطاهم سِحرا وقال: ومشمولةٍ مما تُعتق بابلٌ ... كأن شعاع الشمس في كأسها انتشر سلافة كرمٍ بنت خمسين حجةً ... إذا ما علاها الماء تقذف بالشرر يطوف بها ساقٍ أغنُّ متوجٌ ... بوجنته خالٌ، وفي طرفه حور عليه أكاليلٌ من الآسِ رصِّعت ... بأصناف ألوان الشقائق والزَّهر فبت أُسقاها بأنعم ليلةٍ ... معتقةً حتى بدت غرَّةُ السَحر وقال ابن المعتز: وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر ولاح ضوء هلالِ كاد يفضحُهُ ... مثل القلامة قد قُدَّت من الظفر وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر ومغرم باصطباح الراح نادمني ... لم تبق لذته وفراً ولم تذرِ ما زلت أسقيه من حمراء صافيةٍ ... عجوز دسكرةٍ شابت من الكبر راح الفرات على أغصان كرمتها ... بجدولٍ من زلال الماء منفجر حتى إذا حرُّ آب جاش مرجلهُ ... بفائرٍ من هجير الشمس مستعر ظلت عناقيدها يخرجن من ورقٍ ... كما احتبى الزنج في خضر من الأُزر وكان قاطفها يسعى فأسلمها ... إلى خوابي قد عُمِّمن بالمدر وقال: خطبنا إلى الدهقان إحدى بناته ... فزوجنا منهن في خدرها الكبرى فبينا نراها في الندامى أسيرةً ... لهم إذ مشت فيهم، فصاروا لها أسرى وقال: تذكر الصبح في غُمى فما صبراوارتاح لما رأى الإصباح قد نُشرا وقال قوموا فكم من مسعدٍ عجلٍ ... أجاب دعوته الأولى فما انتظرا ثم ابتدرنا نبيح الأرض مركبنا ... على قوارح خيل تنفض العُذرا حتى أتينا على علياء يضربها ... برد النسيم فيضحي ماؤها خَصرا وفوقها من دنانٍ فُرغ شُرفٌ ... كالرازقي أقاموا فوقه الدُررا كانت غنى العلج أحياءً مملأةً ... فما جزاهن أمواتاً ولا شكرا وكان خدرها حيناً فصلبها ... على الجدار تقاسي الريح والمطرا وسقيا واشربا راحاً معتقةً ... تستأصل الهمَّ والأحزان والفكرا لما وجاها بدت حمراء قانيةً ... كأنما ملئت من نفسها سكرا وقال: أشكو إلى الله خواناً سلافجا ... وحوَّل الوصل والأرسال والنظرا يحرك القدُّ في أثوابه غُصناً ... ويُطلعُ الحسنُ من أزراره قمرا وقال: حننتُ إلى الندامى والعُقار ... وشربٍ بالصغار وبالكبارِ وساقي حانةٍ يغدو علينا بزُنارٍ وأقبية صغار أما وفتور مقلةِ بابليٍّ ... بديع القدّ ذي صُدُغٍ مُدارِ لقد فضحت دموع العين سِري ... وأحرقني هواه بغير نار ويخجل حين يلقاني كأني ... انقط خدَّه بالجلنار وبيضاء الختام إذا اجتلتها ... عيونُ الشَّربِ حمراء الإزار

جموح في عنان الماء تنزو ... إذا ما راضها نزو المهاري فضضت ختامها عن روح راحِ ... لها جسدان من خزف وقار تنقاها لكسرى رب كرمٍ ... يعد من الفلاسفة الكبار وسقفها العريش فحمَّلتهُ ... عناقيداً كأثداء الجواري نواعم لا تذلُّ بوطء رجلٍ ... وتعصر نفسها قبل اعتصار فأودعها الدِّنانَ مصففاتٍ ... وأسلمها إلى شمس النهار وألبسها فلانس معلماتٍ ... وصاحبها بصبرٍ وانتظار فلما جاوز عشرين عاماً ... مخدرةً وقرت في قرار أُتيح لها من الفتيان سمحٌ ... جوادٌ لا يشح على العُقار فأبرزها تحدث عن زمانٍ ... كمثل الآل في البلد القفار وقال: وكرخيَّة الأنساب أو بابليةٍ ثوت حقباً في ظلمة القار لا تسري أرقت صفاء الماء فوق صفائها ... فخلتهما سُلاَّ من الشمس والبدرِ وكم ليلةٍ باللهو قصَّرت طولها ... بساقية العينين والكف للخمر وإني وإن كان التصابي يحثني ... لأبلغ حاجاتي وأجري على قدر ظللت بملهى خير يومٍ وليلةٍ ... تدور علينا الكأسُ في فتيةٍ زهر بكف غزالٍ ذي دلالٍ وطُرةٍ ... وصُدغين كالقافين في طرفي سطر لدى نرجسٍ غصن وسروٍ كأنه ... قدود جوارٍ ملن في أُزر خضر انتهى السفر الأول من كتاب قطب السرور في أوصاف الخمور والحمد لله رب العالمين على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم. كتابنا هذا له رونقٌ ... كرونق الحبات في عقدها كادت تواليف الورى عنده ... تموت بالخجلة في جلدها هذا كتاب نفيس ... لكشف همي ادخرتهُ إلا برهنٍ وثيقٍ ... لصاحبٍ قد عرفته فمن أراد كتابي ... فالشرط ما قد ذكرته السفر الثاني من كتاب قطب السرور في وصف الخمور تصنيف العلاَّمة الأديب أبي إسحق إبراهيم المعروف بالرقيق النديم رحمه الله تعالى آمين هذا كتاب لو يباع بوزنه ... ذهباً لكان البائعُ المغبونا أو ما من الخسران أنك آخذٌ ... ذهباً، وتارك جوهراً مكنوناً بسم الله الرحمن الرحيم وقال ابن المعتز أيضاً: يا رب يوم سرورٍ ... بالماردين قصيرِ لو بعته بسنينٍ ... واعصر ودهور وكلها في نعيم ... ما كنت بالمغدور بكِّر عليَّ بكأسٍ ... فالخير في التبكير أما ترى النجم ولى ... وهمَّ بالتغوير [اليوم قصف وبسط ... فسقني بالكبير] من كف ظبيٍ مليحٍ ... ساجي الجفون غرير يزهى بوردة خدٍّ ... قد خُدشت بعبيرِ وشعره من ظلامٍ ... ووجهه من نور وقال أيضاً: ذُرى شجرٍ للطير فيه تشاجرُ ... كأن سقيط الطل فيه جواهر كأن القماري والبلابل فوقه ... قيانٌ وأوراق الغصون ستائرُ شربنا على ذاك الترنم قهوة ... كأن على حافاتها الدُرَّ دائر كأن نسيم الروض في جنباتها ... لخالخُ، فيما بيننا، وذرائرِ وقال: سقِّني الراحَ في شباب النهار ... وانف همِّي بالخندريس العقارِ قد تولت زُهرُ النجوم وقد بَشَّر بالصبح طائر الأشجار ما ترى نعمة السماءِ على الأرض وشكر الرِّياض للأمطار وغناءَ الأطيار في فلق الصبح وحَلْيَ الأشجار بالنُّوار وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنا من قطره في نثار وقال: أقولُ لساقي القوم لا تعقرنها ... بماءٍ وأحزاني بصرفك فاعقر ولا تسقنيها بنت عامٍ فإنها ... كما هي في عنقودها لم تغير قريبة عهد بالغصون وبالثرى ... وبالشرب من ماءِ الرفات المفجر

ولكن عقاراً أم دهر تقادمت ... فلم يبق منها [غير] ريح ومنظرِ على دنِّها وسمٌ لعادٍ وتُبَّعٍ ... وفيه علامات لكسرى وقيصر وقال: ومختضب بحناء العُقارِ ... سقتني كفُّه والليل ساري وفي يمناه إبريق وماءٌ ... وكأس الخمر في يده اليسار وقال كشاجم: وندمانٍ أخىٍ ثقةٍ ... كأنَّ حديثه حبره يسرك حسن منظره ... وتحمدُ منه مُختبره ويستر عيب صاحبه ... ويسترُ أنه ستره ابن المعتز: شربنا بالصغير وبالكبير ... ولم نحفل بأحداث الدهور وقد ركضت بنا خيل الملاهي ... وقد طرنا بأجنحة السرور وقال: ونديمٍ قمرَتهُ ... عقله الكاسُ العُقارُ لم يزل ليلته في فلكِ السّكر يُدار قهوة سِرُّ الفتى فيها لعينيك جهار فترى كأساتها يُقدحُ فيهن الشرارُ وكساها الماءُ شيباً ... لم يكن فيه وقار وقال أيضاً: نمُجُّ من أقداحنا قهوةً ... تضوع بالمِسك وبالعنبر كأنما أقداحنا فضةٌ ... قط بطنت بالذهب الأحمر وقال: ثم فاسقني من سُلاف ما يُعصرْ ... كالشمس عند السعود في المنظر عروس خِدرٍ، يزفها قدحُ، ... مجلوةٌ في غلائل العنبر تعمل بالهم في الضمير كما ... يعمل في الفتك صاحب الخنجر وقال: من لامني اليوم في سكرٍ فلا عذرا ... هاتِ الكبير وغيري سقِّ ما صغُرا غدت منكرة للمزن فاحتجت ... شمس النهار ولم نعرف لها خبرا واغرورقت بانسكاب الماء مقلتها ... جاءت بثلجٍ كوردٍ أبيضٍ نثرا وقال: وزعفرانيةٍ في الكأسِ تحسبُها ... إذا تأملتها في ثوب كافور كأن حبّ سقيط لاالطلّ بينهما ... دمع تحدَّر من أجفان مهجور وقال: قم فاسقني من عقار ... حمراء كالجُلنار واركض إلى السكر ركضاً ... قبل انتصاف النهار فالسكر أوطأ فراشٍ ... والسكر أدفا دثار وشرب رطلٍ وثانٍ ... درياق كل خُمار زفت إليك عروسٌ ... من حانة الخمّار وتاجها من طينٍ ... ودرعها من قار وكأسها ملء كفٍ ... وريحها ملء دار وقال الصنوبري: نار راحٍ، ونار خدٍّ، ونارُ ... لحشا الصبِّ بينهن استعارُ ما أُبالي، ما كان ذا الضيف عندي ... كيف كان الشتاء والإمطارُ وقال: ضحك الورد في قفا المنثور ... واسترحنا من رعدة المقرور واستطيب المقيل في " برد " ظلٍ ... وشممنا الريحان بالكافور فالرحيل الرحيلَ يا عسكر اللهو إلى كل روضةٍ وغدير واهجر البيت، وامزج الراح بالثلج وأطفئ بالخمر حرَّ الهجير وقال: اشرب الراح بكرةً بالكبير ... واصطحبها غداة يومٍ مطير من عُقارٍ ألذ من نكهة الورد وأصفى من دمعة المهجور أشبهت في ضيائها بهجة الشمس ... وفي لونها دم اليعفور قُرعت بالمزاج في صحن كأسٍ ... فارتدت كأسها بحلة نور فاغتنم غفلة الزمان وخذها ... بنشاطٍ من كف ظبيٍ غرير ربَّ يوم قصرت فيه عن اللهو ببيضاء ذات طرفٍ سحور لم أعرج على طول بتيماء ... ولم أسرِ في الدجى بالعير إنما عِيرنا الكئوس تراها ... سائراتٍ تُحدى ببمٍّ وزير في رياضٍ إذا بدا القطر أبدت ... عن شموسٍ طوالعٍ وبدور فإذا هبت الصِّبا في رباها ... خلتَ ريا الصَّبا نسيم عبير وقال تميم: أما ترى حركات الريح مخبرةً ... أن الغمام يجود الأرض بالمطر والجو ملتحف قُمصاً مفوَّفةً ... زُرَّت عليه من القوهي والحبر

كأن برد نسيم الأرض حين بدا ... بردا ارتشاف حبيب زار في السحر فأجر فيه حقوق الكأس دائرةً ... ما بين رجع حنين الناي والوترِ واعلم بأن الليالي غير باقيةٍ ... فلا تبقِّ على وفرٍ ولا تذرِ وقال: يا ربَّ ليل بتُّهُ ناعماً ... بين ربا المختار والجسرِ أخرج فيه لصِبا من صِبا ... واستحث الخمرَ بالخمرِ وعذبةِ الألفاظ معشوقةٍ ... طوع الصِّبا مرهفةِ الخصر كأنما البدران في وجهها ... فهي سماءُ الشمسِ والبدر فلم أزل أشرب من كفها ... واجتني الشهد من الثغر حتى تضجَّعت وبي مثلما ... بلحظ عينيها من السحر والبدر قد مدَّ على نيله ... منطقةً من خالص التبرِ وقال ابن المعتز: قد سقتني خمراً، وريقاً كخمرِ ... بنت عشرٍ في كفِّها بنت عشرِ ذرَّ في وجهها الملاحة ذراً ... خالقٌ هزَّ غصنها تحت بدرِ وقال: ومغرمٍ باصطباح الراح نادمن ... لم تُبقِ لذته وفراً ولم تذر ما زلت أسقيه من حمراء صافيةٍ ... عروس دسكرة شابت من الكِبر راح الفرات على أغصان كرمتها ... بجدولٍ من زلال الماء منفجر حتى إذا حرُّ آبٍ جاش مرجله ... بفائرٍ من هجير الشمس مُستعر ظلت عناقيدها يخرجن من مدرٍ ... كما احتبى الزنج في خضرٍ من الأُزر وطاف قاطفها يسعى فأسلمها ... إلى خوابي قد عُمِّمن بالمدرِ وقال: من معيني على السهر ... وعلى الغم والفكر وابلائي من شادنٍ ... كبُر الحبُّ إذ كبر قام كالغصن في النقا ... يمزج الشمس بالقمر غافلاً عن بليتي ... قاتلاً لي وما شَعَر صاح إن أمكنتك لذةُ عيشٍ فلا تذر وتقدم ولا تخف ... فاز بالوصل من جسر كم عذول على الخطيئة واللهُ قد غَفَرْ فسقاني المُدام والليلُ بالصُّبح مؤتزر والثريا كنور غصنٍ على الغرب قد نُثر وقال أبو الشيص: نهى عن خلَّة الخمر ... بياض لاح في الشعر وقد أغدو وعين الشمس في أثوابها الصفر على صهباء كالشمس ... وكالكافور في النشر وظبيٌ يعطف الأرداف من متنيه والخصر على ألطف ما شدَّت عليه عُقد الأُزر رهيفٌ يرتمي الألباب عن قوسٍ من السِّحر له طرف يشوب الخمرَ للنُّدمان بالخمرِ عجوزٌ نسج الماءُ لها طوقاً من الشذر كأن الذهب الأحمر من حافاتها يجري وقال آخر: وليلةٍ من حسنات الدهر ما يمَّحى موضعها من ذكري ولا تسلاَّها بنات صدي سريت فيها بخيول شقِر سياطها ماء السحاب الغُرِّ فلم تزل تحت الظلام تجري محثوثةً حتى بلغت سُكري في روضا مقمرة بالزهرِ وشادنٍ ضعيف عقد الخصرِ يمضي بموجٍ ويجي ببدرِ مكحولة أجفانه بسحر في خده عقارب لا تسري من سبح قد قيدت بعطرِ تلسع أحشائي وليس تدري يا ليلة سرقتها من دهري ما كنت إلا غرة في عمري أما وريقٍ باردٍ وثغر ما الموت إلا الهجر أو كالهجر وقال: قم فاسقني قبل أصوات العصافير ... أما ترى الصبح قد أبدى بتنوير حمراء من خمر بيروتٍ معتقة ... ترمي الندامى بتخدير وتفتير يسعى بها ساحرُ الألحاظ زينهُ ... ثوبان قد قُلصا عنه بتشمير إذا تناول كأساً ثم قام بها ... حياً وجوها كأمثال الدنانير وقال: وشرابٍ أرقَّ من دمعة الشكوى على خدِّ عاشقٍ مهجور خلتها في كئوسها إذا أُديرت ... زعفراناً جرى على كافورِ وقال في نبيذ الدوشاب: أخي رُدَّ كأسَ الخمر عني فلا خمرا تبدلت منها أسوداً حالكاً مُرا كأن الندامى حين عاطوا كئوسه ... محابر وراقين قد مُلئت حِبرلاا وقال:

