قصص من التاريخ

علي الطنطاوي

قصص من التاريخ علي الطنطاوي طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية الناشر دار المنارة للنشر والتوزريع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة العاشرة 2007 دار المنارة للنشر والتوزريع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

مقدمة

مقدمة الطبعة الخامسة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله. هذه طبعة جديدة من الكتاب الذي أكاد أفضّله على سائر كتبي؛ إذ عرضتُ فيه صوراً من أجمل صفحات التاريخ، أبقيت على جوهرها التاريخي وأعملت قلمي في «الأعراض» والتفاصيل، فما جعلتُها تاريخاً التزمتُ فيه بالواقع ولا أدباً خالصاً أَصدُرُ فيه عن الخيال وحده. ولقد طُبع مرات، ولكن هذه هي الطبعة الأولى التي تصدرها «دار المنارة» التي أخصّها -منذ اليوم- بنشر كتبي. وما أذمُّ من نشر لي قبلها، وأفرد بالثناء ولدي الأستاذ زهير الشاويش (والمكتب الإسلامي) وولدي الأستاذ عدنان سالم (ودار الفكر). وأسأل الله أن يكتب لي ولكل مَن نشر لي الثواب، وأن ينفع الله الناس بهذا الكتاب. مكة المكرمة: غرة سنة 1411 علي الطنطاوي

مقدمة لم تُكتَب هذه الفصول في يوم واحد، بل كُتبت في أزمان متباعدات (¬1)، لذلك كان ما ترون من الاختلاف بين أساليبها. ولم أتعمد أن أجعلها قصصاً كما جاء في عنوان الكتاب، ولم أتقيد بقيود القصة وأقفْ عند حدودها، بل كنت آخذ الخبر أقع عليه، فأديره في ذهني وأتصور تفاصيله، ثم أحاول أن أعرضه موسَّعاً واضحاً. فكان ما أجيء به يقترب من القصة حيناً، ويكون أشبه بالعرض (الريبورتاج) حيناً. وربما غلبت عليّ الرغبة في التحليل النفسي فأطيل، وربما وقفت عند الحقائق فأقصر. ولو رجعتم إلى أصول هذه الفصول في التاريخ لوجدتم أن أكثرها لا يجاوز بضعة أسطر، جاءت متوارية في حاشية من الحواشي أو زاوية من ¬

_ (¬1) نُشر الكتاب أول مرة سنة 1939م باسم «من التاريخ الإسلامي»، أما القصص فقد كُتب كثير منها ما بين 1929م و 1936م، وفي بعضه أثر من أساليب من كنت مولعاً بهم يومئذ من الأدباء. ففي قصص الحجاج (هجرة معلم، وليلة الوداع، ويوم اللقاء) أثر من أسلوب معروف الأرناؤوط، وفي قصة «عالم» أثر من أسلوب الرافعي، وسائرها مكتوب بأسلوبي. وقد كتب النقاد عن الكتاب فصولاً كثيرة أجمعها وأوسعها ما تفضّل به الأستاذ شاكر مصطفى في كتابه «القصة في سوريا» والأستاذ أنور الجندي.

الزوايا، لا يتنبه إليها القارئ ولا يقف عليها، وليست أجمل ما في تاريخنا ولا هي من أجمل ما فيه، وإنما هي أخبار عادية، استطاع هذا القلم (على ضعفه وعجزه) أن يعرضها على الناس شيئاً جديداً أو هو كالجديد، فكيف إذا تولاها قلم أقوى من هذا القلم؟ وكيف إذا اختار لها مشاهد من التاريخ أعظم من هذه المشاهد؟ وإذا كان أصل هذا الكتاب الذي تفرع عنه وأساسه الذي بني عليه بضعَ صفحات من هذا التاريخ العظيم، فكم صورة رائعة، وكم قصة بارعة، وكم من الآثار الأدبية الخالدة، يمكن أن يستخرج من صفحاته كلها؟ أمَا إن ذلك ليزيد عن العد ويجلُّ عن الحسبان، ولكن أدباءنا لم يَرِدوا هذا المورد. * * * على أن هذا أسلوب من أساليب عرض التاريخ بقلم الأديب، وفي كتابي «رجال من التاريخ» (¬1) أسلوب آخر. وفي «على هامش السيرة» لطه حسين، وفي «وحي القلم» للرافعي، وفي «سيد قريش» لمعروف الأرناؤوط و «محمد» لتوفيق الحكيم و «في منزل الوحي» لهيكل أساليب غير ذلك. ولو أن كل كاتب وأديب أخذ من تاريخنا على مقدار طاقته، ¬

_ (¬1) الذي كنت أذعته من إذاعة دمشق ثم زدت عليه حتى صار كتاباً كبيراً وطُبع مرات.

وعلى أسلوبه وطريقته، وبلغ ما أخذ منه وصدر عنه ألف كتاب، لما نقص من كنوز تاريخنا شيء. ولو أني بقيت خمسين سنة أحدّث الناس كل أسبوع عن علم من أعلام الإسلام، أو أعرض عليهم قصة من قصص بطولاتهم وعبقرياتهم، لما انتهيت ولما قاربت الانتهاء، وكيف؟ وعندي في مكتبة بيتي الصغيرة أكثر من مئة مجلدة في تراجم الرجال، لو أن في كل مجلدة منها مئة ترجمة لكان من ذلك - وحده - عشرة آلاف ترجمة لعشرة آلاف علم من أعلام الإسلام. وما ليس عندي من كتب التراجم أضعاف ذلك. ثم إن في كتب التاريخ والأدب، والمحاضرات والرحلات، آلافاً أخرى لم تُفرَد في كتب التراجم. ولقد كنت أتسلى من أيام بالنظر في «رحلة ابن بطوطة»، فاستخلصت منها تراجم كثيرين لأجعل منها أحاديث؛ منهم السلطان المسلم العادل طرمشيرين من حَفَدة جنكيز خان، وكان يحكم مملكة واسعة المدى، مترامية الأطراف، كثيرة الجيوش، وافرة الخيرات. فهل سمعتم بطرمشيرين؟ وهل سمعتم بالملوك المسلمين الذين حكموا روسية، وكان لهم فيها حكومة عظيمة عاشت دهراً، وكانت تسمى دولة البلغار، وكانت عاصمتها بقرب ستالينغراد؟ وهل تعرفون سير الملوك المسلمين الذي حكموا الهند قروناً

طوالاً، وكان منهم أورنك زيب، أشبه الملوك سيرةً بالخلفاء الراشدين؟ ودول الإسلام في جنوبي آسية وسواحل أفريقية السوداء؟ لقد بلغ الإسلام بلاداً تعجبون أنتم الآن إذا سمعتم بأنه بلغها، وأقام فيها دولاً، وأنشأ فيها حضارات، وترك فيها آثاراً. وأكثر القراء لا يعرفون شيئاً عنها. بل إني أعترف أني لم أكن أعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام في ماليزيا وأندونيسيا، وعن مراحل تاريخه في الهند، حتى زرت تلك البلاد ورأيت آثار الإسلام فيها، ولا سيما في دهلي وما حولها. لقد كنت أظنني في الأندلس، ولكنها أندلس أجل وأكبر. لقد حكمنا الهند ألف سنة، فمَن يعرف دقائق تاريخنا في الهند؟ لقد كدت أقول: لا أحد! إننا أمة تجهل تاريخها! هذا التاريخ الذي ليس لأمة مثله. هذا العالم الذي يفيض بالحب والنبل والتضحية والبطولة والإيمان. هذا السجل الأدبي الذي اشتمل على بذور مآسٍ، وملاحم، وقصص، ودواوين، لو وجدت من يستخرجها ويزرعها في الذهن الخصيب لكان حصادَها أدبٌ جديد يزحم بمنكبيه آداب الأمم جميعاً. وإذا كان إسكندر دوماس وشارلز ديكنز قد استخرجا من تاريخ فرنسا وتاريخ إنكلترا - على قِصَر مدتهما وكثرة مخازيهما -

هذا الأدب كله، فماذا يُستخرَج لَعمري من تاريخنا الطويل الشريف الغني لو رُزقت العربية أديباً كدوماس أو كديكنز؟ ولست أعني التاريخ السياسي وحده، تاريخ القصور والملوك، بل أعني التاريخ العلمي أولاً؛ تاريخ القوم الذين باعوا نفوسهم لله مجاهدين في ميادين الطّروس (¬1) بأسنّة الأقلام، وهجروا لذلك لذائذهم، ونسوا حاجات بطونهم وغرائزهم، واطّرحوا رغبات الغنى والجاه وكل ما يتزاحم عليه الناس، واستهانوا في سبيله بكل صعب، حتى إنهم كانوا يرحلون الإبل أربعين ليلة، من مشرق الأرض إلى بغداد أو الشام أو الحجاز، في طلب مسألة مفردة أو حديث واحد. أحرقوا أدمغتهم فجعلوها مشاعل القرون الآتيات، فسارت «البشرية ...» في طريق الحضارة على ضوئها. هذا التاريخ الذي أعنيه، هو تاريخ القضاة الذين استطاعوا في عصر كان الحكم فيه في الدنيا كلها حكما مطلقاً، وكانت حياة الناس معلقة بكلمة ينطق بها الحاكم، استطاعوا في هذا العصر أن يجعلوا لأنفسهم منزلة، وأن تكون لهم بكفاياتهم وبأخلاقهم حصانة دونها حصانة القضاة اليوم التي ضمنها لهم القانون. فاقرؤوا أخبارهم في كتب التاريخ والأدب والمحاضرات، وفيما أُفرد لهم من كتب (ككتاب الكندي في قضاة مصر، وكتاب قضاة ¬

_ (¬1) الطروس والأطراس جمع الطِّرس (بكسر الطاء)، وهو الصحيفة والكتاب يُمحى ثم يُكتب. ومنه التطريس، وهو إعادة الكتابة على المكتوب (مجاهد).

الأندلس، وكتاب قضاة الشام) تروا كيف كان أحدهم يستند إلى سارية المسجد وما معه إلا كاتبه، ما معه جند ولا شُرَط، ثم يحكم على الخليفة، وعلى الأمير، وعلى صاحب السلطان، فلا يُرَد له حكم ولا يستعصي على حكمه أحد. واقرؤوا مقدمة كتاب «الخراج» لتروا كيف كان أبو يوسف القاضي يخاطب أكبر ملوك الدنيا في عصره: هارون الرشيد! هذه ناحية من أوسع نواحي العظمة في تاريخنا، لأن القضاء (منذ كان في الدنيا قضاء) هو مقياس الخير في الأمم، وهو معيار العظمة فيها، وهو رأس مفاخر كل أمة حية راشدة. وليس القاضي موظفاً كالموظفين (¬1)؛ فالموظفون، حتى الأمراء منهم والوزراء، أعوان الملك أو الرئيس وأتباعه، يأمرهم فيأتمرون ويدعوهم فيلبون، أمرهم من أمره وسلطانهم من سلطانه، يتكلم بألسنتهم ويبطش بأيديهم. أما القاضي فلا حكم عليه إلا لربه، ولا استمداد له إلا من قلبه؛ يتكلم بلسان الشرع، والشرع فوق الناس، ويحكم بحكم الله، وحكم الله على الجميع. هذا هو التاريخ الذي أعنيه، لا تاريخ القصور وأهلها. وهذا الذي عُني به علماؤنا فألفوا فيه آلاف الكتب واستحدثوا منه علماً لم تعرفه أمة من الأمم قبلهم ولا بعدهم، هو «علم الرجال» الذي يميز صادق الرواة من الكاذب، والأمين من المزور، والمتثبت من المتساهل. وكان لأهل هذا العلم مثل «دوائر الاستخبارات» في الحكومات، وبها توصلوا إلى وضع قواعده ورفع دعائمه. ¬

_ (¬1) الوظيفة في اللغة المرتب، ولكنا آثرنا ما يقول الناس.

وابدأ فانظر ما أُلِّف في سيرة سيد البشر ومعلم الخير صلى الله عليه وسلم، وكيف دُوّنت حركاته وسكناته وألفاظه وإشاراته في مئات من الكتب. إذا شئت كتاباً يكاد يغني عن هذه الكتب كلها، ولا يغني عنه كتاب، فاطلب «شرح المواهب» للزرقاني. ثم انظر سير الصحابة فاقرأها في الإصابة أو في أسد الغابة أو في الاستيعاب. ثم انظر العمل الذي قام به مؤرخو رجال الحديث، ومبلغ ما وصلوا إليه من الإحاطة والتدقيق والصدق، وانظر هل أفلت منهم خبر أو خفيت عليهم حقيقة؟ وهل صنع علماء أمة كالذي صنعوا؟ أو تصوروا إمكان هذا الصنيع المعجز الهائل؟ لقد صنفوا في الرجال الكتب الجامعة (¬1)، وأفردوا الضعاف والمتروكين بالتأليف، ووضعوا الكتب في ضبط الأسماء وبيان ما تشابه منها أو ما اشتبه، وبحثوا في تواريخ الوفيات، وحققوا الأسانيد. ثم انظر ما أُلِّف من كتب الرجال في سائر العلوم والفنون، كطبقات الأطباء، وأخبار الخلفاء والوزراء والنحاة والأدباء، بل وفي أخبار الطفيليين والحمقى والمغفلين وعقلاء المجانين. وما ألف في رجال المذاهب، كطبقات الشافعية، والديباج في أعيان المذهب المالكي، وطبقات الحنابلة والحنفية. وما ألف منها في ¬

_ (¬1) حسبكم منها كتاب «الكمال في أسماء الرجال»، الذي رأوه طويلاً فاختصروه في كتاب التهذيب، ثم اختصروا هذا المختصر فكان الكتاب النفيس الممتاز، كتاب «تهذيب التهذيب»، وهو في 12 مجلداً.

المدن، كتاريخ بغداد الذي ترجم لكل من دخل بغداد فلم يُبقِ ولم يذر، والكتاب الذي لم يؤلف في بابه مثله، كتاب ابن عساكر العجيب الذي عجزت دمشق عن طبعه وعن نشره. وما ألف على العصور. وعندنا سلسلة كاملة لأعيان كل عصر، من العصر السابع إلى الثاني عشر الهجري (¬1)، وما كان منها جامعاً كوفَيَات الأعيان، الكتاب النفيس الممتاز. وغير ذلك مما يتعسر الإحاطة به وتقصّي خبره في مثل هذا المقام. وفي كل صفحة من هذه الكتب مبعث إلهام للأديب، وأصل قصة للكاتب، وكنز من كنوز العقل والقلب لا يفنى. ألفوا هذه الكتب كلها في «علم الرجال»، على حين لا نعرف من تصانيفهم في تاريخ الملوك إلا بضعة كتب كالطبري وابن الأثير وابن كثير والمسعودي واليعقوبي وابن خلدون وأمثالها. ويا ليت وزارات المعارف في بلاد المسلمين تدع هذا كله، فلا تجعله أكبر همها من درس التاريخ وغاية مطلبها، وتنصرف إلى التاريخ العلمي فتعنى به (¬2). ورب عالم كان أبلغ أثراً في عصره من خليفة العصر، وكان أولى أن يُعرف العصر به ويُنسب إليه، فنقول عصر أبي حنيفة ¬

_ (¬1) وقد ألف أحد المشايخ في دمشق في أعيان القرن الثالث عشر كتاباً ينقصه التحقق والترتيب. ثم طُبع كتاب الشيخ عبد الرزاق البيطار، جد شيخنا بهجة الشام حفظه الله، وهو كتاب جامع نافع. (¬2) حققت هذا -بفضل الله- لما عُهد إلي وضع مناهج المدارس الشرعية في سورية أيام الوحدة، وجعلت مكان التاريخ درس «أعلام الإسلام».

مثلاً، وعصر ابن أبي دؤاد، وعصر أحمد، وعصر الغزالي، وعصر ابن تيمية وابن القيم. ولست أدري إلى متى يبقى تاريخنا عبداً واقفاً على أبواب الملوك، لا ينظر إلا إليهم ولا يهتم إلا بهم، ولماذا لا يصير حراً يخالط الشعب ويسجل مناقبه ويصف أخلاقه؟ ومن منا يعرف ماذا كان يأكل الناس في عهد الرشيد مثلاً أو الواثق، وماذا كانوا يلبسون، وماذا كانوا يصنعون في أفراحهم وأتراحهم وجِدهم ولهوهم، وكيف كانت حياة التاجر والصانع والجندي والزارع؟ إننا نستطيع أن نقف على ذلك إذا بحثنا عنه وتصيدنا أخباره تصيداً، من كتب الأدب والأخبار، ككتب القاضي التنوخي. ولكن ذلك يحتاج إلى جد وكد، ونحن أهل كسل: نأكل ما وجدنا ولو كان شر الطعام، ولا نكلف أنفسنا عناء الإعداد والطبخ. ثم إن تاريخ ملوكنا وإن كان أشرف بمئة مرة من تواريخ أمم الغرب، وإن لم يكن يرفع الرأس، وإذا استثنينا نفراً من الحكام كالخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين وأورنك زيب وأمثالهم (على ندرة أمثالهم) لم نكد نجد إلا حاكماً مستبداً إذا وزنت سيرته بميزان الإسلام لم ترجح في الميزان. ثم إن رواية المؤرخين رواية عامية، والرواية العلمية هي رواية المحدثين، لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رواه المحدثون، وكان الجاهل بمصطلحهم وعلمهم لا يعد مؤرخاً. وكتب التاريخ

هذه هي المواد الأولية للتاريخ، وليست هي التاريخ، لأن تاريخنا لم يُكتب. ولا بد من تنقيتها أولاً، ثم ترتيبها، ثم إدخالها المصنع لتصير حينئذ تاريخاً، وإنها على ما هي عليه مخلوط فيها السم بالدسم والقطن بالبرسيم. وإن علمنا كان يعتمد على الرواية، والرواية تقوم على معرفة الرجال. والطبري (وغير الطبري) حين يذكر أن الخبر مروي عن فلان وفلان يُسقط التبعة عنه ويلقيها عليك، وعليك أنت أن تعرف الكاذب من الصادق من الرواة لتعرف الصحيح من الباطل من الأخبار، فإن لم تعرفه حفظاً عرفته مراجعة. ومن هنا يتبين أن الباحث الذي يذيّل بحثه بذكر صفحات الطبري (الطبري، صفحة كذا) مقرٌّ على نفسه بأنه حاطب ليل لا يدري ما يأخذ وما يدع (¬1)، وأنه هو الذي يسميه علماؤنا «المقمّش»! ولذلك كان الاعتماد الأول على رواية المحدثين. ورواية المحدثين لها درجات؛ منها الرواية المتواترة الثابتة، والمشهورة، والعزيزة، والصحيحة، والحسنة، والضعيفة. ولها من جهة إسنادها درجات؛ منها المسندة، والموقوفة، والمرسلة، والمنقطعة، والمعضلة. ¬

_ (¬1) فكيف بمن يجعل مستنده كتاب «الأغاني»؟ وهو كتاب أدب ومحاضرة لا نظير له لكن لا يُعتمد عليه ولا يروى عنه لأن أبا الفرج معروف بالكذب والوضع، وهو فاسد السيرة بعيد عن العدالة، وهو -فوق ذلك- شيعي المذهب رغم أنه أموي النسب (وهذا من العجائب).

وكان لها من جهة انفرادها وتعارضها بغيرها أصناف، منها المتفق عليه، والغريب، والشاذ، والمنكر، والعاضد لغيره، والمخصص، والمقيد، والناسخ. والصحيح درجات تختلف باختلاف المصححين واختلاف شرائطهم في التصحيح. وليس يمكن أن يكون مؤرخاً إسلامياً أو أستاذاً للتاريخ الإسلامي إلا من كان عالماً بالرجال أو كان ممن يحقق عن أحوالهم، عارفاً بالحديث ومظان وجوده و «مصطلح» أهله، عارفاً بالعربية ليفهم ظواهر الكلام وبواطنه وإشاراته ومعاريضه، وكان متجرداً عن العصبية والهوى، مريداً ببحثه الحق ورضاء الله. فإن لم يكن كذلك لم يكن إلا جاهلاً بالتاريخ أو دجالاً، ولو كان أستاذ الجامعة ولو كان صاحب الشهادات الكبار، لأن الدولة تستطيع أن تجعل الرجل أستاذاً بمرسوم، وتقدر أن تجعله دكتوراً بشهادة (قد تكون شهادة زور)، ولكن الدولة لا تستطيع أن تجعل الجاهل عالماً، ولا العصبي نزيهاً، ولا الكاذب صادقاً. وبعد، فهذه كلمة انجر القلم إليها، أردت فيها أن أستحث الأدباء وأثير هممهم، علهم يقبلون على هذا المنجم البكر فيستخرجوا كنوزه، ويَعرضوا على الناس جواهره. والله الموفق للصواب.

نحن المسلمين

بين يدي الكتاب نحن المسلمين نشرت سنة 1940 سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها، سلوا بطاح أفريقية، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في «الأرض»، وكل حي تحت السماء. إن عندهم جميعاً خبراً من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا. نحن المسلمين! * * * نحن المسلمين! هل روى رياضَ المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجل أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟

نحن حملنا المنار الهادي والأرضُ تتيه في ليل الجهل وقلنا لأهلها: هذا الطريق! نحن نصبنا موازين العدل يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان. نحن بنينا للعلم داراً يأوي إليها حين شرّده الناس عن داره. نحن أعلنّا المساواة يوم كان البشر يعبدون ملوكهم ويؤلهون ساداتهم. نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلهم بالحرية والحضارة. نحن المسلمين! * * * نحن بنينا الكوفة والبصرة والقاهرة وبغداد. نحن أنشأنا حضارة الشام والعراق ومصر والأندلس. نحن شِدْنا بيت الحكمة والمدرسة النظامية وجامعة قرطبة والجامع الأزهر. نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة و «سُرّ من رأى» والزهراء والحمراء ومسجد السلطان أحمد وتاج محل. نحن علمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ. نحن المسلمين! * * *

منا أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين وأورنك زيب. منا خالد وطارق وقتيبة وابن القاسم والملك الظاهر. منا البخاري والطبري وابن تيمية وابن القيم وابن حزم وابن خلدون. منا الغزالي وابن رشد وابن سينا والرازي. منا الخليل والجاحظ وأبو حيان. منا أبو تمام والمتنبي والمعري. منا معبد وإسحاق وزرياب. منا كل خليفة كان الصورة الحية للمثل البشرية العليا. وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد. منا مئة ألف عظيم وعظيم. نحن المسلمين! * * * قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا. قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا. وضعيفنا المحق قوي فينا، وقوينا عون لضعيفنا. وكلنا إخوان في الله، سواء أمام الدين. نحن المسلمين! * * *

نحن المسلمين! ملكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين. أقمنا حضارة كانت خيراً كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعم نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعاً. وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا. وهل خلت أرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟ * * * نحن المسلمين! هل تحققت المثل البشرية العليا إلا فينا؟ هل عرف الكون مجمعاً بشرياً (إلا مجمعنا) قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟ هل اتفق واقع الحياة وأحلام الفلاسفة وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟ يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة يشتهي شربة من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحاً آخر فآثره على نفسه ومات عطشان. يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها فإذا

أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حي، قالت: كل مصيبة بعده هينة. يوم كانت العجوز ترد على عمر وهو على المنبر في الموقف الرسمي وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم. يوم كان الواحد منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة. وكنا أطهاراً في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى. وكنا لا نأتي أمراً ولا ندعه ولا نقوم ولا نقعد ولا نذهب ولا نجيء إلا لله؛ قد أمتنا الشهوات من نفوسنا فكان هوانا تبعاً لما جاء به القرآن. لقد كنا خلاصة البشر وصفوة الإنسانية. وجعلنا حقاً واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيداً. نحن المسلمين! * * * تُنظَم في مفاخرنا مئة إلياذة وألف شاهنّامه. ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تعد ولا تحمى. من يعد معاركنا المظفرة التي خضناها؟ من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟ من يستقري نابغينا وأبطالنا؟

إلا الذي يعد نجوم السماء. ويحصي حصى البطحاء. اكتبوا «على هامش السيرة» ألف كتاب. و «على هامش التاريخ» مثلها، وأنشئوا مئةً في سيرة كل عظيم. ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء والمنجم المبكر. * * * نحن المسلمين! لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيّر وشرير. ولسنا شعباً كالشعوب يؤلف بينها الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى. أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي. تجمع بيننا التقوى إن فصل الدم، وتوحد بيننا العقيدة إن اختلفت اللغات. وتدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار. أليس في توجهنا كل يوم خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزاً إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية وإمامها النبي العربي وكتابها القرآن العربي؟ * * *

نحن المسلمين! ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج. لا حجب ولا أستار ولا خفايا ولا أسرار. هو واضح وضوح المئذنة. أفليس فيها ذلك المعنى؟ هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرَّر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم كما تذاع مبادىء ديننا، نحن المسلمين، على ألسنة المؤذنين: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله». * * * نحن المسلمين! لا نَهِنُ ولا نحزن ومعنا الله. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر. البطولة سجية فينا، وحب التضحية يجري في عروقنا. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان. لنا الجزيرة التي يُشوى على رمالها كل طاغٍ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات. لنا الشام وغوطتها التي سقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم.

لنا العراق، لنا الرميثة وسهول الفرات. لنا فلسطين التي فيها جبل النار. لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام. لنا المغرب كله، لنا «الريف» دار البطولات والتضحيات. لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة. لنا كل أرض يتلى فيها القرآن وتصدح مناراتها بالأذان. لنا المستقبل ... المستقبل لنا إن عدنا إلى ديننا. نحن المسلمين! * * *

في بيت المقدس

في بيت المقدس كانت «مارييت» تدور في البيت، ما تستطيع أن تستقر من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فَتَسّاقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذعوراً ويبكي، فتمتزج دمعة الحب بدمعة الطفولة. وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به. وكانت مارييت فتاة باسلة ثابتة الجنان. لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة حطين لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك لفارس فيهم مأملاً في نصر؛ فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟ وكان زوج مارييت فارس الحلبة وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز (وكل أمة في أوربة) يملأن

جوانب القدس، فلم يرَ فيهن من هي أفتن فتنة وأبهى جمالاً من مارييت، فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن. ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه لوطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبقى أبداً فارس النصرانية المعلم وبطلها، فكان كلما سمع نأمة (¬1) طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين. وفُتح الباب فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدرِ أهوَ البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما، ويحدثها حديث النصر: لقد رد «يسوع» الأعداء، وفتَّ في أعضادهم فانطلقوا هاربين قبل أن نباشر حرباً أو نشرع في قتال. لقد استقر - أيتها الحبيبة - ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، ولو أبصرتِهم يا مارييت وقد ذهب الفزع بألبابهم لمّا رأوا أسوار المدينة تطل من فوقها أبطال النصرانية وفرسان الصليب، فهدّوا خيامهم وولوا الأدبار لا يلوون على شيء، لا يريدون إلا النجاة ... لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في حطين. لقد فروا كالنعاج الشاردة ... فيا ليت أبطال المقدس كانوا في حطين ليروهم يومئذ ما القتال! ألا تقدس الصليب وتبارك اسم الناصري! إن أورشليم لنا إلى الأبد! ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى لتحضر الاحتفال بالنصر. ¬

_ (¬1) النأْمة هي الصوت الضعيف الخفي، وتكون بمعنى صوت القوس (مجاهد).

وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم ويشربون دماءهم، ويصور لها ملكهم (صلاح الدين) كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة فترتجف أضلاعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها، وتصلّب وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع وبالعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها، وأن لا يُروها وجهه المخيف! وينقضي الاحتفال، ويرجعون من الكنيسة وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكّمهم فيه ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها وهي تداعب الآمال وتناجيها. حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوّها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد، أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة وأخذتها معها في أحلامها ... ونامت. ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتَميد، وكأن حصونها تدك دكاً، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر. وخالطت سمعَها أصواتُ العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال، فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة. فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فلم تلقه في مكانه، فخرجت تسأل ما الخبر، فخبروها أن صلاح الدين قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً وكادت تقتلعها من أساسها كما تُقتلع

الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة، وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كأبالسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم. وكانت مارييت واثقة من قوة الدفاع؛ فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مئة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم «بليان» ويصرفهم البطريرك الأكبر. ولكن هذه المفاجأة روعتها وأدخلت الشك إلى قلبها. وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى، وكل خبر شرٌّ عليها من الذي قبله. وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض قد رُفعت على الأسوار، وأنها قد عُقدت الهدنة على أن يخرج من شاء من المدينة في مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقي في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين. وتركت مارييت القوم في رجّتهم وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشد يدها على ولدها وتمضي متباعدة حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة محرقة، مختلطة بجثث الأجناد مقطعة الأوصال. فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً وهمت بالعودة،

ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره. وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون - كما تبحث - عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم، أمل «الوطن القومي» الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر وأُلقيت جثته! ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه. وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها، وتضاعفت به مصيبتها، وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام ومما أصابهم من التبديل والتغيير. وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت وجاءت في مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء لا تعرف عنها شيئاً، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد. وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد انتُزع من صدرها وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقلّه، وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل وانتثرت ثناياه الرطاب، و ... ولم تستطع المضي في هذه الصورة، فأغمضت عينيها وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أوجعت الطفل فصرخ وبكى ... ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة، وتتوهم حيناً أنها في حلم، وأنها ستتيقظ

فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم وتبدده أمام عينيها. وكان أشد ما روعها وحز في فؤادها انصراف الناس عنها وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، فكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: «أنا». وكرت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد والحب والوصال، ثم انتهت بالخيبة المرة والهزيمة الماحقة والفراق الطويل. ولم تفهم كيف يمكن أن يهوي في لحظة الصرح الذي أُقيم في مئة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً! أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟ وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب لم يكن جوابه غير: "لا أدري"! وظهر القمر نحيلاً هزيلاً من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياء شاحباً حزيناً جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل، تبرز من خلالها الدروع المذهبة وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة التي كانت في الصباح

أبطالاً كراماً تخطر على أرض الموعد، وكانت حصن الصليبية وسياجها، وعادت إلى البحث عن زوجها والتحديق في الوجوه، فمر بها شيخ كان يحدب عليها ويحب زوجها، فأدركته الشفقة عليها، فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة. وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها، فانقادت إليه طيعة وسارت معه، وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها: يا أبتاه، هل رأيت زوجي؟ فلم يحب أن ينبئها بما تكره فلوى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه، فقالت: وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتاه؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟ قال: ومن خبّرك بهذه الأكاذيب؟ إن المسلمين قومٌ كرام، أهل وفاء ونبل، وإن ملكهم صلاح الدين خير الملوك قاطبة ... ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه. فعاد يقول: ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا؛ فإنّا لما دخلنا القدس منذ مئة سنة قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد وحيثما وجدناهم، حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب منا بشفقة ولا لسان بإنكار ... وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: «بابا»، فيذكرها به، وما كانت ناسية. وإن كلمة «بابا»

لأجمل كلمة في الدنيا وفاتحة اللغات وأمها؛ فهي أول لفظ بشري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية: تختلف اللغات، وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر: ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر. وهي أحلى من كلمة «حبيبي» لأن من الحب ما يُمدح وما يُذَم، أما الأبوّة فخير كلها، والحب رابطة يصنعها الإنسان، أما الأبوة فمن صنع يد الله. ولكن مارييت لم تكن ترى في هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى؛ أولئك ينادون: «الله أكبر»، وهؤلاء يعولون وببكون. فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين علا قبة الصخرة، فأنزل الصليب الذهبي الذي لبث فوقها قرابة مئة سنة وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة. وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون ولا يصدقون أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج، وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم من أمتعتهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها، وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف، وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر. ورُوي لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا منه كل ما أحدث النصارى وردوه إلى حاله الأولى، وجاؤوا بالمنبر الذي

صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم وخطب عليه خطيبهم يوم الإسراء. وجاءهن شاهد عيان يصف لهن ما رأى وما سمع في المسجد، قال: ودخلت فلم يمنعني أحد ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعاً يجلسون على الأرض، لا تتفاوت مقاعدهم ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم وسكنت حركاتهم وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذين كانوا جنّ المعارك وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشّعاً. ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرساناً ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة ومشت فيها الروح. ووجدت هؤلاء الناس لا يُغلَبون أبداً ما داموا مسلمين ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة؛ إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخوَّفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء قوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا. كلا؛ لا يطمع قومنا بهذه الديار أبداً، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا؛ إنه لا أمل لنا فيها. لقد أنزلوا الصليب اليوم بعدما لبث مئة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية. إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد حطين، وكل وليد فيهم يصير صلاح الدين، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل. ونظرت مارييت فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل

الراية الإسلامية حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى. وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق، لا كرهاً بالمسلمين؛ فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام وكذّب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلدة التي يذكّرها كل شيء فيها بزوجها وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها. ومشت القافلة. وتلفتت مارييت إلى الوراء تودّع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها، المقدسة عندها، بلدتها التي وُلدت فيها ولم تعرف لها بلداً غيرها. ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبها فرأته خالياً منه، فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها فصار لعدوها، والذي خلّفت فيه زوجها، لا تدري في بطن أي طير أو في معدة أي وحش صار قبره ... وخلفت فيه ذكريات صباها وبقايا سعادتها وحبها. ولكنها فرحت بالخروج منه حتى لا ترى ما يذكّرها كل يوم بما فقدت، ولتلحق بديار قومها وأهل ملتها. سارت وهي سابحة في أفكارها، فتخيلت زوجها وهو يمشي معها في الموكب الظافر تحت راية الصليب، فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها وهن يبكين مَن خلّفْنَ من الأسرى والقتلى. وإذا بالجنود يقفونهن (¬1)، فسكتن من الفزع ¬

_ (¬1) «يقفونهن» هنا فعل متعدٍّ وليس فعلاً لازماً، وهذا الفعل يجيء بالصورة نفسها في حالتي اللزوم والتعدي على الأفصح والأصح. والدارج على أقلام الكتاب استعمال الفعل «أوقف» إذا أرادوا التعدية، وهي لغة رديئة (مجاهد).

ووقفن وأيقنَّ بالهلاك. فأرجعوهن، فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له، لم يرع مارييت وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان. هذا هو السلطان، هذا صلاح الدين المخيف، آكل لحم البشر وشارب الدماء! وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر ولا تبصر الأنياب ولا المخالب؛ لا ترى إلا الهيبة والنور والجلال. فلما وقفن عليه قال: ما تُردن؟ قالت امرأة: رجالنا في الأسر، أزواجنا ... وتصايحن وبكين، فبكى السلطان رقة لهن وأمر بإطلاق أسراهن، وأعطاهن الدواب والطعام والمال. لما رأت مارييت زوجها صحيحاً معافى نسيت الشقاء والهزيمة، وألقت بنفسها بين ذراعيه. لم تخف أن يبصرها الناس، فقد جعل كرم السلطان كل واحد يشتغل بسعادته. ثم مشت الطريق بهؤلاء النازحين، لم يمشوا هم فيها؛ لأنهم ملؤوها فلم يعد يُعرف أول لهم من آخر، فكأن الطريق كالنهر الممتلئ بالماء من منبعه إلى مصبه، نهر من الأسى والفرح، والهزيمة في المعركة والظفر بلقاء الأحبة، وكره الغالبين وشكرهم على إحسانهم. وأحست مارييت في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن، ورأت خلال الإنسانية والحق والنبل تتمثل فيه هو، لا فيمن رأت من رجال قومها. وكادت تحبه، ثم تنبه في نفسها

دينها وما علّموها من بغض الإسلام فتوقفت، وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد. وجعلت تقابل بينه وبين البطريرك الأعظم، الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد وكنوزها وكنس الكنائس وحمل كل ما كان فيها، ولم يُعطِ من هذا المال أحداً، لم يَجُدْ به على امرأة ضعيفة تمشي معه ولا على شيخ عاجز. وذكرت ما سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم لا بأموال الكنائس، وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود، والحنث بالعهود، فتمنت لو أنها كانت مسلمة. ولكنها لم تجهر بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها. وتدفق هذا النهر البشري يحمل أعجب أنواع السلائق الإنسانية وأغرب المتناقضات؛ ففيه حنو الأمهات وإيثارهن، وفيه أَثَرة الأغنياء وقسوتهم، وفيه الصبر وفيه الجزع، وفيه الصدق وفيه التزوير، وفيه البطريرك الذي يزعم أنه خليفة المسيح ليساعد الفقراء ويزهد في الدنيا، ثم يأكل مال الله وحده ويعرض عن الفقراء والمحتاجين. مشت هذه القافلة في الطرق المقفرة والمسالك الموحشة، لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام. كانت وجهتها طرابلس، فلما بلغتها بعد الجهد البالغ والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب، ماتوا وفي القافلة الأغنياء معهم الذهب وفيها البطريرك يحمل من أموال الله مئة ألف دينار ... لما بلغتها أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها، ثم بعث

رجاله فاستلبوها ما كان معها (¬1)، فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردّوهم، فأوقعوا بهم وقتلوهم، وكان فيمن قُتل زوج مارييت. وتاه من بقي في البرية كما يتيه الزورق في لجّة البحر، وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل، دنيا المسلمين؛ وكانت مارييت مع التائهين، تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها، ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء، تنزل بنزولهم وترحل برحيلهم، وتأكل إن أطعموها وتصمت إن تركوها، وكأنما قد خولطت في عقلها أو أصابها مس من الجنون، حتى بلغوا أسوار أنطاكية، فطردهم أهلها وردوهم (¬2)! فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف تكون الإنسانية. أما مارييت فبقيت مكانها ذاهلة كأنها لا تبصر ولا تعي، فأقبل عليها شاب من أهل أنطاكية من قومها، فأخذ بيدها وواساها، فانقادت له وسارت معه حتى احتواها منزله على سيف البحر، فسقطت من التعب والإعياء نائمة. وأيقظها لغط حولها؛ فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه: ما ندعك تنفرد بها، إنها أجمل امرأة وقعنا عليها. فيقول الأول: ولكنها صيدي أنا ... أنا الذي اصطادها. ¬

_ (¬1) كل ذلك حقائق تاريخية، رواها مؤرخو أوربا. (¬2) كما روى التاريخ.

فتفهم أن الخلاف عليها، على شرفها وعفافها، ويعود إليها ذهنها فتذكر الماضي كله، وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها، ويشد الغضب من عزمها فتقول لهما: ويحكم، أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم؟ أهذا هو دينكم يا أهل أوربة؟ فيضحكان ويقهقهان، فيشتد بها الغضب وتصرخ بهما: بأي لسان أخاطبكم؟ بلسان الدين وأنا أراكم ملحدين كافرين؟ بلسان الإنسانية وما أنتم إلا وحوش في جلد بني آدم؟ بلسان المروءة وقد فقدتموها ونسيتم حدودها؟ ويلكم، لا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل لوصايا السيد المسيح؟ لا والله؛ لستم للمسيح ولا لمحمد، أنتم للشيطان! أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية. إنكم لن تغلبوهم، لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً. كلا؛ إنهم أحق بها لأنهم أوفى منكم لمبادئ المسيح، إنهم أعرق منكم في الإنسانية. إن المستقبل لهم، إن لهم المجد والظفر ولكم أنتم اللعنة، لكم الخيبة والخزي. فلا تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً. وأين المعين على الحق المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم؟ وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرّة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها. وكان البحر ساكناً فصعدت من الماء فقاعتان، فيهما اللعنة

الحمراء التي خرجت من فؤادها المحترق على هؤلاء الواغلين على فلسطين! وعاد البحر ساكناً كما كان. وأُسدل الستار على القصة التي تتكرر دائماً منا ومن هؤلاء الغربيين: قصة نبل لا يدانيه في عظمته البحر، ونذالة لا يغسل البحر أوضارها ولا يطهّر الأرض من عارها. * * *

وديعة الله

وديعة الله كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة، واسع الغنى، قد جُمعت له اللذائذ وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصبُّ فيه جداول الذهب، وداره الجنة تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين؛ خمسون من الجواري الفاتنات اللائي حُملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحُشِدن فيها، كما تُحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض وزهرة جميلة في الجبل. ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة ومتعة العيش حتى اشترى هذه الجارية بخمسمئة دينار. وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالاً أحلى من أحلام الحب، وأجمل من بلوغ الأماني، وأطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياماً، وزاد فيها حتى بلغ بها هذا الثمن. وانصرف بها إلى داره وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها، ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم أن

تلمسها يد النسيم! ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه فيهرع إليها ليطفئها بلقاها؟ لقد صار هذا الحب مصدر لذته وسر حياته، ما كان يدري من قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس أنه يعيش حقاً وأن له قلباً، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر؛ كان ذلك عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب، فلما عرف الحب أدرك أن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم، فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقاً أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع. وتتالت الأيام، وزاد إقبالاً عليها وإعراضاً عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه، ولا يزداد إلا تعلقاً به وتمسكاً بأهدابه. وكان كل ما في الحياة من متع لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهبُ الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب؛ فكان يترك البائعين والمشترين ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل. وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته قال لها: "مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي". فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح! وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال،

وذهب الأثاث، وبيعت الجواري، ولم يبق في يده شيء يباع. فأقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأسَ على ذاهب ولم يحس بفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة ويجد في حبها غذاءه إذا جاع، وريّه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلاً من اللآلئ، وفي ريقها عسله المصفى وخمره المعتق، ومن ريحها عطره الفواح، وفي صدرها دنياه. ويرى الدار الخالية معها قصراً عامراً، والصحراء روضة مزهرة، والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً ... وأثمر الحب وجاء الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجئ في الربيع الطلق ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح والأيام القاتمة الدكناء، أيام الفقر والعوز. وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلي وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب. وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن ألمها في ضلوعه، وأن كل صرخة منها سكين (¬1) محمّى يحزّ في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئاً. وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال: إني أموت ... فاذهب فاحتَلْ بشيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً (¬2). اذهب وعجل؛ فإنك إذا أبطأت لم تجدني. * * * ¬

_ (¬1) السكين مذكر، وحكي فيه التأنيث. (¬2) دهن السمسم: معرب شيره، وعامة الشام ومصر تسميه اليوم: السيرج.

