قضايا الشعر المعاصر

نازك الملائكة

مقدمة

مقدمة الطبعة الخامسة: بقلم المؤلفة. في عام 1962 صدر كتابي هذا في طبعته الأولى، وكنت قد أوردت فيه كل ما استطعت الوصول إليه من قواعد الشعر الحر ومسائله؛ ولذلك لم أحتج إلى كتابة مقدمة له. أما الآن وأنا أصدر الطبعة الرابعة منه؛ فإن اثنتي عشرة سنة قد مرت على الشعر الحر بعد وضعي لقواعده ودراستي لمسائله. وهذه السنوات قد جاءت بنقد كثير للكتاب. وقد أثار النقاد تساؤلات متعددة حول بعض آرائي فيه، بحيث أجدني مضطرة إلى أن أكتب، لهذه الطبعة، مقدمة أشخص فيها موقفي من الشعر الحر تشخيصًا جديدًا. ذلك أن المد العظيم من القصائد الحرة الذي غمر العالم العربي، قد استثار عندي آراء جديدة، وأعطاني فرصة لاستكمال قواعد الشعر الحر، أو على الأقل، للإضافة إليها، وغربلتها، ثم إن طائفة من القواعد التي وضعتها أصبحت تبدو لي على شيء من التزمت لأن سمعي نفسه قد

تطور. وليس هذا غريبًا؛ وإنما هو مألوف في تاريخ التقنين للحركات الشعرية والبلاغية الجديدة. فما كان من الممكن أن ينضج عروض الشعر الحر دفعة واحدة من دون تدرج، خاصة وأن هذا الشعر كان في سنة 1962 لم يزل ينمو، والعروض يجب أن يكون استقراء لما ينظمه الشعراء من ناحية، واعتمادًا على قوانين العروض من ناحية أخرى. وقد يقال: كيف استطاع الخليل إذن أن يضع عروض الشعر العربي دفعة واحدة؟ فأقول إن العروض الخليلي قد وصلنا كاملًا دون أن تتاح لنا فرصة نعرف فيها تفاصيل الأسلوب والخطوات التي استعملها الخليل في وضعه، ولا الزمن الذي استغرقه ذلك. وأغلب ظني أن الخليل وضعه في بطء وتؤده خلال سنوات كثيرة، ولا أستبعد أن يكون عدَّل فيه وغير وحذف وأضاف مرارًا وتكرارًا حتى اكتمل بالشكل الذي وصلنا. أقول كل هذا، مع أن أغلب القواعد التي وضعتها عام 1962 ما زالت جارية والشعراء يستعملونها في قصائدهم، وكل ما أحتاج الآن أن أضع الهوامش على ذلك القانون الأول، وأستثني منه بعض الحالات معتمدة في ذلك على ثلاثة منابع: معرفتي للعروض العربي، واطلاعي المستمر على قصائد زملائي الشعراء، واعتمادي على سمعي الشعري. ولسوف أتناول في هذه المقدمة قضايا أخرى إلى جانب قضية الوزن، ولكن مجمل المسائل أربع كلها يتعلق بالشعر الحر وهذه هي: 1- علاقة الشعر الحر بالتراث العربي. 2- بدايات حركة الشعر الحر. 3- البحور التي يصح نظم الشعر الحر منها. 4- قضية التشكيلات المستعملة في القصيدة الحرة.

1- الشعر الحر والتراث العربي: ما زال المتعصبون والمتزمتون من أنصار الشطرين يدحرجون في طريق الشعر الحر صخورهم التي يظنونها ضخمة؛ بحيث تقتل هذا الشعر وتزيحه من الوجود؛ مع أنها لا تزيد على أن تتدحرج من الجبل إلى الوادي ثم ترقد هناك دون أن تؤثر في مجرى نهر الشعر الحر الجارف الذي ينطلق يروي السهول الفسيحة وينتج أزهارًا وفاكهة ونخيلًا وبساتين. وهؤلاء المتعصبون ما زالوا يرددون قولًا مضمونه أن الشعر الحر ولد غير شرعي؛ فلا علاقة له بالشعر العربي. وأنا قد أثبت بالأدلة العروضية في هذا الكتاب أن ذلك الرأي باطل فإن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد، قائم على أساسه؛ بحيث يمكن أن نستخرج من كل قصيدة حرة مجموعة قصائد خليلية وافية ومجزوءة ومشطورة ومنهوكة. يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش مثلًا من "المتقارب": وفوق سطوح الزوابع كل كلام جميل وكل لقاء وداع وما بيننا غير هذا اللقاء وما بيننا غير هذا الوداع ومع أن هذا شعر حر طبيعي إلا أن من الممكن اعتباره شعر شطرين بمجرد تغيير شكل كتابته كما يلي: وفوق سطوح الزوابع كل ... كلام جميل وكل لقاء وما بيننا غير هذا اللقاء ... وما بيننا غير هذا الوداع وقد أسقطت كلمة واحدة هي "وداع"، وهذا يجب أن يقنع اعتراضات المتزمتين. فإن الشعر الحر يمكن أن يعد شعر شطرين اعتياديًّا

ما عدا أنه أوسع من أسلوب الشطرين وأرحب أفقًا. وليس معنى كلامنا هذا أننا نتخلى عن الشطرين ونرفضها؛ فإن لهما مزايا وعيوبًا، كما أن للشعر الحر مزايا وعيوبًا. وأنا حريصة عليهما معًا، محبة لهما كليهما، وكل ما أدعو إليه أن نقيم أسلوب الشعر الحر توءمًا جميلًا لأسلوب الشطرين؛ فكلاهما طفل يلثغ بالأغاني الحلوة وليس لشاعر أن يرفض أيًّا منهما. والواقع أن الشعر الحر قد ورد في تاريخنا الأدبي، وقد كشف الأدباء المعاصرون، ومن أوائلهم عبد الكريم الدجيلي في كتابه المهم "البند في الأدب العربي، تاريخه ونصوصه"، كشفوا أن قصيدة من هذا الشعر قد وردت منسوبة إلى الشاعر ابن دريد في القرن الرابع الهجري وهذا نصها، وقد رواه الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" وأدرجه كما يدرج النثر الاعتيادي؛ ولكني أوثر أن أدرجه إدراج الشعر الحر ليبدو نسق أشطره المتفاوتة الأطوال والأوزان: رب أخ كنت به مغتبطًا أشد كفي بعرى صحبته "من الرجز": تمسكًا مني بالود ولا أحسبه يغير العهد ولا يحول عنه أبدًا ما حل روحي جسدي فانقلب العهد به فعدت أن أصلح ما أفسده فأستصعب أن يأتي طوعًا فتأنيت أرجيه "من الهزج": فلما لج في الغي إباءً "هزج ضربه فعولن": ومضى منهمكًا غسلت إذ ذاك يدي منه "رمل": ولم آس على ما فات منه

وإذا لج بي الأمر الذي تطلبه فعد عنه وتأتي غيره ولا تلج فيه فتلقى عنتًا و"مكسور": جانب الغي وأهل الفند واصبر "من الرمل": على نائبة فاجأك الدهر بها والصبر أحرى بذوي اللب وأربى بهمو "من الهزج": وقل من صابر ما فاجأه الدهر به "من الرجز": إلا سيلقى فرجًا في يومه أو غده هذا والأستاذ الدجيلي لم يعد هذه القصيدة شعرًا حرًّا؛ وإنما التمس فيها شكل البند الذي رآه فيها بعض الأدباء ثم قال الدجيلي: "إن هذه نبذة مفككة الأجزاء؛ فتصيد البند من هذا الكلام تكلف وتمحل؛ لأن البند كما قلنا سابقًا هو في الأغلب من بحر الهزج وهذه خارجة عن هذا البحر". والواقع الذي لم يلتفت إليه الباحث الفاضل أن أشطر ابن دريد تجمع بين بحور دائرة المجتلب جميعها ففيها أشطر من الرمل وأخرى من الهزج وثالثة من الرجز. والبند كما أثبتنا في هذا الكتاب يستعمل وزنين اثنين هما الرمل والهزج فيتداخل هذان البحران وفق قاعدة دقيقة مذهلة. وقد استنكر الباقلاني نسبة هذه الأشطر إلى ابن دريد، ولعلي أؤيده في هذا لأن ابن دريد شاعر متمكن من اللغة، جميل الأسلوب، حلو الصور؛ فلا يمكن أن يسقط في مثل هذا التوتر و"الميكانيكية" الواردة في الأشطر الحرة المنسوبة إليه؛ غير أن الركاكة اللغوية فيها لا ينبغي أن تؤثر فينا نحن الباحثين المعاصرين؛ لأننا إنما نهتم هنا بوجود الشعر الحر. ولسوف نلاحظ أن هذا الكلام الموزون تبرز فيه ثلاث ظواهر تجعله يشبه الشعر الحر:

1- أن الشاعر -سواء أكان ابن دريد أم سواه- قد حطم استقلال البيت العربي، متعمدًا استعمال ما كان يعد عيبًا في الشعر وهو "التضمين" أي جعل البيت مفضيًا بمعناه وإعرابه إلى البيت الذي يليه. وهذا أول خروج نعرفه على ما كان مقبولًا في الشعر. ولست أعني أن التضمين لم يرد عن العرب؛ فقد ورد في حالات نادرة وعابوه؛ وإنما أريد أن الشاعر -في أشطر ابن دريد- قد تحدى العرف الشعري وهو عامد يعي ما يفعل؛ فالأشطر المذكورة ثورة على قواعد الشعر المقبولة في ذلك الزمان. 2- أن الشاعر قد خرج على قانون تساوي الأشطر في القصيدة الواحدة فجمع بين شطر ذي ثلاث تفعيلات، وشطر ذي خمس، وشطر ذي اثنتين وهكذا. وهو أمر لم يصنعه العرب قبله وهذه أول مرة يخرج فيها شاعر قديم على طول الشطر. ويبدو أن هذا أحد أسباب استنكار الباقلاني للأشطر ورفضه نسبتها إلى ابن دريد، قال: "من سبيل الموزون أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا". ولا بد لي أن أعترض هنا على قوله إن الموزون تتساوى فيه السواكن والحركات شرطًا؛ فإن ذلك حكم فاسد بدليل ورود الزحاف في بعض الشعر دون بعض، وهو أمر يجعل الحركات والسواكن مختلفة من شطر إلى شطر مع تساوي الأشطر وقيام الوزن قيامًا كاملًا؛ فالباقلاني قد وقع في وهم، ولعله ضعيف المعرفة بالشعر؛ ولذلك انتقص معلقة امرئ القيس أشد انتقاص ممكن وجردها من الجمال والروعة اللتين نحبهما فيها جميعًا. 3- أن الشاعر نبذ القافية نبذًا تامًّا وجاء بشعر مرسل وهو شيء لا مثيل له في الشعر العربي السابق لتلك الأبيات المنظومة في القرن الرابع الهجري.

وقد يقال إن أشطر ابن دريد لا يُعتد بها لأنها مضت ولم تخلف أثرًا فلم يقتد بها شاعر. غير أن من الممكن أن نقول أيضًا أن المقطوعة تدل على شيء واحد هو أن العصر لم يكن مهيئًا بعد لهذا التجديد الباهر، فذهب جفاء ولم يمكث في الأرض. كذلك قد يقال إن أشطر ابن دريد، مجدبة، لا طراوة فيها ولا موسيقية ولا جمال، وهذا صحيح ونحن نوافق عليه. ولكن ذلك لا ينفي أنها تدعو إلى شيء جديد بديع لم يقبله العصر إذ ذاك. أما تنقل الشاعر من وزن إلى وزن فهو يدل على وعي مبكر عند الشاعر إلى أن من الممكن الجمع بين بحور الدائرة الواحدة من دوائر الخليل بن أحمد بالاتكاء إلى ضرب معين يختم به البحر الواحد ويمهد إلى الانتقال للبحر التالي. وهذا عين ما اكتشفه شعراء البند في العصور المتأخرة. كذلك نقل عبد الكريم الدجيلي من كتاب "وفيات الأعيان" أشطرًا منسوبة إلى أبي العلاء المعري تجري هكذا: أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالى لكي نحدث عهدا بك يا خير الاخلاء فما مثلك من غيَّر عهدًا أو غفل إن هذه الأشطر شعر حر من الرجز ثم من الهزج، وهي مثل أشطر ابن دريد غير كاملة، وقد وقف الشاعر عند منتصف تفعيلة الهزج. وإذا ما وزعنا الأشطر توزيعًا أقرب إلى توزيع شعرنا القديم لاحت الأشطر متساوية الطول من مجزوء الرجز كما يلي:

أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الـ ـواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الـ ـخالي لكي نحدث عهدًا بك يا خير الأخل لاء فما مثلك من غيَّر عهدًا أو غفل ولكن الذي يبدو لي أن أبا العلاء لم يقصدها على هذا الوجه لأنه ليس من الذوق الأدبي أن يجعل أل التعريف رويًّا يقف عنده، ثم يقصم كلمة "الأخلاء" ليقف منها على مقطع "الأخل". اللهم إلا إذا كان شاعرنا الموهوب أبو العلاء يمزح ويضحك لسبب في حياته الواقعية التي نجهل تفاصيلها، فهو لا يقصد إلى الخروج على القياس العربي وعلى المنطق والذوق. ولكن أعظم إرهاص بالشعر الحر هو ما يعرف بالبند، لا بل إن هذا البند هو نفسه شعر حر للأسباب التالية: 1- لأنه شعر تفعيلة لا شعر شطر. 2- لأن الشطر فيه غير متساوية الطول. 3- لأن القافية فيه غير موحدة وإنما يتنقل الشاعر من قافية إلى قافية ذو نظام أو نموذج محدد. وعندما نعلم أن أقدم البنود التي عثر عليها الباحث عبد الكريم الدجيلي ينتمي إلى القرن الحادي عشر، نعلم أن حقيقة بدايات الشعر الحر يمكن أن ترجع إلى هذا القرن. والأمر الوحيد المانع من هذا أن البند شعر ذو وزنين لا وزن واحد وهذان الوزنان يتداخلان على شكل غريب كل الغرابة فيه لمسة ذكاء. ولكم أتمنى لو أننا استطعنا أن نعرف من كان

أول شاعر اكتشف طريقة مزج الوزنين الرمل والهزج بحيث يفضي أحدهما إلى الآخر باستعمال ضرب معين. وفي هذا الكتاب فصل كامل درست فيه وزن البند. وأضيف الآن إلى ما قلت أن البنود التي وردت من الهزج وحده كانت -في نظري- أخطاء وقع فيها شعراء ضعاف السمع لم ينتبهوا إلى روعة النغم في البند، وذلك التداخل العجيب بين وزنين على أساس الدائرة التي ينتميان إليها. والواقع أن طائفة من الشعراء نظموا البند دونما شاعرية ولا موهبة فكانوا يجيئون خلاله بأشطر أو حتى أبيات متساوية الطول، وهذا ينم عن قصورهم السمعي وعدم قدرتهم على تقدير الخاصية الأصيلة في البند وهي أنه شعر يخرج على الطول الموحد الثابت للشعر العربي. ثم إن المتزمتين من الشعراء -وهم إذ ذاك الأكثرية- قد رفضوا أن يعدوا البند شعرًا وإنما اعتبروه نوعًا من السجع أو لونًا من النثر المبتذل وتعالوا عن أن يستعملوه. وهؤلاء لا يستطيعون أن يجيبوا: لماذا إذن يمكن تقطيع البند تقطيعًا كاملًا على الرمل والهزج بتشكيلاتهما الموجودة في كتب العروض؟ وهل الموزون على هذين البحرين سجع أو نثر؟ والسؤال المهم الذي يرد هنا هو هذا: هل أخذت أنا -أو أخذ بدر السياب يرحمه الله- أسلوب الشعر الحر من البند؟ الجواب أنني نظمت الشعر الحر أول مرة عام 1947 وكنت أعرف "البند" اسمًا فقط لأنني لم أقرأ بندًا قبل سنة 1953. وهذا معقول ومبرر لأن البند لم يرد في كتب الأدب التي درسناها ولا أشار إليه أي كتاب قرأته. لا بل إن الأدباء خارج العراق أغلبهم لم يسمع بالبند اللهم إلا بعد صدور كتابي هذا سنة 1962، ولا أقول بعد صدور كتاب الدجيلي سنة 1959، فإن هذا الكتاب الشديد الأهمية لا يكاد يكون وزع خارج العراق مطلقًا، مع أنه يستحق أن يطبع طبعات كثيرة ويتلاقفه آلاف من المعنيين بالشعر الحر على الأقل.

أما بدر السياب فالمعروف أنه خريج قسم اللغة الإنكليزية ومن المستبعد عندي أن يكون قد أتيح له عام 1946 أن يسمع بالبند؛ لأنني أنا نفسي على قوة معرفتي بالتراث العربي لم أتعرف إليه قبل سنة 1953 بعد نظمي لأول قصيدة حرة بست سنوات. وعلى هذا لا يكون الشعر الحر حفيدًا للبند وإن كان بينهما هذا الشبه الكبير. ويزيد هذا تأكيدًا أن الكتاب الوحيد المطبوع عن البند هو كتاب الأستاذ عبد الكريم الدجيلي الصادر ببغداد سنة 1959 بعد ظهور الشعر الحر باثنتي عشرة سنة كاملة. 2- بدايات الشعر الحر: عام 1962 صدر كتابي هذا، وفيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي. ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرًا حرًّا قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947سنة نظمي لقصيدة "الكوليرا". ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها. وإذا أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي أحمد باكثير ومحمد فريد أبي حديد ومحمود حسن إسماعيل وعرار شاعر الأردن ولويس عوض وسواهم. ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر السياب للشاعر بديع حقي وهذا مقطع منها: أي نسمه حلوة الخفق عليله تمسح الأوراق في لين ورحمه

تهرق الرعشة في طيات نغمه وأنا في الغاب أبكي أملًا ضاع وحلمًا ومواعيد ظليله والمنى قد هربت من صفرة الغصن النحيله فامحى النور وهام الظل يحكي بعض وسواسي وأوهامي البخيله ثم إن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه "النقد الأدبي الحديث في العراق" قصيدة من الشعر الحر عنوانها "بعد موتي" نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921 تحت عنوان "النظم الطليق"؛ وفي تلك السنة المبكرة من تاريخ الشعر الحر لم يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه وإنما وقع "ب. ن" وهذا نص اقتبسه الباحث من تلك القصيدة: اتركوه، لجناحيه حفيف مطرب لغرامي وهو دائي ودوائي وهو إكسير شقائي وله قلب يجافي الصب غنجًا لا لكي يملأ الإحساس آلامًا وكي فاتركوه، إن عيشي لشبابي معطب وحياتي بعد موتي والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر، والسؤال المهم الآن: هل نستطيع أن نحكم بأن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة 1921؟ أو أنها بدأت في مصر سنة 1932؟ والواقع أننا لا نستطيع، فالذي يبدو لي

أن هناك أربعة شروط ينبغي أن تتوافر لكي نعتبر قصيدة ما أو قصائد هي بداية هذه الحركة وسأدرجها فيما يلي: 1- أن يكون ناظم القصيدة واعيًا أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبًا وزنيًّا جديدًا سيكون مثيرًا أشد الإثارة حين يظهر للجمهور. 2- أن يقدم الشاعر قصيدته تلك "أو قصائده" مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة، شارحًا الأساس العروضي لما يدعو إليه. 3- أن تستثير دعوته صدى بعيدًا لدى النقاد والقراء فيضجون فورًا -سواء أكان ذلك ضجيج إعجاب أم استنكار- ويكتبون مقالات كثيرة يناقشون فيه الدعوة. 4- أن يستجيب الشعراء والدعوة ويبدءون فورًا باستعمال اللون الجديد، وتكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل العالم العربي كله. ولو تأملنا القصائد الحرة التي ظهرت قبل عام 1974 لوجدناها لا تحقق أيًّا من هذه الشروط، فإنها مرت ورودًا صامتة على سطح تيار، وجرفها الصمت فلم يعلق عليها أحد، ولم يتقبلها شاعر واحد. فضلًا عن أنها لم تكن مصحوبة بدعوة رسمية تثبت القاعدة العروضية لهذا الشعر الجديد وتنادي الشعراء إلى استعماله. يضاف إلى ذلك أن ناظميها أنفسهم لم يكونوا شاعرين بأهمية ما صنعوا على أي وجه من الوجوه. ولذلك لم يستمروا في استعماله وإنما تركوه وشيكًا بعد قصيدة واحدة أو اثنتين وعادوا إلى أسلوب الشطرين كأن لم يكن شيء ... وعلى هذا فإن القصائد الحرة التي نظمت قبل عام 1947 قد كانت كلها "إرهاصات" تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر. ولأولئك الشعراء دورهم الذي نعترف به أجمل اعتراف، فإنهم كانوا مرهفين فاهتدوا

إلى أسلوب الشعر الحر عرضًا، وإن كانوا لم يشخصوا أهمية ما طلعوا به ولا هم صمدوا واستمروا ينظمونه. ولعل العصر نفسه لم يكن مهيأ لتقبل الشكر الجديد إذ ذاك، ولذلك جرف الزمن ما صنعوا وانطفأت الشعلة فلم تلتهب حتى صدر "شظايا ورماد" عام 1949 وفيه دعوتي الواضحة إلى الشعر الحر. وقد توهم طائفة من الذين تناولوا أحكامي بالنقد -ولا يخلون أن يكون بينهم من هو شتام لا ناقد موضوعي رصين- توهموا أنني يوم حكمت بأن أول قصيدة حرة منشورة كانت قصيدتي "الكوليرا" إنما كنت أدري بوجود قصائد حرة ظهرت قبل قصيدتي وأنني تعمدت إغفالها وعدم الإشارة إليها لأنسب المجد إلى نفسي. وهذا اتهام موجع لا أساس له، يعلم الله. وإنما اندفعت إلى التجديد بتأثير معرفتي بالعروض العربي وقراءتي للشعر الإنكليزي. وليس من مبرر على الإطلاق أن نفترض أن شاعرة مثلي أو شاعرًا مثل بدر شاكر السياب لا تستطيع الاهتداء بفطرتها عام 1947 إلى ما قد اهتدى إليه شعراء آخرون غيرها مثل علي أحمد باكثير وعرار وبديع حقي ولويس عوض منذ سنوات أكثر تبكيرًا. كذلك أحب أن أثبت، في ختام هذا الحديث، اعتقادي بأنني لو لم أبدأ حركة الشعر الحر، لبدأها بدر شاكر السياب يرحمه الله، ولو لم نبدأها أنا وبدر لبدأ شاعر عربي آخر غيري وغيره، فإن الشعر الحر قد أصبح في تلك السنين ثمرة ناضجة حلوة على دوحة الشعر العربي بحيث حان قطافها، ولابد من أن يحصدها حاصد ما في أية بقعة من بقاع الوطن العربي. لأنه قد حان لروض الشعر أن تنبثق فيه سنابل جديدة باهرة تغير النمط الشائع، وتبتدئ عصرًا أدبيًّا جديدًا كله حيوية وخصب وانطلاق.

3- بحور الشعر الحر سبق لي في كتابي هذا أن جعلت البحور التي يصح نظم الشعر الحر منها ثمانية هي الكامل والهزج والرمل والرجز والمتدارك والمتقارب والوافر والسريع. وكان حكمي هذا قائمًا على أساس اعتبار التفعيلة الواحدة المكررة في الشطر أساسًا. فإذا كانت التفعيلة غير مكررة في الشطر تكرارًا متجاورًا لم يصح عندي نظم شعر حر من الوزن الذي تنتمي إليه مثل بحور البسيط والمديد والخفيف والمجتث والمنسرح وسواها. على أن الشعراء وأولهم بدر شاكر السياب -رحمه الله- حاولوا نظم شعر حر من بحور أخرى غير التي ذكرتها كالطويل والبسيط والخفيف. وقد درست ما صنعوه فوجدت ذلك يقوم على أساس اعتبار الوحدة في القصيدة الحرة تفعيلتين اثنتين بدلًا من واحدة كقولهم من الطويل: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ولا يجوز هنا أن تكرر تفعيلة واحدة مختارة لأننا بذلك نخرج إما إلى المتقارب "فعولن فعولن فعولن" أو إلى الهزج "مفاعيلن مفاعيلن". وأما البسيط فيمكن أيضًا أن نقسم الشطر فيه إلى قسمين "مستفعلن فاعلن" و"مستفعلن فعلن" ولا نخفي أن "فاعلن" نفسها كثيرًا ما تخبن فتتحول إلى "فعلن" فتصبح القسمة أشد ضبطًا. غير أن بدر السياب نظم شعرًا حرًّا من البسيط دون التقيد بضرورة إيراد التفعيلتين معًا وإنما كانت قصيدته الحرة من البسيط تجري كما يلي مثلًا: مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

مستفعلن فعلن مستفعلن فاعلن فعلن "مقطوع" مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن "مخبون" مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن وهذا كله مقبول عدا الشطر الثالث الذي وردت فيه فعلن بتسكين العين "المقطوعة" ويقابلها قول بدر: أم من حياة نسيناها في قصيدته "أفياء جيكور" وهو يرن في سمعي وكأنه شطر ناقص مبتور يضايق الأذن. ومهما يكن من أمر فإن هذه التشكيلة المنفرة قد وردت في قصائد البسيط للسياب على ندرة وقلة مما يدل على أنه قد لا يكون استساغها هو نفسه. ولو كان مرتاحًا إلى ما صنع، مؤمنًا بموسيقيته لاستعمله أكثر من ذلك. والواقع أن قوله "أم من حياة نسيناها" يبدو شطرًا ناقصًا وفيه خروج على ما تتقبله الأذن. وقد يقول قائل: لعل أذنك ستتطور فتقبلينه بعد عشر سنين؟ " والجواب أن ذلك بعيد لأن ما صنعه بدر مختلف عن حالة التشكيلات غير المتجانسة التي سبق أن رفضتها عام 1957 حيث كانت تلتقي صور مختلفة لتفعيلة واحدة مثل "مستفعلن" و"مستفعلاتن" و"مفعولن"، فهذه كلها صور لتفعيلة واحدة فيها علة زيادة أو علة نقص. وهذا ما تقبله أذني الآن ولا أرى ضيرًا في أن يجتمع في ضروب قصيدة حرة واحدة. أما في البسيط فالأمر مختلف تمام الاختلاف لأننا نجد "مستفعلن" تجتمع مع "فاعلن" وهما تفعيلتان اثنتان لا تفعيلة واحدة ذات صورتين. وذلك خروج كامل على قانون الضرب قديمًا وحديثًا.

كذلك ينبغي لنا أن نلاحظ أن قول السياب "أم من حياة نسيناها" قد يكون منفرًا لمجرد أنه لم يحافظ على وحدة التفعيلة، وهي كما قلنا تكون في البسيط والطويل تفعيلتين اثنتين لا تفعيلة واحدة. وأما وزن الخفيف فإن الشعر الحر منه أشد اضطرابًا من شعر البسيط وذلك لأن البسيط ينقسم إلى وحدتين شبه متجانستين هما "مستفعلن فاعلن" و"مستفعلن فعلن"، فمن السائغ إلى حد ما نظم شعر حر منه على أساس أن الوحدة تفعيلتان لا تفعيلة واحدة. وأما الخفيف فإن شطره مكون من ثلاث تفعيلات: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فكيف يمكن تقسيمه؟ هنا لا بد من أن نجمع بين تشكيلتين فقط هما: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن والواقع أن الجمع بين هاتين التشكيلتين ليس أمرًا جديدًا استحدثه الشاعر الحر. فأنا أتذكر في صباي أنني أقرأ من البحر الخفيف قصائد تتكون من مقطوعة ذات عدد معين من أبيات الخفيف المألوف ذي الشطرين ثم يرد فجأة بيتان مجزوءان. وبذلك جمع الشعراء تشكيلتين من الخفيف في قصيدة واحدة. ومنه قول الشاعر عبد اللطيف الكمالي في قصيدة عنوانها "مجاهد" أهداها إلى الرابضين في جبال فلسطين وصحاري الأردن وربما كان ذلك حوالي سنة 1940 أو قبلها. قال: وتر مسه الفخار فرنا ... وتغنى بآية ما تغنَّى يشبع المجد والعلى نغمات ... لوعت مهجة الحلي المهنا ويذيب النشيد لحنًا عجابًا ... كلما رن معول الظلم أنَّا فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ... فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن

ما ترى الأرض توجت ... هامة الهضب بالزهر نغمة الثأر سعرت ... كبد الظلم فانفجر فاعلاتن مستفعلن ... فاعلاتن مستفعلن1 وما عدا هذا الشكل لا أظن أن من الممكن نظم شعر حر من الخفيف اللهم إلا على حساب الموسيقي. فليس من السائغ أن يكون الضرب "فاعلاتن" مرة و"مستفعلن" مرة أخرى لأن هذا يخرج خروجًا تامًّا على قاعدة الشعر الحر التي تبيح في الضرب اجتماع التفعيلة وفروعها التي اشتقت منها "وهي التشكيلات". 4- جمع التشكيلات غير المتجانسة: قلت في الفصل المعنون "بحور الشعر الحر وتشكيلاته" من هذا الكتاب ما نصه: لابد للشاعر أن يفهم أن لكل بحر من بحور الشعر تشكيلات مختلفة لا يمكن أن تتجاور في قصيدة واحدة. وإنما ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما وأن تمضي على ذلك لا تحيد عنه إلى آخر شطر فيها. ومضمون هذا النص أن على الشاعر أن يوحد الأضرب في قصيدته بأن يختار ضربًا واحدًا يلزمه في القصيدة كلها، فإذا كان ينظم من الكامل وبدأ بالضرب المرفل "متفاعلاتن" وجب عليه أن يحتفظ بهذا الضرب في القصيدة كلها. والواقع أن هذه القاعدة ما زالت نافذة إلى حد ما، وهي قاعدة صحيحة غير مغلوط فيها ولكنها لا تصدق على الحالات كلها، ومن الممكن أن يخرج عليه الشاعر في شيء من الاحتراس. ولكي نتأكد من

_ 1 لا يخفى أن الوزن المضبوط هنا هو "فاعلاتن مفاعلن - فعلاتن مفاعلن" بخبن التفعيلتين ولكني أكتب للقارئ التفعيلات الأساسية قبل حصول الزحاف والعلل لكي تكون القاعدة واضحة.

صحتها النسبية فلنقرأ أشطر محمود دروش: تستيقظين على حدود الغد "فعلن": تستيقظين الآن "مفعول": وتبعثرين الساحل الأسود "فعلن": كالريح والنسيان "مفعول": يا قبلة نامت على سكين "مفعول": كبر الرحيل "متفاعلان": كبر اصفرار الورد يا حبي القتيل "مستفعلان": كبر التسكع في ضياء العالم المشغول عني "متفاعلان": كبر المساء على شواطئ كل منفى1 "متفاعلاتن": في هذه الأشطر نجد تجانسًا بين الأشطر الخمسة الأولى حيث اجتمع في الضرب كل من "فعلن" وممدودها "فعلان = مفعول". ثم نفر السمع من إقحام الشاعر للضربين "متفاعلان" المذيل و"متفاعلاتن" المرفل. وبذلك انتقل السمع من "مفعول" إلى "متفاعلان" وشعرنا أنه انتقال غير موسيقي. وكذلك كان الانتقال غير مقبول في قول محمود نفسه: لم نعترف بالحب عن كثب فليفضب الغضب نمشي الى طروادة العرب والبعد يقترب "فعلن": لا تذكرينا حين نفلت من يديك إلى المنافي الواسعة "مستفعلن": إنا تعلمنا اللغات الشائعة

_ 1 من مجموعته الشعرية "أحبك أو لا أحبك".

هنا أيضًا ينبو السمع عن النقل المفاجئة من "فعلن" الحذاء إلى "مستفعلن" المضمرة. ونفور السمع هنا حاصل مع أن الشعر للشاعر الموهوب محمود درويش، وشعره عادة مملوء بالموسيقى وهو قدير في رقرقة النغم في قصائده. ومع ذلك نفر السمع من القفز من "فعلن" إلى "مستفعلن" فما بالنا بها لو وقعت من شاعر غير أصيل؟ وأكثر النظامين غير أصيلين، ولذلك نسميهم "نظامين" ونرفض أن نعدهم شعراء. وإنما الشعراء قلة في كل زمان ومكان. إن ضرورة تجانس التفعيلات في ضرب القصيدة قاعدة صحيحة إذن، ولكن من الممكن أن ندخل عليها تلطيفًا يسمح بجمع تشكيلات معينة دون غيرها. والواقع أنني في عام 1957 قد جعلت القانون صارمًا شاملًا دون أن أستثني منه حالة، وهأنذي أعود الآن وألطفه وأرقرق فيه ليونة لا بد منها يمليها عليَّ طول ممارستي للشعر الحر نظمًا وقراءة. ومهما يكن من أمر، فأنا أتصدى الآن للقاعدة التي وضعتها سنة 1957 من ضرورة توحيد الأضرب في القصيدة الحرة فألطفها بالاستثناءات التالية المدرجة أدناه: أ- يجوز أن تجتمع التفعيلة مع ممدودها في ضرب القصيدة الحرة، ويرد هذا في ثلاثة مواضع أذكرها فيما يلي: "الأول" جواز اجتماع "فَعِلْ" و"فعولْ" وتجاورهما في ضرب القصيدة الواحدة كما لو قلنا: ألقي المساء ظلله هنا ألقي الصباح ضوءه هناك فإن تجاور "هنا" و"هناك" سليم لأن "فعول" ليست إلا مد فَعِلْ بإدخال حرف ردف. وكل مد تقبله الأذن. ومثل هذا أيضًا أو هو قريب منه مجاورة "مفعول" لهذين الضربين فنقول مثلًا:

والليل ينبوع من السنا والصبح ظل جارح الأشواك والواقعة أن التفعيلة "مفعولْ" الساكنة اللام لا ترد في ضرب الرجز في عروض الخليل وإنما نجد مكانها مفعولُ بضم اللام وهي "المقطوع" من "مستفعلن". ولكننا أدخلناها في ضروب الرجز في عصرنا الحديث هذا وانتشرت فيه انتشارًا واسعًا. "الثاني" جواز اجتماع "فعْلن" المقطوعة من "فاعلن" في المتدارك مع "مفعولْ" الساكنة اللام لأن هذه الأخيرة مساوية في حركاتها وسكناتها للتفعيلة "فعلان" الساكنة العين واللام. وفعلن هذه ليست إلا ممدود "فعْلن" الساكنة العين، وكل مد مقبول في عروض الشعر الحر، والسمع يقبل تجاور هاتين التفعيلتين كما في قولي: يا قبة الصخرهْ يا صلوات عذبة الأصدقاء فاجتمع في الضرب "فعلن" المقطوعة مع "مفعولْ" التي تساوي "فعلان" الممدودة من "فعلن". وهذا مطَّرد في الشعر الحر وأسماعنا تتقبله اليوم. "الثالث" جواز اجتماع تفعيلة "مفاعيلن" مع التفعيلة الغربية التي لم ترد في عروض الخليل "مفاعيلان". ويقع هذا التجاور في وزنين هما الهزج ومجزوء الوافر المعصوب -وحتى غير المعصوب: مفاعلتان1. وإنما أغفلها الخليل لأنها لم ترد عن العرب مطلقًا، واستنبطناها نحن في هذا العصر واستعملناها بكثرة، ومنها قولي:

_ 1 يجتمع الهزج ومجزوء الوافر غير المعصوب في شعر المعاصرين وحتى في شعر القدماء أحيانًا كلما نجد عند عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد والسراج الوراق وسواهم.

قرابيني مكدسة على المحرابْ وقرآني طواه ضبابْ ولا يخفى أن وزن "طواه ضباب" إنما هو "مفاعلتان" الممدود من تفعيلة الوافر. ب- لا بد لنا أيضًا أن نقر اجتماع كل ما يصح وقوعه في العروض والضرب من البيت الخليلي القديم. ذلك أن الشعر العربي يبيح للشاعر في بعض الحالات أن يستعمل في عروض البيت تشكيلة غير تشكيلة الضرب كما في الرمل: فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن وكما في المتقارب: فعولن فعولن فعولن فعل فعولن فعولن فعولن فعولن وكما في الرجز: مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مفعولن وبذلك اجتمعت "فاعلن" مع "فاعلاتن" في الرمل، والتقت "فعل" مع "فعولن" في المتقارب، وتجاورت "مستفعلن" مع "مفعولن" في الرجز دون أن تنفر الأذن من ذلك. وقد تجلى لي عبر السنوات الماضية أن الصحيح أن نبيح اجتماع هذه التفعيلات في ضروب الشعر الحر. أما لماذا رفضت ذلك عام 1957 فلأنني كنت أحرص على أن يكون ضرب القصيدة الحرة موحدًا كضرب الشطرين دونما زيادة. ثم بدأ يلوح لي تدريجيًّا أن ما تقبله الأذن مجتمعًا في عروض البيت وضربه يكون مقبولًا أيضًا في ضروب الشعر الحر، ولذلك وجدت أذني تتقبله كلما مر الزمن. فإذا كان البيت الواحد السليم يحتمل مثل ذلك فلماذا لا نبيحه في الضرب في شعر افترضنا فيه الحرية؟ وعلى ذلك لم أعد أجد خطأ في قول الشاعر خليل حاوي:

داري التي أبحرتِ، غربتِ معي وكنتِ خير دارْ في "دوخة" البحار في غربتي وغرفتي ينمو على عتبتها الغبارْ فإن الشاعر هنا قد جمع بين "مستفعلن" و"فعول" في ضرب الرجز، وهما يجتمعان على هذا النحو في البيت القديم فنقول مثلًا: مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مفعولن وهو وارد في تشكيلات الرجز، وكل ما صنعنا نحن من خروج أننا استنبطنا "فعول" بدلًا من "مفعولن" وفعولُ هذه تفعيلة مصابة بالخبن والقطع من "مستفعلن" وهي غير واردة في ضروب الخليل على جمالها وخفتها وانسيابيتها وتقبل الأذن لها. وهذا غير مستغرب، فإن العرب لم تستعمل كل جميل مقبول من الإمكانيات العروضية، وقد يكون فيما نبذته جمال كما أثبت المتأخرون. مما يصح جمعه في ضروب الشعر الحر "فاعلن" و"فاعلاتن" في المتدارك وهو وارد في عروض الخليل في مجزوء المتدارك: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فعلاتن اجتمع هنا "فاعلن" مع "فعلاتن" المصابة بالخبن والترفيل. كل ما غيرنا نحن أننا جئتنا به مخبونة مرة "فعلاتن" وغير مخبونة مرة "فاعلاتن" على حسب حاجة المعنى. كما أننا في هذا العصر نستعمل هذا الضرب في غير المجزوء مع أن الخليل لم يبح استعماله إلا في المجزوء كما في تفعيلات البيت أعلاه، ومنه قول أحدهم: دار سعدي بشحر عمانِ قد كساها البلى الملوانِ

وقد استعملت هذا الضرب في قولي أخاطب أمي يرحمها الله: تسقطين شهيده في الدروب القريبه والطرقات البعيده تسكنين جراح القصيده ويلاحظ أن الضرب جاء غير مخبون مرتين ومخبونًا في الشطر الأول. ومؤدى القول في هذا كله أننا نبيح الآن أن يقع في ضرب القصيدة الحرة كل ما تجاور في عروض وضرب لبيت خليلي واحد. ومنه ما لم نذكره هنا مثل اجتماع "فعولن" و"فعولُ" المقبوضة فقد وردا في البيت القديم: فعولن فعولن فعولن فعولن ... فعولن فعولن فعولن فعول والأمر في هذا كله ليس مجرد اعتباط لا يحكمه قانون كما قد يظن الظانون. وذلك لأن ما تقبله إذن شاعرة مدربة السمع مثلي لا يمكن أن يكون فوضى لا ضابط لها وإنما يتحكم فيه ذوق الشاعر القائم على التدريب السمعي البطيء عبر سنين طويلة من قراءة شعرنا القديم والحديث. كذلك لا أستبعد أن يكون سمعي العروض متأثرًا بالوزن الإنكليزي والفرنسي لكثرة ما أقرأ من شعر بهاتين اللغتين. ولا يعني هذا -كما سيزعم بعض الباحثين- أن عروض الشعر الحر مستورد من الغرب. والدليل موجود بين يدي القاري، فأنا لا أخطو خطوة في تقنين قاعدة إلا بعد استشارة عروض الخليل التي خبرت مداخله ومخارجه طويلًا. وأحب أن أضيف قبل أن أختم الموضوع أن التطويرات المهمة التي أحدثناها في ضروب الخليل تجعل علينا أن ندخلها في مادة العروض حين نلقيها على طلبة الجامعات، وإلا أصبح الشعر الحر أوسع من العروض العربي وأصبح تدريسنا لهذا الموضوع ناقصًا لا يزود الطلبة بثقافة عروضية

كامل تكفيهم لفهم ما هو مستعمل في شعرنا المعاصر وبعد فهذه هي الحواشي التي أريد إضافتها إلى ما قلت في هذا الكتاب سنة 1962، ومنها يلوح أن تطورًا ملحوظًا قد وقع لسمعي وللشعر الحر نفسه. وقد ينم هذا عن أن قواعد الشعر الحر لم يضعها ويخطط لها شاعر واحد وإنما هي من صنع مجموع الشعراء عبر فترة زمنية طويلة. ومن يدري؟ لعل القواعد التي قبلتها الآن ستتطور على أيدي شعراء آخرين يأتون بعدنا. وكل ما أتمنى أن يسلِّح الشعراء أنفسهم بكثرة القراءة للشعر السليم الخالي من الأخطاء العروضية وأن يكفوا عن الخروج على الوزن مرارًا عديدة عبر الكثير من قصائدهم. كذلك ينبغي لي أن أقول أن القواعد التي وضعتها للشعر الحر ما بين سنة 1949 وسنة 1962 ما زالت صحيحة لا غلط فيها، ويمكن لأي شاعر أن يستعملها، غير أنني أذهب الآن إلى أنها ليست الصورة الواحدة الممكن استعمالها. وأرجو حقًّا ألا يظن القارئ المتعجل أن الحواشي التي أضفتها الآن إلى القانون تدل على أنني "أتراجع" وأنكص عن قبول ذلك القانون لأنه كان مغلوطًا فيه فإن هذا الحكم ليس صحيحًا ولا واردًا. كل ما في الأمر أنني أتقبل الآن -حرصًا على الموضوعية والدقة- إضافة تنويعات جديدة بشروط خاصة لها ما يبررها. أما إذا أراد شاعر حر أن يستعمل القاعدة التي وضعتها على صفحات مجلة "الآداب" عام 1957، وفي هذا الكتاب عام 1962 فحرص على توحيد الضرب في قصيدته، فإن هذا لا يكون خطأ على أي وجه من الوجوه، وإنما هو نوع من لزوم ما لا يلزم، فيه إجهاد للشاعر وليس في غلط. وقد يقول قائل ثانٍ إنني بهذه الحواشي قد أوهنت قيمة كتابي هذا. وهو قول مردود لسببين: "الأول": لأن القواعد الأساسية التي وضعتها للشعر الحر ما زالت ثابتة

وقد تقبلها مئات الشعراء واستعملوها. كل ما هناك أنني أضفت الآن تفصيلًا جديدًا لفرع واحد من فروعها يتناول صفحات معدودة من هذا الكتاب. "الثاني": أن كتابي هذا لا يتعلق بمسألة التشكيلات وحدها وإنما يتناول قضايا كثيرة من شئون الشعر مثل هيكل القصيدة وبنائها، والجانب البلاغي منها، وقضايا ما يسمى بقصيدة النثر، والشعر المترجم عن اللغات الأجنبية، وتقليد القصيدة الأوروبية، ودراسة جانب الالتزام والحرية، ومزالق نقد الشعر، ومسئولية الناقد إزاء اللغة، وعلاقة الشعر بالموت، ومسألة البند وسوى ذلك. وليست قضية التشكيلات إلا صفحات قليلة من الكتاب، فإذا ما وسعت هذه القضية فليس معنى ذلك أنني قد أبطلت الكتاب الذي يدرس الآن في أكثر من جامعة في العالم العربي وما زال النقاش حوله مستمرًا في الأندية والصحف والجامعات. ولذلك أعود فأضعه بين يدي القارئ في طبعته الخامسة، سائلة الله ألا أكون في هذه المقدمة قد وقعت في شطط وسبقت الزمن سبقًا غير مستساغ ولا مقبول. ومن واجبي باعتباري شاعرة وعروضية أن أعلن آرائي وتقنيناتي لمختلف قضايا الوزن وليس عليَّ أن تبقى هذه الآراء نافذة بعد عشرين عامًا. فإن الحياة البشرية في نمو دائم ولا اكتمال لها مطلقًا، والله هو الثبات الوحيد المطلق في هذه الخليقة الجميلة. نازك الملائكة الكويت في جمادى الآخرة 1398هـ مايو 1978م

القسم الأول: في الشعر الحر

القسم الأول: في الشعر الحر الباب الأول: الشعر الحر باعتباره حركه الفصل الأول: بداية الشعر الحر وظروفه البداية ... القسم الأول: في الشعر الحر. الفصل الأول: بداية الشعر الحر وظروفه. البداية: كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، في العراق. ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعًا. وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا"1 وسأدرج بعضها فيما يلي، وهي من الوزن المتدارك "الخبب":

_ 1 نظمتها يوم 27-10-1947 وأرسلتها إلى بيروت فنشرتها مجلة "العروبة" في عددها الصادر في أول كانون الأول 1947 وعلقت عليها في العدد نفسه. وكنت نظمت تلك القصيدة أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهما. وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر. وقد ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر.

طلع الفجر أصغ إلى وقع خطى الماشين في صمت الفجر، أصخ، انظر ركب الباكين عشرة أموات، عشرونا لا تحص، أصخ للباكينا اسمع صوت الطفل المسكين موتى، موتى، ضاع العدد موتى، موتى، لم يبق غد في كل مكان جسد يندبه محزون لا لحظة إخلاد لا صمت هذا ما فعلت كف الموت لالموت الموت الموت تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت نشرت هذه القصيدة في بيروت ووصلت نسخها بغداد في أول كانون الأول 1947. وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب "أزهار ذابلة" وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر الرمل عنوانها "هل كان حبًّا" وقد علق عليها في الحاشية بأنها من "الشعر المختلف الأوزان والقوافي". وهذا نموذج منها: هل يكون الحب اني بت عبدا للتميي أم هو الحب اطراح الأمنيات والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة واختفاء العين في العين انتشاء كانثيال عاد يغنى في هدير أو كظل في غدير

على أن ظهور هاتين القصيدتين لم يلفت نظر الجمهور، وكان تعليق مجلة "العروبة" على قصيدتي هو التعليق الوحيد على هذه النقلة في أسلوب الوزن. ومضت سنتان صامتتان لم تنشر خلالهما الصحف شعرًا حرًّا على الإطلاق. وفي صيف سنة 1949 صدر ديواني "شظايا ورماد" وقد ضمنته مجموعة من القصائد الحرة، وقفت عندها في مقدمة الكتاب المسهبة وأشر إلى وجه التجديد في ذلك الشعر، وبينت موضع اختلافه عن أسلوب الشطرين، ثم جئت بمثال من تنسيق التفعيلات، وعينت بعض البحور الخليلية التي تصلح لهذا الشعر. وما كاد هذا الديوان يظهر حتى قامت له ضجة شديدة في صحف العراق، وأثيرت حوله مناقشات حامية في الأوساط الأدبية في بغداد. وكان كثير من المعلقين ساخطين ساخرين يتنبئون للدعوة كلها بالفشل الأكيد. غير أن استجابة الجمهور الكبير كانت تحدث في صمت وخفاء خلال ذلك، فما كادت الأشهر العصبية الأولى من ثورة الصحف والأوساط تنصرم حتى بدأت تظهر قصائد حرة الوزن ينظمها شعراء يافعون في العراق ويبعثون بها إلى الصحف. وبدأت الدعوة تنمو وتتسع. وفي آذار 1950 صدر في بيروت ديوان أول لشاعر عراقي جديد هو عبد الوهاب البياتي وكان عنوانه "ملائكة وشياطين" وفيه قصائد حرة الوزن. تلا ذلك ديوان "المساء الأخير" لشاذل طاقة في صيف 1950 ثم صدر "أساطير" لبدر شاكر السياب في أيلوب 1950 وتتالت بعد ذلك الدواوين، وراحت دعوة الشعر الحر تتخذ مظهرًا أقوى حتى راح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين هجرًا قاطعًا ليستعملوا الأسلوب الجديد.

الظروف

الظروف: كانت لحركة الشعر الحر ظروف معرقلة تضع في وجهها العقبات

وتجعل سبيلها وعرًا. بعض تلك الظروف عام يتعلق بطبيعة الحركات الجديدة إجمالًا، وبعضها خاص بالشعر الحر نفسه. أما الظروف العامة فتكمن في أن الشعر الحر، شأنه شأن أية حركة جديدة في ميادين الفكر والحضارة، قد بدأ لدنًا، حييًا، مترددًا، مدركًا أنه لا بد أن يحتوي على فجاجة البداية، فلا بد له من ذلك؛ لأنه على كل حال، "تجربة"، ولن يعفيه إخلاصه وتحمسه من أن يزل أحيانًا ويتخبط. ذلك أن مثل هذه الحركات الأدبية التي تنبع فجأة، بمقتضى ظروف بيئية وزمنية، لا بد أن تمر بسنين طويلة، قبل أن تستكمل أسباب النضج، وتملك جذورًا مستقرة، وتلين لها أداتها، وليس من المعقول أن تولد ناضجة، وإنما تبدو عيوبها كلما ابتعدنا عنها وأوغلنا في الزمن باختباراتنا الجديدة ونضج ثقافاتنا واتساع آفاقنا. وأما الظروف الخاصة فتكمن في كون الشعر الحر حركة جديدة جابهها الجمهور العربي أول مرة في العصر. نقول هذا ونحن على علم بما يذهب إليه بعض الباحثين الأفاضل من أنها تجد جذورها في الموشحات الأندلسية، وفي البند الذي أبدعه شعراء العراق في القرنين الماضيين أو قبلهما بزمن يسير. أما الموشحات الأندلسية فإن المشهور المحفوظ منها يقوم على أساس المقطوعة، ويحافظ على طول ثابت للأشطر، وحتى إذا تساهل بعض التساهل في الطول، فإن ذلك يجري في حدود معينة تجعل الموشح أبعد ما يكون عن الشعر الحر. وإنما الشعر الحر شعر تفعيلة، بينما بقى الموشح شعرًا شطريًّا. وسوف نبسط ذلك في موضعه من الكتاب. وأما البند فالمعروف أنه أسلوب مجهول لدى الجمهور العربي، ولم ينظمه إلا شعراء العراق، وأنا شخصيًّا لم أسمع به من قبل سنة 1953، على

قوة اهتمامي بالشعر العربي. وذلك طبيعي منتظر، فلا كتب العروض تشير إلى البند، ولا كتب الأدب المتداولة، ولا مدرسو الأدب يذكرونه في صفوفهم. ثم إن كبار الشعراء في عصور الأدب العربي الزاهرة لم يمارسوا نظمه، وإنما اقتصر على استعماله شعراء العراق المتأخرون، وكان أشبه ما يكون بأسلوب عامي للمراسلات الإخوانية الظريفة. نقول ذلك كله لا لننتقص من قيمة البند الجمالية، وإنما لنبين أن الشعر الحر لم يتحدر منه من جهة، وإن وجوده لم يساعد الجمهور العربي على تقبل حركة الشعر الحر حين قيامها من جهة أخرى. وليست العبرة بوجود نمط من أنماط الشعر، وإنما العبرة في معرفة الجمهور والشعراء له بحيث يؤثر في اتجاهاتهم. ولعل أبرز الأدلة على أن الحركة كانت وليدة عصرنا هذا أن أغلبية قرائنا ما زالوا يستنكرونها ويرفضونها، وبينهم كثرة لا يستهان بها تظن أن الشعر الحر لا يملك من الشعرية إلا الاسم فهو نثر عادي لا وزن له. تلك هي الظروف الخاصة للشعر الحر. ولا يخفى أن الحركة الأدبية التي تنبت فجأة على هذه الصورة تفقد ميزة هامة مما يملكه الأدب الذي يتطور متدرجًا. ذلك أنها لا تملك قواعد تستند إليها، ولا أسسًا تجري وفقها بحيث تأمن الخطأ والزلل. وإنما لا بد لأتباعها، وهم يسندونها ويرفعون صوتها، من مجازفة وتضحية. وأنه لموجع للشاعر المخلص لفنه أن يكتب وهو على علم بأنه يخوض ميدانًا جديدًا قد يقضي على شاعريته، وقد يودي بسمعته الشعرية التي جهد لبنائها وسهر. ونتيجة لهذه الظروف العامة والخاصة، يسهل أن يسقط المبتدئون من الشعراء في التشابه والتكرار الممل، فينهج الواحد منهم نهج زملائه الآخرين دونما ابتكار، لا عن تقليد واعٍ، وإنما على صورة غير واعية.

ذلك أن السنن الوحيدة الموجودة هي قصائد الآخرين، وهي مازالت قليلة نسبيًّا. والمعروف أن الشاعر الذي يعجب بوزن قصيدة من القصائد فيعارضه لا يستطيع أن ينجو من السقوط في "معارضة" معانيها وجوها وحتى سقطاتها أيضًا. وقد كان هذا أحد وجوه الخطر الكثيرة التي تضمنتها حركة الشعر الحر حين قيامها أول مرة. وما لبثت مظاهره حتى بدأت تلوح على بعض الشعر الحر الذي ينظمه الناشئون، فلم يعد من النادر أن تتشابه قصائد الشعراء في موضوعاتها وألفاظها وأجوائها وأخيلتها. وأن الخطأ في شعر الواحد ليسري سريانًا مدهشًا في شعر الآخرين وكأنه بات سنة تُحتذى لا خطأ ينبغي تحاشيه. على أن مشكلات حركة الشعر لم تقتصر على مزالق الظروف وإنما جاءتها من جهات أخرى سندرسها في الفقرة التالية.

المزايا المضللة في الشعر الحر

المزايا المضللة في الشعر الحر: تبدو الأوزان الحرة، وكأنها تمتلك مزايا عظيمة تسهل على الشاعر مهمة التعبير، وتهيئ له جوًّا موسيقيًّا جاهزًا يستطيع أن يمنحه قصيدته دونما جهد كبير. والحقيقة أن سرعان ما يكتشفها كل شاعر ناضج لا تخدعه المظاهر، أن ما يبدو لنا أول وهلة مزايا في الأوزان الحرة ينقلب حين نتفحصه إلى مزالق خطرة. وهذه المزالق قادرة على أن تخلق من إمكانيات الابتذال والرخاوة في الشعر الحر ما هو خليق بأن يسبب للشاعر قلقًا محقًّا على شعره. أن أقل تهاون من جانب الشاعر يكفي لدفع القصيدة إلى درك الابتذال وعامية اللين. وسوف نتناول هذه المزايا الخادعة في الشعر الحر فيما يلي وهي ثلاث:

"أولًا" الحرية البراقة التي تمنحها الأوزان الحرة للشاعر. والحق أنها حرية خطرة. أن الشاعر يلوح معها غير ملزم باتباع طول معين لأشطره، وهو كذلك غير ملزم بأن يحافظ على خطة ثابتة في القافية. فما يكاد يبدأ قصيدته حتى تخلب لبه السهولة التي يتقدم بها، فلا قافية تضايقه ولا عدد معينًا للتفعيلات يقف في سبيله، وإنما هو حر، حر، سكران بالحرية، وهو، في نشوة هذه الحرية، ينسى حتى ما ينبغي ألا ينساه من قواعد، وكأنه يصرخ بآلهة الشعر: "لا نصف حرية أبدا. إما الحرية كلها أو لا! " وهكذا ينطلق الشاعر حتى من قيود الاتزان ووحدة القصيدة وأحكام هيكلها وربط معانيها، فتتحول الحرية إلى فوضى كاملة. "ثانيًا" الموسيقية التي تمتلكها الأوزان الحرة، فهي تساهم مساهمة كبيرة في تضليل الشاعر عن مهمته. أنها سعلاة الشعر الحر الخفية، وفي ظلها يكتب الشاعر أحيانًا كلامًا غثًّا مفككًا دون أن ينتبه؛ لأن موسيقية الوزن وانسيابه يخدعانه ويخفيان العيوب. ويفوت الشاعر أن هذه الموسيقى ليست موسيقى شعره وإنما هي موسيقى ظاهرية في الوزن نفسه، يزيد تأثيرها أن الأوزان الحرة جديدة في أدبنا ولكل جديد لذة. وعلى هذه الصورة تنقلب موسيقية الأوزان الحرة وبالًا على الشاعر، بدلًا من أن يستخدمها ويسخرها في رفع مستوى القصيدة وتلوينها. "ثالثًا" التدفق، وهي مزية معقدة تفوق المزيتين السابقتين في التعقيد. وينشأ التدفق عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة، فإنما يعتمد الشعر الحر على تكرار تفعيلة ما مرات يختلف عددها من شطر إلى شطر. وهذه الحقيقة تجعل الوزن متدفقًا تدفقًا مستمرًا، كما يتدفق جدول في أرض منحدرة، وهي كذلك مسئولة عن خلوه من الوقفات. والوقفات، كما يعلم الشعراء، شديدة الأهمية في كل وزن، ولا يدرك الشاعر مدى

ضرورتها إلا حين يفتقدها في الشعر الحر. أنه إذ ذاك مضطر إلى مضاعفة جهده، وحشد قواه لتجنب "الانحدار" من تفعيلة إلى تفعيلة دونما تنفس. ولنلاحظ أسلوب الوقوف في أوزان الخليل ونقارنه بما يقدمه الشعر الحر من إمكانيات في هذا الباب. إن البحور الستة عشر ذات الشطرين، تقف عند نهاية الشطر الثاني من البيت وقفة صارمة لا مهرب منها، فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى وتقوم حدود البيت واضحة فتميزه عن البيت التالي وكلنا يعلم أن استقلال البيت كان يعد فضيلة القصيدة لدى العرب القدماء، بحيث كانوا يعتبرون "التضمين" عيبًا فادحًا. والتضمين هو ارتباط آخر البيت المقفى بأول البيت التالي إعرابيًّا ومعنويًّا. وهو معيب حتى في شعر الشطرين المعاصر ومنه قول الشاعر بدوي الجبل في مرثيته الجميلة للملك غازي الذي قاوم الاستعمار البريطاني في العراق وتحداه، فقتله نوري السعيد سنة 1939 ... قال بدوي الجبل: خضبت عرة الصباح فقد نـ ... ـم عليها بالعطر والتوريد قدر أنزل الكمي عن السر ... ج وألوى بالفارس المعدود فقد جاءت كلمة "قدر" في أول البيت الثاني مع أنها فاعل الفعل "نم" في البيت الأول، وهذا هو التضمين. كل هذا جار في شعر الشطرين الخليلي الذي يتمسك أشد التمسك باستقلال البيت. أما الشعر الحر الذي تكون وحدته التفعيلة فإنه يتعمد تحطيم استقلال الشطر تحطيمًا كاملًا، لذلك لا نجد له وقفات ثابتة حتى مع وجود القافية في نهاية كل شطر، وإنما يترك الشاعر حرًّا يقف حيث يشاء. ومعنى ذلك أن الشاعر، في الشعر الحر، ليس ملزمًا أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر، وإنما يجعل من حقه أن يمدهما إلى الشطر التالي أو ما بعده. وعلى هذا تترك مسألة الوقوف للشاعر يتصرف فيها بما يملي

ذوقه. ومن هنا ينهض المشكل. لقد ثبت لنا أن أغلب الشعراء الناشئين الذي نظموا الشعر الحر كانوا دون مستوى هذه الحرية التي أعطيت لهم، فقد راحوا يكتبون بلا توقف، فكان المرء، وهو يقرأ شعرهم يجري في معترك لاهث لا راحة فيه. وما من شك في أن الناضجين من الشعراء يقدرون عظم المسئولية التي تلقيها الحرية على عواتقهم. ذلك أن هذا الوزن الحر لا يقدم أية مساعدة وإنما يقع العبء كله على سياق المعنى، وارتباطات الألفاظ في القصيدة، وليس هذا بالأمر الهين.

نتائج التدفق في الأوزان الحرة

نتائج التدفق في الأوزان الحرة: هذه "التدفقية" التي لاحظناها تؤدي إلى قيام ظاهرتين ملحوظتين في الشعر الحر يمكن أن نعدهما من عيوبه: أ- تجنح العبارة في الشعر الحر إلى أن تكون طويلة طولًا فادحًا. وهذا نموذج من قصيدة لبدر شاكر السياب: وكأن بعض الساحرات مدت أصابعها العجاف الشاحبات إلى السماء تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح في آخر الأفق المضاء حتى تعالى ثم فاض على مراقيه الفساح1 هذه الأشطر كلها عبارة واحدة، وليست فيها وقفة من أي نوع. وهذا مثال ثان من قصيدة لعبد الوهاب البياتي: أترى الظلال الهائمات وراءه وعت الغناء

_ 1 قصيدة "حفار القبور" لبدر شاكر السياب. مطبعة الزهراء. بغداد 1952 "ص3".

فاسترسلت في شبه حلم واستفاقت للمساء تروي أحاديث الصبيات اللواتي كن يصطدن الرجال بغنائهن وراء أسوار الليال1 العبارة هنا سؤال وبترها خلال القراءة أعسر؛ لأن نبرة التساؤل التي تبدأ بقوله "أترى الظلال" ينبغي ألا تنتهي قبل لفظ "الليال". وهذا الطول في العبارة عيب تساعد عليه طبيعة الشعر الحر، ولا بد للشاعر من الوعي المتصل لكي يتحاشاه. والحقيقة أننا لو تأملنا قيود الأوزان الحرة لوجدناها لا تقل عن قيود أوزاننا القديمة إن لم تزد، فالوقفة اضطرارية في الحالتين وإن اختلفت أسبابها. وذلك أمر يحتم على الشاعر الحر أن يتبع نظامًا صارمًا في صياغة عباراته بحيث يعوض عن القيود الجبرية في نظام الشطرين. ب- تبدو القصائد الحرة وكأنها لفرط تدفقها، لا تريد أن تنتهي، وليس أصعب من اختتام هذه القصائد. وسبب هذه الظاهرة ما سبق أن نبهنا إليه من انعدام الوقفات. ففي نظام الشطرين تقدم الوقفة القسرية للشاعر مساعدة كبيرة؛ لأنها هي في ذاتها وقفة، فلا يبقى على الشاعر إلا أن يختم المعنى، وهنا تستطيع أية عبارة جهورية قاطعة أن تؤدي المهمة، خاصة في قصائد الوصف والمناجاة ونحوها. أما في الوزن الحر فإن الوقفات الطبيعية معدومة، والشاعر إذا استعمل أشد العبارات جهورية وقطعًا يحس أن القصيدة لم تقف، وإنما استمرت تتدفق، وعليه لذلك أن يستمر في تغذيتها وإطالتها رغم انتهائه مما أراد أن يقول. وتشتد المتاعب في قصائد الوصف والمناجاة لأسباب تتعلق بطبيعة هذه القصائد، ولذلك

_ 1 قصيدة "الظلال الهائمة" لعبد الوهاب البياتي. مجلة الأديب. سبتمبر 1952 "ص41".

تصلح الأوزان الحرة للشعر القصصي والدرامي أكثر من صلاحيتها لغيره.

الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة

الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة: يلوح لنا من مراجعة الأساليب التي يختتم بها الشعراء قصائدهم الحرة أنهم شاعرون، ولو دون وعي، بصعوبة إيقاف التدفق الطبيعي في الوزن الحر. ولذلك يلجئون إلى أساليب شكلية غير مقبولة يحاولون بها أن يغلبوا تلك الصعوبة. من تلك الأساليب اختتام القصيدة بتكرار مطلعها، ونموذجه قصيدة لبلند الحيدري يبدؤها ويختتمها بالمقطع التالي1: يا صدقي لم لا تحمل ماضيك وتمضي عن طريقي قد فرغنا وانتهينا وتذكرنا كثيرًا ونسينا2 وليس هذا الاختتام محض صدفة، فالشاعر قد استعمله في قصائد كثيرة غير هذه منها "أعماق" و"ولن أراها" و"حب قديم" و"غدًا نعود" في ديوانه "أغاني المدينة الميتة". ثم إن هذه الظاهرة لا تقتصر على بلند الحيدري، فهي تطل علينا في شعر عبد الوهاب

_ 1 قصيدة "يا صديقي" لبلند الحيدري. ديوان "أغاني المدينة الميتة". 2 لا يخفى أن "نسينا" بعينها المكسورة لا تصلح قافية تقابل "انتهينا" والظاهر أن الشاعر غافل عن ذلك لأنه يقرؤها بفتح السين.

البياتي1 ونحن نلمحها عند بدر السياب2 وعند شاذل طاقة3. والواقع أن تعاقب اختتام القصيدة بتكرار مطلعها لدى هؤلاء الشعراء جميعًا يشي بأنهم يستشعرون الصعوبة التي أشرنا إليها في اختتام القصائد الحرة فيلجئون إلى هذه الوسيلة الشكلية. والواقع أن هذه الأسلوب ليس إلا تهربًا من الشاعر، يفر فيه من صعوبة الاختتام الطبيعي. وهو إنما يقع في ذلك التهرب تحت ضغط الشعر الحر. وليس التكرار هنا إلا نوعًا من التنويم يخدر به الشاعر حواس القارئ موحيًا إليه بأن القصيدة قد انتهت. ومن الأساليب التي يلجأ إليه الشعراء في اختتام القصائد الحرة أسلوب لجأ إليه بدر شاكر السياب في قصيدته "حفار القبول". قال في آخر تلك القصيدة الطويلة: وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد ويظل حفار القبول ينأى عن القبر الجديد متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور وقال في خاتمة قصيدة أخرى: ويلوك ظلك من بعيد وهو يومئ بالوداع وأظل وحدي في صراع4 إني أسمي هذا الأسلوب في الاختتام أسلوب "ويظل.."، وهو

_ 1 قصيدة "تمت اللعبة" للبياتي. مجلة الأديب أكتوبر 1952. 2 قصيدة "في القرية الظلماء" ديوان أساطير. بدر شاكر السياب. النجف 1950. 3 قصيدة "حصاد النار" لشاذل طاقة. ديوان المساء الأخير. مطبعة الاتحاد الجديد. الموصل 1960. 4 قصيدة "اللقاء الأخير" لبدر شاكر السياب.

ليس مقصورًا على بدر السياب، كما قد يظن، فهذه مثلًا خاتمة قصيدة لبلند الحيدري1: ويدور فيها العقربان تك. تك. يا للجبان. يا للجبان متى سيومئ بالوداع؟ وأظل أزحف في صراع هذه القصائد كلها تختتم بأسلوب "ويظل" وهو أسلوب تنويمي كالسابق؛ لأنه يسلم المعنى إلى استمرارية مريحة وكأن الشاعر يقول لقارئ: "وقد استمر الأمر على هذا.." وبهذا ينتهي دوره، ويصح للقصيدة أن تنتهي. وإنما المسئول عن هذا كله هو الطبيعة المتدفقة للشعر الحر. على أن هذه الطبيعة ينبغي ألا تُعفي شاعرًا ناضجًا من إنهاء قصيدته إنهاء فنيًّا مقبولًا.

_ 1 قصيدة "محاولة" لبلند الحيدري. مجلة الأديب يوليو 1952 "ص16".

عيوب الوزن الحر

عيوب الوزن الحر: إذا كانت مزايا الشعر الحر الثلاث: الحرية والموسيقية والتدفق قد استحالت شراكًا للشاعر، فما بالنا بالعيوب التي يتضمنها هذا الوزن؟ وإنما تنشأ تلك العيوب عن طبيعة الشعر الحر نفسه، وأبرزها عيبان اثنان يتركز كل منهما إلى تركيب التفعيلات في الشعر الحر، وسنقف عندهما فيما يلي:

أ- يقتصر الشعر الحر بالضرورة على عشرة بحور من بحور الشعر العربي الستة عشر، وفي هذا للشاعر غبن يضيق مجال إبداعه. فلقد ألف الشاعر العربي أن يجد أمامه ستة عشر بحرًا شعريًّا بوافيها ومجزوئها ومشطورها ومنهوكها. وقيمة ذلك في التنويع والتلوين ومسايرة مختلف أغراض الشاعر الكبيرة، بحيث يصبح اقتصار الشعر الحر على نصف ذلك العدد نقصًا ملحوظًا فيه. ب- يرتكز أغلب الشعر الحر -ثمانية بحور منه من عشرة- إلى تفعيلة واحدة. وذلك يسبب فيه رتابة مملة، خاصة حين يريد الشاعر أن يطيل قصيدته. وعندي أن العشر الحر لا يصلح للملاحم قط؛ لأن مثل تلك القصائد الطويلة ينبغي أن تركز إلى تنويع دائم، لا في طول الأبيات العددي فحسب، وإنما في التفعيلات نفسها وإلا سئمها القارئ. ومما يلاحظ أن هذه الرتابة في الأوزان تحتم على الشاعر أن يبذل جهدًا متعبًا في تنويع اللغة وتوزيع مراكز الثقل فيها، وترتيب الأفكار، فهذه كلها عناصر تعويض تخفف من وقع النغم الممل.

إمكانيات الشعر الحر ومستقبله

إمكانيات الشعر الحر ومستقبله: مؤدَى القول في الشعر الحر أنه ينبغي ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان؛ لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها، بسبب القيود التي تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق والموسيقية. ولسنا ندعو بهذا إلى نكس الحركة، وإنما نحب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها، فقد أثبتت التجربة، عبر السنين الطويلة أن الابتذال والعامية يكمنان خلف الاستهواء الظاهري في هذه الأوزان. والحق أن الحركة قد بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة منذ سنة 1951، ولا نظن هذا غريبًا، ولا داعيًا للتشاؤم. فلو درسنا الحركة من وجهتها

التاريخية لوجدنا أنها لا تختلف عن أية حركة أخرى للتحرر، سواء أكانت وطنية أم اجتماعية أم أدبية، وفي لتاريخ مئات الشواهد على ثورة الجماعات ومبالغتها في تطبيق مبادئ الثورة وسقوطها في الفوضى والابتذال قبل استقرارها الأخير. ولهذا نحس بالاطمئنان إلى سلامة الحركة، رغم مظاهر الرخاوة والإسفاف التي غمرتها. وإذا كنت قد تنبأت في سنة 1954 -في مقال لي نشرته مجلة الأديب- بأن حركة الشعر الحر: "ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع صاعق، ولا أحد مسئول عن أن شعراء نزري المواهب، ضحلي الثقافة سيكتبون شعرًا غثًّا بهذه الأوزان الحرة"1 إذا كنت قد تنبأت بذلك، فأنا أجد نبوءتي تلك قد تحققت بكل حرف فيها. وإذا صح لي أن أطرح نبوءة جديدة، أبنيها على مراقبتي للموقف الأدبي في وطننا العربي اليوم، فأنا أتنبأ بأن حركة الشعر الحر ستصل إلى نقطة الجزر في السنين القادمة، ولسوف يرتد عنها أكثر الذين استجابوا لها خلال السنين العشر الماضية. على أن ذلك لا يعني أنها ستموت. وإنما سيبقى الشعر الحر قائمًا ما قام الشعر العربي وما لبثت العواطف الإنسانية. ولسوف ينتهي التطرف إلى اتزان رصين، ويجني الأدب العربي من الحركة ثمراتها. وأما الشعراء الذين ذهبوا ضحايا لمزالق الشعر الحر، ولا بد لكل حركة ناجحة من ضحايا، فحسبهم أنهم هم الذين أنقذوا الشعر من الهاوية، ولقد أعطونا نماذج للرداءة والتخبط تحمينا من أن نقع في مثلها، فكانوا بذلك خلاص الشعر الحديث دون أن يدروا.

_ 1 راجع بحثنا المعنون "حركة الشعر الحر في العراق" مجلة الأديب. ينانر 1954 وقد دخل كثير منه في هذا البحث.