ولقد تعدى على همِّ نفسي ... من بنات الكرم عذراء بكرُ بيدي ريمٍ بقلب طرفاً ... فيه للعشاق موت ونشرُ ومغنٍّ ملحق كلَّ نفسٍ ... بهواها، فهو للسكر عُذْرُ الأخطل: نازعته طيِّب [الراح] الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعةُ الساري من خمر عانة، ينصاع الفراتُ لها ... بجدولٍ صخبِ الآذيِّ موارِ كنت ثلاثة أحوالٍ بطينتها ... حتى إذا سكنت من بعد تهدار آلت إلى النصف من كلفاء أنزعها ... علجٌ ولثمها بالجص والقار صهباء قد عنست من طول ما حُبست ... في مخدع بين جناتٍ وأنهار عذراء لم يجتل الخُطاب بهجتها ... حتى اجتلاها عبادي بدينار الصنوبري: ومدامة بُزلت ... فاشبه فتلها فتل السوار لي من زجاجتها ومنها لمحتا نورٍ ونارِ قصرتُ أيامي بها ... واهاً لأيامي القِصارِ وقال آخر: عَدِّ عن لومي فلست أرى ... في اصطباح الراح من ذكر فلئن أصبحت مصطبراً ... ما أنا عنها بمصطبر قهوة في الكأس مطرقةٌ ... كهدوِّ الحية الذكر إن يوماً لست أشربها ... ليس ذاك اليوم من عُمري فإذا قرَّ القرارُ بها ... أخذت بالسمع والبصر وهو أذكى في تنفسها ... من نسيم الروض في السحر علنيها شادنٌ غَنَجٌ ... كُحلت عيناه بالحورِ وكأن الراحَ في يده ... قمر في راحة القمرِ ابن الرومي: سُقي الشباب وإن عفا ... آثار معهده القتير تشدو لنا ريا البنان كأنها قمرٌ منيرُ وشرابنا وردية لكئوسها شررٌ يطير [واهاً لقولي للمدير، وقد سقيناها المديرُ] أعصير خمرك هذه ... من ماءِ خدك أم عصيرُ وقال أبو الهندي: حبذا العيش بدارين وقد ... بتُّ أُسقاها وقد لاح القمرُ عندنا شاديةٌ رقاصةٌ ... وغلامٌ كلما شئنا زمر وإذا قلنا له [قم] فاسقنا ... قام يمشي مشي غصنٍ قد مُطر وترى الإبريق فيما بيننا ... ماثلاً كالظبي ملثوماً أغر أو كفرخ الماء في غيضته ... حذر الصقر فأقعى ونظر وقال: وقهوةٍ كالعقيق صافيةٍ ... يطير في كأسها لها شررُ زوجتها الماء كي تذل له ... فامتعضت حين مسَّها الذكرُ كذلك البكر عند خلوتها ... يظهر منها الحياء والخفر وقال صريع: ويوم كأن الشمس فيه مريضةٌ ... من الدجن مطلول الضُّحى والظهائر ظللنا، وما تنفك فينا ذبيحةً، ... نمج نجيعاً من دماء المعاصر رحيقاً، تعالى في المزاج، كأنه ... شهاب غضى في كف ساعٍ مبادر إذا دبَّ فيها الماء قارن صعةً ... جنوحاً عليه سهلة في الحناجر وقال الراضي: يا لك من ليلةٍ محسدةٍ ... تُعد في الدهر غرَّة الدهر سعدت فيها بذي مساعدة ... اقبض بالوصل مهجة الهجر واجتلى الخمر في غلائلها ... حتى تعرت غلالة الفجر وقال العطوي: قم سيدي قد تنفس السَحَرُ ... والماءُ من برد ريحه خَصرُ والراح قد صفِّفت أبارقها ... موقوفة والسقاة تنتظر وزهرة أشرقت مصابحها ... لولا الندى طار حولها شررُ دنا إليها في الليل مقتبسٌ ... لما رآها كالنار تستعرُ رعت نجوم السماء باهتةً والليل داجي القناع معتكر بعين يقظى وجيد ناعسةٍ ... دام عليها الوقوف والسهرُ وقال ابن المعتز: اشرب وسقِّ ابن بشر من مشعشعة ... كأن في كأسها ناراً بلا نار قامت ثمانين حولاً في معاصرها ... تسامر الدهر في ليلٍ من القار وقال البحتري:

حرف الزاي

نزلنا منزل الحسن بن وهب ... وقد درست مغانيه القِفارُ تلقينا الشتاء به وزرنا ... بنات اللهو إذ قرب المزار تنازعنا المدامة وهي صرفٌ ... وأعجلنا الطبائخ وهي نار ولم يك ذاك سخفاً غير أني ... رأيت الشرب سخفهم الوقار وقال الأمير تميم: قد اجتمع البستان والروض والخمرُ ... وحُركت الأوتار وارتفع الزمرُ فما لك لا تعدو على الراح عدوة ... يبيحُك فيها كل كا تشتهي السكر هل العيش إلا قينةٌ ومدامةٌ ... وساقٍ مليحٌ ليس يُعصى له أمرُ فبادر بقايا العمر ما دمت قادراً ... وما جرَّ أرسان البقاء لك العمر وقال: ومودعةٍ بطن مغبرةٍ ... تحدث عن عهد سابورها حججنا إلى بيت خمارها ... لنشربها في معاصيرها سلاف تسلف منها الزمان ... قواها وأبقى على خيرها يقبل منها النديمُ الصباح ... ويصبغ كميه من نورها فلا تعذر النفس في تركها ... فلست عليه بمعذورها وشاطرة الزِيّ مخطوفة ... إذا برزت في زنانيرها أدارت علينا كئوس المدام ... وتأثيرها فوق تأثيرها كأن لبانة الحاظها ... تحاول بسط معاذيرها [و] لا خير في الراح إن لم تُعَنْ ... بسقم الجفون وتفتيرها وقال كشاجم: أتلفت مالي في العُقار ... وخرجت فيها عن عقاري قالوا الشهادة بالعشيّ ونحن في صدر النهار فاجبتهم ردوا الكتاب ولا تُعنوا بانتظاري لو كنت أخرج بالعشي لما سمحتُ ببيع داري صريع: سقِّني من معتقات الخمور إن يوم الأثنين يومُ سرور عاطنيها حمراء، مثل دم الخش ... ف عليها كاللؤلؤ المنثور لا تُطل حبسها عليَّ وخذها ... واسقني واسق صاحبي بالكبير قد جعلنا الإثنين عيداً جديداً ... واتخذناه جنَّة للدهور ديك الجن: بها غير معدول فداوِ خُمارها ... وصل بعشيات، الغبوق ابتكارها ونل من عظيم الردف كل عظيمة ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ ... ولا تسق إلا خمرها وعُقارها فقام تكاد الراح تخضب كفَّهُ ... وتحسبه من وجنتيه استعارها ظللنا بأيدينا نتعتعُ روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها وقال حاتم الطائي: أماوي إما مِتُّ فاسعي بنطفةٍ ... من الخمر ريَّا فانضحن بها قبري فلو أن عين الخمر في رأس شارف ... من الأسد وردٍ لاعتلجنا على الخمر إسماعيل بن صالح بن علي: ما ترى في اصطباحنا من عقار ... ونعيم بوجه شمس النهار وسجود إلى جبين هلالٍ ... طالع من سحائب الأزرارِ وصلاة على صريع مدام ... صعقٍ بين ألسن الأوتار وسماء منهلة بكباءٍ ... في رياض من نرجس وبهارِ وقال الأمير تميم: وراح تخضب الراحات ورساً ... وتفتق طيلسان الليل نورا كأن الماء يطربها فتبدي ... إذا مزجت به دراً نثيرا بدت في الكأس للندماء شمساً ... وفاحت في أُنوفهم عبيرا وكانت قهوةً صِرفاً فلما ... أداروها شربنا [ها] سرورا فلم أر مثلها أنفى لهم ... إذا شربت ولا أحلى سُدورا وقال نفطويه: قمر طالع وكأسٌ تدور ... ونعيم ولذة وسرور فأقلوا المزاج، واستعملوا الصرف، وهاتوا الكبير، هذا صغيرُ قد مضى الليل والعقول صحاحٌ ... وزقا الديك والكلام كثير أفقدونا عقولنا ساعة إذ ... في افتقاد العقول عيش غرير حرف الزاي

حرف السين

قال [ابن] المعتز بالله: يا صاح يشغل قلبي عن عواذله ... قرع الكئوس بأفواه القوازيز أصغى بإبريقه من تحت مبزلها ... حتى تملأ من أحشاء موخوز يضاحك الأُقحوان الغض في فمه ... تفاح خدٍّ، بخال الخد، مغروز كأن ديباجةً من خده نُشرت ... وطرزته بحُسنٍ أيَّ تطريز فنحن منه ومن أيامه أبداً ... في مهرجان نغاديه ونيروز إذ لا يزال من الفتيان ذو طربٍ ... يغب في ذهب قد ذاب، إبريز دام عليه هجير الشمس يسكبه ... فميز الصفو منه أيَّ تمييزِ تُقارع الماء في الأقداح إذ مزجت ... بصارم من سيوف النور مهزوزِ وزادت سخطٍ على الأرزاق قلت لها ... عنيتني، فارجعي باللوم أو جوزي لا خير في ماجدٍ يهدى عواذله ... وأي غصنٍ نضير غير مغموز لا يقعد السكر عزمي عند نهضته ... وليس رأسي عن حزمي بمحجوز وقال الأمير تميم: يا رب ليلٍ من ليالي الكوز قطعته بعاتقٍ عجوز معشوقة المخبر والبروز أذنابها حر لظى تموز حتى بدت كالذهب الإبريز أرق من فهمي ومن تمييزي ؟ حرف السين قال أبو نواس: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارسُ مساحبُ من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحانٍ جنيٌّ ويابس حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابسُ ولم أدرِ من هم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس أقمنا بها يوماً، ويوماً، وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامس تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارسُ قراراتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... ولماء ما دارت عليه القلانس وقال: نبِّه نديمك قد نعس ... يسقيك كأساً في الغلس صرفاً كأن شعاعها ... في كف شاربها قبس مما تخير كرمها ... كسرى بعانة واغترس تذر الفتى وكأنما ... بلسانه منها خرس يدعى فيرفع رأسه ... فإذا استقل به نكس يسقيكها ذو قرطقٍ ... يُلهي ويُعجل من حبس خنث الجفون كأنه ... ظبي الرياض إذا نعس أضحى الأمير محمد ... للدين نوراً يقتبس ورث الخلافة خمسةٌ ... وبخير يضحك إن عبس ابن وكيع: غرَّد الطيرُ فنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خُلس سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من قُمص الغلس وبدا في حُلل فضية ... ما لها من ظلمة الليل دنس فاسقني من قهوةٍ مسكيةٍ ... في رياضٍ عنبريات النفس وقال: قم فاجعل اليوم حُسناً ... ولذةً مثل أمسِ مرة المرءِ سعدٌ ... والهمُّ طالع نحس فقم أدرها علينا ... صفراء في ثوب ورس يحكى الحباب عليها ... غمامة مثل شمسِ وقا تميم: حبذا طيبُ يومِنا المأنوسِ ... بين شدو الغنا، وحثِّ الكئوسِ من مدامٍ بها يعيش التصابي ... وتُداوى مُعللات النفوسِ غربت في الشفاه ماء ولكن ... طلعت في الخدود مثل الشموس وكأن النجوم في غسقِ الليل جُمان يلوحُ في آبنوس وقال بشار: قومي اغبقيني فما صيغ الفتى حجراً ... لكن رهينه أحجار وأرماسِ اليوم خمرٌ ونغدو في غدٍ خبرا ... والناس ما بين إنعامٍ وإبآسِ روِّي عظامي لكي أنفي الهموم بها ... لا يصحب الهم قرع السن بالكاس علي بن جبلة:

حرف الضاد

دع الدنيا فللدنيا أُناسُ ... ألذُّ العيش إبريقٌ وطاسُ وصافيةٍ لها في الرأس لينٌ ... ولكن في النفوس لها شماسُ كأن يد النديم تديرُ منها ... شعاعاً لا يحيط عليه كاسُ معتقةٍ إذا مزجت أضاءت ... فأمكن قابساً منها اقتباس تخال بعين شاربها نُعاساً ... وليس سوى المدام به نعاسُ عبد الله بن المعتز: سقاني الخمر من يده سُحيراً ... وفي أجفانه مرضُ النعاس ويسراه مقرطقةٌ بكوزٍ ... ويُمناه مُتوجةٌ بكاسِ وقال: غدوت إلى كاسِ ورحت إلى كاسِ ... ولم أر فيما تشتهي النفس من باس ومشتبهٍ بالبدر في أعين الورى ... من الناس إلا أنه أملحُ الناس سقاني خمراً من يديه ولحظه ... فأسكرني سكرين من بين جُلاسي إذا جاد لي عند الخِلاس بقبلةٍ ... وجدتُ لها برداً على حر أنفاسي وقال تميم: ناولتها شبه خدَّيها معتقةً ... خمراً كأن سناها ضوءُ مقياسِ فقبلتها وقالت وهي ضاحكةٌ ... وكيف تسقي خدود الناس للناسِ قلت اشربي إنها دمعي وحمرتها ... دمي وطابخها في الكأس أنفاسي قالت إذا كنت من حبي بكيت دماً ... فسنيها على العينين والراسِ يا ليلةً بات فيها البدر معتنقي ... وباتت الشمس فيها بعض جُلاسي وبت مستغنياً بالثغر عن قدحٍ ... وبالخدود عن التفاح والآسِ ابن المعتز: وعاقد زنار على غُصنُ الآس ... مليح دلال مُخطف الكشح مياس سقاني عقاراً صبَّ فيها مزاجها ... فاضحك عن ثغر الحباب فم الكاس وقال: اشرب فقد دارت الكئوسُ ... وفارقت يومك النحوسُ في كل يومٍ جديدُ روضٍ ... عليه دمعُ الندى حبيسُ ومأتم في السماء يبكي ... والأرض من تحته عروسُ الصنوبري يا نديمي دع المكاس وهاك الراح خذها ولات حين مكاس لم تشعشع في الكأس إلا كستنا ... حللاً من شعاعها في الكاسِ هاكها عُصفرية اللون إلا ... أنها عنبرية الأنفاس الأمير تميم: قد دعانا إلى الصبا الناقوسُ ... حين حنَّت إلى الصباح النفوسُ ورداء الهواء قد رقَّ حتى ... كاد يخفى نسيمه المحسوس وكأن الصباح والليل لمَّا ... أسفر الفجر أسعد ونحوسُ حبذا الراح كلما شيع الراح بألحاظه الغزال الأنيس واستحث الكئوس وهي صباحٌ ... وسقانا المدام وهي شموسُ وقال: طاب شربُ الخندريس ... ومعاطاةُ الكئوسِ بسماع يخلق اللذات في سرِّ النفوس من وجوه زاهراتٍ ... لم تكدر بعبُرس علي بن جبلة: وشمولٍ أرقها الدهر حتى ... ما تُوارى قذاتها بلبوس وردة اللون في خدود الندامى ... وهي صفراء في خدود الكئوس وكأن الشعاع منها على الكف جسادٌ على مذال عروس لطفت فاغتدت تحل من الأجساد، من لطفها، محل النفوس حرف الضاد قال عبد الله بن المعتز بالله: ذهب كئوسك يا غلام فإن ذا يومٌ مفضض والجو يُجلى في البيضا وفي حُلى الكافور يُعرض ورد الربيع مُلون ... والورد في كانون أبيض وقال أيضاً: كأنما الغيم لما حثَّ أوله ... مضارب الحيَّ تعلو ثم تنخفض كأنما الشربُ والساقي يحثهم ... طبيب رفق وأقوامٌ بهم مرضُ وقال: ألا يقساني والظلامُ مقوض ... ونجم الدجى في حلبة الليل يركضُ كأن الثريا في أواخر ليلها ... تفتح نورٍ أو لجامٌ مفضضُ وقال: لا شرب إلا بكفِّ جارية ... ذات دلال في طرفها مرضُ كأن في الكأس حين تمزجها ... نجوم رجمٍ تعلو وتنخفضُ حرف العين بخلوّ الطاء والظاء قال عبد الله بن المعتز:

حرف الغين

ورضيعٍ راضعت في كبر السنِّ فأضحى أخاً لديَّ مُطاعا لم يكن بيننا رضاع ولكن ... صيَّرت بيننا الكئوس رضاعا تميم: الراح أجمع للسرور وأنفع ... في مثل ذا اليوم الذي يتلمع صحو وغيمٌ في سماءٍ أصبحت ... وكأنها بهما غراب أبقع يومٌ كأن الريحَ في أرجائه ... لحفٌ مشققةٌ تمرُّ وترجعُ فاشرب فذا وجه الرِّياض مرصع ... واطرب فذا وجه السماء مُجزع وقال ابن بسَّام: أما ترى اليل قد ولّت غياهبه ... وعارض الفجر بالإشراق قد طلعا فاشرب على وردة [حمراء قد] قَدُمت ... كأنها خد ريمٍ ريم فامتنعا وقال ابن المعتز: وراهبةٍ أفنت قروناً وأعصرا ... لها برنس قارٌ ورأس مقنَّعُ ظفرنا بها في الدنِّ بكراً وبينها ... وبين قطاف الكرم عاد وتبع فلما استقرت في الزجاج حسبتها ... سنى البرق في داجٍ من الليل يلمعُ وساقٍ له سبعٌ وسبعٌ كأنه ... هلالٌ [له] خمسٌ وخمسٌ وأربع تناقلُها منها كأنها ... نجومٌ على أيدي المديرين وقَّعُ إذا قرعوها بالمزاج رأيتها عليهنَّ أحياناً تغيب وتطلع فبتنا وبيتَّتنا الهوى في إنائها ... خليط مقيم لا خليط مودِّع وقال: وشمس نهار قد سبقت طلوعها ... بشمسٍ عقارٍ في الزجاجة تطلع فما انبلج الإصباح حتى رأيتني ... أقوم إلى برِّ النديم فأركع وقال أبو نواس: أعاذل إن اللوم منك وجيع ... ولي إمرةٌ أعصي بها وأُطيع كفيت الصبا من لا يهش إلى الصبا ... وجمعت منه ما أضاع مُضيع أعاذل ما فرطت في جنب لذةٍ ... ولا قلت للخمار كيف تبيعُ أسامحه، إن المكاس [ضراعة] ... ويرحل عرضي عنه وهو جميع وقال أيضاً: ما مثل هذا اليوم في حسنه ... عُطل من لهوٍ، ولا ضُيعا فما ترى فيه، وما الذي ... تريد في ذا اليوم أن تصنعا هل لك أن تغدو على قهوةٍ ... تسرع في المرءِ إذا أسرعا ماوجد الناسُ ولا جربوا ... للهم شيئاً مثلها مدفعا حرف الغين قال الشاعر: صفراء تُطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم هبَّت هبَّ صِلٍّ لادغ خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رِياً في إناءٍ فارغِ حرف الفاء قال أبو نواس: ومدامة تحيا النفوس بها ... جلت مآثرها عن الوصفِ قد عُتِّقت في دنها حقباً ... حتى إذا آلت إلى النصف سلبوا قناع الدنِّ عن رمقٍ ... حيِّ الحياة، مشارف الحتف فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف من كف ساقيةٍ مقرطقةٍ ... ناهيك من حسن ومن ظرفِ نظرت بعيني جؤذرٍ خرقٍ ... وتلفتت بسوالف الخشفِ فشربت من يدها ومن فمها ... ورشفت منه أطيب الرشف قالت وقد جعلت تمايلُ لي ... كتمايل الماشي على الدف وجهي إذا أقبلت يشفع لي ... وبلاءُ قلبك حسنُ ما خلفي وقال علي بن وكيع: أما ترى الليل كيف قد خَرِفا ... وستر نور الصباح قد كشفا وأقبل الفجر في عساكره ... وظل والي الظلام قد صُرفا فقم بنا نصطبح مشعشعةً ... تُشرِّدُ الهمِّ أينما ثقفا إذا علت في اللبيب سورتها ... أنكر من حكمه الذي عرفا كأنها في الكئوس إذ جُليت ... من عسجدٍ رقَّ لونُهُ وصفا أغضبها الماءُ حين خالطها ... فأزبدت في كئوسها أنفا در حبابٍ يود مبصره ... لو كان يوماً لأُذنه شنفا وإن سرت والظلام معتكرٌ ... كان من الشمس نورُها خلفا

مع رشإٍ تمَّ في ملاحته ... تخاله من رشاقةٍ ألفا يهزُّ قلبي اهتزازه حذراً ... أخاف ينقدّ من رشاقةٍ ألفا يهز قلبي اهتزازه حذراً ... أخاف ينقد قدُّه قصفا يزينه في قوامه هَيَفٌ ... خادع قلبي على النهى فهفا خاف احتراقاً بنار وجنته ... عذاره حين ظل منعطفا لا أشرب الراح حين تحضرني ... حسبي خمرٌ بطرفِهِ وكفا وقال تميم: وساقٍ يدير على إلفه ... لهيباً من النار في كفه عُقاراً كخديه محمرها ... وإسكارها كظبا طرفه تحملت من حبه فوق ما ... تحمل خصراهمن ردفه وصيرت نُقلي على كاسه ... شِفاءَ شفاهي في رشفهِ وقال ابن المعتز: عاطِ المدامة إخواناً تُسرُّ بهم ... فما لهذين إن فاتاك من خلفِ وسامح القوم، واشرب ما سقوك فإن ... سقوك صرفاً فقد قالوا لك انصرف وقال: وندمان سقيت الراح صرفاً ... وأُفق الليل مرتفع السجوف صفت وصفت زجاجتها فجاءت ... كمعني دقَّ في ذهنٍ لطيفِ وقال: بشَّر بالصبح طائرٌ هتفا ... مستعلياً للجدار مشترفا مذكرا بالصبوح صاح بنا ... كخاطبٍ فوق منبرٍ هتفا صفَّق إما ارتياحه لسنا الفجر وإما على الدجى أسفا فاشرب عُقاراً كأنها قبسٌ ... قد سبك الدهرُ تبرها فصفا يدمى لِثامُ الإبريق من دمها ... كأنه راعفٌ وما رعفا وقال: بنفسي مستسلمٌ للرُّقاد ... يكلمني السُّكرُ من طرفه سريعٌ إلى الأرض من جنبه ... بطيءٌ إلى الكأس من كفه قال تميم: هزني للصبوح صبحٌ تبدى ... من خلال الدجى كغرة طرف ونسيمٌ مُضَمَّخٌ بعبير الروض يُحيي من الخمار ويشفي خذلته القوى وحركه الحرُّ بلين من الهواءِ ولُطفُ هو برد على جوى كل قلبٍ ... وعبيرٌ يفوح في كل أنفِ كلما هبَّ هبَّ فينا نشاطٌ ... وارتياح لكل عزفٍ وقصفِ [و] كأن الهلال في الغرب يحكي ... متوفىً دعا به المتوفي وكأن السحاب إذ نثر القطر محبٌ يبكي على بين إلفِ فأديرا المدام صرفاً وإلاَّ ... فاسقياني إن شئتما غير صرفِ في كئوسٍ تكاد تخطئها الأعين لحظاً من رِقّةِ المستشف وقال كشاجم: بات يعاطيني على حسنه ... خمراً بعينيه ومن كفه وكان فيما بين دار بها ... أدنيت خلخاليه من شنفه وقال: ألا سقِّنيها قد مشى الصبح في الدجى ... عقاراً كلون النار حمراء قرقفا فناولني كأساً أضاءَت بنانه ... تدفق ياقوتاً ودراً مجوفا ولما أريناها المزاج تسعرت ... فخلت سناها بارقاً قد تكشفا يطوف بها ساقٍ من الإنس شادنٌ ... يقلب طرفاً فاتر اللحظ مُدنفا عليمٌ بألحاظ المحبين حاذقٌ ... بتسليم عينيه إذا ما تخوفا فظل يناجيني بتقليب طرفه ... بأطيب من نجوى الضمير وألطفا وقال: سقى الله نهر الكرخ ما شاء ديمةً ... فإني بها حتى الممات مُكلفُ منازل لهوٍ لا " كجرّ سويقةٍ ... وعرفان " لا زالت بها الجن تعزف تدور علينا الراح من كف شادن ... له لحظ عينٍ يشتكي السقم مُدنفُ كأن سُلاف الخمر من ماءِ خده ... وعنقودها من شعره الجعد يُقطفُ أتعذلني في يوسف وهو من ترى ... ويوسف أبلاني ويوسف يوسُف وقال الخليع: ونديم حلو الشمائل كالدينار محض الخدود عذب مصفى لم أزل بالخداع منّي أفديه وقد قام مائلاً يتكفى قلت عبد العزيز يا بأبي أنت، فلبى، فقلت: لبيك ألفا هاكها قال: هاتها قلت: خذها ... فثنى كفه إليها وأغفى وقال ابن وكيع:

هتك الفجر عن سنا الصبح سجفا ... يا نديمي فسقني الراح صِرفا في رياض إن هبَّ منها نسيمٌ ... رشفته القلوب بالسم رشفا تستفيد القلوب إن هبَّ يوماً ... قوة منه كلما ازداد ضعفا آخر: إذا ما تسلفنا من الكرم لذةً ... تقاضى الكرى منا الذي نتسلف وصرعة مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وقد صرعتني قبل ذلك قرقف نموت ونحيا تارةً بعد تارةٍ ... فتخلفنا أيدي المدام ونتلف وقال أبو نواس: غاد المدام بكفِّ ظبيٍ أهيف ... يسقيكها صِرفاً وغير مصرف مشت العُقار بوجنتيه فأبدتا ... للعين ورد حديقةٍ لم تقطف ثقلت عجيرته وأُرهف خصره ... لا بالرقيق ولا السمين المسرف فالق الحرام إذا التقيت بمثله ... وامزج سلافة ريقه بالقرقف وارتك مقال الناس عنك بمعزل ... وإذا مررت بربع قصف فاقصف وقال: وربَّ ندامى أوردتني أكفُّهم ... حياض سرورٍ من معتقةٍ صرف بحمراء قبل المزج صفراء بعده ... رقاق حواشيها تجل عن الوصف فلما تقضى الليل إلا حُشاشةً ... وضوء نهارٍ في بقاياه مستخفي وصلنا صبوحاً بالغبوق تحثنا ... على الشرب أنواع اللذاذة والقصف وقال ديك الجن: أما ترى راهب الأسحار قد هتفا ... وحث تغريده لما علا الشعفا أوفى بصبغِ أبي قابوس مفرقه ... لوجهه التاج لما عوليت شرفا مُشنفاً بعقيق حول مذبحه ... هل كنت في غير أُذن تعقد الشنفا كأنما التف في هُداب راهبةٍ ... يستوحش الأُنس إلا بيعه أنفا لما أراحت رعاة الليل عارية ... من الكواكب كانت ترتعي السدفا هز اللواء على ما كان من سنةٍ ... واهتز ثم علا، وارتج ثم هفا ثم استمر كما غنى على طربٍ ... مرنحٌ قد علا تطريبه وصفا إذا استهل استهلت حوله عُصبٌ ... كالحي صيح صياحاً فيه فاختلفا فاصرف بصرفك وجه الماء يومك ذا ... حتى ترى نائماً منهم ومنصرفا فقام ملتحفاً كالبدر مطلعاً ... والظبي ملتفتاً والغصن منعطفا رقت غلالةُ خديه فلو رميا ... باللحظ أو بالمنى هما بأن يكِفا كأن قافاً أُديرت فوق وجنته ... واختط كاتبها من فوقها ألفا فاستل راحاً كبيض وافقت حجنا ... خلالنا أو كنارٍ صادفت سعفا فكان في ضوئها، إذ قام مصطبحا، ... وضوءِ وجنته ما عمنا وكفى صفراء أو قل ما اصفرت فأنت ترى ... ذوباً من الدر رصوا فوقه صدفا فلم يزل في ثلاث واثنتين وفي ... خمسٍ وعشرٍ وما استعلى وما لطفا حتى حسبت أنوشروان من خولي ... وخلت أن نديمي عاشِر الخُلفا الصنوبري: وجه الصِّرف في وجوه الصروف ... آلفاً من صباك خير أليف إنها دولة الرياحين والراح ومستقبل الزمان اللطيف ما قضى في الربيع حق الفتوات مضيعٌ لها أوان الخريف نحن منه على تلقي شتاءٍ ... يوجب القصف أو وداع مصيف في قميصٍ من الزمان رقيقٍ ... ورداء من الهواء خفيفِ يرعد الماء منه خوفاً إذا ما ... لمسته يد النسيم الضعيف سكنت فورة الهواجر عنا ... وكفتنا جور الزمان العنيف في ليالٍ نجومها كالعذارى ... يتراءَين من خلال السجوف أيهذا الصاحي من الوجد والناظرُ من غنجه بعين النزيف ما لأقداحنا كرحل حيارى ... وأباريقنا كركبٍ وقوف أوفِ كاساتنا ألست ترى العود يلوم السقاة في التطفيف بركٌ توصف الجواشن فيها ... وسواقٍ تُسلُّ سلَّ السيوف

حرف القاف

وغصونٍ يخفقن فوق رياضٍ ... خفقان الأعلام فوق الصفوف عبد الله بن ذكوان: وعذراء بكرٍ في الصباح افتضضتها ... وحادي الدُّجى ينعي الظلام ويهتف وقلت لأصحابي اشربوها فإنني ... بأمثالها رحب اليدين مكلفُ فما نور الإصباح حتى رأيتهم ... سكارى وبعضٌ بعضهم ليس يعرفُ فلما أفاقوا قلتُ عودوا لمثلها ... فعادوا فظلت كأسهم تتلقف سرت فيهم راحٌ عقارٌ سلافةٌ ... يظلُّ أخوها بالأنامل يزحف إذا صدمته الكأس ظلَّ كأنه ... أميرٌ على أعواده يتشرَّفُ حرف القاف [قال ابن المعتز] : أتاني والإصباح ينهضُ في الدجى ... بصفراءَ لم تفسد بطبخٍ وإحراقِ فناولنيها والثريا كأنها ... جنى نرجسٍ حيا الندامى به الساقي الأمير تميم: شربنا على نوح المطوَّقة الوُرقِ ... وأردية الروض المفوفةِ البلقِ معتقةً أفنى الزمانُ وجودها ... فجاءت كفوت اللحظ أورقة العِشقِ إلى أن تولى النجمُ وهو مغربٌ ... وأقبلن رايات الصباح من الشرق كأن السحاب الغر أصبحن أكؤساً ... لنا وكأن الراح فيها سنى البرقِ كأن سواد الليل والصبح طالعٌ ... بقية لطخ الكحلِ في الأعين الزرق ابن المعتز: أباح عيني لطول الليل والأرق ... وصاح إنسانها في الدمع بالغرق ظبيٌ مُخلى من الأحزان أودعني ... ما يعلم الله من حزن ومن قلق كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر عبَّ في شفقِ وقال: وحمراءَ قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجسٍ وشقائقِ حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشِقِ ومن عرف الأيام لم يغترر بها ... وبادر باللذات قبل العوائق وقال: وندمانٍ دعوت فهبَّ نحوي ... وسلسلها كما انخرط العقيقُ كأنَّ بكاسِها ناراً تلظى ... ولولا الماءُ كان لها حريقُ كأن غمامة بيضاءَ بيني ... وبين الراح تحرقها البروقُ وقال أبو نواس: وكأس مدامةٍ في كفِّ ساق ... تضيء الليل مضروب الرِّواقِ بلونٍ رقَّ حتى كاد يخفى ... على عيني، وطاب على المذاقِ أتت من دونها الأيام حتى ... عدمنا جسمها والروح باقِ وقال ابن المعتز: قمر طالع وروض أنيقُ ... وغناءٌ حلوٌ وزمرٌ رقيقُ وكئوسٌ كأنهنَّ قشور اللؤلؤ الرطب حشوُهُنَّ بروق وحنين الأوتار حين هذا الليل وطابت لسامعيها الحلوق آخر: ومغرم باصطباح الراح باكرها ... في فتيةٍ باصطباح الراحِ حُذاق فكل كفٍّ رآها ظنها قدحاً ... وكل شخصٍ رآه ظنَّه الساقي ابن وكيع: وشمس سلاف كأن العبير من ريح فائحها استنشقا تناولها من يدي صاحبي ... وثوب دجا الليل قد أخلقا فكان له فمُها مغرباً ... وكان لها خدُّه مشرقاً وقال: قم فاسقني صافيةً ... تهتك ستر الغسقِ أما ترى الصبح بدا ... في ثوب ليلٍ خلقِ أما ترى جوزاءَه ... كأنها في الأُفقِ منطقةٌ من ذهبٍ ... فوق قِباءٍ أزرقِ وقال: وصفراء من ماءِ الكروم كأنها ... فراقٌ عدوٍّ أو لقاءُ صديقِ كأن الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درٍّ في سماء عقيقِ صببت عليها الماء حتى تعوضت ... قميص بهارٍ من قميص شقيق وقال: سُكرانِ ما أنا منهما بمفيق ... ما عشت، سكرُ هوىً وسكر رحيق قم يا غلام أدِر مدامك بيننا ... بالجام والطاسات والإبريق لا سيما والرِّيح تحمل نحونا ... أنفاس مسكٍ في الرياض فتيق

حرف الكاف

والطلُّ من فوق الشقيق كأنه ... دُررٌ نُثرن على بساط عقيق ابن المعتز: من أعان الهموم والدهر والبين على نفسه بحزنٍ وضيق فأنا أدفع البلية عني ... بثلاثٍ رواتقٍ للفتوق فالرزايا ليست تداوى بشيءٍ ... كمدام وقينةٍ وصديق عديّ بن زيد: بكر العاذلون في فلق الصبح يقولون لي ألا تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الله والقلب عندكم موهوق لست أدري إذ أكثروا من ملامي ... أعدوٌ يلومني أم صديق ثم نادوا إلى الصبوح فقامت ... قينةٌ في يمينها إبريقِ قدمته على عقار كعين الديك ... صفَّى سلافها الراووق مزَّةٌ قبل مزجها، فإذا ما ... مُزِجت لذَّ طعمها من يذوق الحسين بن الضحاك: وأبيض في حمر الثياب كأنه ... إذا ما بدا نسرينةٌ في شقائق سقاني بكفيه رحيقاً وسامني ... فسوقاً بعينيه ولست بفاسِقِ تصرم إدلاجي وقلَّ تروحي ... إلى كاس راحٍ أو نديم موافق وكنت وما أنفك بين دساكرٍ ... أُباكر رقراقاً على وجه رائِقِ إذا عبَّ في الصهباء راعك خدُّه ... بصفحة بدرٍ عبَّ في ضوء بارِقِ وقال: ألا غنياني قبل أن نتفرقا ... وهات اسقني صِرفاً شراباً مروقا فقد كاد ضوء الصبح أن يفضح الدُّجى ... وهمَّ قميص الليل أن يتمزقا وقال الصنوبري: قم فاسقني راحاً نسيها ... مسكاً تضوع في الإناء فتيقا شقَّت قناع الليل لما غادرت ... كفُّ النديم قناعها مشقوقا صبغت سواد دجاه حمرةً لونها ... فكأنه سبج أُعيد عقيقا ولقد أقول لصاحبي ألا صلا ... لي بالصبوح على الرفات غبوقاً إن الرفات هو الرحيق وإنما ... يتعاطيان على الرحيق رحيقا وقال آخر: وسلافةٍ كدم الغزال كأنما ... مزجت بماء الورد والدرياق باكرتها لما انجلى غسقُ الدجى ... وظلامه عن سائر الآفاق وإذا بها الساقي أشار منازلاً ... خلت الثريا في يمين الساقي وقال آخر: نور تحدر من فم الإبريق في ريح كافور ولون عقيق صبغ الظلام ضياؤها لما بدت ... أستاره بلوامع وبروق فكأنها سبجٌ رمى بثيابه ... ثم ارتدى منها بثوب شقيق وكأنها وشعاعها متطايرٌ ... والماءُ يطفئها ضرام حريق وقال آخر: لا شيء أحسن في الدنيا ولذتها ... من عاشق قد خلا فرداً بمعشوقِ نفسي الفداء لظبي بات يسعدني ... ليلاً على قبض أرواح الأباريقِ حرف الكاف قال ابن المعتز: عاذلي في المدام لا أُرضيكا ... إن جهلاً ملامُ من يعصيكا لا تسمِ المُدامَ إن لمت فيها ... فتشين اسمها المليح بفيكا فاسقيانا يا ساقيينا عقاراً ... بنت عشر تخال فيها السبيكا وإذا الماءُ شجَّها خلتَ فيها ... لؤلؤاً فوق عسجدٍ مسبوكا وقال ابن وكيع: يقول الناس قد تبتَ من الراح وحاشاكا إذا تبتَ من الراح فقد طلقت دنياكا وقال: قم فاسقني قهوةً إذا انبعثت ... في باخلٍ جاد بالذي ملكه كأن أيدي الرياح قد نسجت ... لنا على [سطح] مائه شبكة وقال: فتكَ الصبح بالظلام فقم أنت فافتِك واشرب الراح خالعاً ... لثياب التنسكِ إنما العيش كله ... في الصبا والتهتُّك ما ترى الصبح قد بدا ... في قميصٍ ممسَّكِ ابن المعتز: أديرا عليَّ الكأس ليس لها التركُ ... ويا لائمي، لي فتنتي ولك النُّسكُ وخلوا فتىً باللهو والكاسِ مغرماً ... فما عنده سمعٌ، فهل عندكم ترْكُ ديك الجن: وقنانٍ زواهرٍ هنَّ بالشمس من الشمس بالقلائد أحكا

حرف اللام

يتبسمن قائماتٍ صفوفاً ... فإذا ما ركعن قهقهن ضحِكا قلتُ خذها وعاطنيها سلافاً ... ذهباً في الزجاج يُسبك سبكا وقال آخر: ومشمولةٍ صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل درٍّ ما لمنظومها سِلك جرت حركات الدهر فوق سكونها ... فجاءت كذوب التبر أخلصه السبك يطوف بها ساق نبيلٌ بمبزلٍ ... كخنجر عيارٍ صناعته الفتكُ وحُمٍّل آذريونةً فوق أذنه ... ككأس عقيق في قراراتها مِسكُ وأدرك منها الآخرون بقية ... من الروح في جسم أضربه النهكُ فردَّت علينا الشمس ترفل في الدجى ... فكان لستر الليل من نورها هتكُ إذا سكنت قلباً تروَّح همُّه ... فطابت له دنياه واتسع الضنك وما المُلك في الدنيا بهمٍّ وحسرةٍ ... ولكنما ملك السرور هو الملك الحسين بن الضحاك: ساقٍ ترى الشمس فوق راحته ... والليل في لجةٍ من الحلك أُعطيه مشمولةً فيأخذها ... أخذَ عزيز أوفى على دركِ كأنما نُصب كأسه قمرٌ ... يكرع في بعض أنجم الفلك حرف اللام قال أبو نواس: وخيمة ناطور برأس منيفةٍ ... تهم يدا من رامها بزليل وضعنا بها الأثقال قبل هجيرةٍ ... عبورية تُذكى بغير فتيلِ حلبتُ لأصحابي بها دُرة الصبا ... بصفراء من ماء الكروم شكولِ إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همهُ من صدره برحيل فلما توفى الشمس جنحٌ من الدُّجى ... تصابيت واستجهلتُ غير جهول وأنزلت حاجاتي بحقوي مساعدٍ ... وإم كان أدنى صاحبٍ ودخيلِ وعاطيت من أهوى الحديث كما بداوذللتُ صعباً كان غيرَ ذليلِ فغنى وقد وسدت يسراي خدَّه ... ألا ربما طالبتُ غير مُنيل كفى حزناً أن الجواد مقترٌ ... عليه ولا معروف عند بخيلِ وقال: يا رب صاحب حانةٍ قد رُعتُهُ ... فبعثته من نومه المتزمل ولها دبيب في العظام كانه ... قبض النعاس وأخذه بالمفصل مما تخيره التجار، ترى لها ... قرصاً إذا ذيقت كطعم الفُلفُلِ عبقت كفوفهم بها فكأنما ... يتنازعون بها سِخاب قرنفلِ تسقيكها كفُّ إليك حبيبةٌ ... لا بدَّ، إن بخلت وإن لم تبخلِ وقال: كان الشبابُ مطيةَ الجهل ... ومحسن الضحكات والهزلِ كان الجميل إذا ارتديت به ... ومررت أخطر صيَّت النعلِ كان الفصيحَ إذا نطقتُ به ... وأصاخت الآذان للمُمْلي كان المشفع في مآربه ... عند الفتاة ومدرك التبلِ والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أبيت خليفة البعلِ والكأس أهواها وإن رزأت ... وفر المعاش وقللت فضلي صفراء مجدها مرازبُها ... جلَّت عن النظراء والمثلِ ذخرت لآدم قبل خلقته ... فتقدمته بخطوةِ القبل فأتاك شيءٌ لا تلامسه ... إلا بلطفِ غريزة العقل فإذا علاها الماءُ ألبسها ... حبباً شبيه خلاخل الحجلِ حتى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارع النملِ خطين من شتى ومجتمع ... غفل من الإعجام والشكل فاعذر أخاك فإنه رجلٌ ... مرنت مسامعه على العذل وقال: لا تُعرِّج بدارس الأطلالِ ... واسقنيها رقيقة السِّربال مات أربابها وبادت قُراها ... وبراها الزمان بري الخلال فهي بكر كأنها كلُّ شيءٍ ... حسنٍ طيِّبٍ لذيذٍ زلالِ عتقت في الدِّنان حتى استعارت ... نور شمس الضحى وبرد الظلالِ