وخرج، وصار يعدو كالمجنون. أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً فيها، ليست منه ولا هو منها. وكذلك يصنع الحب! وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً ساكناً والناس قد أمّوا بيوتهم وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلّفها تعاني سكرات الموت وعجز عن إسعادها، ولا دار له إلا هذه الخرب التي فرّ منها. لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له في دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور. وتصور الوحشة المخيفة والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء وأَنَسَة الاجتماع. وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقاً مخلصاً وقال: "يا رب، إني استودعتك هذه المرأة وما في بطنها ... "، وهمّ بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلامَ الحب ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق «درابزين» (¬1) الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماء، ويفكر في ¬

_ (¬1) الدرابزين: فارسي معرب من القديم.

الموت هل يأتيه سهلاً هيناً أم هو سيذيقه العذاب ألواناً، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى، وهل يختنقون عاجلاً أم يبطئ عليهم الموت؟ وذكّره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة؛ أليس الله قد حّرم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكاً لله وحده أودعها جسدَه أمانةً ليستردها متى شاء، ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها؟ وذكر أنه توجه إلى الله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثماً ويسأله عونها وحفظها؟ وتنبه إيمانه فتردد، ووقف ... ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزماً مبرماً على الموت. وأغمض عينيه، وخفق قلبه من هول ما يُقدم عليه، وكاد يقفز، ولكن ... ولكن قوة لم يُطِقْ لها دفعاً ولم يملك معها حراكاً أمسكت به ... تلك هي الصيحة التي أحس بها من بعيد ثم رآها امتدت حتى بلغت الأفق الذي أطل منه الفجر، والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمرت النهر والشاطئين والمدينة، فأحس بها تشرق على نفسه كهذا الفجر فتبدد ليلها. ذلك هو صوت المؤذن ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا أجلَّ وأجمل نداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله». وسمع: «حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح» فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة ومجد الدنيا بالنجاح، وصبّت القوة والعزم في أعصابه فعدل عن الموت. ورجع إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها، فجئن إليها فسألهن عنها، وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت. وأخبروه بموتها، فلطم وجهه وشق

ثوبه، وانطلق ماشياً على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس (وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه مَن هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً). وجعل يطوي الأرض والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان. ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مساعداً معيناً فعاد إلى تجارته. وجعل يفكر - لمّا استقر به المنزل في داره - في بغداد، ويكتب الكتب يسأل ويستنجد ويلح ويتوسل. حتى كتب ستة وستين كتاباً (¬1) ولم يرجع إليه جواب. وأثرى وامتلأت يده بالذهب، ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشيةَ منزلُه وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفاً ... ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب. وتصرّمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكُهُ ثمان وعشرون سنة، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل التاريخي.

وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشاً وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن ... ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص فنهبوها وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً. ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل ومشارع المياه ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت ... وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره، ولم يرد أن يضم عظامَه إلا الثرى الذي ضم أعظُم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك. وجعل يفكر تفكيراً مبهماً ملتاثاً، يقطعه الجوع الذي يفري أمعاءه والتعب الذي يهد عظامه، فيرى أنه كان في حلم وصحا منه ... الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة والسعادة

والمجد ... لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألماً وتثير حسرة وتحرق القلب. وتمنى أن لو كان خُلق فقيراً منفرداً، ما عرف لذة الألفة ولا متعة الغنى، وعاودته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة، وأن يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبّت عليه نفحة من نفحات الإيمان فاستراح إليها، وذكر أنه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وأن وراء هذه الأحداث حكمة بالغة وقدراً حكيماً. فاطمأن إلى حكمة الله وسلّم أمره إليه ووجد بهذا الاطمئنان راحة وشبعاً. وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق، فنظر فإذا «زلال» (¬1) ضخم قد أقبل عليه. فلما حاذاه أشار ونادى وسأل صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن «الديموقراطية» كانت شعار العرب وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأميرَ مجدُه أن يقف لفقير سائل ويحمله معه. فأدخله الزلال وأطعمه وخلع عليه ولم يسأله عن خبره، لأن النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يُسأل وقبل أن يجيب. ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق والسفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهواً وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغماً سائغاً وحباً ومجداً، وترنحت القصور طرباً، وانتشت الرياض أنساً، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام، ¬

_ (¬1) كلمة عباسية مولدة، معناها: السفينة الحربية.

وتراقصت الأمواه من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر. وكانت بغداد هي الدنيا، وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء ... وكذلك تكون الدنيا! وكان دجلة يسير مزهواً طرباً؛ فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهّده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرَ أياماً أحلى، ولا مجداً أبقى، ولا ناساً أنقى وأتقى، من تلك الأيام وناسها. وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى، كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة الحب والحرب، والعز والهوى؛ هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق. وكان يمضي إلى غايته مسرعاً كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعة من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالاً، وعلى العقول علماً وكمالاً، وعلى المسلمين عظماً وجلالاً، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدناً وسلاماً وأمناً، وضوأت لهم طريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.

وأنزله الزلال على الجسر (حيث قام تلك الليلة) فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بأن هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها. ورأى الناس من حوله، فهمّ بأن يسألهم درهماً يشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها؛ ثمان وعشرون سنة ليست يوماً ولا يومين، دهر طويل وُلد فيه ناس ومات ناس، عمر كامل ... وتهافت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطماً مكدوداً يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها ... حتى بلغ الدار ونظر، فإذا الخربة التي خلف فيها الحبيبة قد صارت داراً فخمة على بابها الجند و «الشاكرية» (¬1)، فوقف ينظر إليها من بعيد. هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبراً، ولكنها أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريباً في بيته منكراً في بلده؛ إنه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن أثر واحد من دنياه التي كان يألفها؛ فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، ولا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده ... ثم استغفر الله وأناب إليه؛ إنه ¬

_ (¬1) الشاكرية جمع «شاكري»، وهو الأجير أو المستخدَم. قال صاحب القاموس إنها لفظة فارسية معربة أصلها «جاكر» (مجاهد).

هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء إنه هو وحده الذي يصرف الأكوان. وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد أن حُرم آخر أمانيّه، وهو أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة. ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولم يفكر في شيء؛ فقد تواردت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلباً، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كلها مصيبة ... ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها أو يؤلمه فقدها. وتلفّتَ ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة وأودعه أعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة، فإذا هو يرى دكان بقال (كان يعرفه) لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطلل البالي في المدينة العامر، فأسرع إليها. "وكان فيها شاب حَدَث علم منه أن أباه البقال مات من عشرين سنة، وأن الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وأن لهذا الرجل قصة عجباً؛ فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئاً فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى. ثم وُلد للرشيد مولود فطُلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهن، فدُلَّ على الجارية فقبل ثديها وصارت ظئره. وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون" (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين الهلالين الصغيرين من النص التاريخي للقصة.

ويسمع الرجل القصة فيحس أن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحس أن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب قد طالت حتى غدت دهراً، وأنه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياماً وتكون مع ابنها أياماً، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح آلامَها الأيامُ ولم ترقأ دمعها. ويدعه الرجل ويركض إلى الدار، يشعر أنه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى عهوده الماضيات، إلى عهد الحب الضاحك ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسي في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكراً لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، وهذه الحبيبة التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رُفاتها قائمة تنتظره لتمنحه عطرها وسحرها، وهذا الجنين الذي خلّفه على باب الموت قد غدا شاباً ممتلئاً قوة وأيْداً ومالاً ومجداً. ووصل إلى هذا الشاب، فقال له: ما تبتغي؟ فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهملت مقلتاه. ولم يجد ما يمهّد به الحديث، فقال له: أنا أبوك! ونظر الشاب شاكّاً، وقال له: اتبعني. فأتبعه، فاجتاز به صحناً بعد صحن حتى انتهى إلى مكان

الحُرَم (¬1)، فأقامه أمام ستارة وذهب ليسأل أمه، ودل الرجلَ قلبُه على أن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك، وتضحك وتبكي، وتقول ما لا تدريه ... ويدير الشاب وجهه؛ فما يحسن به أن ينظر إلى أبويه وهما يجددان عهود الهوى والشباب. * * * ¬

_ (¬1) لفظة كثيرة الدوران في كتب الأدب القديمة. وحُرَم الرجل (بضم الحاء لا بفتحها) عياله ونساؤه، وهي المحارم (جمع مَحرُمة ومَحرَمة، بضم الراء والفتحُ لغة فيها) (مجاهد).

محمد الصغير

محمد الصغير قال: كنت يومئذ صغيراً لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي - رحمه الله - يضطرب ويصفرّ لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من «الكتاب المقدس»، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الإسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها. ثم يخرج منها محمر العينين كأنه بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إليّ بلهفة وحزن، ويحرك شفتيه فعل من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاّني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً. وكنت أجد أمي تشيعني - كلما ذهبت إلى المدرسة - حزينة دامعة العين، وتقبّلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية، ولا تفارقني إلا باكية، فأحس - نهاري كله - بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً، ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق كأني كنت

غائباً عنها عشرة أعوام. وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية، فأعجب وأتألم، وأذهب أظن في نفسي الظنون، حتى إني لأحسب أني لست ابنهما وأني لقيط جاءا به من الطريق، فيبرح بي الألم، فآوي إلى ركن في الدار منعزل، فأبكي بكاء مراً. وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في مثل سني؛ فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب فأجلس وحيداً، أضع رأسي بين كفيّ وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات، حتى يجذبني الخوري من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. وولدت أمي مرة، فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل لم يبتهج، ولم تَلُحْ على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمّد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرقٌ برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي ... فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة ... ثم تغمض عينيها. فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي. حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تتلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان

تومض على شرفاتها ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس. فخفق قلبي خفوقاً شديداً واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفاً في الظلام لحظات كانت أطول عليّ من أعوام، ثم أشعل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفتّ حولي فرأيت الغرفة خالية، ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلابساط وكتاب موضوع على رف وسيف معلق بالجدار. فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتاً ينظر إليّ نظرات غريبة اجتمعت علي، هي ورهبة المكان وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب وانتقلت إلى دنيا أخرى لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. ثم أخذ أبي يدي بيديه بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت: يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً. وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك، فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرّض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال «ديوان التفتيش». فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي. وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش وأرى ضحاياه كل يوم (وأنا غاد إلى المدرسة ورائح منها)؛ فمن رجال يُصلبون أو يُحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن أو تبقر بطونهن ... فسكتُّ ولم أُجِبْ.

فقال لي أبي: مالك لا تجيب! أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟ قلت: نعم. قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟ قلت: نعم. قال: اقترب مني. أَرهِفْ سمعك جيداً فإني لا أقدر أن أرفع صوتي؛ أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى ديوان التفتيش ... فيحرقني حياًً. فاقتربت منه وقلت له: إني مُصغٍ يا أبت. فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بني؟ قلت: لا. قال: هذا كتاب الله. قلت: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله. فاضطرب وقال: كلا؛ هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله، النبي العربي، صلى الله عليه وسلم. ففتحت عيني من الدهشة، ولم أكد أفهم شيئاً.

قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة. فظهر هناك ... وراء البحار والبوادي ... في الصحراء البعيدة القاحلة ... في مكة، في قوم بداة مختلفين، مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد والقوة، والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا. وكان ملكها جباراً عاتياً وحكومتها ظالمة غاشمة وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في إسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم، وأمّنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمئة سنة ... ثمانمئة سنة، جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا. نعم يا بني، نحن العرب المسلمين ... فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به: ماذا؟! نحن؟ ... العرب المسلمين! قال: نعم يا بني؛ هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. نعم، نحن؛ نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا، نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن فصار يُقرع فيها الناقوس، نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله، فصارت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان، يرتلون فيها الإنجيل ... نعم يا بني؛ نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع إسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا أو شهيد من شهدائنا. نعم؛ نحن بنينا هذه المدن، نحن أنشأنا هذه الجسور، نحن مهدنا هذه

الطرق، نحن شققنا هذه الترع، نحن زرعنا هذه الأشجار. ولكن منذ أربعين سنة ... أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خُدع الملك البائس، أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الإسبان وعهودهم، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب ليموت هناك وحيداً فريداً شريداً طريداً. وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال، فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشؤوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا لينشئهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا وتكفير أولادنا. أربعون سنة يا بني، ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحمله جلاميد الصخر، ننتظر فرج الله، لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد. هذا هو السر يا بني فاكتمه، واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك. ولست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حياً حتى أعلمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فقم الآن إلى فراشك يا بني. * * * صرت من بعد كلما رأيت شرف الحمراء أو مآذن غرناطة تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي، وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها، وأقول لها:

أيتها الحمراء ... أيتها الحبيبة الهاجرة! أنسيت بُناتك وأصحابك الذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم؟! أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال؟ أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وإن أمروا لبى الدهر. أألِفتِ النواقيس بعد الأذان؟ أرضيت بعد الأئمة بالرهبان؟! ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه عليّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه الحرف العربي ويقول لي: هذه حروفنا. ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نُصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة. وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر لا يفارقه أبداً، وكان يمتحنني فيدس أمي إليّ فتسألني: ماذا يعلمك أبوك؟ فأقول: لا شيء. فتقول: إن عندي نبأ مما يعلمك، فلا تكتمه عني. فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً. حتى أتقنت العربية، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد

الدين، فعرّفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا. * * * واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً، ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجلهم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم، ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا. وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة فأفوز بها فوزاً عظيماً، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر وحملتك الأمانة الكبرى التي كدت أهوي تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء. ومرّت على ذلك أيام، وكانت ليلة سوداء من ليالي السّرار (¬1)، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد ¬

_ (¬1) السّرار (بفتح السين وكسرها): الليلة الأخيرة أو الليالي الأخيرة من الشهر، والظاهر أنها قد سُمّيت كذلك لأن القمر يستسرّ (أي يخفى) فيها (مجاهد).

يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين. فأقول له: أبي وأمي؟ فيعنف عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟ فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام قال لي: اصبر يا بني؛ فقد كتب الله لوالديك المؤمنَين السعادة على يد ديوان التفتيش. * * * ويخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف سيدي محمد ابن عبد الرفيع الأندلسي، وينفع الله به وبتصانيفه. * * *

ابن الحب

ابن الحب «الطائف» ... تلك القرية المسحورة التي سارت ذات يوم (كما تروي الأساطير) (¬1)، سارت من ربوع الشام بينابيعها وجداولها، وبساتينها ورياضها، وزهرها وثمرها، فطافت حول الكعبة ثم تسلقت الصخور حتى استقرت في أعالي جبل «غزوان»، وهجعت على سرير من السحاب حالمة بالسهول والأنهار والنعمة والخصب، لتستيقظ مع الفجر فتصنع العظماء والقادة وتقذف بهم إلى الدنيا الواسعة. * * * وكانت منازل الطائف كأنها أسراب من العشاق قد تغلغلت في هذه البساتين، لتفيء إلى عزلة سعيدة، تنعم فيها بذكرى اللقاء الماضي وتحلم بلقاء جديد .. وأوى الزرّاع إلى بيوتهم فناموا بين أهليهم كما نام الرعاة إثر نهار حافل بالتجوال الفاتن، في هذه الجبال التي تتفجر صخورها السود بالنبت الأخضر والزهور البرية ¬

_ (¬1) راجع ياقوت في «معجم البلدان».

ذوات الألوان العارية. ولم يبق في المدينة عين ساهرة إلا عينَ سيد غريب (يذكّره هذا الليلُ الساجي وهذا البدرُ المطل بلدَه، فيؤرقه الشوق، فهو يطوف بهذه المرابع ويده على قلبه) وعيوناً أخرى خلال تلك البيوت التي تبدو سُرُجها المضيئة - من بعيد - كلِيلةَ الضوء «ترتجف» من الخجل وهي تضرب بأشعتها تائهة وسط الفضاء، حيث يجلس على العتبات فتيات بائسات يعرضن في استحياءٍ أجساداً قد عرّتها هاتيك المهنة الآثمة، ينتظرن عابراً يسوقه المقدار إليهن فيبعنه اللذة ويطعمنه من لحمهن ... ليعطيهن دراهم يحملنها إلى أسيادهن الذين يكرِهونهن على البغاء، ولا يكون نصيبهن بعد ذلك إلا أرغفة من الخبز معجونة بالدم والشرف والوحل. تلك هي سنة قوم لم يتأدبوا بعد بأدب الإسلام! فلما مال ميزان الليل، وغلبهن التعب، ولم يطرقهن طارق، تسللن إلى بيوتهن فنمن على فرش العار إلى الصباح، ليستقبلن من يقذف به القدر إليهن من الرجال. ولم يبق إلا فتاة صغيرة، تنظر إلى السماء بعينين زرقاوين بلون السماء، تفيضان بالطهر ... رغم أنهما في وجه بغي، ولها فم صغير حلو ينطق بالصفاء من غير أن تتحرك شفتاه الرقيقتان، وكأن هذا الفم وردة من ورد الجنائن، غير أنها لا تذوي ولا تذبل، وأنها من لحم ودم. وكانت من بنات الروم؛ فما تحترف عربية حرفة الخنا. وكان لها شعر أشقر متموج يبرق تحت أشعة القمر كبريق الذهب، وجسم أبيض لدن له لون العاج، ولين الحرير، وسحر الحب، وفعل الخمر ... فهي وردة نمت في غير أرضها، فازدادت - بِنُدرتها - جمالاً إلى جمالها.

وكان مكان هذه الفتاة بين ذراعَي أم تحنو عليها أو زوج يحميها، يكتم سر هذا الجمال أن يفشو ويستعلن وتعبث بقدسيته العيون السارقة والأيدي المجرمة .. ولكنّ مَن بيده أمرها لم يرَ لها إلا هذا المكان الذي تنتهبها فيه العيون وتعبث بها فيه الأيدي وتفترسها فيه سباع البشر. أفرأيت الزهرة اليانعة تلقى بين ألسنة اللهيب، والحَمَل الضعيف يرمى بين أنياب الذئاب؟ كذلك كانت هذه الفتاة وقد قذفت بها الحياة بين ذراعي كل وَبْش (¬1) فظ غليظ من ذئاب الناس وكلابهم. هي زهرة ولكن الرياح العاتية قطفتها من غصنها ثم ألقتها بين الأشواك البرية لتجف عليها وتذوي، وهي وردة ولكن النهر الجياش اختطفها من منبتها ثم رمى بها في الحقل لتموت تحت أرجل البهائم والأناسي. لبثت هذه الفتاة جالسة تطارد النوم الذي يعبث بعينيها الناعستين من غير نعاس، تأمل أن تجد امرءاً يدفع إليها المال الذي فرضه عليها سيدها حين أرادها على هذه الحياة الداعرة، فنزلت على إرادته وجعلت جسدها مائدة لكل جائع. وهل تستطيع له دفعاً وهي أمَته وملك يمينه، حملها من وطنها البعيد فنهل من كأس جمالها حتى شبع وروي، فوضع الكأس على حافة السبيل تلغ فيها الكلاب؟ إنه يصرفها كما يصرف دابته، ويصنع بها ما يصنع بثوبه، يلبسه أو يرميه في الطريق أو يهديه إلى صديق أو يرضى له التخريق والتمزيق. وذكرت عرضها الذي مزقته مطامع سيدها، وجسدها الذي أبلته وحشية الرجال طلاب اللذة من كل شكل ¬

_ (¬1) الوَبْش: واحد الأوباش من الناس؛ وهم الأخلاط والسفلة (مجاهد).

ولون، فانطلقت تبكي، وذهبت هائمة على وجهها حتى ابتعدت عن هذه البيوت، وإذا هي بشبح يسير في شعاع القمر متشحاً بثوب أسود لا يبين منه شيء، فظنته من رجالها ومشت إليه، فلما رآها ارتاع وارتد، وعجب أن يرى فتاة صغيرة كأنما هي حوراء من حور الجنان تسير تحت ذوائب الليل، وسألها: ما لك أيها الفتاة؟ - ما لي؟ ماذا ترى فيّ؟ فلم يجب وجعل يحدق فيها تحديقاً شديداً مأخوذاً بجمالها، وهي تنظر متعجبة، لأنها كانت من السذاجة والصفاء بحيث لا تدري جمالها وفتنتها، ولأنها لم تجد من الرجال من يرفع عينيه إلى وجهها، وإنما وجدتهم جميعاً يخفضون عيونهم إلى غير الوجه. فما بال هذا الرجل؟ ومرت دقائق حسبها كل منهما دهراً طويلاً، ثم قال لها بصوت حلو رقيق (وقد أشفق عليها أن تنال برودةُ الليل من هذا الجسم اللدن الناعم الذي خُلق لينعم بدفء الحب): لِمَ لا تدخلين إلى دارك؟ فأجابته هذا الجواب الذي ألِفَته حتى ما تفكر في معناه، ولا تدري منه إلا أنه واجب عليها يجب أن تؤديه كآلة جامدة: بعشرة دراهم ... هل تدخل؟ ووثبت بين يديه تسعى إلى الدار بخفة ظبي أفلت من شبكة الصياد، وتبعها حزيناً متألماً، يفكر في هذا الجمال كيف تعلق به الأرجاس، ويأسى لها ويتمنى لو استطاع أن يسمو بها إلى أفق

الطهر والعفاف. حتى بلغت الدار فدخلت ودعته إلى الدخول، ثم أغلقت الباب ووقفت بين يديه تنظر ما يريد. يا لهذه المسكينة التي عاشت وسط الرجس، ولكن قلبها ظل نقياً طاهراً لأن الخطيئة لم تصل إليه. فلم يُبدِ الرجل حراكاً، فجعلت تنظر إليه حائرة وقد بدأت تخشاه وتظن به الظنون. ما له لا يصنع ما يصنع سائر الرجال، يأخذونها عارية كشعاع القمر، فيعبثون بها ويسخّرونها للذّاتهم كأنما هي أداة لا تعقل ولا تشعر، ثم يلقونها كما يلقي المرء برتقالة امتصّها حتى لم يدع فيها إلا قشرة خالية من الماء. ما له لا يفعل شيئاً من هذا؟ إنه ينزع ثوبه فيلقيه عليها يحفظها من برودة الليل، فيبدو من ورائه شبابه وجماله وثيابه الغالية، ثم يأخذها برفق ويجلسها على ركبتيه، وينطلق يسائلها عن أصلها ومنبتها، ويلقي في أذنيها من أحاديث الحب ما لم تسمع مثله من قبل، فيحيي في نفسها الطهر والفضيلة، ويغسلها من أدران هذه الحياة الداعرة فتحس كأن جناحيها اللذين حطمتهما يد الأيام قد نبتا من جديد، وتحس بأن هذا السيد الذي هبط عليها هذه الليلة هبوط ملك الرحمة يطير بها في آفاق طال عهدها بفراقها، آفاق واسعة كلها نور وعطر. وتذوق المرة الأولى لذة العاطفة التي تمتزج بها النفسان وتتحدان، وتعرف حرارة الصدر المحب وحلاوة العناق اللذ (¬1). ¬

_ (¬1) قال في اللسان: اللذّ واللذيذ يجريان مجرى واحداً في النعت. قال: ومنه قوله تعالى: {من خمر لَذّةٍ للشاربين}، أي لذيذة (مجاهد).

ولما خرجت تشيعه كان الليل قد تصرّم وبدت طلائع الفجر من وراء الصخور، تغسل الأرض بالنور بعد أن خلعت عنها رداء الظلام. فوقفت الفتاة تنظر إليه وقد أحست بأن هذا الحب قد نقّاها من رجسها، وأن الفجر قد سطع على قلبها فبدد ظلماته. وتنبهت في نفسها ذكريات ماض بعيد حسبته قد مات منذ زمن طويل فإذا هو حي قد أكسبه الحب يقظة وقوة، وطفقت صور هذا الماضي تتدفق على نفس الفتاة فتبصر صباها الطاهر كثلج الصباح وحياتها في تلك الخمائل البعيدة من وطنها النائي كفراشة تطير خلال الورد ... ولكنها لا تتبين هذه الصور ولا ترى منها إلا خيالات ضعيفة. لقد مشت عليها السنون فمحتها بأقدامها ... ثم تفكر في حياتها الحاضرة التي تخوض حمأتها الدنسة، وتعرض لها صور هذه الأجساد البشعة القذرة التي مست جسدها وعانقته وقبست منه لذتها، فيعروها ارتجاف شديد، وتواري وجهها بكفيها حياءً وخجلاً ... ثم تذكر هذا الحب الذي مس قلبها بكهربائه فأضاءه وزكّاه، فتعتزم التوبة لتصل ماضيها البعيد بمستقبلها الذي طهره هذا الحب الوليد. * * * وبزغت الشمس ولم يغمض للفتاة جفن، فدخلت منزلها تستريح، وإذا هي برجل يدخل عليها يبتغي أن تمنحه اللذة. فتتأمل في وجهه فإذا هو بكر الثقفي، أشد شباب الطائف وأقواهم. فيرعبها مشهده، ويروعها كأنما هي عذراء لم تفارق خدر أمها، فتبتعد عنه مضطربة، فيعجبه ذلك منها ويظن أنها تداعبه، فيبالغ في الاقتراب منها ويأخذ بيدها، فتحس لملمسه كأن حية سوداء قد

التفَّتْ على عنقها، فيقشعر جسمها كله ويقف شعر رأسها وتصرخ به: ابتعد عني! فيضحك الرجل ويكركر من الضحك، ويشد على يدها ليجذبها إليه، فتعود إلى صراخها. - ما للغزال نافراً هذا اليوم؟ تعالي! - قلت لك دعني، دعني؛ لست لك. فيصيح بها ساخراً: لمن أنت إذن أيتها العذراء البَتول؟ ألزوجك؟ ويوغل في الضحك ويضمها إليه، فتلطم وجهه وتوغل في الصراخ، فيغضب الرجل ويقسو عليها. - ألم تقل لك إنها لا تريدك؟ صوت هادئ متزن جعل بكراً يرسل الفتاة ويلتفت إليه، فيرى سيداً كامل الشباب موفور الرجولة، بثياب غالية تشعر بالسيادة والغنى. وتطمئنّ الفتاة وترى فيه حبيبها ومنقذها، ثم يخالطها الخوف عليه لأنها تعلم أي رجل هو بكر، ذلك الذي لا يقوم له شاب في هذا البلد ولا كهل، وتنتظر نهاية هذا العراك وقد أعدت نفسها للدفاع عن حبيبها. ويصيح به بكر مغضباً: من أنت أيها الرجل الذي يتجرأ على بكر الثقفي؟ ويرفع يده عليه، ولكن الرجل يغض من يده ويقول له هادئاً: أتحب أن تعرف من أنا؟ اقترب لأخبرك.

ويلقي في أذنه ذلك الاسم الكبير، فتسقط يد بكر على جنبه، ويعتذر لهذا السيد، ثم يخرج يائساً يفتش خلال البيوت عن بنت أخرى تبيعه اللذة. ويأخذ هذا السيد بيد الفتاة إلى دارها التي أعدها لها. وانعقد الرباط بين قلبيهما الحبيبين، فأصبحت هي حياته لا يعرف الحياة إلا ساعة يكون معها، واختُصرت دنياه كلها فكانت نظرة واحدة في عينها، وملأت نفسه هذه الفتاة التي ظهرت له فجأة كما تظهر الشمس من وراء الجبل فتملأ الوادي نوراً وحياة. لقد نسي هذا السيد المجد الذي ينتظره في مكة، والمعركة الكبرى التي ترقب فيه قائدها ومديرها. ذلك هو الحب، أقوى كائن وأعظم مخلوق. يستطيع الحب أن يمحو من النفس صورة المجد والجاه، والفضيلة والرذيلة، والطموح والحسد، ولكن لا يمحوه شيء. الحب أحجية الوجود. ليس في الناس من لم يعرف الحب، وليس فيهم من عرف ما هو الحب. الحب مشكلة العقل التي لا تحل، ولكنه حقيقة القلب الكبرى. الحب أضعف مخلوق وأقواه، يختبئ في النظرة الخاطفة من العين الفاتنة، وفي الرجفة الخفيفة من الأغنية الشجية، وفي البسمة المومضة من الثغر الجميل ... ثم يظهر للوجود عظيماً جباراً فيبني الحياة ويهدمها، ويقيم العروش ويثلّها، ويفعل في الدنيا الأفاعيل. * * *

كانا يلتقيان دائماً فيتحدثان عن ماضيهما وحاضرهما، ويكشف لها من أسرار قلبه مثلما تكشف له من أسرار قلبها، فكان هذا التكاشف طريق الوحدة والفناء في الحب؛ حتى إذا لم يبق لأحدهما سر يكتمه عن الآخر، لم يبق له «أنا» ينفرد بها عنه. لقد طهرها حبه، وصهر ماضيها الملوث فأحاله بنار الهوى جوهراً خالصاً، ورفعها من الحضيض الضيق الذي كانت تتقلب في ظلماته إلى سماء عالية رحيبة. وليس كالحب (إذا لم يكن في حرام) مطهراً للنفوس، ومصلحاً للأمم، وحافزاً إلى الفضيلة. لولا الحب ما أشرقت الشمس وغمرت الأرض بنور ربها ولا منحتها الدفء والحياة. ولولا الحب ما التفّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطفت الظبية على الطلا في الكِناس (¬1) البعيد، ولا حنا الجبل على الجبل في الوادي المتعزل، ولا أمد الينبوع الجدول الساعي نحو البحر. ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع، ولا كانت الحياة. كانا يخرجان كل غداة حين تبسم الشمس بسمتها الأولى، فيجلسان على هذه الصخرة المنفردة المطلّة على البساتين القريبة والقفار البعيدة، فيشاركان العصافير غناءها، والورد ضحكه، والنسيم همسه، والنور طهره وصفاءه. فيتحدثان ويتناغيان كحمامتين ضمهما وكر، وهما ينظران إلى الرعاة يسوقون أغنامهم ¬

_ (¬1) الطَّلا هو ولد الظبية، والكِناَس مأوى الظبي بين الشجر (مجاهد).

نحو السفوح العاشبة، يغنون أغانيهم الساحرة أو ينفخون في الناي تلك النغمة الفاتنة التي يتوارثها الرعاة جيلاً عن جيل فلا يفقدها التكرار حلاوتها ولا جمالها. فإذا انبسطت الشمس وتصرمت الظلال أويا إلى الدار فعاشا روحاً واحدة في جسمين ... ثم إذا وقفت الشمس للوداع خرجا مرة أخرى إلى الصخرة يودعان الشمس، فينظر كل منهما بأربع عيون، ويلقي هامساً في أذنيها أغاريد الحب، فتسمعها بروحها وتجيب عنها بعينيها، حتى تغيب الشمس ويلقي الليل ذوائبه السود على الدنيا، فيعودان. الحب ربيع الحياة المزهر، ولكن الربيع ينتهي ويأتي الصيف بحرارته، والخريف بشحوبه، والشتاء بزمهريره، ولا بد أن ينتهي الربيع. أيام الحب كأس مترعة بالشراب، ولكن الكأس تفرغ ويحس الإنسان بالظمأ، ولا بد أن تفرغ الكأس. عاشا في ليالي الحب ما عاش الصيف، فلما بدت طلائع الخريف وغمرت الطائف وصخورها علا صوت الواجب من بطن مكة يدعو هذا السيد، ولم يبق بد من الفراق. إن الحرب تدور هناك وراء هذه السفوح البعيدة، يخوض قومه لظاها، أفيبقى في نجوة من لظى الحرب وهو السيد الشريف والفارس المعلم؟ أيتقلب قومه في غمار المعركة المشتعلة ويتقلب هو في أحضان امرأة يقطف من عينيها السحر ويذوق من فمها الخمر؟ لو أن رجلاً من قريش لم يكن في العير ولا في النفير رضي بهذا الفرار لكان له سبّة الدهر، فكيف بسيد العير وصاحب النفير؟ لم يبق بدٌّ من الفراق، فليمزق قلبه شطرين، فيضع شطراً في هذه الأعالي المخضرّة الساحرة يحلم بالحب ويتجرع الذكريات، ويذهب بالشطر الثاني

إلى ميدان المعركة ليألم في سبيل المجد، وليحمل جرحه الدامي ليأسو جرح بلده، ليضحِّ بالحب في سبيل الواجب (أو ما كان يراه بجاهليته وشركه واجباً). وتهيأ للوداع. وعادا يزوران مرابع الهوى ومجالس الحب فيُودعها ذكرياته وقلبه؛ لم يدع بقعة بين صخور «الشفا» المطلة على تهامة ومن وراء تهامة البحر، ومشارف «الهدا» التي تشرف على سفوح غزوان ومن ورائها وادي الأراك وعرفات ومكة إلا زارها، فقعد على صخرة «الهدا» وأخذ فتاته بين ذراعيه، يضمها ويخفي وجهه خلال ثيابها، ويشم عبقها كأنما يريد أن يتزود منها لأيام الفراق. وأُخذت هي بنشوة الحب فجعلت تشد بيدها عليه وتعبث بشعره، وتريح رأسها على رأسه، وتتمنى لو أن هذا الحب يصنع المعجزة التي ينتظرها المحبون أبداً ... أن يمحو هذه «الأنا» و «الأنت» ويجعل العاشقين شخصاً واحداً كما جعلهما روحاً واحدة. فلما أبطأت المعجزة وأيست منها جعلت ترى - وهي بين ذراعيه - كأن بينهما بعد المشرقين. وكان عند أقدامهما بستان جميل، قد خالطت خضرته حمرة الشقائق الفاتنة، فرأته يحدّق فيه وفي عينيه دمعة، فراعها ما ترى ... وانطلقت تسائله، فقال لها: اسمعي يا فتاتي. قالت: أنا سامعة. قال: أريد أن تغفري لي.

قالت: وممَّ تستغفرني أيها الحبيب؟ قال: لقد كان حبي وبالاً عليك. لقد كانت حياتك ساجية كليل الطائف، فملأها حبي زمهريراً وبرقاً ورعداً. لقد كانت مثل اللجّة الهادئة، فهاجت فيها الأمواج. لقد أورثتك الألم، والألم حصاد الحبّ، فهل تغفرين لي؟ قالت: أي ألم يا حبيب؟ أنا سعيدة، سعيدة جداً. قال: ولكن الواجب يدعوني إلى الذهاب. بودي ألاّ أذهب وأن أبقى معك أبداً، ولكن ماذا يصنع الإنسان - يا حبيبتي - إذا حكم القدر؟ أتحبين أن يقال إني فررت من المعركة؟ قالت: وأنا؟ قال: سأعود إليك، أحلف لك أني سأعود. قالت: وهذا الذي في أحشائي؟ قال: ماذا، ماذا تقولين؟! أأنت حامل؟ قالت: نعم. قال: آه ... ابني. واستطاره الفرح فأقبل يضع قبلاته من وجهها وعنقها حيث تبلغ شفتاه. قال: ليتني أبقى حتى أراه؛ ليتني أبقى. هذا ابن الحب. قالت: ابقَ، ابقَ، أتوسل إليك، ماذا تخشى؟ قال: أخشى العار؛ إنها سبّة الدهر، فدعيني أذهب. سأعود

إليك، أفتنسينني إذا أنا ذهبت؟ أتلقين بنفسك في أحضان غيري؟ لا، لا؛ إنك لن تنسي، إنك ستقومين على تربية ابننا، ستنشئينه على العظمة والمجد ليكون رجلاً يحمل قسطه من إرث أبيه. وإذا سألك عن أبيه فلا تخبريه من هو أبوه. دعيه ينشأ مستقلاً كالزهرة المنبثقة من صخر الجبل، ويعيش حراً كالطائر الذي يغرد على كل غصن. لا تخبريه من هو أبوه، بل أعديه لفهم هذه الحقيقة، حتى إذا صار أهلاً لفهمها، وغدا كفواً لحمل هذا الاسم كنت أنا الذي يخلعه عليه، وإن لم أكن حياً فسأدع له من يخلع عليه اسمي. * * * ووقفت الفتاة تنظر إليه وهو ينحدر في هذا الطريق الضيق، الذي يختفي حيناً وراء الصخر ثم يظهر ويوالي سيره نحو الرمال، حتى غاب عن ناظريها، فتلفتت تلقاء البلد فإذا هي تنكره، وإذا هي لا تعرف من هذه الدنيا شيئاً بعد أن غابت عنها دنيا الحب. فخفق قلبها واضطرب، وجعلت تنادي حبيبها وتلح في النداء، وتشير إليه وقد غاب عن ناظريها وراء الأفق البعيد. فلما لم تجد مُجيباً تيقنت أنها لن تلقاه أبداً، فخرّت على وجهها باكية منتحبة. ولم يبقَ لها من الحياة إلا ذكريات هذا الحب الذي وُلد شاباً قوياً ولكنه مات طفلاً صغيراً، وهذا المال الذي أبقاه لها الحبيب تنفق منه على نفسها وولدها. فكانت تتألم وحيدة كشمعة تشتعل في البهو الخالي، وتقهر نفسَها الأحزانُ فلا تجد من تبثه أحزانها. لم يكن لها إلا الحب، فكانت تعانق طيف حبها في الليل وتسايره في الطريق، وتناجيه في الصباح وتناغيه في المساء، وتصحبه إلى

هذه الأماكن التي عرفت فيها السعادة، ولكنها لا تجد في كل ذلك إلا الألم. إن كلّ ما ترى يذكّرها بالحبيب فيزيدها لوعة، ومتع ليالي السعادة تستحيل إلى آلام. فيا ليت الإنسان لا يذكر، إذن لما تألم! إن ذكرى اللذة مؤلمة، وذكرى الألم لا تسر .. أوَليس من أكبر النعم على الإنسان أن ينسى! لولا النسيان كانت الحياة لا تطاق. لقد قوي حبها واشتد، ولكنه استحال من طفل يرقص في شعاع الشمس يلهو بالألاعيب إلى شيخ يائس يتأمل في الظلام. لقد نزع ثوب الفرح الزاهي ولبس ثوب الكآبة القاتم. لقد انحصرت حياتها في أمر واحد هو التفكير في الحبيب الذي أكسبه طول الفكر صورة سحرية بارعة لا يملكها بشر، فكانت تقيس مَن ترى من الرجال بهذه الصورة التي استقرت في خيالها فلا يعجبها رجل ولا تحفله، بل لو أنها نظرت إلى صاحب هذه الصورة بشكله الحقيقي لما أعجبها! أرادت أن تُغرق غرامها في لجة العبادة، فكانت تؤم معبد قومها في الصباح الباكر فلا تجد في هذه الآلهة المصنوعة من الحجر ما يثير في نفسها الورع والخشوع، وتتمثل لها مطرقة النحّات الذي صنع هذه الآلهة ... فتعاف عبادتها ولا يروقها منها ما كان يروقها. ما أشقى المحبين! يمشون كما يمشي الناس، ويأكلون كما يأكلون، ولكنهم يعيشون في دنيا لا يعرفها الناس ولا يصلون إليها. تضيق الدنيا بالمحب إذا جفاه محبوبه حتى ليكاد يختنق فيها على

سعتها، ويجد في العش الضيق الذي يلجأ إليه مع محبوبه دنيا واسعة. ويتألم المحب في اللذائذ إذا لم يذقها معه من يحب، والطبيعة الجميلة سواد في عين المحب قاتم إذا لم تُنِرْها مقلتا المحبوب. كان عمل الفتاة أن تطوف كل يوم بهذه المنازل التي وُلد فيها حبها ونما، تتفكر وتتذكر وتقبل الأحجار والأشجار، وتسير مع الوهم أحياناً فتظن بأن الحبيب حاضر معها فتهم بعناقه وبثه شكواها، ثم تجدها وحيدة فيَجِبُ (¬1) قلبها وتشتد خفقاته، وتسقط على وجهها فتبكي وتذوب وحيدة لا يدري بها إلا الله. وكانت تأمل أن يعود فتنظره على الطريق وترقب الدقائق، فإذا تصرّم النهار ولم تره عادت إلى منزلها آيسة محزونة. وانتفخ بطنها من الحمل، فباتت تحمل أثقال الحب في بطنها وقلبها. وعزفت عن الطعام والمنام، فرقّ جلدها وتهافت جسدها، فلم يعد في طوقها أن تطوف بمناسك حبها ومنازل هواها، فكانت تحيي الليل ساهرة مؤرقة، تناجي النجم وتسائل الليل عن حبيبها، وتخاطبه من وراء الصحراء كأنه معها: "أين أنت أيها الحبيب؟ هل تنام الساعة آمناً مطمئناً، أم أنت بين ذراعي غيري، قد نسيتني ومحوت من نفسك ذكرى هذه البغي التي طهرتها بحبك ولكنها لوثت شرفك ومجدك بماضيها الدنس؟ ¬

_ (¬1) وَجَب القلب يَجِبُ وَجيباً: خفق واضطرب ورجف (مجاهد).