الفصل الثاني: الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر

الفصل الثاني: الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر مدخل ... الفصل الثاني: الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر. لعل القانون الذي يتحكم في حركات التجديد عامة هو أنها كلها محاولات لإحداث توازن جديد في موقف الفرد والأمة بعد أن اعترت الموقف عوامل خارجية فرضت عليه أن تتخلخل بعض جهاته وتميل. وسرعان ما يصبح التجديد حاجة ملزمة تفرض نفسها فرضًا، فلا تملك الأمة إلا أن تلبي طائعة وتستسلم لهذا الزائر الذي يطرق الباب ملحًّا. ولقد ألفت المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ أن تقابل التجديد في كثير من الريبة والتحفظ فلا تتقبله إلا بعد رفض طويل ومقاومة تبدو فيها الجماعات وكأن حافزًا أقوى منها يدفعها إلى أن تحمي نفسها من هذا الطارق المريب. وقد ألفنا أيضًا أن نرى المجددين يسخطون على هذا التردد الذي يقابل به تجديدهم ويرمون الجماهير بالجمود والبلادة وقلة القدرة على تقدير الإبداع. على أن النظرة الاجتماعية المتأملة لا بد أن تجعلنا أقل لومًا للجمهور، فما هذا التحفظ في الواقع إلا صوت التماسك والأصالة في شخصية الأمة التي ترفض أن تنهار بإزاء كل فكرة جديدة تعرض، وإلا

لم تعد أمة ولم يعد في إمكانها أن تحفظ تراثها. أن التحفظ، بالمعنى البايولوجي، ضرب من الدفاع عن النفس يواجه به الفرد الإنساني عوامل العدوان ومخاطر المفاجأة التي تعترضه. وذلك لأن تقبلنا لأي رأي نصادفه يعني في حقيقة الأمر، أن نتهدم تهدمًا كاملًا ثم نعيد بناء أنفسنا بحيث تلتئم هذه المادة الغريبة مع المواد السابقة التي اخترناها في أذهاننا، ولذلك وحسب لا نستطيع أن نتكرم بقبول كل رأي يعرض علينا، وإنما لا بد لنا أن نتريث ونقاوم. إن طبيعتنا تفرض علينا هذا التحفظ بإزاء الأفكار، كما تفرض علينا قواعد الصحة أن نتحفظ بإزاء الحالات المفاجئة من الحرارة والبرودة والضغط، والتحفظ في الحالتين يتضمن المحاولة الدائبة لإعداد الفكر والجسم إعدادًا متدرجًا لقبول الحالة الجديدة دونما تمزق أو أذى، ذلك أن كل رأي جديد يعرض للأمة يتضمن هزة كاملة لكيانها العقلي والنفسي، فلا تستطيع أن تقبله فورًا، وإنما لا بد لها أن تعدل في مضموناتها السابقة وتعيد تنظيمها حتى تلتئم مع الحالة الجديدة. لقد كانت هذه الحالة من الانكماش والرفض رد الفعل الأول الذي لقيته حركة الشعر الحر حين انبثقت أول مرة في العراق، فقد قابلها الأدباء والجمهور مقابلة غير مرحبة ورفضوا أن يتقبلوها وعدوها بدعة سيئة النية غرضها هدم الشعر العربي.. وإنما كانت فكرة إقامة القصيدة العربية على "التفعيلة" بدلًا من "الشطر" صادمة للجمهور لأنها سألته أن يحدث تغييرًا أساسيًّا في مفهوم الشعر عنده، وقد كان لا بد للجمهور العربي، وهو يحمل ثقافة غنية عريقة أن يتماسك في وجه هذا الطلب المفاجئ، ويرفضه ريثما يدرسه ويفسح له مكانًا. لقد ألف هذا الجمهور أن يرص له شعراؤه القدماء ثلاث تفعيلات أو أربعًا في وحدة ثابتة اعتاد أن يسميها الشطر، فإذا هو يفتح عينيه فجأة ذات صباح فيرى أمامه قصائد أشطرها لا تتقيد بعدد معين من التفعيلات،

فقد يرد شرط ذو تفعيلتين يليه آخر ذو أربع تفعيلات وثالث ذو تفعيلة واحدة. اعتاد الجمهور أن يكون البيت ذو الشطرين وحدة في القصيدة، فإذا هو اليوم يقرأ شعرًا حطم فيه استقلال البيت تحطيمًا متعمدًا قضى على عزلته وأدمجه في الأبيات الأخرى. كان العروضيون يتحدثون مثلًا عن وزنين متميزين اسمها "الكامل" و"مجزوء الكامل" فإذا الشاعر الحديث يدمج الوزنين حين يريد ويعدهما وزنًا واحدًا لأن تفعيلتهما واحدة. والواقع أن ملخص ما فعلته حركة الشعر الحر أنها نظرت متأملة في علم العروض القديم واستعانت ببعض تفاصيله على إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال. ولم تصدر الحركة عن إهمال للعروض، كما يزعم الذين لا معرفة لهم به، وإنما صدرت عن عناية بالغة به جعلت الشاعر الحديث يلتفت إلى خاصية رائعة في ستة بحور من الشعر العربي تجعلها قابلة لأن ينبثق عنها أسلوب جديد في الوزن يقوم على القديم ويضيف إليه جديدًا من صنع العصر. وما كاد الجمهور العربي يتسامع بالدعوة حتى أسرع إلى رفضها وأساء الظن بها واتهمها. وكانت أحب التهم إلى قلوب المعارضين أن الشباب من الشعراء قد أحدثوا طريقة يتخلصون بها من صعوبة الأوزان العربية القائمة وتعينهم على تغطية كسلهم وضحالة مواهبهم الشعرية. قالوا إن الحرية من القيود العروضية استسلام إلى السهولة والرخاوة ولجوء إلى الترف، وإن هذا الشعر الحر قضية هينة يسيرة يستطيعها حتى من لم يكن شاعرًا. والواقع أنه ليس من الثابت فلسفيًّا أن الحرية أسهل من اتباع القيود. ولعل الأمر أن يكون على العكس. وذلك لأن كل حرية على الإطلاق تتضمن مسئولية. لقد كانت الإنسانية في كل زمان ومكان حريصة على قيودها فبقيت تجرها وتتمسك بها مع أنها تحز عنقها وذراعيها، لا لشيء إلا لأن هذه القيود تحمي من متاعب الحرية ومسئولياتها ومآزقها،

وما القيود، إذا تأملنا إلا طرف ممهدة مرصوفة تعطي الإنسانية الأمان والشعور بالاستقرار. إنها أشبه بسياج عالٍ يحمي المحبوسين فيه من احتمالات الضلال. والذهن الكسول يجد في القيود راحة لأنها تقيه مشقة الاختيار ومخاوف الاستقلال. وعلى هذا الأساس وضعت المجتمعات القوانين الصارمة والنظم ورصفت الخطط المفصلة لكل مسلك إنساني. إن الحرية خطرة لأنها تتضمن مغامرة فردية يجازف فيها المرء براحته وكيانه، ولن يقوى على مخاوفها إلا من كان شديد الثقة بنفسه. وإذا كان التقييد رصفًا لطريق واضح لا تتيه فيه الخطى، فإن الحرية تترك الإنسان وحيدًا بإزاء عشرات من الطرق عليه أن يختار منها ما يلائم رغباته وظروفه. وأنه ليدري أن بعض هذه الطرق قد تورده موارد الهلاك والدمار. لذلك يؤثر أغلبية البشر أن يقبلوا القيود ويعيشوا في ظلها آمنين. ولعلهم في صميم أنفسهم ينظرون إلى الحرية وكأنها مقامرة غير مضمونة أو معاهدة مع الشيطان. وهذا محزن للذهن المتأمل، غير أن الإنسانية، كما قلنا، تؤثر سعادتها وسلامتها على كل شيء آخر. ومعها الحق. على أننا، ونحن نفند مزاعم المعارضة، غير مضطرين إلى الاكتفاء بفكرة نظرية حول الحرية، فإن الشعر الحر الذي يملأ الكتب والصحف اليوم يمدنا هو نفسه بالدليل على أن الحرية أصعب من التقييد. فلو أنشأنا دراسة مفصلة تقوم على الإحصاء وقارنَّا بين الأغلاط العروضية الواردة في الشعر المعاصر، قبل الشعر الحر وبعده، لدلت النتائج على أن من أسهل الأمور أن يقع الشاعر الذي يستعمل الأسلوب الحر في أغلاط الوزن والزحاف. وأبرز دليل على ما نذهب إليه أن الشاعرين نزار قباني وفدوى طوقان ينظمان قصائد بالأوزان القديمة وقصائد حرة فلا تقع أغلاط الوزن إلا في قصائدهما الحرة. وأن الناقد العروضي ليبتسم عاذرًا حين يرى هذه الظاهرية الطريفة، فلن يرتاب أحد يسمو شاعرية نزار وفدوى، وقد اعترف لهما العصر برهافة السمع. ولكن الشعر الحر

كله مزالق وهو ينصب شركًا، فإذا لم يكن الشاعر على حذر، كان من السهل أن ينتقل فجأة من الرجز إلى السريع أو المنسرح لمجرد أن "مستفعلن" تتصدر البيت.

الشعر الحر اندفاعة اجتماعية

الشعر الحر اندفاعة اجتماعية: كان السؤال الذي انصبت حوله مناقشات المعترضين على "البدعة" يتركز حول الأسباب الداعية التي دفعت هذه "الفئة الضالة" من الشباب إلى تبني حركة لقلب الأوزان العربية. وقد ذهبوا في التأويل مذاهب شتى، فقال بعضهم إن الشباب مولع بالأغراب والشذوذ، وقال آخرون إن الجيل الجديد كسول يضيق بالجهد ولا يصبر على متاعب الشطرين وأهوال القافية الموحدة فتخلص إلى السهولة. ورأت فئة ثالثة أن الحركة بمجملها منقولة عن الشعر الأوروبي ولا علاقة لها بالشعر العربي. والحق أن هذه المزاعم لا تخلو من مثل ذلك الصدق العفوي الذي نجده مصاحبًا حتى لأكثر الأحكام بعدًا عن رصانة التأمل ووضوح القصد. ولعل السذاجة في الحياة الإنسانية لا تخلو من الحكمة خلوًّا تامًّا مهما بلغت درجتها. غير أن في الأمثال هذه الأحكام المتسرعة، على كل حال، تغاضيًا لا يسكت عنه عن بعض الحقائق الأولية المتعلقة بالمجتمعات ونموها وتطورها. أفتراه من الممكن أن تنشأ حركة في مجتمع ما ويستجيب لها جيل من الناس على مدى عشر سنين بطيئة طويلة دون أن تمتلك جذورًا اجتماعية تحتم انبثاقها وتستدعيه؟ أمن الجائز أن تنبعث هذه الحركة من أعماق الفراغ والسكون دونما جذور ولا روابط ولا مسببات؟ وما الذي يجعل حركة ما تظهر في عصر معين دون عصر؟ في الواقع أن الأفراد الذين يبدءون حركات التجديد في الأمة ويخلقون الأنماط الجديدة، إنما يفعلون ذلك تلبية لحاجة روحية تبهظ كيانهم وتناديهم

إلى سد الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة. ويغلب أن يكون الفرد المبدع غير واعٍ وعيًا حقًّا لهذا التصدع، غير أنه مع ذلك يندفع إلى التجديد الذي يعوض عما تصدع، وهو في هذا مقود بمحتمات بيئية قاهرة لا قدرة له على مقاومتها. إنه ليشعر بضغط داخلي مستبد يدفعه دفعًا إلى إحداث هذا الجديد. ولعله في اندفاعه إلى الإبداع ينساق بعين الدافع القسري الذي يجعل ماء ذا مستوى عالٍ يندفع إلى أول بقعة منخفضة يصادفها ولا يكف حتى يملأها. إن تشبيهنا هذا ليس رديئًا، فلعل علم الاجتماع يقرنا على هذا الاعتراف بسطوة التيارات الاجتماعية على الذهن الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن ما يسمونه بدعوة "الفن للحياة" تستريح إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل المجتمع هو الجذر الأساسي لكل حركة أدبية. ولعل الدليل على أن حركة "الشعر الحر" كانت مقودة بضرورة اجتماعية محضة هو أن محاولات وأدها قد فشلت جميعًا، فما زال تيار الشعر الحر يشتد ويتلاطم حتى اضطر مؤتمر الأدباء العرب الثالث في القاهرة إلى أن يعترف به رسميًّا ويدخله في أبحاثه الرئيسية. وهل في وسع المهاجمات، مهما قويت وأصرت، أن تقتلع حركة انبعثت من صميم الظروف الاجتماعية للفرد العربي؟ إن حركة ما ليس عرضًا خارجيًّا يسهل نزعه بمقال أو مقالات، بمقاطعة أو استنكار. وهذا لأنها، كما قلنا، اندفاع محتوم لملء فراغ وإقامة تصدع. والحق أن في إمكاننا أن نعد حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محضة تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث، شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتنا، في مختلف المجالات. إن العوامل الاجتماعية الموجبة التي جعلت الشعر الحر ينبثق كثيرة. ولكننا سنحصي منها في بحثنا هذا أربعة. وكلها، كما سنرى، تتعلق

بالاتجاهات الاجتماعية العامة للفرد العربي المعاصر وترتكز إلى تفاصيل الشعر القديم وخصائص الشعر الحر نفسه. 1- النزوع إلى الواقع: تتيح الأوزان الحرة للفرد العربي المعاصر أن يهرب من الأجواء الرومانسية إلى جو الحقيقة الواقعية التي تتخذ العمل والجد غايتها العليا، وقد تلفت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع هذه الرغبة عنده لأنه من جهة مقيد بطول محدود للشطر وبقافية موحدة لا يصح الخروج عنها، ولأنه من جهة أخرى حافل بالغنائية والتزويق والجمالية العالية. أما القيود التي تضيق آفاق الأوزان القديمة، فهي تلوح للفرد المعاصر ترفًا وتبديدًا للطاقة الفكرية في شكليات لا نفع لها، في وقت ينزع فيه هذا الفرد إلى البناء والإنشاء وإلى إعمال الذهن في موضوعات العصر. إنه يكره أن يضيع جهوده في إقامة هياكل شعرية معقدة، لها من الرصافة والهيبة أكثر مما يطيق. ولعل الرصانة الشديدة منفرة للذهن العامل الذي يريد البناء، وذلك لأنها تقيد الحركة. والشاعر يريد أن يتحرك ويندفع. إن مشكلات العصر تناديه وهو لا يجد وقتًا لترف القيود وبطر القافية الموحدة. ثم إن فروض العمل والحياة المنتجة تتطلب أن يخلق لنفسه أسلوبًا أكثر حرية وأقل هيبة وجلالًا. وهو في هذا أشبه بإنسان يشتغل فلاحًا ويضايقه أن يلبس ثيابًا أنيقة مترفة لأنه يحتاج إلى لباس بسيط يعطيه الحرية على الحركة والقدرة على العمل. ولذلك انطلق الشاعر الحديث وخلق أسلوب الشعر الحر ببساطة أسلوبه وخلوه من الرصانة. أما الغنائية فهي تنشأ عن الموسيقية العالية في الأوزان القديمة، ومن ثم فهي تعطي تلك الأوزان جوًّا من العاطفة المصطنعة والخيال. والغنائية

ملازمة للتقييد لأنها تتضمن مبالغة وإسرافًا في العواطف. فما يكاد الشاعر يقع في مآزق القافية الموحدة ويتلكأ عند البيت الواحد حتى يعتريه إحساس بأنه لا يعبر، وإنما يكتب شيئًا مترفًا تتحكم فيه هذه الملكة الجميلة المستبدة التي تقف في آخر البيت وتصر على أن تكون أبرز ما فيه. ولعل هذا الإحساس بالترف والفراغ هو الذي يجعل الشعر القديم حافلًا بالأجواء المثقلة بالعنبر ونسيم الصبا والثياب الحريرية تجرها فتيات ناعمات لا عمل لهن سوى الدلال ونوم الضحى. إن الشاعر المعاصر -وهو فرد في مجتمع يعمل ويبني- يضيق بهذا الجو الكسول النعسان، وهذه الجمالة المفروضة فرضًا؛ أنه يريد أن يكون شعره مفكرًا، إيجابيًّا، طويل العبارة، فلا تسمح له بذلك الغنائية العالية في الأبحر الشطرية. وهو ينفر من هذه النبرة العاطفية المموسقة لأنها لا تلائم نزوعه إلى العمل والنشاط، ومن ثم فهو يريد أن يحطمها ويخرج من قمقم الأحلام وأوهام ألف ليلة وليلة. لقد وجد في الشعر الحر مهربًا من هذا الجو المثقل بالجواري والحرير وأشعة مصباح علاء الدين، وهو يطلب الواقعية حتى إذا كانت قاسية خشنة فيمد يديه ليلمس الحقيقة ولو أدمتهما. وأما لماذا يصلح الشعر الحر للتعبير عن حياة ليس الجمال الحسي غايتها العليا؛ فلأنه كما أشرنا يخلو من رصانة الأوزان القديمة ويجعل غايته التعبير لا الجمالية الظاهرية. وهكذا تستطيع النظرة الاجتماعية أن تتبين في حركة الشعر الحر جذور الرغبة في تحطيم الحلم والإطلال على الواقع العربي الجديد دونما ضباب ولا أوهام. 2- الحنين إلى الاستقلال: يحب الشاعر الحديث أن يثبت فرديته باختطاط سبيل شعري معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن شخصية الشاعر القديم. أنه يرغب

في أن يستقل ويبدع لنفسه شيئًا يستوحيه من حاجات العصر. يريد أن يكف عن أن يكون تابعًا لامرئ القيس والمتنبي والمعري. وهو في هذا أشبه بصبي يتحرق إلى أن يثبت استقلاله عن أبويه فيبدأ بمقاومتها. ويعني هذا أن لحركة الشعر الحر جذورًا نفسية تفرضها، وكأن العصر كله أشبه بغلام في السادسة عشرة يرغب في أن يعامل معامل الكبار فلا ينظر إليه وكأنه طفل أبدًا. إن حرقة الاستقلال هذه تساهم إلى حد ما في دفع الشاعر الحديث إلى البحث في أعماق نفسه، عن مواهب كامنة غير مستغلة وعن مقدرات وخصائص يمكن أن تشحذ وتبرز فتعطيه شخصية متفردة تميزه عن أسلافه. وقد وجد الثورة على القوالب الشعرية متنفسًا لهذه الحرقة إلى الاستقلال فثار عليها. ولا ريب في أن هذه النزعة هي تفسير ما نراه من إيغال بعض الناشئين من الشعراء في التطرف والاندفاع وقد ظنوا أن الأوزان القديمة عاطلة عن القيمة وتعالوا حتى على القواعد الشعرية التي رسخت عبر مئات من سنوات الشعر واللغة. ولن يصعب على الناقد المتزن أن يغفر لهؤلاء المتطرفين نزق أشطرهم ورعونة قوافيهم ما دام يدرك الأساس النفسي للمبالغة التي سقطوا فيها. 3- النفور من النموذج: من طبيعة الفكر المعاصر عمومًا أنه يجنح إلى النفور مما أسميه "بالنموذج" في الفن والحياة. وأقصد بالنموذج اتخاذ شيء ما وحدة ثابتة وتكرارها بدلًا من تغييرها وتنويعها. وتلاحظ فكرة النموذج في الفن الإسلامي القديم في ما نرى على جدران المساجد والقصور وقبب الجوامع ومنائرها، حيث يقوم التزيين على أساس تكرار وحدة تجريدية ثابتة، أو مجموعة وحدات منضمة في وحدة أكبر، على أن تراعى في التكرار النسب

المضبوطة ضبطًا دقيقًا. إن الأساس الذي قام عليه هذا الفن العربي عين الأساس الذي قام عليه شعرنا القديم. فقد كان الشطر أو البيت يتخذ وحدة ويحافظ الشاعر على عزلة هذه الوحدة بتحاشي التضمين الذي مر تعريفه مراعيًا المسافات المضبوطة بينها وبين سائر الوحدات التي يتكررها إلى نهاية القصيدة. وجاء الشاعر المعاصر باتجاهاته الحديثة ونظر في نظام الشطرين فوجده يبيح له شكلًا مقيدًا بنمط معين ذي طبيعة هندسية مضغوطة. إن الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض على المادة المصبوبة فيها شكلًا مماثلًا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات. أو لنقل أن هندسية الشكل، لا بد أن تتطلب هندسية مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل، وذلك بمعزل عن حاجة السياق. والقوالب تفرض شكلها على المادة التي تنضغط في داخلها، وإذا كانت القصيدة الشطرية ملزمة بالمحافظة على أطوال ثابتة ومسافات متناسقة فإن المادة التي يعالجها الشاعر لابد أن تصبح هي الأخرى ذات مسافات متناسقة وذلك بحكم قانون خفي يربط بين الشكل والمضمون ويجعل الواحد منهما مؤثرًا في الآخر، متأثرًا به في الوقت نفسه. وأبسط نتائج هذا الإلزام في القصيدة العربية القديمة ما نلاحظه من ميل العبارات إلى أن تنتهي بانتهاء الشطر، وإذا امتدت فإلى نهاية البيت حيث القافية الموحدة تنتصب شامخة وتبني جدارًا متينًا يصعب على المعنى أن يتخطاه. ونحن نعلم يقينًا أن من شروط البيت الجيد عند العرب أن يكون مستقلًّا في معناه وصياغته عما بعده، بحيث عدوا "التضمين" عيبًا فادحًا من عيوب الشعر. يضاف إلى هذا أن الشطر لا يسمح للشاعر بأن يستعمل عبارة أقصر منه، فكان لابد للشاعر أن ينهي العبارة معه. وهكذا فرضت الأشطر المتساوية أن تكون العبارات متساوية إلى حد ما، أو مقسومة إلى قسمين متساويين. وفي هذا ما لا يروق للشاعر الحديث الذي

يميل إلى التعبير فيستعمل عبارة قصيرة ذات كلمتين أحيانًا. وقد يروق له أن تستوعب عبارة واحدة بيتين أو ثلاثة. وقد يحب أن يقف في نصف الشطر ويبدأ عبارة جديدة تنتهي في نصف الشطر التالي. وكل هذا يعينه على إحداث أثر معين أو إثارة حالة نفسية يقصدها. والحقيقة أن هذا هو ما نصنعه في الحياة أيضًا. فلو أصغينا إلى رجل عامي يقص حكاية لالتفتنا إلى ما يحدثه تنويع الأطوال في عباراته من أثر عميق في المستمعين. وهذا ما يحرم منه الشاعر الذي يستعمل طريقة الشطرين والقافية الموحدة. لقد وجد الشاعر الحديث نفسه محتاجًا إلى الانطلاق من هذا الفكر الهندسي الصارم الذي يتدخل حتى في طول عبارته، وليس هذا غريبًا في عصر يبحث عن الحرية ويريد أن يحطم القيود ويعيش ملء مجالاته الفكرية والروحية. الواقع أن إحدى خصائص الفكر المعاصر أنه يكره النسب المتساوية ويضيق بفكرة النموذج ضيقًا شديدًا، فما يكاد يقع على اتساق متعاقب منتظم في جهة من جهات حياته حتى يشتاق إلى أن يحدث فوضى صغيرة في مكان منه فيربك النموذج ويخرج على الرتابة، ولهذا أمثلة كثيرة في مبانينا وبرامجنا وحياتنا. ولم تكن حركة الشعر الحر إلا استجابة لهذا الميل في العصر إلى الخروج على فكرة النموذج المتسق اتساقًا تامًّا. والواقع أن الحياة نفسها لا تسير على نمط واحد ولا تتقيد بنسبة ثابتة في أحداثها، وإنما تجري بلا قيد، لا بل إن اللغة وهي منبع كل فكر وكل شعر، لا تتبع نماذج. إننا نتكلم بحسب الحاجة فنطيل عباراتنا ونقصره وفق المعنى لا وفق نظام هندسي مفروض. ولذلك ثار الشاعر المعاصر على أسلوب الشطرين وخرج إلى أسلوب التفعيلة وبات يقف حيث يشاء المعنى والتعبير. 4- الهرب من التناظر: في طفولتنا كانت البيوت التي يعيش فيها الناس ببغداد بيوتًا شرقية في بنائها، تتوسطها ساحة واسعة قد تكون فيها حديقة صغيرة يطلقون عليها

اسمًا فارسيًّا هو "البقجة" فكان البناء يحيط بهذه الساحة من جهاتها الأربع. وإذ أنظر الآن إلى الوراء، ألاحظ أن نظام الشطرين الخليلي في الشعر كان متناسبًا مع هذا الطراز في البناء لأن الشطرين تتوسطهما فسحة أو سكتة في وسط البيت. والواقع أن شكل البناء هذا، قد كان هو المستعمل في البلاد الإسلامية منذ العصر الأموي فيما أعلم؛ لأنني شاهدت في مُتْحف دمشق الوطني نموذجًا كبيرًا لقصر الخليفة هشام بن عبد الملك فكان مبنيًّا على الطراز نفسه: ساحة واسعة في الوسط فيها الحدائق، تحف بها مباني القصر من أربع جهات. ولسنا ندري كيف كانت قصور ملوك المناذرة والغساسنة تُبنى في الجاهلية وإن كنت لا أستبعد أن تقوم على النسق نفسه ما دام هناك ارتباط خفي بين شعر الشطرين وطراز المباني. وفيما بعد، عندما راحت بغداد القرن العشرين تتسع إلى الضواحي، بدأ الناس يبنون بيوتهم على الطراز الغربي المعدل فلا يستبقون ساحة وسط البيت وإنما يجعلون الفسحة أمام البيت ووراءه -حدائق- ولكن تأثير نظام الشطرين الشعري بقى نافذ المفعول في طراز البناء؛ لأن المهندس كان حريصًا دائمًا على تشييد بيت له جانبان متناظران تمام التناظر، فالجانب الأيمن يشبه الجانب الأيسر كل الشبه بحيث لو مددنا خطًّا وسط البيت لكانت الجهتان متطابقتين. وقد استمر هذا النسق المتناظر مسيطرًا على مباني مدينة بغداد إلى حوالي سنة 1955. وفي سنة 1949 ظهرت مجموعتي الشعرية "شظايا ورماد" وفيها الدعوة الأولى إلى الشعر الحر. وإذ أنظر الآن إلى الماضي، أحس أنني إنما ثرت على طريقة الشطرين الخليلية، نفورًا من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق. والحق أنني كنت أستشعر ضيقًا شديدًا بنظام البيوت في بغداد كنت كلما رأيت مسكنًا متناظرًا شعرت بنفسي تضيق وتظلم. ولم يخطر على

بالي أنني إنما دعوت تلك الدعوة الحارة، إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية، تفعيلاتها غير متناسقة في العدد؛ لأنني أدعو أيضًا إلى تغيير نظام المباني، ولأنني أنفر من التناظر وأتعطش إلى هدمه والثورة عليه. وعندما استجاب كثير من شعراء العصر إلى دعوة الشعر الحر بدأ طراز المباني يتغير. وماذا نجد اليوم؟ لقد أصبح المهندس، حين يبني بيتًا أو عمارة، يتعمد ألا يجعلها متناظرة، فما يكاد يلاحظ أقل ميل إلى هذا التناظر، حتى يُنزل بالنسق فوضى من نوع ما، تخلخله ولو على شكل رسوم وخطوط وألوان لا نموذج فيها، ولا مقياس لها، وإنما هي نثر بلا تخطيط. وعلى هذا، تكون سطوة الشعر الحر على الحياة العربية اليوم، ناشئة عن أننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها، وهي مبانٍ ثائرة على التناظر ثورة واضحة لكل ذي بصر. وإني لأومن إيمانًا قويًّا بأن الشعر والفن ليسا معزولين عن الحياة، وإنما يرتبطان بها ارتباطًا كاملًا. ومن ثم فإن تخطيط شوارعنا الحديثة وطراز مبانينا لابد أن يؤثر تأثيرًا مباشرًا في شعرنا وفنونا. وهذا هو الحذر الكامن وراء سطوة الشعر الحر على حياتنا الحديثة، في ظني. وعلى ذلك فإن الذين ينادون بضرورة القضاء على شعر التفعيلة الذي لا نسق ثابتًا له، إنما يتغافلون عن طراز بيوتنا وأشكال شوارعنا وينسون أنها لا بد أن تترك طابعها على أذهاننا وميولنا النفسية وتدفعنا إلى جهة معاكسة للتناظر الذي ننفر منه اليوم، ونحاول دائبين أن نحدث فوضى تخل به ولو إخلالًا جزئيًّا. 5- إيثار المضمون: يتجه الفرد العربي المعاصر على العموم إلى تحكيم المضمون في الشكل، وهذا مرتبط بما نراه من ميل العصر إلى الإنشاء والبناء، وهو ميل عام يستوعب مختلف مظاهر حياتنا. إن الشكل والمضمون يعتبران في أبحاث الفلسفة الحديثة وجهين لجوهر واحد لا يمكن فصل جزئيه إلا بتهديمه أولًا.

والنقد العربي المعاصر جدير بأن يلتفت إلى هذه الوحدة الوثيقة، وينبه إلى ما في الفصل بين وجهيها من خطر على الفكر والأمة. غير أن الحركات الاجتماعية والأدبية لا تخضع للمنطق العقلي وإنما يتحكم فيها قانون التطور الاجتماعي. ولقد جاء عصرنا هذا على أثر العصر المظلم الذي غلبت فيه على الشعر العربي القوالب الشكلية والصناعية الفارغة والأشكال التي تعبر عن حاجة حيوية. ووجد الشاعر الحديث نفسه خلفًا لأجيال من الشعراء يكتبون الألغاز والمهمل والتشطيرات ولزوم ما لا يلزم وكل ما يدل على أنهم لا يريدون إيصال مضمون لازم معين إلى قرائهم، وإنما همهم أن يخلقوا أشكالًا مجردة ذات قيمة ظاهرية وحسب. وقد كان رد الفعل المباشر، عند الشاعر المعاصر، أن يتجه إلى العناية بالمضمون ويحاول التخلص من القشور الخارجية. وكانت حركة "الشعر الحر" أحد وجوه هذا الميل لأنه، في جوهره، ثورة على تحكيم الشكل في الشعر. إن الشاعر الحديث يرفض أن يقسم عباراته تقسيمًا يراعي نظام الشطر، وإنما يريد أن يمنح السطوة المتحكمة للمعاني التي يعبر عنها. ونظام الشطرين، كما سبق أن قلنا، متسلط، يريد أن يضحي الشاعر بالتعبير من أجل شكل معين من الوزن، والقافية الموحدة مستبدة لأنها تفرض على الفكر أن يبدد نفسه في البحث عن عبارات تنسجم مع قافية معينة ينبغي استعمالها، ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الانفعال، ويتمسك بالقافية الموحدة ولو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر. وكل هذا إيثار للأشكال على المضمونات، بينما يريد العصر أن ينشغل بالحياة نفسها وأن يبدع منها أنماطًا تستنفد طاقته الفكرية والشعورية الزاخرة. إن كل ميل إلى تحكيم الشكل في المعنى يغيظ الشاعر المعاصر ويتحداه، وهذا هو السبب في ما نراه من مبالغة بعض الناشئين في استعمال الأوزان الحرة حتى كادوا ينبذون الأوزان القديمة نبذًا تامًّا.

هذه العوامل الخمسة تبدو لنا العوامل الرئيسية التي أحاطت بحركة الشعر الحر، ولكنها ليست العوامل كلها. إن من الممكن أن ننظر إلى الحركة من زوايا أخرى فنرى فيها مظهرًا لضيق الشباب بهالة التقديس التي يحيط بها النقاد العرب أدبنا، وكأن هذا الأدب كمال لا غاية بعده. ولعل التقديس يعد في نظر الجيل العامل نوعًا من الجمود، وذلك يتضمن فكرة التحقق والاكتمال والوصول، وهي فكرة تجعل العمل والجهد شيئًا لا داعي له ولا فائدة فيه. وقد يكون جيلنا متبرمًا بمضمونات الشعر القديم، وعندما وجد أن أشباح الماضي تعشعش في هذه الأوزان قرر أن يتركها فترة ليبني كيانًا شعريًّا في أوزان جديدة ريثما يتاح له الاستقلال الكامل فيعود إلى هذا القديم بنظرة أصفى وفهم أعمق. وإنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية، ليست دعوة لنبذ شعر الشطرين نبذًا تامًّا، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل، وتحل محلها، وإنما كان كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوبًا جديدًا توقفه إلى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة. ولا أظنه يخفى على المتابعين أن بعض الموضوعات تنتفع بالأوزان القديمة أكثر ما تنتفع بالوزن الحر. ولذلك لا نرى وجهًا نبرر به ميل بعض الناشئة إلى أن ينظموا شعرهم كله بالأوزان الحرة "وقد تناولت هذه الظاهرة بالنقد في الفصل السابق". غير أن التطرف شيء مألوف في تاريخ الدعوات الأدبية والاجتماعية. ونحسب أن كل حركة تبدأ متطرفة أولًا، ثم ترتد إلى الاعتدال بعد أن تشذبها التجارب وتصقلها الحاجة. ثم إننا على يقين من أن كثيرًا من المغالين في استعمال الشعر الحر سيرتدون في السنين القادمة إلى الاعتدال والاتزان ويعودون إلى الأوزان الخليلية فيكتبون بها بعض شعرهم. أما اليوم فنحن في شيء من القلق على الحركة، تقلقنا هذه المغالاة التي تصاحبها، وتلك الحدة والعصبية التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين

الذين حسبوا أن محاربة آدابنا القديمة جزء من أهداف الشعر الحر. وكأن من الممكن، على الإطلاق، أن نبدع نحن شيئًا لم يساهم أجدادنا الموهوبون في تمهيد السبيل إليه منذ ألف سنة. والواقع أن حركة الشعر الحر لن ترسخ في تاريخنا حتى يدرك الشاعر الحديث أن تراثه القديم قد كان هو المنبع الذي ساقه إلى إبداع الجديد. ولعل إنكار القديم والمغالاة في النفور منه مظهر من مظاهر ضعف الثقة بالنفس عند الأمم، وقد لا يكون غريبًا أن يحس الفرد العربي، في هذه الفترة من حياته، بشيء من هذا. ولكننا على ثقة من أنه، وهو سليل هذا التراث الخصيب، لا يمكن أن يبقى في هذا المستوى طويلًا، ولا بد أن يسيطر على أبعاد نفسه كلها في المستقبل القريب. وإذ ذاك سيبدو له الشعر الحر نقطة صغيرة في تاريخه الكبير. وسيدرك، أول مرة، أن أوزانه التي ابتكرها قد بلغت مرحلة النضج وباتت جزءًا حيًّا من تاريخه الأدبي العريق.

الباب الثاني: الشعر الحر باعتباره العروضي

الباب الثاني: الشعر الحر باعتباره العروضي. الفصل الأول: العروض العام للشعر الحر. توطئة: لعله شيء لا ريب فيه أن كثيرًا من الشعراء الذين تلقوا الدعوة إلى الشعر الحر في حماسة لا يعرفون حتى الآن الغرض منها. إن بعضهم يخلط بينها وبين الدعوة إلى تجديد الموضوع في القصيدة العربية، وبعضهم يظن أن غايتها الوحيدة هي تثبيت دعائم ما يسمونه بالواقعية في الشعر. ولئن كنا لا ننكر أن هذه الظنون وأمثالها لا تتعارض مع طبيعة الشعر الحر، غير أننا نلح مع ذلك على التذكير بأن الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء. ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعني بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحته، إننا مع الشعر الحر بإزاء دعوة إلى دراسة الإمكانيات التي تقدمها بحور

الشعر العربي الستة عشر للشاعر المعاصر الذي يهمه التعبير عن حياته في حرية وانطلاق. وما لم يدرك الشاعر العربي خطورة موقفه في هذا المفرق الموسيقي من تاريخ الشعر العربي، ومدى ما يمكن أن يسقط فيه من أغلاط ذوقية وعروضية وهو يندفع، فإن حركة الشعر الحر تسقط يومًا بعد يوم في هاوية مبتذلة ما كنا نحب أن تصير إليها. وإنه ليخيل إلى من يراقب ما تنشره الصحف الأدبية من هذا الشعر أن شعراءنا يتناولون الأوزان الحرة ويلعبون بها كما يلعب طفل غير مسئول بحزمة أوراق مالية عالية القيمة. إنه فرحٌ بملمسها الناعم، بخشخشة ورقها، بألوانها ورسومها. إنه يكدسها ويدعكها ويبعثرها ويمزقها ثم يقف متفرجًا منتشيًا بما صنع، غير منتبه إلى ما بين يديه من ثروة. ولن ينكر أحد أن في بحور الشعر العربي إمكانيات موسيقية غنية في وسعنا أن نستخرجها إذا نحن كففنا عن اللعب بالتفعيلات وصفها وتلوينها وبعثرتها على أسطر متتالية فارغة من المعنى. والحق أنه إذا كانت اثنتا عشرة سنة من الشعر الحر لم تصح شعراءنا من السكرة الأولى التي جاءت بها فرحة الحرية فإن الأمر لا يبشر بالخير الكثير. هذا قد كان موقف الشعراء أنفسهم من الشعر الحر، فماذا كان موقف الجمهور؟ لعلنا كلنا نعلم أن أغلب القراء -وبينهم ناظمون متمكنون- ما زالوا يجهلون الأساس العروضي الخليلي للشعر الحر. إن طائفة منهم تحسبه نثرًا لا وزن له مرصوصًا على أسطر متتالية بدافع غيّة صبيانية في نفس كاتبه. وأنا أميل إلى أن أعتقد بأن الجمهور غير ملوم في فكرته هذه. فإنما روج لها بعض الشعراء الكبار من الجيل الماضي، وقد راحوا يصرحون، في لذة لا تخلو من التشفي، أن الشعر الحر ليس موزونًا وإنما هو نثر. وبذلك ساهموا في هدم الناحية العروضية من الشعر الحر. ولعلنا أن ندافع حتى عن هؤلاء الشعراء الكبار. ذلك أن أكثرهم لم يكونوا نقادًا للشعر يومًا بحيث يستطيعون الكتابة عن ظاهرة

عروضية خالصة مثل الشعر الحر. وإنما يقع أكثر اللوم على النقاد الذين أهملوا الشعر الحر كل الإهمال فلم يحاول أي منهم أن يكتب بحثًا أو كتابًا يتناول فيه حركة الشعر الحر من جانبها العروضي. وقد كانت الأبحاث القليلة التي نشرت لي منذ سنة 1952 في مجلتي الأديب والآداب1 وغيرهما هي -فيما أعلم ولعلي لم أتابع المنشور كله- الأبحاث الوحيدة التي عُنيت بعروض الشعر الحر وألحت في دعوة النقاد والشعراء إلى الالتفات إليه. وأما الناحية التي عني بها النقد العربي في دراساته حول الشعر الحر فقد كانت غالبًا ناحية موضوعاته ومعانيه والصور فيه. فكان الناقد يكتب فصولًا طويلة عن عشرات من القصائد الحرة دون أن يشير ولو بسطر إلى الناحية العروضية منها، مع أن تلك القصائد التي كان الناقد يتحدث عنها كانت مشحونة بالأخطاء الوزنية. وأن المراقب الحريص على مستوى نقد الشعر في وطننا العربي ليتساءل في اهتمام عن سبب هذا: أترى هؤلاء النقاد لا يتحسسون الوزن ولا يستشعرون الخطأ العروض؟ أهم ضعيفو الشعور بموسيقى الشعر بحيث لا تصك أسماعهم كل تلك النشازات والأغلاط؟ أم أن لمسلكهم تعليلًا آخر أعمق جذورًا؟ من الحق أن نقول أن طائفة من هؤلاء النقاد الذين يكتبون عن الشعر الحر دون أن يتعرضوا للأخطاء العروضية فيه يملكون حس النقد وملكة التذوق، ويستجيبون للشعر على أجمل ما نحب لهم. ومن الثابت عندي أن بعضهم قد مارسوا نظم الشعر السالم من الأخطاء بأسلوب الشطرين. وإنما يكمن إهمالهم للناحية العروضية من الشعر الحر في ظاهرة أعماق بدأت تشيع في الجو الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، وأعني بها ظاهرة الرومانسية في النقد. ومنبع هذه الظاهرة في أدبنا العربي، شيوع تلك

_ 1 أدرجت في هذا الكتاب ومنها بحث عنوانه "العروض والشعر الحر" دخل أهم ما فيه في هذا البحث.

النظريات التعبيرية expressive theories التي نادت بأن الشاعر ملهم، وبأن الأوزان تنبعث مغنية في أعماقه دون أن يحتاج إلى دراسة العروض وأوزان الشعر. لقد سرت هذه النظريات إلى مفاهيم النقد نفسها فقالوا بأن الناقد نفسه ملهم بحيث تنبع الأحكام من كيانه دون أن يميز القواعد بوضوح، وظنوا أن الارتكاز إلى القوانين الأدبية الدارجة يقلل من قيمة الناقد باعتباره موهوبًا يرتكز إلى الفطرة المبدعة ولا يحتاج إلى الدراسة العلمية. يضاف إلى ذلك أن الناقد العربي -وهو يدرس شعر شاعر يحتقر العروض لأنه ملهم- أصبح يكره أن يرتكز إلى قواعد العروض حذرًا من أن يسيئ إلى ذلك الشاعر الملهم بتنبيهه إلى القواعد التي تتعارض مع إلهامه وموهبته. ومهما يكن من أمر الأسباب فإن نقادنا المحدثين أصبحوا ينطوون على الاستحياء من علم العروض ويؤثرون إقصاءه عن قيم النقد وأصوله، وكأن شعرنا أجمل وأرق وأسمى من أن يقاس بالمقاييس الموضوعية التي استقرأها أسلافنا عبر القرون من آلاف القصائد العربية القديمة. وقد حان لنا أن نحارب هذه النزعة الخجول في النقد، خاصة في هذه السنين التي تعرض خلالها الشعر إلى هزة غير هينة بسبب قيام حركة الشعر الحر. وما دام الشعر الحر -في أساسه- دعوة إلى تطوير الشكل، ما دام يتناول الأوزان والتشكيلات والقوافي، فليس في إمكاننا أن ننقده إلا على أساس موضوعي من علم العروض. على أن دعوتنا إلى العودة إلى علم العروض، ونفض الغبار عنه من أعماق المكتبة العربية، لا ترمي إلى تقييم الشعر الحر، وتقويمه وحسب، وإنما نقصد بها أيضًا إلى أن نجد للشعر الحر أصولًا أرسخ تشده إلى الشعر العربي القديم وتضعه في مكانه من سلم التطور بحيث يقتنع القارئ الموسوس بأن وزن الشعر لم يحطم على أيدينا، ولأننا لا نقل حرصًا عليه من أي شاعر قديم مخلص. وسرعان ما سنكشف أننا نحتاج إلى أن نطور

الدراسات العروضية التي توقف نموها منذ زمن ولم تلحق بسائر فروع العلوم العربية. فقد تطور الشكل في الشعر العربي بحيث لم تعد كتب العروض القديمة تكفي تمام الكفاية في نقد الأشكال الجديدة التي نمت اليوم، وبات ضروريًّا أن يطور العروض نفسه ليستطيع مواجهة الشعر. وإنه لطبيعي تمامًا أن تظهر الأنماط أولًا، ثم تعقبها القواعد التي بها يقاس الفاسد منها، وهذا لأن النمط خلق تندفع به طبيعة فنان تلهمه روح العصر، وأما القواعد فهي مجرد استقراء واعٍ.

الشعر الحر أسلوب

-1- الشعر الحر أسلوب. أول ما ينبغي لنا أن نفعل ونحن نضع عروضًا للشعر الحر أن نحدد مكانه العام في كتاب العروض العربي. وسوف نقرر بدءًا أن الشعر الحر ليس وزنًا معينًا أو أوزانًا -كما يتوهم أناس- وإنما هو أسلوب في ترتيب تفاعيل الخليل تدخل فيه بحور عديدة من البحور العربية الستة عشر المعروفة. ولذلك فإن أول مدخل ينفذ منه الشعر الحر إلى كتب العروض أن يُحصى مع الأشكال الشعرية العامة التي ندرسها. وأنا أقترح أن ينص كتاب العروض على أن العرب -ومنهم نحن المعاصرين- قد كتبوا الشعر على أساليب تنحصر فيما يلي: أ- أسلوب البيت "الشطرين": ومنه أكثر الشعر العربي، وهو شعر ذو شطرين متساويين في عدد تفعيلاتهما قوام الشطر الواحد فيه إما تفعيلتان كما في الهزج والمضارع، أو ثلاث تفعيلات كما في الكامل والسريع، أو أربع تفعيلات كما في المتقارب والبسيط.

ولا يشترط فيه أن يكون العروض والضرب متساويين وإنما يباح في أحدهما ما لا يباح في الآخر، كما في قول عمر أبو ريشة من "الرمل"1: كنتُ كالملاح في لجته ... كسرت مجدافه الريح فتاها فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ويحافظ الشاعر على نمط الأشطر عبر القصيدة كلها فتتبع صدور الأبيات قانونها الذي هو حذف السبب الخفيف من "فاعلاتن" وبذلك تصبح "فاعلن"، كما تتبع الإعجاز قانونها في تناسق لا يخرج عليه الشاعر إلا في البيت المصرع "الذي يجري الشاعر على صدره قانون العجز ويختمه بضربه". ومن الغلط بيت الشاعر علي محمود طه من بحر "الرمل": يا لها! كيف استقرت ثم فرت ... لحظة مرت ولكن ما وعاها فقد خرج شطره الأول على عروض "الرمل" المباح في غير ما "تصريع" مع أن قصيدته هذه قد حافظت على القانون في أبياتها جميعًا2. وإنما يباح عدم تساوي العروض والضرب لأن هذا شعر ذو شطرين، وذلك هو النمط العربي في كل شعر يجري على هذا الأسلوب. ب- أسلوب الشطر الواحد: وهو شعر يتألف كل شطر فيه من تفعيلات ثابتة العدد عبر القصيدة

_ 1 مختارات. عمر أبو ريشة. "مطابع دار الكشاف بيروت" ص169. 2 قصيدة "امرأة وشيطان". ديوان "الشوق العائد" علي محمود طه. شركة فن الطباعة القاهرة 1945.

كلها، ويكون له ضرب واحد لا يتغير ومنه ما يسمى في الأدب العربي بالأرجوزة. وكان العرب يجعلونها موحدة القافية كما في أشطر امرئ القيس: تطاول الليل علينا دمون دمون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون وقد نوعوا القوافي في العصور التالية حين نظموا الأراجيز العلمية مثل الألفيات في النحو وغيرها. وقد ينظم الشاعر شعرًا ذا شطر واحد ثابت الطول من أي بحر يختاره كما فعل علي محمود طه في قصيدته "ميلاد شاعر" من "الخفيف"1: أدخلوا الآن أيها المحسنونا جنة كنتم بها توعدونا اجعلوا من البدائع زونا واملئوها من الجمال فنونا املئوها فنًّا وليس فتونا وانشروا الصفو فوقها والسكونا ج- أسلوب الموشح: وهو شعر يجمع بين أسلوب الشطر الواحد وأسلوب الشطرين. وتكون أطوال أشطر الموشح متساوية كقول الشاعر من البحر السريع: عبث الوجد بقلبي فاشتكى ... ألم الوجد فلبت أدمعي أيها الناس فؤادي شغف

_ 1 ديوان "الملاح التائه" لعلي محمود طه. شركة فن الطباعة. الطبعة الثانية. القاهرة 1941.

وهو من بغي الهوى لا يُنْصف كم أداريه ودمعي يكف أيها الشادان من علمكا ... بسهام اللحظ قتل السَّبُع وقد تكون أطوال الأشطر غير متساوية كما في الموشح التالي مما شاع في العصر الأندلسي المتأخر، وهو من بحر الرجز: ليلي طويل ولا معين يا قلب بعض الناس أما تلين؟ ومنه موشح ابن سناء الملك التالي، من السريع: وأمل لي حتى تراني عنك في معزل قلل فالراح كالعشق أن يزد يقتل لا أليم في شرب صهباء وفي عشق ريم فالنعيم عيش جديد ومدام قديم د- أسلوب الشعر الحر: وهو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد

التفعيلات من شطر إلى شطر. ويكون هذا التغير وفق قانون عروضي يتحكم فيه سندرسه بالتفصيل فيما بعد. هـ- أسلوب البند: ونحن نعزله فرعًا قائمًا بذاته، مع أنه في عدم استواء أشطره، ينبغي أن يصنف مع الشعر الحر. وإنما نعزله لأنه، في الواقع، شعر يجمع وزنين اثنين من دائرة واحدة هما الهزج والرمل وليس صحيحًا ما يذهب إليه الدارسون من أنه يقتصر على وزن واحد هو "الهزج". وبسبب كون البند ذا وزنين اثنين، خلافًا للأساليب الأخرى، فإنه من المباح فيه أن يكون له أكثر من ضرب واحد: ضربان يتعاقبان وفق خطة ذكية منسقة أجمل تنسيق كما سنبين في الفصل الخاص بالبند. "الشعر الحر" "البند". تخطيط يبين أساليب الوزن في الشعر العربي ومكان الشعر الحر منها.

تغعيلات الشعر الحر

تغعيلات الشعر الحر ... -2- تفعيلات الشعر الحر: أساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة. والمعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات، أو أطوال الأشطر تشترط بدءًا أن تكون التفعيلات في الأشطر متشابهة تمام التشابه، فينظم الشاعر، من بحر الرمل ذي التفعيلة الواحدة المكررة، أشطرًا تجري على هذا النسق مثلًا: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ويمضي على هذا النسق، حرًّا في اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد، غير خارج على القانون العروضي لبحر الرمل، جاريًا على السنن الشعرية التي أطاعها الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا.

ومن تفريعات هذا القانون البسيط أنه يمكن نظم الشعر الحر بتكرار أية تفعيلة مكررة في الشطر العربي المعروف، سواء أكان البحر صافيًا مثل المتقارب: فعولن فعولن فعولن فعولن أو ممزوجًا مثل السريع: مستفعلن مستفعلن فاعلن فإنما تكون الحرية، في الشعر الحر، في حدود التفعيلة المكررة في أصل الشطر العربي فإذا كانت التفعيلة منفردة في الشطر، كما في "فاعلن" في شطر السريع لم يصح للشاعر أن يخرج عليها، فلابد له أن يوردها في مكانها، أي في ختام كل شطر من قصيدته الحرة ذات البحر السريع. وإنما حدود حريته أن يزيد عدد التفعيلة "مستفعلن" -المكررة في أصل الشطر- وينقصها فيقول في قصيدته مثلًا: مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن وينبغي للشاعر أن يتذكر دائمًا أن أي شطر في مثل هذه القصيدة، ينتهي بتفعيلة غير "فاعلن" إنما هو شطر ناشز مغلوط فيه يخرج على قانون الأذن العربية خروجًا منفرًا. والواقع أن نظم الشعر الحر، بالبحور الصافية، أيسر على الشاعر من نظمه بالبحور الممزوجة؛ لأن وحدة التفعيلة هناك تضمن حرية أكبر،

وموسيقى أيسر فضلًا عن أنها لا تتعب الشاعر في الالتفات إلى تفعيلة معينة لا بد من مجيئها منفردة في خاتمة كل شطر. وحدة التفعيلة في الشعر المعاصر: في الفقرة السابقة استقرأنا القانون البسيط الذي ينبغي أن يجري عليه كل شعر حر سليم. ولو التفت إليه الشعراء لما وقع طائفة منهم في الأخطاء والنشوز. ولعل الشعر الحر لو نشأ في عصور العروبة السابقة لكان له شأن آخر. فقد كان الشعراء كثيري القراءة للشعر العربي السليم بحيث يتحسسون عروض الشعر ويسلمون من الخطإ ولو لم نضع لهم قانونًا يطيعونه. ذلك فضلًا عن أن دراسة العروض كانت جزءًا من ثقافة المثقف وأدب المتأدب. ومهما يكن من أمر الظروف والأسباب، فإن الناشئين من الشعراء المعاصرين -وحتى بعض الراسخين- لم يشخصوا معنى الحرية في الشعر الحر تشخيصًا واضحًا، ولم يعرفوا من الأشطر العربية، موضع التكرار الذي تبيحه الحرية الجديدة، ولعلهم ظنوا أنها حرية مطلقة لا ضابط لها، وأنها تبيح حتى الخروج على ما تقبله الأذن العربية والعروض الدارج، ولذلك نجدهم خلطوا بين بحور الشعر نفسها فنظموا قصائد حرة تجاورت فيها أشطر من البحر السريع وأخرى من الرجز كما في الفقرة التالية لسعدي يوسف: يا طائرًا أضناه طول السفرْ قلبي هنا في المطرْ يرقب ما تأتي به الأسفارْ إن الشطر الثالث في هذه القطعة خارج على البحر السريع الذي كان

منه الشطران الأولان كما نلاحظ إذا نحن وزنَّا الأشطر: مستفعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن مفعولْ وإنما هو بحر الرجز لأن "مفعولن" لا ترد في ضرب السريع على الإطلاق وإنما هي مما يرد في الرجز بحسب قواعد العروض العربي. على أن قانوننا البسيط للشعر الحر لا يحوج الشاعر حتى إلى أن يتعلم أسماء البحور. فإنما ندرك أن "مفعولْ" ناشزة هنا لمجرد أنها واردة في مكان "فاعلن" التي التزمتها الأشطر الباقية، وكانت تفعيلة منفردة تفرض نفسها على مكانها المعين من كل شطر. إن "مفعول" لا يصح أن ترد هنا، ذلك حتى لو فرضنا جدلًا أنها يمكن أن ترد في ضرب السريع. وسبب هذا أن الشاعر قد سبق له أن عين لنفسه خاتمة كل شطر فلا مفر له من الالتزام بها مهما كانت الظروف؛ لأن ذلك هو قانون العروض العربي. ولعل من الضروري أن نلفت النظر، في ختام هذا الفصل عن التفعيلات، إلى أن الشطر الأول في القصيدة الحرة يعين للشاعر ضرب كل شطر تالٍ يرد فيها، سواء أكان البحر صافيًا أم ممزوجًا. ومعنى هذا أن وحدة الضرب قانون جار في القصيدة العربية مهما كان أسلوبها: شطرين أو شطرًا ثابت الطول، أو شطرًا متغير الطول من بحر صاف، أو شطرًا متغير الطول من بحر ممزوج، ففي الحالات كلها ينبغي أن تحافظ على ثبات الضرب. وإنما تنحصر الحرية التي نملكها في حشو الشطر.

بحور الشعر الحر وتشكيلاته

-3- بحور الشعر الحر وتشكيلاته: 1- أوزان البحور: يجوز نظم الشعر الحر من نوعين من البحور الستة عشر التي وردت في العروض العربي هما: أ- البحور الصافية: وهي التي يتألف شطراها من تكرار تفعيلة واحدة ست مرات وهذه هي: الكامل، شطره "متفاعلن متفاعلن متفاعلن". الرمل، شطره "فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن". الهزج، شطره "مفاعيلن مفاعيلن". الرجز، شطره "مستفعلن مستفعلن مستفعلن". ومن البحور الصافية بحران اثنان يتألف كل شطر فيهما من أربع تفعيلات وهما:

المتقارب، شطره "فعولن فعولن فعولن فعولن". المتدارك، شطره "فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن". أو "فعلن فعلن فعلن فعلن". وينبغي لنا أن نضيف هنا وزن "مجزوء الوافر" "مفاعلتن مفاعلتن" فإنه من البحور الصافية وشطره تفعيلتان. كما أنني، في سنة 1974 قد وفقت إلى ابتكار وزن صافٍ جديد يجري هكذا: مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن وقد اشتققته من الوزن الخليلي لمعروف المسمى "مخلع البسيط". لأنني لاحظت أن هذا الوزن لو قسمناه إلى قسمين لكان كما يلي: مستفعلن فا علن فعولن وهي صورة يزيد قسمها الأول حرفًا على قسمها الثاني، فإذا أردنا أن يكون القسمان متساويين كان علينا أن نقول "مستفعلن مفعولن فعولن" ولكنه -بهذه الصيغة- ينقسم إلى قسمين متساويين في الواقع، مختلفين في الصيغة. أما حين نريد أن تكون الصيغة أيضًا مضبوطة فإن علينا أن نقول "فعلن فعولن فعلن فعولن". ولقد لاحظت أن هذا الوزن -بزيادة حرف واحد على مخلع البسيط- يكون بحرًا صافيًا وحدته تفعيلتان، ويمكن نظم الشعر الحر منه باعتبار الوحدة تفعيلتين اثنتين كما في الطول والبسيط. غير أن توحيد التفعيلتين في تفعيلة واحدة ممكن بإضافة سبب خفيف إلى التفعيلة "مستفعلن" وبذلك تصير "مستفعلاتن"، ويصبح الوزن كما يلي:

مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتن وهو وزن صاف يمكن استعماله في الشعر الحر في حرية تامة. والخروج الوحيد فيه على أسلوب الخليل في صياغة التفعيلات أننا أوردنا تفعيلة فيها علة زيادة في حشو البيت. ولكن قولنا "مستفعلاتن" ذا التفعيلة الواحدة أيسر على شاعر الشعر الحر من قولنا "فعلن فعولن" ذا التفعيلتين. وذلك يبرر مخالفتنا لطريقة الخليل مبدع العروض العربي كله. ولقد جربت استعمال هذا الوزن الجديد في ثلاث قصائد حرة أوضحها "نجمة الدم" التي صورت فيها أحداث لبنان الدامية سنة 1975 وقد قدمت هذا الوزن الجديد أول مرة إلى الجمهور داعيةً الشعراء إلى استعماله، في مجموعتي الشعرية "يغير ألوانه البحر" الصادرة ببغداد عام 1977 وبذلك أصبح عدد البحور الصافية ثمانية بحور. ب- البحور الممزوجة: وهي التي يتألف الشطر فيها من أكثر من تفعيلة واحدة على أن تتكرر إحدى التفعيلات. وهما بحران اثنان: السريع، شطره "مستفعلن مستفعلن فاعلن". الوافر، شطره "مفاعلتن مفاعلتن فعولن". أما البحور الصافية فإن أمرها يسير لأن الشعر الحر منها ينظم بتكرار التفعيلة الواحدة له بحسب ما يحتاج المعنى من مرات "على ألا يتجاوز العدد الحدود المقبولة للذوق العربي في الإيقاع". والمزالق في هذه البحور أقل منها في البحور الممزوجة، وذلك بسبب وحدة التفعيلة. وإنما تكمن مزالق أخطر في البحور ذات التفعيلتين كما سبق أن شرحنا.

إن القصيدة الحرة من البحر الوافر ينبغي أن تجري على هذا النسق مثلًا: مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن فعولن فيكون التنويع في عدد التفعيلة المكررة وحسب، أي في "مفاعلتين". ويشترط أن ينتهي كل شطر في القصيدة بالتفعيلة "فعولن" لأنها كانت منفردة في شطر الوافر الأصلي فلا يصح أن يقول الشاعر مثلًا: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن والواقع أن أكثر أخطاء الناشئين ترد في قصائدهم التي تنتهي بتفعيلة منفردة، فهم يزلقون إذ ذاك فيخرجون عنها. وهذا النوع من الغلط شائع في الشعر الحر شيوعًا ملحوظًا. وأما البحور الأخرى التي لم نتعرض لها، كالطويل والمديد والبسيط والمنسرح، فهي لا تصلح للشعر الحر على الإطلاق؛ لأنها ذات تفعيلات منوعة ولا تكرار فيها. وإنما يصح الشعر الحر في البحور التي كان التكرار قياسيًّا في تفعيلاتها كلها أو بعضها. وأما ما حاوله بعض الناشئين من أن يكتبوا شعرًا حرًّا من البحور الطويل فقد انتهى إلى الفشل. إن كل ما يمكن أن يصنع من هذا البحر أن ترتب تفعيلاته كما يلي مثلًا: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

وهذا ليس شعرًا حرًّا، كما هو واضح، إنما هو نظام وزن يقوم على شطر ونصف لا يتعداهما، وقد استفاد الشاعر من كون إحدى تشكيلات الطويل تتألف من تكرار التفعيلتين "فعولن مفاعيلن". وسبب تعذر إقامة شعر حر من هذا الوزن أن كون الوحدة تتألف من تفعيلتين بدلًا من تفعيلة واحدة، يجعل طول الشطر محددًا لا يعدو أن يكون "فعولن مفاعيلن" واحدة أو تكرارها "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن". وحتى هذا يبدو لاهثًا متعبًا بحيث تعسر قراءته ويخلو من ليونة الموسيقى. ولقد ورد في بعض الموشحات الأندلسية ما يشبه هذا حين كتب شاعر في قصيدة ضمنها أعجاز نونية ابن زيدون "من البسيط": غدا مناديا محكما فينا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا ووزنه كما يلي: مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن وهو في نظرنا نظم صلب تنقصه الليونة. والواقع أن في بعض الموشحات الأندلسية من الفوضى والغلط ما لا يقل عما في شعر الناشئين اليوم. ونحسب أن الأسباب واحدة في الحالتين. 2- أوزان التشكيلات: في حديثنا السابق عن أوزان البحور تناولنا الصورة الأساسية للبحر الشعري كما نص عليها علم العروض. وعلى أساس تلك الصورة قسمنا

البحور إلى صافية وممزوجة. ونتناول الآن الصور الفرعية التي يتناولها العروضيون باعتبارها أنواعًا من الأعاريض والضروب وهي صور يعرفها كل من له اطلاع على علم العروض وقد أطلقت عليها اسم "التشكيلات". إن البحر الكامل مثلًا في صورته الأساسية، يجري هكذا "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" ومنه قول المتنبي في بداية قصيدة له: اليوم عهدكم فأين الموعد؟ ... هيهات، ليس ليوم عهدكم غد إن التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أن دمي الذي تتقلد قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ ... وتنهدت فأجبتها: المتنهد والكامل، باعتباره هذا، بحر صاف لأنه ذو تفعيلة واحدة لا تتغير هي "متفاعلن". غير أن الكامل -مثل سواه من البحور- لا يستقر على صورته الصافية هذه، وإنما تعتري تفعيلته الأخيرة "أو ضربه" تغيرات فتحول إلى "فعلن" أو "مفعولن". للمتنبي مثلًا قصيدة تجري هكذا: "متفاعلن متفاعلن مفعولن" سر حل حيث تحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار

وترد للحارث بن حلزة اليشكري قصيدة ذات تشكيلة أخرى هي "متفاعلن متفاعلن فعلن" وهذا نموذج منها: لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس لا شيء فيها غير أصورة ... سفع الخدود يلحن كالشمس فحسبت فيها الركب أحدس في ... كل الأمور وكنت ذا حدس وإنه لواضح أن التشكيلتين: متفاعلن متفاعلن مفعولن متفاعلن متفاعلن فعلن لم تعودا تشكيلتين صافيتين، على الرغم من أنهما كليهما تنتميان إلى البحر الكامل ذي الوزن الصافي في أساسه. والصحيح أن هاتين التشكيلتين تدخلان تحت نطاق ما سميناه بالبحور الممزوجة وتخضعان لقانونها الذي شرحناه سابقًا. ومعنى ذلك أن التفعيلة المنفردة الطارئة على آخر التشكيلتين ينبغي أن تكرر في ختام كل شطر من أشطر القصيدة الحرة. وإنما التنويع في العدد مقصور على التفعيلة "متفاعلن" التي وردت أكثر من مرة في الشطر الأصلي. وهذا مثال: متفاعلن فعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلن متفاعلن متفاعلن فعلن متفاعلن فعلن

متفاعلن متفاعلن فعلن ولقد كان القانون العروضي الذي خضع له الشاعر العربي دائمًا أنه ليس يمكن أن تجتمع تشكيلتان في قصيدة واحدة، وإنما تقتصر كل قصيدة على تشكيلة واحدة يختارها الشاعر منذ مطلع القصيدة ويلازمها في كل بيت. وذلك ظاهر في قصيدة المتنبي والحارث اللتين اخترنا نماذج منهما وهو ظاهر في الشعر العربي كله، سواء منه ما نظم قبل العروض أو بعده. وإنما الحكم في ذلك إلى الأذن العربية التي تنفر بطبعها من أن ترد تشكيلتان في القصيدة الواحدة. والواقع أن الخليل بن أحمد إنما أطلق اسم الكامل على التشكيلات السابقة وغيرها جميعًا على سبيل تصنيف هذه الأشكال تحت صنف أساسي، لا على سبيل إقرار اجتماعها في قصيدة واحدة. والأمر كذلك في البحور الأخرى ذات التشكيلات المختلفة التي عزلها الشاعر العربي في شعره فلم يخلط بينها قط. شعراؤها المعاصرون والتشكيلات: هذه المبادئ الأولية التي حافظ عليها الشاعر العربي في العصور كلها قد اضطربت وكادت تَمَّحي في أيد الناشئين الذين تناولوا حركة الشعر الحر وأقبلوا على الاندفاع معها. ذلك أنهم خلطوا التشكيلات المتنافرة وأوردوها جميعًا في القصيدة الواحدة. فكان الشاعر يجمع في قصيدته المرقعة تشكيلات البحر كلها بلا مبالاة، فإذا قصيدة البحر الكامل تستحيل إلى خليط مما يلي جميعًا: متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلاتن متفاعلن فعلن متفاعلن متفاعلن مفعولن

متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلن ولا يخفى على كل ذي سمع شعري مدى التنافر بين هذه التشكيلات، حتى ليضطر المرء إلى أن يطوي قصائد هؤلاء الشعراء ولا يقرؤها مهملًا ما قد يكون فيها من معانٍ مبتكرة وصور جميلة وأفكار موحية. ولنقدم نموذجًا من هذا الخلط لجورج غانم من البحر الكامل: لكنهم متيقنون بأنهم صرعى حميَّا "متفاعلاتن": وعزاؤهم أن الحياة تقوم للأبطال هيَّا "متفاعلاتن": منا الصدى مني "فعلن": من مقلتي وفمي "فعلن": فأحسه نارًا ووعدًا وارتقابًا للغد "متفاعلن": هذه خمسة أشطر متجاورة من القصيدة قد أوردت في "ضربها" أربعًا من تشكيلات البحر الكامل. والأذن العربية لا تقبل في القصيدة الواحدة إلا تشكيلة واحدة، وعلى ذلك جرت آلاف القصائد منذ أقدم العصور حتى الآن. والواقع أن الشعراء -حتى في عصر الانحطاط- لم يقعوا في مثل هذا، فمع أن شعرهم كان سمجًا سقيم المعاني ركيك اللغة إلا أن موسيقى الشعر العربي كانت ترن في كيانهم فلا يستطيعون أن يخرجوا عنها. ومهما يكن فلا بد للشاعر أن يستوعب في ذهنه فكرة استقلال البحر عن التشكيلة، وأن يفهم أن لكل بحر من بحور الشعر تشكيلات مختلفة لا يمكن أن تتجاور في قصية واحدة. وإنما ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما، وأن تمضي على ذلك لا تحيد عنه إلى آخر شطر فيها. علينا أن نتذكر كذلك أن الشعر الحر ليس خروجًا على قوانين الأذن

العربية والعروض العربي، وإنما ينبغي أن يجري تمام الجريان على تلك القوانين خاضعًا لكل ما يرد من صور الزحاف والعلل والضروب والمجزوء والمشطور. وأن أية قصيدة حرة لا تقبل التقطيع الكامل على أساس العروض القديم -الذي لا عروض سواه لشعرنا العربي- لهي قصيدة ركيكة الموسيقى مختلة الوزن، ولسوف ترفضها الفطرة العربية السليمة ولو لم تعرف العروض: ونحن نقول هذا لا لأننا نعادي التجديد، وإنما لأن تفعيلات الشعر ومثلها النسب في الموسيقى، شيء ثابت في كل لغة ثبوت الأرقام في الرياضيات، فمهما تجددت العصور والأفكار ونمت وصعدت فإن الأرقام ونسب الشعر والموسيقى تبقى ثابتة لا تتغير. وأما ما يتغير فهو الأشكال والأنماط التي تُبنى من تلك النسب، ذلك كمثل قوس قزح، يبقى إلى الأبد محتفظًا بالألوان كلها، لا يصنع الفنانون المجدون إلا خلط تلك الألوان والتجديد في رصفها ومزجها والتصوير بها.

الشعر الحر شعر ذو شطر واحد

-4- الشعر الحر شعر ذو شطر واحد: أبرز الفوارق العروضية بين أسلوب الشطرين وأسلوب الشطر الواحد فارقان اثنان لا بد لنا أن نلتفت إليهما: الأول- أن القافية، سواء أكانت موحدة أم لا ترد في نهاية كل شطر من الشعر ذي الشطر الواحد، بينما ترد في آخر الشطر الثاني من البيت في أسلوب الشطرين. ومعنى هذا أن الشطر الأول من البيت يعفى من القافية، في حين يتمسك كل شطر من الشر الحر بها لأنه شعر ذو شطر واحد. الثاني- أن الشطرين في البيت لا يتساويان تساويًا عروضيًّا وإنما قد يباح في الشطر الأول ما لا يباح في الثاني، ومن ثم فإن قصيدة الشطرين تحتاج أحيانًا إلى تشكيلتين اثنتين تجريان على نسق ثابت بحيث ترد التشكيلة عينها في صدور الأبيات، والتشكيلة الأخرى في الأعجاز. وهذه الحرية، حرية إيراد تشكيلتين، غير مباحة في الشعر الحر لأنه ذو شطر واحد. وسبب هذا المنع أن عدم انتظام وجود شطرين في هذا الشعر يضعف من إحساس السمع بموسيقى تشكيلتين اثنتين تتعاقبان ويعطي كل منهما وقعًا معينًا يختلف عن وقع الأخرى، فإذا أعطينا القصيدة تشكيلتين

بدلًا من واحدة، وكل شطر منها فوق ذلك طويلًا وآخر أقصر وثالث أطول اجتمع على القصيدة تعقيدان: تعقيد وجود تشكيلتين تستوعبان اهتمام الذهن، وتعقيد الأطوال المختلفة. ويؤدي ذلك إلى أن يفقد السمع إحساسه بالموسيقى ويتيه بين تنوع الطول وتنوع التشكيلة. وأما نظام الشطر الواحد ذي التشكيلة الواحدة الثابتة، مثل الأرجوزة، فإنه يساعد السمع على تذوق الموسيقى، خاصة وأن القافية الموحدة، برنينها وعلو نبرتها، لم تعد موجودة في الشعر الحر إلا في النادر النادر. ولا بد لنا أن نلاحظ أن اختلاف أحد الشطرين عن الآخر في أسلوب الشطرين هو الذي جعل وحدة الوزن البيت لا الشطر، وهو الذي جعل العروضيين يقسمون البيت أقسامًا يطلقون عليها أسماء كما يلي: الصدر اسم الشطر الأول. العجز اسم الشطر الثاني. العروض اسم التفعيلة الأخيرة من الصدر. الضرب اسم التفعيلة الأخيرة من العجز. الحشو كل ما عدا العروض والضرب في البيت. وكانت هذه الأسماء ضرورية، يستعين بها العروضيون على تصنيف الأعاريض والضروب التي وردت في كل بحر من بحور الشعر العربي. فقالوا مثلًا العروض الصحيحة والضرب المقطوع، والعروض المجزوءة والضرب المذيل ونحو ذلك، وذلك هو ما سميته "التشكيلة" في الفصول السابقة. وكان الشاعر العربي يهتدي بسليقته الشعرية إلى العروض والضرب الملائمين في كل قصيدة يقولها، وكان يطيع ذلك النموذج عبر القصيدة كلها فلا ترد فيها أكثر من تشكيلتين اثنتين إحداهما للصدور والأخرى للأعجاز "ما عدا البيت المصرع فإن صدره وعجزه يستويان". وأما حين كان الشاعر ينظم شعرًا ذا شطر واحد كالأرجوزة، فإنه

كان يجعل القصيدة ذات تشكيلة واحدة تتكرر في كل شطر فلا يخرج عليها قط. ولم ترد التشكيلتان مجتمعتين قط إلا في القصيدة ذات الشطرين. وهذا منطقي بالمعنى العروضي، فضلًا عن أن الأذن العربية ترتاح إليه. ذلك هو السبب الذي يجعل الشعر الحر لا يقبل أن ترد فيه تشكيلتان. فإنما التشكيلتان مزية يمنحها الشاعر إذا هو نظم قصيدة ذات شطرين اثنين يحافظ فيهما على التناسق، وعلى تساوي التفعيلات في كل شطر، وعلى تقابل كل صدر مع الصدور السابقة واللاحقة في نظام وتسلسل مضبوطين، وأما الحرية التي يعطيها الشعر الحر للشاعر فإن في مقابلها تقييدًا في التشكيلة فيقتصر الشاعر في قصيدته على تشكيلة واحدة لا يتخطاها. وإنما يفرض هذا التقييد لأسباب جمالية وذوقية؛ لأن الموسيقى التي هي قوام كل شعر، تضعف بوجود التفاوت في طول الأشطر، بحيث ينبغي للشاعر أن يسندها ويقويها بالمحافظة على وحدة التشكيلة، وبذلك يستطيع الشطر الحر أن يرن ويبعث في وعي السامع لحنًا ويخلق له جوًّا شعريًّا جميلًا. على أن الشعراء الجدد لم يتقيدوا بهذا بل خرجوا عليه. ولم يكن ذلك منهم عن سبق إصرار -فيما أعتقد- وإنما كان أساسه قلة المران وضآلة المعرفة بالشعر العربي وعروضه. ذلك أن طائفة من هؤلاء الشعراء لا تنقصهم الموهبة ولا الأصالة وقد عرفنا لهم شعرًا مقبولًا بأسلوب الشطرين. وكان الخطأ البارز، في شعرهم الحر أنهم خلطوا في القصيدة الواحدة بين تشكيلات البحر كلها على تنافرها. على أن بعضهم كان يقع في غلط أبسط من هذا فيورد في القصيدة الحرة التشكيلتين اللتين تردان عروضيًّا في أسلوب الشطرين. وهذا نموذج من شعر خليل حاوي من بحر الرجز. مستفعلن مستفعلن مستفعلن داري التي أبحرتِ غربتِ معي "مستفعلن": وكنتِ خير دار "فعول":

في دوخة البحار "فعول": في غربتي وغرفتي "مستفعلن": ينمو على عتبتها الغبار1 "فعولْ": ويتجلى أسلوب الشطرين في هذا الشعر أوضح لو أضفنا إليه بعض التفعيلات الناقصة فإنه سرعان ما يبدو هكذا: داري التي أبحرتِ غربتِ معي ... وكنت "لي في البعد" خير دار في غربتي وغرفتي "ساكنة" ... ينمو على عتبتها الغبار وهذا شعر ذو شطرين جار على القانون. وإنما الخطأ فيه أن ناظمه أراد أن يجمع فيه بين الراحتين الاثنتين: تنوع أطوال الأشطر، ووجود أكثر من تشكيلة، وذلك لا يكون إلا على حساب موسيقى القصيدة فإنها تفقد الجمال والرنين. والحق أن الوقوع في هذا الخطإ ليس نادرًا في الشعر الحر الذي ينظمونه اليوم. وهو كما بيَّنَّا خروج صريح على مبادئ الشعر الحر ينبغي للشاعر أن يتحاشى الوقوع فيه.