ولعمرُ المدام إن قلت فيها ... إن فيها لمسرحاً للمقال وقال: وخمرٍ سباها التجر من أرض بابلٍ ... كرفةِ ماء الحسن في الأعين النُّجل إذا مزجت بالماءِ خلتَ حبابها ... عيون الدبا من تحت أجنحة النمل إذا ما تحساها النديم رأيته ... خلياً من الأحزان مجتمع الشملِ وقال: وخندريس باكرتُ حانتها ... فودجوا خصرها بمبزالِ فدرَّ عِرقٌ على ترائبها ... كأن مجراه فتلُ خلخالِ وبتُّ أسقى ومن كلفتُ به ... سلافةً صُفِّقت بسلسالِ وقال ابن وكيع: أعفِ قلبي من العتاب وسمعي من العذل فبه عن جميع من لام في لذة ثَقِل واسقني أو ترى خضاب دجى الليل قد نصل من سلافٍ كأنها ... هي في كأسها زُحل ليس إلا بها يتم السرور منها لِمن عقل دولة للسرور ناهيك عن سائر الدول فاجلها في مورداتٍ وصفرٍ من الحُلل إنما العيش فرصة ... فانتهز فرصة الأمل وقال: اسقني الراح برغم العاذلِ ... قهوة تفسدُ عقل العاقل اسقني حتى تراني جاهلاً ... إن أحلى العيش عيش الجاهل مسلك الحق شديد فازوني ... عنه واسلك بي طريق الباطل وقال: علل فؤادك فالدنيا تعاليل ... لايشغلنك عن اللهو الأباطيلُ ولا يصدَّنك عن أمرٍ هممت به ... من العواذل لا قالٌ ولا قيلُ قم فاسقني النص مما حرموه ولا ... تعرِض لما كثرت فيه الأقاويل عروس كرم أتت تختال في حُللٍ ... صفرٍ على رأسها للمزج إكليل كأنها بأكف القوم إذ جليت ... ذوب من الذهب الإبريز محلول في فتيةٍ جعلوا للهو طاعتهم ... فما لهم عن طريق اللهو معدول وقال: لا تقبلن من الرشيد كلامه ... وإذا دعاك أخو الغواية فاقبلِ ودع التزهد والتجمل للورى ... فالعيش ليس يطيب للمتجمل وقال ابن المعتز: ألا عللاني قبل أغبر مظلمٍ ... بعيدٍ من الخلان من هو نازله رأيت الفتى إن مات يورث مالُهُ ... وتنكح أزواجاً سواه حلائله ذراني أنعم في الحياة معيشتي ... وآكل مالي قبل من هو آكله وقال تميم: سقِّياني فلست أُصغي لعذلٍ ... ليس إلا تعلة انفس شغلي أأطيع العذول في ضدِّ ما أهوى كأني اتهمت رأيي وعقلي عللاني بها فقد أقبل الليل كلون الصدود من بعد وصلِ وانجلى الغيم بعدما أضحك الروض بكاء السحاب فيه بوبلِ عن هلالٍ كصولجان نُضارٍ ... في سماء كأنها جام ذبلِ وقال ابن المعتز: سقى الله في " غُمى " بقية منزلٍ ... ترامت به أيدي جنوبٍ وشمأل ألا رب يوم فيه قصر طوله ... دم الزِّقِّ منزوفا بهات وعجلِ معي كل مجرور الرِّداء سميذعٍ ... جوادٍ بما يحويه غير مُبخلِ فإن تطلبنه تقتنصه بحانةٍ ... وإلا ببستان وكرمٍ مُظلل فلست تراه سائلاً عن خليفةٍ ... ولا قابلاً من يعزِلون ومن يلي ولا صائحاً كالعير في يوم لذةٍ ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي ولكنه فيما عناه وسرَّه ... وعن غير ما يعنيه، ناءٍ بمعزل آدم بن عمر بن عبد العزيز: هاك فاشربها خليلي ... في دجى الليل الطويل قهوةً في ظل كرمٍ ... سبئت من نهر " بيل " عتِّقت حولاً وحولاً ... بين كرم ونخيل في لسان المرءِ منها ... مثلب طعم الزنجبيل قل لمن يلحاك فيها ... من نصوحٍ أو عذول إن تدعها، ترجُ أُخرى ... من رحيق السلسبيل تبق بين الباب والدار على نعت الطلولِ ابن أبي سلمة: يا صاحبي ارتعا قليلاً ... فقد شجت قلبي الطلولُ أرى عِراصاً معطلاتٍ ... فأين سكانها حلول

حرف الميم

ما طرد الهمَّ مثل كاسٍ ... ترقص [في] قعرها الشُمولُ جوهرة طُوِّقت ببدرٍ ... فهي رحيقٌ وسلسبيلُ وقال ابن المعتز: لا تقف بي في دارس الأطلال ... شُغل فعلي بها وشغل مقالي إن دمعي لضائعٌ في رسومٍ ... وسؤالي محيلةً من محالِ فاسقني القهوة التي تصف العِتق بلونٍ صافٍ وطعمٍ زلال طعنت نحرها الأكفُّ ولكن ... تأخذ الثأر من عقولِ الرجال حلف العلجُ أنهم طبخوها ... فرضينا ولو بعُود خلالِ فأدرنا رَحَى السرور عليها ... بحرام مشبه بحلالِ وقال: أحسن من وقفةٍ على طللِ ... ومن بكائي في إثر مُحتملِ كأسَ صبوحٍ أعطتك فضلتها ... كفّ حبيب والنقلُ من قُبَلِ في مجلسٍ جالت الكئوس به ... فالقوم من مائلٍ ومنجدل يطوف بالراح بينهم رشأٌ ... محكَّمٌ في القلوب والمقلِ يكاد لحظُ العيون حين بدا ... يسفِك من خدِّه دم الخجل وقال: لا تلمني يا عذوليفي هوى الخمر الشَّمول قهوة تذهبُ عنا ... بهمومٍ وعقولِ خدِّرت من بعد نارِ الشمس في ظلِّ ظليلِ بين أنهار وجناتٍ وكرمٍ ونخيل فاستعن بالراح يا صاح على الليل الطويل ويح نفسي من حبيبٍ ... خائن العهد ملولِ وقال آخر: وكأسٍ كمعسول الأكاني شربتُها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلي إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيباً كوقع النار في الحطب الجزل إذا [هي] دبَّت في الفتى خال جسمه ... لما دبَّ فيه قريةً من قُرى النملِ إذا ذاقها وهي الحياة رأيته ... يعبِّسُتعبيس المقدم للقتل إذا اليد نالتها بوترٍ توقرت ... على ضعفها ثم استقادت من الرجل وقال ابن الرومي: وقهوةٍ صهباءَ مشمولةٍ ... إحدى السبايا من قرى بابل ما نزلت بالهمِّ إلا دعا ... للآهل الويل من النازِلِ وقال ابن وكيع: نادم مدامك دون الناس كلهم ... فرداً وحيداً ففيها عنهم شُغُلُ مات الذين إذا حدثتهم فرحوا ... بما تقول وإن خاطبتهم عقلوا لم يبق إلا أُناسٌ فاض عيبُهُم ... فجملة الأمر فيهم أنهم سَفَلُ إن حدثوا كذبوا أو حُدثوا عرضوا ... أو مُوزحوا سخُفوا أو جُولسوا ثقلوا وقال كشاجم: حيِّ الربيع تحية المستقبِل ... أهدى السرور لنا بغيث مسبَل جاءت بعزل الجدب فيه فبشرت ... بالخصب أنواءُ السِّماك الأعزلِ فاعرف له حقَّ القدوم بقهوةٍ ... عذراء تُمزج بالزلال السَّلْسَلِ صفراء تُجلى في الزجاج ويُتقى ... منها أليم القتلِ إن لم تُقتلِ كالخد لاقته العيون فعصفرت ... مبيض وجنته بلحظٍ مخجلِ من كف ميَّاس القوام كأنه ... ريحانة ريَّانة لم تذبُلِ وقال ابن المعتز: قم فاسقني يا خليلي ... من المُدام الشَّمولِ أولى الشهور بقصفٍ ... شعبان في أيلول قد زاد في الليل ليلٌ ... وطاب بردُ المقيلِ حرف الميم قال أبو نواس: يا شقيق النفسِ من حكمِ ... نمت عن ليلي ولم أنمِ فاسقني البكر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرحم عُتِّقت حتى لو اتصلت ... بلسانٍ ناطقٍ وفمِ لاحتبت في القوم ماثلةً ... ثم قَصَّت قِصَّة الأُممِ قرعتها بالمزاج يدٌ ... خلقت للسيف والقلمِ في ندامة سادةٍ زهرٍ ... أخذوا اللذات من أممِ فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البُرءِ في السقم فعلت في البيت إذ مُزجت ... مثل فعل الصبح في الظلمِ

فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السَّفر بالعَلَمِ وقال صريع: إذا شئتما أن تسقياني مدامة ... فلا تقتلاها؛ كل ميتٍ محرَّمُ خلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدَّمَ الدَّمُ وقال أبو نواس: صفة الطلول بلاغة الفدمِ ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم لا تُخدعن عن التي جُعلت ... سُقم الصحيح وصحة السُّقمِ وصديقة النفس التي حُجبت ... عن ناظريك، وقيم الجسمِ شجت فعالت فوقها حبباً ... متراصفاً كتراصُفِ النظم ثم انبرت لك عن مدب دبا ... عجلان صعَّدَ في ذرا أكمِ فكأن عقبي طعمها صَبِرٌ ... وعلى البديهة مُزة الطعم فعلام تذهل عنمشعشعةٍ ... وتهيم في طللٍ وفي رسمِ وإذا وصفت الشيءَ متبعاً ... لم تخلُ من سقطٍ ومن وهمِ وقال أيضاً: اسقني يا ابن أدهما ... واتخذني لك ابنما اسقنيها سلافةً ... سبقت خلق آدما فهي كانت ولم يكن ... ما خلا الأرض والسَّما وهي روح مخلِّصٌ ... فارق اللحم والدما وقال أيضاً: وكأس كعين الديك باتت تروقني ... على وجه معبود الجمال رخيم إذا قلت عللني بريقك أقبلت ... مراشفه حتى يصبن صميمي بنينا على كسرى سماءَ مدامة ... مكللةٍ حافاتها بنجوم فلو رد في يحيى بن ساسان روحُهُ ... إذن لاصطفاني دون كل نديم وقال: وشرابٍ ألذ من نظر المعشوق في وجه عاشقٍ بابتسامِ لا غليظ تنبو الطبيعة عنه ... نبوة السمع عن شنيع الكلام بنت عشرٍ صفت فلو صُبَّت على الليللا راح كل ظلام في رياض ربعيةٍ بكر الروض عليها بمستهلِّ الغمام فتوشت بكل نورٍ أنيقٍ ... من فرادى نباته وتُؤامِ فترى الشرب كالأهلة فيه ... يتحسون خُسروي المُدام وقال: أتدري من تلوم على المدام ... فتىً فيها أصمَّ عن الملام فتىً لا يأخذ النشوات إلاَّ ... بإبريق وطاسات وجام أنا ابن الكأس أرضعها ومالي ... إلى يوم القيامة من فطام وأشربها مع الفتيان مثلي ... فتمتزج الكريمة بالكرام أجلُّ عن اللئيم الكأس حتى ... كأن الخمر تعصرُ من عظامي وقال ابن وكيع: أسقني من قهوةٍ مشمولةٍ ... تخلص النفس بها من همِّها لا تذقها الماءَ في كاساتها ... حسبها ما شربت في كرمها وقال أيضاً: إشرب فقد طابت المُدام ... وافترَّ عن ثغره الغمامُ من قهوةٍ حُرِّمت علينا ... فالصبر عن مثلها حرامُ إذا استذم الأسى إليها ... فما له عندها ذمام طوَّقها الماءُ طوق دُرٍّ ... ليس لمنثوره نظام كأنها تحته كُميت ... عليه من فضة لجام إذا بدت للهموم ظلت ... وهي لإعظامها قيامُ تلوذ منها فلا لياذٌ ... ينفع منها ولا اعتصامُ في فتيةٍ كلهم كريم ... وخير من يصحب الكرامُ تكسد سوق الفتاة فيهم ... ظرفاً ولا يكسدُ الغلامُ أئمة كلهم عليمٌ ... بكلِّ ما فعله أثام لكنني فيهم على ما ... وصفت من فعلهم إمامُ وعندنا شادنٌ غريرٌ ... في لحظ أجفانه سقامُ للحسنِ قدَّامَهُ جيوشٌ ... للصبر قدامها انهزامُ يخف في حبه التصابي ... كمثل ما يثقل الملامُ ذا العيش فافطن له وبادرمن قبل أن يفطُن الحمامُ فانعم فيومُ السرور عندي ... يومٌ، ويومُ الهمومِ عامُ الأمير تميم: مزاجكما الخمرَ بالماءِ لُومُ ... دعاها كما ولدتها الكروم