لقد كان حبك لي نقياً كماء السماء، أنا الطائر الضعيف الذي حطم الدهر جناحيه فألِفَ حياة الأرض مع الحشرات والهوام، فجئت أنت من السماء لترفعه بجناحيك القويين إلى السماء، فرفعته حتى استطاع أن يحلق فيها، ولكن هذا التراب الذي ظلّ عالقاً به غبّر جناحك أيها الصقر، أفلا تعفو؟ قد قنعت بك من الحياة حتى ما أبالي إذا وجدتك ماذا خسرت، ولكن بماذا أقنع وقد خسرتك أنت؟ أتذكر ساعة جلسنا إلى الصخرة وحيدَين والطير ترتل صلاة المساء، والشمس نائمة على سرير الأفق صفراء كأنها مريضة كاد يختفي رأسها بين الوسائد، ونحن متعانقان، صدري إلى صدرك، وعيناي إلى عينيك، ثم نبهتني إلى مشهد الغروب فطفقنا ننظر إليه مشدوهين حتى غبنا في قرارة حلم ممتع من أحلام الحياة. أتذكر؟ أتذكر مسرانا في هذه الغابة الصغيرة الملتفة وقد خلونا فيها وحدنا وتركنا الدنيا بضجتها وصخبها، نمشي وحيدين ليس معنا إلا الحب الذي يربط بين قلبينا، نتلفّت حولنا فلا نرى إلا جذوع الأشجار المتعانقة تتسلل من كل جهة حتى يضل البصر طريقه خلالها، وأغصانها متشابكة من فوقنا كأنها سقف مرفوع ... لم أكن أشعر بالوحدة لأنك معي، وهل كنت أبتغي من دنياي أكثر من ذلك؟ حسبي أنت من الدنيا. أتذكر ذلك؟ أتذكر تلك الشجرة المنعزلة الوحيدة التي كان لها في تاريخ حبي أجمل الآثار، أما أنا فساهرة أذكرها وأفكر فيها! لماذا أذقتني لذة الحب؟ لقد كنت راضية بالحياة مطمئنة

إليها، أعيش في الظلام. فلما عرفت الحب عرفت النور والسمو وعلمت ما هي اللذة، فلا أنا أجد الآن النور ولا أنا أطيق الرجوع إلى الظلام". * * * ولست أستطيع أن أعيد كل ما قالت لأنه مكتوب في كل قصة غرام. وهل الغرام إلا قصة واحدة تتكرر أبداً ولا يمل البشر تمثيلها؟ وهل تمر ليلة على بلد فلا ترى في أحشائه عاشقاً مدنفاً يسهر ويتألم، بينا ينام الناس آمنين، لا يرحمون المحبين لأن الحب شيء لا يدري به إلا المحبون! ولبثت الفتاة على عذابها، حتى أحست بالجنين يتحرك في بطنها ... فذهبت تحمل وحدها عواقب هذه اللذة التي شاطرها متعتها الرجل. * * * واستهل الوليد جميلاً كالزهر، حلواً كالأمل، نقياً كثلج الربا، تبدو في عينيه كبرياء أبيه وجمال أمه، كما يبدو خيال السماء الصافية في البحيرة الساكنة، فتمتلئان بهما كما يمتلئ الجدول بمياه الينبوع الصافي، ويترددان فيهما كما يتردد صدى أنشودة الراعي في مسارب الوادي العميق. فضمته إلى صدرها الفياض بالحب، ونذرت له حبها وحياتها، وعزمت أن تكون له أماً لأنه ابنها، وأن تكون له أباً لأنه ابن حبيبها الغائب، وأن تنشئه على العزة والمجد

والسيادة، نزولاً عند إرادة الرجل الذي أحبت ورجاء أن يحمل هذا الوليد اسم أبيه الكبير. وتكامل مثلما يتكامل القمر في أوائل الشهر فلم يلبث أن صار بدراً في كل عين، ونما مثلما ينمو الغصن الغض في خمائل الروض، يرتفع في الربيع ليدرك نيسان ويستمتع بجماله ويزينه بورده، فلم يلبث أن ملأ بعطره كل أنف. ويتزايد كأنه أغنية محب بدأها همساً في جوف الليل ثم استطال بها صوته حتى ملأ الفضاء، فلم تلبث أن صارت على كل لسان. ويقوى كأنه الحب ينبثق في القلب، فلم يلبث أن صار حباً مستقراً في كل قلب. كذلك أصبح هذا الغلام. كان ملء العيون والأفئدة، تمر السنون فلا تزيده إلا ذكاءً ونبوغاً. وكان سعيداً ينعم بحب أمه ومالها، ولكن أمراً واحداً كان ينغص عليه هذه السعادة ويؤلمه أشد الألم؛ ذلك أنه لا يعرف من هو أبوه. وكثيراً ما سأل أمه وأطال عليها المسألة ولوّن لها الأساليب، فكان يمنعها من أن تخبره إرادة أبيه، فتظل معتصمة بالصمت. وكثيراً ما أمضى الساعات ساهماً واجماً يفكر فلا يهتدي. فأزمع أن يكون بفعاله أباً لنفسه، وأن ينزل من هذه الجبال فيغامر في الشرف المروم. * * * ظل ذلك السيد القرشي يفكر في الفتاة ويصلها بالمال،

ويتعرف أخبار ابنه ويقوّم سبيله، ولكنه انصرف عن الحب ولم يعد له في حياته مكان. إن على عاتقه عبءاً ضخماً؛ إنه يقود إحدى الفئتين في أعظم معركة عرفها تاريخ الإنسان من يوم هبط آدم من الجنة إلى يوم تقوم الساعة ... المعركة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد، بين المستقبل المنتظَر والماضي الذميم، بين الحضارة والبداوة ... وكان هو قائد الفئة المدافعة عن الباطل، فجال الباطل جولة ثم اضمحل، فإذا النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يضيء الجزيرة، ثم يخرج إلى الشام والعراق فترفرف عليها رايات محمد ظافرة منصورة، وإذا هذا السيد القرشي جندي صغير في جيش محمد! ذلك أن مقاييس العظمة قد تبدلت، وأن الدين الجديد لا يعتمد على النسب ولكن على المزايا، ولا يعرف قانون الطبقات بل قانون الكفايات. فهبط أبو سفيان حتى صار جندياً، وارتفع هذا الرجل الذي لا يملك نسباً في هاشم ولا أمية وليس له جدود من مخزوم، ارتفع عمر حتى صار أمير المؤمنين ووارث كسرى وقيصر. تبدلت الدنيا كلها، فإذا الدعوة التي كانت تكافح لتغلب مكة وأهلها قد ملكت الجزيرة كلها وغدت في حرب مع الأعداء الذين سرقوا حرية الشعوب وعبثوا بتراث الإنسانية. وإذا القرية التي كانت منقطعة وراء الرمال قد صارت منذ هبطها محمد قصبة الأرض، ووارثة المدائن سلطانها، وشريكة القسطنطينية في بلادها.

وإذا هذا المسجد الصغير المبني من الحجارة والطين وسعف النخل يغلب الإيوان العظيم بشرفاته ودعائمه، وقصر الشالسيه بزخارفه ونقوشه وقبابه وأبراجه، ويصير ندوة الدنيا ومدرسة العالم. ففي ذات مساء دُعي الناس إلى الاجتماع في هذا المسجد (وكان المسجد دار السياسة، كما كان دار العلم والعبادة)، فتوافدوا عليه من كل صوب، فلما اجتمعوا قام أمير المؤمنين فبشر الناس بفتح جديد، وقدّم إليهم شاباً لم يروه من قبل يُدعى زياداً، ليصف لهم هذا الفتح الذي جاء بخبره. واستشرف الناس ونظروا إليه، فلما أبصره أبو سفيان - وكان في أصل المنبر إلى جانب علي - خفق قلبه واضطرب ... إنه ابنه زياد، ابن الحبّ! وحبس أنفاسه ليصغي إليه وقد خاف عليه الفضيحة، فإذا الفتى الجميل الوسيم يخطب خطبة يملك بها الألباب ويستهوي القلوب. "فلا يتمالك نفسَه أبو سفيان أن يقول لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ فيقول: نعم. قال: أما إنه ابن عمك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر (يريد عمر بن الخطاب) " (¬1). * * * وذهب أبو سفيان يلقى معاوية، وقد استيقظت في نفسه ¬

_ (¬1) بين الأقواس جمل من التاريخ هي أصل هذه القصة.

ذكريات حبه القديم، وطفق ينظر من وراء خمسة وعشرين عاماً إلى تلك الفتاة التي أذاقته السعادة، ونازعته نفسه إلى الاعتراف بابنها علناً ثم ثناه أنه لم يحن الوقت بعد، فليتربص ولينتظر. ولكنه شيخ كبير هو هامة اليوم أو غد، فمن هو الذي يحمّله هذا السر الذي يضيق به صدره؟ ليس له إلا صدر معاوية، «كسرى العرب». ودعا معاوية فقال له: "اسمع يا معاوية. أتعرف الفاكه بن المغيرة؟ لقد كان هذا الرجل زوجَ أمك هند بنت عتبة بن ربيعة، التي جمع الله لها كبر النفس وشرف الوالد، فلم يقوَ على حفظ هذه الأمانة. واختلفا، وتحاكما إلى بعض كهّان اليمن. وجزعت أمك وخافت، فقال لها أبوها عتبة: إنى أرى ما حل بك من تنكّر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك. قالت: لا والله يا أبتاه، ما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب ولا آمنه أن يَسِمني ميسماً يكون عليّ سُبَّة. قال: إني سوف أختبره لك. وخبأ له خبيئة فعرفها، ثم قدموا إليه أمك في نسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من أمك، فقال لها: انهضي غير متهَمة ولا جانية، وستلدين ملكاً يقال له: «معاوية». فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترت يده وقالت: إليك عني؛ فوالله لأحرصنّ على أن يكون ذلك الملك من غيرك" (¬1). ¬

_ (¬1) بين الأقواس هو ما جاء في الأسطورة التي روتها كتب التاريخ.

فكانت امرأتي وكنت ابني. فإذا صحّت بشارة الكاهن وجاء يوم تحقيقها فاعلم أن لك شريكاً في ذلك الملك. في ذلك اليوم تسمع صوت أبي سفيان، أبيك، الذي يستصرخك من أعماق قلبك لترفع ابنه الذي انبثق من قلبه وحبه، وتخلع عليه اسمه، وتمنحه حقه من إرث أبيك وإرث أسرتك الماجد. أتعرف من هو ذلك الأخ؟ هو الرجل الذي خطب على منبر المدينة بين يدي عمر مخبراً بالفتح؛ إنه «زياد بن أبي سفيان». * * *

قضية سمرقند

قضية سمرقند (¬*) كانت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفَس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة حياة، عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء أو مصباح يزهر على الأرض، وقد أوى كل حي في سمرقند إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام، ولم يبقَ متيقظاً فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل ماراً إلى غايته، ولا يقف ولا يتلفّت، حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة، لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها. ثم أوسع الخطو وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر، وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه. وفارق المدينة واحتواه الغاب، وطنّت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته. وكان الغاب موحشاً غارقاً في ظلمتين: ظلمته وظلمة الليل، ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه، وقد ¬

_ (¬*) النص التاريخي لهذه القصة في ستة أسطر من الصفحة 411 من «فتوح البلدان» للبلاذري، طبعة مصر سنة 1932م.

كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه، وعظم الخطر الذي يُقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة وانفراده في الغاب والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع ... حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة، ووقر على صدره شيء لم يجد مثله في الغاب الموحش. ولم يكن غلاماً تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد، ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير. وكان فارسَ البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان. ولئن واجه في الميدان رجالاً مثله، ففي المعبد قوى لا يراها وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئاً. ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذي مارسوا من أنواع العبادة والرياضات ما جعلهم أهلاً لدخوله، ثم لا يخرجون منه أبداً، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض. وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة، ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وَجِل. وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها بيده على نحو ما أمروه أن يفعل إذا هو وصل. وجعل يحدق في الظلام، فرأى كأن شخصاً عظيم الهامة له لحية بيضاء عريضة قد نبع من الأرض، ففزع وارتاع، ولكنه سمع صوتاً إنسانياً يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد.

فلحق به وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما وراءه من خفايا وأسرار، فاجتاز به سرداباً طويلاً ملتوياً تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة، يخرج منها لهيب أزرق يتراقص فيلقي على الجدران الصخرية ظلالاً عجيبة، وفي السراديب تماثيل «آلهة» (¬1) ذات صور بشعة مرعبة، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة. وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيراً مخيفاً، كأنه صوت سرب من البوم. ثم دخل به غرفاً منقورة في الصخر، حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة الذين لا يراهم أحد (لأنهم لا يخرجون من المعبد، وقل أن يدخِلوا أحداً عليهم) والذين كانوا هم حكّام البلد وملوكه وأصحاب الكلمة فيه، لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد إلا حقت عليه لعنة «آلهة ...» المعبد ذات الوجه البشع المرعب! لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم، وسمع كلاماً ينصبّ في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالماً، وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها، وكيف هبط عليها هؤلاء المسلمون هبوط البلاء، فأزاحوا عرشها وحطموا جيشها، وحكموا وملكوا أمرها. ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم، وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها. ثم عاد المتكلم فقال: غير أنّا رأينا أن نرجئ خطتنا ونرمي آخر سهم في جعبتنا؛ وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادلاً ¬

_ (¬1) ولا إله إلا الله.

يقيم في دمشق، فأزمعنا أن نرسل إليه رسولاً يرفع إليه شكايتنا ويشرح له مظلمتنا، ثم نرى ما هو فاعل. وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول، فهل أنت راضٍ؟ قال: نعم. قال: امضِ بتوفيق الآلهة! وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير، ورأى ظلام الليل أبيض مضيئاً. ولقد اعتدّها نعمة كبرى أن دخل المعبد وكلم الكهنة وكان موضع ثقتهم ونجواهم، وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد، وشعر أن حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه. وكان - لفرط شجاعته - يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين وإخراجهم من بلده. ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم وجلال ملكهم، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر (ولو مد البحر وأزبد وهاج لاقتلع الساقية من منبعها فشربها، فضاعت فيه فلم يبق لها أثر). فلما شد رحاله وسافر، ومضى يقطع الليالي الطوال، والأسابيع والشهور، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفّرة لم يُلقِ عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة ... من سمرقند، إلى بخارى، إلى بلخ، إلى هرات، إلى قزوين، إلى الموصل، إلى حلب، إلى دمشق ... دنيا من الخصب والحضارة والمجد، وبلاد كانت ممالك كثيرة، ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند ... وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان؟ فأين

ملك خاقان وكسرى؟ لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين وراء رمال الجزيرة، تلك القرية التي هزها محمد بيمينه فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملوكها، وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر ... وكان كلما تقدم ورأى جديداً من دنيا الإسلام تمتلئ نفسه فرقاً من لقاء الخليفة. * * * وأفاق يوماً من ذهوله - بعدما صرم في هذه الرحلة أشهراً - على صوت الدليل وهو يهتف باسم «دمشق». هذه دمشق، سرة الأرض، هذه سدة الدنيا. هنا التقى والعلى والمجد والغنى والجلال والجمال، من هنا تخرج الكلمة التي تمضي مطاعة حتى تنتهي إلى بلده سمرقند، وتمضي من هناك حتى تبلغ أرضاً أبعد وأنأى، حتى تجوز إسبانيا. هنا يقيم الرجل الذي ملك ما لم يملكه في سالف الدهر قيصر ولا كسرى ولا الإسنكدر ولا خاقان، والذي لا يجد من جبال الصين إلى بحر الظلمات من يخالف عن أمره أو يرد قوله. ولكن كيف الوصول إليه؟ وأنى لغريب منكر مثله بالدخول عليه؟ وخالط قلبه اليأس، فسأل عن خان ينزل فيه، فأُرشد إلى خان أمضى فيه ليلته. فلما أصبح أخرج ثيابه فلبس أحسنها وخرج ليلقي الخليفة. وأقبل على أول إنسان لقيه يريد أن يسأله عن «القصر»،

فاعترته هيبة شديدة وخاف من مواجهة الرجل الذي يحكم نصف الأرض، والذي لا يبلغ ملكُ شاهنشاه العظيم ولايةً واحدة من ولاياته يحكمها أمير من أمرائه ... وذكر كيف كانت تتصدع الأفئدة خوفاً من لقاء كسرى وتقف الملوك على بابه، وكيف كان يقتل على الظنّة، ويأمر بضرب عنق الرجل يقول كلمة لا تعجبه أو يأتيه في ساعة يكون فيها لَقِسَ النفس (¬1) ضيق الصدر. وتلمّس عنقه وتخيله من الفزع مضروباً! وتصور رأسه طائراً عن جسده فطارت معه حماسته وشجاعته، وكره لقاء الخليفة وفكر في العودة إلى بلده سالماً قبل أن يحيق به مصاب لا ينفعه معه مجد يناله، ولا وطن يحرره، ولا كاهن يرضيه. وغرق في مخاوفه وأفكاره، وجعل يسير على غير هدى، وكلما مرَّ على قصر من قصور دمشق ورأى بهاءه وعظمته ظنه قصر الخليفة فخفق قلبه واضطرب. حتى رأى قصراً ما له في جلاله نظير، له باب هائل، عرضه مثل الشارع العظيم، له قوس مُشْمَخِرّة عالية ذات مقرنصات (¬2) ونقوش قائمه على أسطوانتين من المرمر الصافي، ورأى الناس يدخلون ويخرجون لا يسأل أحد أحداً ولا يمنعه حاجب ولا بواب، فأيقن أنه قصر الخليفة. ¬

_ (¬1) لَقِسَتْ نفس فلان: ضاقت وخبثت ونازعت صاحبها إلى الشر (مجاهد). (¬2) اشْمَخَرَّ: اشتد ارتفاعه، فهو مُشْمَخِرٌّ (ومنه الشَّمْخَريرة، وهي الكبر). والمقرنصات هي ما يبرز من أسقف البيوت أو يخرج منها للزينة بتدريج مناسب (مجاهد).

وتشجع وشد من عزمه ودخل يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، فلما لم يرَ أحداً قد منعه سكنت نفسه، ونظر فإذا هو في صحن واسع إذا كنت في طرفه لا تستطيع أن تتبين من هو في الطرف الآخر، قد فُرشت أرضه بناصع الرخام فهو يلمع كالمرايا، والناس يجلسون عليه، وحوله جدران عالية ما رأى قط بناء أرفع منها، وهي مزخرفة بأعجب الزخارف والنقوش، وفي وسط الصحن بركة واسعة يتفجر منها الماء فيضربه شعاع الشمس فيكون له منظر عجيب. ونفذ من الصحن إلى قاعة لا تقل عنه سعة ولا يدانيها بهاءً وجمالاً، قد قام سقفها على أساطين الرخام، تحمل أقواساً فوقها أعمدة أصغر منها، فوقها أحناء (أي حنايا) وطاقات معقودة، وتتدلى من السقف سلاسل الفضة تحمل المصابيح والثريات. وجعل يمشي خلال الناس ذاهلاً لا يدري ماذا يصنع، فاصطدم برجل كان يقوم ويقعد ويذكر اسم الله. وتلفت الرجل إلى اليمين وإلى الشمال، ونظر إليه فرآه غريباً فسأله عن حاله، فسبق لسانه إلى الحقيقة فأخبره أنه جاء من بلده يريد لقاء الخليفة، ثم تنبّه وقدّر أن الرجل سيرتاع لذكر الخليفة بلا تعظيم ولا تبجيل وأنه سيدفعه إلى الشرطي فيستاقه إلى السجن ... فرأى الرجل ساكناً هادئاً كأنه لم يسمع نكراً، وسمعه يقول له: أتحب أن أدلك على داره؟ قال: أوليست هذه داره؟! قال الرجل مبتسماً: لا؛ هذا بيت الله، هذا المسجد. أصليت؟

صلى؟! وكيف يصلي وهو على دين سمرقند، ذلك الدّين الذي لا يعرف منه إلا هذا المعبد المملوء بالأسرار، وتلك «الآلهة ...» المخيفة ذات الوجه البشع المرعب. وجعل يفكر: "أين هذا المعبد من معبده المختبئ في بطن الصخر، وأين هذا النور وهذا الجمال من تلك الظلمة وذلك القبح؟ ". وشك - لأول مرة في عمره - في دينه الذي نشأ عليه! وأعاد الرجل سؤاله، فقال: لا؛ لم أصلِّ، ولا أعرف ما الصلاة. قال: وما دينك؟ قال: أنا على دين كهنة سمرقند. قال: وما دينهم؟ قال: لا أدري؟ قال: مَن ربك؟ قال: آلهة المعبد المرعبة. قال الرجل: وهل تعطيك إن سألتها؟ وهل تشفيك إن مرضت؟ قال: لا أدري ... ورآه الرجل ضالاً جاهلاً، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها؛ فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمناً بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم،

الذي جعل الله به العرب سادة الدنيا وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ثم قال الرجل: قم الآن أدلّك على دار الخليفة، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله وينفرد بنفسه. وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموّه، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذه الفتوح وهذه القوة التي لم يقم لها شيء. أين هذه الديانة السافرة الواضحة التي تجعل كل واحد من أتباعها كاهناً لها ورجل دين ... من تلك الديانة المجهولة الخفية؟ أين؟! وخرج من المسجد من باب غير الذي دخل منه، فما راعه إلا الرجل يقول له (مشيراً إلى باب من ألواح الخشب، غير مصبوغة ولا منقوشة): هذه داره. هذه؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السوقة من رعيته، وقد مرَّ عليها فرأى فيها بهاءً وجلالاً؟ ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جاداً، فتركه وتقدم من الباب وهو شاك فيما قال الرجل، ونظر فرأى كهلاً قائماً يصلح بالطين جدار المنزل وامرأة تعجن ... فترك الباب ولحق بالرجل مغيظاً محنقاً فقال له: ما كان لك أن تكذب عليّ وتسخر مني، أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيان؟ قال: ومن الطيّان؟ قال: صاحب الدار (ووصف له ما رأى).

قال الرجل: ويحك! هذا - والله - أمير المؤمنين الذي ليس فوقه إلا الله. وهذه المرأة ... ألا تدري من هذه المرأة؟ هذه زوجة الخليفة عمر وبنت الخليفة عبد الملك وأخت الخليفتين وليد وسليمان وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين؛ هذه أمجد امرأة في العرب. ولقد كان أمير المؤمنين أرفه الناس عيشاً وأكثرهم طيباً، ولكنه كان فيه عرق من عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى، فعُدْ إليه فاقرع بابه وانفض إليه شَكاتك ولا تخف؛ فوالله ما هو الملك المتكبر ولا الحاكم الجبار، ولكنه عبد لله متواضع هين لين، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شيء، وإذا غضب لله كانت العواصف والصواعق دون غضبه قوة ونفاذاً ... فاذهب موفقاً. مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، تتّقد نار الحماسة في نفسه فيخطو ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطير به الخيال إلى ملوك بلده فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجّاب على الأبواب، والسيوف المصلتة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار ... وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش والرعيةَ التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الحب، فشيء لم يعرفه في بلده! واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له: ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟

قال: نعم، والله إنها لهي داره! هذه دار الرجل الذي أورثته شريعة القرآن تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن يبلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا «العمامة» تاج العرب ... هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلاً وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقي هو وأسرته بغير شيء ... لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا؛ فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة! وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجي الله، إذن لزاد العبّاد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يُروى ولا عجب يُؤثَر. ولكنه زهد في الدنيا (وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها وبيده - بعد القدر - صلاحها وفسادها)، فهو في اللجة لا يبتلّ، وهو «في اللهب ولا يحترق». وهو زاهد ولكنّ في رأسه عقلَ حكيمٍ، وفي صدره قلبَ بطلٍ، وفي فيه لسانَ أديبٍ؛ فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه وماليته، وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتي وهو المعلّم ... أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر (¬1)، واصطحب في البرية ¬

_ (¬1) كناية عن العرب والعجم (كما كانت تقول العرب).

الذئب والحمل (¬1) ... وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً ... سمع - غداة بويع بالخلافة مُكرَهاً - هدّة ارتجَّتْ منها الأرض، وكان منصرفاً من دفن أمير المؤمنين سليمان، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب المرصعة بالجوهر. فقال: ما لي وما لها؟ نحّوها عني وقربوا لي بغلتي. وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين. فقُربت إليه بغلته فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال له: تنحَّ عني، ما لي وما لك؟ إنما أنا رجل من المسلمين! ومشى بين الناس راكباً على بغلته (بلا موكب ولا حربة ولا راية ولا طبل). الرجل الذي يحكم الأندلس ومرّاكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجداً واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند ... مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك. ¬

_ (¬1) انظر سيرة عمر لابن الجوزي، وسيرته لابن عبد الحكم.

ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حُشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطُرَف، القصر الذي أزرت عظمتُه بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان. فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطُويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأمَّ داره هذه. فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوي أمين ابن دنيا. ظنوه أمّ داره يقبع فيها يسبّح ويهلّل، فإذا به يحد قلمه ويعدّ قراطيسه، ويكتب من فوره بيده إلى أقاليم الأرض منشوراً فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، ويُنفِذ الكتب من ساعته. فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا ولكنه ابنها وأبوها. فَعَل ذلك كله من الصباح إلى الضحى. ثم ذهب يَقيل، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني، أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين، مَن لك أن تعيش إلى الظهر؟ فترك مقيله وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مَظلمة فليرفعها، فإني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين. ولقد - والله - فعل أكثر مما قال! نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغررك صغرها وضيقها وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر

حملته على ظهرها هذه الأرض (¬1)؛ فامش إليها ولا تخف! فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين، فيراه فيسأله، فيقول: إني متظلّم يا أمير المؤمنين. فيقول له: مكانَك حتى أعود إليك. ويدخل بالغلامين، ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ: «ابني»، فيعلم أنها أم الوليد المشجوج، وتدخل الدار مُرَيْئة (¬2) فترى الولد الآخر فتقول: «ابني». ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجّه ابن هذه المرأة، وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير! ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تُضرب عنق ابنها أمامها وهو طفل لا ذنب له ولا يُسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذرية. وتخرج المرأة شاكرة داعية، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مُغضَبة: فعل الله به وفعل إن لم يشجه مرة أخرى. فيقول الخليفة: إنكم أفزعتموه (¬3). وخرج الخليفة فدعاه فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة ¬

_ (¬1) الدار هي المدرسة السميساطية اليوم، عند الباب الشمالي للأموي، وفي جوارها مدارس كثيرة منها التي تضم قبر صلاح الدين الأيوبي. (¬2) تصغير امرأة. (¬3) سيرة عمر لابن الجوزي (طبع خالي محب الدين الخطيب سنة 1331)، ص 176.

وأنه دخل سمرقند غدراً من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان. فقال الخليفة: والله ما أمرَنا نبيُّنا بالظلم ولا أجازه لنا، وإن الله أوجب علينا العدل في المسلمين وغير المسلمين. يا غلام ... قلماً وقرطاساً. فجاءه الغلام بورقة قدر أصبعين، فكتب عليها أسطراً وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد! * * * ورجع يطوي هذه الشقّة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف، كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام ووجهته وجهتُه، وفي قلبه إيمانه وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته ... أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته إذ يؤم المصلين واحد منهم، فلا قساوسة ولا كهّان، ويصلون في كل أرض، فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعاً صفاً واحداً، فلا كبير ولا صغير ولا مأمور ولا أمير. وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عبادٌ لله هم رهبان في الليل وجِنٌّ في النهار، خاشعة قلوبهم، وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين فلا يبالون الدنيا كلها، بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها. ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها صارت دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً لأنه كان كلما انقضت الصلاة

وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) مَن يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدّم له قِراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافراً وبين عودته مسلماً، وكيف كان يشعر بطول الشُّقة وبعد الطريق وألم الغربة، فصار يتقلّب في النعيم ويُحمَل على أكف الإخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين! ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه - هذه المرة - تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فَرَقاً من أسراره وخفاياه؛ فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار. ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر ففُتح له، ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبداً، ووصف لهم ما رأى فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوماً إلى العامل فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاضياً يحتكم إليه كهنة سمرقند وخليفة قتيبة، فما قضى به نفذ قضاؤه. وأطاع العامل ونصب لهم قاضياً، جميعَ بنَ حاضر الباجي، وعين موعد المحاكمة. ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر أظلم وجهه بعد إشراقه، كما ترْبَدّ في سماء النهار الصحو السحبُ السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجراً صادقاً فإذا هو برق خُلَّب (¬1) ... وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين. ¬

_ (¬1) الخُلّب: السحاب يومض برقه حتى يُرجى مطره، ثم يُخلف ويتقشّع. ويقال: «برق خُلّبٌ» ويشبَّه به من يعد ولا ينجز (مجاهد).

وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاصٍ منها ودانٍ، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجبين لا يراهم أحد، وجاء القائد الفاتح الذي خلف قتيبة. وكانت المحكمة في المسجد، فقعدوا ينتظرون القاضي. ولم يكن الكهنة يأمُلون في شيء ... وفيمَ يأمُلون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟ وعلى من يحكم؟ على خلفاء القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرضَ المشرق قائدٌ أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحاً، إسكندر العرب: قتيبة؟ كانت القلوب تخفق ارتقاباً لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وُضعت في عنقه أعظم أمانة وُضعت في عنق قاض، والذي أُلقي بين حجرَي الرحى؛ فها هنا مصلحة أمته وسيادة دولته والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة، وإنها لمحنة الضمائر. وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو وأما المسلمون فلم يكونوا يشكّون، ولم تكن تُداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما

الوطن؟ إن وطن المسلم دينه؛ فحيثما صاح المؤذن: «الله أكبر» فثمة وطنه. وإن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل، ولو كان فيه نفع الأمة وكان فيه الغُنم الأكبر. ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل، ضئيل الجسم، شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له ووراءه غلام. فجاء حتى قعد على الأرض محتبياً، وقام غلامه على رأسه. أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على خليفة قتيبة العظيم، وعلى أميره، وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو قاضي المسلمين؟ وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة. ونادى الغلام باسم الأمير، وهكذا بلا إمارة ولا لقب، فجاء حتى جلس بين يديه، ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه. وابتدأت المحاكمة ... * * * وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتاً ضعيفاً، فقال للكاهن: ما تقول؟ قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام. قال القاضي للأمير: ما تقول؟ قال: أصلح الله القاضي. إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر وأورثه المسلمين.

قال: أدعوتم أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟ قال: لا. قال: إنك قد أقررت. وإن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر، وإنّا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهاداً في سبيل الله؛ ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق. حكمتُ بأن يخرج المسلمون من البلد ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم (¬1). ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا، ولكنهم كذّبوا عيونهم وآذانهم، وظنوا أنهم في حلم، ولبثوا شاخصين. حتى إن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت، وأن القاضي والأمير قد انصرفا. وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل. ¬

_ (¬1) كذلك، لا كما صنعت لجنة التحقيق التي اختاروا رجالها من أكابر قضاة إنكلترا وأميركا، وائتمنوها على شرف القضاء السكسوني (الذي كان الجَهَلة منا يضربون بعدله الأمثال) وبعثوها تدور البلاد، تسأل كل رائح وغاد: هل فلسطين حق لأصحابها الذين يسكنونها أم هي حق لجماعة اللصوص الذين جاؤوا يسرقون البيوت من أصحابها؟ فدارت حتى دير بها، وصعدت إلى السماء، ونزلت إلى الأرض، وبحثت ونقبت، فظهر لها أن الحق مع اللص؛ فحكمت بطرد صاحب الدار منها ليدخلها اللص ويقيم فيها!

وكان الكاهن ينظر إلى عالمه الذي طالما أحبه وآثره فيراه عالماً ضيقاً مقفراً، وينظر إلى دنيا الإسلام فإذا هي خصبة واسعة مزهرة بالخير والعدل والجمال. وما عالمه؟ فجوة معتمة وسط الصخر الأصمّ لا يبلغها شعاع الشمس ولا ضياء القمر، ولا زهر الربيع ولا جمال المجد ولا جلال الإيمان. وسطع النور في قلبه فرأى أن ديانته كهذا المعبد، فأين هذا المعبد من معبد الإسلام، وهو الأرض الطهور التي تمتد حتى تصل إلى بلاد ما سمع بها؟ أين ضيقه من سعتها؟ أين ظلمته من نورها؟ أين سقفه الواطي من سمائها العالية؟ إنه ألحد في دينه وخرج من المعبد (وقد حُرِّم عليه الخروج منه)، فلن يعود إليه أبداً. أيعود الجنين إلى بطن أمه بعدما رأى بياض النهار ورحب الكون؟ أيعبد مرة ثانية تلك الآلهة ذوات الوجه البشع المخيف بعدما عرف رب الأرباب وخالق كل شيء؟ لا. لقد ماتت ديانة المعبد ومرت أيامها، فهل لما مر مآب؟ هل يعود أمس الغابر؟ ومرّت ساعات، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ويرتجف من إرعاد الطبول، ونظر فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب، فسأل: ما هذا؟ قالوا: لقد نُفِّذ الحكم وانسحب الجيش. هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان، ردته

كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت، ليس معه إلا غلام، بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق. ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال، أفتقوى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها؟ أترد صخورُ هذا المعبد سيلَ الحق الدافق وتأكل ظلمته نور الإسلام؟ لا؛ لقد قضى الله أن يمحو الفجرُ سُدْفةَ (¬1) الليل. لقد أطل على العالم يومٌ جديد، فلن نتوارى من نور هذا اليوم في ظلمة المعبد. وأقبل يسأله أصحابه: ماذا تقولون؟ فيقول السمرقندي المسلم: أمّا أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقول الكاهن: وأنا أشهد. وتتزلزل سمرقند بالتكبير، ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم؛ لم يبقَ حاكم ولا محكوم، ولا غالب ولا مغلوب. صار الجميع إخواناً في الله؛ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، إلا بالتقوى والصلاح وخِلال الخير. ودخلت سمرقند كلها في الإسلام، فلن تخرج منه أبداً. * * * ¬

_ (¬1) السّدْفة (بضم السين وفتحها): الظلمة، أو هي اختلاط الضوء والظلمة معاً، كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار (مجاهد).

هيلانة ولويس

هيلانة ولويس كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر! ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأُوار (¬1)، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد (¬2) المصبَّغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان ... فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكَلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصم التي تحيط بها من كل جانب. وتلك هي الحرب: آفة الحياة، وعار الإنسانية! تلك هي الحرب: تتفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن ¬

_ (¬1) الأُوار هو حر الشمس والنار، أو هو اللهب نفسه (مجاهد). (¬2) جمع صَلد، وهي الأرض التي لا تُنبت شيئاً، أو هي الصخرة العريضة الملساء، وفي القرآن {فأصَابَهُ وابِلٌ فتَرَكَهُ صَلْداً} (مجاهد).

الصنائع والمصانع (¬1) واللطائف والزخارف، وينفق الوالدان النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمَت، وأخذت الحياة زخرفها وازّينت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله فجعلته حصيداً كأن لم يَغْنَ بالأمس. فيا ويل الحرب! ويلٌ لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين! * * * كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفروجها ضوء خافت، ويُسمَع من جوفها همس ضعيف، لو أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان القوم وتقول لصاحبة لها: ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدد أحزانك وهيج آلامك؟ أفزعتِ من هذه المعركة العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن «قبر ...» المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة؛ فقد كان مقدّراً عليه هذا المصير، ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدَعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة التي تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد! ¬

_ (¬1) المصانع: المباني والآثار: يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القُرى ... شَتّانَ بين مَصَانعٍ ورجَالِ وقال لبيد: وتبقى الديارُ -بعدَنا- والمصانعُ

وسكتت المرأة، وعاد السكون يغمر الدنيا. ومضت فترة طويلة لم يُسمَع خلالها نَبْأة (¬1)، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً ... فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر. وكانت في الثلاثين ولكنها لا تزال كالعهد بها، فاتنة الطلعة، لدنة العود، بارعة الجمال. كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت على السفوح والصخور، وتمد البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور «الألب» لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحده شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفاتنة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى مَن يوغل في الوادي ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال. أما هذه الجلاميد وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتَقِ بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها ... ¬

_ (¬1) النّبْأة: الصوت الخفي، أو الصوت ليس بالشديد ولا بالمسترسل (مجاهد).

فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً؟ وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟ واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصوّر لها الوهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويُذهبوا ظمأ أجسامهم إلى الشراب، وليرتووا من «العيون» الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحب ... فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ على أن تكاشفه بحبها ... وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمر في موكب حياتها بهياً مشرقاً (على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات)، فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، المجلس الذي أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها وأثرها على شفتيها. لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى كنيسة ربها (لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها)، فتتوجه إلى الله بالصلاة التي حفظتها ... وتمشي فتطوف في الغابة، يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل!

وكانت القرية كلها في أمن ودعة حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة سقطت عليها صخرة من الجبل. كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل، لتنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي ... فلم يُفسِد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي بين الجبلين يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه فيُسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها، وأبدلتها بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً. وذهب القوم يستقرون الصوت ويقصّونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح وطفق يلقي عليهم - باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى - ما يفهمون وما لا يفهمون. وكان يتكلم باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ «القبر المقدس» من أيدي «الكفرة المسلمين ...». فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شيء إلا هذه النار التي قد سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ «قبر المسيح» من أيدي «الكفرة» الذي أهانوه وحقّروه.

وصدقت هيلانة وزوجها ما قالوا لهما من أن المسلمين أكَلة لحم البشر، وأنهم ذئاب الإنسانية، وأنهم عَدَوا على المسيح ... ونهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به العابثون واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة، فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع، نحو بيت المقدس. وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب فانفجرت باكية، فأيقظ صوتُها صاحبتَها فخرجت تراها. - مالك يا هيلين؟ لماذا تبكين؟ لِمَ لَمْ تنامي؟ فلم تجب واستمرت تبكي، فعادت ترفه عنها وتواسيها: ماذا عراك يا هيلانة؟ أجيبي، كلميني، لا تقتلي نفسك بسكوتك. - لويس! وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب، غارقة بالدمع، وعادت تبكي. - اصبري يا أختاه؛ إنه في السماء. ثم إن عندك لويس الصغير، ألا تسمعين كيف يبكي؟ إنه ابنه يا هيلين، ابن الحبيب، فعيشي من أجله. أريه ألوان السرور والمرح تسعد بذلك روح لويس. هاكِ الطفل يا هيلانة، ألا ترين أن بكاءك يؤلمه؟ فأخذت هيلانة الطفل، تضمه إلى صدرها وهي مغمضة العينين، وتقبله في عنقه الدافئ، وتمرغ وجهها في صدره، ثم

تضع خدها على خده وهي تهمس باسم لويس، كأنما تذكر به مولد الحب وقبلاته الأولى. * * * وهجعت هيلانة وصاحبتها، وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة، ومرت من الليل ساعات. وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يُرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من خيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقّوا الطريق إلى عكا المحصورة. وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبّتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر فلا يثنيه مرآها ولا يُدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد (رفيق السلطان) الجندَ وقص عليهم أن السلطان عد بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة، فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغير اعتقاده بالله الذي يؤمن بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه وينتقل خلال المعركة ويعرّض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين، لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله. * * *

في تلك الساعة كانت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هَنَة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، أحاط بها يسراه وأمسك بيمناه السيف مسلولاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدو في هذه الظلمة الحالكة. وكانا صامتين، فلما جاوزا «اليزك» (¬1) ودخلا معسكر المسلمين وأمِنَا وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان، وقد أبقى الأول حمله على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه: ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟ فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له: لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نرد العدوان بمثله؟ أمَا بدؤونا هم بمثل هذا أول مرة، وروعوا نساءنا، وسرقوا أطفالنا؟ فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء. أفندعهم يفعلون ما يريدون ولا نمد إليهم يداً؟ ¬

_ (¬1) أي الحاجز. وكنا -ونحن في الابتدائية أيام الحرب الأولى- نسمع من الجند كلمة «يسق»؛ أي ممنوع.

واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت فيما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراً معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به لأنه كان يطّلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة. ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطيرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي، ثم خرج الرسول على عجل وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً. وكان ذلك في السحر، فأيِسَ الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح. ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين. تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد (ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم)، فهبّوا من فراشهم وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً وأكثرهم صبراً. فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا

له طاعتهم ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطر الذي لم يتوقعه أحد منهم. ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاديد، بل كانوا أبطال الحومة وسادة الجِلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل أوربة كلها حين جاءت يحدوها التعصب الذميم، ولا الشجاعة التي ردوا بها هذه الجحافل الجرّارة وقسموها قسمين: قسم مصرع على الثرى قد ذهب جزاء عدوانه الآثم، وقسم طائر على وجهه لا يدري أين المحط. فتصدع الخميس العَرَمْرَم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأحس أنيابه ... ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه ولا النهاية الماجدة التي ختموا بها الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك النهاية للمعارك كلها ما يشبه هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. فغاضت الحماسة في نفوسهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد، أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها. وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان؟! فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم ولبث وحده مهموماً يفكر. قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؟ كم يحمل وحده من الأهوال التي تخر تحتها الجبال وتعجز عن حملها الأمم! قال القاضي ابن شداد (¬1): جلس يدبر أمره ويرسم خطط ¬

_ (¬1) مؤلف سيرة صلاح الدين.

القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح، فظن أني نعست فقال لي: لعلك جاءك النوم. ونهض ... فخرجت أمشي إلى خيمتي، فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذّن الصبح. فعدت لأصلي فوجدته يمرر الماء على أطرافه، فقال لي حين نظر إلي: ما أخذني النوم أصلاً. فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم. فدخلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهم وما ورد عليه من الشدة، وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك، وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يُغنِ ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سِيَة (¬1) قوسه يومئ بأصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر وقال: "والله لتلك الأصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وسنان طرير". فلما فتح الله عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال كنت آخذ لك بمجامع الطرق (¬2). ¬

_ (¬1) السِّيَة من القوس: ما عُطف من طرفَيها، وهما سِيَتَان (مجاهد). (¬2) أي أنه يدعو له. والدعاء من أكبر أسباب النصر، والله أمرنا أن نعد لهم ما استطعنا لهم من قوة للإرهاب فقط، لا للنصر بها، وليس النصر للأقوى سلاحاً ولا للأكبر عدداً، بل لمن يريد الله نصره {ومَا النّصْرُ إلا مِن عِنْدِ الله} يعطيه من يشاء.

وذكرت أن قوّاد المسلمين الذين دوّخوا العالم وأخضعوا الممالك وملكوا الأرض لم يملكوها بقوتهم وعددهم، وإنما ملكوها بإيمانهم والتجائهم إلى الله. ورأيت السلطان قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، وباع نفسه من الله، ولم يقصر في فريضة، ولم يهمل نافلة، بل كان ينزل حيثما أدركته الصلاة فيصلي، ويسمع الحديث بين الصفين، ولم يُعرف عنه (بعد السلطنة) ميل إلى دنيا أو حرص على لذة من لذائذ العيش، فأيقنت أن دعاءه لا يُرَد، وأنه هو الوليّ إن عد الناسُ الأولياء، وهو التقي إن ذكروا الأتقياء، فقلت له: وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله. قال: وما هو؟ قلت: الإخلاد إلى الله، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف الغمة عليه. قال: وكيف نصنع؟ قلت: اليوم الجمعة، يغتسل المولى ويصلي ويتصدق بصدقة خفية على يد من يثق به ويدعو الله وهو ساجد فيقول: "إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك؛ أنت حسبي ونعم الوكيل". وإن الله أكرم من أن يخيب من يلتجئ إليه! * * * وقطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد السلطان، وهي سافرة تصيح بلسان قومها وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروع، فأقبل عليها يسألها ما خطبها.