_ 1 قصيدة "السندباد في رحلته الثامنة" لخليل حاوي، مجلة الآداب، بيروت "العدد الخامس 1960".

الفصل الثاني: المشاكل الفرعية في الشعر الحر

الفصل الثاني: المشاكل الفرعية في الشعر الحر. توطئة: حين وضع الخليل بن أحمد، المتوفى سنة 75هـ1 قواعد العروض العربي القديم، استقرأها من الشعر العربي المسموع، فحصر الأوزان المعروفة جميعًا ووضع لها مقاييس عامة شاملة سماها البحور، ثم تناول التغييرات التي تعتري تلك البحور، والتفريعات عنها، وما يعتريها من زحاف وعلل واستخلص لها كلها قوانين ومقاييس لبى بها حاجة الشعر والنقد في زمانه. وكانت مقاييسه تلك مناسبة لزمانه كل المناسبة لأنها كانت مستقرأة من شعر ذلك الزمن فحصرته كله ولم تترك منه شيئًا غير مضبوط بقانون، وكان غرضه من ذلك أن يستطيع الناقد تقويم خطإ الناظم حين يخطئ على أساس علمي ثابت لا يعتريه النقص.

_ 1 في تاريخ وفاة الخليل خلاف. راجع نزهة الألباء للأنباري، ووفيات الأعيان لابن خلكان.

وفي زماننا نحن نشأت حركة الشعر الحر وجاءت بأسلوب جديد في رصف التفعيلات الخليلية خرج على الأسلوب الشائع. وأدت هذه الحركة إلى أن تنشأ مشكلات عروضية لم تكن تخطر على بال الخليل؛ لأن العرب لم يقعوا في مثلها، في قصائدهم. ولذلك بات علينا أن نستخلص، في هذا العصر، القانون العروضي الذي يضبط هذه المشكلات ويحمي الشاعر والناظم وناقد الشعر من الوقوع فيها. ومع أن هذه المشكلات لا تخرجنا من نطاق العروض الخليلي الرائع، ولا تحوجنا إلى استعمال كثير من الاصطلاحات الجديدة، غير أننا نحتاج -مع ذلك- إلى أن نخص الشعر الحر بفصل خاص نضيفه إلى كتب العروض العربي، وندرج فيه -كما فعلنا في هذا الفصل وسوابقه- القوانين الخاصة بالشعر الحر، والحدود العروضية التي لا يصح له أن يتخطاها. وكما كان اعتماد الخليل، في ضبطه للبحور والسقطات في زمانه على حسه الشعري، وذوقه وما يحفظ من الشعر العربي، فقد كان اعتمادي أنا أيضًا على حس الشعري وذوقي وما أحفظ من الشعر العربي. والفضل فيما قد أكون وفقت إليه من قاعدة أو قانون يرجع إلى الخليل العظيم الذي رصف الطريق لكل شعر عربي خير رصف وأدقه، وابتدع العروض ابتداعًا على غير نمط سابق. ولست أراني فعلت في هذا الفصل عن عروض الشعر الحر، أكثر من استقراء قوانين جديدة على أساس الخطوط الكبرى التي رصفها ذلك العالم الفذ. وبعد فإن لي ملاحظات حول طائفة من التفاصيل المتعلقة بالشعر الحر، وهي ملاحظات نضجت في نفسي عبر سنين كثيرة كنت خلالها أتابع ما تنشره المجلات الأدبية والصحف اليومية من هذا الشعر. وقد انتهيت بعد طول التأمل إلى أن علينا في أي عروض نكتبه للشعر الحر، أن ننتبه إلى أربع قضايا فيه هي:

1- الوتد المجموع. 2- الزحاف. 3- التدوير. 4- التشكيلات الخماسية والتساعية. ولا بد لنا من أن نلحق بهذه القضايا الأربع العامة قضيتين خاصتين هما مسألة ورود "مستفعلان" في ضرب الرجز، و"فاعلُ" في حشو الخبب. علينا أن نشير كذلك إلى أن الخليل هو الذي وضع الاصطلاحات "الوتد"، "الزحاف"، "التدوير" ونحن لا نحتاج إلى تغييرها في عروض الشعر الحر. وإنما ينحصر ما نحتاج إليه، في تعيين الأحكام الخاصة للوتد والزحاف والتدوير في الشعر الحر نفسه؛ لأن أحكامها هنا تختلف بالضرورة عن أحكامها في شعر الشطرين وغيره، وذلك بسبب الفروق التي شرحناها بين أسلوب الشطرين وأسلوب الشطر الواحد المتغير الطول.

الوتد المجموع

-1- الوتد المجموع: يعرف العروضيون "الوتد المجموع" بأنه مجموع ثلاثة أحرف، اثنان منهما متحركان والثالث ساكن كقولنا "لقد، هوى، صحا، نعم". ومن هذا نستطيع أن نستخلص أن هذا الوتد يختم التفعيلات "فاعلن، متفاعلن، مستفعلن" ومعنى هذا أنه يرد في أربعة من بحور الشعر الحر هي: 1- المتدارك: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن. 2- الرجز، مستفعلن مستفعلن مستفعلن. 3- الكامل، متفاعلن متفاعلن متفاعلن. 4- السريع، مستفعلن مستفعلن فاعلن. وقد اقتصرت كتب العروض العربي، قديمها وحديثها، على تقديم الوتد تقديمًا عابرًا في بدايات أبحاث العروض، ثم لا تعود إلى ذكره.

قط. ونحن اليوم في فترة من تاريخ الشعر العربي تحتم علينا أن نعنى بهذا الوتد، خاصة في تلك التفعيلات التي تنتهي به مما ذكرنا. والذي نلاحظه -وهي ملاحظة شخصية- أن الوتد في الشعر العربي يتصف بشيء من الصلادة والقسوة، ويجنح من ثم، إلى أن يتحكم في الكلمة التي يرد بها، ويرفض أن يسمح للشاعر بتخطيه. ومعنى هذا، إذا أردنا التبسيط، أن الوتد يبلغ من القوة بحيث يستطيع أن يشق الكلمة التي يرد في أولها إلى شقين. مثال ذلك أن نقول مثلًا: شيخ المعرة شاعر ... مستفعلن متفاعلن إن الوتد الأول هنا هو الحروف الثلاثة "معر" في كلمة "المعرة" وقد جاء من الكلمة في وسطها، وبذلك شقها إلى شقين أحدهما في آخر التفعيلة "مستفعلن" والآخر في أول التفعيلة "متفاعلن". وتفسير ما نذهب إليه أن التفعيلة، بمعناها الشعري، وقفة موسيقية ينقطع عندها النغم، وهذه الخاصة أبرز وأشد في التفعيلات الوتدية التي أشرنا إليها، لما ذكرناه من قسوة الوتد وصلادته، فإذا توقف الصوت عند آخر الوتد انقسمت الكلمة إلى قسمين تتخللهما وقفة قصيرة وذلك مستكره ينفر منه السمع الشاعري نفورًا ظاهرًا. إن قسوة الوتد هذه تجعل من الكياسة الشعرية أن يحاول الشاعر إيراده في آخر الكلمة لكي يختمها به ويقويها، بدلًا من أن يورده في أولها فيقطع أوصالها ويضيع تماسكها. هذا هو القانون العام، وقد نحتاج إلى بعض الاستثناءات فيه بالنسبة للمواقع التي يرد فيها كما سنذكر. وقد يتساءل القارئ: ماذا صنع آلاف الشعراء العرب من أسلافنا لتحاشي مشكلات هذا الوتد المشاكس إذن عبر القرون؟ ولماذا لم يقعوا في

شركه إذا كان يستدعي هذا الالتفات الخاص من الشاعر؟ والجواب أنهم كانوا يتحاشونه بالسليقة؛ لأن طبيعة الكلمة العربية وطبيعة موسيقى الأوزان كانت ترفض للشاعر أن يقع في مزالق الوتد، فيعرف كيف يتخلص منه، وتلهمه فطرته الموسيقية أن يلجأ إلى واحدة من الطرق التالية للتخلص من أشواك الوتد: 1- أن يورد الشاعر الوتد في آخر الكلمة لا في أولها كأن يقول "متجافيًا" أو "زهر الربى" أو "ذاهبًا". 2- أن يورد الوتد في النصف الأول من الكلمة على أن يكون آخره حرف مد. مثال ذلك قول ابن مالك: وأستعين الله في ألفيه فالوتد هو الحروف "تعي" في كلمة "وأستعين" وآخره كما نرى ياء. وقد خفف ذلك من قسوته وجعل شوكته تكسر في حرف المد. 3- ومما يخفف وقوع الوتد في الجزء الأول من الكلمة أن يكون آخر الوتد أل التعريف مثل قول مصطفى جمال الدين من قصيدة رجزية1:

_ 1 قصيدة "حسونيات" مجموعة "عيناك واللحن القديم" للشاعر مصطفى جمال الدين، مطبعة الأديبة "بغداد 1972" ص103.

أهلا بعينيك أبا فلاح ... يا حاشد القلوب بالأفراح فإن الوتدين في الشطر الثاني مختومان بأل التعريف "شدأل" "ب بأل". ويتكرر هذا في أبياته التالية أيضًا: وحاصد اليأس وزارع المنى ... وساكب البرء على الجراح وجاعل الليل لفرط بهجة ... أجمل من توهج الصباح ويبدو لي أن سبب ليونة الوتد المختوم بأل التعريف أن أل هذه ليست جزءًا من الكلمة، وإنما هي أداة تضاف إلى الاسم، فالوتد المنتهي بها لا يمزق الكلمة. ولكن الذي يلوح لي، أن علينا أن نستثني من هذه القاعدة، الوتد الذي ينتهي بأل التعريف الواقعة خاتمة لعروض البيت، فإنها هنا لا تكسر شوكة الوتد وإنما يبقى مع وجودها حادًّا ويحطم جمالية البيت، ومن هذا بيت مصطفى جمال الدين نفسه من قصيدة من البحر الكامل: بغداد بالسحر المندى بالشذى ... فواح من حلل النسائم يقطر1 ولا يقولن قائل إن هذا مقبول بدليل وقوعه في شعر شعرائنا القدماء، ذلك أنه كان يرد لديهم على ندرة. أما أنا فقد كنت طوال حياتي الشعرية أنفر منه ووقعت فيه مضطرة في قصيدتي "إلى عيني الحزينتين" المنظومة سنة 1945 في أوائل حياتي الشعرية ولم يكن جناحي قد قوي على الطيران فأوقعت التدوير في بحر وتدي عندما قلت:

_ 1 قصيدة "بغداد" المصدر السابق ص21.

ورأيتما خلل الدموع مفاتن الـ ... ماضي وطاف الشوق في أفقيكما وذلك لأن وقوع أل التعريف في ختام عروض البيت يشق الكلمة التي وقع فيها التدوير إلى شقين ولا يلتئم الجرح. ولابد لي أن أنبه إلى أن هذا جائز عندما يقع في عروض المجزوء مثل مجزوء الكامل، خلافًا للوافي. وهي قاعدة غريبة أشرت إليها في موضع آخر من هذا الفصل ووقفت عاجزة عن تفسيرها، فما الذي يلطف ضيقنا ويلينه ونحن نقرأ مجزوء الكامل الذي تنتهي عروضه بأل التعريف، في حين نستقبح ذلك في وافي الكامل؟ فلينظر القارئ إلى انسياب أبيات علي الجارم المجزوءة: يَخطِرْنَ حَتَّى تَعْجَبَ الْأَغْصَانُ مِنْ لِيِن الْقُدُودِ يَعْبَثْنَ بِالأًيَّامِ وَالْأَيَّامُ أَعْبَثُ مِنْ وَلِيدِ هَذَا أَوَانُ الْعَدْوِ لاَ الْإِبْطَاءِ وَالْمَشْيِ الْوَئِيد إن الأشطر هنا متموجة، مناسبة، مترقرقة وكأنها موجة عذبة تعلو وتهبط في وداعة ويسر. ويكاد الشطران يكونان شطرًا واحدًا متناسقًا فلا وقفة بينهما. 4- ومع ذلك فإن إيقاف الوتد على حرف صلد في منتصف كلمة ليس ممنوعًا. وإنما يرد في الشعر بشروط. وذلك بأن يكون وقوعه كذلك نادرًا بحيث يرد إلى جواره، وتد يختم كلمة، ووتد آخر يقف على حرف مد، فإن وجود هذه الأوتاد التي كسرت حدتها يجعل الأذن تتقبل ورود وتد واحد عنيف في البيت، لا بل إن وروده قد يضيف تنويعًا إلى التفعيلات لقلته وندرته.

الوتد في شعر المعاصرين: في الحق أن شعراءنا الذين نظموا الشعر الحر يقابلون الوتد بقلة اكتراث ويتركونه، في أحيان كثيرة يهدم ألحانهم ويضعف موسيقى شعرهم دون أن يحسوا، ولا نظن ذلك يقع لهم لأن العلم بالعروض ينقصهم، فالعروضيون كما قلنا لا يتعرضون إلى هذه القضية قط، وإنما لأن معرفة شعرائنا بالشعر العربي السليم أقل مما ينبغي لهم. وقد يكون بعضهم من مدمني قراءة الشعر المعاصر وهو غالبًا غير سالم من الأخطاء العروضية، وليس مثلًا يحتذى في الذوق الموسيقي. وإلا فلا تعليل لدينا لما نراه في القصائد الحديثة من رداءة في الصياغة وركاكة في الأنغام. وأغلب الظن أن القارئ يتلو القصيدة ويحسها ضعيفة الوزن ناشزة النغم دون أن يدري سبب ذلك فيها. وهو غالبًا يخرج مغتاظًا مهيأً لأن يهاجم الشعر الحر في أول فرصة تسنح له. هذا مثلًا بيت لفدوى طوقان من قصيدة ضعيف الوزن1. قالت من الرجز: هنا استردت ذاتي التي تحطمت بأيد الآخرين. إن الأوتاد في هذا الشطر هي: ترد في كلمة "استردت" تي الـ في كلمة "ذاتي التي" تحط في كلمة "تحطمت" بأيـ في كلمة بأيدي

_ 1 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب. بيروت عدد أيار 1961.

وهذا تقطيع البيت1: ومنه نرى أن الشاعرة قد وقفت أربع مرات على حرف صلد غير ممدود بينها الياء الساكنة غير الممدودة، وحكمها في هذا الموضع حكم الحرف الصلد. وهذا كما نرى من قراءة البيت، قد ألقى على الكلمات عبثًا ثقيلًا وكسرها تكسيرًا. والبيت، بعد ذلك، خالٍ من ليونة الموسيقى والتدفق الشعري الرقيق الذي يرد في بحر الرجز عادة. وذلك لأن الوتد هنا أقوى من الكلمة، بحيث قطع أوصالها. ولو كانت الشاعرة اختارت مواقف ساكنة على حروف ممدودة ينتهي عندها الوتد كما سبق أن شرحنا، أو لو أنها على الأقل قد فعلت ذلك في تفعيلتين من أربع لساعد ذلك الشطر. ولكنها لم تفعل ذلك وإنما وقعت في عكسه فجمعت بين الوقوف على حرف صلد، والوقوف في وسط الكلمة. فكانت الكلمة تبدأ في وسط التفعيلة وتنتهي في وسط التفعيلة التالية. وكذلك الأمر في التفعيلات فهي تبدأ في منتصف كلمة وتنتهي في منتصف كلمة تالية، وكل ذلك ظاهر في تقطيع الشطر الذي أوردناه سابقًا. وهو أمر شائع في الشعر الحر الذي نظموه في السنوات الأخيرة، فليست فدوى هي وحدها التي وقعت فيه وإنما اخترنا الشطر من شعرها لأنها تحسن النظم ومثل هذا في شعرها نادر. ونحب أن نشير إلى أن الوتد في تفعيلة الرجز "مستفعلن" أقسى منه في تفعيلة الكامل "متفاعلن" وذلك لأن ورود السبب الثقيل

_ آثرنا رسم الكلمات المقطعة على غير طريقة العروضيين في جمع الحروف التفعيلة وحذف ما لا يلفظ منها. وذلك رغبة منا في تسهيل الأمر على القارئ الذي لم يألف العروض.

"مت" في أول تفعيلة الكامل يخفف من قسوة الوتد في ختام التفعيلة بسبب موازنته له، وكأن ثقل السبب يقابل قسوة الوتد. وأما في "مستفعلن" حيث السبب الخفيف "مس" فإن الوتد في آخرها يصبح أشد قسوة لوداعة السببين الخفيفين السابقين له. ولذلك نجد الرجز أسرع انزلاقًا من الكامل إلى النثرية وضعف الموسيقى، على الرغم مما نراه من سهولة النظم على الرجز بحيث سماه أسلافنا "حمار الشعراء". ومصداق ما نقول إن أخطاء الشعراء في الشعر الحر المكتوب على وزن الرجز أكثر بكثير من أخطائهم في ذلك الشعر وهو مكتوب على وزن الكامل. ومع ذلك كله فإن قواعد الوتد في الرجز تنطبق على قواعده في الكامل ولو بدرجة أخف. ولذلك نلاحظ أن التدوير نادر الورود في البحر الكامل والبحر الطويل1 ويكاد يكون مستكرهًا ولو لم تنص كتب العروض على منعه. وإنما ذلك ملحوظ في دواوين الشعراء أنفسهم، ولسنا نراهم وقعوا فيه إلا اضطرارًا. وخلاصة الرأي أن من مستلزمات الوتد أن يقف بين الحين والحين في نهاية الكلمة، وأن تكسر شوكته ببعض الوسائل الأخرى التي ذكرناها. ذلك أمر يحتمه الذوق وتتطلبه الأذن الشعرية، وقد صنعه الشعراء، وإن كان العروضيون لم يقرروه قط. حتى ابن مالك، في ألفيته النحوية المنظومة، قد التزمه. والحق أن منظومته، من وجهة نظر العروض، تتمتع بموسيقى مقبولة نفتقدها في أكثر شعر الرجز الحديث الذي شاع في السنين الماضية. وإنه لعار يحلق بالشعر الحديث أن تكون "منظومات" أسلافنا التعليمية أوفر موسيقى من قصائد شعرائنا المعاصرين. ونحن أشد أسفًا على ذلك لأننا ندري أن شعراءنا لا يقلون مواهب عن أولئك

_ 1 تفعيلات الطويل في إحدى تشكيلاته "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن" وهي تنتهي بوتد.

القدماء، غير أن الاستهانة بالقواعد وقلة المبالاة بالخطإ قد باتت في عصرنا شبه نمط مضلل وقع فيه الجيل. وليس الذنب ذنب الحرية كما يظن أناس يحبون التقليد والجمود، وإنما هو ذنب الجهل وضعف السمع حينًا وذنب عدم المبالاة حينًا.

الزحاف

-2- الزحاف: يعرف العروضيون الزحاف بأنه "تغيير يلحق بثواني أسباب الأجزاء في البيت" وهذه أمثلة له تعنينا في الشعر الحر التفعيلة زحافها اسمها العروضي متفاعلن مستفعلن الإضمار مستفعلن مفاعلن الخبن فاعلن فعلن الخبن مفاعلتن مفاعيلن العصب وأكثر ما يعنينا من هذه الأمثلة هنا، الزحاف الذي يمس تفعيلة الرجز فيحيلها من "مستفعلن" إلى "مفاعلن"، وهو مرض شاع شيوعًا فادحًا في الشعر الحر، واستهان به الشعراء، أو لم يحسوا به فتركوه يعيث في شعرهم ويفسد أنغامه. والواقع أن هذا الزحاف مباح في وزن الرجز، وقد ورد في شعر أسلافنا كثيرًا وكان وروده جميلًا مقبولًا لا مأخذ عليه. وإنما أبيح ذلك في وزن الرجز لأنه يدخل تنويعًا وتلوينًا على التفعيلة "مستفعلن".

حيث الانتقال منها إلى زحافها، بين الحين والحين، يدخل على القصائد الرجزية جمالًا وموسيقية. ولم يزل الشاعر العربي الحديث يلجأ إلى هذا التنويع الذي هو صفة عامة في بحر الرجز تدخل في تركيبه، والعروضيون يعترفون بها ويفسحون لها مجالًا في كتبهم وقواعدهم. غير أن ما لم يكن يفعله الشاعر القديم قط، وإنما ينزلق إليه الشاعر المعاصر، هو أن يكتب أبياتًا كاملة، وأشطرًا، تفعيلاتها كلها مصابة بالزحاف. هذا، مثلًا، نموذج من شعر صلاح عبد الصبور. قال من الرجز1: وحين يقبل الماء يقفر الطريق والظلام محنة الغريب وهو كما نلاحظ شطر ذو ست تفعيلات وهذا تقطيعه: ومنه ندرك أن تفعيلات البيت الست جميعها مصابة بالزحاف دون أن يعبأ الشاعر، ولقد أصبح البيت، بسبب هذا الزحاف الثقيل المتعب، ركيك الإيقاع، ضعيف البناء، منفرًا للسمع. والواقع أنه يجمع ثلاثة من خمسة من عيوب الشعر الحر التي ندرسها في هذا الفصل، وللشاعر مندوحة عن ذلك بما يملك من رهافة شعرية نلمسها في بعض قصائده الأخرى. وكل ما يعوزه الانتباه واستكبار الخطإ. وأما سائر أصناف الزحاف التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل فسوف نتخطاها لأننا لا نراها تحدث إشكالات خاصة بالشعر الحر. ومنها زحاف

_ 1 قصيدة "رحلة في الليل"، ديوان "الناس في بلادي" لصلاح عبد الصبور. بيروت 1957. ويلاحظ أن الشاعر يسيئ استعمال الوتد في تفعيلاته الأولى والثالثة والرابعة والخامسة.

التفعيلة "فاعلن" وهو "فعلن" وقد ألف الشعراء أن يعزلوه في قصائد كاملة، وقلما يستعملون فيها أصل التفعيلة "فاعلن" إلا في النادر. ومن وزن المتدارك الأصلي "فاعلن" في شعرنا المعاصر قول ميخائيل نعيمة: هللي هللي يا رياح ... وانسجي حول نومي وشاح1 وبعد فما الزحاف، إذا أردنا أن ننظر إليه نظرة بسيطة، ونخرج عن تعريفات العروضيين؟ إنه علة تعتري البيت وليس أساسًا فيه. أو هو مرض يصيب التفعيلة، واختلال صغير نحبه لأنه لا يرد كثيرًا. تمامًا كما قد نحب خصامًا صغيرًا مع أصدقاء نعزهم، أو زكامًا يداهمنا يومين ثم ينصرف تاركًا لنا إحساسًا أقوى بعذوبة العافية وجمالها. فماذا يحدث لنا لو أن حياتنا استحالت كلها إلى خصومات وزكامات لا تنتهي؟ ألن يكون طعم الحياة إذ ذاك يشبه وقع قصيدة كل تفعيلاتها زحاف؟ ومن المؤسف أن يكون النادر اليوم في قصائد الرجز هو التفعيلة السليمة. إن شعرنا صار من المرض بحيث كدنا ننسى طعم العافية. وقد تفشى الزحاف الذي هو، في نظرنا، مسئول إلى حد كبير عن شناعة الإيقاع، والنثرية، وغيرهما مما يشكو الجمهور وجوده في الشعر الحر. والحق مع الجمهور.

_ 1 ترد هذه التفعيلة في شعري غير قليل. ومنها في شظايا ورماد القصيدتان "الأفعوان" و"تواريخ قديمة جديدة" وفي قرارة الموجة القصائد "أغنية" و"سخرية الرماد" و"يحكى أن حفارين".

التدوير

-3- التدوير: البيت المدور، في تعريف العروضيين، هو ذلك الذي "اشترك شطراه في كلمة واحدة بأن يكون بعضها في الشطر الأول وبعضها في الشطر الثاني" ومعنى ذلك أن تمام وزن الشطر يكون بجزء من كلمة نموذج ذلك قول المتنبي من الخفيف: أنا في أمة تداركها اللـ ... ـه غريب كصالح في ثمود فكلمة "الله" قد وقع بعضها في آخر الشطر الأول وبعضها في أول الشطر الثاني. وللتدوير، في نظرنا، فائدة شعرية وليس مجرد اضطرار يلجأ إليه الشاعر. ذلك أنه يسبغ على البيت غنائية وليونة لأنه يمده ويطيل نغماته كما في هذه الأبيات من شعر أمجد الطرابلسي وهي من البحر الخفيف: وحدة العرب قد تضوع في الجو ... شذاها مثل الخميل النضير

وحدة العرب مزقت حجب الليـ ... ـل وشعت ملء الفضاء المنير1 وكما في أبيات علي محمود طه، من الهزج: إذا ما طافَ بالشُّرْفَـ ... ـةِ ضوء القمر المضْنَى ورفَّ عليكِ مثل الحلْـ ... ـمِ أو إشراقِه المعنى وأنتِ على فراشِ الطُّهْـ ... ـرِ كالزنبقة الوَسْنى وإنما المحذور في "التدوير" هو أن العروضيين لم يتناولوه تناولًا ذوقيًّا، بل كان كل ما صنعوا أنهم على جواز وقوعه بين الأشطر، دونما إشارة إلى المواضع التي يمتنع فيها لأن الذوق لا يستسيغه. والواقع أن كل شاعر مرهف الحاسة، ممن مارس النظم السليم، ونما سمعه الشعري، لا بد أن يدرك بالفطرة أن هناك قاعدة خفية تتحكم في التدوير بحيث يبدو في مواضع ناشزًا يؤذي السمع. ولسوف نجد، حين ندرس دواوين الشعر العربي الجيد، أن الشعراء كانوا بفطرتهم يتحاشون إيراد التدوير في بعض المواضع، ولو أن كتب العروض لم تشر إلى ذلك على الإطلاق. وإذن فما هذه المواضع التي ينبغي للشاعر فيها أن يتحاشى التدوير؟ ملاحظتي الشخصية أن التدوير يسوغ في كل شطر تنتهي عروضه بسبب خفيف مثل "فعولن" في بيتي عمر أبو ريشة، من المتقارب: رويدك لا تجرحي صمتك الر ... هيب ولا تهتكي مئزره

_ 1 قصيدة "مصرع الصقر" لأمجد الطرابلسي. "مجلة الرسالة". المجلد الأول من السنة السابعة ص1060. 2 قصيدة "القمر العاشق" لعلي محمود طه. ديوان ليالي الملاح التائه. شركة فن الطباعة - القاهرة.

فإني أحس به همهمات الـ ... وحوش وخشخشة المقبره1 ومثل "فاعلاتن" في البحر الخفيف ونموذجها من شعر سليمان العيسى: وحدة تلهم الكواكب مسرا ... ها وتمشي في القفر ظلًّا ظليلا وحدة تفجر الينابيع في الكو ... ن فراتًا يسقي العطاش ونيلا2 غير أن التدوير يصبح ثقيلًا ومنفرًا في البحور التي تنتهي عروضها بوتد مثل "فاعلن" و"مستفعلن" و"متفاعلن". وهذا نموذج لتدوير قائم على وتد من شعر محمد الهمشري3 من الكامل: هي جنة الأشجار والأظلال والـ ... أعطاء والأنغام والأنداء وبسبب هذا العسر نجد أن الشعراء قلما يقعون في تدوير البحر "البسيط" أو "الطويل" أو "السريع" أو "الرجز" أو "الكامل". نعم، إن ورود بيت مدور في بحر من هذه البحور في قصيدة طويلة لشاعر متمكن شيء غير مستحيل، وفي وسعنا أن نعثر عليه إذا نحن قلبنا

_ 1 قصيدة "الروضة الجائعة" لعمر أبو ريشة. ديوان مختارات. مطابع دار الكشاف بيروت. 2 قصيدة "في عيد الوحدة" من ديوان قصائد عربية لسليمان العيسى. دار الآداب. بيروت 1959. 3 قصيدة "النارنجة الذابلة" لمحمد الهمشري. كتاب الروائع لشعراء الجيل. محمد فهمي مطبعة الشبكشي بالأزهر - القاهرة.

الدواوين وصبرنا على البحث، غير أن ذلك نادر، وندرته ذات دلالة. ومن هذا النادر قول المتنبي من الكامل: الناعِماتُ القاتِلاتُ المُحيِيا ... تُ المُبدِياتُ مِنَ الدَلالِ غَرائِبا وله من الطويل: وَكَم مِن جِبالٍ جُبتُ تَشهَدُ أَنَّني الـ ... ـجِبالُ وَبَحرٍ شاهِدٍ أَنَّني البَحرُ والواقع أن التدوير هنا -حتى في شعر المتنبي- قد أساء إلى موسيقية الأبيات. ولو تجنبه الشاعر لكان أحسن. وملاحظتي الثانية حول التدوير، وقد تكون ملاحظة غريبة، أنه وهو لا يسوغ في البحر الكامل، يسوغ في مجزوء الكامل، لا بل إنه يضيف إليه موسيقية ونبرة لينة عذبة. من ذلك البيت الثاني من قول البهاء زهير1: ما لي أَراكَ أَضَعتَني ... وَحَفِظتَ غَيري كُلَّ حِفظِ؟ مُتَهَتِّكًا فَإِذا حَضَر ... تُ تَظَلَّ في نُسكٍ وَوَعظِ متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلاتن ومن هذا الشعر في الحديث أبيات علي الجارم في قصيدته المشهورة2: يَا سَطْرَ مَجْدٍ لِلْعُرُو ... بَه خُطَّ في لَوْحِ الْوُجُودِ بَغْدَادُ إِنَّا وَفْدَ مِصْـ ... ـرَ نَفيضُ بالشوْقِ الأَكِيدِ

_ 1 ديوان أبي الفضل بهاء الدين زهير. إدارة الطباعة المنيرية. القاهرة. "ص114". 2 قصيدة "بغداد".

أَهْلُوك أَهْلُونَا وَأبْـ ... ـنَاءُ الْعَشِيرةِ وَالْجُدُودِ حَتَّى يَكَادَ يُحِبُّ نَخـ ... ـلَكِ نَخْلُ أَهْلِي في رَشِيدِ متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلاتن ومثل ذلك يمكن أن يقال عن بحر الرجز الذي يصح التدوير في مجزوئه كما في قول نزار قباني: حدودنا بالياسميـ ... ـن والندى محصنه وعندما الصخور تهـ ... وى والدوالي مدمنه وإن غضبنا نزرع الـ ... شمس سيوفًا مؤمنه بلادنا كانت وكا ... نت بعد هذي الأزمنه في أرضهاكتبت هـ ... ذي الأحرف الملحنه1 ولعل السبب الذوقي الذي يبرر وقوع التدوير في مجزوء الكامل والرجز دون الكامل والرجز نفسهما أن المجزوء قصير بحيث لا يعسر فيه التدوير، ولعل للأمر تفسيرًا آخر يفوتني، والله أعلم. التدوير في الشعر الحر: ينبغي لنا أن نقرر، في أول القسم من بحثنا، أن التدوير يمتنع امتناعًا تامًّا في الشعر الحر، فلا يسوغ للشاعر على الإطلاق أن يورد شطرًا مدورًا. وهذا يحسم الموضوع. وإذن فلماذا نكتب هذا الفصل؟ نفعل ذلك لأن امتناع التدوير في الشعر الحر ليس شيئًا معروفًا لجمهرة

_ 1 قصيدة "بلادي" ديوان طفولة نهد لنزار القباني، "القاهرة 1948".

الشعراء الذين ينظمون هذا الشعر، وإنما نبدأ نحن بتقريره واستنباطًا وقياسًا على العروض العربي وانقيادًا للذوق الفطري. وليس يخفى أن كل قاعدة مقررة إنما بدأت بأن استنبطها إنسان ما، فذلك سائغ ولا مأخذ عليه. وإنما ينبغي لنا أن نبرر هذا المنع من جهة، وأن نشير إلى ما يقع فيه الناشئون من أخطاء، في هذا الباب، من جهة أخرى. وأحب أن أقول أولًا أنني لست ممن يمنع الأساليب الجديدة لمجرد أنها لم تسمع من العرب، وذلك لأن تطور الظروف والأحوال في البيئة قد يستدعي تطور القواعد. وإنما اعتمادنا دائمًا على الذوق والمنطق الأدبي والفطرة الشعرية التي نملكها وهي، بلا ريب، شديدة التأثر بأحوال العصر الذي نعيش فيه. وذلك بالإضافة إلى مقاييس العروض العربي والمسموع من شعرنا القديم عبر مئات السنين. أما أسباب امتناع التدوير في الشعر الحر، في رأيي، فأنا أبسطها فيما يلي: أولًا- لأن الشعر الحر شعر ذو شطر واحد كما سبق أن أوضحنا. وذلك يتضمن الحقائق التالية: أ- كان شعر الشطر الواحد لدى العرب، في العصور كلها، قديمًا وحديثًا، شعرًا يستقل فيه الشطر استقلالًا تامًّا فلا يدور آخره. وذلك منطقي وهو يتمشى مع معنى التدوير الذي لا يقع إلا في آخر الشطر الأول ليصله بالشطر الثاني، وذلك في القصائد ذات الشطرين وحسب. وعلى ذلك فإن التدوير ملازم للقصائد التي تنظم بأسلوب الشطرين وحسب. ب- لأن التدوير يعني أن يبدأ الشطر التالي بنصف كلمة وذلك غير مقبول في شطر مستقل. وإنما ساغ في الشطر الثاني من البيت لأن الوحدة هناك هي البيت الكامل لا شطره. وأما في الشعر

لحر فإن الوحدة هي الشطر، ولذلك ينبغي أن يبدأ دائمًا بكلمة لا بنصف كلمة كما في فقرة جورج غانم التالية من المتقارب: لأهتف قبل الرحل ترى يا صغار الرعاة يعود الر فيق البعيد1 ج- لأن شعر الشطر الواحد ينبغي أن ينتهي كل شطر فيه بقافية "أو على الأقل بفاصلة تشعر بوجود قافية". ومن خصائص التدوير أنه يقضي على القافية لأنه يتعارض معها تمام التعارض. وهذه حقيقة تفوت الشعراء الناشئين. وبسببها يضيعون قوافيهم التي يجهدون لها أحيانًا. والمثال السابق من شعر جورج غانم نموذج لما نقول. فقد انتهى الشطر الثاني بالقافية "يعود" وهي تتجاوب مع قافية الشطر الثالث "البعيد". على أن مجيء التدوير في الشطر الثاني قد جعل تقطيع الشطر كما يلي: ومعنى ذلك أن القافية "البعيد" أصبحت تقابل كلمة "يعودر" وبذلك ماتت القافية. وكان على الشاعر أن يضحي بواحد من اثنين: القافية أو التدوير. ولسنا ندري لماذا لم يقل مثلًا: ترى يا صغار الرعاة يعود رفيقي البعيد وإذا كان يريد أن يجعل "يعود" قافية، ويحسب أن الشطر قد انتهى

_ 1 نداء البعيد. "بيروت 1957" ص18.

عندها، فكيف فاته أن بداية الشطر التالي "الرفيق البعيد" كانت حرفًا ساكنًا هو همزة الوصل؟ ومتى كان البيت العربي يبدأ بساكن؟ ثانيًا- يمتنع التدوير في الشعر الحر لأنه شعر حر، أعني أن الشاعر فيه قادر على أن ينطلق من القيود، ومن ثم فإن ذلك يجعله في غير حاجة إلى التدوير. وما التدوير، لو تأملنا، إلا لون من الحرية يلتمسه الشاعر الذي كان مقيدًا بأسلوب الشطرين حيث الشطر الأول ذو طول معين لا ينبغي أن يزيد، فكان الشاعر يطيله بالتدوير ليملك بعض الحرية. ومن ثم فلماذا يريد الشاعر تدوير أشطره في القصيدة الحرة؟ الحقيقة أنه ليس من سبب يبرر ذلك على الإطلاق. فالشعر الحر يبيح للشاعر أن يطيل الشطر وفق حاجته، وبذلك يتخطى الشطر القديم الذي كان يقيد الشاعر. وإذا كان الشاعر قبل يستعمل تدويرًا يطيل به الشطر الأول فإن الشاعر الحر يستطيع أن يطيل شطره دون تدوير، وذلك بأن يرص الشطرين المدور أولهما معًا في شطر واحد؛ لأن ذلك مباح في الشعر الحر، وهو في الواقع مزيته. وفي هذه الحالة يصبح التدوير بلا معنى على الإطلاق. وقد كانت أشطر جورج غانم تشير إلى هذا بوضوح، فقد قال في شطرين: ترى يا صغار الرعاة يعود الر فيق البعيد وهذا شيء لا ضرورة له، ففي وسعه أن يقول في شطر واحد متناسق: ترى يا صغير الرعاة ... يعود الرفيق البعيد. وقد رأينا مما سبق أن القافية "يعود" في الشطر الواحد ليست أقل ضياعًا منها في شطرين، وذلك لأن التقسيم القسري لشطر واحد إلى شطرين لا ينقذ هذين الشطرين من أن يبقيا شطرًا واحدًا في الواقع. وبعد، فإن كون الشعر الحر يمنح الشاعر حرية إطالة أشطره

وتقصيرها والوقوف حيث يشاء بحسب مقتضى المعنى، ينفي الحاجة إلى التدوير أصلًا. فإذا احتاج الشاعر إلى شطر طويل فإن في وسعه أن يكتبه بلا تدوير. بدلًا من أن يكتب شطرًا ذا ثلاث تفعيلات مدورًا بحيث يفضي إلى شطر آخر ذي ثلاث تفعيلات، فإن في إمكانه أن يجمع الشطرين في شطر واحد ذي ست تفعيلات. أو لم نبح له ذلك في الشعر الحر؟ فما الداعي إلى التدور إذن؟ وقد يعترض علينا شاعر بأن يقول "إني إنما أجعل الأبيات مدورة في أشطر متتالية كثيرة لأن العبارة التي أكتبها تستغرق أشطرًا كثيرة. أو لم تبيحوا لي أن أطيل العبارة التي أكتبها تستغرق أشطرًا كثيرة. أو لم تبيحوا لي أن أطيل العبارة كما أشاء؟ " والواقع أن في هذا السؤال وهمًا واضحًا. ذلك أن التدوير ليس ملازمًا للعبارة الطويلة، فقد تكون العبارة قصيرة ويدوِّر الشاعر البيت مع ذلك، وقد تكون طويلة دون أن يحتاج إلى تدوير البيت. ولماذا تستغرق أية عبارة طويلة عشرة أشطر مدورة؟ لماذا لا تستغرق عشرة أشطر غير مدورة؟ إن التدوير، لو تأملنا، لا يتصل بطول العبارة، وإنما هو محض انشطار الكلمة إلى شطرين كل منهما ينتمي إلى تفعيلة. ومن ثم فإنه قد يقع في كل شطر من قصيدة عبارتها قصيرة، فتبدأ العبارة في منتصف الشطر المدور وتنتهي في النصف الثاني، ثم تبدأ عبارة جديدة في منتصف شطر مدور ثان وتنتهي في الشطر التالي. وكذلك فلا صلة للتدوير بطول العبارة. ثم إن هناك سؤالًا شديد الأهمية ينبغي للشاعر أن يلقيه على نفسه، السؤال حول الطول الممكن للعبارة في أية قصيدة ذات إيقاع وموسيقى. فلنفرض أننا أبحنا للشاعر أن يطيل شطره "ذا التفعيلة المكررة" إلى ما شاء الله. فهل يستسيغ سمعه أن يورد أكثر من ست تفعيلات أو ثمان في الشطر الواحد؟ الجواب على هذا قد ثبت لي بالتجربة الطويلة وقراءة مئات من قصائد الشعراء. أن ذلك غير سائغ ولا مقبول لأن الغنائية في تفعيلات العشر تفقد حدتها وتأثيرها حين تتراكم تفعيلات متواصلة لا وقفة

عروضية بينها، ذلك فضلًا عن أن تواتر التفعيلات الكثيرة مستحيل لأنه يتعارض مع التنفس عند الإلقاء. لا بل إنه يتعب حتى من يقرؤه قراءة صامتة بما يحدث من رتابة. وسرعان ما نمجه ونرفض أن نقرأه. ولننظم مثالًا من البحر الكامل تتوافر فيه "متفاعلن" بلا وقفة مع غلبة التدوير: طلعت نجوم الليل تفرش ظلمة الأحراش أحلامًا طريات ورش العطر خد الليل والدنيا تلفع كل ما فيها بأستار الظلام المدلهم البارد لقبري وانتاب المدى خوف من المجهول، يا قلبي تيقظ واترك الأوهام تجني كل اقات الأماني. أمسك الجذلان بالأفراح والرغبات قد نفض النعاس وعاد يملأ مشرق الدنيا ضياء وابتسامات فدع فتن الصباح المشرق المسحور ينفذ لا تكن حيران مقطوع الرؤى ... أليس هذا نظما سمجًا، ميتًا، لا يحتمل؟ إن قراءته غير ممكنة، وهو لترادفه السريع ممل رتيب يتعب السمع ويضايق الحس الجمالي لدى القارئ. وأبرز ما ينقصه هو الوقفات. ذلك أن السكتة في آخر الشطر والبيت كانت وما زالت عنصرًا "مهمًّا" في القصيدة. إن للسكوت وقعًا شعريًّا يعادل وقع الأشطر نفسها. ومن دون هذا السكوت يموت الشعر كما رأينا. والظاهر أن كثيرًا من الذين ينظمون الشعر الحر ينسون هذه الحقيقة، ولذلك نراهم يرصون لنا أشطرًا كثيرة مدورة هي في الحقيقة كلها شطر واحد. وما أحراهم بأن ينتبهوا.

ملاحظة ختامية: أصبح الشعراء المحدثون اليوم ينظمون قصائد طويلة كل أشطرها مدورة، أو لنقل إنها تتألف من شطر واحد طويل في الحقيقة لما سبق أن قررناه من أن التدوير يمتنع في الشعر الحر. ولسوف يبدو أن ما نظمتُهُ سنة 1962 لكي يكون مثالًا للرداءة قد أصبح بعد عام 1986 قاعدة تحتذى ونموذجًا يطيعه عشرات الشعراء اليافعين. ومثال ذلك قصيدة حسب الشيخ جعفر "السيدة السومرية في صالة الاستراحة" وفيها يقول: "تخيرني وجهك السومري مطارًا، فما لي سوى أن أرحب أو أن أودع، سيدتي كنت لي نجمة في سماء المخازن تؤنسني كلما انحسر المشترون، اتركيني ألم تقاطيع وجهك في الحائط المتآكل في أور، في صالة الاستراحة، في أوجه العارضات النحيفات، عودي تماثيل في باطن الأرض أو المتاحف بيني وبين الشحوب الذي لمستْهُ يدي برهة". وأمثال هذا شائعة لدى اليافعين اليوم، ولن أتناوله بالدراسة في هذا الكتاب وإنما مكانه كتاب ثانٍ أشتغل الآن في تأليفه.

التشكيلات الخماسية والتساعية

-4- التشكيلات الخماسية والتساعية: جاء الشعر الحر بالحرية وأصبح في مقدور الشاعر أن يزيد التفعيلات في الشطر وينقصها كما يشاء وفق القيود والشروط التي ذكرناها في الفصول السابقة. وقد أدى ذلك إلى أن ينظم الشعراء أشطرًا تتنوع أعداد تفعيلاتها من الواحدة إلى العشر. وكان أن جابهنا في الشعر العربي الأشطر ذات الخمس تفعيلات. ونحن حريون أن ننبه أولًا إلى أن الشعر العربي، في مختلف عصوره، لم يعرف الشطر ذا التفعيلات الخمس، وإنما كان الشطر يتألف إما من تفعيلتين كما في الهزج والمجتث والمضارع، أو من ثلاث كما في الرجز والرمل والكامل، أو من أربع كما في الطويل والبسيط والمتقارب والخبب. وعند هذا وقف الشاعر، فلم نقرأ له أشطرًا ذات خمس تفعيلات إطلاقًا. وأما في المجزوء فإن طول الشطر لم يزد على تفعيلتين أو ثلاث. وعندما يكون الشطر المجزوء مدورًا فإن طول الشطر يصبح -في الواقع لا في الاعتبار- ست تفعيلات وإن سميناه بيتًا؛ لأن المدور، في حقيقته، شطر لا شطران. وهذا قد كان الطول الأقصى للشطر العربي.

وجاء المعاصرون وتناولوا الحرية التي أباحها لهم الشعر الحر فخرجوا على قانون الأذن العربية ونظموا أشطرًا ذات خمس تفعيلات. وكان ينبغي لهم، إذ ذاك، أن يتوقفوا ويدرسوا هذه المسألة ويقرروا مدى نجاحها. فلماذا لم يكتب العرب شعرًا خماسي التفعيلات على الإطلاق؟ أو كان ذلك مصادقة واعتباطًا؟ أم أن للعدد خمسة صفة تجعله لا يصلح في شعر لدن ذي إيقاع؟ على أن المعاصرين، شعراء ونقادًا، لم يعنوا ببحث هذه الأسئلة ولم يقفوا عندها. لا بل إن مجابهتنا بالأشطر الخماسية لم تُثر أي صدى فكأن العرب قد ألفوا ذلك. ومضى الشعراء يكتبون أشطرًا خماسية دونما تعليق. وكان ذلك كله ينم عن الإهمال، إهمال من الشعراء الذين يكتبون بأسلوب جديد فلا يعنون حتى بالإشارة إلى ذلك، وإهمال من النقاد الذين تمر بهم ظاهرة كهذه فلا تلفت أنظارهم. وإنما كان ينبغي أن تدرس القضية فإما أن تُقر باعتبارها تجديدًا يقبله الذوق المعاصر، أو أن ترفض لأنها نشاز موسيقي تأباه الأذن العربية. ولعلنا نعتب على العروضيين أكثر مما نعتب على سواهم، لما في أيديهم من سبل النقد الشعري وما لهم في أنفسنا من ثقة. على أن أكثرهم فيما نعلم قد استكبر أن ينظر في الشعر الحر، وأنف أن يعده شعرًا بحيث ينزل إلى نقده بمقاييس العروض الصلدة، ومن ثم فماذا يعنيه أن ترد فيه خمس تفعيلات أو لا ترد؟ ومهما تكن الأسباب، فإن الشعراء راحوا يقعون في الشطر الخماسي دون أن ينتبهوا إلى شناعة وقعه في السمع وقبح إيقاعه. هذا نموذج من قصيدة لفدوى طوقان سبق أن اقتبسنا منها1: تحبني صديقي المقرب "أربع تفعيلات": صداقة حميمة تشدني إليك من سنين "خمس":

_ 1 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب العدد الخامس. أيار 1961.

وقولها في القصيدة نفسها: قبلك من سنين من سنين "ثلاث": نشدتها مذ كنت طفلة حزينة مع الصغار "خمس": وحين فتحت براعمي ورعرع الصبا النضير "خمس": وضمخ الجواء بالعبير ومثل ذلك في قصيدة عنوانها "جيكور والمدينة" لبدر شاكر السياب1: تقول يا قطار يا قدر "ثلاث": قتلت إذ قتلته الربيع والمطر "أربع": وتنشر الزمان والحوادث الخبر "أربع": والأم تستغيث بالمضمد الخفر "ثلاث": أن يرجع ابنها يديه، مقلتيه، أيما أثر "خمس" وترسل النواح يا سنابل القمر "أربع": لعل هذه النماذج تخبرنا هي نفسها لماذا لم يرتكب العرب الوقوع في التفعيلات الخماسية، ذلك أنها تبدو قبيحة الوقع، عسيرة على السمع، بحيث لا نحتاج إلى أكثر من إيرادها للتدليل على ضرورة تحاشيها. ومما لا يقبل كذلك استعمال تشكيلة ذات تسع تفعيلات، ومثالها قصيدة لخليل الخوري، من المتقارب. قال2: تمر ليال أحس بها أنني لن أكحل جفني بمرأى الصباح ليالٍ أرى الموت فيها على قاب قوس وأدنى يمد إليَّ الجناح وأسمع دقات قلبي مجنونة كالرياح كعصف الرياح

_ 1 قصيدة "جيكور والمدينة" لبدر شاكر السياب. مجلة شعر. العدد 7-8 صيف 1998 وخريفها. 2 قصيدة "تمر ليال" لخليل الخوري. مجلة الآداب. آذار 1959.

يرد صداها جدار الظلام ويذرو حبيباتها فهي رجع نواح فأبسم مستسلمًا غير أني إذا ما أطل على الكون فجر ولاح أراني ما زلت أحيا كما كنت لا الموت جاء ولا ثار حولي الصياح إن كل شطر في هذه القصيدة ذو تسع تفعيلات وهو -كما نظن أن القارئ يقرنا عليه- أطول مما ينبغي لشطر واحد. وليس لنا مفر من أن نعده شطرًا واحدًا لأن العدد تسعة لا ينقسم على اثنين بحيث نستطيع أن نرصفه على شطرين فنخفف بذلك من ثقله. ولقد كنا نستطيع أن نقسمه على ثلاثة أشطر ولو أن الشاعر أراد ذلك وأحدث له الوقفات اللازمة في ثنايا الشطر. والواقع أن قابلية العدد تسعة للقسمة على ثلاثة تجعل إطالة الشطر إليه أمرًا غير مقبول، فماذا كان يضير الشاعر أن يقول هذا مثلًا: فأبسم مستسلمًا غير أني إذا ما أطل ... على الكون فجر ولاح أراني ما زلت أحيا كما كنت لا الموت جاء ... ولا ثار حولي الصياح إن ثقل التفعيلات التسع يأتي من ناحيتين: أولاهما أن العرب لم يكتبوا شطرًا مدورًا أطول من ثماني تفعيلات، وثانيهما أن الرقم تسعة هو نفسه ثقيل الوقع في السمع، كالرقم خمسة تمامًا. فليس الطول وحده هو الثقيل فيه، وإنما لأنه أيضًا ذو تسع تفعيلات. أما السبب في كون العددين خمسة وتسعة لا يردان في الشعر العربي فلعله يحتاج إلى دراسة للمقاطع تكشف السر فيه. ملاحظة ختامية: نبه أكثر من أديب إلى أنني أنا نفسي أستعمل التشكيلات الخماسية في

شعري، وقد أدهشني هذا فرجعت إلى قصائدي فإذا الأمر صحيح. ومن ثم فإن الظاهر أنني مجزأة إلى جانبين: جانب مني ذهني يرفض كل تشكيلة خماسية رفضًا كاملًا، وجانب مني سمعي يتقبلها ولا يرى فيها ضيرًّا. أو نقل أن الناقدة فيَّ تفرض، والشاعرة تتقبل. ولقد أجريت تجربة عام 1968 فنظمت قصيدة مقطوعية كل أشطرها خماسية وعنوانها "ضوء القمر" وقد نشرتها مجلة في القاهرة أظن اسمها كان "مجلة الشعر" ورئيس تحريرها صلاح عبد الصبور، وقد صدر منها عدد واحد وتوقفت. ولكني ما زلت أنفر من هذه القصيدة ولا أحبها بسبب خماسية تفعيلاتها، وقد رفضت أن أدخلها مجموعاتي الشعرية المطبوعة. بعد هذا، سأترك الشعراء والقراء يحكمون في قضية التشكيلات الخماسية بما يرونه مناسبًا، ما دمت قد أعلنت حقيقة موقفي إعلانًا أمينًا.

مستفعلان في ضرب الرجز

-5- مستفعلان في ضرب الرجز: يقع بعض الذين ينظمون قصائد من بحر الرجز في خطإ شنيع هو أنهم يوردون التفعيلة "مستفعلان" في ضربه، ولا يقع هذا في الشعر العربي قط لأن الأذن تمجه. ولعل خير دليل نقدمه على شناعة وقع "مستفعلان" هذه في ضرب الرجز ما نجده في كتب النحو العربي حين يتحدثون عن أنواع التنوين فيسمون التنوين في خاتمة بيت رؤبة التالي "غاليًا" أي صعبًا عسيرًا لا ينبغي أن يرد: وقائم الأعماق خاوي المخترقن مشتبه الأعلام لماع الخفقن وظاهر أن التفعيلة الأخيرة هنا قد التقى فيها ساكنان وباتت مماثلة لمستفعلان "ما عدا أن القاف فيها حرف صيح لا لين". وإنما سموا النون هنا "غالية" لأنها وردت في مكان غير مقبول من تفعيلة الرجز التي ترفضها. وليس في الشعر العربي كله، عدا هذه النون، تشكيلة لبحر الرجز تنتهي بـ "مستفعلان". ومن الواضح أن بيت رؤبة شاهد نحوي، وكثيرًا ما يتعسف النحاة في التماس الشواهد.

وأما لماذا أورد المعاصرون "مستفعلان" هذه في خواتم تشكيلات الرجز في شعرهم الحر، فلعل التعليل الوحيد له أن الشاعر الناشئ سمع أن في الشعر الحر حرية فظن أن معنى تلك الحرية أن يخرج على العروض وقواعده، وحتى على الأذن العربية وما تقبله. وغاب عنه أن العروض هو الموسيقى ولا سبيل إلى الخروج عليه ما دمنا ننظم شعرًا. ولا ريب أن اصطلاحنا "الشعر الحر" لا يسمح بمثل هذه التأويلات الفضفاضة التي وقع فيها الشعراء لأننا احترزنا بكلمة "الشعر" عن أن نقصد بالاصطلاح الخروج على ما هو أساسي في كل شعر وهو الموسيقى. وأما "الحرية" فقد شرحناها بأنها التحرر من التقيد بالشطرين المتساويين في الطول. ومن ثم فإذا نظمنا قصيدة حرة، على زن الرجز، فمن المنطقي أن نتقيد بقوانين العروض الخاصة ببحر الرجز جميعًا، ما عدا التقيد بعدد معين من التفعيلات في كل شطر. وقد بدأت الفوضى في بحر الرجز على يد قلة من الشعراء الناشئين كما أذكر، وكنت وأنا أرقب ما تنشر الصحف أعتقد أن الراسخين من الشعراء، الذين مارسوا النظم بأسلوب الشطرين طويلًا، سوف يتحاشون الوقوع في هذه الفوضى، ومن هؤلاء نزار قباني مثلًا وقد سبق له من بحر الرجز في ديونه الأول: تقول لي مكسورة الأهداف عم تبحث؟ قلت أضعت قبلة وفقدها كم يورث قد قفزت مني وفوق الثغر منك تمكث سمراء رديها إلي ليس بي تريث1 هنا نرى نزار قباني لا يأتي بتشكيلة فيها "مستفعلان" غير أنه يقع في ذلك عندما يخرج إلى سماء الحرية في الشعر الحر بعد ذلك بسنوات،

_ 1 قالت لي السمراء. نزار قباني. الطبعة الأولى، دمشق1947.

وكأنه نسي حتى أذنه الموسيقية وتحرر منها فنسمعه يقول: أكتب للصغار للعرب الصغار حيث يوجدون "مفاعلان": أكتب للذين سوف يولدون "مفاعلان": أكتب للصغار قصة بئر السبع واللطرون والجليل واختي القتيل هناك في بيارة الليمون أختي القتيل "مفاعلان": إذ كان في يافا لنا حديقة ودار يلفها النعيم وكان والدي الرحيم "مفاعلان": مزارعًا شيخًا يحب الشمس والتراب1 وكذلك نجد هذا الخطأ لدى فدوى في قصيدتها "تاريخ كلمة" التي سبق أن اقتطفنا منها ذلك حيث تقول: ومرت الأيام يا صديقي الأثير جديبة مطمورة بالثلج بالأسى المرير "مفاعلان" وقلبي الوحيد ينطوي على جفافه على ظماه2 "مفاعلان": إن هذا شنيع. وأنا على يقين من أن نزار وفدوى -وكلاهما شاعر مرهف ذو موهبة صافية- سوف يلاحظان معنى ما أقول فورًا ويقران

_ 1 قصيدة "قصة راشيل شوار زنبرغ" ديوان "قصائد من نزار قباني". مطابع دار العلم للملايين بيروت 1956. 2 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب. أيار 1961.

أنه ناشز. وإنما يقعان فيه، على ما أظن، وهما يشعران بنفور منه. غير أن دوار الحرية قدأصابهما فيمن أصابه، فجعلهما يكستان صوت فطرتهما الشعرية. ولعل هذا هو أيضًا شأن غير قليل من الشعراء الذين نشئوا بعد نزار وفدوى مثل صلاح عبد الصبور1 وغيره. ونحن نتمنى أن يعود هؤلاء الشعراء إلى صوت فطرتهم التي تلهمهم وأسماعهم العربية ليتبينوا الصواب من الخطإ. ولا أظنه يضير الشاعر المعاصر أن يدرس العروض ولو دراسة عابرة، فإنما وجد العروض ليعين الشعرا أكثر مما يعين الناظمين. وإنما يفهم العروض الفهم الحق الشاعر الموهوب. وأما الناظم فمهما درسه فإن جوانب منه تبقى غامضة عليه، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يبدع فيه، وقصارى ما يملك أن يقيس على الموازين قياسًا انطباقيًّا جامدًا. والواقع أن الشعر ليس موهبة وحسب، وإنما هو نظم قبل ذلك، وللنظم قواعده وأسسه. فإذا كان الشاعر الموهوب، بكل موهبته التي يعتز بها، ينظم الشعر ويخطئ في الوزن، فما باله يزدري العروض ويترفع عن دراسته إذن؟

_ 1 يقع صلاح كثيرًا في "مستفعلان" عندما ينظم قصائد من الرجز. وقد سبقت له شواهد في بحثنا هذا.

فاعل في حشو الخبب

-6- فاعل في حشو الخبب: المعروف أن تفعيلة الخبب "فعلن" ليست إلا زحافًا يعتري تفعيلة المتدارك الأصلية "فاعلن". وبتكرار فعلن هذه ينشأ وزن الخبب أو "ركض الخيل" كما يسمونه أحيانًا. والمعروف أيضًا أن العرب لم يستعملوا هذا الوزن إلا نادرًا. ولعل ذلك هو الذي جعل الخليل ينساه فلا يحصيه في بحوره الخمسة عشر، وإنما استدرك به الأخفش وسماه لذلك "المتدارك". ويتميز هذا الوزن بخفته وسرعة تلاحق أنغامه، كما نرى من نموذجه التالي المشهور: يا ليل الصب متى غده؟ ... أقيام الساعة موعده رقد السمار وأرقه ... أسف للبين يردده

فبكاه النجم ورق له ... مما يرعاه ويرصده كلف بغزال ذي هيف ... خوف الواشين يشرده نصبت عيناي له شركًا ... في النوم فعز تصيده صنم للفتنة منتصب ... أهواه ولا أتعبده صاح والخمر جنى فمه ... سكران اللحظ معربده1 وهذه الخفة وتلك السرعة تجعلانه لا يصلح إلا للأغراض الخفيفة الظريفة، وإلا للأجواء التصويرية التي صح فيها أن يكون النغم غالبًا. وإنما يثبت فيه هذه الصفة ما نراه من تقطع أنغامه، فكأن النغم يقفز من وحدة إلى وحدة. وسبب ذلك أن "فعلن" تتألف من ثلاث حركات متوالية يليها ساكن "وهو ما يسمى بالفاصلة الصغرى" وهذا التوالي الذي يعقبه سكون في كل تفعيلة يُسبغ على الوزن صفته الملحوظة فكأنه يقفز. وذلك هو الذي جعلهم يسمونه "ركض الخيل" أحيانًا. والظاهر أن الشاعر العربي كان يضيق بهذا التقطع في وزن الخبب فيعمد إلى التخفيف منه بإسكان العين في "فعلن" بين الحين والحين وبذلك يتحول السبب الثقيل إلى سبب خفيف ويزول العناء. وذلك واضح في قصائد الخبب كلها ومنها قصيدة الحصري السابقة:

_ 1 من شعر الحصري القيرواني المتوفى سنة 488هـ.

ينضو من مقلته سيفًا ... وكأن نعاسًا يغمده إن في هذا البيت أربع تفعيلات مخففة وأربعًا على الأصل وذلك يكبح جماح الحركة ويخفف منها. فضلًا عن أنه يضيف تنويعًا وتلوينًا إلى تفعيلات البحر الرتيبة. ثم جاء العصر الحديث فإذا نحن نحدث تنويعًا جديدًا لم يقع فيه أسلافنا. ذلك أننا نحول "فعلن" إلى "فاعل". وليس في الشعراء، فيما أعلم، من يرتكب هذا سواي، بدأت فيه منذ أول قصيدة حرة كتبتها سنة 1947 ومضيت فيه حتى الآن. هذا مثلًا مطلع قصيدتي "لعنة الزمن"1 من الخبب: كان المغرب لون ذبيح والأفق كآبة مجروح ووزن الشطر الأول فيه هو: فعلن فاعل فاعل فعل وقد جرت أشطر كثيرة في القصيدة على هذا النسق، خلافًا للقاعدة العروضية في الخبب. وأنا اقر بأنني وقعت في هذا الخروج من غير تعمد. وقد ألفت أن أنظم الشعر بوحي السليقة، لا جريًا على مقياس عروضي، تحملني خلال عملية النظم موجة الصور وللشاعر والمعاني والأنغام، دون أن أستذكر العروض والتفعيلات. وإنما تتدفق المعاني موزونة على ذهني ومن ثم فإن "فاعل" قد تسربت إلى تفعيلاتي "الخببية" وأنا غافلة. وحين انتهيت من القصيدة كان نغمها يبدو لي من الصحة والانثيال الطبيعي بحيث لم أنتبه إلى ما فيه من خروج عن تفعيلة الخبب.

_ 1 قصيدة "لعنة الزمن" من ديوان قرارة الموجة لمؤلفة الكتاب. بيروت 1960.

وسرعان ما احتج علي الدكتور جميل الملائكة1 منبهًا إلى خروجي عن تفعيلة الخبب. وقد أدركت فورًا أنه على حق وأن تفعيلتي دخيلة. وجلست أفكر، مندهشة، في سبب هذا الذي وقع لي. فكيف ولماذا جاز أن تقبل أذني الممرنة خروجًا على الوزن مثل هذا؟ وجاء الجواب بعد قليل من التأمل، وكان جوابًا بسيطًا واضحًا: أن أذني، على ما مر بها من تمرين تقبل هذا الخروج ولا ترى فيه شذوذًا، فليس هو خطأ وقعت فيه، وإنما هو تطوير سرت إليه وأنا غافلة. ومعنى ذلك أن "فاعل" لا تمتنع في بحر الخبب، لأن الأذن العربية تقبلها فيه. وإذن فلماذا لم يقرها العروضيون؟ وهل من حقي أنا أن أثبت تفعيلة جديدة في بحر عربي ضبط منذ عصور طويلة؟ الواقع أنه ليس من حقي، كما أنه ليس من حق أي شاعر أن يفعل ذلك. إنما يقرر القواعد القبول العام. نعم، لقد قرر الخليل قواعد جديدة، غير أن تقريره ذلك لم يكن هو الذي ثبتها، وإنما ثبتت حين قبلها الشعراء المتمكنون والعارفون في عصره. وكذلك لن تثبت تفعيلتي الجديدة إلا إذا لقيت موافقة العروضيين. والحق أن قليلًا من التأمل في التفعيلتين "فَعِلن" و"فاعلُ" لا بد أن يقودنا إلى أنهما متساويتان من ناحية الزمن تساويًا تامًّا لأن طولهما واحد. وفي وسعنا التأكد من ذلك بأسلوب العروضيين. ف ع ل ن – ف اع ل - - - 5 - 5 - -

_ 1 جميل الملائكة، خالي. وقد كان منذ الطفولة صديقي الحميم، فتحنا أعيننا على الشعر وأنغامه وقرأنا العروض معًا، وعشنا صبانا نتبادل قصائد الدعابة وننظم الأهاجي الفكاهية والألغاز والتاريخ والتشطير والتخميس والموشح والدوبيت. وما زلنا حتى الآن نجتمع لنظم القصائد المشتركة بيت منه وبيت مني، وأحيانًا نتبادل رسائل منظومة من أولها إلى آخرها. ولجميل في الشعر ذوق مرهف. وقد نشرت له، منذ سنوات، ترجمة شعرية لطيفة لرباعيات الخيام.

فإن بين أيدينا هنا تفعيلتين تحتوي كل منهما على ثلاثة متحركات وساكن واحد. وإنما الفرق بينهما في مواضع المتحركات والساكن. ويظهر ذلك واضحًا حين نكتب التفعيلتين بلغة الموسيقى: ومعنى ذلك أن كلتا الوحدتين مكونة من ضربتين قصيرتين وضربة طويلة. وإنما تقع الطويلة في مطلع "فاعلُ" وفي آخر "فعلن". ومن الناحية الموسيقية يستوي عدد الأجزاء في التفعيلتين فكلاهما يتألف من أربعة أجزاء. وكل هذا يجعل ورود "فاعلُ" في الخبب سائغًا مقبولًا حتى ليصح، في عقيدتي، أن نكتب قصيدة خببية وزنها كما يلي: فاعلُ فاعلُ مفتعلن أقبل فجرك يا وطني إن الأذن العريبة تقبل هذا، فكيف بها وهو يرد، على وجه التنويع غير وزن الخبب؟ هذا إذن هو السبب الذي جعلني أتمسك بتفعيلتي الدخيلة، والواقع أنني لم أزل أستعملها في حشو الخبب ومنه في آخر قصيدة كتبتها منه: وعد في شفة الزنبق غطى المرج شذاه وتألق فجر منبثق فوق مسافات مبهوره

ونسائم تعبر في وديان مسحورهْ إن شاء الله رؤى أغنية طافحة وندى وصلاهْ ورأيي أن إقرار ذلك قاعدة في بحر الخبب يضيف سعة وليونة إلى هذا البحر يضيق بفواصله الصغرى كما بيَّنا والرأي الأخيرة لأغلبية العروضيين والشعراء المتمكنين في الوطن العربي1.

_ 1 أرجو أن يلاحظ القارئ أن "فاعل" بضم اللام في وزن الخبب، "فعلن فعلن فعلن ... إلخ" حين تقع تعيد هذا الوزن المخبون التفعيلة إلى أصله غير المخبون في المتدارك "فاعلن فاعلن" فكأننا عندما نستعملها نزاوج بين الخبب والمتدارك الأصلي مع حذف النون من "فاعلن" فالتفعيلة الجديدة إذن ليست غريبة تمام الغربة عن وزن الخبب. ومن الممكن إقراراها مع شيء من التجوز نتمنى أن يسامحنا عليه الخليل.

الباب الثالث: الشعر الحر باعتبار أثره

الباب الثالث: الشعر الحر باعتبار أثره الفصل الأول: الشعر الحر والجمهور توطئة ... الباب الثالث: الشعر الحر باعتبار أثره. الفصل الأول: شعر الحر والجمهور. توطئة: لعل تاريخ الشعر العربي لم يعرف هزة أكبر من تلك التي تعرض لها وهو يواجه حركة الشعر الحر التي بدأت تنتشر انتشارها الجارف منذ سنة 1952، مع أن أولياتها تعود إلى سنة 1947، فقد جاء هذا الشعر بتجديد كامل في النظرة إلى وزن الشعر فنقل الأساس فيه من الشطر إلى التفعيلة، ومن نظام الشطرين الاثنين والقافية الموحدة، إلى نظام الشطر الواحد والقافية المتغيرة1. ومع أن الحركة كانت قائمة على أساس راسخ من العروض العربي، ببحوره وأشطره وقوافيه، إلا أن الجمهور العربي قد تكشف عن مقاومة مستمرة صريحة لها، فلم يرض

_ 1 لا مانع من أن يكون الشعر الحر موحد القافية ومن ذلك قصيدة نزار قباني "طوق الياسمين".

أن يتقبل هذا الشعر الجديد، ولا أن يحاول فهمه، وما زالت أغلب الأوساط الأدبية والفكرية تتحدث عنه بازدراء وسخرية. ولقد ألفنا في السنين الماضية أن نرى أنصار الشعر الحر يقابلون تحفظ الجمهور بالثورة وبحملات السباب والتجريح بشكل يوجع ضمير أي مراقب رصين للموقف. ذلك أن الجمهور العربي الذي يرفض هذا الشعر الحر لا يعدو أن يكون أحد اثنين، إما أنه متأخر في ثقافته ووعيه الشعري والأدبي وذوقه عن شعرائه الشباب بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم حركة جديدة ما زالت تبدو له غامضة، وإما أنه محق في رفضه لهذا الشعر لسبب وجيه ما. وفي الحالتين لا ينبغي لنا أن نتهجم على الجمهور. فإن كان الحق معنا، وكان جمهورنا الذي نكتب له متأخرًا عنا، فإن واجبنا أن نعلمه لا أن نسبه ونهينه ونهاجم مقدساته، وأما إذا كان الجمهور على حق، فماذا علينا أكثر من أن نرى الحق ونقره، ولو كان ضدنا؟ إن الشعر العربي ينبغي أن يكون أعز علينا من أي تجديد غالط وقعنا فيه. على أن من حسن الحظ أن الظروف أقل قسوة من هذين الطرفين اللذين ذكرناهما، فلا الجمهور العربي متأخر إلى هذا الحد المؤس، ولا الشعر الحر صادم للروح العربية والأذن العربية، وإنما يقوم موقف الجمهور منه على تداخل عوامل عديدة بعضها خارجي وبعضها يتصل بكل حركة مجددة تقابل جمهورًا ذا تراث قديم أصيل، وبعضها يرجع إلى أغلاط يقع فيها الشعراء أنفسهم. ومهما يكن من أمر فقد حاولت في هذا البحث أن أدرس الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف من الشعر الحر موقف المقاوم، وقد صح لديَّ، بعد طول التأمل، أن السبب في ذلك يرجع إلى ثلاثة أصناف من العوامل:

1 العوامل التي تتصل بطبيعة الشعر الحر، واختلافها عن طبيعة أسلوب الشطرين الشائع في الشعر العربي. 2 العوامل التي تنشأ من ظروف الشعر العربي في هذه الفترة التي ولد فيها الشعر الحر، وهي عوامل تسببها ملابسات في جونا الأدبي سندرسها. 3 عوامل تنشأ عن إهمال الشعراء الذين ينظمون الشعر الحر، وعدم عنايتهم بتهذيب شعرهم، وقلة معرفتهم بالشعر العربي، وضعف أسماعهم الموسيقية. وسوف ندرس كل مجموعة من هذه العوامل في فصل خاص.

طبيعة الشعر الحر

-1- طبيعة الشعر الحر: لا ريب في أن السبب الرئيسي في مقاومة الجمهور العر بي للشعر الحر يكمن في كون هذا الشعر خارجًا على أسلوب الوزن الذي ألفه العرب. وكل جديد يقابل في أوله بالمقاومة والرفض، فليس الشعر الحر بدعًا في هذا. ولقد كان طبيعيًّا أن يضيق به القراء حين جوبهوا به أول مرة سنة 1947. وأكاد أعتقد أن أغلب القراء -وبينهم أدباء وحتى شعراء أحيانا- ما زالوا لا يملكون فكرة واضحة عن معنى الشعر الحر، فهل هو شعر بلا وزن؟ أم أنه وزن ما يخالف أوزان الشعر العربي؟ وإنما يحس بهذه الحيرة، على الخصوص، أولئك الذين لا يملكون أسماعًا مرهفة تميز وزن الشعر تمييزًا دقيقًا، وهؤلاء قد ألفوا، قبلُ، أن يروا الأوزان مرصوصة، على شطرين متساويين، بحيث يكون تبين موسيقاها أسهل. ولذلك تاهوا وتعبوا حين أصبحت الأشطر غير متساوية في أطوالها، وعاد الارتكاز إلى التفعيلة بحيث يحتاج الأمر إلى شاعر لكي يتبين الإيقاع والموسيقى.

كان القراء يقرءون البحر الكامل "الوافي" وهو مكتوب هكذا: قلبي يحدثني بأنك مُتلفي ... روحي فداكَ عرفت أم لم تعرف لم أقضِ حق هوالك إن كنت الذي ... لم أقضِ فيه أسى ومثلي من يفي ما لي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف فلئن رضيت بها فقد أسعفتني ... يا خيبة المسعى إذا لم تُسعف1 متفاعلن متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلن متفاعلن وكانوا يقرءون مجزوء الكامل وهو مكتوب على النحو التالي: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدَمْقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير2 متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلاتن وكانوا يقرءون مشطور الكامل وهو يعادل شطرًا واحدًا منه. وكانوا يتقبلون ذلك كله لمجرد أن كل صنف منه معزول عن الصنف الآخر، فلا تكون القصيدة إلا وافية أو مجزوءة أو مشطورة دون أن تخلط بين هذه الأصناف.

_ 1 من شعر ابن الفارض. ديوان ابن الفارض: مطبعة حجازي بالقاهرة. 2 من شعر المنخل اليشكري.