وحُا ولا تخشيا نشوتي ... فغيري المُسيءُ عليها الملومُ لأني يَسُرُّ ارتياحي المدا ... مَ ويرضى خصالي عليها النديمُ خليليَّ أسبل ثوبُ الدُّجى ... وطاب الهواءُ ورقَّ النسيمُ فإن لم يكن فيكما مُسعِدٌ ... فإني بإسعاد نفسي زعيمُ الحسيم بن الضحاك: ليت نجوم السماءِ واقفةٌ ... على دجى ليلنا فلم ترِمِ ما لسروري بالشك ممتزجاً ... حتى كأني أراه في الحلم أمسح عيني مستتبعاً نظري ... إخالني نائماً ولم أنم سقياً لليل أفنيتُ مدته ... ببارد الرِّيق طيب النسم أبيض مرتجةٌ روادفه ... ما عيب من قرنه إلى القدم إذ عاكفات الظلام تسترنا ... حتى تجلت أواخر الظُّلم أباحني نفسه ووسدني ... يُمنى يديه وبات ملتزمي حتى إذا نفس المقدس في ... سحره أحوى أحم كالحُمم عدنا إلى مسند بحانته ... كأنه مُقعدٌ من الهرم عودته حكمه فأسرع بالبزل كعاداته ولم يسم فاستلها كالشهاب ضاحكةً ... عن بارقٍ في الإناء مبتسمِ في كل لونٍ من لونها شبهٌ ... إن أفردته العيون لم يقمِ صفراء زيتية مُلمعةٌ ... بأُرجوان مُلمع ضرِم عفو سلاف الربا بأكثرها ... مرّ الليالي ونكهة العدم فالنشر عطرٌ والجسم رقرقة ... كالآل بين العيان والعدم فلو ترانا في الفجر نأخذها ... لخلتنا عُكفاً على صنمِ فتلك ريحانة أراحُ لها ... دبَّ فتوني بها مدب دمي فراجع العذر إن بدا لك في الغدر وإن عدت لائماً فلُمِ وقال: كأن أباريق اللجين لديهم ... ظباءٌ بأعلى الرقمتين قيامُ وقد شربوا حتى كأن رقابهم ... من اللين لم تخلق لهن عظام وقال أيضاً: من لصبٍّ لا يرعوي لِملام ... نضو سُكرين من هوى ومُدام عاذَ من لوعة الصبابة بالكا ... سِ وخلىّ الملامَ للوامِ يا نديميَّ لا تناما عن الراح ولا ترقبا سُفور الظلام هاجني للصَّبوح نقرُ النواقيس ونجوى حمامةٍ وحمامِ فاصبحاني قبل الصباح مُداماً ... قهوةً مرَّة بماءِ غَمام وألماً على المنازل بالقُفص فنوحا نِياحة المستهام وقال أيضاً: باكر الصبحة هذا ... يوم عودٍ ومدام ما ترى بالله أحسن آداب الغمام بدأ الطلُّ بليلٍ ... ثم ثنى برهامِ وانجلى مثل انجلاء الغمدِ عن متنِ الحُسام فاشرب الراح بأرطالٍ وطاسات وجام إنما الدنيا كوهمٍ ... أو كأحلام منام كل شيءٍ يتوفى ... نقصه عند التمام كشاجم: يا ريم كم أدنو وأنت تريم ... وتنام عن ليلي ولست تُنيم قم غير مذموم النِّدام فإنها ... ستقوم سوق اللهو حين تقوم هذا الصباح فأضحك الإبريق عن ... شمس عليها في الزجاج نجوم فأدارها والصبح في خلل الدجى ... كالجيش زنجياً غزته الرُّوم فشربتها من طرفه وإناؤها ... في كفه، ورحيقها مختوم راحٌ كأنَّ نسيمها متولدٌ ... من نشره، ومزاجها تنسيمُ جاءت بنكهته وجاء بلونها ... في خدِّه فصبا إليه حليمُ وكأن كسرى في الزجاجة سابحٌ ... في الماء يغرق تارةً ويعومُ أُسقى على تمثاله برحيقه ... فكأنه لي صاحب ونديم في مجلسٍ حبس الزمانُ صروفه ... عنا فظل العيش وهو نعيم ابن المعتز بالله: إذا شئت غادتني السُّقاة بكاسها وقد فتح الإصباح في ليلةٍ فما فخلت الدجى، والفجر قد مدَّ خيطه، ... رداءً موشىًبالكواكب مُعلما وقال:

قد أظلم الليل يا نديمي ... فاقدح لنا النار بالمُدام كأنني، والورى رقودٌ ... أُقبل الشمس في الظلام وقال: مولايَ أجدرُ من حكم ... صبراً عليه وإن ظَلَمْ لعب القِلى بعهوده ... وكأنها كانت حُلُم ومصرعين من الخُما ... رِ على السواعد واللمم قتلتهُمُ خمَّارةٌ ... عمداً ولم تؤخذ بدم وسقتهم مشمولةً ... ظلت تحدث عن إرم لما أرتهم كأسها ... شربوا، وما قالوا بكم ولو أنها قالت لهم ... صلوا لها، قالوا: نعم هم عاكفون على الهوى ... لا يعرفون سوى الكرم وقال: يا ربِّ ليللٍ سحرٌ كلهُ ... مفتضحُ البدر عليلُ النسيم يلتقط الأنفاس بردُ الندى ... فيه فيهديه لحرّ الهموم لم أعرف الإصباح في ضوئه ... لما بدا إلا بسكر النديم لبست فيه بالتذاذ الهوى ... ولذة الراح ثياب النعيم وقال أيضاً: قم فاسقني والظلامُ منهزم ... والصبح بادٍ في كفِّه عَلَمُ والطير قد صفرت وأفصحت الألحان منها وكلها عُجمُ وميلت رأسها الثريا إلى الغرب بأسوار وهي تحتشمُ في الشرق كأسٌ وعند مغربها قرطٌ، وفي أوسط السما قدمُ وقال ابن الرومي: ويتيمةٍ من كرمها ونديمها ... لم يُبق منها الدهر غير صميمها لطفت فكادت أن تكون مُشاعة ... في الجو، مثل شعاعها ونسيمها صفراء تنتحل الزجاجةُ لونها ... فتخال ذوب التبر حشو أديمها ريحانةٌ لنديمها، درياقةٌ ... لسليمها، تنفي سقام سقيمها الأمير تميم: إشرب فما لؤم الزمان، وإنما ... أبناؤه مسخوا المكارم لُوما ظهروا فكانوا للعيون مدامعاً ... وخفوا فكانوا للنفوس هموما فلذاك آثرت التفرد والنوى ... وغدوت للراحِ المُدام نديما وقال: سقياني على العناقيد مما ... عصرته الأكف منها قديما ما ترى الكرم كيف نضد ياقوتاً وأبدى زُمرداً منظوما فهو يبدي للعين حباً ويخفي ... عسلاً في ظروفه مختوما كنواصي القيان نظماً وكالشهد مذاقاً وكالعبير نسيما غلطوا حين سموا الكرم كرماً ... لو أصابوا القياس قالواالكريما فاسقني يا نديم واشرب بكاسي ... واقسم اللهو بيننا والنعيما لا شربتُ المدام إن لم أُعظمْ ... فوق نفسي، على المدام النديما ابن المعتز: لم ينم ليلي ولم أنم ... نهب كفِّ الوجد والسقم في سبيل العاشقين هوى ... لم أنل منه سوى التُّهم ولقد أغدو على طربٍ ... والحيا راضٍ عن الديم فاسقياني الراح صافيةً ... تُظهر الإصباح في الظلم لا تلم عقلي ولُم طربي ... إن عقلي غير متَّهم وقال: يا حسدي للكئوس في يده ... تنال ما تشتهيه من فمه يا ليتني نلتُ ما ظفرن به ... كئوسه من لذيذ مثلمه شرابه مثل لون وجنته ... حبابه مثل دُرِّ مبسمه وقال: الآن تمَّ، فأهدى مقلةَ الرِّيم ... واهتز كالغصن في ميل وتقويم قد بتُّ ألثمه والليل حارسُنا ... حتى بدا الصبحُ مُبيض المقاديم وقام ناعي الدجي فوق الجدار كما ... نادى على مرقبٍ شارٍ بتحكيم والبدرُ يأخذه غيم ويتركه ... كأنه سافر عن خدِّ ملطوم فظن ما شئت من حاجات ذي طربٍ ... مقتضيةٍ وسؤالٍ غير محروم إثنان كالفرد من طول اعتناقهما ... باتا بعيشٍ حميدٍ غير مذمومِ يا ليلة الوصل ليت الصبح يهجرنا ... يا ليلة الوصل دومي هكذا دومي باتت أباريقنا حمراً عصائبها ... بيضاً ذوائبُها غُصَّ الحلاقيم

رواكعاً كلما حثَّ السقاةُ بها ... تلقى الكئوس بتكبيرٍ وتعظيم فلم نزل ليلنا نُسقى مشعشعة ... كأنما الماءُ يغريها بتضريم أبقى الجديدان من موجودها [عجباً] ورائحةً في غير تجسيم حمراء، أو قلما أحمرَّت، موردة ... طافت علينا فسرَّت كل مهموم كأن في كاسِها والماءُ يقرعُها ... أكارع النمل أو نقش الخواتيم لا صاحبتني يدٌ لم تُغنِ ألف يدٍ ... ولم ترد القنا حُمرَ الخياشيم بادر بجودك بادِرْ قبل عائقةٍ ... فإن مطل الفتى عندي، من اللوم وقال: أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصِّبا عليه السلام وارعوى باطلي وبرَّ حديث النفسُ مني وعفت الأحلام ونهاني الإمام عن سفه الكاس فرُدت على السقاة المُدام ولقد حثَّ بالمدامة كفِّي ... غصن بانٍ عليه بدرُ تمام عجبٌ يبهت العيون ويشتا ... قُ إليه التقبيل والالتزام وندامايَ في شباب وحسنٍ ... أتلفت ما لهم نفوسٌ كرامُ بين أقداحهم حديثٌ قصيرٌ ... هو سحرٌ وما سواه كلام وغناءٌ يستعجل الراح بالراح كما ناح في الغصونِ الحمامُ وكأن السقاة بين الندامى ... ألفاتٌ على السطور قيامُ وقال: قد نعى الديكُ الظلاما ... فاسقني الراح المُداما قهوة بنت دنان ... عتقت خمسين عاما خلتها في البيت جنداً ... صُفِّفوا حولي قياما جعل العِلجُ لها من مدراتِ الطينِ هاما معلماتٍ بمدادٍ ... خلته فيهن شاما وتراها، وهي صرعى ... فرغٌ بين الندامى مثل أبطال حروبٍ ... قُتلوا فيها كراما وقال: ألا عُج على دار السرور فسلم ... وقل: أين لذاتي وإن لم تكلم وقل ما حلت بالعين بعدك لذة ... سواك فإن لم تعلمي ذاك فاعلمي وصفراء من صبغ الهجير لرأسها ... إذا مزجت، إكليلُ درٍّ منظم وقال: يا رب يومٍ قد مضى ... بالقادسية لو يدوم في ظل كرمٍ لا يطوف به الهجير ولا السمومُ وسماؤه الورق الجديد وأرضه الوق الهشيم ويحثني بالكاسِ ساقٍ ... لحظُ مقلتِهِ سقيمُ أغرى بقبلته كما ... يُغرى بمرضعة فطيم يا من يلوم على الهوى ... دعني فذا داءٌ قديم وقال أبو نواس: شُققتُ من الصِّبا واشتُقَّ مني ... كما اشتُقَّت من الركم الكروم فلست أُسوفُ اللذات نفسي ... وأدفعها كما دفع الغريمُ وندمان دعوت فهبَّ وهناً ... وقد أخذت مطالعها النجوم أجر الزقَّ وهو يجر رجلاً ... يجوزُ بها النعاس، ويستقيم إسحق الموصلي: وصافية تغشى العيون رقيقةً ... رهينة عامٍ في الدنان وعام أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى إنجاب كل ظلام فما ذر قرن الشمس حتى رأيتها ... من العين تحكي أحمد بن هشام الصنوبري: وليلةٍ كالزخرف المُعلم ... محفوفة الظلماءِ بالأنجمِ تعلق الصبحُ بأرجائها ... تعلق الأشقر بالأدهم عدلتُ فيها بين خمرين من ... خمر العناقيد وخمر الفم تناولُ الجام يدي من يدي ... موشية الراحة والمعصم شبهتُ ذُوب الراح في جامها ... بذوبِ دينارٍ علىدرهم وقال ابن المعتز: يا خليليَّ هُبا ... واسقيانا المُداما قد لبسنا صباحاً ... وخلعنا الظلاما وتروم الثريا ... في الغروب المراما كانكباب طمرٍ ... كاد يُلقي اللجاما أبو محمد التيمي: هلاَّ استعنت على الهموم ... صفراء من حلب الكروم ووهبتَ للعيشِ الحميد بقية العيش الذميم

حرف النون

وحسبت أيام الشبا ... ب على النواعمِ والنعيم أقداحها وسُقاتُها ... مثل الأهلةِ والنُّجوم يُهدي التحية بينهم ... نظرُ النديم إلى النديم فانعم بذاك فليس يكرم نفسه فير الكريم ابن المعتز: لا يطيب العيش إلاَّ ... بمدامٍ ونديم فاسقني قبل طلوع الشمسِ من ماءِ الكرومِ صِلْ بنور الكأس نور الشمس يا خير حميم فهما شمسان في الصبح وفي الليل البهيم حرف النون قال أبو نواس: أسقني يا ابن أذين ... من شراب الزَّرجون أسقني حتى ترى بي ... جِنة غير جنونِ قهوةً عُميَ عنها ... ناظرا ريب المنون عُتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني ثم شجت فأدارت ... فوقها مثل العيون حدقاً ترنو إلينا ... لم تُحدق بجفون ذهباً يُثمر دراً ... كل إبانٍ وحين بيدي ساقٍ عليه ... حلةٌ من ياسمين وعلى الأُذنين منه ... وردتا آذريونِ غاية في الظرف والشكل، وفردٌ في المجون غني يا ابن أذين [ولها بالماطرون] وقال: قد تعزيتُ بصرفٍ عقارٍ ... نشأت في حجر أُم الزمان فهي سِنُّ الدهر إن هي فرت ... نشأا وارتضعا من لبان وتناساهما الجديدان حتى ... هي أنصاف شطورِ الدِّنان فافترعنا مُزة الطعم فيها ... نزقُ البكرِ ولينُ العوان لم يجُفها مبزلُ القوم حتى ... نجمت مثل نجوم السِّنان أو كقرن الشمس ينشق عنه ... شُعبٌ مثل انفراج البنان فلي الصهباء أبكي عليها ... والمغاني لبكاة المغاني وقال الخليع: أنا لولا الخمر والوجهُ الحسن ... لم أكن والله مخلوع الرَّسن ذقت هذين وجربتهما ... فإذا هذان أسباب الفِتن لم أقل يوماً لذنبٍ منهُما ... ليت هذا الذنب مني لم يكن وقال أبو نواس: قد هجرت المُدام والنُّدمانا ... وتمتعت ما كفاني زمانا وأبى لي خليفةُ الله إلا العزف عنها، وقد عزفت أوانا ولقد طال ما أبيت عليه ... في أُمور خلعت فيها العنانا وغزالٍ عاطيته الراح حتى ... فترت منه، مقلة وجنانا قال: لا تسكرنني بحياتي ... قلتُ: لا بد أن تُرى سكرانا إن ل حاجة إليك إذا نمت وإن شئت فاقضها يقظانا فتلكا تلكؤاً في انخناثٍ ... ثم أصغى لما أردت، فكانا وقال أيضاً: ألا دارِها بالماء حتى تُلينها ... فلن تكرم الصهباء حتى تُهينها أُغالي بها حتى إذا ما ملكتها ... أهنتُ لإكرام الخليل مصونها وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... كأن شعاع الشمس يلقاك دونها ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تُقلُّ جفونها كأن يواقيتاً بصحن إنائها ... وزُرقَ سنانيرٍ تدير عيونها وشمطاء حلَّ الدَّهرُ منها بنجوةٍ ... دنوت إليها فاستللت جنينها كأنا حلولٌ بين أكناف روضةٍ ... إذا ما سلبناها مع الليل طينها وقال: أربعة مذهبةٌ ... لكل همٍّ وحزنْ الماءُ والقهوة والبستان والوجه الحسن وقال: غننا بالطلول كيف بلينا ... واسقنا نعطِك الثناء الثمينا من سُلافٍ كأنها كل شيء ... يتمنى مخيرٌ أن يكونا أكل الدهر ما تجسم منها ... وتبقى لُبابها المكنونا فإذا ما اجتليتها فهباءٌ ... يمنع الكفّ ما تبيحُ العيونا ثم شجت فاستضحكت عن لآلٍ ... لو تجمعن في يدٍ لاقتُنينا في كئوسٍ كأنهن نجومٌ ... جارياتٌ بروجها أيدينا