وكانت هيلانةَ بذاتها، أفاقت فلم تجد طفلها فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها وهي تعدو على غير هدى، تسير في كل سبيل تسأل كل من ترى عن ولدها هل رأى ولدها: أين ذهب ولدي؟ ماذا أعمل؟ ساعدوني، فتشوا لي عن ولدي. أين ذهب؟ هل مات؟ من أخذه؟ أأكلته الذئاب؟ وهل تدخل الذئاب إلى المعسكر؟ أم قد سرقه اللصوص؟ آه، أين أنت يا ولدي؟ ألا تردونه علي؟ ارحموني يا ناس، فتشوا لي عن ولدي ... وانطلقت تعدو في أرجاء المعسكر حتى بلغت خيمة القواد فاقتحمتها، وهبطت على أقدامهم تولول وتصيح. فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها، فصمتوا. وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى القائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين. إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد ... وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم يرَ منه إلا الإكرام والإحسان؛ خلع عليه وقدمه ورفع مجلسه وسيّره إلى دمشق معززاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان. ووافق القواد على ما وُصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه. فانطلقت تعدو حتى

تقطّعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها، وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر ... يا رحمة الله على الأمهات! وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى، وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبةً يأخذ بعضها بأعقاب بعض؛ فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتُقدم مسرعةً إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قوياً منيراً، ويخالط الأملَ خوفٌ وإشفاق، ثم تمر عليها صور حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزاً عنيفاً، ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. حتى بلغت «اليزك». فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون. ولم تكن تدري ما «اليزك» وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخّروها من أجله لمنافعهم، فحرموها زوجها وطفلها وجرّعوها (كما جرعوا الآلاف من البشر) غصص الآلام! وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية: ابني، ابني أيها الجنود! ردوه علي، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل

قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة على هذه الوجوه، فلماذا لا تردون عليّ ابني؟ فلا يفهمون منها شيئاً، فتعود إلى صراخها. حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فسألها: ومن هو ابنك أيتها المرأة؟ - ابني لويس ... لويس. أنا هيلانة. ردوه علي. أريد أن أقابل السلطان. فأخذته الرحمة وتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو. * * * قال لها القاضي: ولكن السلطان الآن في شغل؛ يجب أن تنتظري ساعة. - لا، لا. أتوسل إليك، أخاف أن يصيب ابني سوء فدعني أذهب إليه. فقال لها القاضي: اذهبي مع هذا الرجل. وأمره أن يدعها ساعة في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان وينبئه نبأها. وظنت أنها في طريقها إلى السلطان فسارت صامتة مسرعة، فلما دخلوا بها الخيمة ورأت الأسرى عادت تصيح وتولول، فنبه صياحها الأسرى، ثم استفاض حتى بلغ خيمة السلطان، فبعث يطلبها. وكان في أقصى الخيمة أسير اضطرب لمّا رآها ووجف قلبه،

ولبث بصره عالقاً بها حتى خرجت من حيث جاءت، فلبث مفكراً مشدوهاً، تطفو على وجهه خيالات أفكار هائلة وذكريات بعيدة، ثم تراخى رأسه فأسنده بكفيه، وظل ساكناً تنطوي جوانحه على البركان ... الذي انفجر بعد دقائق، فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها. وراع صياحه الأسرى وهم يعهدونه وديعاً كالحمل، فأقبلوا يسألونه فلا يأبه لهم ولا يكلمهم، وأسرع إليه الحراس يكلمونه فلا يجيب إلا بهذا الصراخ، فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه. فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعاً. وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له، وكان يحس فيها الشكر الخالص لِما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطويلة التي قضاها أسيراً عنده، ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها قد رُدَّ إليها، وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر وحب. ثم رآها تنهض فجأة فتجثو بين يديه فتقبل قدميه وتتقاطر دموعها فيتململ السلطان ويُنهضها. فلم يعد يتمالك نفسه، فأسرع نحوها على غير شعور منه، فلما رآه الطفل هتف به: بابا ... ووقع بين ذراعيه. ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما ترى، وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم، ثم صاحت: لويس! أنت حي؟ وفهم السلطان القصة، فحول وجهه حياء وتركهما يتعانقان. * * *

ولما تلفّتَ السلطان وجدهما جاثيين بين يديه يحاولان شكره، فلا تجاوز الكلمات شفاههما إلا وهي جمجمات (¬1) غامضة. فقال لهما: إنّا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا. قالت المرأة: أدينك يأمرك بهذا؟ قال: نعم؛ فإن الإسلام رحمة للعالمين، للإنسانية كلها. قالت: أفتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة ... تحب أن تسعد وتحيا بسلام في ظلال الإسلام؟ فتهلل وجه السلطان وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء. قالت: كيف أغدو مسلمة؟ قال: تشهدين أن الله واحد، وأن محمداً رسوله. لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فنطقت بها، وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة. * * * وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو والقرية الهادئة. - لقد تركنا البنفسج يا هيلانة مخضراً يانعاً، فهل أزهَرَ من ¬

_ (¬1) جَمْجَمَ فلان جَمْجَمة: لم يبين كلامه (مجاهد).

بعدنا البنفسج فتضوّعَ أريجه في جوانب الحديقة؟ وشجرة التفاح: هل تدلّت ثمارها وارتخت أغصانها؟ والعين، هل بقيت على صفائها؟ أواه يا هيلانة! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جنباتها ونما واكتمل؟ - لا يا لويس؛ إنا لن نعود. إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة فإنه قد بُعث هنا بعدما مات. هنا عدتَ إليّ، وهنا عرفتُ الله، وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية. فلنبق هنا يا لويس. أليست هذه هي الأرض التي وُلد فيها المسيح؟ إننا لم نخسر المسيح، ولكننا ربحنا معه محمداً! * * * وتقدم الجيش الإسلامي - بعد ساعة - يمشي إلى الظفر مكبراً مهللاً، وكان لويس المسلم في طليعة ذلك الجيش! * * *

سيدة من بني أمية

سيدة من بني أميّة [إذا زرتم دمشق، فسلكتم السوق الصغير قبلي المسجد، المسمى بسوق القباقبية، فاسألوا عن «المصبغة الخضراء» (وهي تحت الأرض في زقاق ضيق)، فقفوا عليها ساعة ... فثمة كانت سرة الأرض، وقصبة الدنيا: الدار الخضراء، دار الخلافة الأموية.] نحن في دمشق، في يوم الجمعة التاسع من صفر سنة تسع وتسعين للهجرة، والبلدة خالية الطرق، مغلقة الحوانيت، لا تكاد ترى فيها أحداً؛ لأن الناس قد اجتمعوا حول قصر الخلافة، وفي الساحات المطيفة به، وفي الدروب المؤدية إليه. وكان صحن القصر مزدحماً بالرؤساء والوجوه، أما الأمراء وكبار القواد وجلة الخواص فقد احتلوا «المجالس» والأبهاء، وعلى وجوههم جميعاً أمارات الترقب والانتظار في شيء من الخشية والجزع، ذلك لأن أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك قد فَجَأهُ المرض واشتد عليه، وأُشيع أنه مشرف على الموت. وكان عنده مستشاره، رجاء بن حيوة، منفرداً به.

وفي داخل القصر (حيث كانت منازل الحُرَم) كانت نساء الأمراء من بني أمية يترقبن الأخبار. وفي صدر المجلس زوجات يزيد وهشام ومَسلمة وبقية إخوة الخليفة، وكل واحدة منهن تأمُل أن تكون البشارة لها بأن زوجها هو الذي انتُخب للخلافة بعد سليمان (الذي يتظاهرن بالحزن عليه والخشية من وفاته، وتتمنى كل واحدة منهن موته ليخلو مكانه لزوجها)! وكان في طرف المجلس فتاة بارعة الجمال، بالغة الأناقة، عليها ثياب لا تدانيها في غلاء ثمنها وجمال مظهرها ثياب واحدة منهن. وكان يبدو عليها من الهدوء والوقار ما ليس مثله على واحدة منهن، كأنها لا تشاركهن في رغبة ولا خشية ولا أمل، وكأنها قد قنعت بما نالت فما تطلب فوقه مزيداً. ولقد نالت - في الواقع - كل ما تطمع فيه فتاة؛ حازت الجمال والمجد والأدب والزوج الصالح الثريّ والعيش الناعم الرخيّ، وُلدت على فرش الخلافة في قصر أمير المؤمنين، ونشأت في أحضان العز تتقلب في النعيم، وما طلبت شيئاً ولم تصل إلى ما طلبت، ولا اشتهت شيئاً ولم تنل ما اشتهت. وشبّت فكانت فتاة فتانة بخلقها وخُلقها، بارعة في جمالها وفي كمالها، ولم تكن تجد إلا من يحبها ويدللها، حباً بها وتزلفاً إلى أبيها. أما عرفتم بعد من هو أبوها؟ أتعرفون كم دولة اليوم بين المغرب الأقصى والأفغان؟ لقد كان أبوها يملك - وحده - هذه البلاد كلها؛ ما بعد أمره فيها أمر ولا فوق سلطانه فيها سلطان!

إنها فاطمة بنت عبد الملك، بنت الخليفة، وأخت الخلفاء. ولقد طمحت إليها - لما شبّت - أنظار فتيان أمية، فاختار لها أبوها فتى الفتيان، مَن التقى فيه مجد أمية وتقوى عمر، السيد الأموي النبيل، عمر بن عبد العزيز. وانتقلت من قصر إلى قصر، ومن نعمة سابغة إلى نعمة سابغة، فزاد عيشها ترفاً ورغداً وزادت النعم عليها تدفقاً وازدحاماً. * * * كانت فاطمة في طرف المجلس مترفعة عمّن فيه، ليس لها أمل يستخفها وليست في نفسها حسرة على ضياع هذا الأمل تُحزنها. وإذا بصوتين يملآن جوانب القصر، صوت فيه الفجيعة والألم، وهو نعي أمير المؤمنين، وصوت فيه الخيبة لناس والبشارة لناس، وفيه الدهشة للجميع، هو إعلان تسمية أمير المؤمنين الجديد: عمر بن عبد العزيز! وانتقلت فاطمة في لحظة من الطرف إلى الصدر. وكانت معتزلة لا يأبه لها أحد فصارت هي مطمح الأنظار، وغدا إليها مهوى القلوب، وتأخر نساء الأمراء لتتقدم امرأة الخليفة، وخرجن كلهن وراءها وقد كانت دخلت - لمّا دخلت - وراءهن جميعاً! وعادت إلى قصرها، ورقص القصر من الفرحة وضحك بالنور، وكان يترقب عودة سيده، ليتم بعودته النعيم وتكمل

الأفراح. وقعدت فاطمة تذكر الماضي الحلو الجميل وتناجي مستقبلاً ترجو أن يكون أجمل وأحلى. ذكرت يوم انتقلت من قصر أبيها، أمير المؤمنين عبد الملك، إلى قصر زوجها وابن عمها، الأمير عمر، فإذا قصر الأمير أعظم من قصر الخليفة، وإذا هو يبذه في فرشه وزينته وتحفه وخيراته. لقد كان عمر أكثر أموي ترفهاً وتملكاً، غُذي بالملك ونما في ظلاله، وكانت ثيابه التي يخرج فيها للناس يزيد ثمنها على خمسة آلاف درهم، وكان العطر الذي يتعطر به يُؤتى به إليه وحده من الهند، فكان إذا جاز بمكان عرفه من لم يره من عبق عطره. وكان الأشراف يعطون الغسالة العطية الكبيرة لتجعل ثيابهم مع ثيابه ليسري إليها من رياه. وكانت له مشية سماها الناس «العمرية» من حسنها وجمالها، وكانت الغواني يحاولن أن يتعلمنَها وأن يقلدنَه فيها. وكان يرخي ثوبه على عادة الفتيان الأشراف المدللين في ذلك الزمان، فربما دخل الثوب في النعل فيشده حتى يتمزق ولا ينحني ليصلحه، مع أن الثوب من ثيابه قد يزيد ثمنه على ألف درهم! وقد يسقط عن منكبيه فيتركه ولا يرفعه حتى يجيء من يأخذه! تصورت فاطمة هذا كله، وما شاركته فيه من النعم في حياة عاشاها لا يبلغ الخيال مداها، وكان يجمع بينهما أطهر الحب وأقواه، وكانت إشارته عندها أمراً، ورغبتها عنده فرضاً؛ لا تخالفه في شيء ولا يُرد لها عنده طلب! * * *

وبدأت تتسرب إلى القصر أخبار عجيبة عن الخليفة الجديد؛ فمن خادم يدخل مسرعاً يخبر أن الخليفة رفض مراكب الخلافة وألغى الموكب المعتاد وركب دابته ... وآخر يأتي يقول إن الخليفة أعلن إلغاء حفلات البيعة بما كان لها من العظمة والجلال ... وثالث يقول إنه أبى أن يمد يده إلى شيء من أموال الخزانة ... ! وتسمع فاطمة هذه الأخبار فلا تكاد تصدقها! إنها تعرف زوجها الشاب المتفتح قلبه لنعيم الدنيا، الغارق في الرفاهية والنعيم والمتع الحلال ... فما له يُعرض عن الدنيا التي جاءته مقبلة عليه، ملقية بكل ما فيها من جميل وجليل عند قدميه؟ وعاد الخليفة إلى قصره، ولكنه عاد رجلاً جديداً. لقد تبدل فيه كل شيء؛ لقد بدت النعمة للناس بحكمه منذ بويع، ولكن أهله رأوا في بيعته بوادر الشقاء! وتلقته فاطمة، فإذا الأيام الثلاثة التي غاب فيها عنها قد فعلت فيه فعل ثلاثة قرون! وإذا هو شاحب الوجه من أثر السهر في مصالح الناس، مضطرب الأوصال من ثقل الأمانة وخوف الله، فانشعب قلبها رأفه به، وإشفاقاً عليه. وقال لها: يا فاطمة، قد نزل بي هذا الأمر وحملت أثقل حمل، وسأسأل عن القاصي والداني من أمة محمد، ولن تدع هذه المهمة فضلة من نفسي ولا من وقتي أقوم بها بحقك عليّ، ولم تبق لي أرباً في النساء. وأنا لا أريد فراقك ولا أوثر في الدنيا أحداً عليك، ولكني لا أريد ظلمك، وأخشى ألا تصبري على ما اخترته لنفسي من ألوان العيش، فإن شئت سيّرتك إلى دار أبيك ...

قالت: وماذا أنت صانع؟ قال: إن هذه الأموال التي تحت أيدينا، وتحت أيدي إخوتك وأقربائك، قد أُخذت كلها من أموال المسلمين، وقد عزمت على نزعها منهم وردّها إلى المسلمين. وأنا بادئ بنفسي، ولن أستبقي إلا قطعة أرض لي اشتريتها من كسبي، وسأعيش منها وحدها. فإن كنت لا تصبرين على الضيق بعد السعة فالحقي بدار أبيك! قالت: وما الذي حملك على هذا؟ قال: يا فاطمة، إن لي نفساً توّاقة، ما نالت شيئاً إلا اشتهت ما هو خير منه، اشتهيت الإمارة، فلما نلتها اشتهيت الخلافة، فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها؛ وهو الجنة! * * * ترى لو أن تاجراً موسراً، أو موظفاً كبيراً يسكن في القصر الفخم في الشارع الكبير وفي داره نفائس التحف وروائع الفرش، ثم أراد أن يتخلى عن ذلك كله لله، هل يجد زوجة توافقه على ذلك وترضى به، وتعيش معه في غرفتين فارغتين في حارة ضيقة، وتأكل معه الحمص والفول بعد المائدة الحافلة، وتمشي على رجليها بدل سيارة الكاديلاك الخاصة؟ لا أظن أن زوجة ترضى بهذا اليوم. أما فاطمة التي انفردت بين نساء التاريخ جميعاً بأنها بنت ملك وزوجة ملك وأخت أربعة ملوك، يحكم كل منهم عشرين دولة من دول هذه الأيام ... فاطمة

هذه قالت لزوجها بعدما سألته وعرفت مقصده ودوافعه: اصنع ما تراه فأنا معك، وما كنت لأصاحبك في النعيم وأدعك في الضيق، وأنا راضية بما ترضى به. * * * وانقطع فجأة عيش النعيم الذي قلما ذاق مثلَه المترفون، وجاء عيش شدة وضيق قل أن عرف مثله الفقراء المدقعون! ما انقطع لأنهما افتقرا بعد غنى، ولا لأن الدنيا أنزلت بهما مصائبها وأرزاءها، ولكن انقطع لأنهما آثرا نعيماً أبقى وأخلد؛ نعيماً لا يزول على حين يزول كل نعيم في الدنيا. وبدأ عمر فأعتق الإماء والعبيد، وسرّح الخدم، وترك القصر، ورد ما كان له فيه إلى بيت المال، وسكن داراً صغيرة شمالي المسجد (¬1). وكان في دار الحكم أقدر حاكم، وأحزم ملك، وأعدل خليفة، فإذا جاء دارَه هذه الصغيرة كان فيها كواحد من غمار الناس. جاءت امرأة من مصر تريد أن تلقى الخليفة فهي تسأل عن قصره، فدلوها على داره، فوجدت امرأة على بساط مرقع بثياب عتيقة، ورجلاً يداه في الطين يصلح جداراً في الدار، فسألت، فدُهشت لمّا علمت أن المرأة القاعدة على البساط هي فاطمة بنت ¬

_ (¬1) هي المدرسة السميساطية اليوم، وقد جدد بناؤها من نحو أربعين سنة.

عبد الملك وارتاعت منها وتهيبتها، فآنستها فاطمة حتى اطمأنت إليها وأنست بها، فقالت لها: يا سيدتي، ألا تتسترين عن هذا الطيان؟ فابتسمت فاطمة وقالت: هذا الطيان هو أمير المؤمنين! وجاءه في خلافته بيّاع قماش يعرض عليه ثوباً ثمنه ثمانية دراهم، فقال عمر: إنه حسن لولا أنه أنعم مما ينبغي! فقال الرجل: لقد جئتك وأنت أمير المدينة بثوب ثمنة خمسة آلاف درهم، فقلت لي: إنه حسن لولا أنه خشن! ومرض الخليفة مرة، وكان عليه قميص وسخ، فدخل مسلمة بن عبد الملك على أخته فقال لها: يا فاطمة، اغسلوا قميص أمير المؤمنين. قالت: نعم. فعاد من الغد فإذا هو لم يُغسل، فقال: يا فاطمة، اغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يدخلون عليه. قالت: والله ما له قميص غيره! ولم يدع من الخدم إلا غلاماً صغيراً، كان هو الخادم الوحيد في قصر الخلافة، فوضعت له فاطمة الطعام يوماً فضجر الخادم وتبرم وقال: عدس، عدس! كل يوم عدس! قالت فاطمة: يا بني، هذا طعام مولاك أمير المؤمنين! واشتهى الخليفة يوماً العنب فقال: يا فاطمة، أعندك درهم نشتري به عنباً؟ قالت: أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم تشتري به عنباً؟ قال: يا فاطمة، ما بقي لي إلا هذه القطعة من الأرض، وريعها لا يكاد يقوم بحاجاتي، والصبر على هذا أهون من الصبر على نار جهنم!

ولم يكن قد بقي لفاطمة من أيام النعيم إلا جواهرها، فقال لها يوماً: يا فاطمة، قد علمتِ أن هذه الجواهر قد أخذها أبوك من أموال المسلمين وأهداها إليك، وإني أكره أن تكون معي في بيتي. فاختاري إما أن ترديها إلى بيت المال أو تأذني لي في فراقك! قالت: بل أختارك والله عليها، وعلى أضعافها لو كانت لي! وردت الحلي إلى بيت المال. وعاشت زوجة الخليفة معيشة لا تصبر على مثلها زوجة موظف من الدرجة العاشرة، ورضيت بذلك اتباعاً لزوجها وأملاً بثواب ربها. وشاركته خوفه من الله وتفكيره في الآخرة. دخل عليه مرة رجل صالح من جلسائه، فقال له عمر: أرقت البارحة مفكراً في القبر وساكنه. فقال الرجل: فكيف لو رأيت الميت بعد ثلاثة أيام، والدود قد غطى جسده وأكل لحمه، بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب؟ فبكى عمر وخر مغشياً عليه. قالت فاطمة لمولاه مزاحم: ويلك يا مزاحم، أخرج هذا الرجل. فخرج الرجل، ودخلت على عمر فجعلت تصب الماء على وجهه وتبكي حتى أفاق من غشيته، فرآها تبكي. قال: يا فاطمة، ما يبكيك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت مصرعك بين يدي الله للموت وتخليك عن الدنيا وفراقك لها، فذلك الذي أبكاني. * * *

بكت خوفاً عليه في حياته، فلما مات بكت أسفاً عليه، حتى عشي بصرها. فدخل عليها أخواها مسلمة وهشام يسليانها ويعرضان عليها ما شاءت من الأموال، قالت: والله ما أبكي على مال ولا نعمة، ولكني رأيت منه منظراً ذكرته الآن فبكيت. قالا: ما هو؟ قالت: رأيته ذات ليلة قائماً يصلي، فقرأ {يومَ يكونُ النّاسُ كالفراشِ المَبْثوثِ، وتكونُ الجِبالُ كالعِهْنِ المَنْفوش}، فشهق من البكاء حتى ظننت أن نفسه قد خرجت. فما صحا حتى ناديته للصلاة. ولما ولي أخوها يزيد الخلافة ردّ عليها حليها، فقالت: لا والله أبداً، ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً. لا حاجة لي بها. فقسمها على أهله ونسائه وهي تنظر. رحمة الله على أولئك الناس. أولئك - والله - هم الناس. * * *

ثلاثون ألف دينار

ثلاثون ألف دينار سرى في المدينة أن قد سال العقيق (¬1)، فانتقلت المدينة بمساكنها وساكنيها، وزهوها وكبريائها، ولهوها وغنائها، وترفها ونعمائها، حتى استقرت في العقيق. ولقد كانت المدينة على عهد الخلفاء من بني أمية قلب الدولة الذي يخفق بالحب والشعر، كما كانت الشامُ رأسَها الذي يفكر في السياسة والملك، والعراقُ يدَها تلوح بعلم «المعارضة» وتهز سيف الثورة. وذلك أن فتيان قريش وشباب الأنصار ثقل عليهم المال الذي حمله آباؤهم الفاتحون الذين ورثوا كنوز كسرى وقيصر: ما حوى القصر الأبيض في المدائن، وما اشتملت عليه قصور الشام البلق، وكثُرَ في أيديهم ¬

_ (¬1) في معجم البلدان لياقوت: العقيق كل مَسيل ماءٍ شقه السيل في الأرض فأنهَرَه ووسّعه، وفي ديار العرب أعِقّة: فمنها ... ومنها عقيق المدينة، فيه عيون ونخل. وقيل: هما عقيقان، الأكبر مما يلي الحرّة إلى قصر المراجل، والعقيق الأصغر ما سَفُل عن قصر المراجل إلى منتهى العرْصة، وفي هذا العقيق دور وقصور ومنازل وقرى. ثم قال: والأعِقّة كثيرة، وذِكرُ العقيق في الشعر كثير (مجاهد).

حتى ما يدرون فيمَ ينفقونه. وكان من سياسة دمشق أن تقصيهم عن الولايات والأعمال، فاتسع عليهم الوقت حتى ما يعلمون بِمَ يملؤونه. فانصرفوا إلى تزجية الأيام وانتهاب اللذائذ، فجعلوا الحجاز دارة اللهو والترف ومثابة الشعر والغناء. وناهيك بالشباب والفراغ والجِدة إذا اجتمعت على قوم من الأقوام! وكانت ليلة مشرقة غسل البدر بنوره ظلماءها، وأحالها مثل الغادة المائسة بغلالتها البيضاء، ثم ذهب يغتسل في العقيق، فطفا ضياؤه على وجهه، يعانق قطراته ويراقص أمواجه الصغيرة. وكان منظر عجباً، تحسب معه أن الوادي لا يجري بالماء وإنما يجري فضة سائلة ونوراً مذاباً. وكان الناس منثورين في كل مكان، في القصور الشم التي يفيض بها الوادي وتمتلئ بها التلال والصخور، وعلى سفوح الربا وذُرا الهضاب، وجوانب الحرّة وفرش الرمال؛ حلقاً يستمعون إلى مغنّ أو شاعر، أو يديرون بينهم أطايب الحديث، أو يأكلون ويشربون، أو يلهون ويلعبون. ولم يكن فيهم إلا من ملأ الفرح قلبه وغمرت السعادة فؤاده. أما النساء فقد اعتزلن جانباً، يأخذن حظهن من ليالي العقيق، وقد بدَوْن في شعاع القمر بثيابهن الملونة الزاهية كالروض الزاهر الفاتن بكل ساحر أخاذ، من الورد والياسمين والنرجس والبنفسج، والزهر من كل شكل ولون. أما عطر الروض فكان يفوح من أعطافهن وشعورهن وثيابهن. ذلك هو العقيق. كم شهد من أعراس الحياة ومباهجها. كم جال في أرجائه

عمر بن أبي ربيعة ينضح حواشيه بشعره. كم غنى فيه معبد وابن سريج ومالك بن أبي السمح وعزة الميلاء، فاستفاضت ألحانهم على صفحة الماء وشطآن الأفق، وطفت على وجه النسيم ففتنت الجبال والربا، وسكر منها شعاع القمر، فضلّ طريقه مترنحاً في مسالك الجو. كم رأى العقيق من العلماء الزاهدين كعروة ومالك، والسمحاء الأكرمين كابن جعفر وسعيد بن العاص، والمجّان المخنثين كأشعب وطويس والدلال. كم رأى العقيق من تاريخنا الأدبي والفني. كم ألهم شعراءنا رائعات الشعر ومعجزات القصيد. * * * إذا جلتَ تلك الليلة في أنحاء العقيق رأيت على طرف الحرة، مما يلي بئر عروة وقصره، حيث تنحدر الرمال الطرية حتى تبلغ الماء وتدلي فيه أقدامها ... رأيت سرباً من الظباء الفاتنات يتدافعن ويتراششن بالماء، وهن يتصايحن ويتضاحكن فرحات عابثات، حتى إذا تعبن جلسن على الرمل يتأملن صفحة الماء (وللماء الجاري في الحجاز سحر ليس للفرات مثله ولا للنيل) وينظرن مأخوذات بجمال هذه الليلة وفتونها. وكنَّ يتلفتن أثناء الحديث كأنهن يرقبن من يطلع عليهن من الثنيّة، فلما طال الانتظار قالت واحدة منهن: لقد طال غياب سهيلة، فيا ليت شعري ماذا عاقها عنا هذه الليالي المقمرات؟

فردّت عليها فتاة سمراء قد تلفعت بثوب من الحرير الأحمر: ألا تدرين ماذا عاقها؟ لقد شغلها هوى فروخ يا حبيبتي. لقد خسرنا سهيلة إلى الأبد. - ولِمَ يا أمينة؟ أهي أول فتاة تزوجت؟ كلنا عرف الزواج، فما قصرنا في حق الرجل ولا أهملنا حق أنفسنا. فأجابت أمينة ضاحكة: ولكن ما كل زوج فروخ! أرأيت إلى جماله وشبابه؟ إن له - فوق الجمال والشباب - ثلاثين ألف دينار، أفليس من حق سهيلة أن تنسى معه العقيق ولياليه المقمرات؟ - إن تنسَ العقيق فليس لها أن تنسى صويحبات صباها. - لو كنتِ مكانها لنسيت أمك وأباك. إن للحب سكرة وللمال مثلها، فأنى لسهيلة أن تصحو من سكرتين؟ فقالت فتاة من طرف المجلس قد آلمها غياب سهيلة: لتكن قد وجدت كنزاً، أفيطير هذا الكنز من يدها إذا فارقت منزلها ليلة؟ لم يبق في المدينة أحد إلا أمَّ العقيق هذه الليلة، أفتبقى سهيلة في عزلتها الموحشة وهي الفتاة اللعوب؟ لا، لا. إنني لا أستطيع أن أفهم هذا. قالت أمينة: مسكينة أنت يا رفيدة. تقولين إنها في عزلة؟ إنها في جنة الحب يا صديقتي؛ إن الدنيا على سعتها أضيق من هذا العش الذي تعيش فيه مع من تحب ... * * *

وكان الفتيات في غمرة الحديث حينما مرّ بهن فارس يحمل لامته وسلاحه، قد أرخى عمامته وتلثم، فلم يعرفن من هو، وإنما نظرن إليه وهو يخترق جماعات الناس حتى جاوز الجماء وغاب وسط النخيل، فلم يحفلنه ولم يأبهن له. وكان ذلك فرّوخَ زوجَ سهيلة. وكان فروخ قد عزف عن اللهو ورغب عن المتع، فتلفّت إلى وجهة أخرى من وجهات الحياة في العصر الأموي؛ إلى حياة الجد، حياة الجهاد في سبيل الله. وكان جيش المسلمين يسيح في الأرض يغمرها من كل جانب، كأنه البحر، لولا أنه بحر يمتد أبداً لا يعرف الجزْر ولا يدريه. وكان قد بلغ أواسط آسيا وأوائل أوربا، ولا يزال يمضي في وجهه لا يقف حتى يطوّق هذه الكرة ويرفع عليها علم الحق والهدى، ويوحدها حتى تمشي كلها إلى الفضيلة والمجد والخير صفاً واحداً ترفرف فوقه راية القرآن ... فترك فروخ منزله، وخلّف زوجه الحسناء تتقلب وحيدة على فراش العرس الذي لم تجف أزهاره، وأودعها ماله كله، ثلاثين ألف دينار، تحفظها له إلى أن يعود من جهاده وقد قضى حق الله عليه فيستأنف الحياة معها رغيدة سعيدة. لم يدرِ فروخ أن جهاده في حفظ زوجه وعصمتها وإنشاء أسرة صالحة خير له من أن يدعها وحيدة، وأن يهجرها بعد أن أذاقها من كأس الحب الرشفة الأولى.

ومرت الأيام، ولبثت ليالي العقيق على أنسها وطربها، ولكن سهيلة التي كانت تملأ الوادي أنساً وطرباً وتشيع فيه السرور والبهجة قد اختفت في سمائها كما تختفي النجوم في الليلة الماطرة. أما رفيقاتها فلقد حرصن على أن يخففن من لوعتها وينسينها آلامها، وسقن عليها أمينة، رفيقة صباها وصاحبة سرها وأحب الفتيات إلى قلبها، فكانت تعرض عنها ولا تنظر إليها، وكنّ يسألن أمينة عنها كل ليلة فتقص عليهن ما رأت منها: لقد جزت بها اليوم، فإذا هي (يا أسفي عليها!) قد تبدلت حتى كأنها لم تكن يوماً من الأيام سهيلة التي نعرفها. وجدتها قابعة في زاوية المنزل تفكر هادئة، وإن في قلبها لناراً ما يقر قرارها تذيب الحشى وتأكل القلب. فكلمتها فنظرت إليّ بعينين ساهمتين كأنهما لا تبصران شيئاً، فحاولت أن أعيدها إليّ فسردت عليها أجمل ذكريات صباها. حدثتها عن ليالي العقيق، وأطرفتها بنوادر أشعب، وقصصت عليها أقاصيص الشاعر وعبثنا به. بل لقد تلوت عليها أجمل أشعاره، فلم تستمع. فحدثتها عن فرّوخ، فرأيت جسمها يهتز ولونها يشحب شحوباً هائلاً، وألفيتها تحب حديثه لأنه رجْع أحلامها وصدى أفكارها، ولكنها تفزع من حديثه لأنه يذكّرها بآلامها. لقد حدثتها عنه، فقطعت عليّ حديثي وقالت بلهجة حسبتها تجمع كل ما في الدنيا من آلام وأوجاع: كلا ... إنه لن يعود. ولو أن امرأة أخرى كانت في مكانها لفسقت وانساقت في طريق الفحشاء، ولكن سهيلة في دينها وتقواها وشرفها أمنع من أن يستهويها الشيطان. وما أحسب إلا أنها ستجن إلا أن يتداركها الله برحمة منه.

فينطلقن يفكرن في سهيلة، كيف يسعدنها وينتشلنها من قرارة آلامها، فلا يجدن إلى ذلك من سبيل. وكانت سهيلة قد علقت من زوجها وهي لا تدري، فلم تكن إلا شهور حتى بدا عليها الحمل واضحاً، فزادها ألماً على ألم، فأمعنت في الفرار من الناس والبعد عن صاحباتها، فضاعف الانفراد هواجسها وشجونها، فكانت تتلفت أبداً إلى الشرق البعيد، علّ نسمة من زوجها الحبيب تنعش فؤادها، وتسأل الغادين والرائحين عن فرّوخ (أبي عبد الرحمن) فلا تجد علماً عن أبي عبد الرحمن. فتناجي البدر وتسأله عنه عله يراه كما تراه هي، وتحمّل الرياح سلامها، وتسائل الشمس إذا أشرقت لعل عندها من أخباره علماً. لا تفعل ذلك كما يفعله الشعراء، فالشعراء يناجون البدر ويسائلون الرياح ليأتوك بالطريف العجيب من المعاني، ثم ينامون آمنين مطمئنين ويهجعون ملء عيونهم، ولكن سهيلة لم يكن يطيب لها منام ولا تُقبل على طعام، وإنما كانت حياتها كلها في هذا الماضي القصير الذي نعمت به حيناً ثم خسرته وهي أشد ما تكون حباً له وشوقاً إليه. وطغى عليها الفكر حتى كادت تجن حقاً؛ فلم يجد من يعنى بها من صديقاتها إلا وسيلة واحدة إلى نجاتها، هي أن يستعنّ عليها بأحد الأئمة من أصحاب رسول الله أو التابعين لهم بإحسان، يهديها ويرشدها ويداوي أمراض قلبها. وليس يغلب الحب إلا الدين، ولا يجد المحب راحة نفسه وأنس قلبه إلا في اللجوء إلى الله، عن نية صادقة وإيمان متين. ولقد وجدت سهيلة راحتها في اللجوء إلى الله، فكانت تقضي أكثر نهارها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البقعة التي أذن الله أن تُنقل

من رياض الجنة فتستقر على الأرض بين محرابه ومنبره، وألا يرى أزهارها ويشم عبقها ويذوق نعيمها إلا من صفا قلبه من العلل، وتنزهت بصيرته عن العمى، وأنشأ له التقى جناحين يطير بهما في هذه «الروضة» من رياض الجنة. * * * ومرت الأيام ... وغدا ابنها «ربيعة» طفلاً يدرج، فصرفت سهيلة إلى تربيته همها ورضيت به نصيباً من الحياة. وكانت تحدثه عن أبيه وتصفه له كما كانت تراه بعين الحب، وترقب عودته دائماً، فلا تسمع بركب قدم من الشرق إلا تمنت أن تجده فيهم، وتخيلت أي مفاجأة وأي دهشة ... وتصورت لقاءه إياها، وبالغت في التصور فرأت نفسها بين ذراعيه، تقبله وتشم عبقه، ثم تقصيه عنها بدلال وتعاتبه عتاباً موجعاً. ثم تقدم إليه ابنه ... ولكن الركب يصل ولا تسمع عن فرّوخ خبراً من الأخبار. وكبر الصبي وضاق ما كان بيدها من المال، فكانت تصبر وترتقب، لا تمد يدها إلى الكنز الذي ائتمنها عليه، حتى لم يبقَ معها شيء. فكانت تصبر هي وابنها على الضيق وتبيت على الطوى وتسلي ابنها وتحدثه عن أبيه: غداً يعود أبوك ومعه المال الوفير، فنعيش في رغد وهناءٍ ونستمتع بما أحل الله من الطيبات. - ومتى يعود أبي يا أماه؟ - عما قريب؛ إنه سيأتي مع الركب.