وجاء الشاعر الحديث فرأى الرابطة بين وافي البحر ومجزوئه ومشطوره قائمة واضحة لأن هذه الأوزان كلها ذات تفعيلة واحدة هي متفاعلن، وهي كلها تنتمي إلى البحر الكامل، وإنما الفرق بينها في عدد "متفاعلن" وحسب، فهي تتكرر في الوافي ست مرات وفي المجزوء أربعًا وفي المشطور ثلاثًا. وقد لاحظ الشاعر أنه إذا وحد الضرب، استطاع أن يجمع مجزوء البحر ومشطوره وأجزاءهما في القصيدة الواحدة لأن عدد مرات التكرار لا يؤثر في الموسيقى شيئًا ما دامت التفعيلة واحدة والضرب واحدًا، ولذلك رأى أن يمزج بين الأطوال كلها في قصيدة واحدة. وكان ذلك طبيعيًّا وموسيقيًّا على أجمل ما يمكن. والواقع أن الشعر الحر جارٍ على قواعد العروض العربي، ملتزم لها كل الالتزام، وكل ما فيه من غرابة أنه يجمع الوافي والمجزوء والمشطور والمنهوك جميعًا. ومصداق ما نقول أن نتناول أية قصيدة جيدة من الشعر الحر ونعزل ما فيها من مجزوء ومشطور ومنهوك، فلسوف ننتهي إلى أن نحصل على ثلاث قصائد جارية على الأسلوب العربي دون أية غرابة فيها. ولنأت بمثال لما نقول. من قصيدة "إلى العام الجديد" من البحر "الكامل": يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف من عالم الأشباح ينكرنا البشر ويفر منا الليل والماضي ويجهلنا القدر ونعيش أشباحًا تطوف نحن اللذين نسير لا ذكرى لنا لا حُلْمَ، لا أشواق تشرق، لا مُنى آفاق أعيننا رماد تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامته ولنا الجباه الساكته

لا نبض فيها لا اتقاد نحن العراة من الشعور ذوو الشفاه الباهته الهاربون من الزمان إلى العدم الجاهلون أسى الندم نحن الذين نعيش في ترف القصور ونظل ينقصنا الشعور لا ذكريات نحيا ولا تدري الحياة نحيا ولا نشكو ونجهل ما البكاء ما الموت ما الميلاد ما معنى السماء1 ولنفرز أشطر هذه القصيدة ونجزئها إلى الأطوال التي يعزلها العروض العربي، فلسوف نحصل على ثلاث قصائد جارية على السلوب العربي حق الجريان. وهذه أولها، وهي من مجزوء الكامل ذي الشطرين: يا عام لا تقرب مسا ... كننا فنحن هنا طيوف ويفر منا الليل والـ ... ـماضي ويجهلنا القدر تلك البحيرات الروا ... كد في الوجوه الصامته نحن العراة من الشعو ... ر ذوو الشفاه الباهته متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلن أما القصيدة الثانية فهي من المشطور وهذا نصها: نحن الذين نسير لا ذكر ى لنا لا حُلْم لا أشواق تشرق لا مُنَى من عالم الأشباح ينكرنا البشر

_ قرار الموجة. نازك الملائكة. مطابع دار العلم للملايين، بيروت 1957.

الهاربون من الزمان إلى العدم نحن الذين نعيش في ترف القصور نحيا ولا نشكو ونجهل ما البكاء ما الموت ما الميلاد ما معنى السماء متفاعلن متفاعلن متفاعلن وهناك قصيدة ثالثة نستطيع استخلاصها ذات وزن أقصر هو المنهوك. ونعيش أشباحًا تطوف آفاق أعيننا رماد ولنا الجباه الساكته لا نبض فيها لا اتقاد ونظل ينقصنا الشعور نحيا ولا تدري الحياة إن هذه القصائد كلها من البحر الكامل وتفعيلتها جميعًا واحدة هي "متفاعلن" وهي إنما تجتمع في الشعر الحر لأن ذلك لا يخرج على النغم الذي تقبله الأذن العربية، وكل ما هنالك أنه أسلوب يتيح للشاعر تعبيرية أعلى يمنحه الفرصة لإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضيات المعنى. وليس يمكن أن يرفض الاعتراف بوزن ذلك شاعر ذو سمع مرهف. وإنما جاءت الضجة من القراء كما أسلفنا، وقد حسب بعضهم أن الشعر الحر نثر اعتيادي لا وزن له إطلاقًا. وليس أفظع غلطًا من هذا الحكم، كما رأى القارئ مما سبق. وإنني لأخجل حين أرى أحيانًا شعراء معروفين من الجيل السابق يصرحون في الصحف بأن الشعر الحر نثر. إن مثل هذه التصريحات الواقعة مؤلمة، ليس لأنها تؤثر في مستقبل الشعر الحر -ذلك لأنها لا تؤثر فيه- وإنما لأنها تشير إلى الارتجالية التي يكتب بها أدباؤنا، وإلى قلة تشخيصهم لمسئوليتهم في توجيه جمهور يتطلع إليهم

ملتمسًا التوجيه. والواقع الذي نحب أن نعود فنؤكده أنه ما من عارف بالشعر على الإطلاق يمكن أن يرضى لنفسه أن يقول إن الشعر الحر نثر لا شعر. وإنما يقول ذلك من لا معرفة له، أية معرفة، بالشعر العربي والعروض العربي. فليتحرج أي أديب كبير من الأحكام الارتجالية. إن الجيل الطالع سيكون أكثر معرفة بالعروض من أن تفوت عليه مثل هذه الأحكام الفاسدة.

الظروف الأدبية للعصر

-2- الظروف الأدبية للعصر: كان أسلوب كتابة الشعر العربي يمنحه شكلًا معينًا يساعد القارئ غير الشاعر على أن يدرك، في يسر وسهولة أن هذا شعر لا نثر. فما يكاد الشاعر يكتب الموزون، بأسلوب الشطرين، حتى يدرجه هكذا: يا حسرة ما أكاد أحملها ... آخرها مزعج وأولها عليلة بالشآم مفردة ... بات بأيدي العدى معللها تسأل عنا الركبان جاهدة ... بأدمع ما تكاد تمهلها وإذا نظم الرجز أدرجه هكذا: قَد عَلِمَ الأبناءُ مَن غلامُها إذا الصراصيرُ اقشَعَرَّ هامُها أنا ابنُ هيجاها معي زمامُها لم أَنبُ عنها نبوةً أُلامُها

_ 1 من شعر أبي فراس الحمداني وهو من البحر المنسرح.

من طولِ ما جرَّبني أيامُها ولا تُرى حانيةً أرحامُها وليلة قد بِتُّ ما أنامُها أحييتُها حتى انجلى ظلامُها1 وكان وزن الشعر يبيح هذا الأسلوب في الكتابة فيستقل الشطر أو البيت "شطران بينهما فسحة" على سطر واحد يترك سائره خاليًا. وإنما كان هذا في الأصل إشعارًا للقارئ بأن هذا شعر، وإلا فقد كان ينبغي ألا تترك في الأسطر فراغات، تمامًا كما نفعل حين نكتب النثر. وجاء الشعر الحر جاريًا على أساليب الشعر العربي، فراح الشاعر يكتب كل شطر من أشطره على سطر، سواء أكان شطرًا طويلًا أم قصيرًا، كما في هذه الأشطر من "المتقارب": وكنا نسميه، دون ارتياب، طريق الأمل فما لشذاه أفل؟ وفي لحظة عاد يُدعى طريق الملل2؟ وإنما يترك الشاعر سطرًا، مثل الثاني في هذه الأسطر، خاليًا لأن "فما لشذاه أفل" كانت شطرًا كاملًا له وزن وضرب وقافية، وكان هذا الشطر مستقلًّا عن الشطرين اللذين جاءا قبله وبعده، فمن حقه أن يُخص بسطر يفرد له، على الأسلوب العربي. وهذه هي القاعدة في الشعر الحر، فهو يقطع على أسطر بحسب وزنه، كلما انتهى منه شطر

_ 1 للشاعر عمير بن شييم القطامي. ديوان القطامي. دار الثقافة، بيروت 1960 "ص161". 2 قصيدة "طريق العودة" من ديوان المؤلفة "قرارة الموجة" "الطبعة الرابعة" دار العودة – بيروت، 1971 "ص57".

بدأ سطر جديد. وهذا كفيل بأن يساعد القارئ على تشخيص شعريته وتمييزه عن النثر حق التمييز. على أن الشعر الحر سرعان ما وقع في إشكال عسير خاصة بالنسبة لأولئك القراء الذين يعتمدون في إدراك الشعر على شكل كتابته لأنهم لا يحسنون فهم الوزن ولا يعرفون العروض. ذلك أن هؤلاء القراء بدءوا يخلطون بين هذا الشعر الحر الموزون وبين نثر عادي لا وزن له أصبح الأدباء يكتبونه ويقطعونه على أسطر دون أي مبرر أدبي. وهذا النثر الذي يغتصب لنفسه شكل الشعر يجري في اتجاهين اثنين: 1- الترجمات العربية للقصائد الأوروبية وغيرها. 2- ما يسمونه بـ "قصيدة النثر" وهي نثر طبيعي خال من الوزن ومن الإيقاع اختاروا أن يسموه قصيدة. وسوف ندرس كل صنف من هذين فيما يلي: أ- الترجمات النثرية للشعر الأجنبي: شاعت في جونا الأدبي ظاهرة كتابة النثر العربي الذي يترجم به الشعر الأجنبي مقطعًا على أسطر متتالية على سياق الترتيب في أصل القصيدة، فأصبح المترجمون يضعون مضمون كل شطر أجنبي في سطر مستقل كما يلي: يا ملاكًا أسمر، وضاء، مستقيمًا كمدفع يلمع في الفضاء، سوادك يقتحم ذهني

وشعرك قاصف كالريح المصفحة التي أمطرت على أوروبا1 وأحسب أن هذا الأسلوب في كتابة الترجمة منقول في الأصل عن اللغات الأوروبية. فقد ألفنا أن نرى أدباء أوروبا الذين ينقلون قصيدة من الألمانية إلى الإنكليزية مثلًا -أو بالعكس أو غيره- يلجئون إلى كتابة النص الإنكليزي بحيث يقابل كل شطر ترجمته الحرفية. وبذلك يسهل على القارئ مقارنة الترجمة بالأصل. وأغلب ما يفعل هذا، المترجمون الدقيقون الذين يريدون لترجماتهم أن تستعمل في التدريس بالجامعات حيث تتطلب الروح العلمية ترجمات محققة دقيقة الضبط يستطيع الطلبة والباحثون أن ينتفعوا بها، وذلك هو وحده الذي يبيح للمترجم أن يضع النثر مقابل الشعر، مكتوبًا على مثل ما يكتب الشعر عليه. ولقد ساعد على ذلك أن الصيغ والتعبيرات في اللغات الأوروبية متقابلة متشابهة إلى درجة ملحوظة، خاصة بين اللغات التي تنتمي إلى أصل واحد مثل الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، فهي كلها تنحدر من أصل لاتيني يجمع بينها ويجعل كثيرًا من قواعدها متقاربة. فكان من السائغ في هذه اللغات أن يوضع الشطر الموزون مقابل سطر من النثر يحتوي على معناه، دون أن يجد المترجم صعوبة في توزيع الألفاظ والأشطر في حدود اللغة التي يكتب بها ترجمته. هذا في لغات أوروبا. وأما في العربية فإن الأمر أشد تعقيدًا. ذلك أن لغتنا تختلف اختلافًا كبيرًا عن اللغات اللاتينية سواء أفي صيغتها وتعابيرها أم في اشتقاقاتها ونحوها وإعرابها، وذلك بحيث إذا أراد المترجم العربي أن تكون أسطره المترجمة مقابلة للأشطر الأوروبية فلابد له أن يضحي

_ 1 ترجمة نثرية من شعر إيدث سيتول، كتبها جبرا إبراهيم جبرا مجلة شعر. العدد 2 صيف 1957.

بقواعد لغته فيفصل مثلًا بين الموصول وصلته كما فعل جبرا إبراهيم جبرا حين كتب: وشعرك القاصف كالريح المصفحة التي أمطرت على أوروبا وقد يفصل بين الجار والمجرور ومتعلقهما كما في قوله: ... ... ... مستقيمًا كمدفع يلمع في الفضاء وكان حقه أن يقول "مستقيمًا كمدفع يلمع في الفضاء" دونما فصل. على أن اعتراضنا على هذا الأسلوب في كتابة النثر يرجع في أساسه الأكبر إلى أنه ليس من حق أي نثر أن يكتب مقطعًا على أسطر. ذلك أن التقطيع هبة أعطتها اللغة العربية للشاعر وحسب. وإنما يستحقها الشاعر لأنه يكتب وحدات موسيقية موزونة، فإذا منحناه مزية على الناثر كان ذلك هو المعقول والمنطقي. إن التقطيع ملازم للشعر. تلك هي القاعدة، وقد جرى عليها تاريخنا الأدبي كله. وأما النثر فما الذي يبرر كتابته مقطعًا؟ وإذا كان التقطيع مقبولًا في الشعر، حيث تسنده الموسيقى والوزن فيتقبله منطق الذوق، فما الذي يجعله مقبولًا في نثر عادي خال من الوزن مثل أي نثر سواه! والحق أن المرء يكره أن يقرأ شيئًا مقطعًا على أسطر بلا سبب مبرر كالوزن. ولذلك نجد أغلب الناس يرفضون قراءة الشعر الأوروبي المترجم المكتوب بهذا الشكل. وتلك خسارة فادحة، وإساءة إلى الآداب الأوروبية التي ينقلونها لنا؛ لأن من حق تلك الآداب أن تترجم إلى العربية في حدود أساليبها الجمالية المقبولة دونما خروج عن نطاقها الذوقي. وكلما كتبوا بالشكل المجلوب المصطنع الذي يستعملونه، ساهموا في حرماننا من فرصة

يتذوق فيها القارئ العربي الذي يجهل اللغات الأجنبية أدبًا غنيًّا عريقًا كالأدب الأوروبي. ومهما يكن من أمر فقد وقعت الواقعة، وشاع هذا الأسلوب الهجين في ترجمة الشعر الغربي، وألفنا أن نرى لغتنا العربية موزعة على أسطر بلا أي سبب يبرر ذلك. ولماذا تكتب قصيدة جاك بريفير هكذا: الحمار والملك وأنا سنكون أمواتًا غدًا الحمار من الجوع والملك من الضجر وأنا من الحب1 لماذا لا نكتبها كما يلي على نحو ما يكتب النثر العربي: "الحمار والملك وأنا، سنكون كلنا أمواتًا في الغد. يمو ت الحمار من الجوع، والملك من الضجر، وأموت أنا من الحب" أليس هذا أجمل وأوقع في النفس العربية التي ألفت أن يكتب نثرها بهذا الشكل؟ أولًا تكتسب قصيدة بريفير وقعًا أغنى لدينا؟ إن هذا، في لغتنا، نثر لا شعر، وعلى ذلك فإنه لا يكتسب أبعاده الحقيقية إلا إذا كتبناه كالنثر وأعطيناه صفة النثر. وأما إذا كان المترجم حريصًا كل الحرص على صفة التقطيع، فإن عليه أن يترجم هذا الشعر الأجنبي إلى شعر عربي، بكل ما يتبع ذلك من وزن وتقفية وعاطفة وصور. فإذ ذاك سيكون التقطيع من

_ 1 ترجمة فواز الطرابلسي. مجلة شعر. العدد 9-1959. ولا يخفى أن قوله "الحمار والملك وأنا" ليست صيغة عربية فإنما نقول في لغتنا "أنا والحمار والملك" لأن لضمير المتكلم الأسبقية في العبارة.

حقه. إن صفة التقطيع ليست هبة نستطيع أن ننتحلها حين نشاء، وإنما ينبغي لمن أرادها أن يكتب كلامًا موزونًا ليكون تقطيعه مبررًا تبريرًا أدبيًّا يجعل أذواقنا تتقبله. وإنما نبيح التقطيع لمن يكتب الموزون، وإلا فنحن، بفطرتنا العربية البسيطة، نضيق بنثر يقطع على أسطر دونما وزن يسنده. ولقد أضاف شيوع هذا الأسلوب في كتابة النثر إلى متاعب القارئ غير المختص في تذوق الشعر الحر وفهمه. ذلك أنه أصبح يرى كثيرًا من النثر المترجم مكتوبًا بأسلوب التقطيع. فكان يحسبه شعرًا حرًّا موزونًا. وحين يقرؤه ويلتمس الوزن الذي يسمع أنه ملازم للشعر الحر، يخرج بالخيبة. لأن عدم الوزن هنا ينتهي به إلى الحكم بأن الشعر الحر نثر. ولعل هذه الظاهرة المؤسفة هي التي تجعلنا نسمع أدباء معروفين، وحتى شعراء أحيانًا، يحكمون بأن الشعر الحر نثر. فإنما يحكم كثير من هؤلاء على هذا النثر المترجم وما يشبهه مما يبدو في شكله الخارجي كالشعر الحر. وعندما ألف الأديب والقارئ أن يرى كثيرًا من النثر الجديد مكتوبًا بأسلوب التقطيع في عشرات الصحف والكتب، حسب حين رأى الشعر الحر الموزون أنه نثر مثل ذاك. والقارئ المتوسط، وحتى بعض الأدباء ليسوا شعراء إلا في النادر، ولذلك حكموا بأن الشعر الحر نثر لا وزن له ولا قافية. وكان ذلك ظلمًا فادحًا وغمطًا لحقوق شعراء ينظمون كلامًا موزونًا يجهدون له، فلا تكون مرتبتهم أعلى من مرتبة أناس آخرين يكتبون نثرًا لا جهد فيه، ويقطعونه على أسطر دونما داعٍ أدبي، ثم يعطونه للقارئ بالسعر الأدبي نفسه وربما أعلى. ومن هنا وضعت في طريق الشعر الحر أول عثرة فكبا عندها.

ب- قصيدة النثر: في لبنان قامت عدوة غريبة ناصرها بعض الأدباء وتبنتها مؤخرًا مجلة "شعر" التي راحت تدعو إليها ملحة. وكان المضمون الأساسي لهذه الدعوة كما استخلصته من مجموع ما يقولون، إن الوزن ليس مشروطًا في الشعر وإنما يمكن أن نسمي النثر شعرًا، لمجرد أن يوجد فيه مضمون معين، وعلى هذا الأساس أخذوا يكتبون النثر مقطعًا على أسطر وكأنه شعر حر، لا بل إنهم زادوا فطبعوا كتبًا من النثر وكتبوا على أغلفتها كلمة "شعر". ولقد سموا النثر الذي يكتبونه، على هذا الشكل، باسم "قصيدة النثر" وهو اسم لا يقل غرابة وعدم دقة عن تعبير غيرهم "الشعر المنثور" ذلك بأن القصيدة إما أن تكون قصيدة وهي إذ ذاك موزونة وليست نثرًا، وإما أن تكون نثرًا فهي ليست قصيدة. فما معنى قولهم "قصيدة النثر" إذن؟ وما يهمنا في هذا الموضوع، أن نثرهم هذا، الذي يقدمونه للقراء باسم الشعر الحر قد أحدث كثيرًا من الالتباس في أذهان القراء غير المختصين فأصبحوا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون الذي يبدو ظاهريًّا وكأنه مثله. وخيل إليهم نتيجة لذلك، أن الشعر الحر نثر اعتيادي لا وزن له. ولعل الحق مع القارئ. فكيف يتاح لإنسان لم يمنحه الله هبة العشر أن يميز الشعر الحر الموزون من "قصيدة النثر" التي تكتب، وهي نثر، مقطعة وكأنها موزونة: ليتني وردة جورية في حديقة ما يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار

أو حانة من الخشب الأحمر يرتادها المطر والغرباء ومن شبابيكي الملطخة بالخمر والذباب تخرج الضوضاء "الكسول" إلى زقاقنا الذي ينتج الكآبة والعيون الخضر حيث الأقدام الهزيلة ترتفع دونما غاية في الظلام أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة أو صليبًا من الذهب على صدر عذراء قلي السمك لحبيبها العائد من المقهى وفي عينيها الجميلتين ترفرف حمامتان من بنفسج1 هذا نموذج مما يسمى بـ "قصيدة النثر" وهو كما يرى القارئ نثر اعتيادي لا يختلف عن النثر في شيء. ولسوف نعود، في موضع آخر من الكتاب، إلى مناقشة هذه الدعوة من وجوهها المختلفة. من كل ما سبق نرى أن نشوء حركة الشعر الحر في عصر الترجمة عن الشعر الأوروبي قد أساء إليها وجعل القراء غير العارفين لا يميزون بينه وبين النثر الذي يترجم به الشعر الأوروبي. وجاءت الإساءة الثانية من "الدعوة إلى قصيدة النثر" كما يسمونها، فأصبح القارئ يقرأ الشعر الحر وهو موزون فيخلط بينه وبين نثر تترجم به قصائد أجنبية، ونثر عربي اعتيادي يكتبه الأدباء مقطعًا ويسمونه في حماسة غير علمية شعرًا. وكيف يميز قارئ غير شاعر بين النماذج التالية المتشابهة ظاهريًّا؟ كيف يدري أيها هو الشعر وأيها هو النثر؟

_ 1 خاطرة "أغنية لباب توما" لمحمد الماغوط. كتاب "حزن في ضوء القمر"، مطابع مجلة شعر. بيروت 1959.

النموذج الأول: عندما أرنو إلى عينيك الجميلتين أحلم بالغروب بين الجبال والزوارق الراحلة عند المساء وأشعر أن كل كلمات العالم طوع بناني فهنا على الكراسي العتيقة ذات الصرير الجريح حيث يلتقي المطر والحب والعيون العسلية كان فمك الصغير يضطرب على شفتي كقطرات العطر فترتسم الدموع في عيني وأشعر أنني أتصاعد كرائحة الغابات الوحشية كهدير الأقدام الحافية في يوم قائظ النموذج الثاني: أمس اصطحبناه إلى لجج المياه وهناك كسرناه، بددناه في موج البحيرة لم نبق منه آهة، لم نبق عبره ولقد حسبنا أننا عدنا بمنجى من أذاه ما عاد يلقي الحزن في بسماتنا أو يخبئ الغصص المريرة خلف أغنياتنا ثم استلمنا وردة حمراء دافئة العبير أحبابنا بعثوا به عبر البحار

ماذا توقعناه فيها:؟ غبطة ورضى قرير لكنها انتفضت وسالت أدمعًا عطشى حرار وسقت أصابعنا الحزينات النغم إنا نحبك يا ألم النموذج الثالث1: أخبروني عن القبلة التي حرمت منها قولوا لي شيئًا عن هذه الصحراء التي أستمد منها أناشيدي أخبروني عن غزالتي التي قتلوها وزهرتي التي حرموها البستان قولوا لي ما الذي يبرر كل هذه الآثام؟ ما الذي يبرر مائة ألف حماقة؟ مائة ألف جريمة؟ قولوا لي: لماذا يعب المرعوبون كل هذه الكحول؟ لماذا يرتعدون من الأسود الحبيسة في منفاها؟ ولكن ... قولوا لي قبل كل شيء كيف حال الجزائر؟

_ النموذج الأول نثر من كتاب محمد الماغوط "حزن في ضوء القمر" والنموذج الثاني شعر حر من قصيدة "خمس أغان للألم" لمؤلفة هذا الكتاب. مجموعة "شجرة القمر" بيروت 1968. والنموذج الثالث شعر مترجم للشاعر الجزائري مالك حداد من ديوانه "الشقاء في خطر" الذي ترجمته نثرًا السيدة ملك أبيض. حلب 1961.

إن دواء هذا أن يكتب كل نثر كما يكتب النثر، أي بملء السطر دونما ترك فراغات، لكي ينفرد الشعر بمزية الكتابة الشعرية، فيستقل كل شطر منه بسطر، ولن يضير "شعرية النثر" -التي لا أقر بوجودها وأستبقي تحفظاتي إزاء اسمها هذا- أن يكتب كما يكتب النثر. وإنما التقطيع صفة ملازمة للشعر وهو علامته الفارقة فليس لنا أن نضيعها. على أن من الحق أن نقول إن تبعة الخلط بين الشعر الحر وغيره، لا تقع كلها على المترجمين ودعاة الشعر المنثور أو قصيدة النثر. وإنما شارك الشاعر نفسه في ذلك، وهو ما سندرسه في الفصل الثاني.

إهمال الشعراء

-3- إهمال الشعراء: لم تكن طبيعة الشعر الحر ولا ظروف العصر الذي نشأ فيه هي وحدها التي أضعفت مكانته لدى الجمهور، وإنما ساهم الشاعر الذي ينظم هذا الشعر مساهمة فعالة في إشاعة الفوضى في أساليبه وتفاصيله، وفي تشويه صفحته العروضية لدى الجمهور والأدباء. وكان دور الشاعر في هذا يجري في اتجاهين اثنين: "الأول" أنه أساء كتابة شعره، فلم يجعل الوزن أساسًا فيها، على ما كان الشاعر العربي يفعل، وإنما جعل التحكم للمعنى حينًا وللوزن حينًا آخر. "الثاني" أنه ارتكب الأخطاء العروضية والسقطات الموسيقية عامدًا أحيانًا وغير عامد في أغلب الأحيان. ولسوف نتناول كل فِقرة من هاتين على حدة. أ- إساءة الكتابة: الأصل في الشعر أن يطبع بحسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الطابع

عند نهاية الشطر العروض. وهذ القانون يسري على الشعر في العالم كله، فحيثما وجد الشعر كان وزنه هو الذي يتحكم في كتابته. إننا لا نقف بحسب مقتضيات المعاني، وإنما نقف حيث يبيح لنا العروض. ولذلك كان القدماء يشطرون الكلمة شطرين لمجرد أن يقفوا في آخر الشطر كما في كلمة "اليمني" في قول الشاعر: وبعبد المجيد شلت يدي اليمـ ... ـنى وشلت به يمين الجود1 كان أسلافنا صارمين في احترامهم للشطر وللوقف العروضية في آخره، وفي آخر البيت. ذلك مع أن شعرهم كان ذا أشطر متساوية عروضيًّا، فحتى لو أنهم رصوه دون أن يقفوا في آخر الشطر، لما أساء ذلك إلى شعرهم لمجرد أنه موزون وزنًا شطريًّا كاملًا، بحيث لا يبقى عليه خوف حتى من أن يكتب في أسطر، دونما فواصل تفصل الشطر عن الشطر. إن هذا هو ما فعله مؤلفو كتاب عن "شكسبير" أصدرته سلسلة "اقرأ" فقد كتبوا الشعر كما يلي: "أي صديقي بروت، أصغِ لقولي: أنا هذا مرآة صدق سأبدي لك ما لم تكن ترى من خلالك. لا تظن الظنون بي يا صديقي، لست بالضاحك اللعوب مجونًا، لا ولا بالمهين أبذل حبي وولائي لكل من يلقاني. لا ولا بالذي يهش ويلقي أحسن القول للحضور رياء، فإذا ما مضوا أساء حديثًا. إن هذا الشعر مكتوب على شكل النثر. ولكنه في الواقع نظم لا نثر؛ لأنه موزون وزنًا كاملًا وإن كانت لغته مصطنعة ركيكة، ولو كتبناه بموجب الأشطر للاح كما يلي، من البحر الخفيف:

_ 1 عبد الله بن مناذر يرثي ولده عبد المجيد.

أي صديقي بروت أصغ لقولي ... أنا هذا مرآة صدق سأبدي لك ما لم تكن ترى من خلالك ... لا تظن الظنون بي يا صديقي لست بالضاحك اللعوب مجونا ... لا ولا بالمهين أبذل حبي وولائي لكل من يلقاني ... لا ولا بالذي يهش ويلقي أحسن القول للحضور رياء ... فإذا ما مضوا أساء حديثا1 إنه نظم موزون لا قافية له، وقد كتبه المترجم على صورة النثر. على أن أي إنسان يتحسس الوزن حري بأن يحس بأن هذا موزون لا منثور، رغم ملامح النثر التي كتب بها. وعندما قامت حركة الشعر الحر جاءت بتطوير بارز لشكل الشطر العربي، فلم يعد هناك طول مقنن ثابت له، وإنما أصبح ذلك وقفًا على رغبة الشاعر وطول عباراته. بات الشاعر حرًّا في أن يورد أي عدد من التفعيلات في الشطر الواحد، إذا هو حافظ على الشروط العروضية للشعر الحر. وأصبح القارئ يقرأ شعرًا ذا أشطر مختلفة الأطوال كما يلي: بويب ... بويب ... أجراس برج ضاع في قرارة البحر

_ 1 كتاب شكسبير لمحمد فريد أبي حديد وزكي نجيب محمود وأحمد خاكي. سلسلة اقرأ العدد 17 "ص88".

الماء في الجرار والغروب في الشجر وتنضح الجرار أجراسًا في المطر بلورها يذوب في أنين "بويب يا بويب" فيدلهم في دمي حنين إليك يا بويب يا نهري الحزين كالمطر أود أو عدوت في الظلام أشد قبضتي تحملان شوق عام في كل أصبع كأني أحمل النذور إليك من قمح ومن زهور أود لو أطل من أسرة التلال لألمح القمر يخوض بين ضفتيك يرزع الظلال ويملأ السلال بالماء والأسماك والزهر1 إن الوزن، في هذه القصيدة جارٍ على العروض العربي تمام الجريان، فهو من بحر الرجز، وقد أصاب التفعيلة الأخيرة فيه تغيير فتحولت "مستفعلن" إلى "فَعِل" حينًا وإلى "فعولْ" حينًا. غير أن القارئ غير المختص لا يستطيع أن يميز الأشطر من بعضها، إلا إذا نحن فصلناها له فصلًا قاطعًا ورتبناها بحسب وزنها. وذلك لأنه بدءًا، قد لا يكون يحسن الوزن،

_ 1 قصيدة "النهر والموت" لبدر شاكر السياب مجلد ديوان الشاعر. دار العودة "بيروت 1971" ص453.

ثم إن أطوال الأشطر غير متساوية، والقافية خافتة تخلو من رنين القافية الموحدة القديمة التي تقرع السمع. ذلك فضلًا عن أن العبارة الحديثة لم تعد صارمة أو جهورية بحيث تلفت السمع كعبارات الشاعر القديم. على أن أهم عامل يحدث اللبس في شعرنا الحديث هذا هو أن الشاعر لم يعد يتقيد بقانون استقلال الشطر أو البيت. فقد كان أسلافنا يعيبون الشاعر إذا ما نظم بيتًا له تتمة في بيت تالٍ. وكان المألوف في الشعر العربي كله أن يكون البيت تامًّا في حدود شطريه. وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم للقارئ من الالتباس. أما اليوم فحتى هذا الدليل ضاع من يدي القارئ، كما نرى في أشطر بدر السياب: أود لو أطل من أسر التلال لألمح القمر يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال ويملأ السلال بالماء والأسماك والزهر هذه خمسة أشطر تضم كلها عبارة واحدة. أي أن ثلاثة أبيات منها تشترك في عبارة واحدة. وهناك نقطة أخرى تحدث الالتباس. أن الشاعر المعاصر مولع بالتسكين، فأكثر قوافيه ساكنة الآخر كما في هذه القصيدة التي اقتطفنا منها. فإذا تهاون الشاعر وأدمج الأشطر فإن القارئ قد يتلو القوافي مشكولة بحسب إعرابها. وبذلك يضيع الوزن كليًّا. وهذا خطأ يقع فيه الشاعر وغير الشاعر؛ لأن الشكل يفسد الوزن الذي أقامه الشاعر على سكون. وإذن فماذا يحدث لو أن الشاعر كتب أبياته بالشكل التالي مثلًا. "أورد لو أطل من أسرة التلال لألمح القمر يطل بين ضفتيك،

يرزع الظلال ويملأ السلال بالماء والأسماك الزهر" ترى هل سيكون هناك كثيرون يستطيعون أن يحزروا أن هذا شعر؟ لا أظن. ذلك أن الوزن خافت، والعبارة خالية من رنين الشعر القديم وفخامته، والشكل، حين يضاف إلى أواخر الكلمات، يقضي على الوزن. وهكذا يتحول الشعر إلى نثر ويضيع الجرس. لذلك السبب المهم ينبغي لنا أن نتخذ الطريقة العربية في كتابه الشعر مساعدة للقارئ على تحسس الوزن فيه. إن الشطر هو الحاكم وعلينا أن نخضع له ونحن نرص شعرنا الحر على الصفحة. علينا أن نكتب الشعر الحر بحسب الأشطر، فنضع كل شطر منفردًا على سطر مستقل، كما فعل بدر شاكر السياب في قصيدته التي اقتطفنا منها. وإنما يكمن الخطر في أن يقسم الشاعر أبياته بحسب المعنى، وهو خطر يمس القارئ والشاعر معًا كما سنذكر وشيكًا. ونريد الآن أن نأتي بنموذج من الشعر المرصوص رصًّا سقيمًا لا يقوم على أساس، وإنما تلعب به أهواء فوضوية تنم عن قلة المعرفة بشئون العروض. هذه أبيات من قصيدة حرة الوزن كتبها الشاعر نصًّا على الوجه التالي: على وجهي رمال الشك أصوات بلا معنى. رمال تشرب الغيم المدوي عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا وعد على دربي، سوى ريح وعتم في أراض جوها نار، وموت مثلما كانت ليالينا وآتينا. أنبقى في متاه الرمل أقدامًا تجر الجوع والحمى بلا مأوى تجر الخيبة الكبرى: أنبقى حفرة للريح أحداقًا رسا فيها فراغ

الهوة الكبرى، فنحن الآن لا ندري أيبقى الكون إن متنا، أكانت هذه الأشياء لولانا، ترى كانت على وجهي دروب تنتهي في الغيب في المنفى1 أول وهلة، حين قرأت هذا "الكلام" لم أفهم له وزنًا معينًا كما للشعر. لقد رأيت البيت الأول من بحر الهزج. على وجهي رمال الشك أصوات مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ولكن الشطر الثالث لاح لي من بحر آخر هو بحر الرمل المحذوف: عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ثم حيرني الرابع فلم أعرف له وزنًا مقبولًا غير أن يكون من "الرجز" على هذا الشكل: وعد على دربي سوى ريح وعتم في مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستف وعلى هذا تكون الأشطر الأربعة الأولى قد انتقلت من "الهزج" إلى "الرمل" إلى "الرجز" وهي ثلاثة أوزان لم يجمع بينها العرب. فما معنى هذا؟ أترى الشاعر ينثر؟ أم أنه يضحك منا ويستخف بالعروض؟ وحين نعود لنقر تلك الأشطر محاولين حل لغزها نلاحظ أن فيها

_ 1 "القصيدة الضائعة" لفؤاد رفقة. مجلة شعر ربيع 1958.

فضلًا شنيعًا متواصلًا بين أشياء لا تسيغ اللغة العربية أن يفصل بينها مثل الجار والمجرور في قوله: ... ... ... سوى ريح وعتم في أراض جوها نار ... ... ... فجعل حرف الجر في شطر ومجروره في شطر آخر. ومثل المضاف والمضاف إليه وقد فصلهما الشاعر بلا مبالاة في قوله: ... ... ... ... أنبقى في متاه الرمل أقدامًا تجر ... الجوع والحمى وفي قوله: .... أحداقًا رسا فيها فراغ الهوة الكبرى..... ومثل الفصل بين اسم الإشارة والمشار إليه في قوله: ... ... أكانت هذه الأشياء لولانا ... ومثل الفصل بين "مثلما" وفعلها في قوله: ... ... وموت مثلما كانت ليالينا وآتينا.. وفوق ذلك كله ارتكب الشاعر بدء سطر بهمزة وصل وهو أمر مستحيل لأن العرب لا تبدأ بساكن قط. وقد مر مثل هذا في نموذج الفصل بين المضاف والمضاف إليه وغيره. ويسأل الناقد الحيران نفسه: ترى لماذا يتكلف الشاعر كل هذا التصنع في لغته فيفصل بين ما لا ينفصل ويبدأ بهمزة وصل ونحو ذلك؟ إن الشاعر لا يفعل مثل هذا إلا وهو واقع في ورطة بسبب الوزن، فعل ترى ساقت هذا الشاعر ضرورة قاسية إلى أن يقسر قواعد لغتنا بهذا الشكل القبيح؟

على أن البحث ينتهي بنا إلى الخيبة. وسرعان ما يثبت لدينا أن هذا الشاعر يرتكب الإساءات إلى اللغة العربية دونما داعٍ من أي نوع. على العكس، إن قصيدته تكون أكمل وزنًا ولغة لو أنه كتبها بحسب مقتضيات استقلال الشطر. والحقيقة المرة التي ستصدمنا أن أبيات الشاعر سالمة عروضيًّا، في حقيقة الأمر، فليست هي من الهزج والرمل والرجز كما لاحت لنا، وإنما هي من "الهزج" وحده ولم يخرج الشاعر فيها عن الوزن. كيف حدث هذا إذن؟ أترانا نحن الذين نجهل الوزن؟ الجوابُ نفي. وإنما وقعنا في الخطإ لأن الشاعر أراد لنا ذلك حين أساء رصف قصيدته. وإنما كان ينبغي له أن يكتبها بحسب إيقاع وزنها، فلا ينهي الشطر إلا ختام التفعيلة، ولا يبدأ شطرًا بنصف تفعيلة. وها نحن نشطب صورة قصيدته كما كتبها هو ونعيد رصف أشطرها بحيث يتضح فيها وزن "الهزج": على وجهي رمال الشك أصواتٌ بلا معنى رمال تشرب الغيم المدوي عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا وعد على دربي سوى ريح وعتم في أراض جوها نار وموت مثلما كانت ليالينا وآتينا أنبقى في متاه الرمل أقداما تجر الجوع والحمى بلا مأوى تجر الخيبة الكبرى أنبقى حفرة للريح أحداقًا رسا فيها فرغ الهوة الكبرى فنحن الآن لا ندري أيبقى الكون إن متنا؟

أكانت هذه الأشياء لولانا؟ ترى كانت على وجهي دروب تنتهي في الغيب، في المنفى؟ الآن بانت القصيدة سليمة سلمت من الغلط التعبيري الكامن في فصل ما لا ينفصل والبدء بساكن، وسلمت من الغلط الوزني الكامن في الانتقال من الهزج إلى الرمل إلى الرجز1 فليقارن القارئ بين هذا الكلام المعقول الجاري على بحر واحد، وبين ذلك الكلام نفسه وقد أساء الشاعر توزيعه فكأنه لا يعرف الوزن ولا يحمل عنه فكرة. وإننا لنتساءل الآن: لم ترى كان ذلك؟ لماذا يهين شاعر ما شعره بهذا الشكل، وإذا لم يكن لديه داعٍ أدبي معقول، مثل ضرورة الوزن، فلأي سبب يمزق قواعد اللغة العربية على هذه الصورة؟ وأي ذوق عربي سليم يحتمل من الشاعر -مهما ورطته دروب الوزن- أن يأتي بمضاف في آخر الشطر، وبمضاف إليه في أول الشطر التالي؟ إن هذا، في الواقع، لا يعدو أن يكون عبثًا لا غاية له، ولا ينبغي للناقد أن يسكت عليه. إن للفوضى والقبح حدودًا. وإنما كان هذا وأمثاله جانبًا من الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف موقف النفور من الشعر الحر، فليت الشاعر الناشئ يلتفت ويكف عن عبثه هذا الذي كثرت أمثلته في شعره.

_ 1 أي قارئ ملم بالعروض يدرك أن الرمل والهزج والرجز تنتمي كلها إلى دائرة عروضية واحدة هي دائرة "المجتلب". على أن العرب لم تمزج بينها قط. وإنما وقع المزج بين الهزج والرمل في "البند" بشروط عروضية تقيده وتسيطر عليه. وقد شرحنا ذلك بتفصيل في الفصل الذي درسنا فيه "البند" في موضع آخر من الكتاب.

ب- الغلط العروضي يرجع جانب كبير من نفور الجمهور من الشعر الحر إلى كون الشعراء الذين ينظمون ذلك الشعر ضعيفي الأسماع بحيث يرتكبون أخطاء عروضية مشوهة وهم لا يشعرن. وأنا أكاد أجزم بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه. وهذه النسبة العالية تلفت النظر وتجعلنا نتساءل في جد حريص: لماذا يخطئ المعاصرون في الشعر الحر كثيرًا، مع أن أوزانه هي عين أوزان الشعر الخليلي الذي ينظمه هؤلاء الشعراء أنفسهم فلا يخطئون؟ والحق أنه سؤال مهم يستأهل أن نقف عنده ونفحصه. وسنرد عليه في نقط مرقومة: "أولًا" ينبغي لنا أن نلاحظ أن الشعراء الذين نظموا بالأوزان القديمة لا يخلون من الأخطاء العروضية، وفي وسعنا أن نملأ صفحات كثيرة بأغلاط شعراء لا يصدق القارئ أنهم يخطئون. هذا مثلًا بيت من الطويل لعلي محمود طه: وأصغى إليه الضوء في صفو جذلان وأضفى على الوادي شعاع حنان1 وهو بيت لا يستوي وزن شطريه اللذين يجريان كما يلي: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولُ فعولن أو أنهما يجمعان بين تشكيلتين للبحر الطويل لم يجمع بينهما العرب

_ 1قصيدة "العشاق الثلاثة" لعلي محمود طه. ليالي الملاح التائه. القاهرة.

وليس الغلط مقصورًا على علي محمود طه. فلمحمود حسن إسماعيل أخطاء مثلها هذا مثال منها، من الخفيف: طعنة من معاذ أخرس فوها ... فاك بعدما كنت تنهي وتأمر1 وشطره الثاني مكسور كسرًا لا يجبر لأنه خارج على الوزن. وهذا صالح جودة في ديوانه "ليالي الهرم" قال من "الخفيف": ارفعيه عن الثرى كما رفع الله إلى خلده نبي الصليب وإنما يستقيم البيت لو حذفنا كلمة "كما" التي يتوقف عليها المعنى ولنزار قباني في أوائل حياته الشعرية من البحر السريع: لعنتِ من صفراء جاحدة ... ماذا تمنيت ولم أفعل ابن ثمانين رضيت به ... لتغرقي في الذهب المثقل2 إن في عروض هذين البيتين زحافًا قبيح الوقع من الصنف الذي نحاسب عليه شعراء الشعر الحر. ولغير هؤلاء الشعراء غلطات كثيرة ليس هذا مجال ذكرها. ومن ذلك نرى أن الخطأ ليس مقصورًا على الشعر الحر وإنما يقع في سواه أيضًا، وقد تكون جذور أخطاء الشعراء الجدد كامنة في أخطاء أسلافهم من شعراء الشطرين. فلا يبنغي لنا أن نحاسب المعاصرين المتحررين وحدهم، ولا

_ 1 قصيدة "ثورة الإسلام في بدر" لمحمود حسن إسماعيل من ديوانه هكذا أغني القاهرة 1938. 2 قصيدة "خاتم الخطبة" لنزار قباني. ديوان قالت لي السمراء. الطبعة الأولى. مطابع الأحد دمشق 1944.

ينبغي أن نعد الغلط ظاهرة ملازمة للشعر الحر حيث نبيح لأنفسنا أن نطرد هذا الشعر من حظيرة الشعر العربي. "ثانيًا" ومع ذلك فإن الغلط في الشعر الحر أكثر منه في شعر الشطرين بشكل واضح يلفت النظر. إننا قد نجد خطأ عروضيًّا في قصيدة واحدة من عشر في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة. وهذه نسبة غير هينة تجعل الغلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة ينبغي أن تخص بالملاحظة. والسبب الأكبر في هذه الحقيقة هو أن الشعر الحر أصعب من شعر الشطرين. وذلك واضح لكل من يعرف العروض العربي ولو معرفة بسيطة. إن القصيدة العربية التي تستعمل بحر الرمل بأسلوب الشطرين تأتينا بثلاث تفعيلات في كل شطر فلا تتعدى ذلك. ويكون كل شطر من الأشطر مساويًا في الطول لكل شطر آخر. وإذ ذاك يكون التعثر نادرًا وملحوظًا فلا يفوت الشاعر ولا الناقد ولا القارئ. ذلك أن موسيقى الشطر ترن في السمع لمجرد أنها تتكرر دونما تغيير في كل شطر. ولكن ماذا يكون حال الشاعر، وهو ينظم قصيدة من بحر الرمل هذا، على الوزن الحر؟ إن الشطر هنا لم يعد يساوي الشطر في الطول وإنما يضع الشاعر شطرًا ذا تفعيلتين إلى جوار آخر ذي أربع. ومن ثم فإنه يحتاج إلى مزيد من اليقظة والتنبه لكي يضبط الوزن ويسيطر على الموسيقى. ولذلك يحتاج من يتصدى لنظم الشعر الحر إلى أن يكون ممرنًا تمرينًا عظيمًا على استعمال الأوزان ذات الشطرين بكل تشكيلاتها بحيث يصبح استعمال التفعيلات لديه يسيرًا، وبحيث ترن الموسيقى في كيانه رنينًا عفويًّا يميزه حق التمييز. وهذا ليس يسيرًا. فليس كل شعرائنا موهوبين. ليسوا كلهم ممرنين على النظم تمرينا يجعل دروب الأوزان واضحة في أذهانهم. ومن ثم فإن أسلوب الشطرين أهون على هؤلاء لو تأملوا.

إن من لم يحسن أسلوب الشطرين ومجرى البحور حق الإحسان لن يعرف كيف يخرج على عدد التفعيلات أو لنقل إن من لم يعرف أن ينظم قصيدة كل أشطرها متساوية الطول لن يعرف أن ينظم قصيدة يكون شطر منها طويلًا والثاني أقصر والثالث أطول. تلك مسألة بديهية. "ثالثًا" يقع جانب من اللوم، في قضية الأخطاء العروضية الشائعة في الشعر الحر، على عواتق النقاد العرب المعاصرين. ذلك أنهم رفضوا أن يقوموا بواجبهم في نقد ذلك الشعر وغربلته، وإنما كان كل ما فعلوه أنهم هاجموه بكلمات جارحة وسخروا ممن ينظمه. ولقد كتب كثير منهم باختصار واحتقار وهزء عن الحركة كلها. وكانت حدة اللهجة وعصبية العبارات، ونبرة التحامل تشي بأنهم غاضبون وأن ما يقولونه -لذلك- بعيد عن الموضوعية. وكانت النتيجة المحتومة أن الشعراء الناشئين، وبعضهم مصاب بصلف الجهل، رفضوا أن يصغوا إليهم، وزادوا بأن جابهوهم بالسباب المقابل والهجوم والسخرية. ولم يقع الحيف في هذا إلا على الشعر العربي نفسه. ولعل أكثر اللوم في هذه المعركة اللفظية المزرية يقع على النقاد لا على الشعراء. ذلك لأن الناقد الذي يسمي نفسه ناقدًا ثم يجهل أن الشعر الحر موزون جار على العروض العربي تمام الجريان، بحيث يتعرض للزحاف والعلل والتدوير، ويرد على المشطور والمجزوء، وتكون له ضروب، هذا الناقد يحكم على نفسه بأنه ليس ناقدًا، وإنما هو واحد من أولئك البسطاء الذين لا يتورعون عن أن يدلوا بآرائهم في كل موضوع. بلى، قد يكون هذا الناقد كفئًا في نقد موضوعات أخرى غير الشعر، إلا أنه على كلٍّ ليس ناقدًا للشعر ما دام لا يميز الموزون من غير الموزون. ولقد كانت نتيجة هذه الأحكام السطحية المتسرعة من بعض الأدباء، أن الشاعر الناشئ الذي ينظم الشعر الحر ويدري أنه شعر لا نثر، وأنه موزون بحيث يمكن أن يحاسب عليه، هذا الشاعر فقد ثقته بالناقد،

ومعه الحق. وقد جعله ذلك يتمادى ويبالغ فلا يتنزل إلى الإصغاء إلى تصحيح مصحح. فإذا نبهه ناقد مخلص إلى خطإ عروضي، اتهمه بأنه ناقد رجعي يريد الاقتصار على أسلوب الشطرين. وانتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الشاعر جامحًا، يخرج على العروض وعلى الموسيقى وعلى الذوق باسم "الحرية". وهكذا انطلق الشعراء الناشئون يخطئون أفظع الأخطاء وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد. ومضى الناقد يسب ويهاجم ويسخر دون أن يستطيع مساعدة هؤلاء الناشئين الذين يحتاجون إلى التوجيه والرعاية والتشجيع. والحق أن بعضهم شعراء ذوو موهبة، غير أن جموحهم وعنادهم وسوء فهمهم للحرية قد ظلم مواهبهم وقطع عليهم طريق النمو والتكامل. واليوم يكاد الشعر الحر يلهث تعبًا على أيديهم. هذه مشكلة الغلط العروضي في الشعر الحر وسوف نفرد الفصل التالي لأكثر أصناف هذا الغلط شيوعًا.

الفصل الثاني: أصناف الأخطاء العروضية

الفصل الثاني: أصناف الأخطاء العروضية مدخل ... الفصل الثاني: أصناف الأخطاء العروضية. نحاول في هذا الفصل أن نصنف الأخطاء العروضية التي يقع فيها الشعراء في شعرهم الحر وندرسها دراسة قصيرة بمقدار ما يتسع المقام، مستعينين في ذلك بالأمثلة. وقد رأيت، بعد دراسة بطيئة متمهلة لما يُنشر من الشعر الحر، أن الأخطاء الشائعة فيه يمكن أن تصنف إلى أربعة أصناف بارزة هي: أ- الخلط بين التشكيلات. ب- الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا. ج- أخطاء التدوير. د- اللعب بالقافية وإهمالها. وسوف نقف عند كل صنف من هذه الأصناف وقفة متمهلة.

الخلط بين التشكيلات

أ- الخلط بين التشكيلات: لعلنا جميعًا، قراءً ونقادًا، وشعراء، نتفق على أن الأبيات التي

تخرج عن الوزن في قصيدة ما تجرح أسماعنا وتجعلنا نضيق بالقصيدة ونرفض أن نتم قراءتها. والواقع أن هذا هو السبب الذي يجعل الجمهور يقف من الشعر الحر موقف النفور والرفض. إن هذا الشعر يحتوي على نسبة عالية من النشاز الموسيقي وأغلاط الوزن. ولذلك فإن القارئ، مهما كان ضعيف القدرة على تحسن الوزن، يشعر بالضيق حين يقرأ القصائد الحرة التي يتعثر ناظمها في الوزن. ويكاد الخلط بين التشكيلات يكون أفظع أنواع الغلط وأكثرها شيوعًا في الشعر الحر. وأساس هذا الخطإ أن كثيرًا من الشعراء والناظمين، وأكثرهم ناشئون، قد حسبوا أن مسألة ارتكاز الشعر الحر إلى "التفعيلة" بدلًا من "الشطر" إنما تعني أن في وسع الشاعر أن يورد أية تفعيلة في ضرب القصيدة ما دام يحفظ وحدة التفعيلة في الحشو. فإذا كان ينظم قصيدة من بحر الرجز تجري هكذا: مستفعلن مستفعلن مفعولن ظن أن من السائغ له أن يخرج عنه إلى أية تشكيلة أخرى من تشكيلات الرجز المباحة مثل هذه: مستفعلن مستفعلن فعلن وهذا خطأ، كما سبق أن أوضحنا. نعم، إن التشكيلتين كلتيهما تنتميان إلى بحر الرجز، ولكن العرب لم يستعملوا أكثر من تشكيلة واحدة في القصيدة الواحدة. وكان منشأ هذه "الكبوة" التي وقع فيها شعراؤنا المعاصرون أنهم ظنوا أن البحور الشعرية تصبح في الشعر الحر متجاوبة مع تشكيلاتها جميعًا بحيث يصح المزج بينها. وكذلك فسروا "الحرية" في هذا الشعر الجديد، وكذلك خرجوا على الأذن العربية فكان لا بد للقراء المتذوقين أن ينصرفوا عن قراءة هذا الشعر.

الحق أن الشاعر الأصيل الذي أرهف سمعه بالإغراق في قراءة الشعر العربي لا يمكن أن يقع في المزج بين التشكيلات في قصيدة واحدة، وإنما وقع مثل ذلك لدى شعراء موهوبين لأنهم، فيما نظن، أسكتوا صوت فطرتهم الشعرية وانساقوا مع تجديد حسبوه منطقيًّا. ولقد شجع خطأ الواحد منهم أخطاء الآخرين ونصرها، فكان الشاعر منهم يشيح عن صوت نفسه المرهفة التي تأبى عليه المزج بين المتنافر، لمجرد أن شاعرًا آخر منهم قد ارتكب ذلك المزج. وقد تكون أسباب الخلط غير هذه لدى شعراء آخرين. إن من الشعراء المعاصرين في وطننا العربي من ينقصهم التمرين، ومنهم ناظمون لا يرتفعون إلى مستوى الشعر، وكلا الطائفتين معرضة إلى أن ترتكب الأخطاء. ونحن في عصر بات ازدراء العروض فيه يعتبر صفة ملازمة للشاعر الموهوب. وقد شاعت مثل هذه النظريات المضللة شيوعًا عظيمًا بين الناس. وكانت نتيجة هذا كله أن الشعر الحر غص بالخلط بين التشكيلات، ووقع مثل ذلك حتى لدى شعراء مارسوا النظم بأسلوب الشطرين طويلًا مثل سليمان العيسى ونزار قباني وفدوى طوقان وهم جميعًا شعراء ذوو وزن. وهذه فدوى مثلًا في قصيدة لها، وزنها الرجز افتتحتها قائلة: تحبني صديقي المقرب الأثير1؟ مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعول وقد كان ينبغي لها، حسب قانون الأذن العربية، أن تقصر حرية القصيدة على التلاعب بعدد تفعيلات الحشو الموحدة "مستفعلن"، مع إثبات التفعيلة الأخيرة الشاذة "فعول" بحيث ترد في آخر كل شطر من القصيدة2.

_ 1 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب أيان 1961. 2 لا يفوتني أن أقر هنا بأنني لم أعد أومن بهذا القانون أو أراه ملزمًا للشعراء.

على أن فدوى لم تفعل ذلك. وإنما راحت تعبث بكل من الحشو والضرب، خلافًا للقاعدة العربية، فضاع الوزن وأصبحت القصيدة مجموعة من تشكيلات الرجز كما نرى من الفقرة التالية منها. وسوف نكتفي بأن نثبت تفعيلة الضرب ما دامت تفعيلة الحشو ثابتة لا تتغير وهي "مستفعلن": وكنت في يأسي أمد خلفها اليدين "فعولْ": أود لو بلغتها، لمستها حقيقة "مستفعلن": شيئًا يُمس صدقه بالراحتين "مستفعلان": كانت سرابًا في سراب "مستفعلان": الحب عند الآخرين جف وانحصر "فَعِلْ": معناه في صدر وساق1 "مستفعلان": ما معنى هذا؟ أن الشاعرة قد جمعت بين أربع تشكيلات لم يجمع بينها العرب قط. وإنما كانت القصيدة الواحدة تستعمل تشكيلة واحدة لا تتعداها وحين تقع علة في ضرب القصيدة، سواء أكانت علة نقص أم علة زيادة، فإنها تتكرر بعد ذلك في كل شطر من أشطر القصيدة وتصبح قانونًا. وعلى ذلك تبدو أبيات فدوى مصابة باختلال وما من عروضي يستطيع أن يقبلها. لا بل إن فدوى نفسها، بحسها الشعري الرقيق، لو أعطت فطرتها الحكم، لشطبت هذا الخروج وأبت أن تقع فيه. والواقع أننا لا نجد له مثيلًا في قصائدها ذات الشطرين أو ذات الشطر الثابت الطول.

_ 1 سبق أن قلنا، في بحث سابق أن "مستفعلان" لا ترد في ضرب الرجز قط فاستعمالها هنا خطأ عروضي.

الخلط بين الوحدات المتساوية شكلا

ب- الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا: في أبيات فدوى التي نقلناها في الصفحات السابقة ورد الشطران المتجاوران التاليان: كانت سرابًا في سراب كانت بلا لون بلا مذاق وقد توهمت الشاعرة أن كلمة "مذاق"، بصفتها مساوية لكلمة "سراب" في الطول، تستطيع أن ترد جوابًا لها في الشطر التالي على سبيل الإيقاع والنغم وغير ذلك مما أرادت الشاعرة في هذه القصيدة، أن تستعيض به عن القافية. وهي قد التزمت هذا عبر القصيدة كلها فكانت قوافيها: "أثير، سنين، عبور، دروب، قديم، صغار، شتاء، فقير، صغير، ظماه، حياه، نضير، عبير.. إلخ". غير أن الظرف العروضي الذي أحاطت به الشاعرة هذه القوافي يجعلها غير متناسقة ولا متساوية. والواقع أن الكلمات التي تتساوى في طولها، في واقعها اللغوي، ليست بالضرورة متساوية في داخل القصيدة، وذلك بسبب تحكم التفعيلات والأنغام. وشطرًا فدوى اللذان نسخناهما مثال على ذلك. إن وزن الشطرين كما يلي: كانت سرابًا في سراب مستفعلن مستفعلان كانت بلا لون بلا مذاق مستفعلن مستفعلن فعولْ وعلى هذا فإن ضرب الشطر الأول ليس هو كلمة "سراب" كما تتوهم فدوى وإنما هو قولها "بًا في سراب" الذي يساوي التفعيلة "مستفعلان" وأما ضرب الشطر الثاني فهو كلمة "مذاق" وحدها لأنها تفعيلة كاملة

إن موقع كلمة "مذاق" من التفعيلة "فعول" ليس هو موقع "سراب" من تفعيلتها "مستفعلان" وهذا يجعلهما مختلفتين بحيث لا يصح أن تتجاورا هنا وليستا قافيتين. ولقد كررت فدوى هذا الخطأ مرارًا في قصيدتها فقالت في أولها: تحبني صديقي المقرب الأثير أحبه يظل نسمة رخية – العبور فكانت "الأثير" تفعيلة كاملة بينما بقيت "العبور" جزءًا من تفعيلة وجعلهما ذلك مختلفتين بحيث لم تشكلا قافية. وهذا الخطأ، كسابقه، مألوف في الشعر الحر الذي يكتبه غير فدوى من الشعراء. ففي عين عدد "الآداب" الذي نشرت فيه قصيدة فدوى، قصيدة مضطربة الوزن، عنوانها "الممثل" كتبها مجاهد عبد المنعم مجاهد، وجاء فيها من نماذج الخلط بين الوحدات المتشابهة ظاهريًّا كثير، قال: وعندما انتهيت من كتابته أحسست أنني أموت في نهايته ووزن الشطرين كما يلي مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل إن قافية الشطر الأول هي كلمة "كتابته" كلها، وأما قافية الشطر الثاني فهي مقطع "يته" التي هي جزء من كلمة نهايته. وقد كان يستطيع أن يضع الكلمة الكاملة قافية لو قال مثلًا: أحسستني قد مُت في نهايته ومن يقلب قصائد الناشئين الحرة يجد كثيرًا من هذا الخلط المؤسف

بين الوحدات، وهو خلط ترفضه الأذن الشعرية المرهفة، كما يرفضه الناظم العروضي الممرن الذي أحسن درس العروض، فلا الموهوب يقبله ولا العارف بالعروض. أقول هذا مع تقديري لشاعرية مجاهد عبد المنعم. والحقيقة التي لا ينبغي أن تفوتنا أن الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا ليس إلا جزءًا من الخلط بين التشكيلات. إن شطري فدوى ينتمي كل منهما إلى تشكيلة لأن "مستفعلن مستفعلان" تختلف كل الاختلاف عن "مستفعلن مستفعلن فعول" كما سبق أن شرحنا في موضوع التشكيلات، وكان على الشاعر، ومثلها الشاعر، أن تختار إحدى التشكيلتين وتجري عليها في القصيدة كلها وبذلك تكون الوحدتان "سراب" و"مذاق" المتساويتان في الشكل، متساويتين عروضيًّا أيضًا لوقوعهما في المكان عينه من التفعيلة. والأمر كذلك بالنسبة للكلمتين "كتابته" و"نهايته". وفي ختام هذه الفقرة من بحثنا أحس القارئ يسألني: لماذا لم يقع أسلافنا الشعراء في مثل هذا الخلط بين الوحدات؟ ولماذا عرف هذا الداء في عصرنا؟ والجواب أن الشعر الحر أصعب من الشعر ذي الأشطر المتساوية. لأن التساوي كان يضطر الشاعر إلى أن يورد عين التفعيلات في كل شطر. فإذا بدأ القصيدة: مستفعلن مستفعلن فعول. فإذا هذا يبقى طولًا ثابتًا لكل شطر تالٍ، فلا يستطيع الشاعر أن يخطئ. وأما الشاعر الحديث فإن ظروفه صعبة لأن من حقه أن يطيل الشطر ويقصره، وهذا يجعله أكثر تعرضًا للمزالق.

أخطاء التدوير

ج- أخطاء التدوير: ما زال الجمهور العربي يشكو من أن الشعر الحر يلوح له نثرًا لا وزن له. وأحسب أن كثرة التدوير في شعر الشعراء الناشئين تساهم،

بنسبة عالية، في إشاعة هذا الإحساس في نفوس القراء. ويكمن سبب ذلك في جوهر التدوير نفسه. لأنه في حقيقته مد للعبارة وإطالة للشطر، فإذا كان الشاعر ضعيف السيطرة على قصيدته بالمعنى العروضي، لاح وكأن ما يقوله نثر خالٍ من الموسيقى والإيقاع. ونحب أن نورد مثلًا. إني أسحب أول عدد أصادفه من مجلة "الآداب" فأقع فيه على قصيدة لخليل الخوري من دمشق يبدؤها قائلًا من الكامل: أنا في انتظار المعجزه من أين؟ لا أدري! ولكني هنا ألتاث يوجعني انتظار المعجزه الصمت في الأغوار يزحف يأكل الأبعاد يفترس الزمان أصغي أكاد أحس أحدس ما تحيك1 أنامل الصمت العميق2 إن هذه الأشطر تزخر بالتدوير. هناك من الأشطر المدورة الثاني والثالث والخامس والسابع. وحيث إن الشعر الحر ذو شطر واحد كما سبق أن قررنا فإن التدوير يصبح ممتنعًا كل الامتناع فيه؛ لأن العرب لا تدور ضرب الشطر أو البيت، وإنما يدور العروض وحسب، ثم إن الحاجة إلى التدوير تنتفي أصلًا في كل شعر حر. ذلك لأن طول الشطر غير معين بحيث يستطيع الشاعر أن يضع ما يشاء من تفعيلات مستغنيًا عن التدوير. وعلى هذا الأساس كان ينبغي أن يجمع الشاعر كل شطرين مدورين معًا. وبذلك تصبح قصيدته كما يلي:

_ 1 الصواب "تحوك". ويخطئ في هذا الفعل كثير من الناشئين، لا ندري السبب. 2 قصيدة "الرؤيا المكبلة" خليل الخوري. مجلة الآداب. بيروت. آب 1961.

أنا في انتظار المعجزه من أين؟ لا أدري ولكني هنا ألتاث يوجعني انتظار المعجزه الصمت في الأغوار يزحف، يأكل الأبعاد، يفترس الزمان أصغي أكاد أحس أحدس ما تحوك أنامل الصمت العميق. وعندما نكتبها هكذا، كما ينبغي أن تكتب وكما تفرض قواعد العروض العربي، نلاحظ أنها طويلة الأشطر في الغالب مع شيء من عدم الانسجام بين الشطر الأول القصير والأشطر الثلاثة التالية على أنها مع ذلك جميلة التعبير جارية على قواعد البحر الكامل. والمأخذ على هذه الأشطر هو كما قلنا عدم التناسق بين طولها. فأين الشطر الأول المكون من تفعيلتين من الشطر الثاني المكون من ست؟ أو من الثالث والرابع وكل منهما ذو خمس تفعيلات؟ ولا يقل سوء تأليف عن ذلك كون الشطر الثاني في حقيقته بيتًا ذا شطرين من البحر الكامل هذا وزنه: من أين لا أدري ولكني هنا ... ألتاث يوجعني انتظار المعجزه متفاعلن متفاعلن متفاعلن ... متفاعلن متفاعلن متفاعلن ومن هذا ندرك أن الأشطر الثالثة "2 و3 و4" في أصل الشاعر لم تكن في الحقيقة إلا بيتًا واحدًا ذا شطرين. فلماذا إذن كتبه الشاعر هكذا: من أين لا أدري ولكني هنا ألتاث1 يوجعني انتظار المعجزه؟

_ 1 يعرب "ألتاث" خبرًا للكن، و"يوجعني" خبرًا ثانيًا، وتعدد الخبر جائز في النحو ويصح أيضًا تقدير واو العطف محذوفة.

إنه أولًا يقطع بيتًا تقطيعًا لا صلة له بالوزن، وهذا غير مقبول، فإنما التقطيع صفة يفرضها الوزن ولا يتحكم فيها سواه، ثم إن الشاعر بهذا التقطيع المتعسف يجعل أشطره مدورة في موضع لا يسوغ فيه التدوير. ذلك فضلًا عن أن قواعد البلاغة لا تبيح أن نفصل عبارة "من أين" عن عبارة "لا أدري". وليس من غرض بياني يسوغ فصل الفعل "ألتاث" عن الفعل "يوجعني" وهما في مرتبة نحوية واحدة. ومهما كان فإن فصل العبارات عن بعضها في الشعر ينبغي ألا يكون إلا إذا اقتضته وقفة عروضية، فلا شيء سواها يستطيع تقرير فصل غير مباح. هذا مع العلم بأن بعض الفصل لا تبيحه حتى وقفة عروضية وذلك مثل الفصل بين مضاف ومضاف إليه ونحوه. والواقع أن السادة الشعراء يرتكبون في الواقع إساءتني أولاهما: أنهم يقعون في التدوير في الشعر الحر مع أنه ممتنع فيه لأنه شعر ذو شطر واحد، وثانيتهما: أنهم بالإضافة إلى خطيئة التدوير، يقسمون الشطر إلى أشطر على أساس المعنى، مع أن الشطر في العروض وحدة موسيقية مستقلة وينبغي أن يُفْصل بينها وبين أية وحدة أخرى فصلًا ملحوظًا بترك فراغ على الورق. هذا وأمثاله يشير إلى أن القصيدة قد أفلتت من سيطرة الشاعر المعاصر، فهي تقوده وتجري به حيث تشاء، وهو لا يملك من عدة اللغة، والعروض ما يعينه عليها. إنه غير شاعر بوحدة الشطر، تارة يبدأ شطرًا بالنصف الأخيرة من الكلمة، وتارة ينهي شطرًا بالنصف الأول من الكلمة. وأحيانًا يورد بيتًا ذا شطرين متساويين على النمط الخليلي وهو يظن أنه يكتب شعرًا حرًّا تتعدد أطوال أشطره. وتراه يكتب أبياتًا مدورة وهو يحسب أن كل شطر فيها مستقل، وأحيانًا يضع قافية في نهاية الشطر ويظن أنها هي القافية، مع أن شطره مدور بحيث يذهب نصف القافية إلى الشطر التالي فلا تعود قافية. وكل هذه الفوضى تنشأ عن وقوع الشاعر

في التدوير وهو غافل. أليس التدوير مسألة عروضية بحتة مرتبطة بالمعنى وبالموسيقى؟ ومن قال إننا أحرار في استعماله حيث شئنا ومتى شئنا؟ لنأخذ هذه الأشطر من خليل الخوري كما كتبها هو: آه متى يشتد عصف الريح، عصف الريح روح البحر، لولا الريح جف البحر، آهٍ من يحث لنا السحاب؟ أربعة أشطر جميلة سطرها الشاعر وهو لا يدري أنها في واقعها العروضي شطر واحد لا ينفصم نهايته كلمة "السحاب". ولقد كان التدوير المتصل ثقيلًا هنا لأن المعنى كان يقتضي الوقوف بعد الاستفهام الأول "آه متى يشتد عصف الريح؟ " وكان ينبغي أن ينتهي الشطر عند آخر هذا السؤال انتهاء عروضيًّا لينسجم الوزن والمعنى كما ينبغي لهما في كل شعر جيد. وأما عبارة "عصف الريح روح البحر" فقد كان حقها أن تفصل فصلًا كاملًا عن سابقتها؛ لأنها عبارة خبرية وما قبلها استفهام يختلف عنها بلاغيًّا. وإنما وجد التدوير لربط شطر أول لم ينته المعنى فيه بشطر تالٍ له. وهذا هو القانون في كل تدوير. وإذن فما الداع إلى أن يربط الشاعر للعبارتين "متى يشتد عصف الريح؟ " و"عصف الريح روح البحر؟ " ما من جواب منطقي سوى أنها قد تكون "ضرورة" فإن في الأمة العربية اليوم جيلًا من الأدباء والشعراء الناشئين يحسبون هدم قواعد البلاغة والنحو والعروض مظهرًا من مظاهر التجديد. ولذلك لا نجدهم يعنون بمراجعة قاموس أو مرجع في القواعد، لا بل إنهم يستخفون بالناقد الذي يعاتبهم على إهمال قاعدة أو استعمال لفظة على قايس فاسد. وليس من الضروري أن يكون خليل خوري أحد هؤلاء فإن قصيدته هذه تشير إلى قدرة تعبيرية ملحوظة.

وما نتيجة كل هذا التدوير بالنسبة للقارئ الذي ليس شاعرًا؟ أنه يرتبك ولا يعرف حدود الوزن. يقرأ شطر الشاعر: يأكل الأبعاد يفترش الزمان أو شطره: عصف الريح روح البحر فلا يجد له وزنًا معروفًا، ولا يجده منطبقًا على أي بحر من بحور الشعر. فلا يكون منه إلا أن يحكم بأن هذا نثر بلا وزن. وينبغي لنا ألا نلومه. وهل الناس كلهم شعراء يعرفون حدود الأوزان؟ لا بل إن كان الشاعر لا يعين حدود الشطر فكيف ننتظر ذلك من القارئ البسيط الذي يقرأ الشعر ليجد فيه لذة ونشوة وحسب وكثيرًا ما يضيع بين حدوده؟

اللعب بالقافية وإهمالها

د- اللعب بالقافية وإهمالها: بدأ العرب يتخلصون من عبء القافية الموحدة ذات الرنين العالي منذ عصور بعيدة، فنشأ الموشح والبند وفنون الشعر الشعبي، ودرجت الأغاني التي تستعمل أكثر من قافية واحدة. وفي عصرنا هذا شاعت الرباعيات والثنائيات وخطط القوافي المعقدة، غير أن القافية بقيت ملكة تتحكم في الشعر فلم يخرج عنها شاعر معروف. ومضى ذلك حتى السنوات الأخيرة، بعد قيام حركة الشعر الحر واستسلام الشعراء الشباب لها بلا تريث ولا تمحيص. فلقد بدأنا مؤخرًا نقرأ قصائد لا قافية لها على الإطلاق، وارتفعت أصوات غير قليلة تنادي بنبذ القافية نبذًا تامًّا. وكان هذا صدى للشعر الغربي وهو قد عرف الشعر المرسل الذي يخلو من القافية منذ مسرح شكسبير، فكان هذا الشاعر الإنكليزي الكبير يكتب شعرًا لا قافية له في الغالب فلا يأتي بقافية إلا في خاتمة الفصل إيذانًا

بانتهائه. والشعر الغربي اليوم أغلبه بلا قافية، ومن هناك جاءتنا الفكرة فاستجاب لها بعض الشباب ومضوا في تطبيقها. على أننا لا نملك إلا أن نلاحظ أن الذين ينادون اليوم بنبذ القافية هم غالبًا الشعراء الذين يرتكبون الأخطاء النحوية واللغوية والعروضية؛ ولذلك نحشى أن تكون مناداة بعضهم بها تهربًا إلى السهولة وتخلصًا من العبء اللغوي الذي تلقيه القافية على الشاعر. وأنا أومن بأن الحرية ينبغي ألا تمنح إلا لإنسان قادر على أن يلتزم القيود وإلا أصبحت قيدًا. على أن مسألة نبذ القافية ليست جديدة كل الجدة في الشعر الحديث، ففي ديوان الزهاوي الذي توفي حين كنا نحن صغارًا قصيدة جارية على أسلوب الشطرين، غير أنها مرسلة إرسالًا بلا قافية. قال من الطويل: لموتُ الفتى خيرٌ له من معيشة ... يكون بها عبئًا ثقيلًا على الناس يعيش رخي العيش عشرٌ من الورى ... وتسعة أعشار الأنام مناكيد أما في بني الأرض العريضة قادرٌ ... يخفف ويلات الحياة قليلا أفي الحق أن البعض يشبع بطنه ... وأن بطون الأكثرين تجوع أسائلني عن غاية الخالق اسكتي ... فما لي على هذا السؤال جوابُ إذا حيي الإنسان صادف منكرًا ... وإن مات لاقى منكرًا ونكيرًا

إذا قلت حقًّا خفتُ لوم مخاطبي ... وإن لم أقل حقًّا أخاف ضميري أرى الناس، إلا من توفر عقلُهُ ... من الناس، أعداء لكل جديد1 إن هذا شعر بلا قافية، وقد جمع فيه الشاعر تشكيلتين من البحر الطويل فكانت أبياته متنافرة. ولم تكن هذه من الزهاوي إلا تجربة، فلسنا نراه سار عليها في سائر شعره. ولغير الزهاوي محاولات في هذا الباب. على أن المحاولة لم تنجح وبقيت نموذجًا يشار إليه لغرابته. ثم إن الشعراء، إن كانوا لم ينجحوا في إحداث الشعر المرسل، فإنهم نجحوا في الخروج على القافية الموحدة، فشاع في الوطن العربي شعر الزركلي والمهجريين الذي جرى على تنويع القوافي بأشكال الموشح وأشكال جديدة جميلة أضافوها هم. ومشى ذلك حتى في شعر شوقي والزهاوي والرصافي وبشارة الخوري وغيرهم كثير، حتى أصبح تنويع القوافي مألوفًا وصدرت المطولات الشعرية والمسرحيات. ومهما يكن من فكرة نبذ القافية وإرسال الشعر فإن الشعر الحر بالذات يحتاج إلى القافية احتياجًا خاصًّا. وذلك لأنه شعر يفقد بعض المزايا الموسيقية المتوافرة في شعر الشطرين الشائع. إن الطول الثابت للشطر العربي الخليلي يساعد السامع على التقاط النبرة الموسيقية ويعطي القصيدة إيقاعًا شديد الوضوح بحيث يخفف ذلك من الحاجة إلى القافية الصلدة الرنانة التي تصوت في آخر كل شطر فلا يغفل عنها إنسان. وأما الشعر الحر فإنه ليس ثابت الطول وإنما تتغير أطوال أشطره تغيرًا متصلًّا، فمن ذي تفعيلة إلى ثانٍ ذي ثلاث إلى ثالث ذي اثنتين وهكذا. وهذا التنوع في العدد،

_ 1 قصيدة "الشعر المرسل" لجميل صدقي الزهاوي. ديوان الزهاوي. المطبعة العربية. القاهرة 1924 "ص31".