طالعاتٌ مع السقاةِ علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا لو ترى الشرب حولها من بعيدٍ ... قلت قومٌ من قُرةٍ يصطلونا وغزالٍ يديرها ببنانٍ ... ناعماتٍ يزيدها العمرُ لينا كلما شئتُ علني برضابٍ ... يترك القلب للسرور قرينا ذاك عيشٌ لو دام لي غير أني ... عفتُهُ مُكرها وخفت " الأمينا " وقال: وبكر سلافةٍ من بيت حانٍ لها درعان من قارٍ وطين تحكم علجها إذ قلتُ سُمني ... على غير البخيل ولا الضنين فضضت ختامها والليل داجٍ ... فدرَّت درة الودج الطعين بكفِّ أغن مختضب بناناً ... مُذال الصدغ مضفور القرون لنا من بعينيه عِداتٌ ... يخاطبنا بها كسر الجفون كأن الشمس مقبلةٌ علينا ... تمشى في غلائل ياسمينِ وقال: وخرقٍ يجل الكأس عن منطق الخنا ... وينزلها منه بكل مكان تراه كما شاء الندامى ابن علةٍ ... وللشيء لذوه رضيع لبان إذا هو لقى الكأس يمناه خانها ... أماويت منها وارتعاش بنان تمتعتُ منه ثم أقصر باطلي ... وصممت كالجاري بغير عِنان وقال: لا تبك للذاهبين في الظعنِ ... ولا تقف بالمطيِّ في الدمن وعج بنا نصطبح معتقةً ... من كف ظبي يسقيكها فطنِ ما تبصر العين منه ناحيةً ... إلا أقامت منه على حسن قال له الله كن على قدرٍ ... في الحسن بين الهزال والسِّمنِ تخبر عن طرفه محاسنه ... مكتحل الناظرين بالفتن تعقد زناره أنامله ... في الخصر بين الكثيب والغُصنِ نازعته الراح وهي مثل دم الشادن تنفي طوارق الحزن قلتُ له والكرى يجشمه ... هل لك في النوم، قال: لم يحنِ حتى إذا ما النعاس أقصده ... نام فنلت المأمول من سكني كأننا والعناق يجمعنا ... تحت الدجى، طائران في غُصن فلم أقل بعد ما ظفرت به ... يا ليت ما كان منه لم يكنِ لا تركبن اللذات مختفياً ... وامضِ إليهن خالعَ الرَّسَنِ وقال: ذراني أُبادر ما هويت ذراني ... فقد ملكت أيدي المجون عِناني وشأنكما والرشد فاعتصما به ... ولا تعذلاني، فالغواية شاني فما العيش إلا في مُدام تحثها ... مثالث يهدمن الأسى ومثاني عقار كعين الديك في فرط نورها ... وإغشائها العينين باللمعان لها حببٌ يحكي رؤوس أسنةٍ ... تجمعن في بحرٍ من الدم قان تراها حذار الماء حين يشوبها ... كقلب محبٍّ دائم الخفقان وقال تميم بن المعز: ومعشوق اللمى خنث الجفون ... كذوب الوعد معتل اليمين أتاني والدجى حلك الخوافي ... كأن نجومه زرقُ العيون فلما توج اليُسرى بكأسٍ ... وصار الرطل قرطاً لليمين سقاني مثل خديه مداماً ... تُلين جوانب الدهر الحرون كأن الراح وردة جلنارٍ ... تبدلت في غلالةِ ياسمين وقال بعض إخوانه وقد تنزه في البستان المعشوق فكتب بها إليه: قل للأمير ابن الإمام الذي ... أمننا من نائبات الزمان لو صورت أخلاقُك الغُرُّ ما ... أصبحن إلا أوجُها للحِسان نحن من " المعشوق " في لذةٍ ... زادت على لذةِ طيب الأمان فأي شيءٍ ابتدي وصفه ... منه وقد أفرط في كل شان نلقى الصِّبا فيه بحرِّ الصِّبا ... ونطرد الهمَّ ببنت الدنان صفراء لولا طيبُ أنفاسها ... غابت عن الحس ولطف العِيان نشربها صرفاً ومزجاً وما ... لنا سوى المثلث من تُرجمان فأجابه: لا تقتل الأحزان إلا بما ... أودعه الإبريق دمع الدِّنان

صفراء في الكأْس خلوقيَّةٌ ... مخلوقة من قبل خلق الزمان أدقُّ محسوساً إذا صُفِّقت ... من رقةِ الفهم وسحر البيان كأنما الكأسُ بها ثلجةٌ ... يكتال ساقيها بها زعفران أو درةٌ ضُمت على عسجدٍ ... أو عسجدٌ قد ذاب في أُقحوان دونكموها فاشربوا صِرفها ... هناكم القصفُ وطيب المكان وإن أغِب عنكم فإني كمن ... يراكم في القُرب رأيُ العيان آخر: رهبان ديرٍ سقوني الخمر صافيةً ... مثل الشياطين في دير الشياطين راحوا إلى الراحِ مشيَ الرخِ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الرفازين لله درهُمُ من فتيةٍ قعدوا ... مثل القضاة وعادوا كالمجانين ابن المعتز: قد مضى آبُ صاغراً لعنةُ الله عليه ولعنةُ اللاعنينا وأتانا أيلول وهو ينادي ... الصبوح الصبوح يا غافلينا ديك الجن: أفديكما من حاملي قدحين ... قمرين في غصنين في دعصين رود مهفهفةٌ ومهضوم الحشا ... للعالمين منىً وقرَّة عينِ فإلى كأسكما على ما خُيِّلت ... كالتبر ممزوجاً بماءِ لُجين ابن المعتز: يا نديمي اشربا واسقِيانا ... قد بدا الصبح لنا واستبانا واقتلا هميّ بصرفٍ عُقارٍ ... واتركا الدهر فما شاء كانا إن للمكروه لذعةَ همٍّ ... فإذا دام على المرءِ هانا وامزجا كأسي بريقةِ شِرٍّ ... طاب للعطشان ورداً وحانا من فمٍ قد غُرس الدُّرُّ فيه ... ناصِح الريق، إذا الريقُ خانا ونديمٍ أمرض السكرُ منه ... مقلة فاترة ولسانا قد فديناه من الكأس حتى ... هشَّ للسَّاقي ومدَّ البنانا لم يزل يركض وهو مخلىْ ... ثم علَّقنا عليه العِنانا وقال: دعني فما طاعة العذال من ديني ... ما سالم القلب في الدنيا كمفتون أقررت أني مجنون بحبكم وليس لي عندكم عذرُ المجانين وصاحبٍ بعد مسِّ النوم مقلته ... دعوته ولسان الصبح يدعوني نبهته ونجوم الليل راكعةٌ ... في حالكٍ من بقايا ليلها الجونِ ركوع رهبان دير في صلاتهم ... سودٍ مدارعهم شمط العثانين فقام يمسح عن عينيه وسنته ... بعُقدة النوم من فيه يلبيني وطاف بالدنِّ ساقٍ وجهه قمرٌ ... فشكَّهُ بسريع الحدّ مسنون ذو طرةٍ نظمت في عاج جبهته ... من شعره حلقاً سودَ الزرافين كأن خط عذارٍ شقَّ عارضه ... ميدان آسٍ على وردٍ ونسرين مستودعٌ ذيله معلاق منطقةٍ ... يضمُّ غصنَ نقاً يهتز من لِين وخُط فوق حجاب الدُّر شاربُهُ ... كنصف صادٍ ودار الصُدغ كالنون فجاء بالراح تحكي ورد وجنته ... مُقرطقٌ من بني كِسرىوشيرين عليه إكليل آسٍ فوق مفرقه ... قد رصعوه بأنواع الرياحين وقال: صحوتُ ولكن بعد أيّ فنون ... فلا تسأليني سلوةً ودعيني وخمارةٍ يُعنى المسيحُ بدينها ... طرقت وضوء الصبح غير مبين فلما رأتني أيقنت بمعذلٍ ... قليل بقاء الوفر غير ضنين فقامت وفي أجفانها سِنة الكرى ... تفضُّ بكفيها خواتم طين فلما رآها الليل حثَّ جناحه ... مخافة صبحٍ في الدِّنان كمينِ فجاءت بها في كأسها ذهبيةً ... لها حدقٌ لم تتصل بجفونِ مخدرةٌ تُقصي الهجير ظلالها ... ببيت إذا فار النهار كنين تجاورُ أتراباً وقوفاً صوافنا ... حملن ولم تعلم بحمل جنينِ فما زلت أسقاها بكف مقرطقٍ ... كغصن ثنته الريح بين غصون لوى صُدغه كالنون من تحت طُرَّةٍ ... ممسكةٍ تُزهى بعاج جبين

وقال الصنوبري: يا صاحبيَّ اسقياني لا عدمتكما ... جزاكم الله بالإحسان إحسانا هُبا فقد هبت الأطيار تخبرنا ... من الغصون بأن الصبح قد حانا وعاطياني كُميت الراح صافيةً ... مما تخيره كِسرى بن ساسانا بكف ساقٍ رخيم الدلّ تحسَبُهُ ... لِما حوى من فتور الطرف وسنانا إذا رأت مقلتي بستان وجنتِهِ ... فحسبها أن ترى ما عشتُ بُستانا لا تسكراني من الصهباء ها أنا ذا ... من لوعة الحب قد أصبحت سُكرانا وقال: أيهذا العزيز قد مسَّنا الضُّرُّ وعاينت مذ هجرت المنونا جُد بنزرٍ من الرقاد لطرفٍ ... أنت فجرت فيه ماءً مَعينا طاف في قُرطقٍ وقد عقد الزنار من فوق خصره تسعينا بعقارٍ تنفي الهموم وتستخرج شوقاً من الفؤاد دفينا غاص فيها ماءُ المِزاج فأبدت ... لؤلؤاً من عيونها مكنونا ثم جالت فيها فصارت حداقاً ... غير أن لا ترى لهنَّ جفونا قام يسعى بها فخلتُ طلوع الشمس ليلاً والبدر مما يلينا ولقد راع ذاك قوماً على بعدٍ فصاحوا: الصلاة يا غافلينا وقال: أيا ساقي الخمر لا تنسنا ... ويا ربة العود حُثِّي الغِنا فقد نشر الدَّجنُ بين السماء والأرض مُطرَفَهُ الأدكنا وقال: ربَّ يومٍ قطعته بسرورٍ ... شرطه السُّكر وانعقاد اللسانِ وحبيب مساعدٍ فيه أحياني ببعض الريحان، إذ حياني وعروسٍ حجابها بطنُ دنٍّ ... عُمرت في دساكر الرُّهبان لبسها من عناكب بغُزُولٍ ... خلتُها قد تجسمت من دخانِ دوحة للفرات من زعفرانٍ ... تلد الدرَّ في رؤوس القِيان وعليها غلائلٌ من زجاجٍ ... واضحاتٍ قليلةِ الكتمان ظلتُ يومي أنفي بها الحزن عني ... فهي ترياقُ لاعج الأحزان مع فتيان لذةٍ صحبوها ... كلُّهم مسعدٌ مطيعُ العنان وعلى هامهم أكاليل آسٍ ... في مكان اللُّجين والعِقيان وقال أبو تمام: أفيكم فتىً حرٌّ فيخبرني عني ... بما شربت مشروبة الراح من ذهني غدت وهي أولى من فؤادي بعزمتي ... ورحت بما في الدنِّ أولى من الدنِّ هي اختدعتني والغمامُ ولم أكن ... بأول من أعطى المقادة للدَّجن تقلب روح المرء في كل وجهةٍ ... وتدخل منه حيث شاءت بلا إذن ومُسمعاً طفل البنان وعنده ... لنا كل نوعٍ من قرى العين والإذن لنا وترٌ منه، إذا ما استحثهُ ... فصيحٌ، ولحنٌ في أمانٍ من اللحن البحتري: أُغادي أُرجوان الراح صرفاً ... على تفاح خدّ أُرجواني إذا مالت يدي بالكأس رُدت ... بكف خضيب أطراف البنان تأمل من خلال السِّجف فانظر ... بعينك ما شربتُ ومن سقاني تجد شمس الضُّحى تدنو بشمسٍ ... إلى من الرحيق الخُسرواني وقال: كلُّ ماضٍ أنساه غير ليالٍ ... ماضيات لنا بتلِّ (بونا) مغرم بالمدام يترع كأساً ... ساطعاً ضوءُها ويبزل دنا حيث لا أرهب الزمان ولا أُصغي إلى العاذل المكثر إذنا وقال: شبيبة لهوٍ تلقيتها ... فسايرت بالراح ريعانها ولا أريحية حتى تُرى ... طروب العشية نشوانها وليست مُداماً إذا أنت لم ... تواصل مع الشرب إدمانها وقال أبو نواس: ما لذة العيش إلا شرب صافيةٍ ... في بيت خمارةٍ أو ظل بستان صهباء صفراء كالعيقان إن مزجت ... كأنها وجلٌ يعلوه لونان من كفِّ أغيد مرتجٍّ روادفه ... كالبدر أو في على غصنٍ من البانِ فتارةً هو ميدان نروضُ به ... ضوامراً قُرحاً ليست بثنيان وتارة هو ساقينا ونرجسنا ... يا حبذا ذاك من ساقٍ وندمان