وتعود إلى انتظار الركْب وتخيل اللقاء! وفي ذات صباح ذهبت تسأل القادمين من خراسان وتصف لهم زوجها، فدنا منها رجل من القافلة وخبّرها أنه شاهده بعينه قتيلاً في معركة من المعارك. فرجعت محطمة يائسة، ولجأت إلى الله، فأراحها باليأس؛ واليأس إحدى الراحتين. فقنعت بابنها، ونذرت نفسها ومالها لتربيته وتنشئته على العلم والتقوى، ووضعت المال بين يديه ينفقه على نفسه وإخوانه في طلب العلم ويرحل به إلى الآفاق. * * * ومرت الأيام والسنون. وتبدلت الدنيا وتغيرت الدول، وأفل نجم بني أمية، ولكن البحر لا يزال يموج ويمتد ويغمر أرجاء من الأرض جديدة، فيحمل إليها الحياة والخصب وتعيش في ربيع دائم تحت راية القرآن. وبلغ الفتح في الشرق أراضي الصين، فرفرف عليها علم الإسلام إثر معارك هائلة اصطرع فيها الحق والباطل صراعاً عنيفاً. وفي عشية معركة من المعارك، خرجت منها الراية الإسلامية مظفرة منصورة وخفقت على بقاع جديدة طالما خفقت قلوب أهلها شوقاً إلى الحكم الإسلامي، انصرف المسلمون إلى المعسكر يؤدون في الليل واجب الذكر والعبادة كما أدّوا في النهار واجب الحرب والجهاد، ويعطون أجسادهم حقها من الراحة كما أعطوا

الأمة حقها من التضحية والبذل. ولقد كان هؤلاء المجاهدون جِناً في النهار ورهباناً في الليل، وكانوا مثالاً للشرف والفضيلة والإخلاص. ومضى الهزيع الأول كله، ونام المجاهدون ولم يبقَ ساهراً إلا الحراس يجيئون ويذهبون من حول المعسكر، ورجل آخر أصابه الأرق فبقي مسهداً يحس كأن يداً خفية تهز قلبه، فيخفق ويشتد خفقانه، وتحمله على الرجوع إلى سالفات أيامه، فإذا هو يذكر عالماً بعيداً متوارياً في ظلام ثلاثين سنة، فلا يطيق البقاء في خيمته فيخرج إلى العراء، فيجد الليل ساكناً موحشاً لا يسمع فيه إلا نداء الحراس وأصوات الوحوش التي تزدحم على الجثث التي تغص بها ساحة القتال، فيبتعد عنها وينأى عن المعسكر فلا يعترضه أحد لأن الجيش كله يعرفه، بل لعله أقدم جندي فيه، لم يفارقه منذ سبع وعشرين سنة يتنقل فيها من ميدان إلى ميدان. ومضى يمشي وحيداً حتى صار في الوادي، فجعل يجول فيه حتى بلغ قرارته. وكان يجري في الوادي جدول ماء له خرير وزئير، يبدو في الليل مرعباً مخيفاً، فتركه وتسلق الجبل حتى بلغ قُنّته فأشرف منها على الفضاء الواسع. وكان الفجر قد دنا فسرت خيوط ضعيفة من النور حيال المشرق، ولكنه أعرض عنها وولى وجهه تلقاء الأفق الغربي المظلم. فطفق يحدق فيه، ويحس كأنه ينشق منه أريجاً يحيي نفسه وينعشها. وجعل يحس بأن قلبه يرق رقة شديدة، ونفسه تسمو، وأن خيالات الحب تلوح لعينيه من وراء الأفق البعيد غائبة في ظلمتين؛ ظلمة الليل الذي لم ينحسر بعد، وظلمة الماضي البعيد. فجعل يتأملها، فيبصر وجه سهيلة وقد

وقفت على الباب تودعه وتسأله ألا يذهب، فلا يبالي بها ويمضي لطيته. وكانت ليلة قمراء. إنه يذكرها كأنها كانت أمس، ويذكر العقيق وأهله ... ثم يفكر في حاضره. إنه سيموت وحيداً شريداً لا يدري به أحد. إنه لا يبالي الدنيا ولا يحفل الناس، وحسبه أنه سيموت مجاهداً في سبيل الله، ولكن ألا يسأله الله عن زوجته؟ وأحس - في تلك الساعة - بإساءته إليها، وانطلق يفكر فيها: هل هي حية لا تزال أم هي ماتت حزناً وكمداً؟ وهل هي في المدينة أم قد رحلت فلا يدري أي أرض تقلها وأي سماء تظلها؟ وهل بقيت على العهد بها أم قد استهواها الشيطان ووطأ لها أكناف المعصية؟ والثلاثون ألف دينار؛ هذا الكنز، ماذا صنعت به؟ هل احتفظت به أم أنفقته؟ وإن تكن قد ماتت فماذا جرى على المال وأي يد ألقيت عليه؟ وطفق يذكر ويقلب صفحات سبع وعشرين سنة ... هجر فيها زوجته وتركها تتقلب وحدها على الفراش، تفكر فيه كل ليلة وتشتاق إليه وتمني نفسها بعودته في صباحها. تسعة آلاف وسبعمئة وعشرين ليلة ... غبرت عليها وهي تتجرع كل ليلة منها هذه الكأس. فماذا حملت من همّ، وماذا ذاقت من ألم؟ وهل بقيت بعد ذلك في الأحياء؟ وتمنى لو أن مخبراً يخبره عنها وعن ماله ثم يطلب إليه ما يشاء، وأحس كأن رأسه سيصدع من التفكير، ولكنه طفق يفكر على الرغم منه. ذكر كيف لبث أياماً وليالي لا تفارق صورتها مخيلته، حتى

واجه العدو وانغمس في القتال، فلم يكن يذكرها إلا حين يأوي إلى فراشه. ثم أمعن في الجهاد، فلم يعد يذكرها أبداً، وظن أنه لم يبقَ لها في نفسه أثر حتى انفجرت ذكرياته كلها في هذه الليلة انفجاراً. وجعل يتخيل هذه الدهشة اللذيذة التي ستغمرها حين تراه قد عاد إليها، ولم يعد يقوى على البقاء، وتمنى لو طار إلى المدينة طيراناً. لقد خرج منها وهو شاب ما في وجهه ولا في رأسه شعرة بيضاء، فاشتعل رأسه ولحيته شيباً. وتصور - كرة أخرى - أنه سيموت فاستفظع أن يموت ولمّا يَرَ زوجته، ولمّا يقبض ماله، ولمّا يرَ العقيق ووادي النقا ومسجد الرسول. واشتد به الحنين، فأسرع من فوره إلى القائد يستأذنه بالقفول. * * * عاد يطوي البلدان؛ لا يستقر في مكان ولا يقيم في بلد حتى يعاوده الحنين فيدعه يوالي مسيره، لا ينقطع لحظة عن التفكير في زوجته وماله، تلك الثلاثون ألف دينار، ثروته كلها وكنزه الذي يبني عليه الأماني. إنه سيضم إليه هذه الأربعة من الآلاف التي جمعها من عطائه ومن نصيبه من الغنائم. وكان يتصور ألوان الممكنات، ولكنه لا يطمئن إلى صورة حتى ينتقل إلى غيرها، لا يهدأ ولا يستريح، وكان يخشى أن يدركه الأجل قبل أن يبلغ

أمله، فَيَكِز فرسه ويعدو بها عدواً شديداً كأنما كان يسابق الموت. حتى إذا لاحت له طلائع الجزيرة، وبدت رمالها الأزلية التي أعجزت الجبابرة والفاتحين فلم ينالوا منها منالاً، وأعجزت الحياة فلم تقدر عليها ولم تدخل حماها ولم تخرج فيها نبتة مخضرة، وأعجزت الممات فلم يبدلها ولم ينل منها، فكأنها كانت تعيش فوق أنظمة الحياة والموت ... لما بدت له هذه الرمال اطمأن إليها وأنس بها، وأحس أن سَمومها روح لقلبه ونعيم، وأن شمسها المحرقة ظل عليه ظليل، وأن جبالها الجرد وبيدها القاحلة رياض في عينيه وجنات. وجعل يغذّ السير فيها حتى بدت له جبال المدينة تلوح له على حواشي الأفق، فلم يتمالك نفسه أن يصيح من الفرح ويطير إليه. * * * رقص قلبه في صدره حين بدت له طلائع المدينة ضحى، وأحس كأنه لم يرها قط بهذه البهجة وهذا الرواء. وكان ذهنه قد كلّ من التفكير فترك كل شيء للمقادير، وانطلق يعد نفسه لكل ما تفجؤه به. وكان قد صار حيال «أحد» فوقف يتأمله وهو مأخوذ برونقه وجماله، وهذه الألوان التي تمتزج فيها حمرة الرمال بزرقة الصخور وبياضها، فيكون منها صورة فاتنة لا يمل الناظر من النظر إليها. وكان فرّوخ يجد في النظر إليه لذة ويذكر فيه عالماً مبهماً من الذكريات والمتع، أنساه غايته لحظات، استدار على إثرها فترك العقيق عن يمينه (وكان خالياً في تلك الساعة من النهار)، وساق راحلته فانكشفت له المدينة ورأى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولم

تكن قد أنشئت عليه هذه القبة لأن القوم لا يزالون إلى ذلك العهد على السنة الصحيحة، ولم تكن هذه البدع وهذه المظاهر قد عرفت طريقها إلى نفوسهم)، فذهب يؤم منزله وهو بسلاحه على راحلته، وكان يعرفه كأنه قد فارقه أمس. ولم تتغير المدينة عن عهده بها كثيراً، ولكن آثر أن يغلب هواه ويقهر رغبته، ويبدأ بمسجد الرسول. ومَنذا الذي يدخل المدينة ولا يبدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ صلى في الروضة، وسلم على الرسول، ثم تلفت فإذا هو بحلقة عظيمة تزدحم فيها العمائم، فتطاوَلَ فلم يبصر وجه صاحبها ولم يعرفه، فوقف يستمع فسمع عجباً أنساه الدار والمال والزوجة، فظل في مكانه حتى أذّن المؤذن بالعصر فانفضّت الحلقة، وذهب فرّوخ يصلي مع الجماعة فشغلته الصلاة عن كل شيء. لم ير فرّوخ المدرّس ولم يعرفه، فذهب يسأل جاره. قال له: من صاحب الحلقة التي كانت هنا آنفاً؟ فحدق فيه الرجل وقال له: ألا تعرفه؟ ألا تعرف ربيعة الرأي؟ من أين أنت أيها الرجل؟ - غريب قدم الساعة. فمَن ربيعة الرأي هذا؟ - هذا فقيه البلد وإمامه. هذا شيخ مالك وسفيان الثوري وشعبة والليث بن سعد .. ألا تعرف هؤلاء؟ هؤلاء هم علماء المسلمين وأئمة الدنيا. هذا الذي يجلس في حلقته أربعون معتمّاً من شيوخ الحديث. أعرفت من هو ربيعة الرأي؟ هذا الذي أنفق على

نفسه وعلى طلبة العلم ثلاثين ألف دينار، أرأيت مثل هذا؟ أسمعت به؟ إنه لم يجلس للناس حتى بلغ من العلم والعبادة مبلغ مَن يشهد له ابن عمر، أفتعرف من هو ابن عمر أم أنت لم تسمع به؟ فقال فرّوخ: بلى؛ لقد عرفت، لقد عرفت. وقام إلى فرسه وقد ارتبطها بباب المسجد، فركبها وحمل رمحه وانطلق إلى داره، وقد هاجت في نفسه ذكرياته وشكوكه وعادت إليها صورة زوجته، فإذا هو يبصرها للمرة الواحدة والسبعين بثيابها البيضاء تشير إليه ألا يذهب، وصورة الثلاثين ألفاً. ماذا جرى عليها، وأي جديد مفاجئ ستلقاه به المقادير؟ ولم تكن داره نائية عن المسجد، فبلغها بعد قليل ونزل عن فرسه ورمحه بيده، وهمّ بخفق الباب، فما راعه إلا شاب حسن الثياب، مكتمل الفتوة، يخرج منه، تشيعه امرأته. نعم؛ امرأته سهيلة. لقد عرفها من النظرة الأولى برغم ما تغيرت، ورآها بعينه تشيّع هذا الشاب ثم تدخل وتغلق الباب، فهاج دمه في عروقه وأقبل عليه مزمجراً صارخاً، فنحّاه عن الباب وهمّ بدخول المنزل، فعجب منه الشاب. «وصاح به: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ قال: بل أنت عدو الله، تدخل على زوجتي؟ وتواثبا، وتلبب كل منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا أفارقك إلا عند السلطان. وجعل فرّوخ يقول: ولا أفارقك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي.

وكثر الضجيج. فلما أبصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال مالك: أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار. قال الشيخ: هي داري، وأنا فرّوخ مولى بني فلان. فسمعت امرأته كلامه، فخرجت فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به. فاعتنقا وبكيا جميعاً، ودخل فروخ المنزل» (¬1). * * * قال فروخ لزوجته وقد خرج ربيعة وبقيا وحيدين: سامحيني يا سهيلة، لقد أسأت إليك. إني أحبك، أحبك. - أتحبني وقد صرت عجوزاً؟ - الجمال هو الإخلاص يا سهيلة. أحبك دائماً، إني أراك أجمل النساء. وانطلقا يتحدثان ساعة، فقال لها: هذه أربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي عندك. لقد صرنا أغنياء يا سهيلة! مالك تترددين؟ ألا تخرجين المال؟ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد (8/ 420). والذي هو بين الأهلّة هو كل ما روى التاريخ من خبر فروخ أحببت أن أثبته كما هو، والقصة في «وفيات الأعيان».

قالت: لِمَ لمْ تُصَلِّ في مسجد رسول الله يا فرّوخ؟ قال: لقد صليت فيه، ورأيت عجباً. سمعت من رجل يدعونه ربيعة الرأي كلاماً ما كنت أظن أحداً يقول مثله؛ لكأنه - والله - كلام الأنبياء. لقد ندمت على أن أنفقت حياتي ولم أطلب علماً. قالت: أيسرك أنك مثله وتخسر كل ما تملك؟ قال: نعم؛ إن ذلك ليسرني. قالت: فإن كان ابنك مثله، أيسرك أن تكون أنفقت عليه مالك كله؟ قال: نعم؛ ذلك آثر عندي. قالت: هو والله ابنك، وقد أنفقتُ عليه المال كله. ألا تشتريه بثلاثين ألف دينار؟ فوثب الرجل وهو يصيح: ابني؟ ربيعة الرأي ابني؟! وخرج يفتّش عن ابنه كالمجنون. * * *

هند والمغيرة

هند والمغيرة في عشية (من عشايا سنة 41 للهجرة) ساكتة لا يُسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يُرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على الحيرة - إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق - عجوزاً طاعنة، قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة، تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة. كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمُحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم واستراحت من الحزن، تطوي أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها. إنها لا تعيش في دنيا الناس، ولا يعيشون في دنياها. إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي

افتقدته من زمان؛ عالم الحيرة، وعدي بن زيد، والنعمان ... العالَم الذي احتوى مسراتها وأحزانها وروحها، فلما مر حمل ذلك كله معه؛ فعاشت من بعده بلا حب، ولا مسرات، ولا أحزان، ولا روح، إلا هذه الذكريات التي تنقر كل يوم نقرة في قلبها. فلو كان حجراً صلداً لتفتت، فكيف وهو من لحم ودم؟ لقد بنت هذا الدير وتوارت وراء جدرانه، وعاشت منه في المنطقة الحرام بين الحياتين. فلا هي بحياة الناس الدنيا، فيها متعتها وملاهيها ومشاغلها، ولا هي بالحياة الأخرى. منطقة وراء الحياة ودون الموت هي معيشة الدير. وزادها ضيقاً وجموداً أنها في الدير وحدها، بَنَته لتأوي إليه تناجي فيه ذكريات حبيبها الذي فُجعت به وعافت لأجله الأرض برحبها وسعتها، وصبرت على هذا السجن الدهر الأطول، لا تدري مما وراء بابه إلا طرفاً مما يحمله إليها رجال القوافل الذين كانوا يمرون بها. وكان أقصى ما تصنعه إذا هي نشطت يوماً وأحبت أن تفارق منسكها أن تسلك هذا الطريق الذي طالما مر عليه فاتحون ومنهزمون، وسارت فيه الحضارة مصعدة وهابطة، ومشى فيه ملوك وسوقة، وسوقة وملوك، ذهبوا جميعاً إلى حيث لا يؤوب ذاهب، حتى تتعب من المسير فتجلس على رابية، وتشرف على البلد الحبيب: الحيرة، التي كانت يوماً موطن هواها، وكان فيها الإنسان الذي أعطته قلبها وأعطاها متعة العمر، فترى الحيرة لا تزال ترفل في حلل الخزامى والأقحوان، ولا تزال قصورها البيض تخطر تيّاهة بين البساتين، ولا يزال نسيمها معطراً بأنفاس المحبين، تطفو على وجهه همسات الغرام. ولكنها لم تكن تحيا فيها؛ كانت تفكر في

ماضيها. وما أصعب أن يعيش المرء في الماضي! ثم تذكر أنه لم يبق أحد من ناس بلدها الحبيب. لقد ذهبوا، ولا تدري أين ذهبوا ولِمَ بقيت هي وحدها من بعدهم؟ وجاء هؤلاء، ولا تدري من أين جاؤوا. حتى تغرب الشمس وراء الأفق البعيد وتمشي الظلمة إلى الكون، فتعود وفي قلبها ظلمة أخرى، ولكنها لا تأمل أن يكر عليها فجر يوم جديد. لقد خلّفت ضياء الفجر في طريق العمر فلا تملك أن تعود إليه. لقد كُتب عليها أن تعيش في ليل دائم، وصمت سرمدي، هو صمت هذه الصحراء التي وسع صدرها أسرار الزمان ثم أغلق عليه إلى الأبد. كم بين ترابها ورملها، كم تحت روابيها وقبورها من بقايا قلوب كانت محبة وكانت محبوبة، وأجسام كان فيها فتنة وجمال. وما أقرب ما يصير قلبها هي (أيضاً) تراباً فيها تطؤه أقدام لا تعرف أصحابها. فما الحب، وما الجمال، وما الدنيا؟ إنها زوال في زوال! وقامت العجوز تجر رجلها إلى الدير لتبدأ ليلة مملة طويلة، كآلاف الليالي التي مرت بها من قبل، ليالي لا آخر لها ولا أمل يسطع من خلالها. إن السجين يأمُل بالعفو ويرجو الحرية، ويتسلى بحديث الرفاق ويأنس بأحداث السجن. وهي لا ترجو شيئاً، ولا تأنس بأحد، ولا تتسلى بحادث. ولطالما أمضت ليالي قصيرة حلوة، تلك هي ليالي الحب والوصال، ليالي زوجها عدي فتى الفتيان وأبيها النعمان. إنها كلما فكرت فيها رأتها دانية منها قريبة كأنها لم

يطلع لها صبح، فأين - يا تبصر (¬1) - مكانها من الوجود؟ أفَنِيَتْ وعادت عدماً؟ لا، إن الفناء لا يقوى عليها. إنها موجودة في الكون كوجودها في ذاكرتها. إن الفناء لا يدرك حقيقتها كما أن النسيان لا يقوى على محو صورها. إنها لا تشبع من الإيغال في هذا الماضي لأنها كلما أوغلت فيه جَدّتْ لها طرق ظليلة لا عهد لها بها، قد أزهر فيها المجد وبدا السنا، ورُبىً على كل رابية فراش غرام مرشوش بالعطر والشعر، ووجوه أحبة كانت تعيش بهم ولهم. ولطالما اجتوَت (¬2) (من محبتها هذا الماضي) حاضرَها فخامرتها فكرة الموت، فمشت تقصد النهر، حتى إذا أدنتها خطاها الواهنة من مياهه ورأتها تلمع كالمرآة أشفقت من الموت وهابته وارتدت عنه للمرة الخامسة بعد الألف. إنها لا تريد أن تموت ولا تزال متعلقة بحياة قد أقفرت من المجد والحب! * * * ولما دلفت إلى مخدعها في الدير سمعت ضجة، وقالوا لها إنه الأمير، المغيرة بن شعبة، يستأذن عليك. الأمير؟ ما لها وللأمير؟ ما شأنه بها؟ ما يبتغي لديها؟ أما ¬

_ (¬1) إذا جاز أن نقول: «يا ترى» فلمَ لا نقول: «يا تبصر»، فننجو من هذا الابتذال ونأتي بجديد؟ والإعراب في كليهما واحد، فقدِّرْ لـ «يا» منادىً وخاطِبْه. (¬2) اجتوى الشيء واستجواه: كرهه (مجاهد).

تركت له ولقومه ملك أبيها، فلِمَ لا يترك لها ديرها؟ وفكرت ... ثم أذنت له. فدخل عليها، فبسطت له مسحاً وسألته: ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً! خاطباً؟! إنها كلمة لم تسمعها من عمر طويل، فلما طرقت سمعها هزت وتراً في قلبها كان قد صدئ ونسيت ضيفها وقفزت إلى الماضي فغابت عن حاضرها، وغرقت في ذهلة عميقة امتدت أبداً، والمغيرة يرقب جوابها، ولكنه كان أكيَسَ من أن يفسد عليها أحلامها، فانتظر صابراً. تخيلت أنها قد عادت فجأة تلك الفتاة التي كانت فتنة القلب والنظر وكانت مطمح الأنفس والفِكَر، قد جمع الله لها المجد كله والجمال كله، فهي عروس الزمان بهاء وحسناً، وهي بنت النعمان أعز عربي عزاً وأمجده مجداً. وأنها قد عادت أيام الحيرة، ورجع الفصح والشعانين، فخرجت إلى البيعة تتقرب فيها، فلما احتوتها البيعة وأمنت الأنظار ألقت عنها خمارها وأخرجت هذه اللؤلؤة من صدفتها، وأبدت ذلك الجسم الذي كانت تتقطع على الوصول إليه قلوب الرجال، ولم تدرِ أن الزمان أراد أن يؤلّف قصة حب تتلى بعد أربعة عشر قرناً، فجاء بعدي بن زيد، الشاعر الجميل، ليختلس النظر إليها ويقع في قلبه هواها. فلما رأته استترت منه وسبّت جواريها، وظنت أن القصة خُتمت قبل أن تفتح؛ لم تدرِ أنها قد سُطرت منها الأسطر الأولى لتكون سفر سعادتها العاجلة وشقائها الطويل. لقد كانت جاريتها مارية تحب عدياً ولا تجد إلى الوصول

إليه سبيلاً، إلا أن تأتي بهند لتُحِلّها مكان المحبوبة من قلبه، ترضي بذلك حبها ونفسها. وقد يفنى المحب في الحبيب فيبني مسرته على أساس من شقاء نفسه! ومشت بين عدي وهند تدير خيط الحب من حولهما، حتى غدا سبباً قوياً وجامعة لا تنقطع. لقد صبرت حتى مضى حَولٌ كامل على يوم الشعانين ونسيته هند، فواعدت مارية عدياً بِيعة ثوما، وأغرت هنداً بزيارتها فاستأذنت أمها فأذنت لها، وهنالك عرفت هند ما الغرام وذاقت غصصه. يا ويل مارية! لقد جعلت هنداً مهراً لها لزواج ليلة (¬1). لقد تعرضت لعدي غداة يوم ثوما فهش لها وبش (وقد كان لا يكلمها) وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة! قال: اذكريها، فوالله لا تسألينني شيئاً إلا أعطيتك إياه. قالت: أريد ... وسكتت. وأدركها الخجل، ونطقت عيناها وفهم عنها، فأخذ بيدها إلى حانوت خمار في الحيرة. وكافأته بأن وعدته أن تحتال له في هند. وتتالت الصور على قلب هند، فذكرت ليالي زواجها بعدي. فكانت - لقوة الذكرى - تحس على لسانها حلاوة تلك القبل، وتجد على عنقها لذة ذلك العناق، وعاد قلبها شاباً (على أن قلب المرأة والشاعر لا يفارقهما الشباب أبداً). ومدت يدها إلى المغيرة تحسب أنه - لِما طغى عليها من الخيال - عدي الحبيب، فلما أحس بها أجفل منها وانتفض، فتهاوى الحلم وتهافت، ¬

_ (¬1) لأنهم كانوا قوماً نصارى تُمهِر نساؤهم الرجال (وتلك هي الدوطة).

وهبطت المسكينة إلى أرض الحقيقة الصلدة، فإذا هي لم تفارق أرضها ولم تَطِرْ في سماء الأماني. وإذا هي تتحسس وجهها فتلقاه ذابلاً ذاوياً ذا غضون، ولا تلقى على لسانها من قبل الحبيب إلا مرارة الفقد، ولا تجد في قلبها إلا ذكرى الفاجعة (التي تركت لأجلها دنياها، وبنت ديرها فحبست فيه نفسها). فماذا يريد منها هذا الرجل الذي اقتحم عليها معتزلها في هذه العشية الساكتة؟ أجاء يخطب عجوزاً قد بقيت وحدها إرثاً من الدنيا التي فنيت واضمحلت (دنيا النعمان وكسرى) للدنيا التي يظهر أنها لن تضمحل أبداً (دنيا محمد صلى الله عليه وسلم)؟ أيريد أن يتزوج ميتة تمشي؟ لا؛ بل هو يريدها لأنها ابنة النعمان. ونسيت تطوافها الأليم بمرابع ماضيها، وغاب عنها الحبيب الذي كان يتراءى لها من وراء حجب الزمان، وأدركها إرثها الماجد من حزم النعمان فقالت للمغيرة: «لو علمتُ أن فيّ خصلة من جمال أو شباب رغبتْك فيّ لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته. فبحق معبودك، هذا أردت؟ قال: إي والله. قالت: لا سبيل إليه» (¬1). * * * ¬

_ (¬1) بين الأقواس جمل من التاريخ، والقصة على عهدة الشيخ الأموي صاحب «الأغاني».

وخرج المغيرة، وعادت العجوز إلى مكابدة الذكريات وحيدة في لياليها الطوال. وأعرض عنها التاريخ لا يلتفت إليها فيواسيها، لأنه لم يتعود الوقوف إلا على أبواب الملوك وفي ساحات الحروب! * * *

هجرة معلم

هجرة معلم يرى كل من يعبر البادية من شرقها إلى غربها (إذا هو قارب الساحل) سلسلة طويلة من الجبال، تلوح له من مسيرة أيام، زرقاء كأنها معلقة فوق الأفق أو غارقة في السماء. ولكن هذه الجبال تَضِحُ كلما دنا منها وتستبين، حتى إذا بلغها ألفاها بناءً عظيماً من الصخر الأصم، إذا حاول أن يتقصّى بنظره أعاليه سقط عقاله عن رأسه ولم ير شيئاً لأن أعاليه غائبة وسط السحاب المتراكم، فيقرّ في وهمه أنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويقف حياله خاشعاً خاضعاً شاعراً بالمذلّة والهوان. هذه هي السلسلة الهائلة التي تخرج من الجنوب (من البحر) ثم تضطجع على الرمال بصخورها وجلاميدها، وأوديتها التي لا قرار لها، وذُراها التي ليس لها عدد، وسفوحها التي يضل فيها الهدى، وثناياها التي تموت فيها الحياة، وصمتها المهول، وجلالها الخالد ... تضطجع متمددة بهذا الجسم الأزلي الجبار، حتى تُصاقِب (¬1) الشام وتبلغ مشارفه، فتهبط سفوحها مترفقة سهلة متتالية حتى تفنى في تلك السهول الخضراء. * * * ¬

_ (¬1) صاقَبَ الشيءَ مُصاقَبة: قاربه وواجهه (مجاهد).

إذا قُدّر لك أن تتوغل في هذه الأودية العميقة الموحشة، ثم تتسلق هذه الجبال ترتقي من ذروة إلى ذروة حتى تبلغ تلك القُنن (¬1) الشامخة التي لا يعلوها شيء، رأيت فيها طوداً باذخاً قد شهق واستطال في السماء، واستعرض حتى ضاعت جوانبه في هذه الجبال التي تتشعب من حوله صاعدة منحدرة في تسلق واتساق، كأنها الأمواج العظيمة في البحر الهائج الغَضوب، لولا أن ماءها الرمل والحصى وجَلْمَد الصخر، وأن عمر الموج ساعة وأنها من لِدات الدهر ... كما ضاعت أعاليه في الغمام المسخر بين السماء والأرض. على ضهر (¬2) هذا الطود، فوق قلعة من تلك القلعات الراسيات، كانت ترقد القرية ببيوتها ودروبها وبساتينها، متوارية مختبئة ضالّة في فلوات السماء، تشرف على الأرض من فوق السحاب فلا ترى منها إلا خيال هذه الصحارى الواسعة يبدو من بعيد موشّىً بالرمال المتسعّرة الملتهبة والسراب الذي يظل أبداً لامعاً خدّاعاً كأنه الحياة الدنيا! هذه الصخور وهذه الأودية وهذه الصحراء هي - عند أهل القرية - الوجود كله! في طرف من أطراف هذه القرية كان يجثم بيت صغير منفرد قائم على شفير الوادي. إذا أنت دخلته لم تجد فيه إلا طائفة من ¬

_ (¬1) القُنَن والقِنان جمع قُنّة، وهي من أي شيء أعلاه. والقُنّة -أيضاً- الجبل المنفرد المرتفع في السماء (مجاهد). (¬2) الضهر (بالضاد) أعلى الجبل، ومنه «ضهور الشوير» من سواحل الشام.

الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا، وشاباً على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشاءها. والشاب غض الإهاب حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره. وبيد الشاب عصا طويلة، يشير بها ويهزها فوق رؤوس الصبية وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامَهم. تلك هي مدرسة القرية وهؤلاء هم تلاميذها، أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كُلَيب! وكانت أمسية طلقة، أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً ... حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبقَ منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها، وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة وحناجرهم الدقيقة الرنانة ... زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه، وولّى ووجه شطر الصحارى البعيدة يفتّش فيها عن الطريق إلى أمنيتّه التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته، وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة، وبات لا يعرف غيرها ولا يفكر إلا فيها ولا يعيش إلا

لتحقيقها. وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته فنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرّم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء. ولّى وجهه شطر الصحارى. ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة وقفارها الواسعة إلى تلك البلاد التي يسمع عنها، ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيّلة شاعر ملهَم أو مصور فنان (¬1)؛ إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين وينمو الآس ويُزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدّرة من أعالي الجبال الشجراء ... فوقف يحلم بالوصول إليها ويتأمل صورتها التي صنعها خياله، وأقامها أمام عينيه خاشعاً خشوع العابد في محرابه، مَشوقاً شوق المحب المتيّم إلى صاحبته، مستغرقاً استغراق الصوفي في مراقبته والحالم في أحلامه، لا يحس مما حوله شيئاً! وظل واقفاً شاخصاً إلى الأفق غارقاً في تأملاته، حتى لاح على الأفق من ناحية المشرق سواد خفيف، لم يلبث أن اشتد حتى شمل الصحارى النائية، ثم امتد حتى عم القفر كله، ثم تسلق السفوح حتى غمر القمم الواطية، ثم وصل إلى الذرى العالية فلفها هي والقرية في ثوبه القاتم وأحال الكون كله كتلة من الظلام ... عند ذلك انتبه كليب وأفاق من ذهلته، فذهب إلى منزله خائباً يجر ¬

_ (¬1) ما في استعمال هذه الكلمة بأس، ولو كره المتحذلقون.

رجله جراً، وبات أَرِقاً مسهداً، ينتظر انبلاج الفجر ليحمل عصاه ويعود إلى صبيانه. * * * لم يكن كليب جاهلاً ولا محمّقاً، وإنما كان أديباً أريباً فطناً ذكياً، من أبلغ الناس لساناً وأجرئهم جناناً، وكان من أحفظهم لكتاب الله، وأبصرهم بالشعر، وكان فتى بادي الفتوة، قوياً ظاهر القوة، لا يعرف اللهو ولا يميل إلى اللعب، ولكنه يعرف الجد في أموره كلها، ويحب النظام، ويميل إلى الصدق، ويأخذ تلاميذه وأصحابه بشيء من القسوة أحياناً، واللين حيناً، وكان يجنح إلى الحزم ولو اضطره الحزم إلى كثير من الشدة والصرامة. ولم يكن يؤخذ عليه إلا هذه الأمنية التي كانت تخرج به - في كثير من أيامه - عن الوقار والحزم، وتدنو به - أحياناً - من اليأس والضعف، وتَعرضه على عيون الناس خفيفاً طياشاً، وهو الرزين الوقور، وتلقي الخلاف بينه وبين شريكه وزميله عقيل، الذي كان أعرق منه في الصناعة، وأعلى في السن، وأكثر اختباراً للحياة، وإن كان دونه في مضاء عزيمته وقوة شخصيته. حتى لقد اضطر عقيل إلى لومه مرراً، وحاول مرة أن يسخر من هذه الحماقة التي ملأت رأسه وأن يصرفه عنها، وأن ينتزع من نفسه الرغبة في الإمارة والسلطان ... ولا يجد ما يقوله فيصمت هو أيضاً ويعاودان العمل. وكثيراً ما كانت تطغى على كليب أحلامه، فتغلب عليه

وتستأثر به، فينسى حاضره الواقع ويعيش في مستقبله المأمول، فيحس كأنه في دست الملك لا على حشيَّة المعلم، وأن أمامه الحاشية والأعوان لا الأولاد والصبيان. فيرفع صوته آمراً ناهياً، ويستغرق في أمره ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة، فتستبق القهقهات إلى شفاههم، ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه، ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين ... فيتنبه المعلم الشاب فيُبلسون، ويزعق فيهم فيسكتون. ويتكرر ذلك، ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذّبونه باديَ الرأي، ثم يصدّقونه، ثم يشيعونه في البلاد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون. وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلاً وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ! * * * وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان دأبه أن يسبقهم، فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته، فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه. ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه ... فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذِروة من هذه الذُّرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً! ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه

منذ الصباح ينحدر وحده يقفز من حجر إلى حجر، فحييناه فلم يرد علينا تحيتنا لأنه كان ذاهلاً قد تعلق بصره بالأفق النائي ... ونظن أنه سار يومه كله، ولن تدركوه أبداً لأنكم لا تدرون أي سبيل سلك! فاسترجع أهل القرية، واستعبروا أسفاً على أن جُنّ هذا المعلم الشاب، وأيقنوا أنه سيموت في هذه البادية وحيداً شريداً. * * * سار كليب يومين كاملين على غير ما طريق مسلوك أو جادة واضحة، يبتغي المنازل والمنحدرات، تسلمه كل ذروة إلى التي تحتها وكل سفح إلى الذي يليه، لا يحس تعباً ولا يخشى أذى لأن آماله قد ملأته شجاعة وصبراً، ثم إنه كان في أول الطريق، فهو لا يزال نشيطاً قوياً ولا يزال زاده كاملاً، ثم إن الحر لم يكن قد غمر هذه الجبال، وهي - بعد - في أواسط الربيع. فلما بلغ الصحراء (والصحراء لاتعرف، إذا استَعَرت شمسها وحميت رمالها، ربيعاً ولا خريفاً)، ولما أوغل فيها واحتواه جوفها، ونفد ما حمل من الزاد، والتهبت شمس الضحى التهاباً، وغلى الهواء غلَياناً ... جففت هذه الشمس أحلامه الندية وأحالتها بخاراً، وطيرت أمانيه من رأسه، ووضعت عقله في جلده ومعدته، فواجه الحقيقة الواقعة؛ فإذا الصحراء الرحيبة الرهيبة تضيق به، وإذا هو يرى حيثما تلفت شبح الموت المروّع، بعظامه البادية وفكيه المرعبين وجمجمته الفارغة، يتراءى له على الأفق البعيد، يرقب أن يعانقه قبل أن يصل إليه. ويتمثل ذلك في خاطره فيشعر ببرودة هذه

العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض، فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه، فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال الذي يملأ يومه وغده ... ثم يزول النهار، ويشتد أوار الشمس ويبلغ لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبتغي إلا شبراً من ظل ... فيعدو كالمجنون ههنا وهاهناك، والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم ولا شجرة يستذري بها، فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليريح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل، فلا يزيد على أن يدفن نفسه حياً في رماد حار ... فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البُهر (¬1) ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه وينتف شعره بيديه، ويلعن المجد والسلطان، ويلعن هذه الصحراء، ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفها الملتهب. يندم أشد الندامة ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات ¬

_ (¬1) البُهر: تتابع النفَس من الإعياء (مجاهد).

أن يجد إلى العودة من سبيل! لأن بينه وبين القرية هذه الجبال التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه، وهزء صبيانه. وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً. وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، وخبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم ... فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب ويكون لقلبه برداً وسلاماً، ولمعدته رياً وشبعاً، ولروحه حياة. وينظر بعين الحب إلى قريته، ويعرضها كلها بطرقها وبيوتها وبساتينها وهذه المعابر التي سلكها مرات لا يحصيها عد، ويرى داره ويبصر كل حجر فيها وكل زاوية منها ... ثم ينظر إلى هذه الصحراء المترامية حوله، فإذا بها قد ابتلعت هذا الحب وجففته! وحياة الحب قصيرة المدى. وإذا به يحس بالألم، ويشم من حوله رائحة الموت، ويرى نفسه نبتة اجتُثت من الأرض وقُطعت جذورها، ثم ألقيت على هذه الرمال التي يُشوى عليها اللحم (¬1) لتجف وتعود حطبة يابسة بعد إذ هي غصن مورق فَيْنان، ¬

_ (¬1) لا على المجاز، بل الحقيقة التي رأيناها في بوادي الحجاز رأي العين في رحلتنا التي كشفنا فيها طريقاً للسيارات من دمشق إلى مكة سنة 1935م، وكانت سياراتنا أول سيارات سلكت هذه البادية من يوم خلقها الله.

ويخيل إليه أنه فقد حياته كلها حين فقد بلده وأهله وسعادته، فيلقي نظره على هذه الجبال التي خلفها منذ يومين فإذا هي بعيدة، بعيدة جداً، تبدو له خلال السراب اللامع كأنها صورة الأمل المنير، لا تكاد تظهر ... فيسترجع نظرته اليائسة مغسولة بدموع الندم، ويوغل في جحيم الصحراء، تائهاً، يائساً، يمشي إلى الموت. * * * حتى إذا أطفلت (¬1) الشمس، ثم ضعفت وشحب لونها، ثم أسلمت الروح فلبس الكون كله الحداد، ثم برد الرمل واستحال إلى فراش لين جميل ولاحت في السماء النجوم واضحة قوية ... شعر المعلم الشاب بالراحة فاستلقى على قفاه، يتنفس الصعداء من هول هذا اليوم ويتأمل النجوم، ويبصر امتداد الأرض والسماء من حوله؛ فيعجب من جمال الصحراء وبهائها وينتشي بنسيمها الرخي الناعش وسكونها الشامل وجلالها المهيب، ولا يستطيع أن يتصور كيف كان هذا العالم الجميل الفتان يموج قبل ساعات بأشباح الموت وتهاويل العذاب. ورجع (¬2) الليلُ إلى الفتى المعلم حماستَه ونشاطه، وأترع ¬

_ (¬1) أطفلت الشمس وطَفَلت طَفْلاً وطُفولاً: مالت للغروب (مجاهد). (¬2) رَجَعَ هنا فعل متعد بمعنى أرجع، كما في القرآن: {لئِنْ رَجَعَكَ اللهُ إلى طائِفَةٍ منهم}. وباب فعل وأفعل بمعنى واحد باب في اللغة كبير، وقد وجدت السرقسطي (في معجمه المفرد في بابه، «كتاب الأفعال»)، يبدأ به كل باب فيقول: فَعَل وأفْعَل بمعنى. مثل (مطرت=

نفسه قوة وحياة، فرأى أمله الذي بخّرته شمس الضحى قد عاد رطباً ندياً، فجلس وحيداً بين هذه الملخوقات العظيمة: النجوم والسماء والليل والصحراء، يناجي أمانيه ويرسم طريقه إليها. وكان الليل ساكناً هذا السكون العميق الذي لا تعرفه المدن، ولا تدريه القرى، ولا يقدر عليه البحر، وإنما تعرفه الصحراء العظيمة بصمتها وضجيجها وقوتها ولينها، فراقه هذا السكون وملك عليه لبّه، فأصغى إليه إصغاء شديداً، فكان يسمع فيه نشيداً سرمدياً متصلاً، له من الروعة في القلب والأثر في النفس ما لا يكون مثله لهذه الموسيقى المتكلمة الهزيلة الصاخبة الضاوية، التي تخرج من أفواه ضيقة أو آلات حقيرة جامدة، وإن هي عظمت فإنما مخرجها أغصان الدوح الذي يرتل ترتيلة العاصفة، أو السحاب الذي يغني أغنية الرعد، أو البركان الذي يزأر زئير الموت ... أما الصمت فهو نشيد الصحراء الخالد وأغنية الوجود كله! غير أن هذا الصمت ينقطع فجاءَة، ويحمل نسيم الليل الهادئ إلى أذن المعلم الشاب صدى أصوات بعيدة وعميقة، كأنها خارجة من أجواف الغيران أو من بطون القبور. فلم يدرِ أهي من صنع الواقع أم هي من تزوير الخيال. ولم يحفلها، لولا أن النسيم حملها إليه كرّة أخرى وهي أقوى وأشد وضوحاً. ثم تبين فيها حداء حلواً، فتخيل القافلة وهي تضرب في الرمل الناعم البارد، والإبل ¬

_ = السماء وأمطرت، وحلَّ من إحرامه وأحلَّ منه، وحدَّت المرأة على زوجها وأحدَّت). وقد يأتي «فَعَل وأفعل» بمعنى واحد لازماً، وقد يأتي متعدياً، وفي هذا الباب مئات من الأفعال ومئات (مجاهد).

وقد راقها هذا الحداء فمدت أعناقها وأوسعت خطوها وهي طَرِبة سَكرى بخمرة الألحان، ولمس الفرَج يأتيه من حيث تأتي القافلة، وأرهف أذنيه يتسمع هذا الصوت الذي يدنو أبداً يحمل إليه الأمل والسعادة، فإذا بالصوت يتخافت ثم يضمحل وهو أشد ما يكون طرباً به وسروراً، ويسيطر على البادية هذا الصمت العميق، فيألم المعلم الشاب ويحس بالخيبة تحز في قلبه، ويضيق بهذا الصمت الذي كان ينعم به منذ لحظات. وتنعقد السحب فتحجب عن عينيه هذه النجوم المتلألئة (أو يخيل إليه أنها حجبت عنه)، فيدور ببصره، فلا يرى إلا مخلوقاً واحداً هائلاً يحف به من كل مكان فيحس بالرعب، وتثقل عليه هذه الوحدة الموحشة تحت ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة الصمت، وظلمة الخيبة ... ويهم بالتصريخ، ولكنه يقر ويسكن حين يرى هذه النجوم قد ظهرت دانية قريبة، كأنما هي قد استقرت على الأرض على قيد ذراعين منه، تتراقص على ظهر اللجة السوداء تحاول أن تخترق حجب الظلام بأشعتها الكابية الكليلة. وما ينفكُّ يحدق فيها، تختلط أفكاره في رأسه ويحس بأنه قد هوى في وادٍ مظلم سحيق ... ثم لا يحس بعد ذلك شيئاً لأن النوم قد غلب عليه وهو في مكانه. ويشعر المعلم الشاب بيد قوية تهزه هزاً فتقف كل شعرة في جسمه، ويفيق مذعوراً يظن أن الجن تداعبه وتوقظه، فيضغط جفنيه ضغطاً شديداً ويستر وجهه بكفيه، ولكن هذه اليد تقبض على كفيه فتنترهما نتراً، وتخالط أذنه أصوات عجيبة ولغط وضوضاء؛ فلا يشك في أنها أصوات الجن، ويفتح عينيه مضطراً

فإذا هو مسحور، قد بلغ منه السحر أن حجب عن عينيه هذه الظلمة الثقيلة التي كان يغيب في أثنائها وطمس أضواء القافلة الكليلة التي كانت تتراقص أمام عينيه، وبدّل كل شيء في لحظة واحدة ... فإذا الدنيا ممتلئة إشراقاً وضياءً، وإذا هو قد انتقل من الصحراء الجرداء إلى دنيا تَمورُ بالأحياء وتموج بالناس، فيبالغ في فتح عينيه وقد كاد يجن لفرط الدهشة ... ولا يشك أن هؤلاء الذي يرى طائفة من الجن. ثم يعود إليه وعيه ويصحو من نومه، فيتلو قول الله تعالى: {يراكُم هُوَ وَقَبيلُهُ مِن حَيثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، فيعلم أن ليس هؤلاء جناً لأن الجن لا يمكن أن يراهم بشر، ولكنه لا يزال على شكه. أين هو؟ وما هذا الذي يرى؟ فيقول لمن كان يوقظه: أسألك بالذي تحلف به إلا ما أخبرتني أين أنا؟ - أين أنت؟ أنت في هذه البادية! - في هذه البادية؟ وما هذه الـ ... - ويلك يا رجل! لقد حبست القافلة. - اسقوني شربة ماء. فيمضي الرجل ليأتي بالماء، ويحدث كليب نفسه: إذن، فأنا قد نمت إلى الصباح. - خذ واشرب. - الحمد لله. أشكركم. - لقد حبست القافلة. - وماذا تريدون مني؟

- نريد أن نعرف من أنت. إنا لنظنك عيناً للعدو، فمن أين أتيت؟ - أتيت من أعالي هذه الجبال أريد الشام، فضللت ونفد زادي وصهرت دماغي شمسُ الأمس، فعدت أركض على غير هدى حتى انتهيت إلى هذا المكان ... ولست عدواً لأحد. - وما اسمك؟ - اسمي كليب، من آل أبي عقيل. وأريد الشام، فهل تمنّون علي فتحملوني معكم؟ هذه هي دراهمي. ويفرغ كيسه على الرمل، فتتكوم الدارهم والدنانير تنعكس عليها أشعة الشمس فيخطف بريقها البصر. - وفر عليك دراهمك؛ إنّا لا نرزؤك شيئاً. أنت في حمى هذا السيد، فاركب جملك راشداً. ويطغى الفرح على نفس المعلم الشاب حين يقدمون إليه هذا الجمل القوي البازل، وينسيه أن يسأل عن هذا السيد الذي أصبح في حماه، وأن يشكره. ويعلو متن الجمل ببراعة الأعرابي وخفة الشاب الجبلي، ويسير به الجمل وهو يقلب بصره في هذه القافلة العظيمة، فلا يستطيع أن يدرك به آخرها أو يحيط بها، ويأخذه العجب حين يرى مِن حوله مدينة كاملة (برجالها ونسائها وبيوتها وحاجاتها وجندها وحماتها) تنتقل تحت عين الشمس. ثم يشرع الحادي بأغنيته فيصغي إليها كليب حالماً مأخوذاً. * * *

طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة وتنأى عن القرى القليلة القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية ووهج الشمس، حتى رأوا «بصرى» تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطَّفْل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدّت القافلة المسير؛ دأبَ المسافر إذا دنا من بلد أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب من قلب الجزيرة إلى أسوار بصرى، يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة وتعلمها معاني الرمل ... ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل. ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة التي استهوته حتى استسلم إليها ووضع في يدها قياده، فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قرارته ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً ... ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة مجدبة، قد تعرت من الخضرة كما تعرت من الحضارة،

وغاضت فيها ينابيع الماء كما غاضت ينابيع العلم. ثم يرى رجلين يسيران من «أُم القرى» إلى تلك «المدينة» النائمة بين الحرّتين، فينبت الزهر تحت أقدامهما، وتخضرُّ الرمال التي يطؤونها، وتكتسي البادية من حولهما أثواب الحياة. ويرى هذا الرجلَ يستقر في تلك «المدينة» فيبعث من بين حَرّتيها صيحته القوية، فيوقظ النيام ويحيي الجماد ويبعث في النفوس الفضائل والأمجاد، فإذا الجزيرة برملها وصخرها وشمسها المحرقة وجبالها الصلدة تسير وراء محمد صلى الله عليه وسلم (أعظم إنسان وأفضل نبي) لتحمل الحياة إلى سهول الشام والعراق. يا عجباً، يا عجباً! الصحراء القاحلة تمنح الحياة للسهول والبساتين؟! رأى الجزيرة تمشي وراء محمد صلى الله عليه وسلم لتكون موقد المعركة الحمراء التي أكلت الظلم والرذيلة والطغيان، ثم تمشي ثانية لتكون رمالُها بذورَ الأزاهير والأشجار في السهول الخضراء، ثم تمشي مرة ثالثة لتكون قرائحها وأدمغتها مادة هذه الصحف المجيدة البيضاء، ثم، ثم ... ثم بالغ رفيقه في هزه فانتبه كليب. - أفي كل يوم إغفاءة أو إغماءة؟ ما لك أيها الرجل؟ - ... - انزل؛ هذه أسوار بصرى. * * * نزلت القافلة تحت أسوار بصرى في موهن من الليل، فلم تبصر في بصرى إلا قطعة من الظلام الراكد، ولم تجد أثراً لذلك