مهما قلنا فيه، يصير الإيقاع أقل وضوحًا ويجعل السامع أضعف قدرة على التقاط النغم فيه. ولذلك فإن مجيء القافية في آخر كل شطر، سواء أكانت موحدة أم منوعة، يعطي هذا الشعر الحر شعرية أعلى ويمكن الجمهور من تذوقه والاستجابة له. ولنقارن بين قصيدتين إحداهما مرسلة والأخرى ذات قافية، ولنلاحظ الفرق في الموسيقى والشعرية. لصلاح عبد الصبور من "الكامل"1: كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء متعذبين كآلهة بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت طال الكلام مضى المساء لجاجة، طال الكلام وابتل وجه الليل بالأنداء ومشت إلى النفس الملالة والنعاس إلى العيون كانت هذه القصيدة مرسلة من دون قافية، وقد أفقدها ذلك جمال الوقع وعلو النبرة. فأين هي من قصيدة نزار قباني من "الكامل"2: ولمحت طوق الياسمين في الأرض مكتوم الأنين كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين ويهم فارسك الجميل بأخذه فتمانعين وتقهقهين "لا شيء يستدعي انحناءك، ذاك طوق الياسمين"

_ 1 قصيدة "السلام" لصلاح الدين عبد الصبور ديوان "الناس في بلادي". بيروت 1957- ويلاحظ أن القصيدة، مثل كثير من الشعر الحر، تجمع بين أكثر من تشكيلة خلافًا للعروض العربي القديم. 2 قصيدة "طوق الياسمين" لنزار قباني. مجموعة قصائد من نزار قباني. بيروت 1956 ونعتذر إلى الشاعر على أننا نسقنا له الأشطر تنسيقًا عروضيًّا على غير الطريقة الغالطة التي كتبها بها في المجموعة.

والحقيقة أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر لأنها تحدث رنينًا وتثير في النفس أنغامًا وأصداء. وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة. ولذلك يؤسفنا أن نرى الناشئين متجهين اليوم إلى نبذ القافية في شعرهم الحر. وذلك يضيف إلى نثرية ما ينظمون وضعف الموسيقى فيه. فكأن لم يكفهم أن يوردوا في شعرهم تشكيلات متنافرة، وأن يخرجوا على الوزن، وأن يتنقلوا من بحر إلى بحر، وأن يرتكبوا الأخطاء النحوية واللغوية، وأن يأتوا بالعامي والسقط، كأن لم يكفهم ذلك كله، فأهملوا القافية وهي لو يدرون سند شعرهم وحليته المتبقية.

الباب الرابع: ملحق بقضايا الشعر الحر

الباب الرابع: ملحق بقضايا الشعر الحر الفصل الأول: البند ومكانه من العروض العربى مدخل ... الباب الرابع: ملحق بقضايا الشعر الحر: الفصل الأول: البند ومكانه من العروض العربي. لا ريب في أن البند هو أقرب أشكال الشعر العربي إلى "الشعر الحر". ذلك أنه شعر يستند إلى بحر الهزج1: مفاعيلن مفاعيلن فلا يتقيد بأسلوب الشطرين الذي تقيد به الشعراء العرب منذ أقدم العصور، وإنما يخرج عنه فيجيء هزجًا تختلف أطوال شطره، فيأتي شطر بتفعيلتين يليه شطر بخمس تفعيلات وثالث باثنتين ورابع بعشر وهكذا كما تملي على الشاعر أهواؤه ومعانيه. ولقد ألف الشعراء الذين ينظمون البند أن يرصفوه كما يرصفون النثر بحيث يبدو لنا حين ننظر إليه وكأنه نثر اعتيادي. وهذا نموذج من بند ابن الخلفة وهو أشهر البنود وأحسبه أظرفها وأحفلها بالعفوية والبساطة:

_ 1 هذا ما يجمعون عليه وأنا أخالفهم كما سأذكر.

"أهل تعلم أم لا أن للحب لذاذات، وقد يعذر لا يعذل من فيه غرامًا وجوى مات، فذا مذهب أرباب الكمالات، فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات، فكم قد هذب الحب بليدًا، فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيدًا. صه فما بالك أصبحت غليظ الطبع لا تظهر شوقًا، لا ولا تعرف توقًا، لا ولا شمت بلحظيك سنا البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال خليط عنك قد بان، وقد عرس في سفح ربى البان". ولنكتبه الآن بحسب وزنه بحيث تبرز القافية والتفعيلات بروزًا طبيعيًّا. وسوف نشير إلى عدد التفعيلات في كل شطر بالرقم في آخره: أهل تعلم أم لا أن للحب لذاذات؟ 4 وقد يعذر لا يعذل من فيه غرامًا وجوى مات 5 فذا مذهبُ أربابِ الكمالات 3 فدع عنك من اللوم وزخاريف المقالات 4 فكم قد هذب الحب بليدًا 3 فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيدًا 4 صه فما بالك أصبحت غليظ الطبع لا تعرف شوقًا؟ 5 لا ولا تظهر توقًا؟ 2 لا ولا شمت بلحظيك سنا البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال خليط عنك قد بان 9 وقد عرس في سفح ربى البان 3 من هذا نرى أن شطرًا ذا تفعيلتين قد توسط بين شطر ذي خمس وآخر ذي تسع والرابط هو التفعيلة لا الشطر. ولقد كان البند لم يزل غامضًا كل الغموض في أذهان الشعراء والأدباء

والنقاد، ولعل سبب ذلك يكمن في أنه شكل من أشكال الشعر نشأ في عصور متأخرة فلم يذكره عروض الخليل ولا عروض الذين تأخروا عنه. والواقع أنه لم يذكر حتى في كتب العروض المتأخرة مع أنها أحصت أشكالًا أقل منه طرافة وأصالة مثل الزجل والمواليا، وكان كان والقوما والدوبيت. وكنت أؤمل -على الأقل- أن تشير كتب المعاصرين في العروض إليه، وقد راجعت بضعة منها فخاب ظني ولم أجد فيها ولو إشارة إلى هذا الأسلوب الشعري الطريف الذي أقام فيه الشاعر الوزن على أساس "التفعيلة" دون الشطر مخالفًا بذلك كل أساليب الوزن العربي السابقة. وأحسب أن هؤلاء العروضيين المعاصرين الأفاضل1، مع تقديرنا لعلمهم وثنائنا على مجهودهم الطيب، قد أخذوا الجذور الأساسية للعروض من الكتب القديمة ولم يروا داعيًا إلى أن يضيفوا فصولًا تدرس التطوير الذي وقع في العصور المتأخرة. وقد يكون بينهم من لا يعرف البند أصلًا؛ لأنه فن شعري اقتصر عليه شعراء العراق، وهذا عذر لا يشمل الرصافي. وأما إذا كان هذا الإهمال مقصودًا تعمده المؤلفون الأفاضل استهانة منهم بالبند، فإن ذلك لا ينبغي أن يغتفر لهم وهم نقاد عروضيون ذوو نظر. ذلك أن هذا البند قد لقي قبولًا لدى كثير من الشعراء، وذلك وحده ينبغي أن يكون كافيًا لأن يجعل من كتاب العروض الذي لا يدرسه كتابًا لا يستوفي مادته المفترضة، فضلًا عن كون البند لم يكن إلا نموًّا من بحور الشعر العربي يضيف إليها جديدا ولا يخرج عنها في شيء.

_ 1 المؤلفون الذين راجعت كتبهم هم: أحمد الهاشمي في "ميزان الذهب" معروف الرصافي في "الأدب الرفيع" بغداد. ممدوح حقي في "العروض الواضح" بيروت. بدير متولي حميد في "ميزان الشعر" القاهرة. محمود مصطفى في "أهدى سبيل إلى علمي الخليل" القاهرة.

ولقد أدى تغافل كتاب العروض قديمًا وحديثًا، عن البند إلى أن يرقد تحت غبار الإهمال محوطًا بالإبهام والشك، لا يجرؤ ناقد على نقده أو التحدث عنه، وقد يتطاول عليه جاهل بأنه نثر. وشاعت عنه في الدوائر الأدبية الشائعات الضبابية التي لا يمكن أن نهتدي عبرها إلى حقيقة ثابتة له، ومن أبرز هذه الشائعات قولهم إن البند ينتمي إلى بحر الهزج: مفاعيلن مفاعيلن والواقع أن هذا حكم غالط وغلطه واضح كل الوضوح، حسبنا لكي نرد عليه أن نورد افتتاحية بند ابن الخلفة الذي اقتطفنا منه: أيها اللائم في الحب، دع اللوم عن الصب ... إلخ فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فَ فإذا كان وزن البند، كل بند، هو "الهزج" فلماذا كانت التفعيلات هنا "فاعلاتن"؟ وهل تفعيلة الهزج إلا "مفاعيلن"؟ فأين هي إذن؟ ومن الحق أن نقول إن الذين كتبوا عن البند قد انتبهوا جميعًا إلى أن هذا الوزن ليس هو الهزج على الرغم من أن هناك في البنود كلها أشطرًا كثيرة من الهزج. وحيرهم ذلك فابتدعوا له تخريجًا غريبًا في بابه فقالوا إن هذا الوزن هو الهزج بزيادة سبب خفيف في أوله كما يلي: وهذا شيء غير مسموع في العروض العربي، فلسنا نعرف في الشعر حرفًا إلا وهو داخل في وزن الشطر والبيت، فبأي حق نفرد سببًا خفيفًا فلا نزنه؟ وإذا كان في وزن البند زيادة غير موزونة فما سر الإيقاع فيه إذن؟ وعلى أي وجه تقبله الأذن العربية المرهفة؟ والحق أن البند وزن جميل مرقص، وهذا الجمال فيه لا يمكن أن يدل إلا على شيء

واحد هو أن كل حرف فيه جار على الوزن العربي، دونما زيادة هنا أو سبب خفيف هناك. وكل ما في الأمر أن العروضيين والنقاد قد أخطئوا الحكم، فليس الغلط في البند وإنما هو في مقاييسهم. وحقيقة الأمر أن البند خلافًا للشعر العربي كله يستعمل بحرين اثنين من بحور الشعر، يجمع بينهما ويكرر الانتقال من أحدهما إلى الآخر عبر القصيدة كلها. والبحران الوحيدان المستعملان فيه هما الهزج والرمل. ونحسب أن تعسف النقاد في التماس التخريجات التي يعللون بها خروج البند عن الهزج يرجع، في أساسه، إلى أنهم يعتقدون استحالة الجمع بين بحرين من بحور الشعر في قصيدة متناسقة، فكيف يصح أن تجتمع التفعيلة "فاعلاتن" مع التفعيلة "مفاعيلن" دون أن تتنافرا؟ والواقع أنهما تجتمعان أجمل اجتماع إذا عرف الشاعر كيف يسيطر عليهما. والسر في إمكان ذلك أن بينهما علاقة خفية يمكن أن نتبينها بالتقطيع. مفاعي لن مفاعي لن مفاعي لن مفاعي لن لن مفاعي لن مفاعي لن مفاعي إن "لن مفاعي" التي هي مقلوب "مفاعيلن" مساوية في حركاتها وسكناتها للتفعيلة "فاعلاتن". ومثل ذلك كامن في "فاعلاتن" هذه، فإن مقلوبها "علاتن فا" مساوٍ، في مسافاته، للتفعيلة "مفاعيلن". وعلى ذلك فإننا إذا حللنا أي شطر من الرمل "فاعلاتن فاعلاتن" وجدناه يمكن أن يتحول إلى الهزج بحذف سبب خفيف واحد من أوله. كما أننا نستطيع أن نحول أي شطر من الهزج "مفاعيلن" إلى الرمل بأن نزيد سببًا في أوله. وهذه الخاصية هي التي لاحظها الخليل بن أحمد حين رصَّ الرمل والهزج في دائرة عروضية واحدة1. ولاشك عندنا في أن

_ 1 هي دائرة "المجتلب" ومنها الرجز أيضًا.

أول شاعر نظم البند كان على علم بهذه الخاصية العروضية، ولقد كان فوق ذلك مرهف السمع، مبدعًا، فعرف كيف يستطيع أن يجمع الرمل والهزج في قصيدة واحدة. وليس ذلك أمرًا هينًا كما قد يظن؛ لأن معرفة الصلة بين "مفاعيلن" و"فاعلاتن" لا تكفي لإبداع البند وإنما ينبغي إلى جانبها تحسس مرهف للإيقاع والوزن، بحيث يدرك الشاعر الوسيلة الموسيقية الفذة التي يمكن بها أن تجتمع التفعيلتان دون أن يحس القارئ بغرابة الانتقال. ولسوف ندرس هذه الوسيلة فيما يلي: إن الأشطر الأربعة الأولى مما اخترناه من بند ابن الخلفة كانت من بحر الهزج ذي التفعيلة "مفاعيلن": مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلْ أهل تعلم أم لا أن للحب لذاذاتْ وقد يعذر لا يعذل من فيه غرامًا وجوى ماتْ فذا مذهب أرباب الكمالاتْ فدع عنك من اللوم زخاريف المقالاتْ وفجأة، بعد تواتر "مفاعيلن" في هذه الأشطر كلها دون شذوذ، يأتينا شطر تشذ تفعيلته الأخيرة فلا تكون "مفاعيلْ" وإنما "فعولن" قال: فكم قد هذب الحب بليدا مفاعيلن مفاعيلن فعولن كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ في الواقع أن الضرب "فعولن" وارد في تشكيلات بحر الهزج التي يذكرها العروضيون، فالشاعر إذن ما زال جاريًا على الهزج لم يخرج عنه. وإنما تكمن المفاجأة الجميلة في أن "فعولن" هذه مساوية للمقطع "علاتن" الذي هو الجزء الأخير من تفعيلة الرمل

"فاعلاتن". فكأن الشاعر قد جاءنا فجأة بتفعيلة يشترك في قبولها البحران كلاهما "الهزج" و"الرمل". وكان ذلك خير تمهيد شعري للانتقال من الهزج إلى الرمل في الأشطر التالية: فغدا في مسك الآداب والفضل رشيدا صه فما بالك أصبحت غيظ الطبع لا تعرف شوقًا لا ولا تظهر توقا فاعلاتن فاعلاتن وقد كانت كل تفعيلة من هذه الأشطر هي "فاعلاتن" بلا شذوذ. ولكن، فجأة أيضًا، وكما حدث سابقًا في أشطر الهزج، يأتي الشاعر بشطر تشذ تفعيلته الأخيرة فلا تكون "فاعلاتن"، وإنما تصبح "فاعلاتان" قال، وهو شطر طويل ذو تسع تفعيلات كما مر "من الرمل": لا ولا شمت بلحظيك سنا البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال خليط عنك قد بانْ فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان وثانية نسأل أنفسنا كيف حدث هذا؟ ولماذا كانت الأشطر كلها موحدة التفعيلة "فاعلاتن" لا تخرج عليها فجاء الشاعر فجأة بـ "فاعلاتان" هذه؟ لو رجعنا إلى كتب العروض لوجدنا أن الضرب "فاعلاتان" وارد في تشكيلات بحر الرمل. فالشاعر إذن لم يخرج على الرمل. وإنما جاء بهذه التفعيلة لأن جزأها "علاتان" مساوٍ تمامًا لتفعيلة الهزج "مفاعيلْ". وبهذا أورد الشاعر تفعيلة يشترك فيها الرمل والهزج معًا وبذلك مهد السبيل للانتقال ثانية من الرمل إلى الهزج فقال فجأة: مفاعيلن مفاعيلْ وقد عرس في سفح ربى البان

المقياس العروضى للبند

المقياس العروضي للبند: من ذلك كله، يبدو لي، أن القاعدة العروضية للبند هي أنه شعر حر تتنوع أطوال أشطره ويرتكز إلى دائرة "المجتلب" مستعملًا منها الرمل والهزج معًا. وهذه فيما يلي، خطة عامة للتفعيلات في البند، نثبتها مساعدة لمن يرغب في نظم البند من القراء: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلْ مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل مفاعيلن مفاعيلْ مفاعيلن مفا عيلن فعولن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل مفاعيلن مفاعيل مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل مفاعيلن فعولن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل مفاعيلن مفاعيل "إلخ" من هذه الخطة، يتجلى مدى المهارة والدقة في نسج البند، ويبدو لنا مدة الخطإ الذي يقع فيه أولئك الذين يحسبونه نثرًا لا موسيقى له، ولا جهد فيه. وإننا لنعتقد أن الشاعر الذي اخترع البند أول مرة من دونما نموذج ينهج عليه لا بد أن يكون قد مارس نظم الشعر خير ممارسة بحيث تفتحت له هذه الالتفاتة الرائعة إلى العلاقة بين الرمل والهزج. ولسنا نقصد بهذا علاقة البحور داخل دائرة "المجتلب"، فإن دوائر البحور قد انكشفت منذ الخليل، وإنما نريد مسألة التمهيد من بحر لبحر بقافية معينة لها خصائص موسيقية تجعلها تبعث في الذهن أمواج البحر الثاني. وأكاد أكون على يقين من أن الشاعر الذي بدأ البند لم يكن يصل إلى القوافي الممهدة بحسب نموذج عروضي واعٍ وضعه لنفسه. وإنما كان يكتب باندفاع سليقي متحمس فذلك هو السبيل الحق في كل اكتشاف شعري أصيل. وإنما يأتي العروضيون بعد ذلك، فيجدون النموذج مكتملًا بين أيديهم فلا يزيدون على استخلاص المقياس منه. وذلك ما صنعنا في هذا الفصل. ولقد أدى التعقيد في خطة الوزن التي يتبعها البند إلى شيء من الصعوبة في نظمه، فكثر الغلط فيه إلى درجة أننا قلما نجد بندًا مطبوعًا يخلو من

الغلط. يغلط الناظم من جهة، ويغلط الناسخ من جهة أخرى، ويغلط الطابع من جهة ثالثة. وأحيانًا ينبري شعراء إلى نشر بند ما فينشرونه مغلوطًا فيه دون أن يشخصوا مواضع الخطإ. وزاد في خلط الشعراء أن كتب العروض لم تدرس البند، مع أنها درست أشكالًا أقل منه قيمة شعرية، فلم يجد الشاعر الذي ينظمه قانونًا عروضًّا يستند إليه. والواقع أن بحثنا هذا أول محاولة لاستقراء مقياس عروضي للبند، فإن كانت ناجحة، كما نرجو لها، أثبتناها فصلًا في العروض العربي. وكان من نتائج الضباب القاتم الذي أحاط بوزن البند في أذهان الأدباء والناظمين، أن كثيرًا من الذين مارسوا نظمه، لم يعرفوا الأساس فيه، فظنوه شعرًا من بحر الهزج لا يتخطاه، ويكتب على أسطر متتالية كما يكتب النثر. وحزر غير قليل من الشعراء أن الهزج يحول إلى الرمل أحيانًا، غير أنهم لم ينتبهوا إلى ضرورة التمهيد للانتقال، وحسبوا أن ذلك يمكن أن يتم بقفزة من الهزج إلى الرمل وبالعكس، دون أن يفطنوا إلى أن هناك خطة محكمة للوزن يتبعها البند، وبها يصل إلى تلك الموسيقية العذبة التي يمتلكها. ومن هؤلاء الشعراء طائفة لم تلاحظ على الإطلاق أن البند يقوم على أساس "التفعيلة"، وأن ذلك فيه هو الذي يبرر تنوع أطوال الأشطر، وهي الميزة التي اختص بها دون الشعر العربي السابق كله. وكان من هؤلاء ناظمون ينظمون بندًا ذا أشطر متساوية الطول تمام التساوي، تكسبه أشطره الرتيبة إملالًا وثقلًا. هذا نموذج لناظم اسمه الشيخ حسين العشاري1

_ 1 مجلة اليقين. بغداد. الجزء الخامس. السنة الأولى ص144- وفي أعداد المجلة أيضًا بند محمد بن الخلفة الحلي الذي تحدثنا عنه.

فغدا في رمضان الخير كالغيث المريع فرعينا في شتاء الجدب أزهار الربيع كم أياد وعطايا رشف الناس لماها ومزايا وسجايا حسد العرش سماها فأدام الله ذخره ... وأعز الله سعده وأطال الرب عمره ... وأدام الحق مجده مدى الأيام والدهر ... وما در لنا الرزق وما انهل لنا القطر ... وما بان سنا الفجر وما عاد لنا العيد ... وعنا رحل الصوم وما أشرقت البيد ... بنور السادة القوم هل في هذا شيء من خصائص البند؟ إنما هذا شعر ذو شطرين متساويين تساهل الشاعر في قوافيه، وسمح لنفسه، بلا أي مبرر، أن يقفز من بحر الرمل إلى بحر الهزج في البيت السابع، فكانت القفزة صدمة للأذن الشعرية لأنها لم تجئ مقبولة، ولم يمهد لها شيء. وخلاصة الموضوع أن على الناظم الذي يتصدى للبند أن يتذكر أن له خاصتين واضحتين لا بد من توافرهما فيه:

1- أنه شعر ذو أشطر غير متساوية الطول. وكلما كان تنوع الأطوال أوضح كان البند أكثر موسيقية وأصالة. 2- أنه شعر ذو وزنين هما الرمل والهزج، يتداخلان تداخلًا فنيًّا مستندًا إلى قواعد العروض العربي، فلا يختتم آخر أشطر الرمل إلا بالضرب "فاعلاتان" الذي يمهد لبحر الهزج فيصح أن يليه. وعندما يبدأ الهزج يستمر الشاعر عليه حتى يورد في آخر أحد الأشطر الضرب "فعولن" الذي يمهد لبحر الرمل فيصح أن يعود ثانية. وهكذا. وإذا اختل أي من هذين الشرطين كانت النتيجة نظمًا آخر لا صلة له بالبند، سواء أكتبناه على أسطر كالنثر، أم أفردنا له فراغًا كافيًا كما فعلنا في "أبيات" حسين العشاري.

البند والشعر الحر

البند والشعر الحر: لا ريب في أن الشعر الحر أقرب في خطة وزنه إلى البند منه إلى أسلوب الشطرين، ذلك أنهما كليهما يقومان على أساس "التفعيلة" لا "الشطر" وتباح في كل منهما الحرية في عدد التفعيلات فيجيء الشطر طويلًا أو قصيرًا بحسب رغبة الشاعر وحاجة معانيه. على أن الشعر الحر أسهل من البند في خطته وذلك لأنه يقوم على بحر واحد من البحور العشرة التي تصلح له، فيختار الشاعر أحد هذه البحور وينظم منه القصيدة مقتصرًا على تشكيلة واحدة منه لا يتخطاها شأنه في ذلك شأن الشاعر العربي في أسلوب الشطرين. مثال ذلك أن شاعر الشعر الحر لا يستطيع أن يجمع بين التشكيلتين التاليتين مثلًا: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن فعولن

وذلك لما سبق أن لاحظناه من أن العرب لم يجمعوا تشكيلتين في قصيدة واحدة. وإنما نجد قصائد تنفرد بإحدى التشكيلتين هذه أو تلك. وأما في البند فإن هاتين التشكيلتين تجتمعان وليس في اجتماعهما محذور كما رأينا في النموذج الذي درسناه، ثم إن اجتماع بحرين اثنين من بحور الشعر ليس مستساغًا في البند وحسب، وإنما هو مطلوب وهو السر في حلاوة البند وموسيقيته. وذلك هو الفرق الوحيد بين الشعر الحر والبند، وهو فرق لا يطغى على أوجه الشبه التي ذكرناها. والحقيقة أن الشبه بين الشعر الحر والبند يبلغ من القوة إلى درجة أن بعض الناشئين من الشعراء يخلطون بينهما دون أن يدروا، ومنهم نذير عظمة الذي نقرأ له هذه الأشطر على أنها من الشعر الحر. قد عرفت الآن بو زيد عرفت الصيد والكهفْ ولم كان إذا ما كحل العينين بازي الليل بو زيد وأما يرم الشارب بو زيدْ أنا عنترة الحيْ هلموا أيها الأبطال إن الصيد بالنار ضئيل لم تقاسمنا أبو زيد خجالًا1؟ رمل "فاعلاتان". هزج" مفاعيلْ. "هزج". "هزج". "هزج" فعولن. "رمل" فاعلاتن. الواقع أن هذه الأشطر الشعبية في روحها تكون بندًا كامل الوزن ينضبط فيه البحران: الرمل والهزج انضباطًا تامًّا. فالشطر الأول كان من الرمل ذي الضرب المسبغ "فاعلاتان" فانتقل الشاعر بعده فورًا إلى الهزج الذي ضربه "مفاعيل" على القاعدة. وتتالت بعده ثلاثة أشطر من الهزج آخرها انتهى بالضرب "فعولن" الذي مهد لبحر الرمل وقد انتقل الشاعر إليه فورًا مستعملًا الضرب "فاعلاتن". وهذا كله جارٍ على قاعدة البند التي استخلصناها في هذا الفصل جريانًا تامًّا. وإنه لدليل على قوة سمع نذير

_ 1 قصيدة "الفانوس" لنذير عظمة. مجلة شعر. بيروت. العدد التاسع شتاء 1959.

عظمة أنه جاء بالوزنين المتعاقبين ولكل منهما ضربان اثنان، في مزيج متآلف تام الموسيقى، مع أنه لم يسمع بالبند -في يقيني- لأن هذه القصيدة نشرت في بيروت سنة 1959 وقد يدلنا هذا على أن الشاعر الأول الذي ابتدع البند في القرن الحادي عشر الهجري، إنما وصل إليه وهو غير واعٍ كما وصل إليه نذير عظمة. وقد ضبط كلاهما الوزن أجمل ضبط على غير نسق سابق وإنما تم ذلك بهداية السمع الإنساني المعجز. ومن متطلبات الأمانة العلمية أن أقول في ختام هذا الفصل إن قول شعراء البند: مفاعيلن مفاعيلن فعولن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يمكن أن يقرأ على أنه كله من الهزج كما يلي: مفاعيلن مفاعيلن – فعولن فا – علاتن فا – علاتن فا – ذلك لأن "فعولن فا" مساوية لمفاعيلن وكذلك "علاتن فا"، وقد يبدو عند هذا صواب رأي الذين يصرون على أن البند كله من الهزج. والواقع غير ذلك فإن مثل تلك القراءة لا تكون ممكنة إلا في غياب القافية التي تعين نهاية الشطر فلا يعود من المقبول أن نقول "فعولن فا" وإنما ينتهي الشطر عند فعولن – القافية وذلك يقفل المجال أمامنا إقفالًا كاملًا فلا نستطيع تخطي فعولن الهزجية ودمجها بالسبب الخفيف في أول تفعيلة الرمل "فا - علاتن". وإني لأحب أن أختم هذا الفصل بالاستشهاد ببند ثانٍ يثبت صحة خطة الوزن والقافية التي ذهبتُ إليه، وهذا البند من شعر باقر بن السيد إبراهيم الحسيني "1177-1218هـ" وهو يبدؤه من الرمل على القاعدة فيقول: إنما أسني هدايا طفقت تخترق البيدْ "رمل".

وتفري شقق الصم الصياخيدْ بها القب المناجيدْ شذاها عبق القطرْ وأزرى بشذى العطرْ لقد قصر عن إدراك معنى وصفه الفكرْ من الخل الوفي المستهام المغرم الصبْ الكئيب المدنف العاني الذي أنحله الحبْ ولم يبلغ منى القلبْ من الحب معنى إله يتمه الوجدْ وأضنى قلبه الصدْ فتى ما زال مشغوفًا ومشغولًا بذكر الإلفِ لم يألف لذيذ النوم من قبلُ ومن بعدْ على البعد لكم داعِ وللوصل مراعِ وإلى الله التماسًا بدعا الإخوان ساعي نائب عنكم خصوصًا عند قبري خازني علم رسول اللهِ مولى الثقلين السيدين السندين الكاظمين الأريحيين الهمامين الإمامين الجوادين من القوم الأُلَى قد شرعوا الدين الحنيفي وسنوا سبل النهج الحقيقي ميامين هداة وغطاريف سراة "هزج ضربه فعولن". "رمل". "فاعلاتان". "هزج". "هزج ضربه فعولن". "رمل".

ومغاوير كماة بهم قد باهل المختار طه آل نجران وآتاهم إله العرش قدرًا لم ينله قبلهم إنس ولا جان كرام الخلق من خصوا بحسن الخلق أهل الصدق سبل الحق أمن الخائف الجاني غياث الواله العاني مصابيح الدجى، باب الرجا، سفن النجا، أهل الحجى أرعى الورى جارا إذا ما الدهر جارا لجناب الماجد المولى الذي طاولَ أفلاك المعاني بمعانيهْ وسارت كمسير البدر في البر وفي البحر أياديه1 "فاعلاتان". "هزج". "فعولن". "رمل فاعلاتان". "هزج". أكتفي بهذا القدر وأرجو أن يكون هذا البند كافيًا للرد على من زعم من الباحثين أنني لا أجد دعمًا للقاعدة التي وضعتها إلا بند ابن الخلفة، فها هو ذا بند باقر الحسيني يثبت أن البند يتألف من وزنين يتداخلان ولكل منهما ضربان اثنان. والواقع أن في البنود الكثيرة التي أوردها عبد الكريم الدجيلي يرحمه الله في كتابه أدلة كثيرة على قيام القانون الذي استخلصته للبند هذا مع أنني أقر بأن طائفة من البنود مضطربة الوزن، وبعضها يقفز من الرمل إلى الهزج من دون تمهيد. وأما من ذهب إلى أن هذه البنود من الهزج بزيادة سبب خفيف في أولها

_ 1 "البند في الأدب العربي تاريخه ونصوصه" لعبد الكريم الدجيلي مطبعة المعارف "بغداد 1959" ص44.

فيمكن الرد عليه بثلاث حجج دامغة: 1- بأي حق نترك سببًا خفيفًا في أول كل بند فلا نزنه؟ إن "المجادل" يسوغ ذلك لكي يستطيع القول بأن الشطر الأول إنما هو من الهزج لا من الرمل. ووفق هذه الحجة لن يبقى في الشعر العربي بحر اسمه الرمل لأن علينا أن نترك السبب الخفيف في أوله دائمًا وسرعان ما سيجد هذا "المجادل" أن أبيات صلاح عبد الصبور الجميلة التالية من الهزج حتمًا: كان لي يومًا إله وملاذي كان بيته قال لي إن طريق الورد وعر فارتقيته وتلفت ورائي وورائي ما وجدته ثم أصغيتُ لصوت الريح تبكي فبكيته إن علينا -وفق رأي هذا المجادل- أن نترك السبب الخفيف "كا" في أول المقطوعة فلا نزنه، وبذلك تصبح الأبيات من وزن "الهزج" وننفض أيدينا من "الرمل" نهائيًّا فلا يعود له وجود في دولة الشعر. 2- بأي حق يدعونا هذا المجادل إلى أن نتخطى القافية مع أنها تختم الشطر وتعين الوزن لأن ما بعدها هو أول الشطر التالي ويكون حينًا من الرمل وحينًا من الهزج؟ والواقع أن القافية تقضي على كل جدل فلماذا يريد المجادل أن نتجاوزها اعتباطًا؟ 3- الدليل الأخير على أن البند يقوم على وزنين أن طائفة من شعراء البند يقفزون من الرمل إلى الهزج دونما تمهيد وهذا يثبت إثباتًا لا جدال فيه أن شعراء البند كانوا شاعرين تمام الشعور بوجود وزنين. وقد جئت بمثال على هذا الانتقال المتكلف من وزن إلى وزن في أبيات حسين العشاري السابقة. والواقع أن الذين يريدون أن يثبتوا القول بأن البند يقوم على وزن واحد هو الهزج طغاة مستبدون في نظر النقد الأدبي فهم يصيحون بنا صياحًا:

1- اتركوا سببًا خفيفًا فلا تزنوه. كذلك حكمنا وليس لكم أن تسألونا عن السبب. 2- تخطوا القافية تخطيًا تامًّا ولا تستدلوا بها على انتهاء الشطر. كذلك شئنا وليس لكم أن تعترضوا. والواقع أن هذا طغيان غريب. أكل دليل على رأينا نهمله؟ وبأي حق يا سادة؟ وأقول ختامًا إن شعراء البند منذ القرن الحادي عشر الهجري قد وقعوا في أخطاء عروضية غير قليلة تثبت أن ضعف السمع ليس مقتصرًا علينا في هذا العصر، وإنما للقرون السابقة نصيب منه. وفوق كل ذي علم عليم، والذي لا يخطئ مطلقًا هو الله سبحانه.

الفصل الثاني: قصيدة النثر

الفصل الثاني: قصيدة النثر مدخل ... الفصل الثاني: قصيدة النثر. شاعت في الجو الأدبي في لبنان بدعة غريبة في السنوات العشر الماضية، فأصبحت بعض المطابع تصدر كتبًا تضم بين دفاتها نثرًا طبيعيًّا مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة "شعر". ويفتح القارئ تلك الكتب متوهمًا أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئًا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر. وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر، فليس فيه لا بيت ولا شطر، وإذن فلماذا كتبوا على الغلاف أنه شعر؟ تراهم يجهلون حدود الشعر؟ أم أنهم يحدثون بدعة لا مسوغ لها؟ وإذا كانوا يمتلكون المسوغ فلماذا لا يصدرون كتب النثر هذه بفذلكة يبينون فيها للقارئ الوجه الذي ساغ لهم به أن يصدروا كتاب نثر لا يختلف اثنان في أنه نثر ثم يكتبون عليه أنه "شعر"؟ لماذا لا يمنحون القارئ، على الأقل، فرصة يتخذ فيها موقفًا من هذه البدعة فإما أن

يرى وجه تسويغاتهم فيقرهم عليها أو أن يخالفهم فيرفضها:؟ وإنما الخطأ أن يمضي المرء فيسمى النثر شعرًا دون أي تبرير وكأن ذلك أمر بديهي يتفق الناس كلهم عليه منذ أقدم العصور. والحقيقة التي يعرفها المختصون والمتتبعون، أن طائفة من أدباء لبنان يدعون اليوم إلى تسمية النثر شعرًا. وقد تبنت مجلة "شعر" هذه الدعوة وأحدثت حولها ضجيجًا مستمرًّا لم تكن فيه مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية نفسها. وكان مضمون هذه الدعوة ما جاء في مقال كتبته السيدة الأديبة خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ. قالت عن ذلك الكتاب: "مجموعة شعرية لم تعتمد الوزن والقافية التقليديتين. وغالبية القراء في البلاد العربية لا تسمي ما جاء في هذه المجموعة شعرًا باللفظ الصريح. ولكنها تدور حول الاسم فتقول إنه "شعر منثور" أو "نثر فني" وهي مع ذلك تعجب به وتقبل على قراءته، ليس على أساس أنه نثر يعالج موضوعات أو يروي قصة أو حديثًا، بل على أساس أنه مادة شعرية. لكنها ترفض أن تمنحه اسم الشعر. وهذا طبيعي، من وجهة نظر تاريخية، بالنسبة للقراء العاديين. أما النقد فيجب أن يكون أكثر جرأة - أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقة. وأنا أعتبر هذا "النثر الشعري" شعرًا"1. وقبل أن نلخص مضمون كلام الكاتبة نحب أن نقتطف للقراء نموذجًا من خواطر محمد الماغوط مؤلف الكتاب الذي تتحدث عنه، ليلاحظ القارئ أنه نثر طبيعي كالنثر، على الرغم من أن كاتبه ينثره مفرقًا على أسطر

_ 1 الكتاب المقصود هو كتاب "حزن في ضوء القمر" للأديب محمد الماغوط وفيه نثر اعتيادي لا أثر فيه للوزن أو القافية. وقد نشر تعليق خزامى صبري في مجلة شعر. بيروت. العدد 11 صيف 1959.

كما لو أنه كان شعرًا حرًّا. ولسوف نكتب هذا النثر كما ينبغي أن يكتب النثر، راجين أن يعذرنا كاتبه. قال الكاتب: "وهو يملك ذوقًا أدبيًّا جميلًا وأصالة تسيء إليها الروح الأوروبية المصطنعة التي يدخلها قسرًا على عباراته وخواطره" قال من خاطره سماها "المسافر": "بلا أمل. بقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة، سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما: بقع الحبر وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج، وصمت الشهور الطويلة، والناموس الذي يمص دمي هي أشيائي الحزينة، وسأرحل عنها بعيدًا، وراء المدينة الغارقة في مجاري السل والدخان بعيدًا عن المرأة العاهرة التي تغسل ثيابي بماء النهر وآلاف العيون في الظلمة تحدق في ساقيها الهزيلين، وسعالها البارد يأتي ذليلًا يائسًا عبر النافذة المحطمة. والزقاق الملتوي كحبل من جثث العبيد". على هذا النمط جرت الخواطر في هذا الكتاب، فيها صور غريبة وتخير للألفاظ وتلوين، غير أنها مكتوبة نثرًا اعتياديًّا كالنثر في كل مكان وزمان. ولذلك يلوح غريبًا أن دار مجلة شعر التي طبعت الكتاب قد أباحت لنفسها أن تضع عنوان الكتاب على غلافه بهذا الشكل: حزن في ضوء القمر. شعر. وكأن تسمية النثر شعرًا مسألة بديهية مفروغ منها. ولعله لا يخفى على أصحاب الدار أن مئات القراء لا يملكون حاسة الوزن ليدركوا أن هذا نثر لا سعر حر، ومن ثم فقد كان عليها -على الأقل- أن تصدر الكتاب بمقدمة تضع فيها تبريرًا يسوغ تسمية النثر شعرًا، فإن ذلك يمنح القارئ حريته، فإما أن يقبل أو أن يرفض.

ومهما يكن من أمر فإن كلام خزامى صبري الذي اقتطفناه يتضمن، في مفهوم النقد الموضوعي، الحقائق التالية: "أولًا" تميز خزامى صبري بين شيئين هما: أ- الوزن التقليدي وهو الوزن مطلقًا. ب- الوزن غير التقليدي وهو النثر. "ثانيًا" تقول خزامى صبري إن الشعر شيء لا صلة له بالوزن والقافية. وإنما الوزن صفة عارضة يمكن أن يقوم الشعر من دونها، ولذلك يتحدث أصحاب هذه الدعوة باحتقار عن الشعر "الموزون"1 وبذلك لا يكتفون برفع النثر إلى جوار الشعر ومساواته وإنما يزيدون فيزيدون الموزون ويعطون لنثرهم الفضل كله. قال أحد دعاة هذه الفكرة الهجين2: "ولذلك فإن شعر توفيق صائغ لا يخسر شيئًا باطّراحه شكل القصيدة التقليدي، بل يحقق الطريقة الوحيدة التي تمكنه من قضيته"3. هذه هي خلاصة دعوة مجلة"شعر" التي تصدر في بيروت بلغة عربية وروح أوروبية. وقد دعت إليها في عنف وأثارت حولها ضجيجًا متصلًا خلال السنين الماضية، وتطرف حاملو الدعوة فذهبوا إلى أن المستقبل الأوحد إنما هو لهذا "الوزن غير التقليدي" كما يسمونه، أو "الوزن غير الموزون" كما اقترحت عليهم، على سبيل الدعابة، أن يسموه. كتبت مجلة "شعر" أن شعراء معروفين يذهبون إلى "أن المستقبل إنما هو لهذا الشعر

_ 1 أعتذر إلى القارئ عن قولي "شعر موزون" فليس هناك في رأيي شعر إلا وهو موزون وإنما أتحدث بلغة البدعة. 2 هو جبرا إبراهيم جبرا، مجلة شعر العدد 15. 3 يشير جبرا إبراهيم جبرا بهذا إلى كتاب عنوانه "في جب الأسود" وهو كتاب نثر ويلاحظ أن توفيق صائغ مؤلف هذا الكتاب لم يكتب في حياته بيت شعر واحد فيما أعلم. إن كل ما يكتبه نثر مثل النثر. فلا ندري كيف يرضى جبرا إبراهيم جبرا أن نسميه "شعرًا".

الحديث الذي يبتعد في شكله ومضمونه عن الفترة السابقة وما قبلها"1. وكتب جبرا إبراهيم جبرا أن السنين القادمة "سترى ولا شك تغلب الشعر الحر". ولنلاحظ أنه أخذ، دون مبالاة، اصطلاحنا "الشعر الحر" الذي هو عنوانه حركة عروضية تستند إلى بحور الشعر العربي وتفعيلاتها، أخذ اصطلاحنا هذا وألصقه بنثر اعتيادي له كل صفات النثر المتفق عليها، وليس فيه أي شيء يخرجه عن النثر في المصطلح العربي، وليته على الأقل ترك اصطلاحنا ووضع غيره حرصًا على وضوح الاصطلاحات في أذهان جماهيرنا العربية المتعطشة للمعرفة. وإنما سمينا شعرنا الجديد "بالشعر الحر" لأننا نقصد كل كلمة في هذا الاصطلاح فهو "شعر" لأنه موزون يخضع لعروض الخليل ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو "حر" لأنه ينوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، خالصًا من قيود العدد الثابت في شطر الخليل. فعلى أي وجه تريد دعوة النثر أن تسمي النثر شعرًا؟ وما هذه الفوضى في المصطلح والتفكير لدى الجيل الذي يقلد أوروبا في كل شيء تاركًا تراث العرب الغني المكتنز؟ إن المضمون الواضح لهذه الحماسة من أصحاب الدعوة هو أن النثر سائر، في رأيهم، إلى أن يقتل الشعر، وأن دولة الوزن ستدول فيكتب شعراء الأمة العربية نثرًا وننتهي من الوزن. وهكذا يذهب هؤلاء المتحمسون الخياليون إلى أن الشعر شيء عتيق ينبغي أن يزول ويحل محله النثر، على أن ... - انتبه أيها القارئ فإنه يشترطون شروطا- على أن يحتفظوا بالكلمات "شعر" و"شاعر" و"وزن" لأنهم يريدونها لتسمية النثر والناثر وما يكتب. وهذا يبدو لنا من أعجب المفارقات، والحق يقال. والأساس النفسي في هذه الدعوة أن هؤلاء الكتَّاب الفاضل، الذين يحسنون إبداع نثر جميل أحيانًا، يزدرون ما يمتلكون من موهبة ويتطلعون

_ 1 مجلة شعر، العدد 16

إلى ما لا يملكون. إنهم، باختصار، لا يحترمون النثر، وذلك هو أساس الإشكال الذي وقعوا فيه. إنهم مهما أبدعوا من صور وأفكار في قالب نثري، يحسون أنهم ما زالوا أقل إبداعًا من شاعر يخلق هذا الجمال نفسه، ولكن بكلام موزون. ولذلك تراهم يعبرون عن ازدرائهم بموهبتهم بإطلاق كلمة "شعر" على ما يكتبون وكانوا في السنين الخالية يقولون "شعر منثور" مشيرين بكلمة "منثور" على الأقل إلى أنه "نثر" فأصبحوا اليوم من الاستهانة بالمقاييس الموضوعية، بحيث يجرءون على أن يسموه شعرًا على الإطلاق. لا بل إنهم أصبحوا يحتقرون الشعر ويسمونه "تقليديا" لكي يجعلوا الإبداع والتجديد قاصرًا على نثرهم المبتكر، فهو الشعر الأوحد برغم المقاييس كلها. ولعله واضح أن دواء هذا الإشكال أن يمتلك هؤلاء الكتاب الثقة بالنثر. فمن قال لهم إن النثر وضيع أو إنه لا يمنح قائله صفة الإبداع؟ ولماذا يحسبون أن نثرهم لا يكتسب الإعجاب إلا إذا هو مسخ ذاته وسمي نفسه "شعرًا"؟ ولنفرض أننا وافقناهم وسمينا نثرهم شعرًا، فهل ترى الاسم يغير من حقيقته شيئًا؟ أو يزيده تغير الاسم شرفًا أو جمالًا؟ والذي يعرفه الملايين أن كثيرين من كتاب العربية قد كتبوا النثر "الشعري" ولنا في العصر الحديث منهم طائفة مرموقة مثل أديب العربية الفذ مصطفى صادق الرافعي والكاتب المرهف جبران خليل جبران وغيرهما كثير، وليس ينقص من قيمة ما كتبوا أنه نثر لا شعر. ولقد كانوا يسمون نثرهم نثرًا دون أن يسيئوا إليه في شيء. وبعد فهل أجمل من القرآن في اللغة العربية؟ والقرآن نثر لا شعر، وفيه، مع ذلك، كل ما في الشعر من إيحائية وخيال وثاب وصور معبرة وألفاظ مختارة اختيارًا معجزًا، فهل ينقص من قيمة القرآن الجمالية أنه نثر لا شعر؟ وأي شعر في الدنيا أروع وأحب من هذا النثر القرآني البديع؟ وخلاصة الرأي أن للنثر قيمته الذاتية التي تتميز عن قيمة الشعر، ولا

يغني نثر عن شعر ولا شعر عن نثر، لكل حقيقته ومعناه ومكانه. فلماذا جاء الناثر المعاصر ليزدري النثر ويحاول رفعه بتسميته شعرًا؟ هذا هو السؤال. ونحن نوجهه إلى أنصار هذه الدعوة لعل له عندهم، من جواب. وخلال ذلك، نحب أن نتفرغ لمناقشة هذه الدعوة وسوف تكون مناقشتنا في اتجاهين: أحدهما على أساس اللغة والآخر على أساس النقد الأدبي.

المناقشة اللغوية

المناقشة اللغوية: تقع دعوة "قصيدة النثر" في خطإ كبير هو أنها تطلق كلمة "شعر" على الشعر والنثر معًا، فإذا نظم شاعر قصيدة من البحر المنسرح ذات شطرين وقافية موحدة، كانت لديهم شعرًا، وإذا كتب ناثر فقرة نثرية خالية من الوزن والقافية تمام الخلو كان ذلك، في حسابهم، شعرًا أيضًا. فلا فرق إذن بين الشعر والنثر لأنهما كليهما يسميان في عرفهم شعرًا، وعلى هذا يكون كتاب الرافعي "رسائل الأحزان" شعرًا مثل معلقة امرئ القيس تمامًا، لا فرق بينهما. وما ذلك إلا لأن الدعوة لا تؤمن بوجود صلة بين الوزن والشعر فالكلام يكون شعرًا سواء أكان موزونًا أم لم يكن. لا بل إن النثر -لديهم- أكثر شعرية من الشعر؛ لأن وزن الشعر تقليدي كما سبق أن رأينا من أحكام خزامى صبري وجبرا إبراهيم جبرا. وهكذا نجد أنصار هذه الدعوة يلغون الفرق بين الموزون وغير الموزون إلغاء تامًّا، ومن ثم يحق لنا أن نسألهم: لماذا إذن ميزت لغات العالم كلها بين الشعر والنثر؟ وما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز؟ إن هذا يسوقنا إلى أن نرجع بأذهاننا إلى الأصل الفكري للتسميات اللغوية ولسوف نلاحظ أن التسمية تقصد في الأصل تشخيص نواحي الخلاف بين الأشياء لا نواحي الشبه. فإذا قلنا "الليل والنهار" أو "الشعر والنثر"

فإن أحد الاسمين في كل فريق يشخص الناحية الكبرى التي يختلف بها عن قرينه. إن الليل والنهار يتشابهان في أنهما كليهما يحتويان، في المتوسط، على اثنتي عشرة ساعة، كما أن الشعر والنثر يتشابهان في أن كلًّا منهما يحتوي على عواطف إنسانية وصور معبرة في المتوسط. غير أن قولنا الليل والنهار لا يثير في أذهاننا مسألة عدد الساعات هذه كما أن قولنا الشعر والنثر لا يثير لدينا مسألة المحتوى العاطفي والجمالي، وإنما تشخص التسميات الأربع خصائص أكبر من هذه وأوضح، تشخص الظلام في الليل والضياء في النهار، كما تشخص الوزن في الشعر وعدم الوزن في النثر. ومن ثم فإذا نحن سمينا كل كلام شعرًا بمعزل عن فكرة الوزن، فسوف نكون كمن يسمي الحياة كلها نهارًا سواء أكان فيها ضياء أم لا. وإنه لواضح أنها تسمية مفتعلة. إن الليل ليل، والنثر نثر. وواجبنا نحو اللغة والذهن الإنساني أن نسميهما ليلًا ونثرًا دون أن ننتحل لهما تسميات مضللة لا تشخص شيئًا. وما الذي نستفيده من تسمية النثر شعرًا والليل نهارًا يا ترى؟ أو ليس تشخيص الفروق أحسن من ذلك وأجدى؟ إن اللغة، التي هي محصول الذهن الإنساني عبر عشرات القرون، لا تضع الأسماء اعتباطًا ولا عبثًا، وإنما هناك مفهوم فلسفي عام يكمن وراء كل تعريف وتسمية، في كل لغة. تحاول اللغة أن تشخص الملامح البارزة وترمي بذلك إلى تصنيف الأشياء تصنيفًا يسهل على العقل مهمة التفكير، ويعطي الإنسانية مجالًا للتعبير عن منطقها وفكرها. فما نكاد نلفظ كلة النهار في أية لغة حتى يشرق الضوء في الذهن الإنساني وتنبسط فكرة النور، وما نكاد نلفظ كلمة الشعر حتى ترن في ذاكرة البشرية موسيقى الأوزان وقرقعة التفعيلات ورنين القوافي. واليوم جاءوا في عالمنا العربي ليلعبوا لا بالشعر وحسب وإنما باللغة أيضًا وبالفكر الإنساني نفسه ومنذ اليوم ينبغي لنا، على رأيهم، أن نسمي النثر شعرًا والليل نهارًا لمجرد هوى طارئ في قلوب بعض أبناء الجيل الحائرين الذين لا يعرفون ما يفعلون بأنفسهم.

ولست أظنني أبالغ حين أحكم بأن هذه المحاولة تكاد تكون تحقيرًا للذهن الإنساني الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها. فإذا أطلقنا اسمًا واحدًا على شيئين مختلفين تمام الاختلاف فما وظيفة الذهن الإنساني؟ وإذن فلماذا لا نرتد إلى فترات الجاهلية اللغوية، يوم لم تكن هناك أسماء للأصناف؟ وإنما التصنيف وتسمية الأصناف نتاج الحياة الفكرية للأمم، كلما كانت الأمة أعرق في الفكر والحضارة، كانت تفاصيل التسميات أكثر وأدق. وعلى هذا لا تكون تسمية النثر شعرًا أكثر من نكسة فكرية وحضارية يرجع بها الفكر العربي إلى الوراء قرونًا كثيرة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد وحسب، وإنما نجد له جذورًا تمس الجانب الاجتماعي للغة. فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر "شعرًا" هي، في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة، وعليها، أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج. والكذبة اللغوية لا تختلف عن الكذبة الأخلاقية إلا في المظهر، إن كل كذبة سائرة إلى أن تنكشف أمام عيون الطبيعة الصادقة التي لا تنطق إلا بالحق وبالاستقامة، واللغة الإنسانية، كل لغة، هي الصدق في أنقى معانيه وأسماها. إنها واقعية لأنها تسمي الأشياء بأسمائها الحقة، فلا تخون ولا تكذب ولا تزيف، وهكذا نجد الكرسي يسمي كرسيًّا لأن هذا الاسم يعطينا صفته في الأحوال كلها ولا يكذبنا قط. والنثر يسمى في اللغة نثرًا لأن اسمه هذا يعطينا صفة النثر، كما أن الشعر يسمى شعرًا ليعطينا صفة الشعر، وهذا الصدق المطلق في اللغة يكسبها ثقتنا وإجلالنا، وهو أيضًا يحمينا نحن الذين نتكلم هذه اللغة من أن نكذب، فنحن نشدها إلينا ونلوذ بصدقها في ساعات الضيق. فإذا هوجم شاعر بأنه يكتب نثرًا لا شعرًا، وجد أمامه هذه اللغة الصادقة ذات التعابير المحددة الصريحة المستعدة لحمايته فيلوذ بها ويقول لمن يتهمه إن إنتاجه شعر لا نثر. وهو في هذه الحالة يستعمل رصيد "الشعرية" الذي تملكه لفظة "شعر" في أذهان الناس. وهم

ينسبون إلى ما يكتب كل صفات الشعر فورًا بمجرد أن يقول لهم ذلك. والحق أن لغتنا العربية لن تحمينا يعد اليوم. ذلك أن هنالك اليوم أناسًا يكتبون النثر ويسمونه في جرأة عجيبة شعرًا، حتى فقدت كلمة شعر صراحتها ونصاعتها. ولسوف يتشكك الجمهور في أي شعر نقدمه له باسم "الشعر" لأن لفظ شعر قد تبلبل معناه واختلط وضاع. والواقع أن هذه الكذبة، وكل كذبة مثلها، خيانة للغة العربية وللعرب أنفسهم بالتالي. إن اللغة التي يستعملها أناس غير صادقين سرعان ما تتلوث بالكذب وتفسد. وعندما تكشف الحياة، أو الضمير اللغوي العام الكامن في النفس البشرية – أن كلمة "شاعر" قد أصبحت نعتًا للناثر، فإنها ستضطر إلى الشك في كلمة "شاعر" وكلمة "شعر". فمهما أكد الناس أنهم ينظمون شعرًا فلن يصدقهم أحد قبل التثبت الأكيد. وما معنى هذه النتيجة؟ معناها أننا لن نزيد على أن نخسر كلمة مهمة من كلمات اللغة فتموت كلمة "شعر". ومن الطبيعي ألا يعني ذلك أن الشعر نفسه سيموت. فلو زالت الكلمة من القاموس العربي لبقي الناس ينظمون الشعر مع ذلك. فإنما اللغة رموز تذهب وتجيء. وأما الحقائق التي تكمن وراء تلك الرموز فإنها لا تموت على الإطلاق. إن الحقيقة لا تزيف مهما تلاعبنا باسمها. بلى نستطيع أن نزيف كلمة ناصعة بأن نطلقها على ما لا تمثله في الأصل، ولكننا بذلك سنقتل الكلمة نفسها، وأما الحقيقة فسوف تبقى ناصعة. وسرعان ما ستجد تلك الحقيقة لنفسها اسمًا آخر جديدًا فيه النصاعة اللازمة. وبهذا تخلد الحقيقة وتسقط الكلمة. ولسوف يجد دعاة "قصيدة النثر" أنفسهم حيث بدءوا، فلقد استحال معنى كلمة "شعر" إلى التعبير عن النثر كما أرادوا، غير أن الشعر وجد لنفسه اسمًا آخر صادقًا ينص على الوزن الذي حاولوا قتله. ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين.

المناقشة على أساس النقد الأدبي

المناقشة على أساس النقد الأدبي: يبدو لنا أن دعوة النثر، في أحكامها على الشعر، تستند إلى تعريف له يضع الإلحاح كله على المحتوى أو "المضمون". فالشعر، في نظر أصحاب هذه الدعوة ليس إلا معاني من صنف معين، فيها خيال وعاطفة وصور، وسواء بعد ذلك أن يكون موزونًا أو غير موزون؛ لأن الوزن، في رأيهم، ليس شرطًا في الشعر. وعلى هذا الأساس يكون للشعر في نظرهم عنصر واحد هو المضمون. فإذا أردنا أن نستخلص للشعر تعريفًا مشتقًّا من آرائهم هذه قلنا إنه "تجمع معانٍ جميلة موحية فيها الإحساس والصور". ومن الواضح أن مفهومهم هذا للشعر يقف في الطريق الأقصى المواجه للتعريف العربي القديم الذي كان يحدد الشعر بأنه "الكلام الموزون المقفى" وهو تعريف يجعل الوزن الأساس الأعظم للشعر دون اعتراف بالمضمون. والحقيقة أن كلا التعريفين قاصر ناقص: التعريف الجديد يهمل الشكل والتعريف القديم يهمل المضمون. فكأن هؤلاء المعاصرين أرادوا تصحيح مفهوم غالط قديم فوقعوا في مفهوم غالط جديد. ولا يخفى علينا أن غلط التعريف الجديد أشد وأكبر من غلط تعريف أسلافنا. وأما إذا أردنا أن نرجع إلى صوت الواقع في أنفسنا، وأن نحكم عقولنا فلسوف ننتهي إلى أن للشعر ركنين ضروريين لا بد منهما في كل شعر وهما: 1- النظم الجيد "الشكل" أو "الوزن". المحتوى الجميل الموحي، المتموج بالظلال 2- الخافتة والإشعاع الغامض الذي تنتشي له النفس دون أن تشخص سر النشوة. وإنه لمن المؤسف أن كلمة "نظم" قد أصبحت تزدري في عصرنا وكأنها إهانة يُسب بها الشاعر. والواقع أنها كلمة جليلة، لا بد لكل شاعر من أن يملك ناصيتها. ذلك أن الشاعر المبدع لا بد أن ينطوي على ناظم

متمكن بارع وإلا لم يكن شاعرًا. والنظم هو المرحلة الأولى في كل شعر. وأما أن هناك أناسًا ينظمون شعرًا موزونًا يخلو من عبقرية الإبداع ورعشة الموسيقى فإن ذلك لا يهين كلمة "النظم". إن كل شاعر ناظم بالضرورة، وليس كل ناظم شاعرًا، وذلك لأن الشعر أعم من النظم، فهو يحتويه دون أن يقتصر عليه. وواقع الأمر أن الناس، بالنسبة للشعر ثلاثة: 1- إنسان يتذوق الشعر ويطرب له إلا أنه لا يميز الموزون من المختل وقد يمر على غلط عروضي فلا يدركه. ومن هذا الصنف كثير من الناس. 2- إنسان ينظم الموزون نظمًا متقنًا جاريًا على قواعد العروض دون أن تنبض منظوماته بالجمال أو تتفجر بدفء الإبداع. وهذا هو الناظم. 3- إنسان يحسن النظم ويتقنه حتى ليوجع النشاز سمعه وروحه وهو فوق ذلك يمتلك موهبة تفكير الموسيقى والسحر فيما ينظم. وهذا هو الشاعر. وهو في هذا الباب في المرتبة الأولى من أصناف الناس. والذي لا ريب فيه أن الناظمين أناس ذوو موهبة وإن لم تكن موهبتهم كاملة، ولذلك ينبغي لنا أن نحترم موهبتهم، وأن نثني عليهم بما يستحقون. نقول هذا ونحن نرى الاتجاه لدى طائفة من الشعراء اليوم إلى احتقار الناظمين والتشنيع عليهم. وإنما الحق أن ينظر هؤلاء الشعراء إلى أنفسهم ليكملوا ما ينقصهم من عدة الناظم ومقدرته. فما قيمة شعر جميل الصورة ولكن أوزانه تتعثر بالسقطات؟ إن الناظم الذي يحسن النظم أجدر بإعجابنا، لو أنصفنا، من شاعر لا يحسن النظم. ذلك أن الأول بصفة كونه ناظمًا، قد استكمل عدة فنه حين أتقن النظم وضبط أصوله. وأما الشاعر فإنه، وهو يجهل قواعد النظم، إنما يفتقد جزءًا مهمًّا من عدة الشاعر؛ لأن الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها

شعرًا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى، ونبض في عروقها الوزن. هذا مجمل رأينا، والواضح أن أنصار "قصيدة النثر" يخالفوننا فيه. وإنما الوزن، في عرفهم، مجرد شكل خارجي عارض اصطلح الأقدمون عليه، فلو حذفناه وكتبنا الشعر من دونه لأنقذنا شعرنا من التقليد وجئنا بشيء طريف. وإننا لنحب أن نسألهم، على ذلك، سؤالًا لعل له عندهم جوابًا: ترى إذا استطاع ناثر وشاعر أن يعبرا، كلٌّ بأسلوبه الشخصي، عن عين الكمية من الصور والعواطف والأخيلة، فأيهما سيهز السامعين هزًا أشد؟ أيهما سيبعث فيهم مقدارًا من النشوة أكبر، وإلى أيهما سيستجيب الذوق الإنساني استجابة أرهف وأحر؟ أما في رأينا فإن الجواب واضح وبديهي. إن الموزون الطافح بالصور والأخيلة والعواطف سيملك قلوبنا ويهزنا ويثيرنا أكثر من النثري الطافح بنفس المقدار من الجزئيات. وذلك لأن عنصرًا جماليًّا جديدًا قد أضيف إليه هو الموسيقى والإيقاع. والسبب المنطقي في فضيلة الوزن، هو أنه، بطبعه، يزيد الصور حدة، ويعمق المشاعر ويلهب الأخيلة. لا بل إنه يعطي الشاعر نفسه، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحارة والتعابير المبتكرة الملهمة. إن الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة. وهو لا يعطي الشعر الإيقاع وحسب وإنما يجعل كل نبرة فيه أعمق وأكثر إثارة وفتنة. ولذلك كان الشعر مؤثرًا بحيث كان القدماء يعدونه ضربًا من السحر يسيطر به الشاعر على الجماهير. وقديمًا كان الشعر قرين أصحاب الرؤى والكهان وحتى الأنبياء إلى درجة جعلت القرآن الكريم يبرئ الرسول في الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} .

ولا ريب في أن النثر، بافتقاره لهذه الموسيقى المؤثرة، يفقد خاصية يتفوق بها الشعر عليه في إثارة المشاعر ولمس القلوب. ولذلك كان النثر، في الغالب، قرين البحث العلمي والدراسة الموضوعية، حتى أصبحنا نصف الشعر الذي لا يطربنا بأنه "نثري". والحقيقة التي لا مفر لنا من مواجهتها أن الناثر، مهما جهد في خلق نثر تحتشد فيه الصور والمعاني، يبقى قاصرًا في اللحاق بشاعر يبدع ذلك الجمال نفسه ولكن بكلام موزون. فالوزن في يد الشاعر قمقم سحري يرش منه الألوان والصور على الأبيات المنغومة، هيهات للناثر أن يستطيع ذلك بنثره. أترى دعاة قصيدة النثر ينكرون أن خواطر محمد الماغوط التي اخترناها تكون أجمل لو نظمت شعرًا لا نثرًا؟ نقول ذلك لا لننتقص من تلك الخواطر وإنما لمجرد أنها كتبت نثرًا وتطاولت إلى أن تسمي نفسها شعرًا، وإنما النشوة والموسيقى والدفء من مصاحبات الوزن، فمن رغب فيها فليكن شاعرًا وليعرف كيف يرقرق معانيه في قصائد متدفقة. وبعد، فليس يعيب النثر أنه ليس شعرًا، وأن الموسيقى ملازمة للشعر لا له. إن تلك هي طبيعة الأشياء وكلٌّ لما خلق له. وفي وسعنا ختامًا، أن نلخص تعريف الشعر إنه ليس عاطفة وحسب، وإنما هو عاطفة ووزنها وموسيقاها. وعلى ذلك فإن قدرة الناثرين على حشد العواطف والصور في نثرهم لا يقرب ما يكتبون من الشعر أي تقريب. وإنما جمال ما يكتبون مرتبط بكونه نثرًا، ولن يكون شعرًا إلا إذا نجحوا في صياغته شعرًا. وتلك موهبة الشاعر دون الناثر وهو أمر يترك خارجًا مهما قالوا ومهما جهدوا. وأحب أن أذكر أصحاب الدعوة أخيرًا بأنهم، بعد كل ما قالوا وكتبوا وضجوا، ما زالوا هم أنفسهم مضطرين إلى التمييز بين الشعر والنثر. وهذه خزامى صبري نفسها، في فقرتها التي اقتبسناها، تتحدث عما تسميه "وزنًا تقليديًّا" -تقصد الشعر- ووزنًا غير تقليدي -تقصد

النثر. فلا نراها فعلت أكثر من استبدال الكلمتين العربيتين الدالتين: "شعر ونثر" باصطلاحات معقدة جديدة فيها عموم وغموض. وهل حقًّا إن قولهم "وزن تقليدي" أحسن من قولنا "شعر"؟ أم ترى قولهم "وزن غير تقليدي" يصلح اسمًا للنثر؟ ولماذا اضطروا إلى التمييز بين الاثنين؟ والواقع الذي لا جدال فيه، أنهم إذا لم يعترفوا بأن الشعر شعر، والنثر نثر، فلا بد أن يعترفوا بأن بينهما فرقًا واضحًا. وهذا يدحر كل مناقشة قد يوردونها. إن هناك شيئًا اسمه الوزن، وهو يفرض عليهم نفسه مهما تجاهلوه.

القسم الثاني

القسم الثاني الباب الأول: في فن الشعر الفصل الأول: هيكل القصيدة مدخل ... القسم الثاني. الباب الأول: في فن الشعر. الفصل الأول: هيكل القصيدة. إذا كانت مفاهيم النقد الأدبي الحديث ترفض التمييز بين شيئين مثل "المضمون" و"الصورة" في الشعر، وتأبى إلا أن تعدهما شيئًا واحدًا لا يمكن تجزئته إلى اثنين، فإننا في بحثنا هذا مضطرون -ولو ظاهريًّا- إلى أن نعود إلى المفهوم القديم فنجزئ القصيدة إلى عناصرها الخارجية؛ لندرس العلاقات الخفية التي تربط بعض هذه العناصر ببعضها حتى تجعل منها ذلك النسيج الحي المتكامل الذي هو القصيدة. ولعلنا نحتاج إلى أن نذهب أبعد حتى من النظرة الدارجة فلا نكتفي بالتمييز بين المضمون والصورة، وإنما نميز أيضًا بين الصورة الوزنية الموسيقية التي تقوم على الأبيات والأشطر والتفعيلات، والصورة البنائية التي تستند إلى موضوع القصيدة. ومن دون هذا التمييز المبدئي الذي نريده في بداية بحثنا هذا لن نستطيع أن نشخص الأسس النظرية التي يطيعها الشاعر -غير واعٍ- وهو ينظم قصيدته. وهكذا نجدنا نبدأ بتكسير القصيدة إلى عناصرها الرئيسية التي لا تزيد، في نظرنا، على أربعة:

1- الموضوع، وهو المادة الخام التي تقدمها القصيدة. 2- الهيكل، وهو الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع. 3- التفاصيل، وهي الأساليب التعبيرة التي يملأ بها الشاعر الفجوات في أضلع الهيكل. 4- الوزن، وهو الشكل الموسيقي الذي يختاره الشاعر لعرض الهيكل. وسوف يلوح لنا، كلما أمعنا في دراسة هذه العناصر مجزأة، أن بينها ترابطًا خفيًّا لا يمكن فصمه، وأن القصيدة ليست إلا هي كلها مجموعة. ومع أننا سنحرص على أن نقول كلمة عابرة عن الموضوع والتفاصيل والوزن، إلا أن هذا البحث مكرس لدراسة الهيكل وحده، والحق أنه أهم عناصر القصيدة، فهو العمود الذي ترتكز إليه العناصر الأخرى كلها.

الموضوع

الموضوع: أما الموضوع فهو، من وجهة نظر الفن، أتفه عناصر القصيدة؛ لأنه في ذاته، قاصر عن أن يصنع قصيدة، مهما تناول من شئون الحياة. إنه مجرد موضوع خام، فليست فيه خصائص تدل الشاعر على طريقة يعالجه بها. وإنما هو أشبه بطينة في يد نحات، يستطيع أن يصنع منها ما يشاء. إن القصيدة ليست كامنة في الموضوع، وإن كان هذا لا ينفي أن من الممكن أن نصوغ، من أي موضوع، عددًا لا نهاية له من القصائد. وهذا يجعل من الضروري أن نقرر أن الموضوع شيء غير القصيدة ولا دخل له في تكوينها. إن نظرتنا هذه إلى الموضوع تجعل الدعوة الاجتماعية -أو دعوة الالتزام- التي تضج بها الصحافة منذ سنين - دعوة غير منطقية بالنسبة

للشعر. ذلك أنها تطالب بتحديد ما لا صلة له بالقصيدة، وهو الموضوع، وبذلك تقحم على الشعر عنصرًا غريبًا عنه. والواقع أن قيام القصيدة على موضوع اجتماعي شيء لا غبار عليه إطلاقًا، بشرط ألا نعد هذه الاجتماعية فضيلة فنية مميزة تعطي الموضوع شعرية خاصة غير عادية. وإنما يصبح الموضوع مهمًّا، ويستحق الالتفات، في اللحظة التي يقرر فيها الشاعر أن يختاره لقصيدته، فهو إذ ذاك يوجه الهيكل ويمشي معه. وأول شرط في الموضوع أن يكون واضحًا محددًا، لا كموضوعات تلك القصائد التي تدور وتدور فلا يخرج منها القارئ بطائل. ومن هذا الصنف تلك القصائد التي يكون موضوعها عامًّا يشمل جوانب واسعة لا حدود لها من الأفكار والتصورات وهو صنف يتخلص منه الشاعر عندما يضع له عناوين عامة مثل "خواطر" أو "تأملات" أو "رباعيات" ونحو هذا. مثل هذه القصائد تستند، في واقع الأمر، إلى عقيدة واهمة من الشاعر في أن الموضوع وحده يكفي لإنشاء قصيدة، وما دامت القصيدة تعالج أفكارًا مفيدة ذات طلاوة فهي تبرر وجودها تبريرًا تامًّا. وليس هذا مقبولًا من وجهة نظر الشعر. وإنما ينبغي أن تكون القصيدة موحدة، مبنية، لا أن تمتلئ بمادة تكفي لإنشاء عشرين قصيدة. وخلاصة ما يمكن أن نقول في الموضوع أن القصيد ليست موضوعًا وحسب وإنما هي موضوع مبني في هيكل.

الهيكل الجيد وصفاته

الهيكل الجيد وصفاته: لا ريب في أن الهيكل هو أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيرًا فيها. ووظيفته الكبرى أن يوحدها ويمنعها من الانتشار والانفلات ويلمها داخل حاشية متميزة. ولا بد من الإشارة إلى أن الموضوع الواحد لا يفترض هيكلًا معينًا وإنما يحتمل أن يصاغ في مئات من الهياكل بحسب اتجاه

الشاعر وقدرته الفنية والتعبيرية. ومهما يكن فلا بد لكل هيكل جيد من أن يمتلك أربع صفات عامة هي التماسك والصلابة والكفاءة والتعادل1. أما التماسك فنقصد به أن تكون النسب بين القيم العاطفية والفكرية متوازنة متناسقة، فلا يتناول الشاعر لفتة في الإطار ويفصلها تفصيلًا يجعل اللفتة التالية تبدو ضئيلة القيمة أو خارجة عن نطاق الإطار. ومثال هذا الخروج على التماسك قصيدة لبدر شاكر السياب عنوانها "حفار القبور"2 تقع في أربعة مشاهد واضحة كان ينبغي أن ينال كل منها من عناية الشاعر ما يساوي عنايته بغيره، ولكن الشاعر، لسبب ما، تلكأ طويلًا في المشهد الأول وحلل نفسية الحفار في بطء شديد. ثم تقدم في عجلة، إلى المشاهد الثلاثة الباقية فأجهز عليها في غير عناية. ذلك مع أن القصيدة لم تبلغ قمتها العاطفية ومن ثم قمتها الدراماتيكية، إلا في المشهد الرابع. وهذا كله قد أخل بتماسك الهيكل وضعضعه فتفكك وأساء إلى هذه القصيدة التي تمتاز بما فيها من صور وانفعالات وحركة ملموسة يحسها القارئ عبر المشاهد المتلاحقة. وثاني صفات الهيكل الجيد، الصلابة، ونقصد بها أن يكون هيكل القصيدة العام متميزًا عن التفاصيل التي يستعملها الشاعر للتلوين العاطفي والتمثيل الفكري. وتكبر قيمة هذه الصفة في الهيكل الهرمي كما سيأتي. والتشبيهات والأحاسيس ينبغي أن تكون تفاصيل سياقية عارضة يحرص الشاعر على كبح جماحها بحيث لا تضيع فيها حدود الخط الأساسي في الهيكل. ويتضمن هذا أن الصور والعواطف ينبغي ألا تزيد عما يحتاج إليه الهيكل، فقد ثبت في حالات عديدة أن هذه الزيادة المعرقلة تفقد

_ 1 اصطلاحات وضعتها أنا. ولا بد من الوضع إذا نحن أردنا أن نبني أسسًا ثابتة لنقد عربي حديث يرتكز إلى إنتاجنا وحياتنا الفكرية المعاصرة. 2 حفار القبور. مطبعة الزهراء. بغداد 1952.