وقال عليُّ بن محمد: بارزة في يوم قربانها ... بين نصاراها ورهبانها سارقتها اللحظ وقد أقبلت ... ترشقُ أحشائي بأجفانها فانبتت عينايَ في خدِّها ... شقيقةً في غير إيانها والراحُ لا يعجبني شربُها ... إلا لإعجابي بندمانها شأني صلاح العِرض منها إذا ... أضحى فسادُ المال من شانِها ما أحسن الدنيا ولكنها ... دانيةٌ في كلِّ ولدانها والدهر لا يبقى فلا تُبقِ في ... تمزيق دنيا عند إمكانها شبيبةٌ تمضي فلا تنسني ... وروني من ماء ريعانها ابن وكيع: خليا عنكما عتاب الزمان ... وذراني من لومه واعفياني إن لوم الزمان فيما جناه ... هو عندي ضرب من الهذيان هو سلطاننا المحكمُ فينا ... أيُّ معدٍ يُعدي على السلطان ما أرى لي عوناً عليه سوى الراح فحُثا كئوسها واسقياني آخر: رب نديمٍ صريع سكر ... مُرنح مُرعش اليدين كأن أجفانه احمراراً ... ناظرةٌ من شقيقتين ناديته للصبوح فجراً ... فهبَّ يهتز كالرُّديني ناولته قهوةً سناها ... يحول ما بينه وبيني أخدع للعقلِ من أمانٍ ... ووعد وصل بلحظ عين وقال آخر: قم فاسقني من قبل وقتِ الأذانِ ... سلافةً تُحكمُ عقد اللسانِ أسر من عودةِ وصل الصِّبا ... إلى فتىً مشتهرٍ بالغواني البحتري: وفي القهوة أشكالٌ ... من الساقي وألوانُ حبابٌ مثل ما يضحك عنه وهو جذلان وسكر مثل ما يسكر طرفٌ وهو وسنانُ وطعم الرِّيق إذ جاد ... به والصبُّ هيمان لنا من كفِّه راح ... ومن ريَّاه ريحان وقال: ما أُبالي إذا شربت ثلاثاً ... من غدا راضياً ولا من جفاني من سُلاف عتيقةٍ سلسبيلٍ ... بنت عشرٍ تجيد عقد اللسان تركتني على فصاحة نطقي ... وأنا مُحوجٌ إلى ترجمان كلما ساءَني شكوت إليها ... فتغطِّي القبيح بالإحسان هي نعم الرفيقُ لي إن دهتني ... نائبات الزمان والأحزان لو أماني الأيام صُورن شخصاً ما عدا جميع الأماني وإذا ما الزمان أفسد شأناً ... كان فيها صلاحُ ذاك الشان لائمي في السرور دع عنك لومي ... إنني قد خلعت فيه عناني إنما العيش قهوةٌ وسماعٌ ... ساعدته مثالث ومثاني فإذا ما أردت رشدي فخذلي ... من صروف الردى كتاب أمان وقال: يا ليلة جمعت لي طيب أربعة ... ونبهت فرحتي والدهر وسنان الريحُ شرقيةٌ والراح مشرقةٌ ... والبدر مبتدرٌ والروحُ ريحان وله: قومي امزجي الدرَّ باللجين ... واحملي الرطل باليدين واغتنمي غفلة الليالي ... فربما أُوقظت لحيني فقد لعمري أقرَّ منا ... هلالُ شوالَ كل عين ذات الخلاخيل أبصته ... كنصف خلخالها اللجيني أبو الشيص: وصهباء لم تفترعها السقاةُ ... ولا استامها الشرب في بيت حانِ ولا احتبلت درَّها أرجلٌ ... ولا وسمتها بنارٍ يدان ولكن غذتها بألبانها ... ضروعٌ يحف بها جدولان إلى أن ترحل عنها الصبا ... وأهدى الفطام لها المرضعان فأحسبها وهي مكروعةٌ ... تمج سلافتها في الأواني عناقيد أخلافها حُفلٌ ... تدر بمثل الدماء القواني يطوف علينا بها أحورٌ ... يداه من الكأس مخضوبتان ابن المعت: سلط على الأحزان بنت الدنان ... وارحل إلى السكر برطلٍ وثان ومتع النفس بما تشتهي ... ما دمت في غفلة صرف الزُّمان

حرف الهاء

أتلف وأخلف وأفد، واستفد ... وأنزل المال بدار الهوان وهاتها بنت يهودية ... سحَّارة تُحكم عقد اللسان يكتب فيها ماؤها أسطرا ... حروفها من شعر الزعفران نعم قِرى السمع على شربها ... نفخ المزامير وعزف القيان وقال: مالي وللباكيات في الظعُن ... ومقفرات الطلول والدمن شغلي عنها بالراح في غلس ... ووضع ريحانة على الأُذن وشرب كأسٍ في مجلس بهجٍ ... لم أر هما به ولم يرني من كف ظبي مقرطق غنجٍ ... يعذرني من عليه يعذلني تلوحُ صلبانه بلبتهِ ... كنور خيرية على غصن جاء بها كالسِّراج صافيةً ... سلافة لم تُدس ولم تهن من ماء كرمٍ قد عُتقت حقبا ... في بطن أحوى الضمير مختزن ميتٌ وفيه الحياة كامنةٌ ... يدرجه العنكبوت في الكفنِ حرف الهاء [بخلو حرف الواو] قال أبو نواس: خلوت بالراح أُناجيها ... آخذ منها، وأُعاطيها نادمتها إذ لم أجد صاحباً ... أرضاه أن يشركني فيها لم تنظر العينُ إلى منظرٍ ... في الشكل والحسن يدانيها مذ كان مولاه أميراً له ... فالراح مولاة مواليها عليّ بن وكيع: مازج بروحك روح الراح تُحييها ... فالراح كالروح تجري في مجاريها واشرب عقار أتسر النفس طلعتها ... كأنما جُمعت فيها أمانيها كأسٌ إذا ما دنيءُ القومُ عُلَّ بها ... رأى الخليفة من أتباعه فيها إذا تسمحت الدنيا دعوتُ بها ... فحسنتها وكفت عن مساويها وإن شكوت من الأيام مظلمة ... أعدت عليها وكفت من تعديها وإن تقلدت الأحزان قلب فتىً ... أتاه توقيعُها في عزلواليها ما زال يأكلها طوراً وتأكله ... عمرُ الزمان، وتبليه ويُبليها قد مل منها وملت طول صحبته ... حتى أتتك وقد رقَّت حواشيها فصار موجودها من رقةٍ عدما ... فالحسُّ يثبتها والطرف ينفيها تسعى عليك بها خودٌ منعمةٌ ... أنفاس خمرتها يصدرن من فيها مرت بحسن الورى عيني فما نظرت ... من منظرٍ حسنٍ في الناس يُرضيها حتى إذا بلغتها دونهم وقفت ... فأقسمت بالهوى ألا تُعديها كأن قامتها، والريح تعطفها ... تثني القلوبَ إليها في تثنيها عجبت من خمرةٍ في صحن وجنتها ... يشكو فؤادي احتراقاً من تلظيها لما تناهت رآها الحسنُ كاملةً ... فيه فخاف عليها من تناهيها وأحدث العُجب فيها كي يكون لها ... عيباً، فيصرف عنها عين رائيها ابن المعتز: ألا من لقلبٍ في الهوى غير مُنته ... وفي الغي مطواع وفي الرشد مكره أُشاوره في توبةٍ فيقول: لا ... فإن قلت: تأتي لذة قال: أين هي فيا ساقيَّ اليوم عودا كامسنا ... بإبريق خمرٍ في الكئوس مُقهقهِ أورث نفسي ما لها قبل وارثي ... وأُنفقه فيما أُحب وأشتهي وقال: هاك فاشرب واسقنيها ... قهوة لا عيب فيها بنت كرمٍ عتقت حولين في صُلب أبيها قلت للخمار لما صبها في الكأس إيها هذه الخمر التي كنت زماناً أشتهيها وقال: لي حبيب يقول لي: فرِّغ الكاس وفيه بقية أشتهيها لا تظنن أني أخلِّفُ في كأسك فضلاً وأنت ناولتنيها وقال: إنما العيش بلوغُ السؤلِ مما تشتهيه ومدامٌ تصطفيها ... ونديم ترتضيه ورخيم ساحر المقلة معدومُ الشبيه جمع التفاح والراح بخديه وفيه آخر: ولقد سقاني والنعا ... س مرنق في مقلتيه رقراقةً تجلو الهمو ... م أرق من قلبي عليه

حرف لام ألف

مُزجت فخلت لهيبها ... في:اسها شوقي إليه فشربتها فكأنني ... في الشرب ألثُمُ وجنتيه وقال أبو نواس: يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... كأن كلَّ سرورٍ حاضرٌ فيها باتت وبتُّ وبات الزقُّ ثالثنا ... حتى الصباح تُسقيني وأسقيها كأن سود عناقيدٍ كلمتها ... أهدت سلافتها صرفاً إلى فيها حرف لام ألِف قال أبو نواس: أما ترى الشمس حلت الحملا ... وقام وزن الزمان فاعتدلا وغنت الطيرُ بعد عُجمتها ... واستوفت الخمرُ حولها كملا واكتست الأرض من زخارفها ... وشي نبات تخاله حُللا فاشرب على جِدة الزمان فقد ... أصبح وجه الربيع مُقتبلا كرخية تترك الطويل من العيش قصيراً وتبسط الأملا تلعب لُعب السراب في قدح [القوم] إذا ما حبابها اتصلا وقال: خليليَّ هُبا قد نعى الليل ديكه ... وسلَّ عليه الفجر من نوره نصلا فقوما نطلق همَّنا بمدامةٍ ... إذا جليت كان السرور لها بعلا ولا تعطياها بعض عقلكما فما ... تنالان بعض العيش [أو] تأخذ الكُلا يقول لها ذو الهم أهلاً وهمه ... يقول لها من تحت ذا القول لا أهلا إذا نحن غاضبنا الزمان وصرفه ... سعت بيننا حتى تعيد لنا الوصلا وقال صريع: عذراءُ يُرعد بعضها من بعضها ... لم تتخذ غير المزاج خليلا لا تسقني الماءَ القراح وهاتها ... عذراء واضحة الأديم شمولا قُتلت وبادرها النديم يحثها ... فإذا به قد صيرته قتيلا اطفَ المزاج [لها] فزين كاسها ... بقلادةٍ جُعلت لها إكليلا وقال ابن المعتز: أيا عاذلي اليوم لا تكثرا العذلا ... ومهلاً دعاني من ملامكما مهلا ولُوما مشبي إن كبرت فإن لي ... شباباً أصمَّ الأُذن لا يسمع العذلا إبراهيم بن العباس: وخليلٍ لي أرضاه لأخواني خليلا لم يزل يقتلها حتى خلت عنه قتيلا في ندامى باكروا الراح فحثوها شمولا وقال صريع: يا رب خدنٍ قد قرعت جبينه ... بالطاس والإبريق حتى مالا وكأنما الساقي يدير كئوسها ... بدرٌ أنار ضياؤه وتلالا يسقيك بالعينين كأس صبابةٍ ... ويعيدها من كفه جريالا أنهضته من بعد ما أسكرته ... فمشى كأن برجله عُقالا إبريقنا سلب الغزالة جيدها ... وحكى المدير بمقلتيه غزالا الصنوبري: لا تبك ربعاً عفا ولا طللاً ... ولا تصف ناقةً ولا جملا وعاطني قهوةً إذا مزجت ... أرتك منها في كأسِها شُغلا بكف ساقٍ يزهى على غصن البان إذا ما انثنى أو اعتدلا مكحل ما رآه عاشقُهُ ... إلا رآه بالسِّحر مكتحلا إذا سقاني العقار خمَّشه ... طرفي فيحمر خدُّه خجلا ابن المعتز: ولربَّ ليلٍ لا تجف جفونه ... من دمعه، ملقٍ عليَّ سدولا ماتت كواكبه وأمسى بدره ... في الأُفق متهم الحياة عليلا دربت بنا في غمرة مشمولةٌ ... حتى توهمنا الصباح أصيلا صفراء تحسبُها إذا ما صُفقت ... ذهباً حوته كأسها محلولا كشاجم: ألست ترى الظلام وقد تولى ... وعنقود الثريا قد تدلى فدونك قهوة لم يُبق منها ... تقادمُ عهدها إلا الأقلا بزلنا دنها والليل داجٍ ... فصيرت الدجى شمساً وظلا حرف الياء قال ابن وكيع: قم فاسقني الصفوَ من رحيقٍ ... مشعشع اللون كسروي أما ترى أنجم الدياجي ... تُزهر في جوها النقي تحكي لنا لؤلؤاً نثيراً ... على بساطٍ بنفسجي وقال كشاجم: عندي معتقةٌ كوِّدك صافية ... ونديمك الدمث الرقيق الحاشية

فإذا طربت إلى السماع ترنمت ... بيضاء زاهية تسمى زاهية وتُجيبُها سوداء تُعمل نايها ... فتريك كافوراً يقاوم غالية فاحضر فقد حضر السرور ولا تدع ... يوماً يفوتك فهي دنيا فانية تصل الغناء يمينها بشمالها ... كمثلثٍ أضلاعه متساوية وقال عمرو بن الإطنابة: علِّلاني وعلِّلا صاحبيا ... واسقياني من المدامة رِيا إن فينا القيان يعزفن بالدُّفِّ لفتياننا وعيشاً رخياً وقال ابن المعتز: قل لمن حيا فأحيا ... ميتاً يُحسب حيا ما الذي ضرَّك لو بقيت لي في الكاسِ شيّا أتراني كنت إلا ... مثل من قبل فِيا يا خليليَّ اسقياني ... قهوةً ذات حُميا إن يكن رُشداً فرُشداً ... أو يكن غيًّا فغيّا قد تولى الليل عنّا ... وطواه الغرب طيّا وكأن الفجر لمّا لاح من تحتِ الثُّريا [ملكٌ أقبل في تاجٍ يُفدَّى ويُحيا] آخر: اسقني صِرفاً حُميا ... تترك الشيخ صبيا وتُريه الغيَّ رُشداً ... وتريه الرُّشدَ غَيَّا أسقني حتى تراني ... ميتاً يُبكي عليَّا كَمُل السفر الثاني وهو آخر الديوان ولله تعالى الحمد على الصحة والسداد ونسأله حسنَ الخاتمة ليوم المعاد، فهو الكريم الرحيم، الملك الجواد وكان إنجازه في يوم الثلاثاء من شهر ربيع الآخرة سنة ثمانية وتسعين وسبعماية هجرية وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

§1/1