الطيف البراق الزاهي الذي كان يتراءى لها راقصاً على أشعة الطَّفَل. فهجعت مكانها تنظر الصباح. نامت القافلة يحرسها الحراس، ونام كليب نوماً عميقاً لا يطفو على وجهه حلم، حتى أحس بأنفاس الفجر الباردة على خديه، ففتح عينيه، فرأى طلائع الفجر تضطرب تلقاء المشرق في خطوط ضعيفة كأنها أضواء المصابيح الكليلة، فراقته وتعلق بها بصره. وما شيء يمتلك لب الرائي ويأخذ عليه مشاعره مثل انبلاج الفجر في الصحراء، حين يكون سفير النور، ومهبط الآمال على هذه النفوس التي ملت ظلام الليل وما يعيش في الظلام من مصائب وأوهام. ولم يستطع كليب أن يحمل وحده كل هذا الجمال، وأحب أن يجد صديقاً يشاركه حمل الشعور فكان يلقي على رفيقه النائم (من غير أن يحول وجهه عن المشرق): ما أجمل هذا! وكان صوته هامساً خافتاً كأنه كان يناجي نفسه، فإذا لم يجبه أحد وطغى عليه شعوره عاد يقول: ما أجمل هذا! ألا ترى؟ وكان الفجر قد انبلج واستوى عموده، وامتدت خيوطه فإذا هي تملأ الفلاة كلها، وتَحْسِر عن هذه المشاهد التي كانت مخبوءة وراء حجاب الليل، فإذا هي بارعة فتّانة. ولم يكن صاحبنا المعلم قد رآها من قبل، فشُده حين ظهرت له بغتة كأنها لوحة فنية أُزيح عنها غطاؤها، أو كنز فُتح له بابه، أو متحف فيه كل جميل أخّاذ أُضيئت له جوانبه؛ فلم يدرِ أين كان هذا كله مخبوءاً، وحارت نفسه بين خضرة البساتين التي تحف بالبلد: أينعم النظر إليها ويذوق حلاوتها بعد هذه الأيام الطويلة التي ذاق فيها مرارة البادية،

ويصغي إلى تهامس أوراقها المتلاصقة ونجوى أفنانها المتعانقة، أم يتأمل هذه البنى العظيمة التي أودعها الفنانون أبدع ثمرة من جنى قرائحهم الخصبة، ونزلوا لها عن أجمل نتاج لعبقريتهم ونبوغهم، لتكون عروس البادية، تخطر بعظمتها وجمالها وتتهادى بزخرفها وزينتها على الرمال الخالدة. وكان الفجر قد امتد إلى نفس المعلم الشاب، فأضاء له عوالمها كما أضاء هذا العالم، وحسر له عن آماله التي كانت مختفية في ظلام الأسفار كما كانت هذه المشاهد غائبة في سواد الليل، فعاد إليها وتمثلها قوية ظاهرة، وأحس كأن فجر حياته الماجدة قد انبثق فختم صفحة هذا الليل الأسود الذي قضاه معلماً في أعالي الجبال، ليفتح صفحة النهار الوضاء الذي يقضيه في المدن الكبيرة أميراً عظيماً. وتلهّى بأحلامه عن هاتين اللوحتين اللتين حار بينهما أولاً: اللوحة التي وشاها الربيع واللوحة التي زينها الفن، وانطلق يفكر في دمشق: ماذا تكون إذا كان هذا كله لقرية من قراها؟ * * * بقيت القافلة في بصرى ريثما باعت واشترت وقضى تجارها وطراً من الربح والكسب، ثم توجهت تلقاء دمشق. وكان المعلم الشاب يكلف ذهنه ضروباً من الكد ليُمثّل له صورة لدمشق تشبه ما كان يسمع عنها من الأخبار التي كانت تشيع في الأرض، حتى تبلغ تلك الذرى العالية التي تهجع عليها قريته فتُنشَر فيها مكبرة منفوخة مكسوة بأنواع المبالغات: تُصوّر له دمشق جنة كالتي وُعد

المتقون، لها من العظمة والجلال ما تتضاءل أمامه عظمة «المدائن» التي كان يتحدث بها العجائز من قومه، وتُخيّل له من جلال الخليفة وضخامة سلطانه ما يصغر معه ملك كسرى ويهون ... ولِمَ لا؟ وملك كسرى كله عمالة من عمالات الخليفة وولاية من ولاياته! كان المعلم الشاب يكد ذهنه ليتصور دمشق ويتبين طريقه إلى النجاح فيها، وكان يحسب - لطول ما عزم على السفر وتردد فيه، ولعظم ما لاقى من الأهوال والمشاق - أنه ليس بينه وبين المجد والولاية إلا أن يهبط دمشق، فإذا هو والٍ أو أمير! وكانت القافلة قد علت نشزاً من الأرض فانكشفت أمامها دمشق العظيمة؛ أقدم بلدان الأرض وأجملها، وهي في مثل حلة العروس، يضحك في أعطافها الجمال، تميس بثوب العرس الأبيض الشفاف الذي نسجته أكف الربيع من زهر المشمش الهفهاف، تموج في خديها دماء الشباب ظاهرة في زهر الدراق الأحمر الفاتن، وعبق أزهارها يعطر الجو كله، الأرض والسماء والجبال والصحارى المجاورة ... فأُخذ كليب بها أخذاً، ورقص لها قلبه، وفتن بها فتوناً. ومن ذا الذي يرى غوطة دمشق (وهي في ثوب الربيع) ثم لا يرقص لها قلبه ولا يفتن بها فتوناً؟ ومن ذا الذي يقطع عرض الفلاة، حيث يعتدّ ظل الصخرة القائمة جنة حادرة، ويرى الحشيشة الخضراء روضة الدنيا، ويرى البئر الآسنة مورداً صافياً، ثم يطل على الغوطة، جنة الأرض حقاً وروضة الدنيا، بأشجارها المزهرة المتعانقة وأدواجها الباسقة، وعيونها الدافقة وأنهارها الرائقة، ووردها وزهرها، وطيبها وعطرها، وفتونها

وسحرها، ثم لا يجن بها جنوناً؟ وهل عدّ العرب الغوطة إحدى الروائع الأربع في متحف الطبيعة إلا بعد نظر وفكر؟ كان كليب سابحاً في أحلامه وهو أشد ما يكون بها استمتاعاً حينما ارتفع هذا الغبار من ناحية الشرق عالياً عريضاً، راع القافلة فوقفت تنظر إليه مذعورة. فجفا أحلامَه ووقف مع القافلة ينظر، فإذا الغبار يعلو، ثم تضربه الرياح فيتفرق، ثم يعود فيجتمع. ويفزع رجال القافلة الكبيرة ويظنون الظنون، ويصغي كليب إلى حديثهم فيفهم منهم أنهم لا يدرون ماذا يُراد بهم ولا يعلمون ما هذا الغبار، ويوغلون في الحديث ويتشقق بينهم، فيكشف لكليب عن أشياء كثيرة لم يكن يعرفها وهو في قريته العالية. يعلم كليب أن الدولة في أزمة من هذه الأزمات الخطرة التي تعرفها الدول حين تعصف بها عواصف الانقسام والحرب الداخلية، وأن عبد الملك قلق مُسهَد لا ينام الليل إلا لماماً، فإذا هجع رأى شبح ابن الزبير ينقضُّ عليه فقام مرتاعاً، يخشى أن ينتزع منه الشام ومصر كما انتزع الجزيرة كلها والعراق وخراسان وصار الحاكم المطاع في شرق البلاد وجنوبها، وطالت مدته وامتد حكمه. ثم تنقطع أحاديث القوم، وينظرون إلى الغبار الداني وسيوفهم في أيديهم، ومقاتلتهم أمامهم مستعدون للقتال، فينشقّ الغبار عن الراية الأموية التي يبعث مشهدها الطمأنينة في نفوسهم، ويخرج من تحته بضع مئات من جند الشام، يخالطون القافلة الكبيرة ويكشفون أمرهم على عجل، فيعلم رجال القافلة أنهم حيال فرقة من حرس الصحراء خرجت من دمشق منذ أسبوع لتجول في هذه

الفلوات القريبة، تقيم العواصم والمخافر ثم تعود لتفسح المجال لفرقة أخرى، فتجاوزت حدها وأمعنت في الضرب إلى الجنوب حتى دخلت أرض ابن الزبير، والتقت بهذه الفرقة الحجازية التي كسرتها وردتها على أعقابها ولحقتها لتقضي عليها. وهز هذا الحديث القصير رجال القافلة، فاصطفوا للقاء الفرقة الحجازية التي دنا غبارها، وتلفتوا يفتشون عن الرجل الذي يقودهم إلى المعركة ويشق لهم طريق الظفر ويُلزمهم طاعته إلزاماً، ولن يكون هذا الإلزام إلا بقوة الشخصية وبلاغة اللسان وكبر النفس، وكانت ساعة انتظار وتردد توجهت فيها الأنظار إلى كثير من السادة فخيبوا رجاء الناس فيهم، وأوشكت الفرقة الحجازية أن تصل وهم على جمودهم وانتظارهم. عند ذلك تقدم كليب الذي كان يغالب نفسه ويقسرها على السكون ويمسك بركان حماسته أن ينفجر؛ تقدم حين عجز عن ضبط نفسه، ففتح له طريقاً وسط الفرسان وقد رأى أمانيّه أدنى إليه من أنفه، ومضى فيه مضي السهم حتى صار في رأس القوم، وهم يعجبون منه، وينتظرون أن يقودهم كل رجل في القافلة إلا هذا الشاب الذي أمضى طريقه كله صامتاً حالماً، لم يتحدث بحديث ولم ينطق بكلمة، والذي يظنونه عيياً لا يبين ولا يعرب عن نفسه. ولكن عجبهم لم يطل، فإن الفتى انطلق يخطب فيهم خطبة صارخة مجلجلة تلتهب كلماتها التهاباً، وتحرك جملها الجلاميد الصُّم، وتدع الجبان المخلوع القلب وهو البطل الحُلاحِل (¬1). وكان صوته القوي يمشي إلى حبات القلوب ¬

_ (¬1) الحُلاحِل هو السيد في قومه وهو الرجل الشجاع، وجمعه حَلاحِل (مجاهد).

فتصيبها منه رجفة كما يرتجف الرجل يمسك بسلكة الكهرباء، وكانت إشارة يده وسمات وجهه تنطق بمعانيه قبل أن ينطق بها لسانه، فتحرك الناس وتقودهم حتى كأنهم معلقون بأصبعه. ولم ينته المعلم الشاب من خطابه حتى كان القوم قد خلعوا نفوسهم التي أضناها طول السفر، وأرمضها حر الصحراء، وأضعفها التردد والإحجام، ولبسوا نفوساً جديدة ماضية لا تعرف التردد، قوية لا تعرف التعب، مؤمنة بالظفر لا شك عندها فيه. ولم ينته من خطابه حتى كان الجند الحجازيون قد وصلوا؛ فأطلق من فيه صرخة الحرب، وأغار كالقضاء النازل، ينشد أنشودة الموت والجند ومسلّحة القافلة من ورائه تردد النشيد فتميد له البيد. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى آثر الحجازيون السلامة، ففروا لا يلوون على شيء. واستراحت القافلة حيناً ثم أخذت طريقها إلى دمشق يقدمها كليب «المعلم البطل». * * * كانت دمشق في زلزال شديد، وكان أهلها في هيجان واضطراب، ينتظرون المعركة الفاصلة بينهم وبين ابن الزبير، لينجو العالم الإسلامي من هذا الانقسام الذي ينكره الإسلام ويأباه أشد الإباء، ليعود إلى الوحدة التي جعلها أساس الحياة الدنيوية للمسلمين، كما جعل التوحيد أساس الدين. ولكن أهل دمشق فزعون مشفقون على الخلافة الأموية أن تنهار وتتحطم، وهم بُناتها وحُماتها، يرقبون الأحداث ويتسقطون

الأخبار، ويعدون نفوسهم للتضحية الكبرى في سبيل المبدأ القويم والغاية السامية، كدأب المسلمين في كل عصر وآن. وكان «قصر الخضراء»، مثوى الخلافة وسرة الأرض، في حركة دائمة؛ فمن مجلس يُجمع للشورى، إلى ألوية تُعقد للدفاع. وكذلك كان قصر «مستشار الدولة»، رَوح بن زنباع، الذي أمّه كليب المعلم الشاب صبيحة وصوله إلى دمشق، يقوده إليه زعيم الجند الذين أنقذهم كليب وأعانهم على عدوهم، ليلقى عند روح جزاءه. وكان قصر روح قائماً في ظل المسجد دانياً من باب الفراديس، يجري من تحته بردى متوارياً في حِمى القصر ثم يظهر كرة أخرى، يتحدر ويهدر هديراً سائغاً عذباً وسط جنة دانية القطوف متشابكة الأفنان، قد اتخذ فيها مجلساً يقوم على سيقان من خشب الجوز المنقوش، منغمسة في بردى تغسلها أمواهه دائماً وتداعبها أمواجه الصغيرة، فتقرصها ثم ترتد عنها ضاحكة مقهقهة، وسماء هذا المجلس أغصان الأشجار قد تعاطفت وتعانقت يزينها الياسمين بزهره الناعم العطر، وحول هذا المجلس إطار من الورد والنسرين والنرجس والبنفسج، فهو جنة تنعم فيها العين بهذه الأزاهير المؤتلفة الألوان المختلفة الأشكال، تتمايل وتتهادى حين يسمها هذا النسيم الرخي، فيفوح من أعطافها هذا الشذا الطيب الذي ينعم الأنف برياه، كنعيم الأذن بهذه (الأوركسترا) الإلهية التي تعزف ألحان الفطرة الجميلة الساحرة على حناجر البلابل والشحارير، وبردى فوق هذا كله يغني لحنه

السرمدي، وتنعكس على صفحته المتموجة ألوان الزهر فيكون منها لوحة فنية تزري بألوان الغروب في لجة البحر. والقصر طبقتان من الرخام الأبيض والأسود والمجزع، له رواق على بابه قائم على أساطين من المرمر، قد استفرغ صنعُها وتزيينها عبقريةَ البنّائين والمهندسين فبدت آية معجزة في لغة البناء، تحس لدقتها وإحكامها كأنما هي حية ناطقة نشوى بخمرة هذا الأريج العطر الذي يفوح من أشجار البرتقال والليمون، المكللة بالأزاهير، التي تنافس بعطرها الورد والياسمين، وأشجار المشمش التي تظهر بزهرها الأبيض الشفاف كأنما هي في حلة من الثلج الحي المعطر، وأشجار الدراق التي تبدو بزهرها الأحمر كأنما هي محب ورّد وجنتيه الخجل، وأشجار الحور سكرى تميس بثوبها الجديد الذي خلعته عليها أيدي الربيع ... يتوّج هذا كله منارةُ المسجد الشاهقة في السماء، تنشر في الدنيا كلها العطر السماوي الخالد، وتريق عليها السمو والجلال، فتطهر الأرض من الشرك والرذائل وتطهر النفوس من المطامع والشهوات، وتهبُ على الوجود نسمة من نسمات الجنة حين يخرج منها النداء: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله». كانت دمشق (وما تزال، وستبقى دمشق) جنة الأرض، ودرّة تاجها، وواسطة عقدها؛ ليس في الأرض أجمل منها ولا أحفل بكل محبوب ساحر أخاذ مما يُشَم أو يُرى أو يُسمَع ... وكان قصر روح من أجمل ما في دمشق، وكان فوق الجمال جليلاً فخوراً بساكنيه، يملؤه الحجّاب والجُند وذوو الحاجات، فلا ينصرفون إلا وافرين غانمين شاكرين.

كان محط الجمال والجلال، ولكن كليباً (المعلم البطل) لم يحفل شيئاً من هذا ولم ينظر إليه، لأن من عادته ألا ينظر إلا أمامه، لا يلتفت يَمنة ولا يَسرة لئلا يشغله عن غايته شاغل أو يعوقه معوق. وكانت آماله هي غايته، فمضى إليها قدماً لا يبصر إلا ظهر الجندي الذي سبقه ليدله على الطريق في هذا العالم الصغير، حتى دخل على المستشار. * * * ندع كليباً في حضرة رَوح بن زنباع مستشار الدولة، ونقفز قفزة واحدة إلى واسط مدينة الحجاج؛ نقطع في هذه القفزة سنوات طوالاً مليئة بالأحداث الجسام، من قتل مصعب وعبد الله ابنَي الزبير، إلى عودة الوحدة الإسلامية على يد عبد الملك والحجاج ... فنرى في شوارع واسط الفسيحة شيخاً أعرابياً حافياً يلتفت تلفّت المشدوه الذي لم يُبصر في عمره مدينة كبيرة، يتوسم في وجوه الناس بفضول ظاهر فيفرون منه، حتى زال النهار وكلّت رجلاه من المسير، فجلس في ظل دار من هذه الدور الجديدة كئيباً حزيناً. - ما لك يا عم؟ - ... ... - ما لك؟ أخبرني، ما شأنك؟ فيرفع الأعرابي رأسه ويحدّق في وجه الرجل، حتى يطمئن

إليه ولا يرى فيه ما يريبه، فيقول له: أريد أن تدلني على رجل يدعى كُلَيب بن يوسف الثقفي، من الطائف. فيضطرب الرجل ويسأله: أتدري - ويحك - ما تقول؟ ابن يوسف الثقفي؟ أخو الحجاج؟ فلا يسمع الأعرابي هذه الكلمة حتى يسرى عنه وينطلق ضاحكاً بملء فيه، ويقول: بل هو والله الحجاج. كنا نسميه كليباً، قاتله الله ما أشد عقوقه! ألا تخبرني أين هو هذا الخبيث؟ - قبحك الله من أعرابي جاهل. أبهذا تصف الأمير؟ ويلتفت إلى كل جهة وقلبه يكاد ينخلع من الرعب، يخشى أن يسمع حديثهما أحد. ثم يقول للأعرابي هامساً: اخفض صوتك ... سألتك بالله! - ولِمَ ويحك؟ - ألا تعرف من هو الحجاج؟ ألست من سكان هذه الأرض؟ فيعود الأعرابي إلى الضحك وقد راقه ما يسمع، ويقول له: بل أنا من سكان السماء، هبطت الساعة من أعالي جبال الطائف. أما الحجاج فأنا أعرف الناس به: معلم صبيان أحمق! - ويلك يا أعرابي! هو - والله - أمير العراقين، وقاتل ابن الزبير، وسيف الخلافة الأموية ومثبّت أركانها.

- إنك تهزل! - وهل في هذا هزل؟ سل - ويلك - مَن شئت. - كليب أمير العراقين؟ يا ضيعة شيبتك يا عقيل! ويلك يا هذا، دلني عليه، دلني عليه ... * * * - ... ... - ... ... - ادنُ يا عقيل. - أوَقد عرفتني؟ - وهل ينكر الحجاج أصدقاء كُليب؟ كيف تركت صبياننا؟ - ما أنت والصبيان؟ أنت أمير العراقين. ولكن خبرني ويحك يا كليب: كيف بلغت هذا كله؟ - بلغته لأني «أردت» أن أبلغه. ولم يدرك عقيل ما شأن الإرادة هنا، فانطلق يضحك يحسبها نكتة، ثم سكت فجأة وقال: ولكنه شيء عظيم والله يا كليب، أين هذا من دارك في الطائف؟ - واشواقاه إلى داري في الطائف، وإلى أيامي مع الصبيان!

لقد خلّفت فيها ربيع حياتي يا عقيل، لقد خلّفت فيها ربيع حياتي ... والآن، يا مرحباً، يا مرحباً برفيق الشباب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) روى التاريخ أن الحجاج كان يُدعى في صغره كُلَيباً وكان معلم صبيان في الطائف، وهذا كل ما روى التاريخ.

ليلة الوداع

ليلة الوداع ولّى نهار الإثنين 16 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة وخلّف مكة وهي ثكلى ملتاعة، محطمة القلب مخلّعة الأضلاع، قد غرقت في دماء أبنائها الذين ضربتهم يد الدهر ففرقت جمعهم وشتت شملهم، فراحوا ... فريق مصرّعون على أرض الحرم، وفريق تحت رايات أمية. قد أرمضتهم هذه الحرب الطويلة التي حملوا عناءها وقاسوا لاواءَها سبعة أشهر لم تدع لهم أخضر ولا يابساً، فتسللوا من مكة لِواذاً، ثم تسلقوا هذه الجلاميد التي انتشرت عليها جيوش أمية الغازية فاستسلموا إليها وأخذوا منها لأنفسهم أماناً، ثم كانوا عوناً لها وجنداً فيها. وفريق أقاموا على الولاء لابن الزبير، يذكرون من مات من أهليهم فيَغُصّون بالماء حزناً وألماً، ويذكرون من فرّ من إخوانهم فيوارون وجوههم حياءً وخجلاً، ثم إنهم ينتظرون الموت بين كل لحظة وأختها، ويعيشون خائفين في مقام إبراهيم (ومن دخله كان آمناً!). وألقى الليل غلائله السود على هذه المدينة التي عضتها الحرب بنابها، وأصابتها بأوصابها، فباتت تتنفس الصعداء من شدة يوم قاس عَبوس، تحالفت فيه طبيعة الجو وقسوة القلوب

على حرب هذا البلد الحرام، فلم يكن ينجو من حجارة المنجنيق إلا إلى شَرَى (¬1) الصواعق، فكأن الطبيعة قد شمرت عن ساقها للقتال، فهي ترمي المهاجمين والمدافعين والآمنين من صواعقها ورجومها بشَواظٍ من نار، تصيب به الدور والمنازل فتدعها قاعاً صفصفاً كأن لم تَغْنَ بالأمس. والحَجاج ما ينفك مجالداً مقارعاً، يقذف بأحجار منجنيقه وجنادله بيت الله فيهدم جدران بيت الله، ويرمي بيوت الناس فيُهلك من بقي فيها من أشياخ عجّز لا قبل لهم بالحرب وأهوالها، وأطفال برآء لا يدَ لهم في جرائرها وأوزارها، فيختلط عويلهم وصراخهم بهزيم الرعود وزئير الرياح، ثم تضيع هذه الموسيقى المروعة في جلبة الانهدام، ويخفي الغبار الثائر حول المنازل المهدودة هذا المشهد المرعب لحظة من زمان، ثم ينجلي فإذا التراب قد حوى كل شيء، وإذا المدينة العامرة المقدسة مقبرة من المقابر. وامتد رواق الليل، وصفت السماء وأطل البدر، ونامت الحرب. وكانت الحرب يومئذ طفلة لم تستكمل شراستها، ولم تَنْمُ أنيابُها، ولم يستَطِرْ شرُّها (كما استطار اليوم فغدت لا تنام ولا تُنيم). وكان في نفوس المتحاربين شرف ووفاء، فاستراحوا وأراحوا، ونام هؤلاء الأبطال المدافعون نوم الأُسْد في آجامها، كما نام هذا الجيش الجرار الذي امتد زحفه حتى بلغ أبواب الحرم. سكن الليل وعم شوارع مكة المقفرة الخالية (حيث كان جيش ابن الزبير يروح ويغدو بطبوله وراياته، فطوت كف الردى ¬

_ (¬1) شَرِيَ البرق شَرَىً: لمع وتتابَعَ لمعانه (مجاهد).

راياته وطبوله) وهذه الأوعار (¬1) الصم التي انتشر عليها جيش الحجاج بكبريائه وعنفوانه. عمها كلها صمت عميق وهدوء شامل، فلا تسمع في ثناياه إلا صيحة حارس يتنقل شبحه خلال السواد، أو صرخة جريح معذَّب، ثم يعود السكون. * * * نامت العيون، واستسلم المتحاربون إلى سبات أعمى، وأراق القمر عذوبته وهدوءه على هذه الجبال فبدت جميلة فاتنة، فجفا فراشَه سيدُ الموقف وبطل الجيوش المظفرة وقائدها، وانسلّ في خفية كيلا يشعر حرسه وأعوانه، فجلس على باب الفسطاط يتأمل هذه السماء الصافية ويحدق في النجوم المتوقدة المتلألئة، فتفتح عليه باب الذكرى، فيَلِجُ منه إلى سالفات أيامه فيعيش فيها وينسم أريجها. وحملته هذه النجوم إلى ذكرى بعيدة، فأحس بأنها عزيزة عليه محببة إليه، فطفق يتأمل صورة تلك الليلة (¬2) التي قضاها في الصحراء وحيداً فريداً قد هجر بلده وحياته ليقدم على بلد لا يعرفه وحياة لا عهد له بها، ويستعيد خواطره التي كانت تعتلج في نفسه، وذهب إلى أبعد من ذلك فذكر أيامه في تلك الأعالي الباذخة حين كان معلماً لصبيان الطائف، وأمانيه التي لم يكن يأنس إلا إليها، والتي يحاول أبداً أن يستشف خيالها من وراء ¬

_ (¬1) جمع وَعر (بكسر العين وسكونها) وهو المكان المرتفع (ضد السهل)، والمقصود بالأوعار هنا جبال مكة (مجاهد). (¬2) راجع قصة «هجرة معلم».

حجاب الغيب ... واستمرأ بقايا تلك اللذة التي أحس بها وهو خارج من دار «مستشار الدولة» روح بن زنباع، وقد قلده شارة الشرطة فكانت عنده أكبر من شارة الخلافة. أين ذلك الشرطي من قائد الخميس العَرَمْرَم (¬1) الذي ترك جنات الشام الألفاف وسهوله الفِيح (¬2)، وأبى أن يقطف ثمرة النصر وأزاهر المجد إلا من جلاميد مكة وصخورها، فأمّ بزحفه رؤوس الجبال، ثم هبط نحو مكة يستذري براية الظفر، حتى امتد بزحفه هذا (الذي كان يحسبه مجيداً) إلى أبواب الحرم؟ وألقى نظرة القائد الشاب (ابن السبع والعشرين) على الحرم فرأى الكعبة وقد أضاءها القمر بشعاعه الكابي، فبدت مهدمة مصدعة الجدران رهيبة، فراعه ذلك وأخافه، وعَرَاه ارتجاف شديد هزّ كيانه كله، فعاف ذكرياته وأعرض عن المجد والأماني، ولم يبق في فكره إلا صورة بيت الله المهدّم تظل ماثلة له بعد أن أغمض عينيه عنها، فيحس بأنها تثقل على قلبه حتى لتكاد تسحقه سحقاً، ويكبر هذا الذي أقدم عليه وتملأ نفسَه خشيةُ الله، فيندم ويشتد به الندم. ثم يذكر وعده الذي وعده الخليفة: أن يقضي على ابن الزبير ¬

_ (¬1) الخميس هو الجيش، والعرمرم (صفةً للجيش): الشديد الكثير (مجاهد). (¬2) حديقة لَِفٌّ (بفتح اللام وكسرها) وبستان لفٌّ: الذي اجتمع شجره والتفَّ نباته، جمعه ألفاف. في القرآن {وجنّاتٍ ألْفَافاً}. والفيح جمع أفْيَح وفيّاح، وهو كل موضع واسع، ومؤنثه: فيحاء (فتقول: روضة فيحاء)، والفعل منه: فاحَ يَفاحُ فَيْحاً (مجاهد).

ويعيد إلى الدولة سلامتها ووحدتها، ويُشعره جلال هذه الغاية وسموّها استصغار ما أتى، ويذهب يلتمس لنفسه المعاذير. أليست وحدة المسلمين وسلامة دولتهم دعامة حياتهم ورأس دينهم الذي قام على توحيد الخالق ووحدة المؤمنين؟ أليس ضمان هذه الوحدة من واجبات الخليفة؟ وما ذنبه هو إذا أمره عبد الملك بضرب الكعبة لتحقيق الوحدة، وما هو إلا جندي في طاعة عبد الملك؟ بل ما ذنب عبد الملك وهو أمير المؤمنين المسؤول عن مصالح المسلمين وسلامة دولتهم؟ أيَدَعُ المملكة شطرين يعبث فيها المفسدون ويهلكها الخُلف؟ وأي جسم يعيش إذا انقسم جسمين وغدا قطعتين؟ أوَليس على عبد الملك أن ينقذ المسلمين من هذا الخلاف ولو دفع ثمنه حياة ابن الزبير وسلامة حصونه وقلاعه؟ فما ذنب عبد الملك إذا اتخذ ابن الزبير بيت الله حصناً له واحتمى به واستغلّ حرمته؟ أمن حق البيت الحرام على عبد الملك أن يدعه آمناً في ظله، يدّعي ملكاً وينشر راية ويتخذ جيشاً، فيلتقي في مشعر الحج مَلِكان مسلمان ورايتان وجيشان؟ ويأبى الله والإسلام إلا راية واحدة، لجيش واحد، يسيرّه خليفة واحد. أوَلم يكن أخلق بابن الزبير لو جنّب بيت الله أوحال الدنيا وأوضار المطامع، وخرج بجيشه إلى الحِل؟ وانطلق القائد الشاب يفكر في ابن الزبير وعبد الملك، ويعود به الفكر إلى رحلته الأولى يوم صافح سمعه للمرة الأولى اسم ابن الزبير، فإذا هو اسم ضخم مجلجل، وإذا هو ينطوي على السيادة

والظفر والملك الواسع الذي يظلل ثلاثة أرباع البلاد الإسلامية، وإذا اسم عبد الملك ضاوٍ هزيل، فما زال هذا يضخم ويعظم، وما فتئ ذاك يهزُل ويَضْؤُل، حتى انتزع عبد الملك الذي كان قابعاً في زاوية قصره في الشام ينتظر أن يغلبه عليه ابن الزبير، انتزع العراقين والحجاز، ونازل عبد الله في قرارة داره ودارة ملكه. أليس هذا دليلاً قاطعاً على أن ابن مروان أحق بالخلافة من ابن الزبير وأقدر عليها وأولى بها؟ وأفلتت منه نظرة فوقعت على الكعبة، فأعادت صورتها الرهبة إلى صدره وأحس بوجل شديد، فذكر تهيبه الإقبال عليها، إذ كانت مثابة الأمن ودار السلام منذ الزمان الذي يضيع أوله في طفولة البشرية، وذكر كيف فزع جنده وأحجموا فشد من عزائمهم وهوّن الأمر عليهم، وكيف عبست السماء وبسرت - حين شرعوا بتسديد الرماية إلى صدر الكعبة - وألقت برجومها وصواعقها، فقتلت منهم مقتلة، فارتدوا وامتنعوا وظنوا أن الله مهلكهم كما أهلك الأمم من قبلهم، فانصدعت قلوبهم وطارت نفوسهم شعاعاً، فقام فيهم يطمئنهم ويهدّيهم: "أنا ابن تهامة، وهذه صواعقها" (¬1)، فلا تخافوا ولا تراعوا. سنة الله التي لا تبديل لها وقوانينه في كونه لا تغيرها أمور البشر ولا تبدلها حوادث الأرض، وما قيمة جند الشام حتى يدع الفلك من أجلهم سيره وتخرج الطبيعة عن سننها وتخالف طريقها؟ وانطلق يحدثهم حديث رسول الله ومعلم العالم، حين ¬

_ (¬1) هذه الجملة من التاريخ.

استأثر الله بابنه إبراهيم فكسفت الشمس، فظنوا أنها كُسفت لموته، فنبأهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته. فاطمأن الجند، وعادوا إلى تسديد الرماية وضرب الكعبة، فعادت السماء إلى زمجرتها وزئيرها، وانقضّت صواعقها، ولكنها أصابت من جند ابن الزبير مثل الذي أصابت من عسكر الشام، فأمن الجند وأقبلوا يوالون قذف الحجارة. إنه لم يضرب الكعبة على أنها بيت الله، ولكن ضربها على أنها قلعة من قلاع ابن الزبير، ولم يقدم مكة فاتحاً، ولكن قدمها حاجاً مُحرماً، وحج بالناس ولكنه لم يطف. ولم يكن له إلا الوحدة الإسلامية غاية، فهو يعلم أن المسلمين كرجل واحد، فأي رجل هذا الذي له رأسان؟ ولقد نهاه فقيه العصر وإمامه، عبد الله بن عمر، أن يضرب الكعبة فيؤذي الطائفين بها ويعطل مناسك الحج، وشدد عليه في النهي، فأطاع وامتنع وترك الناس وحجهم، حتى إذا استكملوا مناسكهم وفرغوا من عبادتهم نادى فيهم بالرحيل إلى بلدانهم وعاد يحارب ابن الزبير. وسكن الحجاج إلى هذه النتيجة التي انتهى إليها واقتنع بأنه لم يأتِ منكراً (¬1)، فعاد يتأمل هذه النجوم الصافية وهو عازم على بناء الكعبة وسد هذا الخرق الذي خرقه وإصلاح ما أفسدته الحرب. وراح يحدق في القمم الشاهقة التي تلوح له عن بعد ذائبة أعاليها في الشعاع الفاتن الذي يسيل من صفحة القمر، فذكّرته ¬

_ (¬1) هذه حجته لنفسه، والحق أن الحجاج من الظلمة المعتدين، ولم يكن من أمراء الخير ولا من أهل الصلاح.

- كرةً أخرى - بيتَه ومدرسته وقريته الصغيرة فأحس كأن قلبه ينازعه إلى أيامه اللاتي سلخهن فيها. سلاماً أيتها الأرض الضائعة في طريق السماء ... لقد وفيت لك بنذري، فقدت إليك المجد ووهبت لاسمك الظفر، وخرجت منك معلم صبيان ولكني عدت إليك قائد الجيش العرمرم، فثبّتُّ اسمك على صفحات البطولة، فلا يذكر التاريخ عودة الوحدة الإسلامية إلا ذكر معها الطائف! ثم استغرق في تأمل عميق. * * * في تلك الساعة كانت تهدف في طرقات مكة الخالية عجوز طويلة، لا تبالي هذا الظلام الثقيل الذي يحف بها لأن عينيها المنطفئتين قد ألفتا هذا الظلام منذ أمد طويل. وكانت تؤم منزلاً من هذه المنازل المقفرة، فتمضي إليه قُدُماً كأنما هي قد ألفت طريقه وحفظته بذاكرة قدميها لكثرة ما تتردد عليه في الصباح والمساء، فهي تتخطى هذه الأنقاض وتدور حول الجدر، لم تقف حتى غيبتها مداخل المنزل المهجور، فقبعت في زاوية من زواياه جامدة لا تتحرك ولا تهمس، كأنما هي بعض أثاثه القديم الهَرِم، الذي تركه أصحابه زهداً فيه. وجعلت تجيل عينيها الهامدتين في أرجاء عالم مجهول، فيبدو لها مترعاً بالألوان الفتانة زاخراً بالصور البارعة، فلا تملّ التحديق فيه والتجوال في أرجائه، تفتش عن هذه الفتاة التي عرفتها في سالفات أيامها، فلا تلبث أن تجتلي

خيالها فتطمئن إليه وتجد فيه صبابة نفسها وبُلغة أمانيها، وترى هذه الفتاة وقد أهديت إلى بعلها الذي خلا كيسه من المال، ولكن نفسه فاضت بالحب، فشاركته حبه وفقره، وأقامت من نفسها أنيساً لنفسه وخادماً لبيته وسائساً لفرسه، تلتقط لها النوى ثم تدقه وهي سعيدة هانئة، تعيش لبيتها وزوجها الذي تنهل السعادة من نظراته وكلماته، وتقبس الهناءة من حبه وإخلاصه. فاستراح قلبها إلى هذا الخيال الذي ترى، وشعرت كأن دم الشباب قد عاد يجري في عروقها بحراراته وتوثبه وفورانه، وأحست بالنور قد عاد يضيء في عينيها، فاستقرت على شفتيها بسمة عريضة طغت صورتها على جبينها المجعد فأومض فيه بريق من السعادة خاطف، ورجع إلى وجنتيها ظل من حمرة الشباب الآفل، حتى لو أن إنساناً رآها في تلك الساعة لما رأى عجوزاً شمطاء عمياء، ولكن فتاة في السابعة عشرة! ونفضت عنها العجوز غبار السنين المئة، وانطلقت تعيش في بقايا ليلة من ليالي زواجها الحافلة بالغرام والنبل والسعادة، فتصغي إلى أغاني الحب تنبعث همساً من فم ذلك الزوج المعمود (¬1)، وتذوق بين ثناياها حلاوة قبلاته وتسمع بأذنيها وسوستها الناعمة. وتبالغ في التخيل، فتمد يديها تعانقه، وتخفي وجهها في صدره العريض، وتلقي برأسها على قلبه الكبير الخافق الذي يصفق أبداً للحب والمجد والإيمان ... ولكن برودة الحجر الذي ألقت عليه ¬

_ (¬1) المَعمود والعَميد والمُعمَّد هو الرجل الذي هدَّه العشق وأضناه (مجاهد).

رأسها أطفأت جذوة أحلامها وردتها إلى حاضرها، فإذا هو ينشر أكفان الموت على مسراتها ومباهج حياتها الماضية، فتنسى كيف استقادت إليها السعادة كاملة على يد هذا الزوج الذي تبعته الدنيا حين تبع دين محمد صلى الله عليه وسلم، فغدا يحمل على ألف فرس (¬1) في سبيل الله بعد أن كان ماله كله فرساً تعلفها زوجه النوى. وتغيب صور هذا الماضي في الليل السرمدي الذي غمر حياتها وأترعها بالآلام والأوجاع، فتمنت لو أنها ماتت وهي بنت الخليفة العبقري، الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه في أمته ووقف وحده حين كانت الردة في وجه الناس كلهم، ثم ظفر بهم وساق المرتدين عن دين محمد ليقاتلوا في الشام والعراق تحت راية محمد ... أو لو ماتت وهي زوج البطل الذي ملأ حياته بطولة وشرفاً ومجداً ثم ذهب فمات في ساحة الشرف والبطولة والمجد، أو لو ماتت وهي أم الخليفة الذي عنت له الحجاز والجزيرة والعراق وخراسان وكاد يدخل دمشق مظفراً منصوراً، ثم ضاع منه كل شيء حتى كادت أمية تدخل عليه مكة مظفرة منصورة. واستيأست من طلوع الفجر الذي يزيح ظلمة هذا الليل، فانطلقت تناجي الموت وتدعوه بأحب الأسماء وأجملها، وأذكَرَها الموت أحبتَها الذين طواهم في أحشائه، فاشتهت قرب الأحبة. وكان من أقوى رغباتها في هذه الليلة أن تقف على قبر أبيها الذي يجاور أشرف بقعة في ملكوت الله الواسع، في الغرفة الصغيرة التي بنيت من الحجر والطين وسعف النخل في العشايا الأولى لاستقرار ¬

_ (¬1) أي يهبها، يحمل عليها فقراء المجاهدين.

الإسلام في يثرب، فكانت مقر أختها الصغيرة، أحب زوجات الرسول إليه وأفضل أمهات المؤمنين وعالمة النساء ومعلمة الرجال. ثم كانت مهبط الوحي وصلة الأرض بالسماء، ثم كانت دار الحكومة، فيها نظمت خطط الحروب وأعدت قوانين المجتمع وعقدت مجالس الشورى، ومنها خرجت الكتب إلى شيرويه ملك الفرس كسرى شاهنشاه وهراقليوس قاهر كسرى وسيد الدنيا في عصره (ثم خرجت الجيوش لتمحو ملك شاهنشاه وتخلف سيد الدنيا في أرضه وتعود بأسلابه). وفيها عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته، حتى إذا مات دفن فيها، ثم أغلق بابها، لا إلى سنة ولا إلى عشر ولكن إلى ... يوم القيامة. وكان من أمتع أمانيها هذه الليلة أن تقف على قبر زوجها الماثل في آخر البادية، في الزاوية التي تلتقي فيها بادية العرب بسواد العراق (¬1) ببساتين العجم ... بالبحر! فتجدد بزيارته عهد الماضي. * * * وكانت تتناهى إليها بين كل آونة وأخرى صرخة من صرخات الحراس أو أنّة من أنّات الجرحى، فتردها إلى وعيها، فتتأمل هذه الشعاعة الواحدة التي بقيت لها من شمس حياتها الآفلة، ابنها عبد الله، الذي تجد فيه عبق غرامها بزوجها، وعطر الأمجاد ¬

_ (¬1) أي على قبر الزبير، وهو في قرية «الزبير» القائمة في مكان البصرة القديمة. ولما كنت أدرّس في ثانوية البصرة سنة 1936م كانت تبعد عنها ثلاثين كيلاً.