القصيدة كثيرًا من قيمتها الجمالية. ومن نماذج الإطار الرخو الذي لا يملك مزية الصلابة قصيدة محمود حسن إسماعيل "انتظار"1 التي ضاع إطارها العام في كثير من الصور الجميلة والتفاصيل، وقد تصيدها الشاعر تصيدًا ناسيًا الخطة العامة لقصيدته حتى طغت على الهيكل وطمست معالمه. أما الكفاءة فنعني بها أن يحتوي الهيكل على كل ما يحتاج إليه لتكوين وحدة كاملة تتضمن في داخلها تفاصيلها الضرورية جميعًا دون أن يحتاج قارئها إلى معلومات خارجية تساعده على الفهم. ويتضمن هذا معنيين: أولهما، أن لغة القصيدة تكوِّن عنصرًا أساسيًّا في كفاءة الهيكل، فهي أداته الوحيدة، ولذلك ينبغي أن تحتوي على كل ما تحتاج إليه لكي تكون مفهومة، وهذا هو السبب في نفورنا اليوم من استعمال الألفاظ القاموسية غير المألوفة في لغة العصر. ذلك أن هذا يحتفظ بجزء من معنى القصيدة في خارجها، في القاموس. وهذا، في صميمه، يتعارض مع التعبير ومع لحظة الإبداع عند الشاعر. وثانيهما، أن التفاصيل ونعني بها التشبيهات والاستعارات والصور – التي يستعملها الشاعر في القصيدة ينبغي أن تكون واضحة في حدود القصيدة، لا أن تكون قيمتها ذاتية بحيث تأتي أهميتها من مجرد تعلق ذكريات الشاعر الشخصية بها. وإنما ينبغي أن يعتمد المعنى الكامل للقصيدة على القصيدة نفسها لا على شيء في نفس الشاعر. ولعل معترضًا أن يحتج علينا لأننا نستبعد عن سياق القصيدة كل ما له قيمة ذاتية عند الشاعر. وجوابنا على ذلك أننا لا نمانع في أن يدخل الشاعر ما يشاء من تفاصيله الشخصية الأثيرة لديه، ولكن على أن يمنح هذه التفاصيل قيمة فنية تنبع من الهيكل نفسه. والقانون في هذا أن على الشاعر أن يحترس من الخلط بين ما له

_ 1 ديوان "أين المفر" القاهرة 1947.

قيمة في القصيدة وما له قيمة في نفسه. فللقصيدة عالمها الخاص المنفصل عن عالم الشعر. إنها كيان حي ينعزل عن مبدعه منذ اللحظة الأولى التي يخط فيها على الورق. وذلك هو الذي يجعل الشاعر مضطرًا إلى أن يكف عن اعتبار تجاربه كافية في ذاتها لإبداع قصائد، فالشعر لا يعترف بأية قيم عاطفية أو جمالية في خارجه، ولا بد لمن يريد أن يتغنى بمكان يحبه أو شخص يعزه أن يجعل هذا الشخص وذلك المكان حبيبًا في داخل القصيدة نفسها بمختلف وسائل الفن المشروعة. ولا بد لنا أن نشير هنا إلى فشل تلك المحاولات التي يلجأ إليها الشعراء حين يضيفون إلى قصائدهم حواشي وشروحًا عن تاريخ الأماكن التي يتغنون بها في قصيدة ما، فليس أبعد عن روح الشعر من مثل هذا. وذلك، ولا ريب، يجعل أكداسًا كثيرة من الشعر الوطني الذي ينظم اليوم عاطلًا من القيمة الفنية؛ لأن الشاعر يعتمد فيه على المعرفة السابقة التي يملكها الجمهور المعاصر عن الأشخاص والأماكن والأحداث، فلا تكون قصيدته إلا هامشًا أو تعليقًا على الأشياء، دون أن تملك في ذاتها المستلزمات الكافية لقصيدة حول تلك الأشياء. وأما حين ستتطور حياتنا وتصبح تلك الأحداث معلومات تاريخية لا يحتاج إليها جمهور عربي متأخر، فإن نقص تلك القصائد سيظهر وسيفقدها مكانتها الفنية. ولذلك ينبغي للشاعر أن يتطلع إلى قصيدته وينسى الجمهور. فإنما التعبير المكتمل إرضاء للحس الفني المتعطش في نفس الشاعر مهما كان الجمهور قانعًا ومستعدًّا للمسامحة ومد يد المساعدة. والقصيدة التي تحوجنا إلى أن نقرأ عنها حاشية أو شرحًا نثريًّا ليست قصيدة جيدة، ولعلها -من وجهة نظر الفن- فشل يعترف به الشاعر نفسه حين يرضى أن يضع القصيدة حواشي وهوامش. وأما التعادل الذي هو آخر صفات الهيكل الجيد فنقصد به حصول التوازن بين مختلف جهات الهيكل وقيام نسبة منطقية بين النقطة العليا فيه والنقطة الختامية. وإنما يحصل التعادل على أساس خاتمة القصيدة، حيث

يقوم توازن خفي ثابت بينها وبين سياق القصيدة. فإذا كانت القصيدة تتناول موضوعًا ساكنًا كالنهر مثلًا فتصفه كما يلوح للشاعر في لحظة معينة، جاءت القصيدة تعاقب صور وانفعالات وأفكار متتالية ذات قيمة متساوية. وفي هذه الحالة تكون خاتمة القصيدة أقوى من سائرها حيث يقوم نوع من التعارض الخفي بين البيت الأخير وبقية الأبيات. أما حين تتناول القصيدة حادثًا "أو امتدادًا زمنيًّا، بكلمة أخرى" فإن الحركة تأتي من تعاقب الزمن الذي يستغرقه الحادث ويمر عبر القصيدة أمامنا. وفي هذه الحالة تكون الخاتمة متميزة عن سائر القصيدة بأن توقف هذه الحركة عند نقطة منطقية. وهي حالة يقوم فيها التعارض بين الحركة الزمنية في القصيدة والسكون في ختامها. ومن الأساليب التي قد يختتم بها الشاعر قصيدته ما يقوم على أساس الإيقاع والموسيقى كأن تكون القصيدة ذات مقطوعات متساوية الطول رباعية أو أكثر، فيجعل المقطوعة الأخيرة ذات طول مختلف. والقصر أكثر تأثيرًا في هذه الحالة، ومنه قصيدة جميلة لمحمود حسن إسماعيل عنوانها "فاتنتي مع النهر"1 ختم فيها قصيدته ببيتين، بعد مقطوعات أطول بكثير، فكانت خاتمة مؤثرة من أجمل ما يقرأ للشعر من خواتم. وهذا هو المقطع الثالث منها والخاتمة: سألته: يابن الأسى رحمة ... فالنوح لا يُطرب سمع الصباح فجرك رفراف السنا والمنى ... فوقك طير عبقري الجناح ما لك لا تُلْهم غير الأسى ... ولا تغني غير نار الجراح؟ فقال: يومًا، ستلاقي هنا ... عذراء من حور السماء الملاح تبحث عني، فأجبها مضى ... صبك في الدنيا شريد النواح

_ 1 نشرت في مجلة الرسالة. المجلد الأول. السنة السابعة ص83.

أنت التي أسلمته زورقًا ... في لجة الدنيا لهوج الرياح فمر كالنسيان بي وانطوى ... صباحه عني شقيًا وراح فاتنتي، سر الهوى سابح ... في نور عينيك فلا تسألي في زهوة المرج شذى نائم ... أخشى عليه يقظة المنجل ولعل في وسعنا أن نستخلص قانونًا عامًّا يشمل الحالات التي يستعملها الشاعر في اختتام قصيدته، ومضمون القانون أن القصيدة تميل إلى الانتهاء إذا استطاع الشاعر أن يحدث تعارضًا واضحًا بين السياق والخاتمة. فإذا كان السياق هادئًا جعل الخاتمة جهورية مجلجلة وإذا كان السياق متحركًا مال بالخاتمة إلى السكون وهكذا. واحسبنا لا نحتاج إلى أن نقول إن الشاعر الحق، كل شاعر، يعرف هذا القانون بفطرته الفنية فلا يحتاج إلى أن يتعلمه أو يفكر فيه وهو ينظم. وقد نظم الشعراء في العصور كلها قصائد ذات خواتم ناجحة، دون أن يحتاجوا إلى أن أجيء اليوم لأستخلص لهم هذه القاعدة. ولكن مهمة النقد تبقى مع ذلك قائمة، والعالم مملوء دائمًا بالنظامين ومحترفي الشعر، وهؤلاء قلما يعرفون متى ينبغي أن يسكتوا. والمشاهد اليوم أن مئات من القصائد التي تنشرها الصحف تنقصها لمسة الختام وهي تترك في النفس أثرًا يشبه العطش. ذلك أنها تثير في أنفسنا توترًا ثم تتركنا لمخالبه دون أن تزيله أو تنهيه. والحقيقة أن قراءتنا للقصيدة ليست أقل من معاناة فعلية للتجربة التي مر بها الشاعر، فإذا لم يحسن الشاعر أن يختمها ذلك الختام الطبيعي كان يخوننا ويلعب بنا ولو دون أن يقصد. وهو في ذلك كمن يسير بنا خطوة خطوة في طريق صاعد المفروض أنه يؤدي بنا إلى غاية، حتى إذا بلغنا نصف الطريق تركنا ونكص راجعًا. أن القصيدة غير الكاملة

إساءة إلى القارئ وإيلام لا يبرره شيء والشاعر، بهذا المعنى، مسئول عن جماعة القراء الذين يلقون إليه قياد أنفسهم، يزرع فيها أفكاره ومشاعره فأقل ما عليه أن يخرجهم من التوتر العاطفي الذي يوقعهم فيه. وبذلك تكتمل انفعالية التي يمر بها الشاعر والقارئ، يدًا بيد، عبر القصيدة.

ثلاثة أصناف من الهياكل

ثلاثة أصناف من الهياكل: لم تزل هناك ملاحظات عن الملامح العامة للهيكل، غير أنني أُوثر أن يرد ذكرها عبر دراستنا التالية لأصناف الهيكل، لكي نتحاشى التكرار، ولقد استخلصت من مراجعة مئات من القصائد العربية قديمها وحديثها أن هيكل القصيدة يقوم على ثلاثة أصناف عامة لكل منها خصائص مميزة ثابتة. ولقد رأيت أن أطلق على هذه الأصناف أسماء، تسهيلًا لمهمة النقد الأدبي والبلاغة فكانت كما يلي: 1- الهيكل المسطح وهو الذي يخلو من الحركة والزمن. 2- الهيكل الهرمي وهو الذي يستند إلى الحركة والزمن. 3- الهيكل الذهني وهو الذي يشتمل على حركة لا تقترن بزمن. ولسوف يتضح سبب اختياري لهذه التسميات حين ندرس هذه الهياكل بالتفصيل. أ- الهيكل المسطح: أبسط تعريف لقصائد هذا الهيكل أنها تدور حول موضوعات ساكنة مجردة من الزمن، وإنما ينظر إليه الشاعر في لحظة معينة ويصف مظهرها الخارجي في تلك اللحظة وما يتركه من أثر في نفسه. مثال ذلك أن تدور

القصيدة حول تمثال أو سفينة أو بركة فلا تصف أحداثًا تعاقبت على هذه الموصوفات، ولا تغييرات جدت عليها خلال زمن ما، وإنما ترسمها كما كانت في تلك اللحظة التي رآها الشاعر فيها: جامدة ثابتة في المكان. وفي وسعنا أن نقول إن نظرة الهيكل المسطح هي نظرة ذات ثلاثة أبعاد، على حد تعبير الرياضيين ينقصها البعد الرابع الذي تنشأ عنه الحركة الزمنية. على أن القصيدة التي تخلو من الحركة بشكلها الزمني لا تستطيع أن تستغني عن شكل آخر من أشكال الحركة يعوض لها ويبني كيانها. ومن ثم فإن شاعر الهيكل المسطح يلجأ عادة إلى أساليب أخرى يخلق بها الحركة فيسد الفراغ. وهو يصل إلى ذلك التعويض باستعمال الصور والتشبيهات والعواطف، وبذلك يمد الموضوع الساكن بلون ما من ألوان الحركة، وهكذا نجد أن الشاعر -حين يجد بين يديه موضوعًا جامدًا مغلفًا بلحظة واحدة من لحظات الزمن- يلجأ إلى التفجير عاطفيًّا ويحيط موضوعه بشحنة مشاعر قوية تعطي القصيدة نوعًا من الحبكة المعوضة. ومن هذا التعويض نشأ الشعر الغنائي الذي اغتنى به الأدب القديم. إنها حالة يؤدي فيها سكون الإطار وتسطحه إلى الارتكاز على محور القصيدة أو الموصوف فيها، وحوله يجمع الشاعر سلسلة من الأفكار والعواطف والصور. ولكي نمثل لهذا الهيكل المسطح نستشهد بقصيدة لنزار قباني عنوانها "شباك"1: حييت يا شباكها الملفوف بالبنفسج ... أصبحت ديرًا للشحارير ومأوى العوسج لسورك الرحيم أسراب السنونو تلتجي ... يا جنة على السحاب غضة التأرج

_ 1 أنت لي، الطبعة الأولى "دمشق 1950" ص32.

يا ضاحك الأستار ذات اللين والترجرج يا راية للحب لم تخطر ببال منسج أنا لديك، هل تعي همسي وحدو هودجي بي لهفة تحصد أصباغ الستار الأهوج إلا انفتحت لي فإن الشمس في توهج هل أقرع البلور دون حلمها المموج أم أسبق الشمس إلى غطائها المضرج أرده على ذرع طفلة التبرج وأجمع الشعر الذي مات من التموج يحرسك العبير يا شباكها البنفسجي إن الشباك، في هذه القصيدة الجميلة، ساكن، وقد وقف الشاعر أمامه في لحظة معينة، ذات صباح وراح يصفه، وقد جاء الامتداد على حساب أفكار الشاعر وتخيلاته عما وراء الشباك من أصباغ الستائر ولين قماشها وشعر الفتاة النائمة ونحو ذلك. إن تعاقب هذه التصورات غير مرتبط ارتباطًا عضويًّا، وإنما تقف كل صورة معزولة عن الصور الأخرى حتى لنستطيع، إذا أردنا، أن نقدم بيتًا على بيت وأن نحذف بيتًا هنا وبيتًا هناك دون أن تنقص القصيدة نقصًا مخلًّا. وذلك يرجع إلى كون الهيكل مسطحًا. إنه يتركب من جزيئات مرصوصة لا من وحدة كاملة مشدودة. ولو أردنا أن نضع هذا المضمون في صيغة أخرى لقلنا أن القصيدة مستوية، سائبة، غير مشدودة ذلك الشد المحكم الذي نجده في القصائد التي تصف أحداثًا. إنها قصيدة تقوم على خليط من الأبيات الجميلة، كل بيت فيها منفصل عما حوله، قائم بذاته. ومن مجموعة الأبيات لا تنشأ فكرة عامة غير الفكرة التي وردت في كل بيت، ولا يصعد الشعور إلى قمة. إن العاطفة في القصيدة موزعة بالتساوي على الأبيات، كل بيت، يصف لمسة شعورية جديدة، والإحساس لا يتكاثف

في موضع دون موضع. كما أن القوى لا تتجمع لتلتقي في ذروة متشابكة وإنما تجري عناصر الموضوع مستقلة مجزأة كما يجري جدول في أرض منبسطة لا تعلو ولا تنخفض ولا تتخللها غابات كثيفة معرقلة. ولهذا نستطيع أن نحذف ما نشاء من أبيات ونقدم ونؤخر دونما حرج. على أن أبرز خاصية لقصائد الهيكل المسطح أنها مملوءة بالفجوات، فمن السهل أن نضيف إليها ما شئنا من الأبيات دون أن نفقدها وحدة أو نسيء إلى رابطة فيها. وهذا لأنها في الأصل أشبه بأرض فضاء ممتدة لا بداية لها ولا نهاية، ولا تختلف جهة فيها عن جهة، إن في وسع الشاعر أن يوصلها إلى ما شاء من الأبيات، والشرط الوحيد أن يشدها شدًّا ما ويحدث فيها رابطة ولو شكلية. ولعل خير رابطة يلجأ إليها الشاعر في القصيدة المسطحة هي استعمال القافية الموحدة، كما يصنع نزار قباني في شعره دائمًا. وذلك لأن هذه القافية تصبح أشبه بسياج متين يشد الأبيات المفككة في داخله. والقافية الموحدة عظيمة القوة في القصيدة فهي تلمها وتمنعها من الانفلات منعًا صارمًا. ولعل هذا هو السبب في أن أغلب الشعر العربي كان مسطحًا. فقد كانت القافية الموحدة من القوة بحيث أغنت الشاعر عن التماس هيكل معقد يقوم الرابط فيه على ما هو أعمق من القافية الموحدة. وبسبب هذا التفكك الطبيعي في القصائد المسطحة تحتاج القصيدة إلى خاتمة شامخة تكون هي الأخرى أشبه بسياج عالٍ يحد البقعة الصغيرة الممتدة وينهيها. إن ترك القصيدة المسطحة غير كاملة يضجر القارئ المرهف ويشعره بأنه لم يخرج بشيء، وهذا لأنه يوحي أن الامتداد لا ينتهي، والذهن والإنساني لا يستريح إلى الامتداد المطلق ويفضل أن ينتهي كل شيء نهاية ما. والواقع أن خاتمة القصيدة تخرجنا من هذا التمادي غير المريح، ومن هذا الاستواء، وتشعرنا بأن التيه قد انتهى إلى حدود ما. وما دامت القصيدة المسطحة – بطبعها مستوية تتساوى فيها القيم

الشعورية والفكرية للأبيات، فإن الخاتمة ينبغي أن تكون جهورية مجلجلة قاطعة بحيث تبرز على سائر الأبيات وتشعرنا بالانتهاء. ومعنى الجهورية أن يحتوي البيت الأخير على حكم قاطع قوي أو عبارة بتارة تصلح لاختتام القصيدة. ومن ذلك، الدعاء اللطيف الذي ختم به نزار قباني قصيدته، فقد ألقاه بلهجة قاطعة وكأنه عبر به عن أعمق أعماق إحساسه نحو الشباك. ومهما يكن فإن البيت الأخير ينبغي أن يكون بارزًا مثيرًا ليختم القصيدة. وختام ما ينبغي أن نقوله حول الهيكل المسطح أنه لا يتيح فرصًا لقصيدة طويلة. ذلك أن الامتداد المنبسط يضايق، والأوصاف المتتالية تصبح مملة متعبة حين لا تتخللها ذروة عاطفية تثير حماسة القارئ وذلك هو السبب في الرتابة التي نلمسها في بعض قصائد أنور العطار وهي لا تخلو من أبيات مفردة جميلة، غير أن طولها واستواء المستوى العاطفي والتعبيري في الأبيات كلها يجعل النغم ممطوطًا دون داعٍ. وخير وسيلة للنجاة من مثل هذا المزلق أن تكون القصائد المسطحة قصيرة، وتلك لفتة أدركها نزار قباني بفطرته، فهي تكاد تكون القانون في شعره كله، لا يخرج عليه إلا حين ينظم قصيدة هرمية الهيكل مثل القصيدة الرائعة الجمال "طوق الياسمين"1. القوى الحركية في القصيدة: رأينا ونحن ندرس "الهيكل المسطح" أن الموضوع الساكن لا يستطيع أن يمد قصيدة بكيان غني مقبول، وأنه ينبغي، في الغالب، أن يقوم على عناصر أخرى خارجية كالعواطف والصور لتنجح القصيدة، والواقع أن هذه الشحنة من الصور والمشاعر التي يلتمسها الهيكل الساكن إنما هي،

_ 1 ديوان قصائد من نزار قباني، بيروت 1956.

في حقيقة الأمر، صورة من صور الحركة يحاول بها الشاعر -وهو غير واع- أن يدخل عنصر الحركة إلى هيكلة لينقذه من الجمود. إن كل قصيدة جيدة لا بد أن تحتوي على عنصر الحركة على صورة ما، وإلا كانت قصيدة رديئة، والشاعر يدرك هذا بإحساسه ويحاول، غير واعٍ، أن يضفي هذا العنصر على قصيدته من إحدى جهاتها. فإذا كانت نقطة الارتكاز في القصيدة ساكنة كشباك نزار قباني، امتد الهيكل عاطفيًّا وصوريًّا، وكأن الشاعر -وهو يرى موضوعه ساكنًا- يدرك أنه لا يستطيع أن يصوغ من سكونه شيئًا نابضًا بالحياة، ما لم يضف إليه امتدادًا من نوع ما، فيبدأ بالأقرب وهو الصور والمشاعر التي توسع نقطة الارتكاز وتجعل نطاقها أكبر وأكثف. ولو راجعنا قصيدة "شباك" لرأينا أن هذا الشباك -وهو ساكن- وقد اكتسب امتدادات رائعة الحسن بما أضفاه عليه الشاعر من نعوت. إنه يتسع عندما يصفه الشاعر بأنه "ملفوف بالبنفسج" ويتسع ثانية عندما يسميه الشاعر "ديرًا للشحارير" وهي صورة تمنح الذهن فرصة لتخيل مجموعة من الشحارير تتطاير وتحط عند الشباك ... وبذلك اتسع أفق الشباك مكانيًّا حتى شمل المنطقة التي تحيط به، وسرعان ما تتدخل "الستائر" التي تمد الشباك إلى داخل الغرفة وتصله بكل ما فيها من حياة، وهكذا نرى الشاعر قد جعل الشباك ينبض بالحركة ووصله بأعمق أعماق الحياة المتدفقة حوله. ب- الهيكل الهرمي: الفرق الأساسي بين قصائد هذا الهيكل، وقصائد الهيكل المسطح، أن الشاعر هنا يمنح الأشياء بعدها الرابع. بدلًا من أن توصف الأشياء وهي ساكنة، ذات ثلاثة أبعاد، في لحظة واحدة من لحظاتها -كما في الصور-

يبدو وكأن الشاعر قد تجرد من الزمن فراح الماضي والحاضر والمستقبل تبدو له كلها واحدًا، ومن خلالها يبدو الموصوف متحركًا، متغيرًا، مؤثرًا فيما حوله متأثرًا به. وهو عين ما يحدث في الحياة الواقعية حين تسمح للزمن أن يمر على الأشياء. فما من شيء إلا ويتحرك ويتغير وتحول عليه الأحوال. ومن هذا يبدو أن نقطة الارتكاز في القصائد الهرمية لا بد أن تتضمن "فعلًا" أو "حادثة" لا مجرد شيء جامد يحتل حيزًا من المكان وحسب. وفي نطاق هذا الفعل يتحرك الأشخاص والأشياء ويمر الزمن. فالأشخاص مثلًا يتبدلون وتتقلب عليهم الأحداث بحيث نجدهم في أول القصيدة يختلفون عنهم في آخرها على وجه ما. والأشياء تتغير قيمتها ومدلولاتها وأماكنها. والزمن ينصرم: فإذا بدأت القصيدة في طفولة بطلها انتهت وهو شيخ، وإن رأيناه، في بدايتها، صباح الثلاثاء ختمت القصيدة وهو قد عانى متاعب الأربعاء، وهكذا. وخلال ذلك تتغير المشاعر فتمتد وتضيق وتتسع كما يرسم لها الشاعر، ولذلك يغلب أن نجد فوارق عاطفية وزمنية بين بداية القصيدة ونهايتها. وذلك ما يميز الهيكل الهرمي عن سواه. وفي مثل هذه القصائد، قصائد "الفعل" و"الحادثة" التي تتميز عن قصائد "الأشياء" نجد أن الأحداث تميل إلى أن تتكاثف في مكان من القصيدة دون مكان. فهي تبدأ عادة هادئة العواطف، غير ثائرة، والأشخاص يتحركون بتؤدة، وكأن الشاعر يمر بفترة "العرض" التي يمر بها القصاص، وهمه الأول أن يقدم أطراف الموضوع لقارئه. ثم تأتي لحظة تندفع خلالها المشاعر والأحداث إلى قمة شعورية، "قمة الهرم" فتتجمع القوى التي بدأت فعلها في المرحلة السابقة تجمعًا عنيفًا وتبلغ القصيدة أعلى مراتب التوتر ويحس القارئ أنه إزاء مشكلة فنية إنسانية. وسرعان ما تبدأ النهاية بعد لك حين يبدأ الشاعر بفك المشكلة وحل العقدة وتشتيت القوى المتجمعة.

ولا بد لنا أن نلاحظ هنا أن خاتمة القصائد الهرمية، تمتلك قابلية الانتهاء بسكون. وهو أمر غير ممكن في قصائد الهياكل المسطحة حيث ينبغي أن تكون الخاتمة جهورية على شيء من العلو، وكأن هذه "الجهارة" نوع من الحركة التي تجيء بعد السكون الطويل فتوحي بالانتهاء. نموذج للهيكل الهرمي: تصلح قصيدة علي محمود طه "التمثال"1 أن تكون نموذجًا ممتازًا للهيكل الهرمي لما تحتوي عليه من بناء مكتمل وصور جميلة ورموز وعاطفة. إنها تكاد تكون أجمل وأكمل قصيدة نظمها هذا الشاعر على الإطلاق، وهي بلا ريب قمة من قمم الشعر العربي الحديث كله. ولذلك سنقف عندها وقفة تحليلية متريثة لندرس ما فيها من أصالة وقوة بناء وجمال. يقول الشاعر في تقديم قصيدته إنها "قصة الأمل الإنساني" وهو بهذا يخبر القارئ أن "التمثال" ليس حقيقيًّا، وإنما هو رمز للأمل الذي بناه الشاعر، أو تبنيه الإنسانية كلها، فما يلبث الزمن حتى يحطمه تحطيمًا. على أن هذا التعريف لا يضيف إلى القصيدة شيئًا، فلو لم يصرح به الشاعر لما فقدت القصيدة أي شيء، سواء أكان هذا التمثال هو الحب أم الفن أم الجمال أم السعادة، كانت القصيدة كاملة. وذلك لأن نقطة الارتكاز هنا هي التمثال وما يحدث لهذا التماثل متضمن في داخل الهيكل، بحيث تكون القصيدة كاملة حتى ولو كان التمثال تمثالًا حقيقيًّا. المهم هو أن الزمن قد تعاقب على هذا التمثال في القصيدة، من الليل، إلى الضحى، إلى آلاف الليالي والأضاحي ابتداء من شباب الشاعر حتى شيخوخته. ولقد وصلت هذه الحركة الزمانية تمثال الشاعر

_ 1 ديوان ليالي الملاح التائه، لعلي محمود طه. القاهرة.

بالحياة كلها فكأنه عاد ينبض نبضًا. والقصيدة تبدأ في شباب الشعر فنراه يمضي كل صباح ليصطاد غرائب البر والبحر، فلا يعود إلا مع المساء حاملًا صيده ليلقيه "على قدمي" تمثاله. وهو، في نشوة هذا الشباب المتفجر بالحيوية، يصعد إلى النجوم ويهبط إلى أعماق البحر، ويجوب البراري، ويقتحم الضحى في آسيا وإفريقيا، ويجوب عصور التاريخ، كل ذلك بحثًا عن الحلي التي يريد أن يتوج بها تمثاله الجميل. ولكن القصيدة لا تنتهي إلا بعد أن يشيب الشاعر فلا يعود يقوى على دفع عادية العواصف والسيول عن تمثاله، ويصيح لا مفر له من أن يقف جامدًا مغلوبًا ليراه يتحطم وتجرفه الأمواج. وبهذا نجد الزمن قد تحرك خلال أبيات القصيدة حركة سريعة مدهشة افتنَّ الشاعر في أساليب تصويرها وإبرازها. وسوف ندرس فيما يلي القصيدة بالتفصيل لنلاحظ وسائل الشاعر في صياغتها وبنائها. لنلاحظ أولًا الحركة في الأبيات الافتتاحية في القصيدة: أقبل الليل واتخذت طريقي لك النجم مؤنسي ورفيقي وتوارى النهار خلف ستار شفقي من الغمام رقيق مد طير المساء فيه جناحًا كشرع في لجة من عقيق نلاحظ أولًا الحركة في الفعل "أقبل" وفي ما توحيه عبارة "واتخذت طريقي لك" حيث نرى الشاعر يسير في طريقه نحو التماثل. ويؤكد الشاعر هذه الصورة بقوله "توارى النهار" فالفعل "توارى" بطبعه ممطوط، فيه بطء وانسحاب متريث، وتلك خاصية الأفعال المقيسة على

"تفاعل" مثل تلاشى وتهادى وتمادى، فهي توحي بحركة مرتخية متمهلة. ومن المؤكد أن الشاعر لو استعمل كلمة "غاب" في مكان "توارى" لما استطاع أن يعطي هذا الأثر. وينتقل المشهد الغروبي إلى الليل الكامل فنرى الشاعر قد انتهى من اجتياز الطريق وبلغ موضع التمثال وراح يخاطبه: أيهذا التمثال، هأنذا جئت لألقاك، في السكون العميق حاملًا من غرائب البر والبحر، ومن كل محدث وعريق ذاك صيدي الذي أعود به ليلًا وأمضي إليه عند الشروق وأبرز ما يلفت النظر هنا عبارة "أعود به ليلًا" التي كان الفعل فيها مضارعًا، وهو أول مضارع استعمله الشاعر، بعد سلسلة الأفعال الماضية "أقبل، توارى، مدَّ، جئت". والسبب في استعمال المضارع هنا أنا الشاعر يريد أن يوحي بالاستمرارية في حركة هذه "العودة". فهو يخرج كل صباح ويعود كل مساء ليصطاد الكنوز ويلقيها على قدمي تمثاله. وفائدة هذه الاستمرارية أنها تمد الزمن وتطيله حتى يشيب الشاعر في القسم الثاني من القصيدة، وهي فترة عانى الشاعر كثيرًا قبل أن يبلغها كما يتضح من الأبيات التالية يخاطب بها الشاعر تمثاله: بيدي هذه جبلتُكَ، من قلبي ومن رونق الشباب الأنيق كلما شمتُ بارقًا من جمال

طرتُ في أثره أشق طريقي شهد النجم كم أخذت من الروعة عنه ومن صفاء البريق شهد الطير كم سكبت أغانيه على مسمعيك سكب الرحيق شهد الكرم كم عصرت جناه وملأت الكئوس من إبريقي شهد البر ما تركت من الغار على معطف الربيع الوريق شهد البحر لم أدع فيه من در جدير بمفرقيك خليق إن هذه الأبيات تقدم حركة واسعة، لا في الزمان وحسب، ولكن في المكان أيضًا، في عرض العالم وطوله: إلى النجوم لاقتباس بريقها وروعتها وإلى الكروم لملء الكئوس بالعصير لشفتيه، وإلى البحر اصطيادًا للؤلؤ والمرجان وكل ما يليق بمفرقه. ومما لا شك فيه أن هذه الحركة المكانية قد استغرقت زمانًا طويلًا، وقد قصد الشاعر أن يرينا كيف استنزف شبابه وسعادته في تنميق تمثاله وتزينه ومنحه العمق والجمال. وقد أفادت كلمة "كم" إذ أوحت بتعدد "الحدث" مما يقتضي زمانًا أطول وأبطأ. ثم تأتي، بعد ذلك، الطبيعة بغاباتها وجبالها ووديانها وممالكها وقاراتها وتواريخها فيمضي الشاعر يلفها حول تمثاله العجيب: ولقد حير الطبيعة إسرائي لها كل ليلة وطروقي واقتحامي الضحى عليها

كراعٍ آسيوي أو صائد إفريقي أو إله مجنح يتراءى في خيالات شاعر إغريقي في هذه الأبيات نجد الشاعر ما زال يذرع العالم والزمن من أجل تمثاله، وقد استعمل لفظي "الإسراء" و"الطروق" وهما فعلان يدلان على الزمن. وجعل الشاعر إسراءه "كل ليلة" وجعل اقتحامه الضحى تارة على صورة راعٍ من رعاة آسيا وتارة على صورة صياد من إفريقيا، ثم رجع بالزمن إلى الوراء أكثر من عشرين قرنًا فاتخذ هيئة شاعر إغريقي تتراءى له خيالات الآلهة القدماء. إلى هنا انتهى الشاعر من مرحلة "العرض" فأحاط القارئ بظروف تجربته الإنسانية. وقد رأينا أن العاطفة كانت متكافئة في الأبيات فلم تتركز في مكان خاص، وإنما تحركت في الزمن في خطوات دائبة مستمرة متشابهة في سرعتها وسعتها. وكان المقصد في كل بيت أن يضفي الشعر صورة جديدة من جهده ومتاعبه، في خلق هذا التمثال وتزيينه وتخليده. وفجأة يبدأ الشعور بالتعقد والاندفاع نحو قمة عاطفية يوحي بها جو القصيدة وكأنه ينذر بعاصفة رهيبة. وتظهر بوادر هذا في خطاب يوجهه الشعر المجهد إلى "الطبيعة": قلت: لا تعجبي! فما أنا إلا شبح لج في الخفاء الوثيق أنا، يا أم، صانع الأمل الضاحك في صورة الغد المرموق صغته صوغ خالق يعشق الفن ويسمو لكل معنًى دقيق

وتنظرته حياة، فأعياني دبيب الحياة في مخلوقي كل يوم أقول: في الغد. لكن لستُ ألقاه في غد بالمفيق ضاع عمري، وما بلغت طريقي وشكا القلب من عذاب وضيق الفعل "تنظر" أكثف من الفعل "انتظر" ويوحي بفترة انتظار أطول وأمر. وهذه هي حالة الشاعر الذي أضاع عمره في صنع تمثاله الفذ أملًا بأن تدب فيه الحياة، وقد طال به انتظاره، وعبث به الأمل، وبدأ يثقل عليه. وقد راحت طلائع اليأس الأخير تلوح إذ اقترب الشاعر من الشيخوخة. ولذلك يبعث صرخته الدامية: ضاع عمري ... وما بلغت طريقي ... ولا بد لنا أن ننتبه إلى الفرق الواضح في كثافة الشعور بين الأبيات الثلاثة الأولى، والثلاثة الأخيرة، ففي وسعنا أن نجزم بأنه أكثف في الأخيرة. إلا أننا لو أردنا الدقة لقلنا إن هذه الكثافة تزداد بنسبة شبه ثابتة كلما تقدمنا في الأبيات. ففي البيت الأول يصف الشاعر نفسه بأنه شبح وثيق الخفاء وهذا يكاد يخلو من الانفعال وكأن الشاعر يحس أن عليه أن يقدم نفسه لأمه الطبيعة بهدوء. إلا أنه في البيت الثاني يبدأ بتفصيل أمره قائلًا إنه "صانع الأمل الضاحك" ويعرض هذا إلى بداية الانفعال فيصرخ في البيت الثالث: صغته صوغ خالق يعشق الفن ويسمو لكل معنًى دقيق وفي هذا أول بوادر الشكوى، فهو يذكِّر الطبيعة بأنه قد "جهد"

في خلق تمثاله كما يجهد فنان أصيل. ولهذا التذكير دلالته النفسية التي تنذر بما بعدها. وسرعان ما يشتد انفعال الشاعر فيبرز بوضوح في الأبيات الثلاثة التالية حيث يشكو طول انتظاره وعدم دبيب الحياة في ذلك التمثال، ويبلغ الشعور درجة المرارة في قوله: كل يوم أقول: في الغد لكن لست ألقاه في غد بالمفيق ويصل إلى درجة اليأس حين ينادي: ضاع عمري، وما بلغت طريقي وشكا القلب من عذاب وضيق وبعد هذه الصرخة اليائسة تبدأ "قمة" القصيدة فيتركز الشعور في مشهد العاصفة التي يرمز بها الشاعر إلى فترة الشيخوخة في حياة الفنان، وسنكتفي هنا بنسخ الأبيات التي تنوب عنا في الحديث عن نفسها: معبدي، معبدي، دجا الليل إلا رعشة الضوء في السراج الخفوق زأرت حولك العواصف لما قهقة الرعد لالتماع البروق لطمت في الدجى نوافذك الصُم ودقت بكل سيلٍ دفوق يا لتمثالي الجميل احتواه سارب الماء كالشهيد الغريق لم أعد ذلك القوي فأحميه من الويل والبلاء المحيق ليلتي، ليلتي، جنيت من الآثام

حتى حُملت ما لم تطيقي فاطربي واشربي صبابة كأسٍ خمرها سال من صميم عروقي هنا تبلغ المأساة قمتها، فبعد أن شاركنا الشاعر في صنع تمثاله وجُبنا معه العالم لتزيينه، وقفنا معه نشهد تحطمه، في سورة العاصفة الرهيبة، وانجرافه في تيارات الماء الساربة، وتنبعث صرخة "الخالق" المدحور أحدّ وأمرّ من أية صرخة سابقة: لم أعد ذلك القوي فأحميه من الويل والبلاء المحيق ونحس أننا هنا بإزاء القمة نفسها، وقد تجمعت قوى الشعور والحياة لتخلق هذه القمة، فلا بد أن تبدأ القوى بالانخفاض بعدها. ويجيء البيتان التاليان مصداقًا، فالفنان قد استسلم وانهزم وهو يدعو ليلته المخيفة إلى أن تسكر من دمه. وتسرع القوى العاطفية بعد ذلك إلى الانحلال والتشتت، وتبدأ النهاية، وقد أتمها الشاعر في سبعة أبيات بديعة الجمال: مر نور الضحى على آدمي مطرقٍ في اختلاجة المصعوق في يديه حطامة الأمل الذاهب في ميعة الصبا المرموق واجمًا، أطبق الأسى شفتيه غير صوت، عبر الحياة، طليق صاح بالشمس: لا يَرُعك عذابي فاسكبي النار في دمي وأريقي

نارك المشتهاة أندى على القلب وأحنى من الفؤاد الشفيق فخذي الجسم حفنة من رمادٍ وخذي الروح شعلة من حريق جنّ قلبي فما يرى دمه القاني على خنجر القضاء الرقيق إن هذا المشهد يمتلك كل خصائص النهاية الجيدة لهيكل هرمي، فبعد الحركة العنيفة التي دار بنا الشاعر خلالها في رحاب القرون ومجاهل العالم، وبعد مشهد العاصفة الجنونية وهي تزأر وتلطم النوافذ وتتدفق سيولها محطمة مدمرة جارفة، بعد تلك الحركة وهذه الضجة، يهدأ كل شيء فجأة، ويطلع الضحى ... وفي الضوء يبرز المشهد الأليم فترى الشاعر مختلجًا، مصعوقًا، واجمًا، صامتًا، وبين يديه بقايا تمثاله المحطم. وتتلاشى القصيدة شيئًا فشيئًا حتى تخبو في آخر تأوهات الفنان وهو يتوسل إلى الشمس أن تسكب نارها في دمه دونما رأفة ولا شفقة. هذا التلاشي والوجوم والصمت هو عنصر السكون في خاتمة هذه القصيدة الحركية الفذة ذات الهيكل الهرمي المحكم. ولا بد لنا، قبل أن ننتهي من دراسة الهيكل في هذه القصيدة، أن نشير إلى أسلوب لفظي استعمله الشاعر في ربط القصيدة وشدها إلى بعضها داخل إطار، ذلك أن القصيدة تقع في قسمين رئيسيين، ينتهي أولهما بهذا البيت: ضاع عمري وما بلغت طريقي وشكا القلب من عذاب وضيق وما بعده هو القسم الثاني. ولو دققنا النظر لوجدنا أن الشاعر قد

استعمل في القسم الأول لفظتين كررهما في القسم الثاني، وهما "الليل" و"الضحى". وقد كان هذا التكرار نافعًا في المقارنة بين حالتين: ففي القسم الأول كان الليل هو الوقت الذي يلتقي فيه الشاعر بتمثاله، منتصرًا، حاملًا إليه غرائب البر والبحر. وكان الضحى مغلوبًا، فالشاعر-كما يخبرنا- "يقتحم الضحى". أما في القسم الثاني فقد انعكست الحالة انعكاسًا مؤلمًا فما يكاد الليل يهبط حتى تزأر العاصفة وتلطم النوافذ وتحطم التمثال. ونسمع الشاعر المدحور ينادي صارخًا: ليلتي، ليلتي، جنيت من الآثام حتى حملت ما لم تطيقي فاطربي. واشربي صبابة كأس خمرها سال من صميم عروقي أما "الضحى" فهو هذه المرة، يمر على إنسان محطم انقطعت علاقته بذلك "المقتحم" القديم الغلاب بزهوه وشبابه وانتصاره. وهكذا استعان الشاعر بالليل والضحى في خلق هذا التضاد الفني الذي يسر المقارنة وكثف جو القصيدة وأحكم بناءها. وقد جاءت في هذه القصيدة صور أخرى من المقارنة غير المباشرة، فالشاعر في القسم الأول، قد سمى نفسه "خالقًا". أما في القسم الثاني فهو ليس إلا "آدميًّا" وقد ساعد ذلك في تكثيف الجو النفسي لهذه القصيدة الرائع. ج- الهيكل الذهني: رأينا أن هيكل القصيدة ليس إلا الأسلوب الذي يدخل به الشاعر الحركة في قصيدته فعندما كان الهيكل مسطحًا والارتكاز ساكنًا عوض الشاعر

بالعواطف والصور عن هذا السكون وعندما كان الهيكل هرميًّا والارتكاز متحركًا لم يحتج الشاعر إلى أي تعويض. ونحن الآن بإزاء النوع الثالث الذي سنسميه بالإطار الذهني. ونحن نعزله عن النوعين الآخرين لأنه يقدم عنصر الحركة على أسلوب فكري. فبدلًا من أن يستغرق التحرك زمانًا، كما في قصيدة "التمثال" نجد الحركة لا تستغرق أي زمن لأنها حركة في الذهن يقصد بها بناء هيكل فكري لا وصف حدث يستغرق زمانًا. وأكثر ما ينجح هذا الهيكل في القصائد التي تحتوي على فكرة يناقشها الشاعر بالأمثلة المتلاحقة. وهذا نوع من الشعر يكثر في شعر شعراء المهجر جبران ونعيمة وأبي ماضي. ونموذج هذا الهيكل قصيدة العنقاء1 لإيليا أبي ماضي. وقد رمز الشاعر بالعنقاء إلى السعادة -كما يلوح- ومن ثم بقي يسأل عنها ويبحث لعله يعثر عليها. التمسها أولًا في الطبيعة، ثم في القصور، ثم في الزهد، ثم في الأحلام، ولكنه لم يصادفها. وبعد فوات الأوان أدرك أنها كانت معه طوال الوقت وهو لا يدري. وتتجلى الحركة الذهنية في الانتقال من الطبيعة إلى القصور، إلى الزهد، وهكذا. ذلك أن هذه ليست حركة في الزمن، ولا هي حركة في المكان. وإنما قصد الشاعر أن يوازن بين مختلف منابع السعادة موازنة ذهنية فيمر بكل منها ويستعرض الإمكانيات لينتهي إلى أن السعادة إنما تنبع من نفس الإنسان لا من خارجها. وهكذا نرى أن التتابع الزمني ليس مقصودًا هنا، والدليل أننا نستطيع أن نقدم البحث في الأحلام، على البحث في القصور أو الصوامع دون أن تضطرب القصيدة أو يتغير مدلولها العام. وهذا ما لا يمكن أن نصنعه في قصيدة "التمثال" حيث كان الإلحاح على التسلسل الزماني جزءًا ضروريًّا من كيان القصيدة ومدلولها. ولذلك نميز بين الهيكلين هذا التميز التام: فالهيكل

_ 1 الجداول، لإيليا أبي ماضي.

الهرمي يدخل الزمن في كيان القصيدة في حين لا يحتاج الهيكل الذهني إلى أن يحيا في زمان. مثال عليه: ومع ذلك فالهيكل الذهني ليس ساكنًا وإنما هو هيكل حركي، ينتقل فيه الذهن من فكرة إلى فكرة خارج حدود الزمن. لنأخذ مثلًا قصيدة "أنت وأنا"1 لأمجد الطرابلسي وهي نموذج جيد للهيكل الذهني يقول الشاعر: أما رأيت الليلة الحالكه ... تجلو دجاها البرقة الساطعة والطفلة المشرقة الضاحكة ... تحزنها لعبتها الضائعة فإني الليلة يا برقتي وإنني الطفلة يا لعبتي يا فرحتي أنت ويا دمعتي إن تجدي الناسك في ديره ... تهزه نغمة أرغنه والفاجر العربيد في سكره ... ترعشه النظرة من دنه فإنني الناسك يا نغمتي وإنني السكران يا خمرتي يا سقري أنت ويا جنتي

_ 1 نشرت في مجلة الرسالة ربما في سنة 1941.

أما رأيتِ الشاعرا السادرا ... يقدس الحسن على سبحته والأهوج المضطرم الفائرا ... تهيج الأجساد من نهمته فإنني الشاعر يا سبحتي وإنني الأهوج يا نهمتي يا جسدي أنت ويا فكرتي إن تجدي المبتهل المؤمنا ... يصبو إلى الحورية الطاهره والماجن المستهتر الأرعنا ... يستعذب السم من العاهره فإنني المبتهل المؤمن وإنني المستهتر الأرعن دليلتي أنت وحوريتي الفكرة الأساسية في هذه القصيدة أن الشاعر يرى في حبيبته الحياة كلها على اختلاف أحاسيسها وتقلب أهوائها. وقد عبر عن هذه الفكرة بأن أدخل حركة ذهنية في القصيدة، فراح ينقل ذهن القارئ بين المظاهر المتعددة للفكرة دون أن يحتاج إلى استعمال الزمن. فقال في المقطوعة الأولى إن إحساسه تجاه هذه الفتاة يتضمن المتعاكسين من العواطف: الفرح والحزن. وفي المقطوعة الثانية تحدث عن عنصر الخير والشر في هذا الحب. وفي المقطوعة الثالثة ركز الفكرة حول الجسد والجمال الفكري. وكانت المقطوعة الأخيرة شبه ختام إذ قال للحبيبة إنها في الوقت نفسه

"دليلته"1 وحوريته فهي تجمع في ذاتها الإيمان والمجون معًا. إن الهيكل هنا غير هرمي، فمن الممكن أن ننقل مقطوعة مكان أخرى دون أن تمس القصيدة، وهذا لأن الحركة كانت ذهنية خارجية، ولم يتدخل فيها الزمن لتكون هناك عقدة ذات سياق تسلسلي يمنع من التقديم والتأخير. والخاتمة في الهيكل الذهني تستدعي شيئًا من البروز والجهورية، فقلما تتلاشى هذه الهياكل في سكون، لخلوها من عنصر الزمن. ولكن جهورية الختام في الهيكل الذهني نوع خاص يختلف عن جهوريته في الهيكل المسطح. فبينما يستطيع الشاعر هناك أن يختم القصيدة بأية عبارة قاطعة حادة قوية المعنى، تجده في الهيكل الذهني يحتاج إلى أن يختمها بحكم عام ينهي المشكلة الفكرية التي أثارها، وذلك بإحداث موازنة بين نقط الحركة الذهنية كلها. وهكذا وجدنا إيليا أبا ماضي، بعد البحث عن عنقائه في الطبيعة والقصور والصوامع والأحلام، يختتم القصيدة بموازنة عامة يخبر فيها القارئ أن السعادة تنبع من نفس الإنسان لا مما حوله. ومن دون هذه الموازنة تبقى قصائد هذا النوع من الهيكل ناقصة بحيث تترك في نفس القارئ إحساسًا بما يسمى في علم النفس بالفعالية الناقصة. ولعل قصيدة أمجد الطرابلسي تفتقد مقطعًا ختاميًّا ينتهي بالقارئ إلى فكرة أعم تخرج القصيدة من صيغتها الغنائية الحالية، فهي تكاد تكون -بمقاطعها كلها- صورة لفكرة واحدة وهي اجتماع المتعارضات كلها في هذه الفتاة التي يحبها الشاعر. وقد يكون الشاعر تعمد التخلص من مأزق الختام بتغييره الصيغة اللفظية التي ختم بها المقاطع الثلاثة السابقة: يا فرحتي أنت ويا دمعتي يا سقري أنت ويا جنتي يا جسدي أنت ويا فكرتي

_ 1 يبدو من السياق هنا أن الإشارة إلى قصة "شمشون ودليلة".

فقد خرج عنها إلى هذا: دليلتي أنت وحوريتي غير أن هذا، في الواقع، ليس من القوة بحيث يختم قصيدة ذات هيكل ذهني. إلا إذا أردنا أن نعتبرها أغنية حلوة تحاول التعبير عن المعنى الواحد في مقاطع متتالية، وليس لنا أن نطلب الفكرة فيها.

الفصل الثاني: أساليب التكرار في الشعر

الفصل الثاني: أساليب التكرار في الشعر. على الرغم من أن التكرار كان معروفًا للعرب منذ أيام الجاهلية الأولى، وقد ورد في الشعر العربي بين الحين والحين، إلا أنه في الواقع لم يتخذ شكله الواضح إلا في عصرنا. وقد جاءت على أبناء هذا القرن فترة من الزمن عدوا خلالها التكرار، في بعض صوره، لونًا من ألوان التجديد في الشعر. ومن المؤكد أن الاتجاه نحو هذا الأسلوب التعبيري ما زال في اطراد بحيث يصح أن نرقبه، ونقف منه موقفًا يقظًا. أقول هذا لا لأنني أعده أسلوبًا رديئًا، فهذا بعيد عن رأيي، وإنما لأنه -حين يعد أسلوبًا سهلًا- يستطيع أن يردي شعر أي شاعر إلى هاوية. ذلك أن أسلوب التكرار يحتوي على كل ما يتضمنه أي أسلوب آخر من إمكانيات تعبيرية. إنه في الشعر مثله في لغة الكلام، يستطيع أن يغني المعنى ويرفعه إلى مرتبة الأصالة، ذلك إن استطاع الشاعر أن يسيطر

عليه سيطرة كاملة، ويستخدمه في موضعه، وإلا فليس أيسر من أن يتحول التكرار نفسه بالشعر إلى اللفظية المبتذلة التي يمكن أن يقع فيها أولئك الشعراء الذين ينقصهم الحس اللغوي والموهبة والأصالة. والقاعدة الأولية في التكرار، أن اللفظ المكرر ينبغي أن يكون وثيق الارتباط بالمعنى العام، وإلا كان لفظية متكلفة لا سبيل إلى قبولها. كما أنه لا بد أن يخضع لكل ما يخضع له الشعر عمومًا من قواعد ذوقية وجمالية وبيانية. فليس من المقبول مثلًا، أن يكرر الشاعر لفظًا ضعيف الارتباط بما حوله، أو لفظًا ينفر منه السمع، إلا إذا كان الغرض من ذاك "دراميًّا" يتعلق بهيكل القصيدة العام. وستوضح نماذج الشعر التي اخترتها ما أقصد بهذا. كما أن البحث لن يخلو من نماذج للتكرار الرديء الذي يصدم الحس الجمالي ويخرج عن الغرض الذي ينبغي أن يقصد إليه أي تكرار. ولعل أبسط ألوان التكرار، تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية في قصيدة، وهو لون شائع في شعرنا المعاصر، يتكئ إليه أحيانًا صغار الشعراء في محاولتهم تهيئة الجو الموسيقي لقصائدهم الرديئة، حتى كثرت القصائد التي يبدأ كل بيت فيها بألفاظ مثل "أنت" و"تعالي" و"هنا" ونحوها. ولا ترتفع نماذج هذا اللون من التكرار إلى مرتبة الأصالة والجمال إلا على يدي شاعر موهوب يدرك أن المعول في مثله، لا على التكرار نفسه، وإنما على ما بعد الكلمة المكررة، فإن كان مبتذلًا، رديئًا، سقطت القصيدة، وإلا فهي في مستوى قصيدة الهمشري "إلى جتا الفاتنة" وهذا نموذج منها: أنت كوخٌ معشوشبٌ في رباةٍ ... مُقمر الصمتِ، سرمدي الخيالِ

نَعِست روحي الكليلة نشوى ... فيه، ترعى فجري هذا الجمال أنت صمتٌ مخيم ففضاءُ ... فظلام مكوكبٌ فنهارُ فهمودٌ تدب فيه حياةٌ ... ويغني في فجرها النوبهارُ أنتِ كل الحياة، أنت كياني ... أنتِ روحي أبصرتُها في سباتي أنتِ وحيي مجسدًا، أنت لحني ... يا سماء على سماء حياتي1 والملاحظ أن كثيرًا مما كتب المعاصرون من هذا اللون رديء تغلب عليه اللفظية، وعلة هذه الرداءة أن طائفة من الشعراء تضيق بهم سبل التعبير فيلجئون إلى التكرار، التماسًا لموسيقى يحسبون أنه يضفيها أو تشبهًا بشاعر كبير، أو ملئًا لفراغ. ومن النماذج المبتكرة تكرار كلمة "نسيت" في قصيدة "نهر النسيان" لمحمود حسن إسماعيل، فهذا تكرار يتعلق تعلقًا مباشرًا ببناء القصيدة العام، وهو أحد الأسباب التي تجعلنا نعده تكرارًا ناجحًا غير لفظي، كما نعد القصيدة نفسها واحدة من أجمل ما نظم شعراؤنا المعاصرون. ولعل من المناسب أن أقتطف نموذجًا من القصيدة ليلاحظ القارئ العناية الكبيرة التي صبَّها الشاعر على ما يلي لفظة "نسيت" في كل بيت، وهو سر جمال التكرار ونجاحه:

_ 1 الروائع لشعراء الجيل. مطبعة الشبكشي بالأزهر. القاهرة.

من "نهر النسيان"1: ونسيت الأنسام تنقل في المرج صلاة الطيور للغدران ونسيت النجوم وهي على الأفق نشيد مبعثر الأوزان ونسيت الربيع وهو نديم الشعر والطير والهوى والأماني ونسيت الخريف وهو صبا مات فسجته شيبة الأغصان ونسيت الظلام وهو أسى الأرض وتابوت شجوها الحيران ونسيت الأكواخ وهي قلوب داميات تلفعت بالدخان ونسيت القصور وهي قبور ضاحكات البلى من البهتان هذا نموذج يتوافر فيه الشرطان، فاللفظ المكرر متين الارتباط بالسياق: وما بعده قد لقي عناية الشاعر الكاملة. يلي تكرار الكلمة تكرار العبارة، وهو أقل في شعرنا المعاصر، وتكثر نماذجه في الشعر الجاهلي ومنه في شعر المهلهل: ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا ... أَو تَحُلّوا عَلى الحُكومَةِ حَلا ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا ... أَو أُذيقَ الغَداةَ شَيبانَ ثُكلا ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا ... أَو تَنالَ العُداةُ هَونًا وَذُلّا وقد كرر المهلهل عبارة "على أن ليس عدلًا من كليب" في قصيدة أخرى أكثر من عشرين مرة على رواية أبي هلال العسكري. وأشهر من هذا تكراره لعبارة "قربا مربط المشهر مني" ويقصد بالمشهر فرسه

_ 1 ديوان أين المفر. محمود حسن إسماعيل. القاهرة 1947.

وهو يستدعيه بذلك إيذانًا بعزمه عل الحرب، وردًّا منه على قصيدة الحارث بن عباد التي استدعى فيها فرسه "النعامة" مكررًا عبارة: قربا مربط النعامة مني ولا يخفى أن للتكرار في هذه المواضع كلها علاقة كبيرة بظروف الشاعر النفسية، وطبيعة حياته البدوية. ولا شك في أنه كان يلاحظ أن التكرار يثير الحماسة في صدور المحيطين به ويستفزهم للقتال. ومن ثم استعمله. وأحد النماذج المألوفة لهذا التكرار في عصرنا، تكرار بيت كامل من الشعر، في ختام المقطوعة، وقصيدة ميخائيل نعيمة "الطمأنينة" مثال ناجح له: سقف بيتي حديد ... ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح ... وانتحب يا شجر واسبحي يا غيوم ... واهطلي بالمطر واقصفي يا رعود ... لست أخشى خطر سقف بيتي حديد ... ركن بيتي حجر من سراجي الضئيل ... أستمد البصر كلما الليل جاء ... والظلام انتشر وإذا الفجر مات ... والنهار انتحر فاختفي يا نجوم ... وانطفئ يا قمر من سراجي الضئيل ... أستمد البصر1

_ 1 ديوان همس الجفون لميخائيل نعيمة.

ولنلاحظ أن هذا اللون من التكرار لا ينجح في القصائد التي تقدم فكرة عامة لا يمكن تقطيعها؛ لأن البيت المكرر يقوم بما يشبه عمل النقطة في ختام عبارة تم معناها، ومن ثم فإنه يوقف التسلسل وقفة قصيرة ويهيئ لمقطع جديد. وقد رأينا أن قصيدة ميخائيل نعيمة تقدم نماذج فرعية لمعنى الطمأنينة العام، وقد وقفت كل مقطوعة نفسها على نموذج فرعي واحد انتهت عنده، وهذا هو سر نجاح التكرار في القصيدة. ويفشل هذا التكرار في القصائد التي تتسلسل معانيها تسلسلًا لا داعي فيه للتقطيع. ومن نماذجه قصيدة عنوانها "سجين" لبدر شاكر السياب، يبدو التكرار في ختام كل مقطع منها صادمًا يعوق التسلسل، ويوقفه دون داعٍ، وهذان مقطعان منها: ذراعا أبي تُلقيان الظلال ... على روحي المستهام الغريب ذراعا أبي والسراج الحزين ... يطاردني في ارتعاش رتيب وحفت بي الأوجه الجائعات ... حيارى فيا للجدار الرهيب ذراعا أبي تُلقيان الظلال ... على روحي المستهام الغريب وطال انتظاري.... كأن الزمان ... تلاشى فلم يبق إلا انتظار! وعيناي ملء الشمال البعيد ... فيا ليتني أستطيع الفرار وأنت التقاء الثرى بالسماء ... على الآل في نائيات القفار وطال انتظاري كأن الزمان ... تلاشى فلم يبق إلا انتظار1 التكرار هنا يبدو تلوينًا مجردًا ليس له داعٍ، وهو يوقف الانسياب الشعوري للقصيدة التي تملك كسائر قصائد هذا الشاعر وحدة محببة يؤسفنا أن تتعثر لاهثة في ختام كل مقطع. قد كان موضع التكرار هنا -رغم

_ 1 ديوان أساطير لبدر شاكر السياب. النجف 1950.

تسلسل القصيدة وطبيعتها التي لا تقبل التقطيع- يمكن أن يتحسن لو عني الشاعر بأن يجعل البيت الثالث في المقطوعة يفضي بمعناه إلى البيت الرابع المكرر، كما في مقطوعات ميخائيل نعيمة، فإذ ذاك يمتلك التكرار سببًا واحدًا يبرر وجوده في قصيدة لا تحتاج إليه إطلاقًا. ومن هذا اللون من التكرار، ما يكرر الشاعر فيه كلمة أو عبارة معينة في ختام مقطوعات القصيدة جميعًا، وهو لون شائع مثاله تكرار إيليا أبي ماضي لعبارة "لست أدري" في قصيدة الطلاسم المشهورة، وتكرار علي محمود طه لعبارة "اسقنا من خمرة الرين اسقنا" في قصيدة "خمرة نهر الرين" وشرط هذا النوع من التكرار أن يوحد القصيدة في اتجاه يقصده الشاعر، وإلا كان زيادة لا غرض لها. ثم ننتقل إلى تكرار المقطع كاملًا، وهو تكرار يخضع لشروط تكرار البيت عينها، أعني إيقاف المعنى لبدء معنًى جديد. ومن أمثلته قصيدة "الصباح الجديد" لأبي القاسم الشابي وقد كرر المقطع التالي أكثر من مرة. اسكتي يا رياح ... واسكني يا شجون مات عهد النواح ... وزمان الجنون وأطل الصباح ... من وراء القرون1 ومع أن هذا التكرار لم يضر بالقصيدة، إلا أنه لم يفدها كثيرًا.

_ 1 الشابي حياته وشعره لأبي القاسم محمد كرو.

وربما كان أجمل لو حذفه الشاعر، فالقصيدة، من دونه، لا تخسر شيئًا. ويلاحظ أن التكرار المقطعي يحتاج إلى وعي كبير من الشاعر، بطبيعة كونه تكرارًا طويلًا يمتد إلى مقطع كامل. وأضمن سبيل إلى نجاحه أن يعمد الشاعر إدخال تغيير طفيف على المقطع المكرر، والتفسير السايكولوجي لجمال هذا التغيير، أن القارئ وقد مر به هذا المقطع، يتذكره حين يعود إليه مكررًا في مكان آخر من القصيدة، وهو بطبيعة الحال، يتوقع توقعًا غير واعٍ أن يجده كما مر به تمامًا. ولذلك يحس برعشة من السرور حين يلاحظ فجأة أن الطريق قد اختلف، وأن الشاعر يقدم له، في حدود ما سبق أن قرأه، لونًا جديدًا. ولا أجد في ما بين يدي من الدواوين نموذجًا لهذا التكرار باستثناء قصيدتي "الجرح الغاضب" التي نشرت في مجموعتي "شظايا ورماد" فإن المقطع الأخير من هذه القصيدة تكرار لمقطع سابق. ويهمني أن أشير إلى أن التكرار في قصيدة "الجرح الغاضب" على الرغم من ألوانه المختلفة عن ألوان المقطع الأصلي، لا يدخل على هيكل القصيدة المعنوي تغييرًا، وإنما يؤكده لا أكثر فهو تكرار بياني "كما سنشرح في البحث التالي". والخطوة التالية التي يمكن أن يخطوها الشاعر في هذا التكرار المقطعي، أن يقيم هيكل المعنى في القصيدة على التلوين الذي يدخله. بالصورة التي بينتها على المقطع الأصلي الذي يكرره، والنموذج الذي أحبه وأريد تقديمه للقارئ قصيدة بديعة لأمجد الطرابلسي قرأتها في مجلة "الرسالة" منذ سنين وعنوانها "احترق.. احترق" أنقلها هنا كاملة:

لا تقف يا قطار ... لا تهن يا خفق نخلات الديار ... من وراء البحار لمعت في الأفق ويك لا تحترق قد بلغنا الفناء ... بعد كد المسير ليس دون اللقاء ... بعد هذا المساء غير بعض العصور وبحار تمور سر بنا سر بنا ... في الدجى يا أمل الهوى ناينا ... والمدى غاينا يا هنا من وصل بعد فوت الأجل قف بنا يا قطار ... واسترح يا خفق بيننا والديار ... غمرات البحار وظلام الأفق احترق.. احترق.. ألا يتعلق التكرار هنا تعلقًا قويًّا ببناء القصيدة العامة بحيث يستحيل حذفه دون أن تنهار القصيدة؟ ذلك أن القصيدة -وهي غامضة، صوفية الإحساس، عني الشاعر فيها برسم الجو، أكثر مما عني بتقديم المعنى مفروزًا، مرتبطًا، متسلسلًا- تبدأ بالأمل في العودة إلى الديار، ذلك الأمل الذي يغذيه لمعان نخيل الديار من وراء البحار، ثم يتذكر الشاعر الزمن والموت وطبيعة الأمل الزئبقية، ويتسع في ذهنه مدلول الديار فيتحول إلى ما هو أعمق من الأرض وأبعد، وإذ ذاك يرسل صرخته الأخيرة:

"قف بنا يا قطار". وبالتلوين اللفظي الذي أدخله الشاعر في المقطع المكرر تغير اتجاه المعنى في القصيدة كليًّا، فاستحالت "لا تحترق" التي جاءت في أول القصيدة إلى "احترق، احترق" التي ختمتها. وكانت هذه مقارنة صامتة بين حس الأمل في المقطع الأصلي، وحس اليأس في المقطع المكرر. وقد كان الشاعر فنانًا وهو يختار "احترق، احترق" عنوانًا؛ لأنها، كما رأينا، ملخص الصراع كله، وإليه ترتكز القصيدة. وتجرني هذه القصيدة التي اختتمها الشاعر بالتكرار إلى الوقوف لحظة عند قضية اختتام القصائد بتكرار مقاطع سابقة منها، وهو أسلوب غير نادر في شعرنا اليوم. في الواقع أن كثيرًا من هذه الخواتيم تجيء غاية في الرداءة، والسبب أن بعض الشعراء الضعفاء يلجئون إلى التكرار تهربًا من اختتام القصيدة اختتامًا طبيعيًّا، ومن طبيعة التكرار أنه يوحي بانتهاء القصيدة وبذلك يستطيع أن يخدع القارئ العادي. على أن العيب الفني لا يفوت على قارئ متذوق يتحسس جمال التكرار ويدرك سر البلاغة فيه. وسأختار لهذا التكرار المضلل نموذجًا لشاعر نؤمن بشاعريته -فلا خير في أمثلة نقتطفها من شعراء لا قيمة لهم- قصيدة "الكوخ" من ديواني "أغاني الكوخ" الصادر سنة 1934 لمحمود حسن إسماعيل، وهي قصيدة طويلة ضغطت فيها القافية الموحدة على الشاعر حتى أبرمته، وجعلته يتهرب من الخاتمة فأجهز على القصيدة بتكرار المطلع الذي كان، لسوء الحظ، مطلعًا رديئًا1:

_ 1 ديوان أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل، القاهرة 1935.

بعثر عليه الدمع ما صفقت ... في قلبك الألحان يا شاعر واحرق له الأجفان ما مسها ... برح الأسى والحزن يا ساهر بقي من أنواع التكرار نوع دقيق يكثر استعماله في شعرنا الحديث، وهو تكرار الحرف، وأمثلته كثيرة منها هذان البيتان العذبان من قصيدة مشهورة لأبي القاسم الشابي1: عذبة أنتِ كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد. فالشاعر يكرر الكاف هنا ويؤثرها على واو العطف لأنها تجدد التشبيه وتقويه محتفظة له بيقظة القارئ كاملة، ولا شك في أن المعنى يفقد كثيرًا لو كان الشاعر قال: "عذبة أنت كالطفولة والأحلام واللحن".. وهذا نموذج ثانٍ من قصيدة رائعة الجمال لبدر شاكر السياب عنوانها "أهواء": وهيهات أن الهوى لن يموت ... ولكن بعض الهوى يأفل كما تأفل الأنجم الخافقات ... كما يغرب الناظر المسبل

_ 1 كتاب الشابي حياته وشعره، لأبي القاسم محمد كرو.

كما تستجم البحار الفساح ... مليًّا، كما يرقد الجدول كنوم اللظى، كانطواء الجناح ... كما يصمت الناي والشمأل1 ويلاحظ أن التكرار هنا لو حذف لفقدت الصور الفرعية كثيرًا من جمالها. غير أن للتكرار، كل تكرار، فائدة إيجابية تذهب إلى أبعد من مجرد التحلية. وسوف نتناول ذلك في الفصل التالي:

_ 1 قصيدة أهواء لبدر شاكر السياب. ديوان أزهار ذابلة. مطبعة الكرنك بالفجالة بمصر - 1947.

الفصل الثالث: دلالة التكرار في الشعر

الفصل الثالث: دلالة التكرار في الشعر مدخل ... الفصل الثالث: دلالة التكرار في الشعر. لا شك في أن التكرار، بالصفة الواسعة التي يملكها اليوم في شعرنا، موضوع لم تتناوله كتب البلاغة القديمة التي ما زلنا نستند إليها في تثمين أساليب اللغة. فقصارى ما نجد حوله أن أبا هلال العسكري يتحدث عنه حديثًا عابرًا في كتاب "الصناعتين" وكذلك يصنع ابن رشيق في "العمدة". أما كتاب البديعيات الذكية فقد اعتبروه فرعًا ثانويًّا من فروع البديع لا يقفون عنده إلا لمامًا. ولم يصدر هذا عن إهمال مقصود وإنما أملته الظروف الأدبية للعصر، فقد كان أسلوب التكرار ثانويًّا في اللغة إذ ذاك فلم تقم حاجة إلى التوسع في تقويم عناصره وتفصيل دلالته. وقد جاءتنا الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بتطور ملحوظ في أساليب التعبير الشعري، وكان التكرار أحد هذه الأساليب، فبرز بروزًا يلفت النظر، وراح شعرنا المعاصر يتكئ إليه اتكاء يبلغ أحيانًا حدودًا متطرفة لا تنم عن اتزان. وهذا النمو المفاجئ يقتضي ولا شك نموًّا مماثلًا في بلاغتنا التي لم تعد تساير التطور الجديد في أساليبنا التعبيرية، حتى

كادت تصبح تاريخًا فقهيًّا للغة في بعض العصور الأخرى، بدلًا من أن تبقى علمًا متطورًا يخدم اللغة ويعكس أحوالها ويسجل مراحل نموها. والواقع أن بلاغة أية لغة ينبغي أن تبقى علمًا مطاطًا قابلًا للنمو معها وإلا بعدت الشقة بينهما وانحط شأن البلاغة. والذي نحاوله في هذا الفصل أن نتناول موضوع التكرار بنوع من الدراسة البلاغية نستند فيها إلى الشعر المعاصر رغبة في الوصول إلى القوانين الأولية التي يمكن تبريرها من وجهة نظر النقد الأدبي وعلم البلاغة معًا، وذلك دون أن نغفل قواعد اللغة القديمة وما تجنح إليه من تحفظ يرمي إلى الاحتفاظ بجوهر اللغة الصافي. إن أبسط قاعدة نستطيع أن نصوغها بالاستقراء ونستفيد منها هي أن التكرار، في حقيقته، إلحاح على جهة هامة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها. وهذا هو القانون الأول البسيط الذي نلمسه كامنا في كل تكرار يخطر على البال. فالتكرار يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، وهو، بهذا المعنى، ذو دلالة نفسية قيمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية كاتبه. وعلى هذا فعندما يقول بشارة الخوري في افتتاحية قصيدة جميلة: الهوى والشباب والأمل المنشو ... د توحي فتبعث الشعر حيًّا والهوى والشباب والأمل المنشو ... د ضاعت جميعها من يديا عندما يقول هذا، فإنه يعبر بالتكرار عن حسرته على ضياع "الهوى والشباب والأمل المنشود" ولذلك يكررها. فالتكرار يضع في أيدينا مفتاحًا للفكرة المتسلطة على الشاعر، وهو بذلك أحد الأضواء اللاشعورية

التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها بحيث نطلع عليها. أو لنقل إنه جزء من الهندسة العاطفية للعبارة يحاول الشاعر فيه أن ينظم كلماته بحيث يقيم أساسًا عاطفيًّا من نوع ما. إن هذا القانون الأولي النافذ في كل تكرار يستطيع أن يدلنا على وجه الاختلال في بعض التكرارات غير الموفقة التي نجدها في الشعر المعاصر، ومثالها هذه الأبيات من قصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي: وخيولنا الخشبية العرجاء كنا في الجدار بالفحم نرسمها ونرسم حولها حقلًا ودار حقلًا ودار1 إن وجه الاعتراض هنا هو أن "حقلًا ودار" هذه لا تستدعي أية عناية خاصة من الشاعر بحيث يحتاج إلى أن يكررها. فماذا من الغرابة في أن يرسم هؤلاء الأطفال "حقلًا ودار" حول "خيول خشبية عرجاء"؟ إن الخيول تعادل في أهميتها "حقلًا ودار" هذه بحيث لا يعود التكرار مقبولًا. والحق أن القارئ يحس مرغمًا بأن هذا الطفل المتكلم بليد قليلًا بحيث يندهش مما لا يدهش، وهو معنى لا شك في أن الشاعر لم يقصد تصويره في شخصية الطفل، وإنما ساق إليه التكرار غير الموفق. وهكذا نجد السياق في الأبيات لا يستدعي التكرار إلا إذا كان الشاعر يقصد أن يثير به نوعًا من الصدى اللفظي لا أكثر. وثاني قاعدة نستخلصها هي أن التكرار يخضع للقوانين الخفية التي تتحكم في العبارة، وأحدها قانون التوازن. ففي كل عبارة طبيعية نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات كلها، إن للعبارة الموزونة كيانًا ومركز ثقل وأطرافًا، وهي تخضع لنوع من

_ 1 ديوان "أباريق مهشمة" ص48 "بغداد 1954".

الهندسة اللفظية الدقيقة التي لا بد للشاعر أن يعيها وهو يدخل التكرار على بعض مناطقها. إن في وسع التكرار غير الفطن أن يهدم التوازن الهندسي ويميل بالعبارة كما تميل حصاة دخيلة بكفة ميزان. ومن ثم فإن القاعدة الثانية للتكرار تحتاج إلى أن تستند إلى وجهة النظر الهندسية هذه، فتقرر أن التكرار يجب أن يجيء من العبارة في موضع لا يثقلها ولا يميل بوزنها إلى جهة ما. يقول بدر شاكر السياب في قصيدة له: في دروب أطفأ الماضي مداها وطواها فاتبعيني اتبعيني1 إن التوازن حاصل في هذه العبارة الشعرية، وقد قام على تكرار كلمة "اتبعيني". ذلك أننا هنا بإزاء طرفين متوازنين: "الماضي" الذي يذكره الشاعر ويفزع من انطفائه وتلاشيه: و"المستقبل" الذي يحاول تثبيته ودعمه عندما ينادي حبيبته "اتبعيني". إنه يحس بانطفاء الدروب الضائعة في الأمس فيحاول أن يملك ثباتًا في المستقبل على أساس الحب الإنساني، وبهذا يتم التوازن العاطفي للعبارة. وقد رتب الكلمات بحيث تلائمه هندسيًّا، وذلك بأن أعطى الماضي فعلين قويين هما "أطفأ" و"طوى" فكان لا بد له أن يعطي المستقبل أيضًا فعلين لكي يوحي بقوته إزاء هذا الماضي، ولذلك كرر كلمة "اتبعيني". ولننظر الآن في نماذج لعبارات شعرية مال بها التكرار وأخل بتوازنها وهدم هندستها: بيت لنزار قباني: ماذا تصير الأرض لو لم تكن لو لم تكن عيناك ماذا تصير2؟

_ 1 ديوان أساطير. النجف 1957 - ص40 2 قصائد نزار قباني. بيروت 1956- ص16.

وبيتان من شعر عبد الوهاب البياتي: بالأمس كنا - آه من كنا ومن أمسٍ يكون - نعدو وراء ظلالنا - ... كنا ومن أمسٍ يكون -1 وبيت لأحمد عبد المعطي حجازي: وتضيء في ليل القرى ... ليل القرى كلماتنا2 إن هذه التكرارات كلها مختلة، تثقل العبارة ولا تعطيها شيئًا، فلو حذفناها لأحسنَّا إلى السياق وأنقذناه من الاختلال. ذلك أن العبارات هنا لا تستدعي تكرارًا، وإنما رأى الشاعر أن يكرر أي لفظ كان واختاره من وسط العبارة وبتره عن سياقه. والواقع أن أبسط مقومات التكرار أن تكون العبارة المكررة مستقلة بمعناها عما حولها بحيث يصح انتزاعها من سياقها وتكرارها. وهذا ما لا نجده في أي من هذه الأبيات. إن نزار يكرر "لو لم تكن" وبذلك تفصل العبارة المكررة بين "كان" واسمها، أو لنقل إنه يكرر عبارة ليس فيها لكان اسم ثم يأتي بالاسم بعد التكرار. والبياتي يذهب أبعد فيكرر نصف عبارة لا معنى لها فلا ندري ما المعنى المقصود بالتكرار. ويصنع عبد المعطي ما يشبه هذا إذ يعزل المجرور ويكرره ولو كان كرر الجار والمجرور معًا "في ليل القرى" لكان الأمر أهون، وإن كان ذلك لا ينقذ العبارة من الاختلال. إن تكرار جزء من عبارة لا تحتم تكراره ضرورة نفسية يقتضيها المعنى لا بد أن يميل بالعبارة، وهذا يعود بنا إلى الهندستين العاطفية واللفظية للعبارة. هذان القانونان القائمان على الأساس العاطفي والهندسي للعبارة هما الشرطان

_ 1 أباريق مهشمة لعبد الوهاب البياتي. بغداد 1954. ص47 2 مجلة الآداب – تموز 1957.

الرئيسيان في كل تكرار مقبول، فإذا توافرا صح أن نبدأ فنبحث في الدلالات المختلفة التي يقدمها التكرار فيغني بها المعنى ويمنحه امتدادات من الظلال والألوان والإيحاءات. وأما من جهة الدلالة فإن شعرنا المعاصر يقدم لنا ثلاثة أصناف من التكرار تخضع كلها للقانونين السالفين: التكرار البياني وتكرار التقسيم والتكرار اللاشعوري. وقد اخترت أن أضع لها هذه الأسماء للتمييز بينها دون أن أقصد أن تكون هذه الأسماء نهائية. إن البحث كله ليس إلا محاولة لاستقراء أساس بلاغي لبعض أساليب الشعر المعاصر نستفيد منها في النقد والتدريس. وأنا أدرك، قبل أي أحد آخر، مدى احتمال الخطإ في الحكم وفساد الاستدلال، غير أن صعوبة المجال لا ينبغي أن توهن عزيمة الناقد، فرب محاولة غير واثقة من نفسها يقوم بها ناقد ما تشق طريقًا لنجاح أكبر قد يتاح لناقد آخر.

التكرار البياني

التكرار البياني: هذا الصنف من التكرار أبسط الأصناف جميعًا وهو الأصل في كل تكرار تقريبًا، وإليه قصد القدماء بمطلق لفظ "التكرار" الذي استعملوه. وقد مثل له البديعيون بتكرار {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن. والغرض العام من هذا الصنف هو التأكيد على الكلمة المكررة أو العبارة. فالشاعر مالك بن الريب، وهو يحتضر في مدينة مرو، على مبعدة من أهله في "الغضى" يحس بالحنين إلى دياره وذويه فيكرر لفظ "الغضى" في شبه حمى حتى يبلغ ما كرره خمس مرات في بيتين:

فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه ... وليت الغضى ماشى الركابَ لياليا لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى ... مزارٌ، ولكن الغضى ليس دانيا إن إلحاح هذا الشاعر على كلمة "الغضى" يدل على حرقة الحنين التي تعصف بقلبه ساعة الموت. ومثله العذوبة التي يلوح أن ابن الفارض يحسها وهو في نجواه الصوفية المختلجة بالعواطف حين ينادي: يا أهل ودي أنتم أملي، ومن ناداكمو، يا أهل ودي، قد كُفي1 إن هذين النموذجين، كسواهما من نماذج الشعر القديم، يعرضان في التكرار أسلوبًا "جهوريًّا" يماشي الحياة العربية القديمة التي كان الشاعر فيها يعتمد على الإلقاء أكثر مما يعتمد على الحروف المكتوبة، والتكرار يقرع الأسماء بالكلمة المثيرة ويؤدي الغرض الشعري. ومن ثم فلا بد لنا من ملاحظة الفرق بين هذه الجهورية وتلك الرهافة والهمس في تكراراتنا الحديثة التي يؤدي بها الشاعر معاني أكثر اتصالًا بخلجات النفس والحواس. لنأخذ مثلًا هذه الأبيات لبدر شاكر السياب: ........... وكان عام بعد عام يمضي، ووجه بعد وجه، مثلما غاب الشراع بعد الشراع ... 2

_ 1 هذا البيت يدخل في نطاق ما يسميه البديعيون "رد العجز على الصدر" وإن كان بالنسبة لبحثنا هذا تكرارًا محضًا. 2 أساطير، لبدر شاكر السياب. النجف 1950 – ص14.

فأية حركة ملموسة في هذا التكرار الذي يضع أمامنا شريطًا يتحرك ببطء وتتعاقب في الأعوام كما تتلاشى أشرعة السفن. وهذا بيت آخر لبدر شاكر السياب يعبر عن حركة مماثلة تزخر بها الكلمات إلى درجة أخاذة: ودم يغمغم وهو يقطر ثم يقطر "مات مات"1: وليس في إمكان قارئ هذا البيت إلا أن يقف معجبًا بهذا التوازن الهندسي بين "يقطر ثم يقطر" و"مات مات" فكأن كل قطرة من الدم تغمغم "مات مات". والواقع أن الفعل "غمغم" نفسه يحتوي في داخله على تكرار لحرفي الغين والميم. وذلك لا ريب جزء غير واعٍ من البناء الهندسي المحكم للبيت. إنه مثال جيد لتكرار ناجح، فلو حذفنا منه التكرار لأسأنا إلى البيت وقضينا على هذه التعبيرية العالية فيه. هذا إذن هو التكرار الذي يصور "حركة". ومن معاني التكرار البياني: "التردد" ومن أطرف نماذجه بيت لنزار قباني من قصيدة "الفراء الأبيض" يخاطب به قطة: يا ... يا مزاحمة الذئاب ... أرى في ناظريك طلائع الغزو2 إن تكرار حرف النداء "يا" هنا يكاد يكون نكتة لطيفة تعمدها الشاعر فكأنه يريد أن يكون خطابه للقطة مهذبًا مجاملًا، ولذلك يترفق بها قبل أن يناديها "يا مزاحمة الذئاب" فيبدأ بحرف النداء ثم يتردد لحظة متهيبًا، مستجمعًا شجاعته. وهذا نموذج ثانٍ لهذا الصنف:

_ 1 المصدر السابق ص13 2 الفراء الأبيض، قصيدة لنزار قباني، مجلة الأديب فبراير 1952.

صدى هامسًا في الدجى أننا ... أننا جبناء1 ونموذج ثالث: وسدى حاولت أن تؤوب ... معنا فهي ... فهي رفات2 وشرط هذا الصنف أن تحتوي الكلمة التي يتردد عندها الشاعر على ما يبرر تحرجه من التلفظ بها، فمن دون الصدمة التي تأتي بها "مزاحمة الذئاب" و"جبناء" و"رفات" يصبح التكرار عقيمًا مفتعلًا. وقد وقع في هذا الافتعال نزار قباني نفسه في قصيدة حديثة له: لعلك يا.. يا صديقي القديم تركت بإحدى الزوايا....3 فإن تكرار "يا" هنا خالٍ من الغرض لأنه ليس من داعٍ قط يجعل هذه الفتاة تتحرج من أن تنادي المخاطب بأنه "صديقها القديم" فهي لا تهينه بالنداء، ولا تبوح بأكثر مما باحت به في القصيدة المكشوفة. فما الداعي إلى تلكؤها؟ والواقع أن من السهل جدًّا أن يقع الشاعر في تكرار لا داعي له سدًّا لثغرة في الوزن، وهو أمر نجد له عشرات الأمثلة المحزنة في شعرنا اليوم، خاصة في الشعر الحر الذي أردنا يوم دعونا له أن نحرر الشاعر من "الرقع" و"العكاكيز" فإذا الحرية الجديدة تزيده التجاء إليها. والشاهد التالي من شعر عبد الوهاب البياتي معروف للمتتبعين: أبواي ماتا في طريقهما إلى قبر الحسين عليه -ماتا في طريقهما- السلام4

_ 1 قرارة الموجة لنازك الملائكة "بيروت 1957" ص93. 2 شظايا ورماد لنازك الملائكة الطبعة الثانية "بيروت 1959" ص31. 3 مجلة شعر. العدد الثاني من السنة الأولى ربيع 1957. 4 مجلة الآداب. تشرين الثاني 1953.

والحق أن البياتي لا يسامح على هذا. فإنه ذو شاعرية غنية لا تبيح له التهاون. ولعل مبالغته في استعمال التكرار في بعض قصائده توقعه في مزالق هو في غنًى عنها. ومثل هذا يقع لكثير من الشعراء الجدد الذين لا يدركون أن التكرار، ككل أسلوب شعري، يجب أن يرد في مكانه من البيت حيث يستدعيه السياق النفسي والجمالي والهندسي معًا وإلا أضر بالقصيدة.

تكرار التقسيم

تكرار التقسيم: وأما تكرار التقسيم فنعني به تكرار كلمة أو عبارة في ختام كل مقطوعة من القصيدة. ومن النماذج المشهورة له قصيدة "الطلاسم" لإيليا أبي ماضي وقصيدة "المواكب" لجبران، و"أغنية الجندول" لعلي محمود طه، و"النهر الخالد" لمحمود حسن إسماعيل. والغرض الأساسي من هذا الصنف من التكرار إجمالًا أن يقوم بعمل النقطة في ختام المقطوعة ويوحد القصيدة في إتجاه معين. وإنما تنصب عناية الشاعر هنا على ما قبل الكلمات المكررة لأن التكرار لم يعد هو المهم في القصيدة بطبيعة كونه يتكرر كثيرًا، وكأن التكرار يفقده "بيانيته" إذا صح التعبير. ومن هذا الصنف نوع يرد فيه التكرار في أول كل مقطوعة ومنه قصيدة عبد الوهاب البياتي "غيوم الربيع"1 وقصيدتي "أنا"2 والتكرار هنا يؤدي وظيفة افتتاح المقطوعة ويدق الجرس مؤذنًا بتفريغ جديد للمعنى الأساسي الذي تقوم عليه القصيدة. وأكثر ما تنجح هذه القصائد في الموضوعات التي تقدم فكرة أساسية.

_ 1 ملائكة وشياطين، لعبد الوهاب البياتي "بيروت 1950" ص50. 2 شظايا ورماد، لنازك الملائكة. الطبعة الأولى – بغداد 1949 ص97.

يمكن تقسيمها إلى فقرات يتناول كل منها حلقة صغيرة جديدة في المعنى. فالتكرار يساعد الشاعر على إقامة وحدات صغيرة في داخل الإطار الكبير. وأما القصائد التي تقدم فكرة موحدة متسلسلة تبلغ قمة ثم تنحل وتتلاشى فهي تخسر كثيرًا باستعمال تكرار التقسيم، وذلك لأن طبيعة هذا التكرار تتعارض مع الوحدة العامة للقصيدة حتى يكاد كل تكرار يصبح وقفة صارمة لا يستطيع الشاعر تجاوزها. وقد سبق لنا أن وقفنا عند قصيدة بدر شاكر السياب "سجين" التي فشل فيها التكرار فشلًا ذريعًا بسبب لجوئه إلى تكرار التقسيم دونما غرض فني، ودونما مراعاة للوقفات الصارمة التي أحدثها هذا التكرار في المقطوعات في قصيدة كان ينبغي أن تتسلسل وتمتلك ذرة شعورية تصلها دونما تقطيع مفتعل. ومن الوسائل التي تساعد على تكرار التقسيم وتنقذه من الرتابة أن يدخل الشاعر تغييرًا طفيفًا على العبارة المكررة في كل مرة يستعمل فيها وبذلك يعطي القارئ هزة ومفاجأة. ونموذج هذا قصيدة محمود حسن إسماعيل "خمر الزوال"1 وهي تبدأ هكذا: لا تتركيني في ضلال ... بين الحقيقة والخيال إني شربت على يديك ... مع الهوى خمر الزوال ويرد التكرار في ختام المقطوعة الأولى على النحو التالي: لا تتركيني زلة في الأرض تائهة المتاب إني شربت على يديك مع الهوى خمر العذاب ومما تجدر الشاعر ملاحظته أن التكرار يجنح بطبيعته إلى أن يفقد الألفاظ أصالتها وجدتها ويبهت لونها ويضفي عليها رتابة مملة، ومن ثم فإن العبارة المكررة ينبغي أن تكون من قوة التعبير وجماله ومن الرسوخ والارتباط

_ 1 أين المفر، محمود حسن إسماعيل "القاهرة 1948" ص129.

بما حولها بحيث تصمد أمام هذه الرتابة. والحق أن التكرار عدو البيت الرديء فهو يفضح ضعفه ويشير إليه صائحًا. وهذه الخاصية المعرقلة "بكسر القاف" في التكرار تصبح أوضح في تكرار التقسيم الذي يختلف عن سائر الأصناف في أنه يتكرر كثيرًا وقد يصبح أشبه بدقات ساعة رتيبة مملة إذا لم ينتبه الشاعر. وخير مثال لهذا التكرار الهزيل الذي ارتكزت إليه القصيدة الخلابة "النارنجة الذابلة" لمحمد الهمشري وقد جرى هكذا: كانت لنا يا ليتها دامت لنا أو دام يهتف فوقها الزرزور1 فبالمقارنة مع المقطوعات الجميلة التي غصت بها هذه القصيدة الموهوبة نجد البيت المكرر متنافر الحروف رديء السبك بحيث يسيء إلى القصيدة كلها. ومن المزالق التي يقع فيها الشعراء في هذا الباب أن ينتقوا العبارة المكررة على أساس غنائي. وقد صنع علي محمود طه هذا في عدد من قصائده مثل "سيرانادا مصرية"2 حيث كرر هذا البيت: ألا فلنحلم الآن فهذي ليلة الحب ومثل "من ليالي كيلوبترا"3 حيث كرر هذا البيت: يا حبيبي هذي ليلة حبي آه لو شاركتني أفراح قلبي ومثل "أندلسية"4 حيث كرر هذا الشطر: فاسقنيها أنت يا أندلسيه

_ 1 "الروائع لشعراء الجيل" ج1 - محمد فهمي. "القاهرة" ص12. 2 ليالي الملاح التائه "القاهرة 1940" ص73. 3 زهر وخمر "القاهرة 1943" ص6. 4 شرق وغرب "القاهرة 1947" ص53.

وكل هذه التكرارات ذات موسيقى تقليدية تنبع من جو عاطفي مصطنع مما يصح وصفه في اللغات الأجنبية بكلمة Sentimental والواقع أن قيام التكرار على أساس غنائي ليس أمرًا مستحبًّا خاصة في تكرار التقسيم الذي يميل بطبعه إلى الغنائية.

التكرار اللاشعوري

التكرار اللاشعوري: هذا الصنف لم يرد في الشعر القديم الذي وقف نفسه -فيما يلوح- على تصوير المحسوس والخارجي من المشاعر الإنسانية. وشرط هذا الصنف من التكرار أن يجيء في سياق شعوري كثيف يبلغ أحيانًا درجة المأساة. ومن ثم فإن العبارة المكررة تؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة إلى درجة غير عادية. وباستناد الشاعر إلى هذا التكرار يستغني عن عناء الإفصاح المباشر وإخبار القارئ بالألفاظ عن مدى كثافة الذروة العاطفية. ويغلب أن تكون العبارة المكررة مقتطفة من كلام سمعه الشاعر ووجد فيه تعليقًا مريرًا على حالة حاضرة تؤلمه أو إشارة إلى حادث مثير يصحي حزنًا قديمًا أو ندمًا نائمًا أو سخرية موجعة. ونموذج هذا التكرار عبارة "أنها ماتت" في قصيدة الخيط المشدود في شجرة السرو1. فما كاد بطل القصيدة يسمعها حتى أصابته رجة شعورية أدت إلى أن يصاب بهذيان داخلي واختلاط موقت في تفكيره فراحت العبارة تعيد نفسها في ذهنه كدقات ساعة رتيبة. وإنما تنبع القيمة الفنية للعبارة المكررة، في هذا الصنف من التكرار، من كثافة الحالة النفسية التي تقترن بها. لقد ورد هذا التكرار اللاشعوري في قصيدة عنوانها "نهاية"2 لبدر شاكر السياب، وصحبته ظاهرة يصح أن نقف عندها وقفة صغيرة،

_ 1 شظايا ورماد. "بيروت 1959" ص163. 2 أساطير "النجف الأشرف 1950".

فمنذ لفت بدر السياب الأنظار إلى هذه الظاهرة بات بعض الشعراء الجدد ملتفتين إليها، وإن كانوا غالبًا لم يفطنوا تمامًا إلى الغرض الفني منها وإنما عدوه فيما يلوح تجديدًا محضًا أو نوعًا من الترف الفني. استقى بدر السياب عبارته المكررة من كلمة أثبتها نثرًا قبل القصيدة مما قالته له فتاة: "سأهواك حتى تجف الأدمع" ويلوح من القصيدة أن ظروف الشاعر مع قائلة العبارة قد تغيرت وانقلبت حتى باتت العبارة، حين يتذكرها، تبدو له كالسخرية من الحاضر وتخزه في مرارة، ومن ثم فهي تتردد في ذهنه وتلاحقه وتتشكل أشكالًا بين "سأهواك حتى سأهواك" و"سأهواك حتى س ... " و"سأهواك حتى" و"سأهوا –". هذه هي الأبيات: " سأهواك حتى" نداء بعيد تلاشت على قهقهات الزمان بقاياه.. في ظلمة.. في مكان وظل الصدى في خيالي يعيد "سأهواك حتى ... س ... " يا للصدى أصيحي إلى الساعة النائية "سأهواك حتى" بقايا رنين تحدين حتى الغدا "سأهواك -" ما أكذب العاشقين "سأهوا.." نعم تصدقين! إن البتر هنا بليغ. ففي مثل هذه الحالات التي نجابهها كلنا أحانًا سواء في حالة حمى عالية تشتت التفكير المنتظم، أو في حالة صدمة عنيفة كوفاة شخص عزيز نفاجأ بها دونما مقدمات ... في مثل هذه الحالات يصدف أن

تتردد في أذهاننا عبارة مهمة تنبعث من أعماق اللاشعور وتطاردنا مهما حاولنا نسيانها والتهرب من صداها في أعماقنا. وكثيرًا مما تفقد العبارة المتكررة معناها وتستحيل في الذهن المضطرب إلى مجموعة أصوات تتردد أوتوماتيكيًّا دون أن تقترن بمدلول، ومن ثم فهي تتعرض لأن "تنبتر" في أي جزء منها، فجأة حين ينشغل العقل الواعي بفكرة طارئة يفرضها العالم الخارجي، فتصحي المصدوم من ذهوله لحظات.. ولكن سرعان ما تعود العبارة الدرامية حين يخف الانشغال بما هو خارجي وترن في السمع. أنه تكرار لاشعوري لا يد لنا فيه. وهذا هو الذي يبرر وقوف بدر شاكر السياب عند الألف في كلمة "سأهواك" وكأن الصوت في انبتر فجأة ودُفع دفعًا إلى التلاشي. على أن السياق الذي وضع فيه بدر تكراره اللاشعوري مفتعل قليلًا والتركيز ينقصه. فالشاعر كما نرى من الأبيات يمتلك من الوعي ما يجعله يرد على العبارة ويناقشها بقوله "نعم تصدقين" "ما أكذب العاشقين" وتعليقاته هذه تبدد الجو اللاواعي الذي يرتكز إليه منطق "البتر". على أن أصالة الابتكار تبقى مع ذلك تطبع الأبيات. وقد حاول شعراء آخرون تقليد هذا البتر في التكرار أذكر منهم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدة له عنوانها "لعنة الشيطان"1 يقول فيها: من يكونان؟ همسة أرجف الليل صداها وانساب في الظلماء من يكونان؟ من يكو؟ من يـ ... واصطكت شفاه على بقايا النداء. ولعله واضح أن البتر هنا غير مبرر نفسيًّا، فالمفروض أن هذا التكرار يمثل "أصداء" ومن طبيعة الصدى أن يتردد الجزء الأخير منه وحسب لا الأول كما في تردد عبارة الشاعر.

_ 1 لعنة الشيطان "بغداد 1952 "؟ " ص6.

وقد استعمل بلند الحيدري هذا البتر في قصيدة عنوانها "ثلاث علامات"1 حيث يقول: وافترقنا أنا لا أذ ... نحن لا نذكر أن كنا التقينا وهو يلوح لنا بترًا ضعيفًا لا يمكن تبريره إلا بفذلكة، وقد تكون للشاعر وجهة نظر خاصة فيه لم نحزرها. إن هذه المحاولات من شعرائنا طيبة من حيث إنها محاولات في طريق وعر لم يسلك، غير أنها أيضًا محاولات متسرعة تسمها اللفظية أحيانًا. وقد يكون التكرار اللاشعوري من أصعب أنواع التكرار إذ يقتضي من الشاعر أن ينشئ له سياقًا نفسيًّا غنيًّا بالمشاعر الكثيفة. فإن الترجيع الدرامي لا يجيء إلا عبر عقدة مركزة تجعل من الممكن أن تفقد عبارة معناها فتروح تكرر في حرية وقد تنبتر وتتشكل بمعزل عن إرادة الذهن الذي يعانيها. هذه هي الدلالات الثلاث التي صادفتها للتكرار في شعرنا الحديث، وقد تكون هناك دلالات أخرى لم أفطن إليها. وقد يتطور أسلوب التكرار في شعرنا بحيث يغتنى ويمتلك مزيدًا من الدلالات والمعاني فيتاح للبلاغة والنقد أن يضيفا إلى ما جاء في هذا البحث. ومهما يكن فقد آن الأوان لأن ينتبه بعض شعرائنا إلى أن التكرار، في ذاته، ليس جمالًا يضاف إلى القصيدة بحيث يحسن الشاعر صنعًا بمجرد استعماله، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث

_ 1 أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى "بغداد 1957".

الحياة في الكلمات، لا بل إن في وسعنا أن نذهب أبعد فنشير إلى الطبيعة الخادعة التي يملكها هذا الأسلوب، فهو بسهولته وقدرته على ملء البيت وإحداث موسيقى ظاهرية فيه، يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري. ولعل كثيرًا من متتبعي الحركات التجديدية في الشعر المعاصر يلاحظون أن أسلوب التكرار قد بات يستعمل في السنوات الأخيرة عكازة تارة لملء ثغرات الوزن، وتارة لبدء فقرة جديدة، وتارة لاختتام قصيدة منحدرة تأبى الوقوف، وسوى ذلك من الأغراض التي لم يوجد لها في الأصل، وهو أمر نأمل أن يتجه نقادنا المتزنون إلى الوقوف في وجهه في حزم وصرامة تكفيان لردعه.

الباب الثاني: في الصلة بين الشعر والحياة

الباب الثاني: في الصلة بين الشعر والحياة. الفصل الأول: الشعر والمجتمع. باتت الدعوة إلى اجتماعية الشعر نبرة عصبية تطغى على الصحافة العربية طغيانًا عاصفًا. فالقارئ على أصدائها في كل صحيفة يقرؤها، ويسمعها تتكرر في محطات الإذاعة، وتتسلل إلى أحاديث الأندية والمجتمعات حتى باتت في عنفها تشبه تيارًا جارفًا يريد أن يكتسح القيم كلها. ونحن لا نشك في سلامة نية هذه الدعوة، وصدق إيمانها بغايتها، ومن المؤكد أنها لا تريد ضرًّا بالشعراء، فهي على العكس تؤمن بالشعر إيمانًا متحمسًا يجعلها تنتظر منه أن يحقق المعجزات في سبيل إنقاذ هذه الأمة التي تعبر اليوم مرحلة متأزمة من حياتها. على أن سلامة النية لا تملك أن تعصم من الاندفاع العاطفي الذي نلمس آثاره في هذه الدعوة، ولذلك بات على الشعر المعاصر أن يواجه الموقف ويتخذ إزاءه قرارًا. وأول ما يؤخذ على هذه الدعوة التي تذهب إلى أن الشعر يجب أن

يكون "اجتماعيًّا" أنها تتسلح بمجموعة من التعابير المبهمة التي لا تحاول تحديدها من نحو قولها "الأبراج العاجية" و"المتهربون من الواقع" و"الأدب الشعبي" و"الشعراء الذاتيون". وقد أدى إلى تداول جماهير الكتاب لهذه الألفاظ إلى اضطراب شديد في مدلولاتها وأكسبها من السطحية ما يجعل الناقد المثقف يتحرج من استعمالها محاولًا صياغة تعابير جديدة تؤدي معانيها الفنية والنظرية. أما العاطفية التي يتصف بها كثير من المقالات التي تؤيد الدعوة، فهي تجعلها غالبًا خلوًّا من الرصانة الفكرية التي تتسم بها الدعوات الفنية والمذاهب الفلسفية. ويبدو لنا أن الدعوة قد نسيت حتى الآن أنها دعوة في مجال فني، فهي تتحدث عن كل شيء آخر غير الشعر، مع أنها موجهة إلى الشعراء. ومن المؤكد أنها لم تقف بعد لتفكر في أسس نظرية تخطها وتضمن بها لأتباعها من ناشئي الشعراء ما يقيهم التخبط وهم ينظمون قصائدهم وفقها، ولم تتساءل بعد عن المدلول الشعري لهذه "الاجتماعية" التي تنادي بها: أهي منهج يتقي به الشاعر الناشئ العثرات الضخمة التي تنتظره في مسالك القصيدة الوعرة؟ أهي تخطيط يدله على هيكل القصيدة ويعينه على بنائه؟ أهي تحديد للموضوع؟ كل هذه أسئلة تستهين بها الدعوة، فالجهة الشعرية من الشعر المعاصر هي آخر ما تهتم له وكأنها دعوة في مجال اجتماعي منفصل انفصالًا تامًّا عن الشعر الذي تطبق عليه. والدعوة بصورتها الحالية تحتمل نقدًا شديدًا من جهاتها كلها: فنيًّا وإنسانيًّا ووطنيًّا وجماليًّا. وأبرز مواطن الضعف فيها أنها -كما قلنا- لا ترتكز إلى أسس فنية، شعرية، ولم يحاول كاتب واحد بعد أن يحددها من وجهتها النظرية. على أن في صيحاتها المتتابعة ما يمكن أن نعده أسسًا مبهمة تريد تشييدها، وفي حدود هذه الأسس نريد أن ندرسها ونناقش موقفها من الشعر إجمالًا. أما من الوجهة الفنية، فيبدو لنا أن الدعوة حين تلح على أن الشعر

يجب أن يكون اجتماعيًّا، إنما تتناول "الموضوع" وتجعله الغاية الوحيدة المقصودة في كل شعر. فهي لا تهتم بسائر مقومات القصيدة كالبناء والهيكل والصور والانفعال والموسيقى والفكرة والمعاني الظاهرة والخفية، وإنما تقصر عنايتها على موضوع القصيدة وكأنه العنصر الوحيد الذي يكونها. وهذا مخالف لمفاهيم الشعر البديهية، فلعل الموضوع في نظر النقد الأدبي أتفه مقومات الشعر وأقلها استحقاقًا للدراسة المنفصلة، وذلك لأن كل موضوع يصلح للشعر سواء أدار حول مشاكلنا القومية أو حول شجرة توت أو معركة سباب في شارع ضيق، فالمهم على كل حال هو أسلوب الشاعر في معالجة الموضوع، ولذلك نجد الموضوع عينه ميتًا أو مغمى عليه عند شاعر، حيًّا ينبض بالجمال المنفعل عند شاعر ثانٍ. ومن هذا يبدو أن الدعوة تلح على العنصر الوحيد الذي ليس شعريًّا في القصيدة. ولا تقتصر الدعوة على عزل الموضوع عن سائر عناصر القصيدة، وتضخيم قيمته الفنية هذا التضخيم الذي لا يشفع له شيء، وإنما تمضي في طغيانها الحسن النية، فتأبى إلا أن تحدد مجال هذا الموضوع تحديدًا صارمًا. فكل شعور لا يتعلق بالوطنية بأضيق معانيها يفوز لديها بنعوت عاطفية جارفة لا يصد اندفاعها شيء. وهكذا نجدها لا تكتفي بهدم سائر معالم القصيدة، وإنما تهدف أيضًا إلى أن تتحكم حتى في العنصر الوحيد الذي أبقته وهو الموضوع. فهي تحمل سيفًا بتارًا وتقف مترصدة، فما تكاد تعثر على انفعال خصب يستجيب لجمال وردة، أو حب ساذج أو شعور بأزمة نفسية يعانيها فرد إنسان، حتى تضرب ضربتها في عنف وقسوة وتحكم على القصيدة بالتفاهة. وقد قرأنا في الصحف العربية مقالات عجيبة في النقد تصفق لكل قصيدة اجتماعية حتى إذا كانت من وجهة نظر الفن والنقد لا تستأهل أن تسمى شعرًا، ولو أراد النقد أن يتصدى لها لانهارت انهيارًا فاجعًا. وهذا كله جناية الموضوع على الناقد. وإذا فحصنا الدعوة من الوجهة الاجتماعية وجدناها في صميمها تنزع

إلى أن تجرد الشعر من العواطف الإنسانية. ذلك أن أشد سخطها واستنكارها ينهال على ما تسميه -دون أن توضح مقصدها- "المشاعر الذاتية" و"الهرب من الواقع" و"الانعزالية" ولو فحصنا هذه التعابير لوجدناها تنتهي كلها إلى أن تنكر أن يكون شعر الفرد العادي من الناس موضوعًا للشعر، فهو -لكي يستحق أن تدور حوله قصيدة- ينبغي أن يكون عملاقًا بلا مشاعر: فلا يحب الأزهار، ولا يضيع وقته في مراقبة مغرب الشمس على حقول الحنطة، ثم إنه لا يتألم لهمومه الخاصة، وهو يؤمن بأن الاستماع إلى الموسيقى في هذه الظروف العصيبة إنما هو خيانة وطنية، ونحو هذا.. وليس أشد تناقضًا من هذا. فكأن الدعوة عندما أرادت أن تدعو إلى الواقعية ابتعدت عن الواقع ابتعادًا عجيبًا، وأسلمت نفسها إلى اعتقادات نظرية لا علاقة لها بالحياة. وما هذا الواقع الذي تدعو إليه؟ أليس هو حياة الناس؟ الناس الذين لا يمر عليهم يوم دون أن يتألموا ويضحكوا لأسباب تخصهم فرديًّا، ويعيشون مفكرين في عواطفهم وآمالهم وهمومهم، وتشغلهم قضايا حياتهم الخاصة بكل ما فيها من ذكريات وحماسات ومشاكل نفسية وصداقات وأفكار. وأي لون من الشعر يستطيع أن يعبر عن هذه الحياة الواقعية الإنسانية؟ أهو الشعر الساذج المنفعل بالعبرات والبسمات أم هو الشعر الاجتماعي الذي يقف موقف الوعظ والخطابة؟ ثم إننا حين نسلط الضوء على قولهم "انعزالي" نجدنا إزاء لفظ من تلك الألفاظ التي وسع الاستعمال معناها أو لعله ضيقه حتى فقد دقته. فالدعوة حين تستعمل هذا اللفظ في مجال النقد الأدبي تنسى أن المجتمع إنما يترك طابعه على الفرد إجبارًا لا اختيارًا بحيث تصبح السمة الاجتماعية وسمًا طاغيًا لا يملك الفرد أن ينجو منه حتى إذا لاذ بأشد أنواع "الانعزال". فحسب الإنسان أن تكون انطباعاته البصرية والسمعية والذهنية قد تكونت كلها في مجتمع بعينه، لكي يكون واحدًا من أفراد هذا المجتمع لا يستطيع

التهرب من طابعه العام. ومثل هذا الفرد لا بد أن يمثل المجتمع سواء أأراد أم لم يرد. وعلى هذا تصبح الاجتماعية سمة طبيعية لا تشبه الثوب الذي يستطيع المرء أن يخلعه متى شاء. إنها شيء ينطبع في الدم والفكر والأعصاب. وهذا شيء يلوح أن الدعوة تغفل عنه عندما تتحدث في احتقار عن أولئك "الانعزاليين الذاتيين الذين لا يمثلون مجتمعهم". ألا يدل هذا على أن الدعوة لا تستند إلى الواقع وإنما تشيد لنفسها دعائهم من هواء في فراغ خيالي؟ ذلك أنها تغرم بالمجتمع فتحمل مصباحًا لتبحث عنه في ضوء النهار. وبدلًا من أن تتذكر أنه كيان معنوي لا وجود له إلا على صورة أفراد من الناس، نجدها تجلس على كرسي مريح وتتخيل له صورًا مثالية منمقة، ثم تطلب إلى الأفراد أن "ينضغطوا" في إطارات هذه الصور. وهذا منطق معكوس. فما هذا المجتمع؟ إنه نحن ... أنا وأنت أيها القارئ وجيراننا وأصدقاؤنا وبنو عمنا. وكلنا نمثله: الشاذ منا والذكي والغبي والموهوب. ولكن دعاة الاجتماعية لا يصدقون هذا فهم لا يدرسون بيئتنا مستدلين عليها بإنتاج شعرائها وأدبائها وإنما يريدون أن يملوا على الشعراء والأدباء أدبًا يمثل البيئة، وهذا ألطف المتناقضات. هذا الموقف الذي تقفه الدعوة يؤدي بنا إلى خسارة اجتماعية وأدبية كبيرة، فأنصار الدعوة ينشغلون بابتداع الصور الخيالية لما يجب أن يكون عليه الكائن الاجتماعي النموذجي، تاركين الواقع يرقد خلال ذلك منسيًّا. وهكذا نجدهم يملئون الصحف خطبًا دون أن يحاولوا استخلاص المعنى الاجتماعي الذي يدل عليه اتجاه هؤلاء الشعراء. وهل من المعقول أن يتجه جيل كامل من الشعراء إلى اتجاه بعينه دون أن تكون هنالك أسباب بيئية وتاريخية موجبة؟ إن الأدب ليس تفاحة مسحورة تنبت في الهواء وإنما هو ثمرة على شجرة تتصل بتربة ويحيط بها مناخ، وهذا هو المعنى الذي ينساه دعاة الواقعية المزعومة "Pseudo-raslism".

ولندرس الدعوة من وجهتها الوطنية. فماذا سنجد؟ هنا أيضًا ستجبهنا أسس منهارة لا تستطيع أن تثبت للفحص طويلًا. والحق أن العنصر الوطني قائم، ولو فكرنا، على فهم للوطنية يضيق معناها تضييقًا شديدًا. فالدعوة عندما تؤكد أن انصراف الشاعر المعاصر إلى تصوير عواطفه الخاصة يدل على نقص في حسه الوطني -والدعوة تستعمل ألفاظًا أعنف غالبًا- إنما تفترض ضمنًا ثلاثة مضمونات غريبة تستوقف النظر. وسنحاول أن نناقشها هنا. أول هذه المضمونات أن الدعوة تفصل فصلًا قاطعًا بين دائرة "المواطن" الصالح ودائرة "الإنسان". فلكي يكون المرء مواطنًا صالحًا في نظرها ينبغي له أولًا أن يتخلص من إنسانيته، فلا يحب قوس قزح، ولا ينفعل لمنظر الحصاد، ولا تطربه أغاني الحمامة بين النخيل في ظهيرة بغدادية، ولا تمتعه مسرات الصداقة الساذجة، وذكريات نزهة عائلية مرحة على رمال جزيرة. فكل هذا إذا تغنى به الشاعر، إنما يثبت "سلبيته" في نظر الدعوة. وما يمكن أن يقال في نقد هذا الرأي أن نسأل أنصار الدعوة أنفسهم إن كانوا في حياتهم اليومية لا يصرفون أكثر وقتهم في العواطف العائلية والحديث عن قضايا حياتهم الواقعية والتنكيت والجدل والغناء والغضب والمزاح والانفعال؟ وما دمنا لا نستطيع أن نحكم على إنسان يفعل هذا بنقص الحس الوطني، فلماذا نعامل الشاعر معاملة أخرى، وما دامت الحياة الإنسانية لا تناقض الحياة الوطنية، فإن من غير المعقول أن نحكم على شاعر بنقص الحس الوطني لمجرد انصرافه إلى تصوير الجانب الإنساني من حياته التي يشاركه فيها الناس جميعًا. وأما ثاني المضمونات الغريبة التي تختفي خلف هذا الحكم الذي تسوقه الدعوة، فهو ينتهي بنا إلى الحكم بأن "الوطنية" معنى مرادف للكفاح السياسي، وهذا مخالف للمعنى الحقيقي للوطنية، معنى حب الوطن العربي

وحسب. أما الكفاح السياسي فهو وظيفة النخبة المثقفة من القادة والزعماء والاختصاصيين في كل أمة. ويبدو أن الدعوة تتغافل عن حقيقة أخرى مهمة هي أن الوظيفة العظمى للملايين من المواطنين في كل بلد هي إعالة أسرهم وتحسين أحوالهم الاجتماعية وتهذيب أبنائهم وانصرافهم انصرافًا مخلصًا إلى أعمالهم التي تؤهلهم لها إمكانياتهم العقلية والجسمية، فليس عملهم هذا بأقل قداسة ومكانة من عمل السياسي المناضل والزعيم الموجه. وقد تكون الدعوة إلى أن يترك الفرد العربي حياته الإنسانية ويشتغل بالكفاح السياسي دعوة خطرة تسيء إلى أمتنا الفتية التي تحتاج احتياجًا شديدًا إلى أبناء مثقفين مدربين ينصرفون إلى أعمالهم التي يحسنونها: الفلاح إلى حقله، والعامل إلى آلته، والمعلم إلى تلاميذه، والميكانيكي إلى أجهزته، والنحات إلى تماثيله، والشاعر إلى قصائده. أما الكفاح السياسي فهو عمل أناس مختصين لهم من ثقافتهم ودراستهم وظروفهم ما يهيِّئُهم لهذا العمل المعقد. أما ثالث المضمونات، فهو الحكم بأن الشعر لا يملك قيمة ذاتية في المجتمع، وإنما هو واسطة لغايات أخرى. وهذا حكم يتجاهل القيم الحيوية التي يملكها الفن في حياتنا الإنسانية بمعزل عن موضوعه. وأول هذه القيم أن الفن شحذ لملكات معينة في الإنسان لا يعقل أن الطبيعة كانت عابثة عندما أوجدتها. وثانيها ما يراه الفيلسوف الفرنسي "جان ماري غويو" J.M. Guyau من أن في الفنون كلها وسيلة لإنفاق الفائض من الطاقة الإنسانية الذي لا بد له أن ينفق، فإذا قضى المجتمع على الفن أدى ذلك إلى أن تختزن طاقة متفجرة في الذهن الإنساني دون أن تجد منفذًا، وهذا لا بد أن يؤدى إلى نوع من فقدان التوازن بين الحياتين الحركية والنفسية، وهو أمر مضر بالحياة الإنسانية. وحتى إذا أردنا أن نعتبر الفن لعبًا مجردًا كما يرى "كانت" و"سبنسر" فسرعان ما ينصرنا المذهب التجريبي الذي يقول بأن اللعب ضرورة بايولوجية، فما يلوح لهوًا خالصًا إنما هو في الحقيقة حاجة إنسانية متأصلة

لا بد من إشباعها. وهذه هي الفائدة الإنسانية للشعر، وهي فائدة تجعل اهتمام الدعوة بالموضوع أمرًا لا داعي إليه، فالشاعر يؤدي إلى المجتمع الإنساني خدمة جسيمة حتى وهو "يلهو" بالتعبير عن سروره بمراقبة القمر وهو يمر عبر السماء. وإذا استشرنا أنصار مذهب التطور وجدنا فائدة الشعر تمتد حتى تشمل جهة جديدة بما تقدمه من متعة جمالية كالمتعة التي يجدها المرء في شقشقة العصافير وسكينة الفجر وهدير الشلالات وألوان الصخور. فهذه أشياء لا تستغني عنها الإنسانية؛ لأنها بما تقدم من لذة عاطفية تعين على تطور الحواس الجمالية عند الإنسان وتساعده على النمو العاطفي. والواجب الأعظم للشاعر الوطني أن يرهف مشاعر مواطنيه ويصقل أحاسيسهم الجمالية ويدفع بهم نحو مستقبل إنساني أرفع وأعمق. وفي ختام هذا النقد العاجل للدعوة الاجتماعية نستطيع أن نقول إن الدعوة تتناسى تناسيًا تامًّا أن آداب الأمم لا تستجيب للدعوات الخارجية، وإنما تنبع من تأثرها غير الواعي بالتيارات المتداخلة التي تكمن وراء الحياة اليومية وتنحدر من ظروفها التاريخية وملابسات حياتها النفسية عبر العصور. ولم يرو التاريخ أن أدب أمة من الأمم قد غيَّر اتجاهاته وفق دعوة عامدة نادت بها الصحافة. ومن أعجب العجب أن يقف الذين يزاولون النقد هذا الموقف الواعظ بدلًا من أن يستخلصوا القيم التي يرتكز إليها شعرنا المعاصر الذي هو دائمًا شعر اجتماعي أنتجته تربتنا. وقد لا يخفى على الدعاة أن الموقف الوعظي ينطوي على تجاهل تام لقيمة العناصر اللاشعورية في كل أدب، وهي عناصر ضرورية مصاحبة للإبداع والأصالة والاكتمال ومن دونها لا يكون الأدب أدبًا. فلماذا سينتهي إليه الشعر العربي إن قدر لدعوة الاجتماعية أن تنجح؟ لا شك في أنه سيصبح نمطًا واحدًا مصطنعًا لا يملك الشاعر أن يحيد عنه، وفي هذا سيلقى الشعر مصيره.

وإذا مات الشعر فكيف سيتاح له أن يكون عامل خير في حياتنا العربية؟ هذا هو المحذور الذي ينساه دعاة الاجتماعية في اندفاعهم العاطفي. وإن أعظم ما نخشاه أن تؤدي بنا دعوتهم إلى أن نخسر أصالة شعرنا دون أن ننجح في أن نفيد الأمة العربية. ألا تصبح الدعوة إلى اجتماعية الشعر بهذا دعوة هدم ساذجة ينبغي أن نجند قوانا الذهنية كلها في كبح اندفاعها ورد سذاجتها المستبدة عن الشعر العربي؟

الفصل الثاني: الشعر والموت

الفصل الثاني: الشعر والموت. لعل كل متتبع للشعر المعاصر يتذكر تلك الهتافة المتحشرجة الخصبة التي أرسلها أبو القاسم الشابي وهو ينازع في أيام احتضاره الأخير: جف سحر الحياة يا قلبي الباكي فهيا نجرب الموت هيا1 فهذا بيت يلفت النظر بما يتخذه من موقف تجاه الموت يخالف الموقف المعتاد للمحتضرين، فهو بدلًا من أن يعرض استسلام الشاعر لهذا الفناء الذي لا بد منه، يصوره لنا وكأنه يقبل عليه باختياره في لهفة وشوق. ولفظة "نجرب" عميقة الدلالة هنا لما تتضمنه من إيجابية وقوة، وذلك لأن التجربة فعالية إرادية يقوم بها الإنسان واعيًا، وهي بهذا تختلف

_ 1 قصيدة تراجع في كتاب "الشابي حياته وشعره" لأبي القاسم محمد كرو "بيروت 1954".

اختلافًا جوهريًّا عن الموت الذي هو استسلام سالب لا مفر منه لعوامل الانحلال والسكون. فإذا كان أبو القاسم قد سَمَّى رحلته إلى هذا العالم "تجربة" فهو إنما يضع أيدينا بهذه اللفظة على موقفه من الموت، وبالتالي على موقفه من الحياة. وقد كانت تجربة الموت تملك بالنسبة للشابي كل ما تملكه التجارب الحيوية من متعة مبهمة وغموض مغر، وفي وسعنا أن نتثبت من هذا بمراجعة قصائده حيث نجده يذكر الموت عندما يتحدث عن الجمال والحياة والشباب والأمل والربيع. ونموذج هذا في قصيدة "تحت الغصون". فلمن كنتِ تنشدين؟ فقالت: للضياء البنفسجي الحزين للشباب السكران، للأمل المعبود، لليأس، للأسى المنون1 فقد جمع في البيت الثاني الشباب والأمل واليأس والأسى و"الموت" في سياق واحد هو سياق الغناء والسكر بالحياة الكاملة التي لا يتم جمالها في نظر الشابي إلا باجتماع الفرح والألم والحركة والسكون فيها. وهذا هو التفسير لما يلوح غريبًا من أن الشاعر يجعل حبيبته تذكر الموت في اللحظة التي اكتملت فيها سعادتها، ذلك أنه كان يؤمن بأن الحياة العميقة الكاملة لا تصل قمتها من الإدراك والوعي حتى تندغم بالموت، وتفهمه فهمًا جماليًّا خالصًا. وقد كان جزء من جمال حبيبته أنها تشاركه هذا الإيمان، كما كان الاعتقاد عينه هو الذي قوى "بروميثيوس"2 على احتمال آلامه الجسيمة الرهيبة، ولذلك جعله الشاعر يرى في الموت "ذوبانًا في فجر الجمال".

_ 1 و2 المصدر السابق.

إن مظاهر عشق الشابي للموت تنتشر عبر شعره، هناك مثلًا هذه اللوحة الباذخة التي يرسمها لموته في قصيدة "النبي المجهول": ثم، تحت الصنوبر الناضر الحلو، تخط السيول حفرة رمسي وتظل الطيور تلغو على قبري ويشدو النسيم فوقي بهمس وتظل الفصول تمشي حوالي كما كن في غضارة أمسِ1 في هذا الأبيات تخلو تجربة الموت من المرارة الرهيبة، فالشابي يذكرها في هدوء حالم، وكأنها ستقوده إلى عوالم خفية مسحورة يشتاق إلى أن يجوبها. وهذا عين ما نستطيع استخلاصه من القصيدة المشهورة "الصباح الجديد"2 فالأبيات الأخيرة فيها تذكرنا بحرارة الفرحة التي تنبثق في قلب غلام حالم يعبد البحر، وقد أتيح له أخيرًا أن يبحر في سفينة شراعية بيضاء ذات صباح دافئ ربيعي الشمس. هذا الموقف الذي يقفه شاعرنا من الموت يعيد إلى الذاكرة موقف الشاعر الإنكليزي المبدع جون كيتس "John Keats" الذي يمكن أن نسميه شاعر الموت المفتون الأكبر، فهو يقول في إحدى قصائده: "الشعر والمجد والجمال أشياء عميقة حقًّا. ولكن الموت أعمق. الموت مكافأة الحياة الكبرى"3. ويهتف في قصيدة مشهورة "كنت نصف عاشق للموت المريح، وناديته بأسماء عذبة في أناشيد عديدة". ثم يضيف بيتين: "الآن يبدو لي أكثر من أي وقت آخر أن من الخصوبة أن

_ 1 و2 المصدر السابق. 3 قصيدة كيتس Why Did I Laugh To-night?.

أموتن"1. ويدل كيتس على جنونه بالموت حتى دون أن يتحدث عنه حديثًا مباشرًا، ويكفي أن نشير مثلًا إلى قوله في إحدى مطولاته "كان هناك موت حي في كل انبجاسة من النغم"2. ذلك أنه يصف هنا الموت بالحياة دون أن يلوح له هذا متناقضًا على الإطلاق. والحق أننا نشعر أن الألفاظ "أموت. موت. ميت" كانت تكسر حس كيتس وتبدو له متفجرة بالجمال كما يلوح من هذه العبارات التي نقتطفها من قصائده: "مولد أزهار غير منظورة وحياتها وموتها في سكينة عميقة"3 "قال هذا وخطا بخفة، في لون من المرح المملوء بالموت"4 "إنها تعيش مع الجمال، الجمال الذي يجب أن يموت"5 "إلى بعض الأرواح المنفردة التي استطاعت أن تبعثر شبابها في الغناء وتموت"6. وثمة شاعر ثالث وقف الموقف عينه من الموت، هو محمد الهمشري "ذلك الشاعر الموهوب الذي كان موته خسارة شعرية كبيرة للأدب العربي الحديث". إن إحساس هذا الشاعر بالموت أكثر تميزًا منه عند الشابي مثلًا، حتى يكاد يقرب من كيتس، وكأن أي حادث يرتبط بإحساسه لا بد أن يذكره بالموت، وهكذا نجد أن سعادته بالرجوع إلى

_ 1 قصيدة كيتس ode to a nightingale 2 قصيدة كيتس المطولة Hyperion الكتاب الثاني. 3 القصيدة المطولة endymion – الكتاب الأول – الأغنية الموجهة إلى pan. 4 endymion الكتاب الرابع. 5 قصيدة كيتس ode to melancholy. 6 قصيدة كيتس sleep and poetry.

قريته في قصيدة "العودة"1 تعيد إلى ذهنه ذكرى القمة العليا للحياة، تلك القمة التي يبلغها الإنسان بالموت: أموت قرير العين فيك منعما يخدرني نفح من المرج عاطر ويلحفني هذا البنفسج ولتكن مسارح عيني الربى والمخاضر وآخر ما أصغي إليه من الصدى خريرك يفنى وهو في الموت سائر ولعل هذه الأبيات تذكرنا باللوحة الجميلة التي رسمها أبو القاسم لقبره، فهنا نجد العطر والبنفسج وخرير الماء وشاعرًا يموت سكران بالجمال مخدرًا بالعبير. هذه العذوبة التي يجدها الشاعر في تذكر ساعة الموت تعيد إلى الذاكرة قول كيتس في إحدى رسائله إلى خطيبته "فاني": "هناك أمران خصبا الجمال أحلم بهما: حبك وساعة موتي". والهمشري لا يقل عن كيتس تولهًا بالفناء، حتى إنه نظم ملحمة كاملة سماها "شاطئ الأعراف"2 وتحدث فيها عن رحلته الأولى بعد الموت نحو الحياة الأخرى. والقصيدة تكاد تكون أغنية حب موجهة إلى الموت لا أثر فيها للحسرة ولا للذكرى، وكأن الشاعر يلتذ لكل لحظة من لحظات موته إن صح التعبير. أما الشاعر الإنكليزي روبرت بروك RUPERT BROOKE الذي مات قتيلًا في الحرب العظمى، فإن حبه للموت لم يكن حب عشق كحب الشابي وكيتس والهمشري، وإنما كان حب صداقة، كان خاليًا من تلك الحدة

_ 1 "الروائع لشعراء الجيل" محمد فهمي "القاهرة" ص28. 2 المصدر السابق. ص36.

الحسية التي لمسناها في شعر زملائه. وسبب هذا، في رأينا، أن بروك لا يرى في الموت غرابة تجعله يبالغ في حبه، وإنما هو شيء اعتيادي له ما للحياة من جمال وفيه ما فيها من إزعاج لا أكثر. وقد ترك هذا الموقف أثره في شعر بروك الذي يتجه اتجاهًا يختلف عن اتجاهات الثلاثة الآخرين. فهو مثلًا يتحدث في إحدى قصائده عن "شاعر" ميت لقي حبيبته في جهنم، فراحا يركضان عبر شوارع الجحيم سرورًا باللقاء.. ثم اكتشف فجأة أن عينيها فارغتان، وأحس، مكان شفتيها القديمتين، برودة ثلجية. وأدرك أخيرًا أنهما ميتان كلاهما1. وفي هدوء تام يتخيل بروك في قصيدة أخرى، موت حبيبته والطقوس الرومانية التي ستقيمها أسرتها عند دفنها2. ولا بد لنا أن ننبه هنا أن هذا الموقف يخلو كليًّا من رغبة الإيذاء التي تدفع أحيانًا بإنسان مهجور إلى أن يتخيل موت هاجرة تشفيًّا أو إغاظة. فبروك يصف موت الفتاة لمجرد اللذة التي يجدها في وصف الحادث بصفته الإنسانية. والموت عنده حدث اعتيادي لا يستدعي الجنون. وهذا أمر يجعل استعماله للانتقام والتشفي ضربًا من العبث المستحيل. وفي قصيدة ثالثة يتخيل بروك نفسه وقد مات، ولا يصحب تخيله هذا أي حزن، وإنما مقصد القصيدة أن تصف رعشة مفاجئة تسري بين الزملاء الموتى ويدرك الشاعر منها أن حبيبته قد ماتت ووافت عالم العدم3. ألا يبدو من هذا كله أن الموت عند بروك يتجرد من فكرته المخيفة المحزنة تجردًا كاملًا فلا تبقى منه إلا الحقيقة العارية؟ وهذا يجعل موقفه

_ 1 قصيدة dead men's men's love لبرويرت بروك. 2 قصيدة بروك ambarvalia ومطلعها: Swings the way still by hollow and hill 3 قصيدة "sonnet" ومطلعها: oh!. Death will find me, long before I tire.

منه مختلفًا عن الموقف المألوف بين الناس. فهؤلاء يجعلونه خاتمة بينما يراه بروك في أكثر الأحيان بداية فنية لإمكانيات متعددة. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا قصيدة كيتس "هايبريون hyperion" وفيها نجد "أبولو" الإله الجديد لا يبلغ مرتبة الإلوهية إلا بعد أن يموت "die into life" وبهذا يكون الموت خطوة نحو الحياة الكبرى. بعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر الولع بالموت في شعر الهمشري والشابي وكيتس وبروك.. سنحاول أن نتساءل عن العلاقة الممكنة بين هذا الولع الغريب بالموت، والوفاة المبكرة التي أردت الشعراء المذكورين وهم في غضارة الشباب قبل الثلاثين. ولعل بعض السر يكمن -في حالة كيتس والشابي- في مرض السل الذي ماتا به في سن السادسة والعشرين، فالمعروف أن هذا داء عاطفي تصحبه أعراض من الحساسية والعذوبة وحدة الانفعال1 غير أن الهمشري وبروك قد ماتا فجأة لأسباب عارضة، فتوفي الأول في عملية جراحية بسيطة أحسبها الزائدة الدودية، ومات الثاني قتيلًا خلال الحرب، وهذا يبعد أن يكون المرض هو السبب في حب الموت. فبماذا، إذن، نعلل هذه الظاهرة الغريبة؟ ولم كان هذا الحب الخصب للموت عند شعراء ماتوا في ريعان شبابهم؟ أكان الغرام يتصل بالوفاة المبكرة عن طريق الإيحاء على وجه ما؟ أم كان نتبجة لإدراك غامض للموت المبكر الذي ينتظر في زاوية من زوايا المستقبل القريب؟

_ 1 حين كتبت هذا الفصل سنة 1954 كان الشائع في الوسط الأدبي أن الشابي قد مات بمرض السل الرئوي. والظاهر الآن، من الدراسات الأحداث في تونس، بلد الشاعر، أن مرضه كان ضعف القلب، وأنه لازمه منذ يفاعة سنة. وقد آثرت أن أترك هذا البحث كما نشر دون تعديل مع الاحتراز بهذه الحاشية.

لكي نصل إلى أجوبة هذه الأسئلة نلاحظ أن بين الشعراء الأربعة صفة مشتركة يملكونها جميعًا على شيء من التفاوت، هي حدة الإحساس أو القدرة على الانفعال العنيف. وهذه صفة لا يملكها المتوسطون من الناس، ولعل هذا من حسن حظ الإنسانية. ذلك أن الانفعال إسراف في الطاقة لا ترضاه الطبيعة. والحق أن الطبيعة تمقت الإسراف في الجهات كلها وتعمل جاهدة على رد الحياة البشرية إلى الاعتدال الذي يضمن لها البقاء. ومن السهل أن نمثل لهذا الإسراف في الانفعال بالإشارة إلى قصيدة "العاشق الأكبر" "the great lover" لبروك. وقد عد فيها الأشياء التي أحبها حبًّا شديدًا، على كثرتها. وسنعجب حين نجدها تشمل الصحون البيضاء والأكواب، والغبار، والسطوح المبللة تحت ضوء الطريق، وأقواس قزح: ودخان الخشب المحترق، وقطرات المطر المختبئة في الأزهار الدافئة، ونعومة الأغطية، وخشونة الشفوف، والغيوم، والجمال اللاعاطفي الذي تملكه آلة ضخمة ورائحة الثياب القديمة، والألم الجسمي وهو يتحول إلى الهدوء، والنوم والأماكن العالية، وأشجار البلوط، وأشياء أخرى كثيرة غير هذه. وهي أشياء منحها الشاعر كثيرًا من الانفعال الذي يخزنه سواه من الناس للأحداث الكبيرة في الحياة. فالإنسان المتوسط يدرك في أعماقه أن هذا التبذير في الإحساس مضر بحياته، ومن ثم يبتعد عنه ويحرص على الاقتصاد في العاطفة. وفي حالة الهمشري تجبهنا تلك الحدة العاطفية التي نلمسها في الصلاة الملتهبة التي أرسلها إلى حبيبته "جتا" في عالمها اللامنظور1 وتلوح لنا في وضوح ونحن نقرأ قصيدته البديعة في "النارنجة الذابلة"2 وكلا "جتا"

_ 1 الروائع لشعراء الجيل. قصيدة "إلى جتا الفاتنة" ص17. 2 نفس المصدر - ص12.

و"النارنجة" رمال منهارة لا يقيم عليها الإنسان المتوسط الحكيم سعادته، فالأولى وهم مطلق والثانية مجرد شجرة فانية. وقد كانت انفعالية الشابي أكثر اتساعًا من انفعالية الهمشري حتى كانت العواطف عنده مرضًا ناهشًا، فعاش الشاعر يلهث وأتعبه الشعر حتى قتله. إن الشعر قد كان هو السل الأكبر في حياة هذا الشاعر المشتعل، ومن أجله عاش يتعذب بكل جمال يمر به، وإن كان عذابه لذيذًا. أما كيتس فنحن نحتاج إلى أن نقف عنده وقفة أطول، فقد كان الانفعال، بالنسبة إليه، هو الموضوع وهو غاية الحياة كلها. وهذا يخالف الموقف الشائع الذي لا يرى في العواطف إلا عرضًا يصاحب الأحداث ويستحسن الإنسان المتوسط أن يتجنبه جهد الإمكان. ويكفي، لكي نشير إلى المكانة العميقة التي يحتلها الانفعال من حياة كيتس، أن نقتطف بيتين رائعين وردا في إحدى قصائده. قال: "أواه، هل وجد قط ذلك الإنسان المنفرد الذي أحب ولم تقتله الموسيقى؟ "1 إن المضمون الفكري الذي تنطوي عليه هذه الصرخة العاطفية الغنية بالمعاني هو أن اجتماع الانفراد والحب والموسيقى في حياة أي إنسان كفيل بأن يثير انفعاله إلى درجة قاتلة. غير أن كيتس كان يتحدث عن نفسه، وقد كان يدرك في مرارة أن الموسيقى لم تقتل مع الناس كثيرين غيره. والحق أن كيتس قد كان يملك قدرة خارقة على الانفعال يندر مثيلها حتى بين الشعراء والفنانين الكبار وكأنه كان متجهًا بكيانه كله إلى أن يحترق ليكون شاعرًا عظيمًا. إن ألفاظه تنبجس بالعواطف الغزيرة والإحساسات الحادة حتى يكاد القارئ المرهف المتذوق لا يقوى على أن

_ 1 قصيدة كيتس endymion الكتاب الثاني.

يقرأ كثيرًا من شعره في جلسة واحدة. وقد عالج كيتس قضية الانفعال في أساليب مختلفة في شعره، على نطاق عام حينًا، تفصيلي حينًا آخر. وأول ما يلفت نظرنا أن شخصياته في القصائد القصصية كانت كلها شخصيات مرهفة الحساسية تذهب في القدرة على الانفعال المركز إلى حدود بعيدة تكاد تصبح شاذة. وهكذا نجد أن "بورفيرو ومادلين"1 و"لاميا وليسيوس"2 و"أنديميون وسينثيا"3 و"ساترن"4 وغيرهم كانوا كلهم متوحشين في حبهم وكرههم وسخطهم ورضاهم، وقلما كانوا يعرفون الوسط. إنهم أناس يعيشون بعواطفهم ويأكلون قلوبهم. وهكذا نجد أنديميون -في القصيدة الوحشية الجمال التي تحمل اسمه- يغرم بسينيثا غرامًا عاصفًا لا مثيل له ويترك قلبه نهبًا لكل جمال يحيط به مهما صغر، حتى يكاد يتعذب بحبه لأشياء مثل الفراشات وزنابق الماء وضربات قاطع الأخشاب في غابات "لاتموس". أما قصيدة "لاميا" فهي تنتهي بمعانيها اللاشعورية المكتنزة إلى أن التفكير يقضي على الحياة عندما يحاول أن يقتل العاطفة: لقد كانت "لاميا" أفعى تحولت إلى فتاة جميلة بقدرة سحرية، غير أنها كانت مخلصة في حبها للطالب "ليسيوس" عاشق الشعر والفلسفة، فبنت له قصرًا مسحورًا جدرانه من الموسيقى. وفي يوم الزواج، خلال دعوة صاخبة بالعطر والموسيقى والألوان، يتدخل "أبولونيوس" أستاذ الفلسفة فيحدق في "لاميا" تحديقة ثابتة طويلة تكشف عن حقيقتها الخيالية وتهدم الجدران الموسيقية للمنزل، وإذ ذلك تصرخ "لاميا" وتتلاشي. وإلى هنا يكون الموقف غير غريب بالنسبة للقارئ فماذا في أن يهدم الواقع الملموس

_ 1 بطلا قصيدة كيتس the eve of st. agnes. 2 بطلا قصيدة كيتس lamia. 3 بطلا قصيدة endymion. 4 شخصية بارزة في قصيدة كيتس hyperion.

خيالات من هذا النوع؟ غير أن النتيجة التي انتهت إليها "ليسيوس" هي الموضوع الهام بالنسبة لكيتس. ذلك أن "ليسيوس" قد مات حالًا عندما فقد حبيبته المسحورة، وسدًى حاول "أبولونيوس" إنقاذه. وقد كان هذا سر كيتس أيضًا. هذه المبالغة في بذل القوى النفسية لا بد أن تؤدي بالشاعر إلى أن "يستنفذ" قواه الروحية والشعورية في بضع سنين، ثم يقف لاهثًا فجأة ويضطر إلى أن يموت. فالانفعالية تشبه الاحتراق؛ لأنها تجعل الشاعر ضعيفًا إزاء مظاهر الحياة المحيطة به، فكل جمال يعصف بقلبه، وكل اتساق يملأ مشاعره بالحماسة الطافحة، وهذه حالة تصبح فيها قيمة الأشياء المحيطة بالشاعر أغلى من حياته نفسها. وهكذا كان الانفعال أول طريق إلى الموت في حياة هؤلاء الشعراء؛ لأن رصيد الإنسان من الطاقة العاطفية محدود بحيث إذا بالغ في صرفه انتهى إلى "إفلاس" انفعالي مبكر. وهذا الإفلاس هو الباب المؤدي إلى الموت. ولنتخيل كيتس أو الشابي من دون انفعال. إنهما ولا شك يموتان ... ولعل هذه الحقيقة تبيح لنا أن نعتقد أن هذا الولع الذي صبه شعراؤنا على الموت كان يتضمن إدراكًا باطنًا سابقًا للخاتمة المبكرة، تسوقهم إليه ملاحظتهم الخفية لانعدام التوازن بين المبذول من طاقتهم العاطفية والرصيد الكامل منها في كل حياة إنسانية. وكأن الواحد منهم كان يشعر بأنه يقتل نفسه شيئًا فشيئًا حينما يسرف في طاقة الانفعال. ولا شك في أن هذا يلوح حماقة للمتوسطين من الناس وهم أغلبية البشر. غير أن منطق العبقرية إجمالًا ينسجم مع ما سماه "نيتشه" بالرغبة في الفناء للتفوق على الذات. وهي رغبة غير واعية لا يد للشاعر الانفعالي فيها، فهو بطبعه مسرف، وإن أدى الإسراف إلى موته، لا بل إنه

يسرف لكي يموت. وهو يمنح الأشياء كلها قيمًا جمالية أعلى من القيم التي يمنحها إياها الفرد العادي، ويؤدي هذا "المنح" إلى الموت. ومن ثم يتكون في حياة الشاعر الانفعالي مثلث من القيم زواياه الثلاث هي الانفعال والشعر والموت. فالشاعر يحب الانفعال لأنه يؤدي إلى الشعر على أنه يلاحظ أن الانفعال هو الموت لأن الأول طريق محتم إلى الثاني ... ومن ثم تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر حتى تصبح الألفاظ الثلاثة في معنى واحد. إنها مرحلة يندغم فيها الطريق بالغاية التي ينتهي إليها في وحدة متينة لا انفصام لها. وربما كان رأينا هذا محض "جولة" جبنا فيها جهة وحشية من جهات التعليل الأدبي. ولعل الموضوع يحتاج إلى أن نواجهه مرة أخرى.

الباب الثالث: في نقد الشعر

الباب الثالث: في نقد الشعر. الفصل الأول: مزالق النقد المعاصر. ما زال النقد الأدبي بمعناه الحديث فنًّا ناشئًا في آدابنا المعاصرة تنقصه الأسس التي يرتكز إليها في أحكامه ويعوزه التركيز والرصانة. فنحن ما زلنا نعبر من حياتنا تلك الفترة التي تتصف بالعفوية والاستغراق، وهي فترة تمر بها الآداب في أوائل يقظتها حين يكون إنتاجها غير شاعر بذاته، فيتفجر على صورة أدب يعالج الانطباعات النفسية والذهنية والاجتماعية معالجة تلقائية دون أن يقف ليراجع هذا الإنتاج ويحكم عليه. والنقد الأدبي مرحلة يبدأ فيها الأدب العفوي إحساسه بذاته على أثر نضجه واكتمال نموه وشعوره بفيض من الحيوية الناقدة التي لا بد لها أن تنطلق. وهو في حياة أية جماعة يمثل مرحلة اكتمال ثقافي يمكن أن نسميه وعيًا بالذات ولهذا نجد المألوف في آداب الأمم أن يوجد الفنانون أولًا ثم النقاد.

وما دامت الحاجة إلى النقد الأدبي قد بدأت تبرز وتتضخم في آدابنا فليس من شك في أنه على وشك نمو سريع، فمتى اقتضت الظروف أن يوجد لون معين من الأدب كان لا بد له أن يوجد، وأمامنا شواهد تاريخية كثيرة على هذا القانون. على أن هذا الفرع من فروع التأليف وهو يسير على غير هدى سيضيع جهودًا كثيرة حتى يهتدي إلى الأسس التي ستواجهه وتحكمه، وحتى تنشأ فيه النظريات والمذاهب والمدارس التي تستند إلى أدبنا المحلي دون ارتكاز إلى نظريات النقد الأوروبية. والمزالق التي يجابهها النقد العربي اليوم أكثر مما يمكن معه الاطمئنان، فالناقد يدخل هذا الميدان المضلل دون نظريات تقوده ولا مذاهب توجهه ولا أسس يعتمد عليها في أحكامه، وإنما يجد مكان ذلك إحساسًا داخليًّا مبهمًا يهتف به أنه، وهو يسلك مسلك الناقد، إنما يضع بنفسه خططًا وقوانين وأسسًا، ذلك لأنه لا يملك حتى نماذج رديئة يقيس عليها. ومن هنا ينشأ في نفسه التهيب ويحس بضرورة الحذر الشديد والاقتصاد في الأحكام وإلا جرفه تيار الابتذال. وهذا فيما نظن موقف كل ناقد مثقف يعرف هدفه معرفة جيدة، ويهمه ألا يضل الطريق. فالنقد في هذه المرحلة من مراحل نمونا الثقافي موضوع دقيق خطير، وسيكشف المستقبل القريب الغطاء عن كثير مما يمر بنا اليوم باسم النقد فيلوح لنا إذ ذلك مظهرًا من مظاهر صبانا الثقافي لا أكثر. وأحد المزالق الشائعة التي يكثر سقوط الناقد العربي المعاصر فيها، مزلق يغلب على ظننا أنه صدى للأبحاث السايكولوجية الحديثة التي تصب اهتمامًا ضخمًا على الفنان نفسه حين تحاول تقديم إنتاجه الفني. وقد بات شائعًا أن يكتب الكاتب مقالًا في نقد قصيدة أو ديوان شعر فينتقل دون وعي إلى الحديث عن حياة الشاعر وظروفه الاجتماعية والبيئية. وليس من الضروري، لكي يتم السقوط في هذا المزلق، أن يتحدث الناقد عن مولد الشاعر وطفولته، وإنما يكفي أن يقول إن هذه القصيدة تدل على أن الشاعر جبلي مثلًا،

وإنه يعيش حياة هادئة ونحو هذا لكي يخرج كليًّا عن حدود مملكة النقد الأدبي ويدخل في نطاق سيرة الحياة. ذلك أن المهمة الأدبية للناقد تبقى مقيدة بالقصيدة من وجهتها الجمالية والتعبيرية، في دراسة موضوعية خالصة، يلاحظ خلالها هيكل القصيدة العام، ويقف عند أداة التعبير فيدرس مدى اتساقها مع جو القصيدة والعاطفة التي تسيطر عليها، ويدرس الوزن واللمسات الموسيقية وأثر القافية، ويتحدث عن الموضوع وأسلوب الشاعر في تناوله، ويعين الأساس الذي ترتكز إليه الفكرة العامة، وقد يخرج إلى المقارنة بين قصيدة وقصيدة وشاعر وشاعر. ولا بأس في أية اتجاهات أخرى لا تخرج عن هذه الحدود ولا تدخل في نطاق حياة الشاعر وآرائه الاجتماعية، فهذا يدخل في باب السيرة وهي دائرة منفصلة عن دائرة النقد الأدبي. وأقرب المزالق إلى مزلق السيرة هذا، اتجاه الناقد إلى العناية بما في القصيدة من أفكار وجعلها الأساس في نقده. وهذا خطأ شائع يسهل الوقوع فيه خاصة في هذا القرن الذي تشعبت فيه الآراء وزادت سطوتها في الأذهان فبات لكل منا معتقدة الخاص الذي يؤمن به إيمانًا عميقًا ويتحمس له. ومهمة الناقد الأدبي شاقة لأن عليه أن يتجرد من طغيان آرائه وهو يتناول القصيدة التي يدرسها، فالمهم بالنسبة له هو القصيدة لا نوعية الآراء التي تحملها. والحقيقة أن استهواء الأفكار والآراء استهواء خطر لا سبيل إلى الاستهانة به خاصة حين تكون هذه الآراء مما يمس القضايا الحساسة في أنفسنا، إنسانية كانت أو قومية أو فردية. وكثيرون من الناس يجنحون دون وعي إلى الإعجاب بكل قصيدة تعبر عن آرائهم متغافلين عن ضعف القوى الشعرية فيها تغافلًا تامًّا. وتلك حالة تشفع فيها للقصيدة عوامل لا علاقة لها بالشعر، وهي حالة يقع فيها كثير ممن يكتبون في النقد، فالقصيدة عندهم رديئة لأنها تحتوي على رأي في الحياة يخالف رأيهم وكأن لآراء الشاعر قيمة فنية تؤثر في حكمنا على شعره.

والمشكلة الأساسية في هذا المزلق، أن الكاتب يخلط بين القصيدة وموضوعها وهما شيئان منفصلان. ويمكن أن نقول إجمالًا أن الموضوع ينبغي أن يؤثر في القصيدة لا في الناقد، فكل ما يهم الناقد أن يلاحظه هو كفاءة القصيدة للتعبير عن الموضوع دون أن يناقش صلاحية الموضوع من الوجهة التاريخية والاجتماعية، فهذه تدخل في حدود مهمة الذين يدرسون تاريخ الحركات الوطنية والأدبية، وهي إن استأهلت من الناقد التفاتًا فهو التفات الإشارة، الذي لا يعفيه من نقد القصيدة نقدًا موضوعيًّا. والسقوط في هذا المزلق يستطيع أن يتم كما تم سابقه دون تطرف كبير. فيكفي أن يهتم الكاتب بالإشارة إلى آراء الشاعر حتى دون أن يناقشها لكي يخرج من حدود مهمته. ومن نماذج هذا الخروج أن يقول الناقد للقارئ إن الشاعر يحب الطبيعة أو إنه شديد الحساسية بدليل قوله ... وإنه يدعو للانطلاق بدليل قوله ... ونحو ذلك. فهذا كله لون من الدراسة الاجتماعية والنفسية ولا علاقة له بالنقد. ومن أبرز المزالق التي يحذرها الناقد المثقف ما يمكن أن نسميه بالنقد التجزيئي، وهو ذلك النقد الذي يتناول القصيدة تناولًا تفصيليًّا يقف عند المظاهر الخارجية ويعفي نفسه من معالجة القصيدة باعتبارها هيكلًا فنيًّا مكتملًا. وأظهر أعراض هذا النقد اعتبار القصيدة مجموعة من المعاني وحدتها البيت على الأسلوب القديم. وفي هذه الحالة يقف الناقد عند البيت الواحد مناقشًا في أسلوب كلامي ويتناول التعابير مفصولة عن السياق فيحكم عليها بالجمال أو القبح. ويصبح ناقد هذا النوع خطرًا حين يكون ذكيًّا بارع الأسلوب، فهو إذ ذاك يفلح في تضليل طالب الأدب الناشئ وتوجيهه وجهة غالطة في التذوق والحكم، فبدلًا من أن يقدم له أسلوبًا منهجيًّا في تقييم القصيدة يشغله بملاحظات ذكية لاذعة هنا وهناك. مثل هذا الناقد ينسى أن الناقد الحقيقي يبدأ بعد هذه المرحلة التي تقف عند الثوب الخارجي وتترك جوهر القصيدة مطمورًا بعيدًا عن تذوق القراء.