التي عاشت فيها والمعارك النبيلة التي شهدتها، وتذكر فيه تاريخاً طويلاً تلتقي حوادثه الكبيرة في هذا التاريخ الصغير الذي تحفظه لابنها، وتنقلها الذكرى إلى هذا التاريخ ... فإذا هي في دنيا قريش، وقريش في حيرة وقلق وقد خابت وفشلت في رد هذا السيل الآتي بأكفها الضعيفة، ورأت الإسلام ينتشر ويمتد ولا يثبت شيء أمامه، فائتمرت بالنبي تقتله، ولكنها لم تجده في بيته، ولا تعلم أين هو. لا يعلم أين هو إلا رجل في مكة وامرأة. أما الرجل فعليّ، وأما المرأة فأسماء ... يا لروعة هذه الذكريات! لقد كانت في بيتها تعد اللحم لتحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن رسول الله يعجبه اللحم)، وإذا بالملأ من قريش يدخلون عليها وهم يرعدون ويبرقون، يزهون بكبريائهم الفارغة وعنفوانهم المزيف وثيابهم الزاهية، فقال لها أبو جهل بلهجة حاول أن يجعلها فخمة نبيلة، ولكنها جاءت أقرب إلى التصنع والإضحاك: أين أبوك؟ - وما يدريني أين أبي؟ لا أعلم. فلم يترفع هذا السيد الذي عجز عن ردّ محمد عن أن يرفع يده على امرأة! لقد لطمها لطمة أطارت قرطها ... ومدت العجوز يدها تتلمس أذنها على غير شعور منها، ومست بيدها بطنها، فقد كانت يومئذ حاملاً ... يا لبطولة هذا السيد القرشي الذي يضرب امرأة حاملاً! ثم استدار المشهد، فإذا هي قد انطلقت من دنيا قريش الضيقة المحصورة إلى دنيا محمد الواسعة الفسيحة. لقد هاجرت تقطع الصحارى والقفار حتى أشرفت على نخيل المدينة، فوقفت

على هذه الجنان الطاهرة التي أُسس فيها أول مسجد بُني على تقوى، فسمعت وحدها هذا النشيد العلوي التي أصغت إليه الدنيا كلها من بعد، والذي يتردد اليوم خمس مرات في كل نهار تتجاوب به المنابر في كافة أرجاء الأرض. وهنالك، وسط هذا النشيد الذي يتألف من كلمتين اثنتين لم تعرف ألسنة البشر أكثر منهما هديراً وأشد في النفس تأثيراً (هما: «الله أكبر») صاح البشير أن أول مولود في الإسلام قد استهل، فانشرحت به صدور المسلمين حتى كأن كلّ واحد منهم كان أباه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وبارك عليه ودعا له. وتمثلت عبدَ الله وهو صبي يبايع رسول الله يبتسم له ابتسامة تفيض بالحب والرضا. ورأته وقد شبَّ حتى صار يلعب مع الصبيان في الطرقات. وإنه لفي لعبه وإذا بعمر القوي المهيب يمر فيفر الصبية ويتوارون ويبقى عبد الله واقفاً. - لِمَ لمْ تفر كما فروا؟ - ولِمَ أفر؟ وما أنت ظالم فأخشى ظلمك ولا أنا مذنب فأرهب عدلك؟ فيعجب به عمر ويكبر جرأته وبلاغته. ثم تبصره وقد علا مكانه، واستعلن أمره، وضخم سلطانه؛ فانقادت إليه الأماني طيعة وتبعته الدنيا خاضعة. ثم انهار هذا كله ... ثم انهار هذا كله ... وراحت العجوز تحدق بعينيها اللتين حرمتا النور في أفق

مجهول، وتفكر في غير وعي، فقادها الفكر إلى دنيا تحبها وتألفها، فإذا هي ترى - كرة ثانية - بداية هذا الصباح الذي غمر الكون ضوؤه وغسلت أنواره الأرض من أرجاس ليل طويل ماتت في ظلامه الفضائل والمثل، وتفكر في قوة هذه الرسالة التي انتصرت على العالم كله ... ثم ترى حاضرها الممض فتشجى وتتألم. ما أسرع ما نسي الناس هذه المبادئ وأجدبت نفوسهم منها، وهذه أصلاد حراء، وهذه جلاميد ثور، لا تزال مخصبة مخضرة ... أفتكون هذه الحجارة وهذه الجلاميد أوفى وأحفظ من قلوب البشر؟ وإذا نسي الناس أفلا تذكّرهم هذه الجبال الشاهقة التي شهدت عزلة محمد وإيواءه إليها ليالي بطولها، يفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ويفتش وراء مظاهر الكون عن مبدع الكون ... ثم شهدت منبثق الوحي، وأشرق عليها فأضاء جنادلها وصخورها قبل أن تسطع أنواره في السهول والقرى، وسمعته وآمنت به قبل أن تسمعه هذه المدائن العظيمة المنثورة في الأرض من حول الكعبة؟ ومثلت لها الكعبة المهدمة فهالها أن يعبث المسلمون بحرمة الكعبة وهي التي كان المشركون - على جهالتهم وكفرهم - أكثر لها إجلالاً وأشد احتراماً، وصبّتْ سخطها على ابنها وعلى الأمويين جميعاً. أيستحلّون البلد الحرام في الشهر الحرام وينسون مبادئ الرسول ولمّا يمضِ على وفاته إلا ثلاث وستون سنة؟ وينقضون عرى الأخوّة بينهم ويقاتل بعضهم بعضاً في بطن مكة؟ ولِمَه؟ أوَلم يبقَ في الأرض ظالمون ولا طغاة يقاتلونهم؟ أينفض المسلمون أيديهم من هذا الإرث العظيم ويهملونه حتى يبدو في عيونهم مجدباً، وهو الذي بلغ من خصبه

أن أترع أيام البشرية الماضية بالحياة، وهو كفيل بأن يغمر أيامها الباقيات حياة وفضيلة ومجداً؟ وآلمها ضياع هذه المبادئ أكثر مما آلمها خذلان ابنها وضياع عرشه، بل هي قد نسيت ابنها، ونسيت هذا الملك الذي رتع في بحبوحته تسعة أعوام جاء يتجرع الآن مرارتها، ونسيت ماضيها الآفل، بل لقد نسيت نفسها، وذهبت تفكر فيما هو أعز عليها من حاضرها وماضيها وابنها ونفسها، في هذا المبدأ الذي أخلصت له. إنه لا ينتصر هذا المبدأ وعلى الأمة واليان يصطرعان ويقتتلان، فلا بدّ من ذهاب أحدهما، فإذا لم يذهب عبد الملك فليكن ابنها هو الذي يذهب، ولتشترِ حياة الأمة بحياة ابنها! وكان عزماً خطيراً، وكانت فكرة هائلة يرتجف لها أقوى القلوب، ولكن قلب أسماء الذي يحمل قسطه من الإرث الأخلاقي الذي صهرته شمس هذه البلاد في الألوف المؤلفة من السنين، وأنضجه الإسلام وهذبه، لم يرتجف ولم يخَفْ. كان همها أن تستريح هذه البلاد المقدسة ليلة آمنة إثر نهار مليء بالخطوب، لتستيقظ مع الفجر قوية نشيطة، فتفيء إلى ظلال وحدة هانئة تستجم فيها، وتفرغ لنفسها لتفرغ من بعد لأعدائها. ولكن العجوز غفلت لحظة عن عواطفها التي خنقتها في صدرها فانطلقت صارخة صاخبة، فتصورت العجوز نفسها - بعد عبد الله - فلم تطق أن تتصور، وعادت إليها أنوثتها فعظم عليها أن تفرط بولدها الحبيب وهي على عتبة الموت، وهو عمادها وعونها وحاضرها ومستقبلها، وهو كل شيء لها، وعادت تعرض ذكرياته منذ كان طفلاً إلى أن غدا شيخاً، فتحس أن أمانيها كلها تختصرها ساعة

تضم فيها ابنها إلى صدرها، ثم تنسى نفسها وهي بين ذراعيه حتى تسلم الروح. إنه حياتها، وهو كل شيء لها ... وراحت تبكي بعينيها المنطفئتين بكاء موجعاً. * * * وفي تلك الساعة كان في الحرم طائفة من الناس تحت علم منصوب في ظل الكعبة؛ أولئك هم بقية هذا الجيش اللجب الذي كان منتشراً بين أقصى خراسان والبحر الأحمر، وهذا هو العلم الذي خفق على هذه البلدان تسعة أعوام كاملات. وليس أروع من الجيش القوي الظافر الذي يسد منافذ الفضاء ويحجب الشمس وتعنو له الشوامخ الراسيات وتميد بثقله الأرض إلا هذه الحفنة من الرجال الأشداء الصابرين، الذين تخيرتهم شجاعتهم وعبقريتهم فكانوا بقية السيف وطرائد الموت، ثم آثروا الموت أمجاداً على الاستسلام والهوان. وتلك هي حال هذه الطائفة من الناس. وكان في الجمع شيخ مستند إلى جدار الكعبة، تومض شعوره البيض في شعاع القمر، يفكر (أو هو يبدو كالمفكر) على حين يتجرع مرارة خيبة قاتلة ويحس من حوله زمهريراً بارداً، فكان بحاجة إلى صدر دافئ يقبس من حرارته الحياة والأمل. ولقد كان شيخاً في الثمانين، ولكنه لا يزال حيال أمه ذلك الطفل الذي يتمرغ في أحضانها ثم يضطجع فيها، ويرفع وجهه الصغير إلى وجهها، ويقطف بعينيه ثمرات الحب الحلوة من عينيها الوادعتين، ويبعث أصابعه تعبث بوجهها وشعرها.

وملأت نفسَ هذا الشيخ صورةُ أمه فنسي اليوم العصيب، وغفل عن تصور النصر الذي أفلت منه كما يفلت الطائر الجميل من قفصه ثم يوغل في مسارب السماء، ونسي خيبته التي جعلت حياته سوداء فارغة كظلام الليل، ولم يعد يفكر إلا في هذه الصورة التي أعارته من بهائها وسموها جناحين طار بهما إلى أيامه الخوالي، فتغلغل في رحابها الواسعة. لم يبق له من صورة هذا الماضي العظيم (من عالم أبي بكر والزبير) إلا خط واحد ضعيف كابٍ يوشك أن تعدو عليه الأيام فتمحوه اليوم أو غداً؛ لم يبقَ إلا ذات النطاقين، أمه، أسماء العظيمة، التي كانت تاريخاً حياً وكانت الفضيلة المجسدة، فانطلق إليها يودعها قبل أن يموت. وكان الموت الشريف أجمل أمنية لهذا الشيخ البطل الذي خسر الملك والجيش ولكنه لم يخسر العبقرية ولا الشرف، بيد أن هذا الشيخ يخشى أن يدع هذه العجوز تحمل معها آلام الثكل والوحدة حتى تبلغ بها قبرها القريب ... فكيف السبيل إلى إكراهها على التسليم به والرضا بموته؟ وقام الشيخ من مجلسه يسلك هذه الطرق الموحشة التي سلكتها أمه في الهزيع الأول من هذا الليل، فلم يقف في طريقه على الأطلال ولم يُثره مشهد الملك الضائع، لأن أفكاره كلها قد تعلقت بأمه، فهو يجب أن يصل إليها. فيمضي مسرعاً، حتى إذا دنا من هذا المنزل المظلم الموحش تباطأ في سيره، حتى إذا بلغ بابه تهيب الدخول عليها وأحس بالعجز عن مواجهتها بعزمه، وهو الذي لم يحس العجز عن مقابلة الخميس العرمرم ولم يشعر الضعف عند مجابهة الشدائد والخطوب. فوقف وأطال الوقوف،

وتقاذفته الأفكار حتّى أحس كأن رأسه خلية نحل ... كيف يمسك قلبه أن يتخاذل ويضعف أمام بكائها وتوسلها إليه أن يبقى، أن يبقى إلى جانبها في أيامها الأخيرة؟ كانت الأفكار تصطرع في رأسه وهو هادئ ساكن لا يبدي حراكاً، قد تعلق بصره بهذه العجوز القابعة في الزاوية، ينيرها شعاع ضئيل من أشعة القمر يسقط عليها من خروق السقف المتهدم، وكانت أذنه مرهفة مائلة إليها، فسمعها تردد اسمه في خفوت بلهجة يقطر منها الحب والشوق واليأس والحزن، فلم يتمالك هذا الشيخ نفسه أن صاح: أمي! وألقى بنفسه بين ذراعيها، فمرغ لحيته بوجهها، وغابا معاً في حلم ممتع نشوان. ثم تنبهت العجوز، وذكرت نذرها الذي نذرته للوحدة الإسلامية وعزمها الذي اعتزمته، فخلصت عن عناقه برفق وقالت له: ما جاء بك؟ فحار في جوابها، ولم يدرِ كيف يعلن عزمه على الموت، ثم آثر أن يرى ما عندها وقال لها: «يا أماه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير من أصحابي ومَن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟» (¬1). قالت: أهذا ما جئت لأجله؟ أجشمت نفسك عناء المسير فوق أنقاض المدينة المقدسة التي هدمتها وتركتها أطلالاً، لتقول ¬

_ (¬1) هذه الجملة من التاريخ.

لي إنك جبنت وفقدت حميتك وشجاعتك؟ أجئت تحتمي بصدري من الموت الذي سقت إليه هذه الألوف المؤلفة من المسلمين؟ أهذه هي خاتمتك يا ابن الزبير، ويا مَن جده أبو بكر، ويا من جده عبد المطلب؟ ولم يكن عبد الله يتوقع أن يسمع منها ما سمع، فطفق ينظر مشدوهاً، يود أن يصيح من الفرح لأنها رضيت له بالموت في معمعان المعركة؛ وذلك أقصى ما يريد. ولكنه لا يدري إلى أية غاية ترمي فهو يكتم صيحته ويصمت. - ما لك يا عبد الله؟ أنسيت أمجاد أبيك الذي يجري دمه في عروقك؟ تعال اقترب أحدثك بأمجاد أبيك: في عشية من عشايا الإسلام الأولى خرج أبوك من بيته هذا، فتنكب طريق الحرم حيث تمثل قريش بجبروتها وشركها، وأم هذه الجبال القريبة يحمل في نفسه بَهاء هذا الدين الجديد فهو يحب أن يفيء إليه وأن يستمتع بعزلة هانئة. فلم تكد تحتويه أعالي مكة حتى طرق أذنيه همس مرعب ارتجفت له أضلاعه واضطرب قلبه وأنساه غايته التي خرج من أجلها. لقد سمع أن محمداً قتل، وانطفأت هذه الشعلة التي أضاءها الله ليقبس منها العالم ضياء نهار دائم، وجف هذا الينبوع، ووقف الإسلام الذي جاء به للدنيا كلها عند هؤلاء النفر القلائل الذي أسلموا! وكان أبوك يعلم أن قريشاً التي قتلت محمداً ستمحو هؤلاء النفر وتبيدهم، ولكن أباك لم يخف ولم يفرّ، بل ثارت في نفسه حماسته، وصرخ في عروقه دمه الذي يحمل ميراث عصور طويلة من النبل والشرف، وتوثب إيمانه في صدره وأشعره أنه يقدر بهذا الإيمان على العالم كله، فسلّ أبوك سيفه ورجع يريد

أن يثأر لمحمد، فإذا محمد صلى الله عليه وسلم حيّ يبلغ دعوة ربه. فكان أبوك أول من سل سيفه في سبيل الله، فسطع من سيفه الوميض الأول لهذا الصباح الذي غمر الكون بالضياء الذي أشرق من سيوف المسلمين في بدر وهوازن والقادسية واليرموك ونهاوند. أفلا يهز حماستك حديث أبيك؟ فلم يجب عبد الله وآثر أن يظل ساكتاً. فرجعت تقول: يا أسفي! لم يعد يثيرك حديث أبيك فلن أحدثك عن أمجاده. فهل تثير حماستك شجاعة جدتك صفية بنت عبد المطلب؟ إنك تعرف حديثها وتروي خبرها مع حسان ابن ثابت في الحصن ... فهل أطفأت لذائذ الحياة لهيب الحماسة في صدرك، فأنت في حاجة إلى قبس تقتبسه من امرأة؟ فبرقت عينا الشيخ واشتعلت النيران في عروقه، ولكنه أزمع السكوت لتمضي العجوز في حديثها، فآلمها أنه ساكت لا يجيب وحسبت سكوته جبناً وهلعاً، فراحت تبالغ في تحميسه. قالت: أخبرني ... أنسيت ذلك الدم الزكي الذي أُهريق على عتبات المجد؟ سرعان ما نسيت صورة مصعب، ابن أبيك، ذلك الذي عاف الشباب والمال والرفاهية وجفا عقيلتَي قريش، عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين، وذهب ليموت شريفاً مجيداً تحت راية الخليفة عبد الله بن الزبير؟ إذا كنت تعلم أنك تدعو إلى باطل فلِمَ فرطت بهذه الأرواح ... هذه الألوف من الأرواح التي زهقت في سبيلك؟ أكان جنى هذه المعارك النبيلة أن يحمل الخليفة الذي مات هؤلاء كلهم تحت رايته ليزدان به موكب الحَجّاج؟ ما كان جدك أبو بكر ولا كان أبوك الزبير جباناً ولا رعديداً، أفتنتمي إلى

هؤلاء الذي أترعوا التاريخ بأحاديث المكارم، ثم ترضى أن تُساق وأنت شيخ أبيض اللحية إلى دمشق ليلعب بك صبيانها، وليشيروا إليك بأصابعهم يقولون: هذا الذي كان ... ؟ ولم يعد عبد الله يملك صبره، فصرخ: أماه! كفى؛ إنني جئت أودعك. وألقى بنفسه بين ذراعيها، فتحسسته فإذا هو بالدرع. قالت: أتخدعني يا عبد الله؟ «ما هذا صنيع من يريد الموت» (¬1). قال: ما لبسته إلا لأجلك، وما لي به من حاجة. ونزعه فألقاه، ثم تملص من ذراعيها برفق: أماه ... وداعاً. «ولا تَدَعي الدعاء لي، فوالله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تُستحل محارمه، وإني مقتول في يومي، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله؛ فإن ابنك لم يتعمد إيثار منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم يَجُرْ في حكم الله ولم يغدُرْ في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به. اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي» (2). وأسرع فخرج وأمه تدعو الله: «اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت، فأثبني ثواب الصابرين الشاكرين» (3). ¬

_ (¬1) (2) (3) هذه جمل من التاريخ.

وسكتت العجوز ومدت يديها تتلمس عبد الله لتودعه الوداع الأخير، فلما أحست أنه قد ذهب ثارت أحزانها دفعة واحدة، وهوت على الأرض! * * * وسدل الستار يوم الثلاثاء (17 جمادى الأولى سنة 73 للهجرة) على هذا الشاب الذي هجر مدرسته وصبيانه، ونزل من الطائف وحيداً شريداً، فمهدت له عبقريته السبيل لما كان يحسبه مجداً وعظماً؛ وأعاد إلى الأمة الإسلامية وحدتها وسلامتها، وبنى في صرح أمجادها ركناً ضخماً ما كان أعظمَه وأزهاه لو لم يُلطَّخ بدماء الأبرياء. وعلى هذه الشيخ البطل الذي عاش مسلماً شريفاً، ومات شريفاً مسلماً. هذا الشيخ الذي سَمَتْ به نفسه حتى ضارع الخليفة في الشام، ثم صارعه حتى سلبه ملكه وسلطانه، ثم خسر كل ما ربح، ولكنه مات أشرف ميتة وأمجدها، فكان موته مغلوباً ظفراً بارعاً ونصراً مؤزراً. وهذه العجوز التي لم يعرف تاريخ بنات حواء من وقفت مثل موقفها أو ضحّتْ مثل تضحيتها، أو دانتها في نبلها وشرف نفسها وإخلاصها لوطنها ودينها. رحمة الله على الجميع. * * *

يوم اللقاء

يوم اللقاء لمّا خرج عبد الله من المنزل المهجور كان الليل قد عسعس فانجابت ظلمته عن سنا السحَر، والصبح قد تنفس فتضوّعت أنفاسه الناعشة في أرجاء هذا الوادي المقدس، وكان الكون لابساً ثوب شاعر مدلّه، أو عابد متبتل، يغمر النفس بحس سماوي لا تصل إلى الإحاطة بوصفه لغات البشر. ولكن عبد الله لم يتلفت إلى شيء من ذلك ولم يُلقِ إليه وعيه، لأن الدنيا قد ماتت في عينيه منذ عزم على الموت وسلك سبيله. وماذا ينفع السحر وجمالُه رجلاً فرغ من ذلك كله وخلّفه وراءه ليستقبل حفرة الموت التي لا تضيئها أشعة الشمس ولا يصل إليها رَواء السحر؟ وماذا يرى المسلول اليائس في صفاء العيون، وضحك الزهور، وغناء العصافير، وهو يعلم أنه سيموت ويحتويه هذا القبر الموحش ... فلا تدري به الينابيع ولا تكف عن وسوستها وتغريدها، ولا يحفله الورد ولا يمسك ضحكه حزناً عليه، ولا تأبه له الطيور ولا تقطع من أجله غناءها، والشمس لا تفتأ تطلع من

بعده تغمر الكون بلألائها، والقمر لا يزال يريق على الدنيا وابلاً من نوره ... وكل شيء يبقى على حاله بينا يكون هو قد ذهب وامَّحى؟ وماذا يرى المحكوم عليه - وهو يُساق إلى حبل المشنقة - في بهاء الشمس وابتسام الربيع وضحك الروض؟ إن المرء لا يجد في الكون إلا صورة نفسه وخياله وعواطفه، فأي شيء يجده عبد الله وليس في نفسه إلا ذكرى ماض بارع، قطف ثماره أمداً طويلاً ثم عصفت به رياح الفناء، فصوّح نبتُه (¬1) وذوت غصونه، وصورة مستقبل غامض يسلم إليه أمه المسكينة، لا يدري من أمره شيئاً، ولكنه لا يثق به ولا يطمئن إليه، وهو بينهما يمشي طائعاً مختاراً إلى ... الموت؟! وبلغ عبد الله أبواب الحرم وهو في ذَهلة عميقة، فإذا هو بأبي صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، فألقى عليه نظرة فارغة كأنه ينظر إلى رجل من العالم الآخر لا يبصره. - سيدي أمير المؤمنين! - ... ... - لقد استطاع رجالي أن يفتحوا لك طريقاً إلى العراق، وهذه هي ركائبك وهؤلاء هم حرسك. فتلفع يا سيدي بهذا الثوب وسِرْ في أمان الله! ¬

_ (¬1) صوّحَ النبتُ: يبس حتى تشقّق (مجاهد).

فلبث عبد الله صامتاً شاخصاً إليه بعينيه، يردد هذه الكلمات التي سمعها ترديد من لا يفقه لها معنى، كأنما هو قد أضل فكره وفقد ذكاءه، أو كأن هذه الكلمات قد خلصت إلى نفسه بعد أن طرحت معانيها، فجاءت خالية لا تدل على شيء. فريع ابن صفوان وأشفق أن يكون قد أصابه سوء، وجعل ينظر إليه بعينين تجلّى فيهما الإخلاص للأمير، والحب للوالد، والوفاء للصديق. ولا عجب في ذلك؛ فلقد كان يرى في عبد الله أميره ووالده وصديقه، ويوليه من نفسه الحب والإكبار. وجعل ابن صفوان يحدق فيه فيراه دائباً على ترديد هذه الكلمات، ولكنه يرى وجهه تنبسط أساريره، ويخطف على جبينه نور الذكاء، وتبرق عيناه ببريق العبقرية، فيطمئن ابن صفوان ويعلم أنه قد عاد إلى نفسه. نشط عبد الله واستبشر استبشار غريق رأى خشبة النجاة، وعاشت في نفسه آماله، وأورَقَ غصن ماضيه الذاوي فبسط ظلاله الندية على حاضره القاحل المقفر، فأحس كأنه يسمع أبواق النصر التي كان يسمعها في سالفات أيامه، وانتهى إلى أذنيه صدى أناشيد الظفر التي كان يهتف بها جنده تحت راياته المنصورة، وشعر كأنْ قد عاد إلى اسمه عطره وجلاله، فرجع ينبثق من أفواه الكُماة المَسَاعير (¬1) الذين ذهبوا ينشرون عبقه في بلاد العرب والعجم. ¬

_ (¬1) الكُماة جمع كَمِيّ (على وزن غَنِيّ)، وهو الشجاع من الناس، وأصلها الذي يلبس السلاح، من الفعل: كَمَى نفسه: أي ستر نفسه بالدرع، فهو كامٍ وهم كُمَاةٌ. والمَسَاعير جمع مِسْعَار، وهو -في الأصل- ما تُحرَّك به النار (من حديد أو خشب)، ثم استُعير للذي يوقد نار الحرب ويسعّرها (مجاهد).

وكرّت الأيام راجعة، فإذا هو يرى عبد الملك وقد روّعه اسمه وأرّقه، ويبصر رأس المختار الذي ظفر بعامل الأمويين يسقط على قدمي عامله وأخيه مصعب، ثم تقوى هذه الصورة في نفسه وتجيش وتموج، حتى تبلغ هذا الحاضر الذي يعيش فيه، ثم تمتد إلى آفاق المستقبل، هذا المستقبل الذي ولد ونما واستكمل نموه في لحظة. وطغت موجة الفرح على نفسه فأحس كأنه في حلم، واختلطت عليه الحقيقة بالوهم، فأخذ بيد ابن صفوان وسأله نشوان فرحاً: هل قلت إن الطريق مفتوح؟ أأستطيع أن أخرج من مكة؟ ولم يكن ابن صفوان ينتظر منه الرضا، فاستخفّه الطرب لرضاه ونسي أنه يكلم خليفته وآمِره. فجعل يهز يديه بشدة ويقول: نعم، نعم يا سيدي، أسرع، أسرع بالله، أخشى أن يفوت الأوان. إن الفجر سينبلج. فينساق عبد الله في الطريق الذي أراده له ابن صفوان ويكاد يمضي فيه، ولكنه يذكر أمه، ويعود إلى نفسه مشهدها وهي قابعة في زاوية البيت حزينة ملتاعة. هل يدع أمه وحيدة بين براثن هؤلاء الذين يراهم وحوشاً؟ لا. وتوقف، وبدا عليه التردد. - سيدي! إن الوقت قصير. - لن أدع أمي!

- وكيف تدعها يا سيدي؟ إن الجند سيحملونها معك إلى حيث تمضي أو يضعونها حيث لا تنالها أيدي الحجاج. فعاودت عبدَ الله حماستُه، ولكنه وقف مرة أخرى يفكر: هَبْهُ وصل إلى العراق، فماذا؟ هل تكون خيراً له من الحجاز؟ لقد ضاعت العراق يوم ضاع مصعب. فهل يذهب إلى خراسان؟ لقد مد الأمن رواقه على هذه المدن، أفيقلبها ساحة للحرب؟ لا، لن يقتل الآلاف من المسلمين ليعيش هو! وراح يعرض البلاد كلها في لحظة فلا يجد بقعة لم يبلغها ملك أمية، أفيمضي إلى بلاد الكفر؟ وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فاستصغرها وزهد فيها وفترت همته، وانطفأ هذا اللهيب الذي وَقَد في نفسه وخَطَف نورُه على جبينه، فاستل يده من يد أبي صفوان وقال له بصوت رهيب: اسمع يا أبا صفوان! فأدرك ابن صفوان أنه سيسمع نبأ لا يسره؛ فقد نطق وجه عبد الله بأنه عازم على الموت قبل أن ينطق به لسانه، ولكنه أرهف أذنيه وذهب يستمع، فقال له عبد الله: يا ابن صفوان، أخبرني. أفي طوقك أن تردّ على العالم بهاء الشمس ونورها إذا غمره الليل بسواده القاتم؟ إن لكل نهار ليلاً ... فقاطعه ابن صفوان وقد رأى بارقة من أمل سنحت له فحاول أن يتمسك بها: ولكل ليل فجر يا أمير المؤمنين. - ولكن هذا الفجر لن يسطع عليّ من بين رايات الأمويين أستظل بها، ولا تتسرب خيوطه من خلال هذا الثوب الذي رضيتَ لي الفرار فيه ... بل إنه سيسطع (إني لأرى تباشيره تلوح بيضاء

زاهرة) من وراء باب الموت، ولا بد لي من ولوج هذا الباب يا ابن صفوان، فلماذا تأبى علي أن ألجه حراً مجيداً وترضى لي أن أطبع على لحيتي البيضاء وصمة العار الحمراء، وأن أختم سفر حياتي الماجدة الحافلة بالبطولة بأبشع خاتمة وأبعدها عن البطولة والمجد؟ أتأبى علي أن أموت ميتة أبي؟ في تلك الرملة التي تتكسر على جوانبها أمواج البحر كل مساء، ويحمل الرافدان: دجلة والفرات، العذب النمير من أعالي بلاد الروم ليغسلا به حواشيها الأخرى، حيث تلتطم رياح الجزيرة وتتراقص نسائمها اللينة ... هناك - يا ابن صفوان - يثوي قبر منفرد منعزل، هو قبر أبي. لقد مات أبي شهيداً، ولكنه لم يمت في المعركة الحمراء، وإنما مات على يد وغد دنيء فضاع قبره في تلك الفلاة (¬1) ... أفيسوؤك أن يموت ابنه وسط المعمعة فيقوم قبره في بطن مكة، فيشير إليه الناس قائلين: هذا قبر الشيخ الذي مات شهيد المعركة الملتهبة. وتمتد أيديهم إلى السماء يسألون له الرحمة والغيث، ¬

_ (¬1) المروي في كتب التاريخ أن علياً خاطب الزبير يوم الجمل فقال له: يا أبا عبد الله، أتذكر يوماً أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: «أتناجيه؟ والله ليقاتلنّك وهو ظالم لك». فصرف الزبير وجه دابته وغادر المعركة. فمر في طريقه بمعسكر الأحنف بن قيس فقال الأحنف: والله ما هذا انحياز؛ جمع بين المسلمين حتى إذا ضرب بعضهم بعضاً لحق ببيته. مَن يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جُرموز: أنا. فاتّبعه، فلحقه في موضع يقال له وادي السباع. فنظر إليه الزبير وقال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. وحضرت الصلاة، فلما قاما يصليان استدبره ابن جرموز فطعنه فقتله، فدُفن هناك (مجاهد).

ثم يمسكون بقلوبهم مخافة أن يهزها هذا الدرس الصامت فتنفجر من الحماسة؟! لماذا تأبى علي أن أموت ميتة أخي البطل مصعب، وأنت الذي مجّدَ مصرعه واتخذه مثلاً للبطولة والتضحية والشرف؟ ألا يسرك أن أشتري بدمي حياة هذه الأمة فتعود السعادة إلى هذه البقية الطاهرة، ويخيم عليها الأمن، وتستعد لتحمل رسالة الله إلى الدنيا ... مرة ثانية؟ إنك لن تستطيع أن تردّ ما فات. أرجِعْ إلى الزهرة الجافة رواءها وعطرها، ردّ على الشيخ الهرم شبابه وقوته، أعِدْ للنهار الآفل ضُحاه! لقد انتهى كل شيء؛ فلن تكون خاتمة حياتي أن أفر تحت ثوب امرأة. وأخذ الثوب يقلبه بيده وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، فيها آيات القنوط المرعب والاستماتة الهائلة والإقدام المخيف. - لا؛ لا يا ابن صفوان. إن عبد الله بن الزبير أكرم من أن يتشح بثوب امرأة. لا؛ لن أفر، «بئس الشيخ أنا - إذن - في الإسلام إن أوقعت قوماً ثم فررت عن مثل مصارعهم» (¬1). - سيدي! - ابن صفوان! ثم التفت الأذرع في عناق جمعت فيه الصداقة والمحبة ¬

_ (¬1) هذه الجملة فقط من التاريخ.

والتضحية أروع قطوفها، ثم تملص الشيخ من ذراعي ابن صفوان وأمسك برأسه فقبله بين عينيه: جزاك الله خيراً يا ابن صفوان، فلقد والله وفيت لي حين غدر الناس بي، ولزمتني حين تركني ابناي، فكانت صداقتك أوثق من الولادة وأثمن من البنوّة. ولقد كنت رفيقي في اليوم الأسود كما كنت رفيقي في الليالي البيض، ومننت وأجزلت، ولم تدع لي إلا حاجة واحدة، فأخبرني: هل تقضيها لي؟ فترق نفس ابن صفوان، ويطفر الدمع من عينيه فيقول: ولو كان في قضائها موتى! - بل فيها حياتك إن شاء الله، فأنا أعزم عليك إلا ما نجوت بنفسك. - معاذ الله يا سيدي! - إني لتقر عيني في حياتي وتسكن عظامي بعد موتي إذا أنت نجوت بنفسك. قل إنك فاعل. - معاذ الله يا سيدي، أموت معك كما حييت معك! * * * وكان الفجر قد انبلج وأرعدت هذه الأوعار والصخور وأبرقت، فضاع هذا الحديث الخافت في جلبة الجيش المنتصر وإرعاده. قطع عبد الله الحديث وانثنى نحو الكعبة يأمر مؤذّنه بإعلان

الفجر، وكان محتفظاً بعظمته وجلاله، فكأن هذا الفشل المتتابع وهذه الخيبة الشاملة لم تنل منه قليلاً ولا كثيراً. وكان جنده الأوفياء ينظرون إليه فيعزيهم بجلده واحتماله، وتسري فيهم هذه العزة فيطوون جوانحهم على قلوب ملؤها القوة والأمل. وهل في الدنيا أقوى من عُصبة تريد أن تموت؟ إن العدو يفزعها بالموت والموت أكبر أمانيها، فكأن عدوها خادم لها مسخَّر لرغباتها؟ ودوى صوت المؤذن قوياً ضخماً، فجاوبه من تلك الأوعار صوت آخر واضح قوي: الله أكبر! الله أكبر! * * * الله أكبر من هذا الجيش وهذه الدنيا، ولكن هؤلاء قد نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها. ذلك ما كانت تناجي به نفسها هذه العجوز وراء سور الحرم. وكانت قد أوت إلى هذه الزاوية لتودع ابنها، وتحتفظ بذكرياته الأخيرة، وتسمع جرسه، تختزن في نفسها هذه الصور التي ستكون - من بعد - ينبوع حياتها وستعيش بقية أيامها بذكراها. وقد لبثت هذه العجوز في مكانها من المنزل المهجور، بعد أن ودعها ابنها، تبكي وتتقاذفها شتى الأفكار، حتى نالت منها متاعب اليوم وأوقار الشيخوخة، فاستسلمت إلى نوم مزعج متقطع، تضطرب فيه الأحلام المرعبة ... فرأت ابنها بأيدي الجنود الشاميين تنوشه رماحهم وسيوفهم، فوثب قلبها من صدرها وجعلت تصيح وهي نائمة: دعوه، دعوه لي، لا تقتلوه، قد ترك لكم الخلافة فاتركوه لي.

وأفاقت مذعورة وقد طار النوم من آماقها، فلم تُطِق البقاء وابنُها على عتبة الموت. قامت تحمل آلامها وأوجاعها وأثقال هذا القرن الكامل الذي يجثم على عاتقها ... هذه السنين المئة ... وتوجهت تلقاء الحرم. وكانت تفكر في ابنها: ماذا عليها لو أنها أخذته من بين مخالب الموت، ثم عاشت معه في ركن منعزل من أركان هذا الكون الواسع؟ أيؤذي عبدَ الملك - وقد تم له الأمر وأطاعه الناس كلهم - أن تعيش عجوز بجانب ابنها؟ ألا يجد لذته إلا في ألمي؟ وهمت العجوز باستنزال اللعنات على عبد الملك، ثم رجعت إلى نفسها تفكر في عبد الله فإذا هو لا يقر ولا يهدأ، وإذا هو صاعقة حيثما نزلت خرجت وقلبت الأرض عاليها سافلها، فلا يقر لهذه الأمة قرار. وكانت قد بلغت الحرم، فسمعت صوت المؤذن يردد التكبير فيعود الصدى في هذه الأوعار بمثل تكبيره، فأصغت فإذا ما حسبته صدى ليس إلا أذان أهل الشام، فآلمها هذا الانقسام وجعلت تتكلم همساً كأنما تخاطب نفسها: يا لهؤلاء الذي نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها! * * * وفي تلك اللحظة تقدم هذا الشيخ الذي كان أمير المؤمنين ووارث كسرى وقيصر ليصلي آخر صلاة له في ظل الكعبة، فسمعته العجوز (ولم يكن بينها وبينه إلا جدار قصير) فنازعتها نفسها إليه واشتاقت إلى عناقه!

ولم يكن يكلفها ذلك إلا همساً خافتاً يعلم منه موضعها، فكادت تهمس باسمه، وقويت هذه الرغبة في نفسها حتى لقد توهمت أن ابنها قد دلف إليها يعانقها، فمدت يديها تعانقه فسقطتا على جنبيها ... وكان قلبها يرتفع في صدرها حتى يبلغ حنجرتها ويذوب حزناً وكمداً، ويسيل من عينيها المنطفئتين قطرات من الدمع ... ولكنها لبثت ساكنة صابرة على قضاء الله. * * * انفتل هذا الشيخ من صلاته وقد رقّ الظلام وانبعثت فيه أشعة الفجر فأراقت على الحرم ظلالاً من النور، فاستطاع أن يتأمل في أصحابه الذين لبثوا على وفائهم له لم يخذلوه كما خذله ابنه حمزة، فمرت على وجهه سحابة من غم حين ذكر أن حمزة قائم في هذه الساعة تحت رايات الحجاج ينتظر أن يرى أباه معلقاً على خشبته ليرقص في مأتمه ويظفر بأسلابه، وكاد يجاري غضبه ويقذفه بلعنة حمراء تتسلسل في أصلاب ذريته فلا ينجو من جناها المسموم أحد منهم، ولكنه أمسك ولم يحب أن يكسب أولاده هذا الشر المستطير في آخر لحظة من حياته. وجعل ينظر إلى هؤلاء الفتية فيروقه شبابهم المزهر، ويضن بهذا الصبا الغض على الموت، ويعلم بأنه ميت لا ينفعه دفاعهم شيئاً، فأرادهم على الحياة وزينها لهم، وابتغى إلى إقناعهم شتى السبل وأفانين الأساليب، فأبى وفاؤهم ومروأتهم ودينهم (وما كانوا يعتقدون من ضلال الأمويين) إلا الموت. فرقّتْ نفس هذا الشيخ وغمرها الحب والرضا، فأحب أن ينظر إلى هذه الوجوه

وأن يجعل صورها زاداً له من دنياه في جولته الأخيرة، فقد كانوا ثمالة ذلك الجيش العظيم وبقية أولئك الأبطال الغطاريف الذين كان في وسعهم أن يقلعوا قيصر من كرسيه في القسطنطينية كما قلعوا كسرى من عرشه في المدائن، لولا أن أُلقي بأسهم بينهم فأصبحوا يحسبون مجد القائد المسلم في الانتصار على القائد المسلم، ويرون المعركة الظافرة هي التي تأكل إخوانهم في الدين وفي النسب، ويرون الفتح الأغر في استباحة مدينة الرسول أو العبث بقصبة الخلافة. وكان هؤلاء الفتية قد لبسوا الحديد واتخذوا المغافر، لا يبين منهم إلا الحدق، فلما أرادهم عبد الله على كشف وجوههم أزاحوا هذه المغافر فأضاءت وجوههم كما تضيء الأقمار، ولكن شعاعها وميض الجمال الفاضل وبريق الإخلاص والذكاء، فأشجاه أن تكون هذه الوجوه فريسة السيوف بعد ساعة واحدة، وأن يذهب هذا الشباب الناضر، وأن يخسر جيش المسلمين هؤلاء الفتيان الأشاوس، ومن ستصيبه سيوفهم الماضية ينالونه بها قبل أن يموتوا. فعاد يدعوهم إلى الحياة ورجعوا يأبون. قال: أما إذا أبيتم «فلا يَرُعْكم وقع السيوف فإن الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم. غُضّوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله» (¬1). فهتف هؤلاء الجنود هتافاً عالياً وأنشدوا أناشيد الحرب، ¬

_ (¬1) هذه الجملة (بين الأقواس) من التاريخ.

ولكن أصواتهم ذابت في هزيم الرعود التي تفجرت من حلوق الأمويين وهم منحدرون من أوعارهم وأصلادهم التي اعتصموا بها يتدفقون نحو أبواب الحرم. ودارت المعركة في البقعة المقدسة التي كانت ملجأ الناس ومثابة الأمن في الجاهلية وفي الإسلام! * * * بلغ هذا الزحف أبواب الحرم الأقدس، واشتركت في حمل وزر هذا الزحف مدن من الشام تعاونت على العبث بحرمة المسجد وإراقة الدم الزكي على أرضه الطاهرة، فكانت حمص بجندها على الباب الذي يواجه الكعبة، تحاول أن تقتحمه لا لتطوف بالبيت العتيق ولا لتقوم فيه لرب العالمين، بل لتستبيح فيه حرمة الدم الحرام، في الشهر الحرام، في المسجد الحرام! وكانت دمشق على باب بني شيبة، وكان أهل الأردن على باب الصفا، وأهل فلسطين على باب بني جمح، وأهل قنسرين على باب بني تميم، وكان الحجاج، قائد هذا الجيش الذي هدم بيت الله، في ناحية الأبطح. تدفقت هذه الجموع براياتها وكبريائها، وقوادها وجندها، وسلاحها وعتادها، وحماستها وهتافها، ولكنها لم تستطع أن تتقدم؛ ردها وحده هذا الشيخ! هذا الشيخ الذي أدنته الأيام من الثمانين، فكان من حقه أن يستريح إثر حياة صاخبة، وأن يقضي بقية أيامه في دعة وهدوء ... قد جفا راحته وهناءته ووقف وسط الحرم كالأسد الهائج، يدافع عن عرينه بلبدته البيضاء وشيبته المهيبة، قد دارت مقلتاه اللتان تنفضان الشرر على هذه الأبواب، فكلما رأى باباً انفتح كرّ على

أهله فردهم على أعقابهم، فكان يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، حتى ارتفع الضحى ولم يقر الشيخ ولم يهدأ ... فأحس بالونى في أعصابه وكلت يداه. وأي رجل يستطيع أن يجالد مثل هذا الجِلاد، وأي رجل يقدر أن يقف وحده في وجه هذا السيل الطامي من البشر؟ وكلما أزاح من طريقه واحداً حلّ مكانه مئة. فوقف لحظة يستريح، وتلفت فإذا هو بابن صفوان لم يفارقه. فقال له: «أبا صفوان، ويل أمه فتحاً لو كان له رجال! والله لو كان قرني واحداً كفيته» (¬1). فيقول أبو صفوان: إي والله، وألف! وتدور رحى الحرب من جديد، قد دفعها الحجاج دفعة انطلقت على إثرها مدوية مرعدة، تسيل على جوانبها الدماء وتزهق الأرواح. * * * حتى إذا زال النهار، وتلهبت شمس مكة فجمعت على الناس نارين: نار الحرّ ونار الحرب، ضاق ابن الزبير وأصحابه ذرعاً، فجمعوا بقية عزمهم وأقدموا إقدام المستميت، فلم يرجعوا حتى أجلَوْا هذا الجيش العرمرم عن الحرم وردوهم حتى بلغوا بهم الحجون. وكان في طوقهم أن يردوهم إلى أبواب الشام، ولكنهم كانوا عشرات من الناس يحاربون ألوفاً مؤلفة! ¬

_ (¬1) هذه جملة من التاريخ.