وأحد المزالق أن يعتاد الناقد أن يكون سلبيًّا في أحكامه فبدلًا من أن يدل على مواطن الجمال في الشعر المنقود، يكتفي بتبرئته من المعايب الشائعة. ونموذج هذا تلك العبارة التي يكررها الكتاب حين يحاولون الحكم على شاعر مقبول، وهي قولهم "إنه شاعر حقيقي يشعر ولا ينظم.." أفلا تتضمن كلمة "شاعر" معنى "الحقيقي الذي يشعر"؟ ومتى كان الشاعر يمتدح بأنه ليس "نظامًا" ومن أمثلة هذه الأحكام السلبية ما قرأناه لأديب كبير في نقد ديوان لشاعر معروف. قال: "لا تكلف ولا تبذل ولا لف ولا دوران ولا بهرجة بيانية وعروضية ولا تفتيش مضن عن أوابد الكلم والمعاني". ولسنا نفهم كيف يكون هذا مديحًا إلا إذا أصبح مجرد خلو الشعر من بعض العيوب الفادحة يمكن أن يعد فضيلة تمتدح، وإلا إذا كان المعنى أن شعرنا اليوم يقوم على اللف والدوران والبهرجة والتفتيش المضني عن الألفاظ. وأحد المزالق الخطرة يكمن وراء استهواء الأفكار والسُكْر بالنظريات، وهو مزلق يتردى فيه أولئك الموهوبون الذين قال عنهم "ت. س. إيليوت" في بعض مقالاته إنهم يملكون عبقريات خلاقة، إلا أنهم لتعطيل في قواهم المنتجة، راحوا يتسلون بالنقد الأدبي. مثل هؤلاء عادة يحوكون حول القصائد نظريات متحمسة أو تفسيرات من لون بعيد عن الأصل بعدًا كبيرًا قلما يلاحظونه، فهم منتشون ببريق الفكرة التي ابتدعوها وليس على القصيدة إلا أن تنضغط وفق القالب الذي يريدونه. وقريب من هؤلاء أولئك الذين يحملون عن القصائد آراء سابقة قبل أن يقرءوها فليس أخطر من هذا الاستعداد العاطفي؛ لأنه أحيانًا ينوم حاسة التذوق ويعطل قابلية الحكم ليفرض رأيًا غير مقبول. أما إغراء الأسلوب والانتشاء بالألفاظ والتعابير فهو شرك للناشئين من النقاد الذين يسكرهم إحساسهم بالقدرة على التعبير فينشئون مقالًا منمقًا عالي الأسلوب مكتمل الإنشاء، إلا أنه لا يمس القصيدة التي يتناولها إلا

مسًّا خفيفًا، ومن هؤلاء فئة تغرم بكتابة المقدمات التاريخية المتعلقة بموضوع الشعر. وأعرف أديبًا يكتب في نقد قصيدة تصف سنابل القمح في حقل فيبدأ من تاريخ صنع أول طاحونة هوائية. هذه المزالق كلها قائمة أمام الناقد العربي المعاصر تفرضها عليه الظروف التاريخية التي واكبت نهضتنا الحديثة، وهي بما فيها من استهواء توشك أن تلقف كثرة بارزة من كتاب النقد المعاصرين بحيث بات المجال محفوفًا بالخطر. وما لم يتسلح الناقد المعاصر بثقافة متغلغلة نفاذة أصبح لا بد له أن يذهب في الضحايا ويساعد في إسلام أدبنا المعاصر إلى الفوضى والاضطراب.

الفصل الثاني: الناقد العربي والمسؤولية اللغوية

الفصل الثاني: الناقد العربي والمسؤولية اللغوية ... الفصل الثاني: الناقد العربي والمسئولية اللغوية. تتجلى، لمن يراقب النقد العربي المعاصر، ظاهرة خطيرة شائعة فيه، ملخصها أن النقاد يتغاضون تغاضيًا تامًّا عن الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية فلا يشيرون إليها ولا يحتجون عليها. وكأنهم، بذلك، يفترضون أن من حق أي إنسان أن يخرق القواعد الراسخة وأن يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد وأن يبتدع أنماطًا من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهف، وكأن من واجب الناقد أن يوافق على ذلك كله موفقة تامة فلا يشير إلى الأخطاء ولا يحاول حتى أن يعطي تلك الأخطاء تخريجًا أو مسامحة. ولقد أصبح هذا التغافل هو القانون النافذ في كل نقد تنشره الصحف الأدبية، حتى لقد يتصدى الناقد إلى نقد ديوان شعر مشحون بالأغلاط المخجلة فلا يزيد على أن يكيل كلمات الإعجاب للشاعر على تجديده وإبداعه، مهملًا التعليق ولو بكلمة زجر عابرة، على فوضى

التعابير والأخطاء. أفلا ينطوي هذا الموقف من النقاد على تشجيع واضح للجيل كله على الاستهانة باللغة العربية والاستخفاف بقواعدها الرصينة؟ وإلى أي مدى ينبغي أن يعد الناقد نفسه مسئولًا عن لغة الشعر المعاصر؟ والواقع أن ازدراء الناقد للجانب اللغوي من النقد ليس إلا صورة من ازدراء الشاعر نفسه للغة وقواعدها، فإن مصدر هذا الازدراء منهما واحد، وفي وسعنا أن نعود بالظاهرة إلى منابعها الحقة في حياتنا المعاصرة نفسها. وليست اللغة بمختلف مظاهرها، إلا مرآة تنعكس فيها حياة الأمة التي تتكلمها. إن الجذور الرئيسية لهذه الظاهرة تختبئ في شبه عقيدة موهومة وقع فيها الجيل العربي المعاصر مؤداها أن الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها المختلفة، يدلان على جمود فكري في الأديب وقد يشيران إلى نقص صريح في ثقافته الحديثة. وقد تبلورت هذه العقيدة الزائفة في أنفس الشعراء والكتاب حتى أصبحت تعني لديهم أن التجديد يتجلى فعلًا في ازدراء القواعد النحوية وإهمال المعجم والمقاييس اللغوية التي تعترف بها الأمة كلها. ولعل الناقد العربي ملزم بأن يعترف اليوم بأنه بات يشعر بكثير من الحرج والاستحياء إذا ما هم بتنبيه شاعر إلى كلمة مغلوط فيها أو قاعدة مخروقة في شعره. ليس ذلك لأن الناقد يقر الخطأ، وإنما لأنه يخشى أن يقال عنه إنه ناقد رجعي لم يتصل بالتيارات الحديثة في النقد، ولم يسمع بعد بأن المضمون أهم من الشكل أو إنه العنصر الأوحد في القصيدة التي ينقدها. إن القول بأهمية المضمون وسبقه لكل قيمة غيره في القصيدة قول شائع اليوم. وهناك زمرة من النقاد تشهره سلاحًا بتارًا في وجه كل ناقد يحرص على سلامة اللغة. حتى لقد قامت مدارس بعينها تدعو إلى هدم القواعد باسم

هذا وذاك من الأسباب الواهنة. ولم ترتفع، في ردع هذه المدارس، إلا أصوات خافتة خجلة ما لبث الصياح حتى أسكتها. وليس لهذا الصياح -في نظر العلم- اسم غير الإرهاب الفكري. وإن واجب الناقد المخلص ليقتضي أن يعلن رأيه ولا ترهبه التسميات. ذلك أن الأسماء إنما تكتسب قيمتها من الحقائق التي تسندها. ثم إن قضية اللغة العربية يجب أن تكون أعز علينا من سمعتنا الشخصية باعتبارنا كتابًا مجددين ذوي ثقافة حديثة. وبعد فهل حقًّا تستطيع الدعوة إلى سلامة اللغة أن تسلب الناقد صفة التجديد؟ وهل حقًّا حقًّا أن سلامة اللغة ليست شرطًا في جمالية القصيدة، كما يزعم بعضهم، وكما يريدوننا أن نصدق؟ وهل يسوغ لأي ناقد، مهما كان حديثًا في ثقافته، أن يتحدث بلغة النظريات والتحليلات عن أية قصيدة حافلة بالأخطاء المشوهة والتعابير الركيكة؟ إن الأمة العربية تمر اليوم بمفرق هام من مفارق حياتها، ونحن ملزمون بأن نعمل، كلٌ في الجهة التي تؤهله لها فطرته، في سبيل أن نرفع مستوانا ونبرز مواهبنا وننتج في الحقول كلها. وعلى الناقد العربي يقع قسط كبير من حماية اللغة العربية الجميلة من كل دعوة مريضة للعبث بها. إن هنالك اليوم مدارس بعينها هدفها الرسمي أن تهدم قواعد اللغة العربية وتقتضي عليها قضاء مبرمًا. وسواء أكانت هذه المدارس تصدر في دعوتها عن نزوة فكرية بريئة، أم كانت تتعمد -لغرض مبيت- أن توهن اللغة العربية وتهدم أصالتها، فإن علينا أن نتصدى لها ونناقش دعوتها مناقشة الحريص الذي يغار على لغة الضاد من أن يعبث بها عابث غير مسئول. وإنه ليحزننا أن نرى أكثر نقادنا غير عابئين. وإلا فما الذي جعلهم يسكتون سكوتًا متصلًا على الظاهرة الخطيرة التي بدأت منذ سنين تشيع في شعر المدرسة اللبنانية الحديثة، ظاهرة العبث بالقواعد النحوية الراسخة وإخضاع اللغة للسماع الشاذ الذي لا يعتد به؟ لماذا لم يحتج أي من نقادنا على "أل" التعريف وقد راح جيل كامل من

شباب لبنان يدخلها على الأفعال فيقولون في مثل الأشطر التالية: أفقاصه الترن في الهياكل الأروقة المعاول الترن في الشوارع الغوائل والأكهف المنازل التود أن تحبس بي الحياة والتجددا1 ولماذا سكت الناقد العربي على دخول "أل" هذه على المنادى بـ"يا" في مثل الأبيات التالية: يا الفلك الدائر، يا اليوزع الحياة في فصولها ألم أكن أنا من التراب، يا اليبخبح المطر2 إن دفاع بعض هؤلاء الشعراء بأن هذه الأساليب السقيمة قد وردت في شواهد النحو3 دفاع ضعيف. ذلك أننا قد خرجنا اليوم من بداوة

_ 1 قصيدة عنوانها "اللحم والسنابل" لنذير عظمة نشرتها مجلة "شعر" في عددها الثالث صيف سنة 1957. 2 القصيدة السابقة نفسها لنذير عظمة. 3 وردت شواهد شاذة من الشعر القديم تسند هذه الأغلاط فدخلت "أل" على الفعل في أكثر من شاهد واحد المشهور منها: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذو الرأي والجدل ودخلت "أل" على المنادى في قول الشاعر: فيا الغلامان اللذان فرا ... إياكما أن تعقبانا شرا

القرون الأولى التي كانت تعزل بطنًا من قبيلة ما فتجعل لغته تشذ وتنحرف. ولقد ثبت القرآن، بلغته السهلة الجميلة، صورة للغة العرب سارت عليها القرون وأغنتنا عن الشذوذ والعبث. ثم إن قواعد النحو ليست إلا صورة من القوانين التي تخضع لها الجماعات، والجماعة التي تضيع قواعد لغتها لا بد أن تضيع قواعد تفكيرها وحياتها بالتالي. إن لزوم القاعدة النحوية صورة من إحساس الأمة بالنظام ودليل على احترامها لتاريخها وثقتها بأنها أمة أصلية. وما القواعد النحوية، بعد، إلا عصارة الألسنة العربية الفصيحة عبر مئات من السنين، فلن يكون في وسع شاعر اليوم أن يلعب بها إطاعة لنزوة لغوية عابرة. ولنتساءل، على كل حال، عن المكسب التعبيري الذي يحققه الشاعر من إدخاله "أل" على الفعل مثلًا. ولا بد أن يسوقنا هذا إلى أن نتساءل أولًا لماذا كانت الأفعال غير قابلة لدخول "أل" عليها؟ في الواقع أن قواعد النحو تخضع لمنطق العاطفة الإنسانية خضوعًا تامًّا، وما من قاعدة معقولة قط إلا وفي وسعنا أن نلتمس لها سببًا إنسانيًّا يدعمها. وإنما تدخل "أل" على الأسماء لأنها أسماء ولها صفة الاسمية، أو صفة التجريد بكلمة أخرى. فالأسماء كلها مجردة من الزمن ومن الحركة ومن العاطفة. ومثلها في هذه الصفات. إن وجودها جامد لا ينمو ولا يتغير ولا تأثير لمشاعرنا فيه. وليست كذلك الأفعال. هنا، في الأفعال، يمتد مجال الإنسانية وتعيش أحاسيسنا وحركاتنا وتقلباتنا وحياتنا كلها. إن قولنا "جاء" يمتلك من الحياة الزاخرة ما لا يملكه ألف اسم وألف صفة. هذه الحركة التي ينطوي عليها فعل المجيء، وهذه الإنسانية الكاملة التي يتضمنها وهذا الزمن الذي يختبئ في ثنايا الحروف، كل ذلك يميز الفعل ويجعله أوثق ارتباطًا بالحياة نفسها. ولذلك كان الفعل أشرف ما في اللغة، وإليه تستند الجمل والعبارات. الفعل هو حقًّا إنسانية اللغة، إذا صح هذا التعبير. ومن ثم فأية خسارة جسيمة أن تدعو مدرسة كاملة اليوم إلى

أن نضيع هذا الفعل ونكتب بلغة خالية منه؟ ذلك أن إدخال "أل" على الفعل يعني حتمًا أن يكف الفعل عن أن يكون فعلًا، ويكتسب جمود الاسمية. الواقع أنه، إذا تأملناه، يتحول إلى نوع من "الصفة" ويفقد طابع الامتداد الزمني1 وذلك هو السبب في الجفاف الماحل واليبوسة القاسية التي نجدها في الأبيات التي اقتبسناها سابقًا: أفقاصة الترن في الهياكل الأروقة المعاول لترن في الشوارع الغوائل والأكهف المنازل التود أن تحبس بي الحياة والتجددا هذا، في الحق، كلام صلد لا ليونة فيه ولا عذوبة، تترادف فيه المجردات التي توحش القلب الإنساني وتشعره بجفاف الدنيا التي يصورها الشاعر. وكم كانت الأبيات تكتسب من الحرارة والحركة والطراوة لو أن الشاعر أعطانا أفعالًا طبيعية تتنفس بين الأسماء وتخفف من وحشة التجريد فيها. ولكن هذا الشاعر الحديث يحسب القواعد، فيما يلوح، قيودًا مرتجلة قيدنا بها أسلافنا النحاة دونما سبب موجب. ولذلك رضي أن يغبن قصيدته فيحرمها من أجمل ما فيها، من الأفعال التي هي مصدر الضوء والدفء في اللغة، ثم إن "أل" هذه حين تكثر تزعج

_ 1 يعرب النحاة "أل" التي تدخل على الفعل على أنها أل الموصولة وهذه مجرد تسمية كان الغرض منها التمييز. ذلك أن "أل" الموصولة -إذا درسنا أمثلتها وتأملنا- ليست إلا "أل" التعريف نفسها. وإنما أراد النحاة بها أن يفرقوا بينها وبين التي تدخل على الأسماء. ونحن نرى أن "الذي" وسائر الموصولات ليست إلا وسائل تحاشى بها اللسان العربي إدخال "أل" على الفعل وبذلك حفظ له فعليته وأصالته. وهذه هي القيمة الوحيدة للموصولات، وهي قيمة عظيمة لا ندري لماذا لم يعد هذا الشاعر الحديث يقدرها؟

السمع وتصبح رتيبة ولا أدري لماذا يولع شعراء هذه المدرسة بها. هذا نموذج: الوحدة الفراغ والدم الصقيع والركود السأم الجامد1 هذه ثلاثة أشطر من قصيدة "وسأحتفظ باعتراضاتي الكثيرة على تشكيلات الوزن فيها" ستة أسماء وصفة، وكلها معرف بأل. ما أشد ما تبدو الدنيا موحشة ميتة لنا ونحن نعيش بين كل هذه المجردات! وأي بعد بين هذه الدنيا وحياتنا العربية الملتهبة اليوم بحرارة النضال وحماسة الاندفاع والحياة! وبعد فمهما كانت هذه الدعوة وأمثالها بريئة من القصد السيئ فهي، على كل حال، دعوة مجحفة تنطوي على بذور مميتة لن تنتهي باللغة العربية إلى الخير. وقيام مثل هذه الدعوات يلقي على الناقد مسئولية خطيرة. فمن سواه يستطيع أن يتصدى لإنقاذ اللغة والشعر من أن ينقادا لدعوات الموت والفناء هذه؟ إننا لندرك أن هناك اليوم في صفوف هذه الأمة قوى متربصة تنطوي على الشر وسوء النية ويهمها أن تهدم العروبة على أي وجه يتاح. ولعل الحرب العلنية ليست أفظع وسائل هذا العدو في محاربتنا. فإن له أساليب أخرى أخفى وأشد مضاء. وهل أخطر من أن يضعف إيمان الجيل الطالع باللغة العربية وحصانة قواعدها السليمة؟ وإذا أضعفنا ذلك الإيمان أفلن نكون قد ساعدنا في خلق جيل ضعيف الثقة بالعروبة نفسها؟ إنه ليحزننا أن نقول إننا، حتى الآن، قد مضينا في هذا طويلًا، وإن بين أيدينا الآن جيلًا يتشكك في منطقية القواعد

_ 1 نذير عظمة - القصيدة المذكورة سابقًا.

البديهية ويستخف باللغة معتقدًا أن الاستهانة بالمقاييس اللغوية أمر ينم عن التجديد الحق والتحرر الفكري. وإني لأجزم أن بين الأدباء أنفسهم فئة تؤمن بأن التنبيه إلى أخطاء النحو واللغة مظهر ضحالة ورجعية في ثقافة الناقد. وقد تكون أول تهمة توجه إلى هذا الناقد أنه غير مثقف في النقد الأدبي الحديث. على أننا لا ندعو إلى التمسك بقواعد اللغة لذاتها. ولسنا نحب أن ننصب مشانق أدبية لكل من يستعمل لفظة استعمالًا يهبها حياة جديدة، أو يدعو إلى الاستغناء عن بعض شكليات النحو البالية التي لم نعد نستعملها. لا بل إننا نؤمن أعمق إيمان بالتجديد المبدع ونعتقد أن هذا التجديد لا يتم إلا على أيدي الشعراء والأدباء والنقاد المثقفين الموهوبين. غير أن هذا كله شيء، والعبث بالمقاييس شيء آخر. نحن نرفض بقوة وصرامة أن يبيح شاعر لنفسه أن يلعب بقواعد النحو واللغة لمجرد أن قافية تضايقه أو أن تفعيلة تضغط عليه. وأنه لسخف عظيم أن يمنح الشاعر نفسه أية حرية لغوية لا يملكها الناثر1. فمن قال إن الشاعر الموهوب يستطيع أن يبدع أي شيء في غير الإطار اللغوي لعصره؟ إن كل خروج على القواعد المعتبرة ينقص من تعبيرية الشعر ويبعده عن روحية العصر. ولسنا، على كل، نفهم لماذا يريد الناقد أن يكون الشاعر الحديث طفل اللغة المدلل فيخطئ ويرتكب المحذورات ما شاء دون أن يحاسب؟ بعد أن شخصنا جوهر الظاهرة التي لفتت نظرنا في نقدنا المعاصر، وفسرناها بأنها، في حقيقتها، موجة من العناية بالمضمون جرفت النقاد

_ 1 هذا رأيي، على الرغم من علمي بوجود باب سماه الآلوسي "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر".

العرب اليوم حتى أهملوا الأداة التي يعبر بها عن ذلك المضمون، بعد ذلك نود أن ندرس صلة هذه الظاهرة بتاريخنا الأدبي وبحياتنا القائمة. فما من ظاهرة أدبية إلا ولها جذور اجتماعية تتصل بالحياة النفسية للأمة، فهل هذه الظاهرة أصيلة؟ هل تنبع من موقف أمة تتحدر من مثل تاريخنا الأدبي العربي أم أنها بمجملها ظاهرة دخيلة وافدة على حياتنا وفودًا متعفسًا على نحو ما وفدت عشرات الأشياء الأخرى من الغرب؟ إن الظواهر الأدبية تخضع للقانون العام الذي يتحكم في الظواهر كلها. فكل ظاهرة مندفعة في الأمة تعبر عن وجود نقص ما في الاتجاه الذي تندفع نحوه الظاهرة. وإذا بالغنا اليوم العناية بالمضمون، فإن معنى ذلك أن في أعماقنا إحساسًا بأننا كنا سابقًا نبالغ في العناية باللغة حتى اختل التوازن. وذلك حق من واجبنا أن نعترف به. إن أدبنا الحديث قد خضع لحركة التموج التطوري الطبيعي فانتقل من تطرف أدباء الفترة المظلمة في التمسك بشكليات الشعر ومظاهره السطحية الخارجية، إلى تطرف عصرنا في إهمال المظاهر الخارجية. على أن العشرين سنة الماضية من حياة الشعر العربي لا بد أن تكون قد استوفت حركة رد الفعل هذه استيفاءً تامًّا. هذا فضلًا عن أن ردود الفعل يجب ألا تقودنا من خطإ في أقصى اليمين إلى خطإ في أقصى اليسار. فكلا اليمين المتطرف واليسار المتطرف خطأ في هذه الحالة، ولا بد لنا أن نقف في الوسط، مسيطرين تمام السيطرة، على المضمون والأداة في وعي واتزان. وإلا فلا بد لنا أن نبقى أطفالًا مخطئين إلى الأبد نُضيع مرة الشكل لفرط حرصنا على المضمون، ونُضيع في المرة التالية المضمون بسبب إيثارنا للشكل. والواقع أن السبب المباشر في استمرار حركة رد الفعل هذه أطول مما يصح هو أن الناقد العربي يقف اليوم وقفة خشوع وتقديس أمام النقد الأوروبي ونظرياته الوافدة، وكأن ذلك النقد نموذج في الإبداع والعبقرية لا يمكن أن يصله الفكر العربي إلا بالتقليد والاقتباس والنقل. وفي

غمرة هذه العقيدة الواهمة، أغلق الناقد العربي الباب على منابع الفكر والخصوبة والموهبة في ذهنه وراح يغترف من معين الأساتذة النقاد الأوروبيين، دون أن يفطن إلى أن النقد الأوروبي يتحدر من تاريخ منعزل انعزالًا تامًّا عن تاريخنا. وكيف يتاح لنا أن نطبق أسس ذلك النقد الأجنبي على شعرنا الذي يتدفق من قلوب غير تلك القلوب، وعصور غير تلك العصور؟ كيف يتاح لنا أن نحقق ذلك التطبيق إلا بطفرة متعسفة ظالمة يقع القسر فيها والضغط على الشعر العربي أكثر ما يقع؟ ومن يجرؤ أن يزعم أن الذهن العربي ليس مفعمًا بالخصب والحياة، وأننا لا نقتله قتلًا عندما نضغطه في قوالب من التفكير الأوروبي جاءونا بها مؤخرًا وشهروها في وجوهنا؟ إننا لا نصدر في عقيدتنا هذه عن تعصب ولا عن ضعف إيمان بغنى الآداب الأوروبية وجمالها. ولكننا نقول، ونصر على القول، إن لآدابنا العربية شخصيتها المستقلة وإن النقد الذي يصلح لشعرنا يختلف بالضرورة، عن النقد الأوروبي، ولا بد لنا أن نستقرئ نحن القواعد، من شعرنا، ومن أدبنا، في هذا الوطن العربي، وباللغة العربية. وليست الظاهرة التي ندرسها في هذا الفصل إلا نموذجًا واحدًا من نماذج كثيرة للضلال المحزن الذي يقع فيه الناقد العربي إذا هو أسلم قياده مغمض العينين للنقد الأجنبي الوافد. ذلك أن الناقد الفرنسي مثلًا، قلما يحتاج إلى أن يفرد بابًا لنقد الأخطاء اللغوية والنحوية على نحو ما يحتاج الناقد العربي وذلك لمجرد أن المادة التي ينقدها ذاك خالية من الأخطاء فعلًا، وإذن فعلى أي وجه يستطيع الناقد العربي أن يقلده وهو يواجه قصائد مثقلة بالأخطاء؟ إن المحاكاة، في هذه الحالة، لا تتم إلا بأن يتخلى الناقد العربي عن مسئوليته فيقف متفرجًا على هموم القصيدة العربية تاركًا شعرنا يعاني من مشكلاته دونما يد تُمد لانتشاله أو صوت في الدفاع عنه. على أن النقد الأوروبي لا يقف في ضرره عند هذا، وإنما ينصب لناقدنا شركًا أخطر. هذه النظريات الأدبية الممتعة، وتلك المذاهب

الفلسفية والمدارس التحليلية في النقد الأوروبي.. هذه الدراسات الباهرة التي يكتبها الناقد الأجنبي هناك.. إنها تعمل في نقادنا عمل السحر فتبهرهم وتسكرهم وتفقدهم أصالة أذهانهم وتصيب حواسهم المبدعة بشيء يشبه التنويم. فما يكاد الناقد العربي اليافع يقرأ ما كتبه إيليوت ورتشردز وبرادلي ومالارميه وفاليري وغيرهم حتى يشتهي أن يطبق ما يقولون على الشعر العربي مهما كلفه ذلك من تصنع وتعسف وجور على شعرنا ولغتنا. ويكون أول ما يضحي به هذا الناقد الجالب اللغوي من القصيدة العربية فبدلًا من أن يتناول القلم ويرفع صوت احتجاج على الشذوذ والأخطاء نجده يهمل ذلك ويعتبر القصيدة منزهة لكي يتاح له أن يحللها ويغرقنا خلال ذلك بسيل من الاصطلاحات الأجنبية التي لا تنطبق على شعرنا إطلاقًا ولم توضع له. إن هذا الناقد العربي الذي يحترق شوقًا إلى أن يجاري الناقد الاوروبي في حديثه عن المدارس والنظريات الكبيرة ذات الطابع النفسي والفلسفي، لا يجد أمامه إلا قصائد عربية مزرية، ضعيفة الإنشاء، يتعثر السمع بغلطة عروضية في كل ثلاثة أشطر منها. ومن ثم فإنه مضطر اضطرارًا إلى أن يغمض عينيه عن عيوبها، لكي يتاح له أن يعيش في جنة النظريات المسحورة التي استقاها من النقد الأجنبي. وبهذا يتغاضى عن مشكلة قائمة تحت بصره لكي يتحدث عن مشكلة مستحبة يود لو وجدت بالرغم من كل شيء. إن اللوم في هذا كله لا يقع على نقاد أوروبا الذين لم يتوقفوا ليشيروا في مقالاتهم إلى أخطاء لغوية ونحوية كالتي يجب أن يشير إليها الناقد العربي. وإنما نحن الملومون. فلماذا ينبغي أن يعنينا النقاد الأوروبيون إذا كانت القصائد التي نتناولها نحن بالنقد مثقلة بإشكالات من نوع لا يحلمون هم به؟ ولماذا نحكم أولئك النقاد الأجانب في الشعر العربي الذي يتحدر من تاريخ لا صلة له بتاريخهم الأدبي؟ وما هذه "العنجهية" التي تجعل الناقد العربي يتعالى عن مواجهة مشاكل شعرنا الواقعية لمجرد أن

الأساتذة المبدعين من نقاد الغرب لا يتناولون مشكلات مماثلة في شعرهم؟ هذا الموقف العجيب ينم عن أن الناقد العربي لا يرى في عملية النقد إلا ترفًا فكريًّا ووسيلة يستعين بها على اللعب بنظريات النقد الأوروبي. فليس المهم أن يدرس مشاكل الشعر العربي لكي يضع الأسس الموضوعية لنقد عربي حديث، وإنما المقصد أن يشغل نفسه بتطبيق النظريات الأجنبية على هذا الشعر بأي ثمن. إن واقع شعرنا ليس هو الذي يملي على نقادنا ما يكتبون وإنما ينتقدون ليسلوا أنفسهم ويسلونا بالكلمات الكبيرة الممتعة التي ابتدعها الأوروبيون في أوقات فراغهم. والحق أن مسئولية الناقد العربي تقضي عليه اليوم بألا يكون له فراغ قط. ذلك أن شعرنا -كسائر جهات حياتنا العربية- مثقل بالإشكالات، وفي وسع همومه أن تشغلنا أعوامًا طويلة قبل أن نفرغ لتطبيق النظريات الممتعة عليه. ولعلنا نعترف كلنا بأن الشعر العربي -بعد الحرب العالمية الثانية- قد واجه صدمة غير هينة بسبب الدعوة المتطرفة إلى الحرية حتى بدت علامات الاحتضار تلوح على أكثر من واحدة من المدارس الحديثة، وإذا لم نتدارك هذا الشعر فسرعان ما سيموت. فهل نريد حقًّا أن نمضي في اللعب بالنظريات الأوروبية والكلمات الأجنبية ذات البريق والسحر؟ أم أن الشعر العربي سيعز على نقادنا فيقفون صفًّا واحدًا ليسندوه؟ ومهما سيكون موقفنا فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن موقف نقادنا من الفكر الأوروبي يكاد يكون موقف استخذاء. إن بعضهم يعتقد اعتقادًا جازمًا أننا أقل موهبة من شعراء الغرب وأن علينا أن نغترف نظرياتهم ونأكلها أكلًا إذا نحن أردنا أن ننشئ شعرًا عربيًّا ونقدًا. لا بل أنا أقول إن مادة شعرنا وحياتنا العربية أغنى وأخصب بكثير من مادة الشعر الأوروبي المعاصر -لأسباب منطقية لا محل الآن لبسطها- وإن موجة تجديد جارفة سوف تنبعث من عالمنا العربي هذا، ولسوف يتتلمذ الغرب على شعراء هذه الأرض الموهوبة ونقادها وأدبائها في يوم قريب. ولكن هذا لن

يحدث إلا بعد أن نؤمن بأنفسنا. إن الأمم المبدعة هي دائما أمم تثق بأنها موهوبة. وأما الأمم التي تزدري ذاتها وتقف وقفة الهوان أمام سواها فلن تبدع شيئًا على الإطلاق. فلنكف عن الانحناء للغرب. إننا قد سئمنا سماع الكلمات الفرنسية والإنكليزية في النقد العربي وأصبحنا نتعطش إلى نقد محلي، التجديد فيه منبعه العروبة، والمصطلحات فيه ترتكز إلى مظاهر في الشعر العربي نفسه. وإني لأهيب بالجيل الناشئ من النقاد أن يتجهوا إلى أنفسهم حين يكتبون لينبت الذهن العربي الخصيب أثماره، وسرعان ما سوف تكتشف الأمة المنابع الحقة في كيانها الفكري، المنابع العربية التي لن يغتني الأديب العربي بسواها ولا مصلحة له في سواها.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى: لقد تصدرت هذه المقدمة كتاب قضايا الشعر المعاصر في طبعاته السابقة، وحين وجدت المؤلفة تصدر الطبعة الخامسة من كتابها بمقدمة ضافية ضمنتها ما جد لديها من آراء وتعليقات، رأيت أن تكون مقدمة الطبعة الأولى في الختام بعد إضافة ملاحظات، توضح نقطًا معينة، وإن كان هذا مخالفا للمألوف. دكتور عبد الهادي محبوبة اعتادت السيدة نازك الملائكة، إما أن تقدم لكتبها بقلمها، كما فعلت في ديوانها "شظايا ورماد" المطبوع في سنة 1949م، أو أن تكلف أحد أعضاء أسرتها ليقدم لها على أساس الصلة الشخصية التي تربطها به، كما عملت في ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي طبع عام 1947م، حيث قدمت له أختها الأصغر السيدة إحسان ... وها هي اليوم تبدي رغبتها في أن أقدم لكتابها هذا بنفس الدافع العائلي الذي يربطنا معًا تمشيًا مع العادة التي درجت عليها. أما سبب اتخاذها هذا المسلك فهي أنها، كما قالت: "لا تؤمن

بجدوى المقدمات الأدبية؛ لأن الكتاب، أي كتاب، ينبغي أن يعتمد على قيمته الموضوعية".. وهو مسلك -كما يبدو لنا- سليم إلى حد كبير إذا كان الغرض من المقدمة التعريف بالمؤلف والكتاب، أو كانت نقدية تشير إلى محاسن الموضوع أو مساوئه أو إليهما معًا. إلا أن القصد من المقدمة -كما نعرف- فضلاً عن ذلك- ربما كان مقتصرًا على إيجاز أهم النقاط البارزة في الكتاب وعرضها على جمهور القراء بأسلوب يسهل عليهم الاطلاع السريع عليه، والإفادة المتوخاة منه. وإذا أرد المقدم الزيادة في الفائدة فعليه أن يمهد لتلك النقاط المهمة بما يصلها بماضيها، وأن يطعمها بما يوضحها ويجلوها، وأن يضيف إليها موجز رأيه ليتم النفع بها.. وعلى هذا الأساس من تحديد مسئولية المقدم وتعيين واجبة فيما يعرض ويرى نتقدم بالخلاصة الآتية: تتعرض الفنون على اختلافها إلى هزات تطورية عنيفة مثلما تخضع الأمم وسائر الأجناس إلى تطورات تقدمية حاسمة. ويعنى المختصون بدراسة هذه التغيرات فيولونها استقراء وتمحيصًا، ويمعنون في البحث عن منابعها وأسبابها، ونتائجها وأهدافها.. ولا تقل عناية المولعين بالفنون والآداب بتسجيل أية ظاهرة جديدة تطرأ على ناحية فنية معينة عما لدى رجال العلوم الآخرين، ولربما فاقوهم حماسة وتوسعًا في البحث عن جذور هذه الهزة وعن أغراضها وأهدافها، لما لها من علاقة وثيقة بتطور الفكر الإنساني، وفضل كبير على رقيه. وشعرنا العربي -بين الآداب والفنون الجميلة العالمية- كان ولم يزل في طليعة فن القول من حيث معانيه وأساليبه، من حيث مضامينه وأغراضه وصور التعبير فيه، ثم حيث موازين عروضه وقافيته وتنوع أشكاله، فقد دلتنا المجموعة الضخمة من الدواوين المطبوعة والمخطوطة التي ورثناها عن العصر الجاهلي والإسلامي، على مدى الخصب الذهني والعاطفي،

والثراء اللغوي والتعبيري، الذي كان يتميز به الشاعر العربي خلال العصور الفائتة حتى شعر المناسبات، وفي أدب القصور والبلاطات. وقد تعرض شعرنا العربي هذا إلى أنواع من الهزات التجديدية لما فطر عليه الذوق العربي من استعداد وإمكانية للتطور، كان منها ما يتصل بأغراض الشعر ومضامينه، ومنها ما يتصل بأسلوبه وشكله. وهذا ما سنشير إليه فيما بعد - على أن لأية اتجاهة فنية جديدة دلالتها وأثرها ولا سيما هذه الحركة الخاصة بعروض الشعر وموسيقاه، وأمثالها، مما ألف الكتاب للإحاطة به، وتنسيق قواعده.. كيف لا، والشعر في مقدمة الفنون التي تصور لنا وجدان الأمة وألوان حياتها، وترسم لنا الملامح الشخصية لأفذاذها وشعرائها، كما تعكس لنا -في الوقت ذاته- مدى النشاط الفكري والوجداني الذي يبذله الشاعر في معترك الحياة؛ لإعلاء شأن الإنسان ورفع مستواه. ومن ناحية أخرى فإن الشعر باعتباره ظاهرة لا يثبت أما الإنسان المتغير في مثله وتقييمه لظواهر الوجود، فلا بد أن يواكبه بطئًا وسرعة، عمقًا وسطحية، تركيبًا وبساطة. ولسنا بصدد البحث عن الإنسان كيف ومتى يجتاز هذه المراحل الحضارية، ولكنا نريد التأكيد على مدى الارتباط بينهما من وجوه كثيرة. فالشعر كظاهرة تعبيرية في حياة الإنسان يبدأ بسيطًا -كغيره- ثم يتعقد تدريجًا بتعقيد حياة إنسان الظاهرة نفسها فيتضاعف مضمونًا من ناحية المعاني وأبعادها اتساعًا وعمقًا، ويتكاثف شكلًا من ناحية الأساليب وجودتها لغة وصياغة، ومن ناحية انتقاء الألفاظ ودقة رصفها ورقتها، ورتابة موسيقاها. وبهذا كانت لغات الأمم وآدابها في مرحلة بداوتها وجاهليتها أقل ألفاظًا وأبسط محتوى. إن هذا التعقد المأنوس، غير المتكلف، لدليل على رقي الفكر والعاطفة معًا، وتزاحم مظاهر الحضارة المحيطة بهما وتقديمها. وبهذا

تتكاثر الأسماء والمسميات، وتتشابه الدلالات والمدلولات حتى لتختلط ببعضها أحيانًا، فتكون مهمة الدارس المفكر التمييز بين المتشابه والمختلط من الألفاظ والمعاني، وتصبح فضيلة العبقري اكتشاف المعنى الأصيل والاهتداء إلى اللفظ المناسب له، وهو ما يسمى في عرف الفن ابتداعًا وسموًّا في الخيال. وقد عاش العربي، أول ما عاش، حياة أدنى إلى البساطة في التحضر، وليس هذا فحسب؛ لأن حضارة الإنسان آنذاك كانت لم تتزايد بعد في متطلباتها حتى تتعقد، ومظاهر الترف المعاشي لم تتعدد في معطياتها حتى تتزاحم. وبهذا كان مضمون كل شيء ساذجًا، وكان القصيد العربي يحتوي على مضامين عدة، وكان الشاعر يتنقل بين هذه الأغراض المتنوعة لتأليف القصيدة، جاعلًا من البيت وحدة مستقلة الأداء والإعراب قدر الإمكان؛ ليدل على براعته في الإيجاز. ولما اتسعت أبعاد حضارته، وتعددت صورها، كان لا بد للمضمون أن يتوسع ويطول، وبذلك ضاق صدر القصيدة عن أن ينفسح لأكثر من غرض واحد إذا استوعبه الشاعر وأجاد تحليله وتصويره، وسواء عليه أتحول إلى غيره أم لا فإن القصيدة تطول ويملها السامع والقارئ، وتخرج عن الإطار المألوف إلى دائرة الملاحم القصصية والأراجيز التعليمية.. وبذلك استبدل الشاعر تنقله بين المضامين إلى تنقل بين الأوزان المختلفة تارة، أو بين ضروب الوزن الواحد أخرى، ومن قافية لغيرها بقصد التنويع تارة أخرى. وحاول -أحيانا- الخروج على الوزن والقافية معًا فعادت به طبيعة الشعر العربي إلى واقعها أخيرًا.. وفي هذا التنقل والتنويع -على اختلافه- ما فيه من دلالات نفسية وفنية واجتماعية للشاعر والقارئ والسامع تكشف عن مستوى الحضارة الذي بلغته الأمة.. لذا كانت مسرحيات شوقي طريفة مقبولة، في حين جاءت مملولة ترجمة سليمان البستاني "1856-1925م" لإلياذة هوميروس، وملحمة الزهاوي "ثورة في الجحيم".. ذلك أن البستاني أتى بترجمته على شكل مقطوعات، كل

مقطوعة منها موحدة الوزن والقافية، وبهذا تحولت إلى مجموعة قصائد. أما الزهاوي فقد اختار لملحمته البالغة 435 بيتًا بحر الخفيف مع وحدة القافية في الوقت الذي كان يدعو إلى الشعر المرسل والتحرر من قيد القافية، وينظم فيه. ومن جهة أخرى فليس صحيحًا أن الشعر العربي وما يعتمد عليه من مقاييس النقد الأدبي معايير ثابتة متحجرة كما وصمه بعضهم1. ولعل في تسمية الأوزان بالبحور ما يوحي لنا بالسطح الواسع، والعمق الهائل لمن يدرك كيف يعوم فيستخرج منه الجديد والغريب، فضلًا عن المعنى المعروف. وآية ما ندعيه في مرونة الأسس النقدية في أدب العرب، وخصب الذهنية العربية، وقابليتها التطورية ما عرفناه من تجديدات في المضمون والشكل طرأت على الشعر العربي بعد تاريخه المسجل بفترة وجيزة: فلم يمر عليه قرن واحد حتى دخلته أغراض جديدة بظهور الإسلام، ووجدنا الشعر السياسي مثلًا عليه. ولم تمر مائة عام أخرى حتى بدأ عهد جديد دعاه النقاد بعصر الشعراء المحدثين قبال القدامى لما دخل على الشعر من اتجاهات جديدة في الصياغة وأساليب التعبير على يد أبي نواس وأبي تمام، وبشار بن برد ومسلم بن الوليد، وابن المعتز وابن هرمة والشريف الرضي وسواهم2.. بل إن "مطيع بن إياس" الذي عاش في أواخر الدولة الأموية في الكوفة، وأوائل الخلافة العباسية في بغداد، المتوفى سنة 170هـ = 787م يعد أول الشعراء المحدثين، الذين جددوا في العروض العربي وكان بين هؤلاء من خرج على بحور الشعر الخليلية كـ "رزين بن زَنْدوَرْد المتوفى حوالى سنة 247هـ" مولى طيفور بن منصور الحميري

_ 1 أدونيس: الشعر العربي ومشكلة التجديد – مجلة شعر العدد: 21-22 سنة 1962م. 2 الآمدي: الموازنة – 13 والجرجاني: الوساطة – 38.

خال المهدي، حيث أتى باوزان جديدة في شعره حتى لقب بالعروضي1 وفي الوقت نفسه كانت هناك محاولات تجديد في العروض قام بها أبو العتاهية فنظم بأوزان لم تعرف قبله. إذ من المعروف أن المختصين من العرب استنبطوا ستة أوزان أخرى من مقلوب دوائر البحور التي جاء بها الخليل والأخفش وسموها: المستطيل والممتد والمتوافر والمتئد والمنسرد والمطرد.. وهي مقلوب الطويل والمديد الوافر. إلخ.. كما استحدثوا ألوانًا أخرى من الشعر بأوزان جديدة إلا أنها لا يُلْتزم فيها النطق بالحركات دائمًا، وتأتي ملحونة أحيانًا، دعوها السلسلة، والقوما، وكان وكان، والمواليا. كما حاول أبو العتاهية وآخرون الخروج على قاعدة القافية الموحدة3 وتفننوا فيها فجاءوا بما أسموه بـ "المذدوج" وهو مشطور بحر مقفى الشطرين، ثم "بالمسمط" وهو بيت مصرع بقافيتين، وأربعة أشطر بقافية موحدة يختمها الشاعر بشطر قافيته كالأولى.. ثم "المخمس" وهو يأتي بأربعة أشطر موحدة القافية تُختم بشطر قافيته تتكرر في نهاية كل مخمس. وأمعن بعضهم في التحرر من القافية فقال أبياتًا من الشعر المرسل3. بينما حدثت حركة في الشكل دفعت إليها الآفاق الحضارية الجديدة، قام بها شعراء الموشحات في الأندلس. وهي انطلاقة تطورية خرج بها أصحابها على سنن الشعر القديم فنوعوا الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة وكان لذلك أثره في كل حركة تجديد جاءت بعدها. فقد ابتدع مقدم بن معافى -من شعراء الأمير عبد الله محمد المرواني- فن الموشحات في أواخر القرن الثالث الهجري ثم قوي وانتشر على يد "أبي بكر عُبادة

_ 1الأصفهاني: الأغاني ج3–254. الخطيب: تاريخ بغداد ج8/ 436، وياقوت، الإرشاد: ج4/ 16، وبروكلمن: الأدب العربي" ج2/ 10-11. 2 بن رشيق: العمدة ج1–120 وإبراهيم أنيس: موسيقى الشعر 278. 3 لباقلاني: إعجاز القرآن – 59. والمرزباني محمد بن عمران: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء: 19-20.

القزاز المتوفى سنة 422هـ"، ثم ظهر فن الزجل بلغة العامة المتحضرة، واشتهر "ابن قزمان" المتوفى سنة 555هـ، بالإبداع فيه. وسرعان ما تناقل الشعراء شرقًا وغربًا هذه الفنون وانتشرت في أوساطهم وجودوا فيها. ثم مرت بأمة العرب قرون عجاف رزحت طوالها تحت نير الاستعباد فأصيب فكرها بالخمول ومنيت حضارتها بالانهيار، وما أن استيقظت حتى قويت واستعادت مكانتها الحضارية والفكرية، وشمل حياتها التجديد، وبخاصة حينما اطلعت على أدب الغرب فاقتبست منه وتأثرت به، فكانت أول ظاهرة تجديدية في دواوين الشعراء من مهاجري سوريا ولبنان إلى أمريكا في أوائل هذا القرن، وقرأنا لهم صنوفًا متنوعة في أفانين من الشعر أمثال: إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف ونسيب عريضة وغيرهم. وفي الوقت نفسه كانت دعوة التجديد في الشرق العربي تتردد أصداؤها في نفوس جماعة الديوان التي يتزعمها العقاد ويدعو لها زميلاه عبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني من جهة، وجماعة "أبولو" التي يمثلها أحمد زكي أبو شادي وخليل مطران وأنصارهما من جهة أخرى، وشقت طريقها بخطى واسعة على يد محمد فريد أبي حديد وخليل شيبوب ومحمد مصطفى بدوي ولكن لم يخرج واحد من هؤلاء وأولئك عن نظام "الشعر المقطوعي" وإن أطلقوا عليه اسم "الشعر الحر" تارة و"الشعر المرسل" أخرى و"الشعر الحر المرسل" تارة ثالثة1معللين لذلك بعدم التزامه القافية الموحدة.

_ 1. موريه: حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث، ترجمة سعد مصلوح ص135، ط المدني، القاهرة 1969م.

وتوفي أبو شادي في إبريل سنة 1955م وهو يحدد الشعر الحر في مناسبات الدفاع عنه أو الدعوة له بأنه "الذي يجمع أوزانًا وقوافي مختلفة حسب طبيعة الموقف ومناسباته1. غير أن علي أحمد باكثير -من أتباع أبولو- قد اهتدى إلى الشعر الحر من دون أن يعرف ذلك، فإنه نظم مسرحيته -السماء أو إخناتون ونفرتيتي- سنة 1943م من بحر معين هو "المتقارب" وجاءت الأشطر فيه بعدد من التفعيلات غير متساوية ولكنه -مع ذلك- أطلق عليه اسم "الشعر المرسل" لأنه لم يتقيد فيه بوحدة القافية2فكان بموقفه هذا يذكرنا بالرحالة "كريستوف كولومبس" الذي اكتشف أمريكا وهو يظن أنها إحدى جزر الهند الشرقية. ثم تلتها حركة "الشعر الحر" في أواخر النصف الأول من القرن نفسه، في يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول من سنة 1947 بالذات.. ففي ضحاه كان ميلاد أول نموذج له، في قصيدة بعنوان "الكوليرا" وقد كانت التجربة التي انفعلت بها الشاعرة فاستوحتها وصورتها هي أحداث "الهيضة" التي وقعت في مصر الشقيقة حينذاك ونشر الوباء أجنحة الموت الفاجع على ربوعها ... وكان يومًا مشهودًا في منزل الشاعرة وعند الأسرة بكامل شخوصها، من الأب الأديب الباحث الأستاذ صادق الملائكة إلى الأم الشاعرة المعروفة أم نزار إلى الإخوة إحسان ونزار وعصام وسُها، كما رواه لي دفتر الذكريات المخطوط بقلم المؤلفة نفسها، وهو سجل للمحاورات والأحداث التي تجري بين أعضاء الأسرة في مناسبات خاصة، وفي أوقاتها المعينة. ولعل من المفيد أن اقتطف منه ما يلي: تدخل "نازك" غرفة الاستقبال وبيدها القصيدة وتقول: هذه القصيدة

_ 1 أولو: 2، 10/ 1934م/ 90. 2 باكثير: محاضرات في فن المسرحية القاهرة 1958م/ 10.

مشكلة جديدة من مشاكل ديواني المنحوس -شظايا- "×"1. فتجيب "إحسان": إن عشاق الشعر الأوروبي سيفهمونها ولا شك. أبو نزار: ما هذا الشعر الجنوني؟ إنه هذيان! أين الوزن، أين القافية، ما معنى الموت، الموت، الموت؟! نازك: هل تعني أنك لم تفهم فكرة القصيدة؟ أبو نزار: الفكرة تصويرية لا بأس بها: ولكن هذا الوزن المبتكر لم يطربني وأنا لا أفهمه، اسألي أمك. أم نزار: لقد قرأت القصيدة اليوم وقلت لها: إنها أشبه بالشعر المنثور مع أنها لا تخلو من وزن غريب. إحسان لنازك: اكتبي عليها أنها من الوزن الفلاني ليصدقوا. نازك: لقد قلت لك إن الجمهور سيضحك مني ولكني -مع ذلك- واثقة أن هذه القصيدة ستكون بداية عصر جديد في الشعر العربي. أبو نزار: من يقرؤها؟! أنا والعراقيون الذين اعتادوا رصانة المتنبي وجزالة البحتري؟ إنك لن تستطيعي الخروج على الذوق العربي، فأنت واحدة، والأمة ملايين. نازك: قولوا ما شئتم، أقسم لكم إني أشعر اليوم بأني قد منحت الشعر العربي شيئًا ذا قيمة. نزار: إن العمل الذي يقابل باختلاف عظيم في الرأي لا بد أن يكون عظيمًا. بهذا القدر اليسير أكتفي، وقد نقلت ما رأيته متصلًا بالموضوع من محضر الجلسة التي حوت نقاشًا طويلًا وحوارًا عنيفًا، تاركًا للمؤلفة أن تنشر وقائع مذكراتها الممتعة كاملة، ليطلع عليها القراء.

_ 1 كان يومذاك لما يزل بهذا الاسم ثم عدلت الشاعرة إلى تسميته بـ "شظايا ورماد" بعد ذلك.

لقد استجاب العروض العربي لهذه الحركة التطورية الجديدة. وشاعت في الأوساط الأدبية وتلاقفها شعراء الشباب بعد نقد قاس وسخرية لاذعة.. والذي يغلب على ظننا أن حركات التطوير تلك إنما كانت بدافع الرغبة إلى الجديد وليست تخلصًا من قسوة عمود الشعر وصرامته، وإلا ما ذهب "المعري" وغيره إلى الزيادة في القيود فالتزم في القافية ما لا يلزمه العروض به، وآثرها في "لزومياته" وكذلك في "فصوله وغاياته"، حتى لكأنها وسائل للأداء كما ازدادت أعانت الشاعر على رسم صورته وتأدية غرضه.. كما نعتقد بأن حركة الشعر الحر هذه إنما هي مرحلة تطورية لعروض الشعر العربي وليست مقتبسة عن الشعر الغربي كما ذهب بعضهم1 وإن كانت تشبهه في بعض الوجوه؛ إذ ليس كل شبيه مستمدًا من شبهه، إن كان بعض أنصارها ممن قرأ أدب الغرب وأفاد منه وادعى الأخذ عنه.. ثم إنها لم تعالج "المضمون" وإن كان هو الحاجة الملحة التي دفعت إلى اختراعه2، ولم تدرس "وحدة الموضوع" وإن كانت هي الحافز القوي إلى ابتداعه3.. وعلى ذلك فإن كل ما وصلنا من تجديد وتنويع في الأسلوب والشكل منذ فجر النهضة الحديثة سواء أكان في مدرسة شعراء المهجر في أمريكا أو في "أبولو" في القاهرة إنما هي إرهاصات مهدت لميلاد الشعر الحر الذي كان بمنزلة رد الفعل لبعض أنواعها، والذي ابتنى قواعده على أسس فنية خاصة في العروض العربي لا يتعداها.. ونميل أخيرًا إلى القول: بأن هذه الحركة إنما هي عودة بالشعر العربي إلى أوزانه العروضية حيث جعلت -التفعيلة- أساسًا تعتمد عليه في بناء البيت بعد أن نزع فريق من الشبان إلى التطرف في التحلل منها،

_ 1 خليل مطران: مقدمة أطياف الربيع لأبي شادي سنة 1933م. 2 و3 المصدر السابق نفسه.

وظن الشعر نثرًا وتوهم الوزن والقافية قيدًا، ونظم المقطوعات المنثورة ودعاها شعرًا وأضاع بذلك عنصرًا أساسيًّا من أهم خصائص الشعر، وهو موسيقى التفعيلة؛ لأن الوزن والقافية -كما نرى- ليسا قيدين في الشعر من حق الشاعر أن ينطلق ويتحرر منهما وإنما هما خاصتان من أهم خصائص الشعر الجديد ليتميز بهما عن النثر الفني.. فهي -حركة الشعر الحر- دعوة إلى الحرية في اختيار الأوزان المناسبة لا التحرر منها أو التحريف فيها لاعتقاد روادها بأن الوزن ظاهرة موسيقية لا يتخلى عنها الشعر إلا ويستحيل نثرًا. ولعل في وصف هذا اللون من الشعر "بالحر" دون التحرر ومرادفاتها مثلًا ما يشعر الباحث بضرورة الالتزام بالوزن والقافية، ولكنه التزام من نوع جديد: فيه حرية للشاعر ضمن حدود "بحور" معينة يتميز بها الشعر عن النثر، ليس في الموسيقى وحسب؛ إذ هي حاصلة فيها وإن اختلفت في نوعها ومقدارها.. التزام في بحر من البحور وحرية في عدد تفعيلات الشطر من البيت في القصيدة الواحدة. ثم التزام في القافية وحرية في تنويعها في القصيدة نفسها.. فليس "الشعر الحر" امتزاجًا بين بحور مختلفة أو التنويع فيها1 ولا ابتداع بحور جديدة، أو تحررًا من قيد الوزن والقافية؛ لأنهما إيقاع لا يريد دعاة "الشعر الحر" فقدانه وإنما يحرصون أشد الحرص على الرتابة فيه، وعلى تكرار النغم الذي يحدثه. ومزية هذا الكتاب لا تنحصر في تحديد مفهوم "الشعر الحر" الذي اختلف في تطبيقه كثير من النقاد والكاتبين فضلًا عن الشعراء المجددين، وإنما حاولت الكاتبة أن تضع له قواعد عروضية كاملة في فصول مطولة ودعت العروضين والشعراء إلى دراستها، فإذا صحت أصبحت جديرة بأن تثبت فصلًا في كتب العروض العربي الذي لم يتناول -بطبيعة

_ 1 أبو شادي في كتاب: جماعة أبولو وأثرها في الشعر الحديث صفحة -528 لعبد العزيز دسوقي: ط الرسالة سنة 1960م.

الحال- هذا الأسلوب المعاصر في الوزن. وليس ذلك فحسب، وإنما قدمت لتلك الفصول الطويلة بنبذة عن تاريخ الشعر الحر باعتباره حركة جديدة ظهرت سنة 1947م ثم درست أسبابه الاجتماعية كما تمثلتها هي وكرست جهدها لوضع عروض لهذا الشعر يقيس عليه الناشئون قصائدهم فلا يقعون في الأخطاء. والكاتبة تؤكد أن أغلب الشعر الحر الذي ينشر اليوم حافل بالغلط العروضي والشقطات، غير أنها تشعر -في يقين- أن هذا الغلط لن يستمر؛ لأن شباب الجيل القابل سيكون أكثر فهمًا وتذوقًا لأسرار اللغة العربية والأوزان الشعرية، كما خصصت المؤلفة فصلًا طويلًا للأخطاء العروضية الشائعة، صنفتها فيه إلى أصناف، وضعت لها عناوين مميزة، مثل: الخلط بين التشكيلات، ومستفعلان في ضرب الرجز، وغير ذلك. والكتاب -فضلًا عن هذا- دعوة إلى تطوير أساليب النقد العربي بحيث يساير الشعر المعاصر وبالتالي الحياة المعاصرة نفسها، وهذه الفكرة ترد على صورة دعوة فعلية أحيانًا نجدها مبثوثة في عناوين الكتاب، ولا سيما المتعلقة بالشعر الحر، كما ترد على صورة فصول في النقد تحاول فيها الكاتبة أن تطور تلك الأسس التي تدعو إليها والتي تكاد تكون بمجموعها محاولة جديدة في النقد الأدبي. أما الفصول التي تضع أسسًا جديدة في النقد فيمكننا التنبيه إليها، وهي: أ- هيكل القصيدة: وفيه تدرس القصيدة العربية على أساس بنائها لا على أساس موضوعها. وفي هذه الدراسة تمييز دقيق بين الموضوع وبناء القصيدة، وقد انتهت فيه إلى وجود ثلاثة أنواع من الهياكل، أطلقت عليها: الهيكل المسطح، الهيكل الهرمي، والهيكل الذهني، وجاءت بمثال مفصل من كل صنف. والذي يلاحظ أن الكاتبة وضعت كثيرًا من الاصطلاحات الجديدة التي يحتاج إليها الناقد المعاصر، مثل: الكفاءة، التماسك، الصلابة، ومثل: الأوزان الصافية والممزوجة، ومثل: التشكيلات وتريد بها

الشكل العروضي لضرب القصيدة في الشعر الحر، وهي تعادل في العروض القديم مجموع العروض والضرب في البيت الواحد، ولم يضع له القدماء اسمًا. ومثل: التكرار البياني واللاشعوري وتكرار التقسيم. ب- الفصلان البلاغيان عن "التكرار" في الشعر الحديث. وهي محاولة جديدة كل الجدة في إقامة بلاغة عربية على أساس الشعر المعاصر، ذهبت الكتابة فيهما إلى أن البلاغة ينبغي أن تتطور موضوعاتها بحيث تستوعب ما جد من أساليب في لغتنا. وكل من تتبع ما ورد عن التكرار في أدبنا القديم وكتبنا البلاغية يرى بوضوح أن هذين الفصلين جديدان في موضوعهما، فقد قسمت في الفصل الأول التكرار، بناء على ملاحظتها للشعر قديمًا وحديثًا: إلى تكرار الحرف، وتكرار الكلمة، وتكرار العبارة، وتكرار المقطع. وأتت بأمثلة وضعت على أساس استقرائها لها، شبه قواعد جمالية لهذا التكرار. وبحثت في الفصل الثاني معاني التكرار، كما بدت لها، فقسمتها إلى تكرار بياني، وتكرار لا شعوري، وغيرهما وجاءت بلفتات جديدة تستحق الدراسة. ج- ولعل أبرز الفصول -بعد ذلك- هو الفصل المعنون بـ "البند ومكانه من العروض العربي" وقد ذهبت فيه الكاتبة خلافًا لمن سبقها ممن درسوه إلى: أنه شعر ذو وزنين لا وزن واحد كما توهم دارسوه، وأثبتت ذلك بالاستشهاد، ثم وضعت عروضًا كاملًا لهذا اللون الطريف من الشعر الذي شاع في العراق خلال القرون الثلاثة الفائتة. والذي نظنه أن هذا الفصل سيثير مناقشات من قبل المعنيين بالنقد والشعر معًا. د- ومن مزايا الكتاب التي تلفت نظر الباحثين -أخيًرا- موقف المؤلفة من استيراد النظريات الأوروبية وتطبيقها على الشعر العربي، وقد فصلت هذا الموضوع النقدي الدقيق في فصل "الناقد العربي والمسئولية اللغوية" وتوصلت إلى أن قواعد النقد العربي الأساسية ينبغي أن تنبع من البيئة العربية ومن طبيعة الشعر العربي لا أن تستورد من خارج محيطهما.

وبعد: ففي الوقت الذي تكبر فيه رائدة الشعر الحر فيما اهتدت إليه من قواعد لحركة التجديد الشعرية، ولما ابتدعته من مصطلحات، وتوصلت إليه من نتائج تعتبر ثروة لغوية وأدبية في النقد العربي، نختلف معها في نقاط عدة نكتفي بإيجاز اثنين منها: 1- المفارقة في مصطلح "الشعر الحر": ووجه المفارقة في هذا الاصطلاح أنه ينطوي على تجديد في الشعر ولكننا إذا أمعنا النظر فيه نجده لم يزل يحتفظ بتعريفه عند نقاد الأدب منذ عهد قدامة بن جعفر بأنه القول الموزون المقفى الذي يدل على معنى1.. وأنه تجديد نحو الحرية في الشعر، ولكننا إذا استقرأنا ما نظم فيه نراه لم يخرج على عمود الشعر الذي حدده "المرزوقي" في مقدمته لشرح ديوان الحماسة2. وهو -الشعر الحر- بنظر مبدعيه سبيل لانطلاق الشاعر من قيود شكلية تعوق خياله عن الإبداع والاسترسال، وتصد لسانه عن التعبير والتصوير، غير أنه برفع تلك القيود قد فرضوا عليه قيودًا معنوية قاسية من أجل أن يكون ما يقوله شعرًا ما دام الشعر نغمًا ملحنًا، وليس موسيقى فحسب. 2- تجريد النثر من الموسيقى: في معرض الموازنة بين النثر والشعر في الفصل الذي تحدثت به المؤلفة عن "قصيدة النثر" انتهت إلى "أن الموسيقى ملازمة للشعر لا له". والذي نعرفه أن النثر الفني موسيقى تأتيه من توازن الجمل وسجعها، ذلك التوازن الذي هو أقرب إلى الوزن في الشعر، وذلك السجع الذي هو أشبه بالقافية فيه، مما يدلنا على أنه هو الأصل الذي ارتقى منه الشعر، كما كان الرجز هو الحلقة الوسطى بين النثر المتوازن المسجوع وبحور الشعر الناضجة. ولكن هذا الطراز من البيان العربي قد جفاه المجددون من الكتاب أيضًا حتى ولو كان عفويًّا غير

_ 1 قدامة بن جعفر: نقد الشعر - 13 ط الأولى القاهرة سنة 1934م. 2 المرزوقي: شرح ديوان الحماسة ط مصر سنة 195م صفحة - 9.

متكلف، وناله من التعريض والتنديد ما نال الشعر الموزون المقفى.. فالتفعيلة -كما هو واضح- موجودة في النثر وبخاصة الفني منه. والموسيقى توجد فيه كما توجد في الشعر، إلا أن في الوزن موسيقى لا نجدها في غيره بله في عدمه حتى ليخيل إلينا ونحن ننشد قصيدة موزونة أن في الوزن شيئًا أبعد من الموسيقى اللفظية نفسها، هو نَغَمُ المعنى الذي كان صداه الوزن. ولعل هذا هو الذي ألصق الوزن بالشعر لأنه غناء في الأصل، وجعله من خصائصه وميزاته، ليس في لغة العرب وحسب وإنما في لغات الأمم جميعها، وإلا فلماذا اهتدى السمع المرهف إلى القافية، وناشد انسجامها مع الوزن والمضمون ولم يكتف بالوزن مثلًا؟ وقبل أن نختم هذه المقدمة الموجزة ألا يصح لنا أن نتساءل: أي الطريقين أقرب إلى الحرية في الشعر ما دمنا ننشدها لتحقيق ذاتية الشاعر: وسهولة تنقله في تصوير مشاعره مع المحافظة على موسيقى الشعر وإيقاعه: هل الالتزام بتفعيلة واحدة من بحر معين كما توصلت إليه صاحبة الكتاب ودعت له باسم الشعر الحر أم باستخدام عدة أوزان يختارها الشاعر، ينتقل بينها حسب انسجامها مع الموضوع كما ذهب إليه أبو شادي وأصحاب أبولو جميعهم؟ والله نسأل أن يلهمنا السداد، ويهدينا سبيل الرشاد. د. عبد الهادي محبوبة بغداد "1962"

فهارس الكتاب

فهارس الكتاب: ثبت الاعلام: "أ" الأخفش "سعيد بن مسعدة" 132/ 344 إبراهيم أنيس 344 إبراهيم عبد القادر المازني 345 الأنباري 97 ابن خلكان 97 بن الخلفة 95/ 198/ 200/ 204/ 210 ابن دريد 8/ 9/ 10/ 11 ابن رشيق 275/ 344 ابن زيدون 87 ابن الفارض 145/ 281 ابن قزمان 345 بن مالك 102/ 107 ابن معافى 344 ابن المعتز 343 ابن هرمة 343 أبو تمام 343 أبو العتاهية 343 أبو العلاء المعري 11/ 12/ 58/ 348 أبو فراس الحمداني 150 أبو القاسم الشابي 269/ 273/ 304/ 305/ 306/ 307/ 08/ 310/ 312/ 314 أبو القاسم محمد كرو 269/ 273/ 304 أبو نزار الملائكة 347 أبو نواس 343 أبو هلال العسكري 266/ 275 إحسان الملائكة 339/ 346/ 347 أحمد خاكي 164 أحمد زكي أبو شادي 345/ 346/ 349/ 353 أحمد عبد المعطي حجازي 279 أحمد مطلوب 15 أحمد الهاشمي 197 أدونيس "علي أحمد سعيد" 343 أسعد مصلوح 345 لأصفهاني 344 المرزباني محمد بن عمران 344 المرزوقي 352 أمجد الطرابلسي 112/ 113/ 259/ 261/ 270

أم نزار الملائكة 27/ 346/ 347 الآمدي 343 امرؤ القيس 58/ 76/ 219 أنور العطار 245 إيليا أبو ماضي 258/ 261/ 269/ 284/ 345 إيليوت "توماس سترنز" 323/ 335 "ب" باقر بن السيد إبراهيم الحسيني 208/ 210 الباقلاني 8/ 9/ 10/ 344 البحتري 347 بدر شاكر السياب 13/ 14/ 17/ 18/ 19/ 20/ 36/ 43/ 46/ 47 125/ 165/ 166/ 167/ 236/ 268/ 273/ 274/ 278/ 281/ 282/ 285/ 287/ 288/ 289 بدوي الجبل 42 بدير متولي حميد 197 بديع حقي 14/ 17 برادلي 335 بروك "روبرت" 308/ 309/ 310/ 311 بروميثيوس 305 بريفير "جاك" 155 البستاني 342 بشار بن برد 24/ 343 بشارة الخوري 190/ 276 بلند الحيدري 45/ 47/ 290 البهاء زهير 115 "ت" توفيق صايغ 216 "ج" جبرا إبراهيم جبرا 153/ 154/ 216/ 217/ 219 جبران خليل جبران 218/ 258/ 284/ 345 الجرجاني 343 جميل الملائكة 135 جورج غانم 91/ 118/ 119 "ح" الحارث بن حلزة اليشكري 89/ 90 الحارث بن عباد 267 حسب الشيخ جعفر 122 حسين العشاري 204/ 206/ 211 الحصري القيرواني 133 "خ" خزامى صبري 214/ 216/ 219/ 226 الخطيب 344 الخليل بن أحمد 6/ 7/ 11/ 24/ 26/ 27/ 42/ 74/ 90/ 85/ 97/ 98/ 99/ 132/ 135/ 137/ 197/ 199/ 203/ 344 خليل حاوي 25/ 95/ 96 خليل الخوري 125/ 184/ 187 خليل شيبوب 345 خليل مطران 345/ 348 خير الدين الزركلي 190 "ر" رتشردز 335 رزين بن زندورد 343 الرصافي 190/ 197

"ز" زكي نجيب محمود 164 الزهاوي "جميل صدقي" 189/ 190/ 342/ 343 "س" سبنسر 301 السراج الوراق 24 سيتول "إيدث" 153 سعدي يوسف 81 سليمان العيسي 114/ 179 سها الملائكة 346 س. موريه 345 "ش" شاذل طاقة 37/ 46 الشاعر القروي "رشيد سليم الخوري" 345 الشريف الرضي 343 شفيق معلوف 345 شوقي "أحمد" 190/ 342 شكسبير "وليم" 163/ 188 "ص" صادق الملائكة 346 صالح جودت 173 صلاح عبد الصبور 110/ 127/ 131/ 191/ 211 "ط" طيفور الحميري 343 "ع" عبادة القزاز 344/ 345 عبد الله بن محمد المرواني 344 عبد الله بن مناذر 163 عبد الرحمن شكري 345 عبد الرزاق عبد الواحد 289 عبد العزيز دسوقي 349 عبد الكريم الدجيلي 8/ 9/ 11/ 12/ 14/ 210 عبد اللطيف الكمالي 20 عبد الهادي محبوبة 339/ 353 عبد الوهاب البياتي 37/ 43/ 45/ 277/ 279/ 283/ 284 عرار "مصطفي وهبي التل" 14/ 17 عصام الملائكة 346 العقاد 345 علي أحمد باكثير 14/ 17/ 346 علي الجارم 104/ 115 علي محمود طه 75/ 76/ 113/ 172/ 173/ 248/ 269/ 284/ 286 عمر أبو ريشة 75/ 113/ 114 عمر بن أبي ربيعة 24 عمير بن شييم القطامي 151 "غ" غازي "الملك" 42 "ف" فاليري "بول" 335 فدوى طوقان 53/ 105/ 106/ 124/ 130/ 131/ 179/ 180/ 181/ 182/ 183 فؤاد رفقة 168 فواز الطرابلسي 155 فوزي المعلوف 345

"ق" قدامه بن جعفر 352 "ك" كانت "إمانويل" 301 كرستون كولومبيس 346 كليب 226 كيتس "جون" 306/ 307/ 308/ 310/ 312/ 314 كويو"جان ماري" 301 بروكلمان "كارل" 344 "ل" لويس عوض 14/ 17 "م" المازني "إبراهيم عبد القادر" 345 مالارميه "ستيفن" 135 مالك حداد 160 مالك بن الريب 280 المتنبي 58/ 88/ 90/ 112/ 115/ 347 مجاهد عبد المنعم مجاهد 182/ 183 محمد فريد أبو حديد 14/ 164/ 345 محمد فهمي 286/ 308 محمد الماغوط 158/ 160/ 218/ 226 محمد مصطفى بدوي 345 محمد الهمشري 114/ 264/ 286/ 307/ 308/ 310/ 311/ 312 محمود حسن إسماعيل 14/ 173/ 237/ 239/ 265/ 266/ 272/ 284/ 285 محمود درويش 7/ 22/ 23 محموة شكري الآلوسي 332 محمود مصطفي 197 مسلم بن الوليد 343 مصطفى جمال الدين 102/ 103 مصطفى صادق الرافعي 218/ 219 مطيع بن إياس 343 ملك أبيض 160 ممدوح حقي 197 المنخل اليشكري 145 المهلهل 266 المهدي 344 ميخائيل نعيمة 111/ 258/ 267/ 268/ 269 "ن" نازك الملائكة 147/ 283/ 284/ 339/ 346/ 347 نذير العظمة 207/ 208/ 328/ 331 نزار قباني 53/ 116/ 129/ 130/ 131/ 141/ 173/ 179/ 191/ 242/ 245/ 246/ 278/ 279/ 282/ 283 نزار الملائكة 346/ 347 نسيب عريضة 245 نوري السعيد 42 نيتشه "فردريك" 314 "هـ" هشام بن عبد الملك 61 هوميروس 342 "ي" ياقوت 344

ثبت الموضوعات

ثبت الموضوعات: القسم الأول في الشعر الحر صفحة الباب الأول – الشعر الحر باعتباره حركة 31 1- بداية الشعر الحر وظروفه 35 البداية 35 الظروف 37 المزايا المضللة في الشعر الحر 40 نتائج التدفق في الأوزان الحرة 43 الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة 45 عيوب الوزن الحر 47 إمكانيات الشعر الحر ومستقبله 48 2- الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر 50 الشعر الحر اندفاعة اجتماعية 54 النزوع إلى الواقع 56 الحنين إلى الاستقلال 57 النفور من النموذج 58 الهرب من التناظر 60 إيثار المضمون 62

صفحة الباب الثاني – الشعر الحر باعتباره العروضي 67 1- العروض العام للشعر الحر 69 وطئة 69 الشعر الحر أسلوب 74 تفعيلات الشعر الحر 79 بحور الشعر الحر وتشكيلاته 83 الشعر الحر شعر ذو شطر واحد 93 2- المشاكل الفرعية في الشعر الحر 97 توطئة 97 الوتد المجموع 100 الزحاف 109 التدوير 112 التشكيلات الخماسية والتساعية 123 فاعل في حشو الجنب 132 الباب الثالث – الشعر الحر باعتباره أثره 139 1- الشعر الحر والجمهور 141 توطئة 141 طبيعة الشعر الحر 144 الظروف الأدبية للعصر 150 إهمال الشعراء 162 2- أصناف الأخطاء العروضية 177 الخلط بين التشكيلات 177 الخلط بين الوحدات المتساوية شكلا 181

صفحة الباب الرابع – ملحق بقضايا الشعر الحر 39 1- البند ومكانه من العروض من العروض العربي 195 2- قصيدة النثر 213 القسم الثاني الباب الأول – في فن الشعر 231 1- هيكل القصيدة 233 الموضوع 234 الهيكل الجيد وصفاته 235 ثلاثة أصناف من الهياكل 241 2- أساليب التكرار في الشعر 263 3- دلالة التكرار في الشعر 275 التكرار البياني 280 تكرار التقسيم 284 التكرار اللاشعوري 287 الباب الثاني – في الصلة بين الشعر والحياة 293 1- الشعر والمجتمع 295 2- الشعر والموت 304 الباب الثالث – في نقد الشعر 317 1- مزالق النقد المعاصر 319 2- الناقد العربي والمسؤولية اللغوية 325 مقدمة الطبعة الأولى 339 فهارس الكتاب 354

§1/1