ورجع عبد الله إلى الحرم - وقد خلت ساحته إلا من الحجارة التي نثرتها المنجنيقات من جدار الكعبة، وأشلاء القتلى ودمائهم، وهذه البقية الباقية من جنده - يغلب عليه الألم لما حل بالمسلمين، وعزف عن الطعام والشراب فلم يفكر فيهما، ولا في الراحة المسعدة إثر هذا الجهد الحاطم، وإنما أقبل يريد أن يصلي في ظل الكعبة فيناجي ربه ويستغفره ويودع دنياه. ولكنه لم يدنُ من الحطيم حتى وقف مرتجفاً قد اهتز من مفرقه إلى قدميه كما تهتز القصبة في الريح النكباء، وفتح عينيه يحدق. إنه لا يشك في أنها هي ... يا إلهي! ما الذي جاء بها إلى هنا؟ ودنا منها متلصصاً يمشي على رؤوس أصابعه، فإذا هي صامتة جامدة لا تتحرك ولا تنبس. أهي ميتة؟ واقترب حتى حاذاها، فأحسست به وصاحت: من أنت؟ فلم يجب، فعادت تصرخ: من هذا الذي يمد يده إلى امرأة عجوز؟ ويلكم، أما كفاكم أن دفعت إليكم ابني لتقتلوه؟ آه! أين أنت يا عبد الله؟ وسمعها تبكي بكاءً خافتاً فتحرك، فعادت إلى تصريخها: قلت لك ابتعد أيها الوغد، أنسيتم أخلاقكم ومروءتكم واستبدلتم بها هذه الأخلاق التي ترى البطولة في البطش بعجوز عمياء لا تريد أن تؤذي أحداً؟ آه لو أن عبد الله كان حياً! أين أنت يا عبد الله؟ عبد الله ...

وراحت تنشج نشيجاً أليماً حتى لقد ظن أنها ستشرق بدمعها، وخال روحها ستزهق في نشيجها، وأحس كأن قلبه يُقطع بسكين، ونسي الحرب والنضال وهمّ بأن يلقي نفسه بين ذراعيها كما فعل في ليلة الأمس، ثم يحملها إلى بقعة من أرض الله الواسعة تقضي فيها لياليها الباقيات. ثم يرده الحفاظ والدين وهذه الغاية التي باع نفسه من أجلها. وكان يسمع اسمه يرتجف في غضون الزفرات يخرج بصوت مكلوم، يلهب قلبه كأن فيه قبساً من قلبها المحترق، فخاف أن يغلبه ضعفه البشري، وانتهى إلى أذنيه هتاف أهل الشام وقد أقبلوا كرة أخرى كما يقبل البحر بمده على الساحل بعد أن نأى عنه في جَزْر طويل، فترك مكانه حيال أمه وذهب يستقبل الموت، وقد مات من قبل مراراً. * * * وكان في شعب من شعاب مكة النائية عن الحرم شيخ جليل قد اعتزل الحرب هو وأصحابه، لأن دينه لم يبح له أن يحارب أبناء دينه ومروءته تمنعه من تجريد سلاحه في وجوه إخوانه، وذهب ينتظر في هذا الشعب النائي. كان عبد الله بن عمر معتزلاً، يحسر لأصحابه عما يخامر نفسه من ألم لتفرق المسلمين، ويحدثهم حديث الرسول الذي جاء بالإسلام فألف بين القلوب وجمع الناس جميعاً، ويرقب انكشاف هذه الغمة. فسمع التكبير (ظهر يوم الثلاثاء 17 جمادى الأولى سنة 74) يتجلجل في حلوق الشاميين، فاسترجع ومد يده إلى

عينيه الهامدتين فمسح دمعة خال أنها تترقرق فيهما، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ألا تسمعون التكبير؟ والله لقد كبر المسلمون مثل ذلك من قبل في ليالي الهجرة الأولى، وارتجّت لتكبيرهم حرّتا المدينة وتمايد نخيلها، وأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لولادة هذا الرجل الذي يكبّر المسلمون اليوم لموته! «رحمة الله عليك يا أبا خبيب. أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا، ولقد كنتَ والله صواماً قواماً وَصولاً للرحم» (¬1). * * * لما أقدم عبد الله تساقط الشاميون تحت سيفه كما تتساقط أوراق الخريف وانزاحوا من بين يديه، ولكن رجلاً ممن عجز عن مواجهته في المعمعة ومقابلته بالسيف قذفه بآجرّة ضخمة، فعل الجبان الرعديد، فأصاب بها وجهه وهشمه. أحس عبد الله كأن أعصابه كلها قد مزقت واستُلّتْ من جسمه دفعة، وشعر في رأسه بأشد من لذع النار، ودار الكون من حوله، وتداخلت في عينيه المشاهد، فزاغ بصره ولم يعد يرى شيئاً، ثم هوى ... ولكنه (¬2) نهض بعد لحظة واحدة، نشيطاً سليماً يكاد يتوثب من الصحة والنشاط، فأقدم مجالِداً فلم يعرض له أحد، فعجب ¬

_ (¬1) بين الأقواس جملة من التاريخ. (¬2) من هنا بدأت الصورة التي تصورها الكاتب لحياة الشهيد.

وأغار على القوم، فلم يرُعْهُ إلا أنه يخترق الجموع لا يمنعه أحد، حتى جاز الجيش كله وصار إلى الفضاء والحرية فوقف يفكر ويذكر أمره ... فلم يعرف منه شيئاً، ولم يجد في أعماق نفسه إلا لذة لا توصف وطرباً لا يُحَد ولا يُعرَف. فرجع يوغل في هذا الجيش، فإذا هو يخترقه كرة أخرى ويتغلغل بين كتائبه وفرسانه، ثم ينتهي إلى الفضاء ... فينظر حوله ويتمنى أن يعلو هذه الجبال الشامخة، ثم يجلس على قُنّة من قُننها البوازخ يفكر في أمره، فلا يكاد ينتهي من أمنيته حتى يصير في أعلى الجبل، من غير أن يتجشم عناء أو يقاسي تعباً. فيزداد حيرة وعجباً وينظر حواليّه، فيَحسُر له البصر عن عوالم عجيبة تموج بالنور وتمور بالمشاهد البارعة التي لم ترها عين البشر، فيأنس بها، ثم تغلب عليه حيرته المحبوبة اللذيذة، فيحجب عينيه بكفيه وينطلق يفكر، فإذا كفه تشفُّ عما وراءها، كأنما ينظر من خلال زجاج صاف شفاف! فيجفو مكانه ويمر هائماً على وجهه، فإذا هو يمضي بسرعة البرق، يخترق الصخر وينفذ من الجبال، فيزداد دهشة ويبالغ في مروره. ثم يسمع من يدعوه باسمه، فيقف ويلتفت، فإذا هو بابن صفوان. فيقبل عليه فرحاً بلقائه، ولكنه يرتد فجأة: أنت ابن صفوان؟ - نعم يا سيدي. - ولكن ... - ماذا؟ - إن بصري ينفذ من خلال جسمك!

- وأنا يا سيدي أرى ما وراءك! - ويحك، وما هذا؟ أين نحن؟ - لست أدري. - ألا تتذكر شيئاً؟ فيفكر ابن صفوان وينظر حواليّه: بلى؛ أذكر الموقعة. - الموقعة؟ أي موقعة؟ ها، لقد ذكرتها؛ لقد عادت صورتها إلى نفسي. ولكن ... أين نحن؟ وأين جيش الحجاج؟ - هو هناك. أترى هذه النقطة الدقيقة المائلة في أقصى الحضيض؟ عبد الله: من المتكلم؟ ابن صفوان: من هو الذي يتكلم؟ - أنا. يعجب عبد الله وابن صفوان، ويجيلان بصريهما في أرجاء الكون فلا يريان أحداً. عبد الله: من أنت؟ أقول لك: من أنت؟ - ها أنذا! (ويظهر لهما). عبد الله: زيد؟ - نعم، أنا زيد.

عبد الله: ولكنك قد مت منذ زمن طويل! زيد: نعم، لقد مت منذ زمن طويل. عبد الله: كيف تكون ميتاً وأنت حي تنطق؟ - كما تنطق أنت! - ولكني لم أمت. - نعم يا سيدي ... ولكن تعال معي. وينحدرون بخفة البرق وسرعته كأنما كانوا يطيرون بغير جناح، فلا تمضي لحظة حتى يشرفوا على مكة. زيد: ألا ترى يا عبد الله؟ عبد الله: ما هذا الذي أرى معلقاً على رمح؟ زيد: رأسك. عبد الله: رأسي أنا؟ هل جننت يا زيد؟ عهدي بك رجلاً لَقِناً عاقلاً. هذا هو رأسي لا يزال مركباً بين كتفي! زيد: وهذه هي جثتك مصلوبة. عبد الله (وقد أخذته حيرة فجعل ينظر في جسده ويجسه): لا شك في أنك قد جننت يا زيد، إن جثتي صحيحة. زيد: إنها جثتك، ألا تسمع؟

يصيخ عبد الله بسمعه، فيسمع حديث القوم حول جثته المصلوبة ولكنه لا يصدق. عبد الله: مستحيل، إن جثتي كاملة. ألا تراها؟ تلك بقايا حشرة حقيرة، أأنا - ويحك - أدخل في جسم حشرة؟ زيد: ولكنك عشت فيها أكثر من سبعين سنة! عبد الله: قلت لك مستحيل. لن أرضى أبداً بهذا السجن الضيق الخانق. زيد: ألا ترى إلى هؤلاء الذين يحفّون بالجثة؟ عبد الله: بلى، أرى حولها كثيراً من هذه الحشرات الوضيعة. زيد: هذا هو جيش الحجاج! عبد الله: أأرواح بشر تدخل هذه الأجساد الحقيرة وتُسجَن فيها؟ إنني لأختنق من تصوري الحياة فيها لحظة. زيد: كما يحس هؤلاء بالاختناق إذا تصوروا أنهم عاشوا لحظة في بطون أمهاتهم. لقد نسيت سجنك الثاني كما نسوا سجنهم الأول! عبد الله: ولكنني لم أمت؛ أنا في غمرة الحياة! زيد: إن هذه الحشرات تسمي الحياة الحقيقية موتاً.

عبد الله: يا للغباوة! ولكني لم أمت، بل أنا لم أعرف الحياة إلا اليوم. زيد: ذلك لأنك مت! عبد الله: أليس في الموت قيد؟ زيد: بلى، ولكنا مطلَقون: {ولا تَحْسَبَنّ الذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحياءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقون}. والآن ... هلمّ بنا! عبد الله: دعني أرى أمي وأحملها. زيد: لا؛ إنه لم يجئ أجلها فهلم بنا. فينطلق الثلاثة إلى النعيم المقيم في السماء، كما تنطلق العجوز إلى العذاب الأليم في الأرض. * * * حل السلام في هذه البقعة التي خلقها الله للسلام الدائم، ونزل الحجاج يُزيل الأوضار عن الحرم ويرفع القواعد من البيت. ومرت الأيام سراعاً فووري ابن الزبير في لحده، واستغفر الحجاج من جريمة صلبه كما يُصلب المجرمون والمفسدون، وكادت الجروح تندمل، وأوشك الناس أن يستعيدوا هناءتهم وسعادتهم بعد هذه الحرب الطاحنة الضروس، ولكن أسماء لم تسترح ولم تهنأ، ولم يبق لها من الدنيا إلا قبر عبد الله تلبث الليالي والنهارات عاكفة عليه، تبكي وتدعو وتنادي عبد الله.

وكانت تتخيل كأن شخصاً قد ألمّ بها فتصرخ فيه: من أنت أيها الوغد؟ فيبتلع الصمت صيحتها ولا تسمع من مجيب، فتعود إلى تجرع آلامها وأحزانها. وإنها لفي مقامها على القبر في وسط ليلة ساكنة، وإذا هي بيد تلمسها لمساً رفيقاً، فيذكّرها مسها بعالَم غامض يفيض باللذة والأنس، ويردها إلى ماضٍ بعيد لا تتبينه ولا تعرفه؛ عالم عبد الله والزبير، فتحاول أن تمسك بهذه اليد لترفعها إلى شفتيها، فإذا هي لم تمسك إلا الهواء. فيختلط عليها الأمر وتتعوذ بالله، وتمد يديها إلى كل جهة تتلمس صاحب هذه اليد فلا تقع يدها على شيء ... ثم تشعر بصوت مستمر يطنّ في أذنيها، ثم يقوى حتى يشبه هزيع الرعود، ثم يستحيل إلى ضجة هائلة تحسب أن الأرض لم تسمع مثلها. وتشعر بزلزال عظيم، فتميد بها الأرض وتهتز بشدة وعنف، ثم تحس بيد تقبض على خناقها، وتطير بها مع الرياح الأربع، لا بل الرياح الأربعين، فتحوم في أرجاء الكون بسرعة البرق الخاطف حتى تصير الدنيا كلها خلاء في نظرها، لأن نظرها لا يستقر على شيء. ثم تلقيها هذه اليد في أعماق هوة سحيقة فلا يبقى عضو من أعضائها إلا أصابه كسر أو حطم، وتجتمع عليها البرودة القاتلة والصمت المرعب والظلمة المتكاثفة، فلا تعي من بعدها شيئاً. ولكنها تستفيق على صوت محبب إلى نفسها، يذكّرها جَرْسه ورنينه بعوالم تعرفها وتحبها، فإذا هي في دنيا عبد الله، قريبة منه، بل تسمع صوته يدعوها. يدعو أمه بأحب الأسماء إليها، فتمد يديها تمسح دمعة الفرح، فإذا هي مفتحة العيون تبصر عالماً من

النور كل ما فيه جميل ساحر، وإذا هي ترى عبد الله وقد عاد شاباً يفيض وجهه بشراً، فتمد ذراعيها تعانقه حقيقة! - أهذا أنت يا عبد الله؟ كلا؛ كلا. إن عبد الله قد مات، فمَن أنت ويلك؟ - أنا عبد الله! سرعان ما نسيتِني يا أماه. أما تذكرين ليلة دفعتِني إلى الموت؟ - بلى، بلى، ولكن ... رباه! ماذا أرى. - لقد حسبوني مت؛ ولكني ذهبت لأحيا الحياة الحقيقية مع أبي بكر والزبير، فتعالي يا أماه، تعالي! - هأنذي قد جئت. عبد الله! أدركني ... إني أحس كأني أطير. بل أنا أطير حقاً! لقد عدت شابة. ماذا أرى؟ عبد الله ... عبـ ... - مهلاً يا أماه؛ سنلتقي لقاء لا افتراق بعده. - أقلت أ ... أ ... * * * ولما مر الناس في الصباح على قبر أمير المؤمنين وجدوا أمه، ذات النطاقين، أسماء بنت أبي بكر الصديق ميتة على القبر! * * *

عشية وضحاها

عشية وضحاها هبطت ليلة الثلاثاء 15 رجب 484هـ على قصر الملك الشاعر وهو لا يزال على العهد به منذ عشرين عاماً، سابحاً في النور، رافلاً في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يُخِفْهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونُذُرها إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد (¬1)، وتعزف رياحها الهوج العاتيات ... لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون - من بَعدها - صباحاً طلقاً، ضاحك الطلعة، ساجع (¬2) الطير، مزهر الروض. كذلك عوّدتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان ¬

_ (¬1) رَجَس صوت الرعد وارْتَجَس: عَظُمَ واختلط، ورَجَسَت السماء: رعدت رعداً شديداً. وتنْبَجِس: تنفجر؛ في القرآن: {فانْبَجَسَتْ منهُ اثنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً}. (مجاهد). (¬2) يقال: سجعت الحمامة: إذا رددت صوتها على طريقة واحدة (مجاهد).

عظيم الثقة بها والاعتماد - بعد الله - عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورّثه الجدود بطلاً في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرت عليه فجأة بعدما طال أنسه بالدعة، وبعدما نام عنه الدهر فطالت نومته وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته. وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً، أو انصدع قلبه وانخلع فؤاده، واستسلم. ولكن المعتمد بن عبّاد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل احتمل هذه الشدائد صابراً عليها، مُعِداً العدة لدفعها. لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث، كانت كالحلقات في سلسلة أسره: انقلب عليه حليفه القوي أمير المؤمنين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الإسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز (¬1) أمس بالخميس العرمرم، لم يعدّه هذه المرة للإسبان ولم يَسُقْه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حميّة جنده بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة وهذه الممالك المزورة: ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ ¬

_ (¬1) مضيق جبل طارق.

فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت (¬1) له بالإتاوة (وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون). وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة الأندلس إلا ولاية في دولة المسلمين. بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواده وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمع العدو فيهم، المعتمد، الذي كان بالأمس الداني صديقَهم وحليفهم، وكان مضيفهم، وكانوا يتغنّون بما رأوا منه من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال. ثم إن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الإسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لمّا بلغهم زحف أميرهم وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل، يؤثرونها على مواقعة الإسبان، ومروا يطحنون في طريقهم الأرباض والقرى، يأخذونها أخذ الفجاءة ويدعسون (¬2) ¬

_ (¬1) هذا هو معنى رضخ، لا كما تُستعمل اليوم. (¬2) الدعس هو الوَطء الشديد، وهو من العامي الفصيح، وبعض الصحفيين عندنا «يتفاصحون» فيكتبون: «دهست السيارة»، بالهاء بدل العين. وذلك خطأ.

مآثر العمران ويحطمون الجنان. وجابوا في هذه الكرّة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، وربا حالية بالزهر، وضياعاً عامرة ممرعة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلّوها بلاقع (¬1)، فكأنما مرت عليها ريح سموم محرقة لا تبقي ولا تذر! وكانت ثالثة الأثافي هذه الثورة التي قدح زنادها ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضرى وحكّمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده وكرم طبعه إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحِباءهم (¬2) حباء الجواد المحسن! * * * لم يحفل الملك وقُطّانُ قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها - في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين - كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجيء ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرّف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع. وأوى الملك إلى سريره بعدما صرم أكثر ليله يعدّ قوته ¬

_ (¬1) البَلْقَع: الخالي من كل شيء. يقال: مكان بَلْقَع، والجمع: بَلاقِع (مجاهد). (¬2) حَبا فلانٌ فلاناً حِباء وحَبْوَة: أعطاه وأكرمه (مجاهد).

ويقيم مسالحه (¬1). وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق وهزيم الطبول وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي؛ إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فُتحت له أبواب قرطبة، وفي «الزلاقة» يوم ساق الأذفونش فيالقه وجيوشه ليمحو - بزعمه - الإسلام من الأندلس فمُحي جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هُزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة. وأغفى الملك وهو يداعب ذكر ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشه الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الإسبان ولم يسئ إلى البطولة بحربه الإخوة المسلمين. ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوي واستفاض حتى رجعت أصلادُ إشبيلية صليلَه وعزيفَه (¬2)، وعَظُمَ إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاء، ففتح عينيه وأفاق مرتجفاً وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجَانّ، فتخلوا عن ثغورهم ¬

_ (¬1) المَسالح جمع مَسْلَح، وهو الموضع الذي يقف فيه الجند بالسلاح للحراسة والمراقبة والدفاع (مجاهد). (¬2) الصّليل هو الصوت ذو الرنين، والعَزيف: صوت الرمال إذا هبت بها الرياح أو صوتٌ يُسمَع في الصحارى ليلاً (مجاهد).

حيال الإسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر .... أولئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين أغفى. * * * وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب ولا فرسان ضِراب، وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شيء. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل: إن يسلُبِ القومُ العدى (¬1) ... مُلكي وتُسْلمْني الجُموعُ فالقَلبُ بين ضلوعِهِ ... لم تُسلم القلبَ الضلوعُ لم أُستَلَبْ شرفَ الطباعِ، ... أيُسلَبُ الشرف الرفيع ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لأمته ويدرع. وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسّنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة الهجوم وتمكن البادرة: قالوا الخضوعُ سياسةٌ ... فليَبْدُ منك لهم خُضوعُ وبرزتُ، ليس سوى القميـ ... ــص عن الحَشا شيءٌ دَفوعُ فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو ¬

_ (¬1) يكتب بالياء وإن كان أصله الواو لمكان الكسرة التي في أوله (اللسان). وقد قال الشاعر هذه القطعة العبقرية بعد أسره.

الكفر يوم الروع أو دونه الكفر، وأبت له ذكريات النصر ومواريث الجدود: وألذُّ من طعمِ الخضوعِ ... على فمي السمُّ النقيعُ أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر - إذا خرج للقائه - في أهل ولا ولد؟ ما سرتُ قَطّ إلى القتالِ ... وكان من أملي الرّجوعُ شِيَمُ الأولى أنا منهُمُ ... والأصلُ تتبعه الفروعُ ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريَب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء فيلحقه فيفر منه ويتأبّى عليه! أما هذا الموت الذي يُقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان وفي سُدْفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه، بل لقد أحنقه ذلك عليه وملأ صدره غيظاً منه وكرهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فردّ هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه على حين غفلة من أهله. وضوّأ النهار إشبيلية وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتؤون - كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء - يثبون إلى سيوفهم،

يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير، الذي كان بالأمس الحليف النصير! فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين. وكانت الحصون حول البلد وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها شبلا ذلك الأسد وفرعا تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتد بالله، ولدا المعتمد بن عباد. وكان عصر ذلك اليوم وأهل إشبيلية لا يزالون يتغنّون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بعد العدو، فاستراحوا قليلاً بعد هذه الليلة الجاهدة. في تلك الساعة صرخ النذير كما يُنفَخ في الصور، فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذُراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال. واستراحت إشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة! * * * في يوم الأحد 20 رجب سنة 484هـ ارتجّت إشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غَشَمْشَم (¬1)، يقوده ابن أخيه، ¬

_ (¬1) الغَشَمْشَم والمِغْشَم هو الجريء الماضي الذي لا يثنيه شيء عما يريد (مجاهد).

كبش القوم وفارسهم، سير ابن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم - من طول ما ألفوا الخيل - قد وُلدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتِيّ الدفّاع. أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاؤوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها. وناضل الملك البطل حتى لم يبقَ مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفد آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلاً بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل ... ونُفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها فعادت أطلالاً ... وهوى الصرح الذي أقامه من النبل والحزم والكرم الغرُّ البهاليل (¬1) بنو عباد. * * * إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تُعِزّه (¬2) الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم وجلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد؛ فلم تذل نفسه، ولم يضرع، ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن، وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما ¬

_ (¬1) البُهْلول هو السيد الجامع لصفات الخير، جمعه: بَهاليل (مجاهد). (¬2) يُعِزّ الأمر: يعظُم ويَشِق ويشتد (مجاهد).

حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما. وكانا في حصنين أمنع من النجم، تهاوت الحصون وهما ثابتان. ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك، وماد العرش، وساد المرابطون؟ فلما أطاعا ونزلا قُتل الراضي على باب حصنه، واستُصفي مال أخيه وتُرك على شر حال. ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قُدّر عليهم في صحراء المغرب. * * * كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص (¬1) تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلاً له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي، لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي. وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة. أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر؛ خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء. وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم: ¬

_ (¬1) حمص المغرب هي إشبيلية، وتدعى الجنة.

والناس قد ملؤوا العُبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزبادِ وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قُدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جرّ الشياه إلى المسلخ وقد: حُط القناع فلم تُستَر مخدرة ... ومُزِّقت أوجهٌ تمزيقَ أبرادِ أوجه تزري بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام! ثم طلع الملك، لا تاج على رأسه ولا سيف في يده ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء، بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار ... تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم. حان الوداعُ فضجّتْ كلُّ صارخةٍ ... وصارخٍ من مُفدّاةٍ ومن فادي ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كالآلي: حموا حريمَهمُ حتى إذا غُلبوا ... سيقوا على نَسَقٍ في حبلِ مُقتادِ ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وانتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح خيوط الشمس لحظة خلال السحاب

في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً وفك أسيراً وأجاز شاعراً وفعل بها المكرمات، أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق، و ... سارت سفائِنهم والنَّوْحُ يتبعُها ... كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي * * * وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد بن عباد! أفي عشية وضحاها يُطمس كتاب كله مجد وكرم أُلِّف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا؛ فهُرعوا إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن وأقام فيها النبل، فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد، ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارُهم علماً يخفق ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها، وصوّح زهرها، والدور قد هُدّمت جدرانها وهُدّت أركانها. وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء، فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة، قد محي نقشها وطمس

زخرفها وعشش فيها البلى ... هناك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون: عرينةٌ دخلَتْها النائباتُ على ... أسَاوِدٍ لهُمُ فيها وآسَادِ وكعبةٌ كانت الآمالُ تعمُرُها ... فاليومَ لا عاكِفٌ فيها ولا بادي فمن للعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفى على الدليل سبيل النصر؟ لقد ذهب من كان لهم، فيا من يقصد الملك الشاعر! إنه لم يبقَ هنا ملك؛ إنها قد خلت منه داره وبَعُدَ مزاره: يا ضيفُ أقفَرَ بيتُ المَكرُماتِ فخُذْ ... في ضَمّ رَحْلِكَ واجمَعْ فضلةَ الزادِ ويا مُؤمِّل واديهم ليَسْكُنَه ... خفّ القطينُ وجفّ الزرعُ في الوادي وأنت يا فارسَ الخيل التي جعلت ... تختَالُ في عدد منها وأعداد ألقِ السلاحَ وخلِّ المشرَفيّ فقد ... أصبحتَ في لهَوَاتِ الضيغَمِ العادي * * * ضلت سبيلُ النّدى يا ابنَ السّبيلِ فسِرْ ... لغيرِ قصدٍ فما يهديك من هادي كذلك ذهب الملك الشاعر البطل، الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله تمثالاً للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، ويتمنى كل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه. الملك، الذي كان زمانه كله فجراً رخياً ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً.

الشاعر، الذي كان شعره لحن كل قلب مدلّه بالجمال مفتون بالفن. البطل، الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر. وكذلك أُلقي الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل مشاهد الهوى والشباب، والبطولة والظفر، والسماحة والكرم، والشعر والطرب، والغنى والترف، ورُفع عن مأساة من أفجع المآسي التي «عُرضت» على مسرح هذا الكون! * * *

آخر أبطال غرناطة

آخر أبطال غرناطة لم تشهد شمس اليوم الواحد والعشرين من المحرم سنة 897 هـ حينما أطلت على غرناطة تلك المدينةَ الضاحكةَ للحياة، الساكنةَ إلى النعيم، السابحة في جو النغم العذب والعطر الأريج، بل رأت مدينةً واجمةً حَيرى، قد أقفرت من الرجال إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار، هي بقية ذلك الجيش الذي دانت له إسبانيا كلها وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا ... قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام في هذا القطر الممرع، تذود عن بيوت الله ومقابر الأجداد. ولقد جازت غرناطة أياماً سوداً عوابس، ورأت مصائب ثقالاً متتابعات، ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قضتها مسهدة مذعورة، تنظر حواليها فلا تبصر إلا مدناً خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها، وقد كانت أرض العروبة وكانت ديار الإسلام، وأمة استُذلت واستُعبدت، وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان، وبقيت هي وحدها تحمي الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين، وتحمل وحدها أوزار الماضي وما كان فيه من تخاذل وأثَرة وانقسام، وتؤدي وحدها الدَّين، دَين الجهاد

الذي كان في أعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين، فنامت عنه مدن الأندلس وشغلتها خيالات الإمارة وألقاب مملكة في غير موضعها! وجعلت تنظر غرناطة إلى القصر البهي العظيم (وهو آخر هاتيك القصور التي شغل رواؤها الأمراء، وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى، فكانت مقابر لأمجادهم) طفقت تنظر إليه فلا ترى من بُناة الحمراء إلا الرجل الضعيف والمرأة الملتحية التي اسمها أبو عبد الله الصغير، وأمه الشريفة الأبية، الرجل الذي خُلق في جسم امرأة: عائشة. فحولت وجهها عن القصر إلى جهة السور تسأل: هل عاد موسى؟ ولقد كان «موسى» أملَ هذا الشعب وإليه مفزعه، وعليه بعد الله اعتماده. بدا له في ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادي للضال الآيس. لقد طلع فجأة من الظلام، ظلام الدهماء، فإذا هو يلمع في لحظة واحدة التماع البدر المنير (وكذلك يقذف هذا الشعب المسلم بالأبطال كلما حاقت الشدائد وادلهمّت الخطوب)، وإذا هو أمل أمة، وإذا هو ملء السمع والبصر، وملء السهل والجبل، وإذا هو بطل المعركة المكفهرّة. دعا إلى القتال شعباً كلَّ من القتال فلباه على كَلاله، هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف يلبي كلما دعي إلى التضحية والجهاد، لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب وسباع عرين، ووقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل

الإسباني الطامي وما زال ثابتاً، ولكن أسوده قد سقطوا صرعى في ميادين الشرف. خرج موسى منذ إحدى عشرة ساعة يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، ويرد العدو الذي أبقى عليه حِلم المسلمين حتى قوي بضعفهم واشتد بلينهم، وانتزع منهم الأرض قرية قرية، وبلداً بلداً، حتى أقبل يطردهم من آخر منزل لهم في الأندلس، من غرناطة. * * * وعلت غرناطة فترة الجزع من خوفها على موسى. لقد جعلته قائدها، وسلمته الدفة ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع إلى الشاطئ الآمن، فإذا عجز موسى عن نجاتها لم يُنجها أحد من بعده. وقد كان موسى آخر خيط من خيوط الرجاء، وآخر شعاعة من هذه الشمس التي سطعت فملأت الأرض نوراً وهدى ثم أدركها المغيب، فإذا انقطع هذا الخيط عمَّ ظلام اليأس وانتشر. وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق، ثم توالى على نظمه «شعراء» البطولة: عبد الرحمن وعبد الرحمن وعبد الرحمن، الغافقي والداخل والناصر، فحمله الأبطال المساعير إلى الأقاصي والأداني، وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا وبطاح إيطاليا، ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه إلا هذا المقطع، فإذا انقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات. وقد كان موسى آخرَ سطر في سفر الحق والبطولة والمجد،

ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمئة سنة، فمحاه الإسبان في سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طُمس ذهب السفر وباد. وقد كان موسى آخر نفَس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة، فإذا وقف هذا النفَس الواحد وسكن هذا الذماء الباقي صارت الأندلس المسلمة أثراً بعد عين، وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم وأمانة في عنقه إلى يوم القيامة. * * * وانطلقت من أعالي الأسوار أن: "لقد عاد موسى"، فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان، فطارت في أرجاء المدينة وسارت في جوانبها مسير البرق، فبلغت الساحات والدروب، وولجت الدور والمنازل، وأوغلت خلال البيوت والسراديب، فلم تلبث أن نفضتها نفضاً فألقت بأهليها إلى الأزقة والشوارع، فإذا هي ممتلئة بالناس من كل جنس وسن ومنزلة، وإذا هي تزخر بهذا النهر الإنساني الذي يجري صوب الأسوار صخّاباً جيّاشاً مُزبداً، يتحدر ويسرع مجنوناً كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها الكلمات السحرية «المكهربة» الثلاث: "لقد عاد موسى"! لقد كان يوماً من الأيام الغر التي تضيء الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ، وتجيء في الليالي كالعبقري في الناس، وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان، ما شهدت مثله غرناطة، ولا أبصرت منه (إلا قليلاً) عين الوجود! إنه يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع، ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن، وانبتّوا من الحاضر المقيت ليعيشوا في

الماضي الفخم؛ فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابُها أرواحَهم على أكفّهم، وقدّموا بين أيديهم دماءهم التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز، ونفوسَهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة، فمشت في الأعصاب النار، واستعد كتّاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب إذا هبّ. ووصل موسى، ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأتِ في سنوات الهجرة الأولى، بل جاء في الأواخر من القرن التاسع، ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد، بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها. وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكاً أخرى أو قادسية ثانية، ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى، قد ختمه الآن بموسى! ونظر موسى حوله، فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره، وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم، ونسوة تفتحت تفتح الأكمام عن زهراتها فرأت الطرقات مَن لم تكن الشمس تراهن صيانة وتعففاً، قد برزن يَسِرْنَ إلى المعركة ويزاحمن الرجال، ولم يكُنّ يخشين على جمالهن، فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس، فكان كل رجل أخاً فيه لكل امرأة.

فأحنى رأسه، ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق، وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم. فإذا هو يعلن النبأ المهول، نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة! نبأ بدا صغيراً كما تبدو المصائب، فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثر هذا وما خطره، ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ ولم تفرغ - إلى اليوم - من وصف فواجعه وأهواله. ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول قد انهار في دقائق، وإذا هذه الديار التي سُقيت بدم الجدود وامتزجت برفاتهم وقامت على أيديهم يسلمها جبان مأفون للعدو المغير، وإذا السادة صاروا خَوَلاً والملوك عبيداً ... وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله، في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها، هل يُجنّبها الموت الحاصد ويردها إلى حيث وجدت الراحة والدعة، أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها إلى موت شريف؟ وإنه لفي تفكيره وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يُعرف من نظمه لهم، فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر: لا تبكي يا أماه؛ إنّا ذاهبون إلى الجنة. إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله.

إن أزهار غرناطة لن تمنع عطرَها قبراً لم يمتع صاحبه بعطر الحياة. إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها. أنت يا أرض غرناطة أمنا الثانية، فضمينا إلى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء. لا تبكي يا أماه، بل اضحكي واحفظي لعبنا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها. فذكّريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن، بل في سبيل الله. سنلتقي يا أماه! إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الإسبان على الموت تحت الراية الحجازية، راية القرآن. ولن تضيق عنا أرض غرناطة. ما ضاقت أرضنا بشهيد. * * * ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك، فلكز فرسه وانطلق إلى حيث لا يدري أحد، كما جاء من حيث لم يَدرِ أحد. وكذلك يذهب آخر أبطال الأندلس، لم يخلف له قبراً في الأرض ولا سيرة واضحة في التاريخ، بل مرّ على الدنيا كأنه حلم بهيج! رحمة الله على موسى بن أبي الغسان، وعلى أولئك الأبطال. * * *

رجل وامرأة

رجل وامرأة كان ذلك في يوم من أيام سنة 607 هـ، وكانت دمشق تصارع دهرها الغاشم الحَرون الذي رمى بلاد الشام بقاصمة الأصلاب، الصليبيين، فنزلوا على مدنه نزول البلاء، وفشت أجنادهم في نابلس وعكا وبلاد أُخَر فُشُوّ الطاعون. وكان صبرها يزيد كلما زاد الكرب، وحزمها ينمو كلما نمت المصيبة، شأنَ دمشق في كل عصر. وكان طوفان المغيرين يمتد ويتسع؛ يحمل الموت والدمار، يأتي على البلاد والعباد، يجتث الحضارة من أصولها ... وأهل الشام ينهضون له فلا يملكون له دفعاً، حتى كادت الديار تخلو من شبابها ولا يبقى فيها إلا شيخ أو امرأة أو صبي، أو قَعَدي نسي واجب الجهاد! وقد ذهب - فيمن ذهب - إخوة «ميسون» الأربعة، وبقيت من بعدهم وحيدة في دارها لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى إخوتها. * * *

أصبحت ميسون مهمومة، قد تقاسم فكرَها العزيزان: وطنُها وإخوتُها، فما تدري ما جرى لهم وماذا يجري عليه، ولقف سمعها طرفاً من أحاديث المارة، فعلمت أنه قد اشتد الخطر ودنا الهلاك، وأن هؤلاء «الواغلين» لا يفتؤون يركبون جناح الليل الأسود إلى شاطئ فلسطين، تحملهم المواخر الهاربة من عين الرقيب، المتسللة من وراء الحرس، فكلما دجى الظلام نزلوا إلى الشط أفواجاً، فكانوا للغاصبين عوناً وعلى أهل البلاد حرباً. وجعلت تفكر في هذه العصبة المجاهدة الكريمة، ماذا تستطيع أن تصنع لها؟ وكيف توقد النار في أعصاب هؤلاء الذين لا يزالون يروحون ويغدون على متاجرهم وأعمالهم، ويأخذون حظوظهم من مفاتن الطبيعة وجمال الكون، وتنسيهم ملذات أجسامهم ومرابح تجارتهم هذا الخطر الذي عم البلاد، والذي طال الزمان به، ونشؤوا عليه فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء «الواغلين» ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا تؤمل لها رجعة. كيف لها - وهي فتاة - بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تُفهم هذه الشخوص التي تجيء وتذهب (كشخوص من ورق في ألعوبة «الكراكوز») أن الحياة ليست بطناً يُملأ، ولا شهوة تُقضى، ولا مالاً يُنال، ولكن الحياة المجد والتقى وجلائل الأعمال. وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين

«واغل ...» واحد من هؤلاء، فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟ وإنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي إخوتها الأربعة! * * * صُعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن وقلبه الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر وخلال غبار المصيبة يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها، فلتطلب ثأر وطنها وإخوتها. ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع تقرع أذنه بالرعود، فيفيق أو ينام إلى الأبد. وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيْد الذي يفل الجيوش ويدك الحصون. وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلاً لا يُغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان! * * * وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها، فلم تجد لها في الأرض قريباً ولا ذا رحم،

فقطعت أسبابها من الأرض، ثم وصلتها بالسماء فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية اصطفتها من دون الناس لتعلّم - وهي الفتاة الغريضة الناعمة - هؤلاء الرجال الرجولةَ كيف تكون! ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر وهي تمرر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير، يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام: إن هذا هو سلاحها، لتشدّنّ الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنّهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء. لتجعلن من ضعفه قوة تأكل القوي. وذهبت فنادت جارات لها كنّ يقتدين بها ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في إخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مُصَعِّدة حتى سَمَتْ إلى فلك التضحية ونسيان النفس، ورفعتهن معها. حتى إذا استوثقت منهن قالت: إننا لم نخلق رجالاً نحمل السيوف ونقود الخميس، ولكنّا إذا جَبُنَ الرجال لم نعجز عن عمل، وهذا شعري (أثمن ما أملك) أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات. وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف ولا لليلة العرس. * * *

أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب الجامع الأموي، سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفد منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم في وجوه البعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم. خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول فيقذف به على لسانه، ولم يستطع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح، قد ذابت كلماتها في معانيها ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كلَّ عصر مرةً لسانُ محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامةً من الكرامات وواحدةً من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة: لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر العيون ... وإنما حفظوا منها جملاً نقلوها إلى لسان الأرض فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. وكان مما حفظوا: "يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادُهم بالحق أقطارَ الأرض، وحُكموا هم بالباطل في ديارهم وأوطانهم! يا من باع أجدادُهم نفوسَهم من

الله بأن لهم الجنة، وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة ولذائذ حياة ذليلة! يا أيها الناس: ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؟ يا ويحكم! أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم مرأى عدو الله وعدوكم، يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويتعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟ أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم أن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟! أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي، والمسلم يعين المسلم، والإنسان يرحم الإنسان؛ فمن لم يهبّ لنصرة فلسطين لا يكون عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً! أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟ يا أيها الناس! إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فأفسحوا الطريق للنساء يُدِرنَ رحاها، واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل! يا نساء بعمائم ولحى! أوْ لا ... فإلى الخيول، وهاكم لجمها وقيودها.

يا ناس! أتدرون مِمّ صُنعت هذه اللجم وهذه القيود؟ لقد صنعها النساء من شعورهن، لأنهن لا يملكن شيئاً غيرها يساعدن به فلسطين. هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله وفي سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها فخذوها فاجعلوها ذوائب لكم وضفائر ... إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور! وألقاها من فوق المنبر على رؤوس الناس وصرخ: تصدعي يا قبة النسر، وميدي يا عَمَد المسجد، وانقضّي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم! فصاح الناس صيحة ما سُمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت (¬1). * * * بلغت الحياة هذه القلوب فعاشت بحمية الإيمان وحماسة الشرف، وعاش فيها إرث الجدود، فهبت دمشق يستبق رجالها في طريق الجهاد، وتوالت الأمداد على الملك المعظم في نابلس ¬

_ (¬1) هذه الخطبة من إنشائي أنا لأن التاريخ لم ينقل إلينا نص تلك الخطبة، وقد خُدع بها ناس، حتى إن خطيب المسجد الحرام رواها في خطبة الجمعة على أنها هي خطبة سبط ابن الجوزي.

(ونابلس دائماً مطلع شمس النصر، ونابلس دمشق فلسطين)، وكانت هجمة الأسود على الأعداء «الواغلين» فطردوهم حتى التجؤوا إلى عكا، فحاصروهم فيها حتى أشرفوا على الهلاك، فاستسلموا. وكذلك جاء النصر على يدَي رجل وامرأة، أما الرجل فقد أكرمه الله فجعله أحد العظماء الخالدين، وأما المرأة فقد كافأها فرد عليها إخوتها الأربعة سالمين مظفرين لم يصبهم سوء، وكان خبر موتهم مكذوباً. وعلمت الدنيا أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا يذلون ولا يُستعبدون ما بقي فيهم رجل واحد أو امرأة مفردة طوت صدرها على إيمان صحيح، وأنهم قد ينامون ولكنهم لا يموتون، وأن «الواغلين ...» في فلسطين وغير فلسطين قد يقيمون حيناً، ولكنهم لا يستقرون ولا يملكون! * * *

عالم

عالِم حدثني بعض مشايخي عمّن رأى بعينه وسمع بأذنه، قال: وقعت الصيحة في «حي الميدان»، أجل أحياء دمشق وأكبرها، صبيحة يوم من أيام سنة 1831 بأن إبراهيم باشا قادم لزيارة عالِم الشام الشيخ سعيد الحلبي (¬1) في مسجده. وإبراهيم باشا مَن قد علمت في بطشه وجبروته، ومَن يدُه إلى السيف أسرع من لسانه إلى القول وعينه إلى النظر، ومَن كان جبارَ سورية وفاتحها وسيدها. فطار الفزع بألباب الميدانيين (وهم فرسان دمشق وحُماتها)، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا يصنعون؟ إنهم يعلمون أن الشيخ لا يقيم وزناً لأحد من أبناء الدنيا، فلا يبجل سلطاناً لسلطانه ولا يوقّر غنياً لغناه، ولا يقيس الناس بما على جسومهم من ثياب ¬

_ (¬1) كان عالم الشام قبل طبقة الشيخ محمود الحمزاوي والشيخ محمد الطنطاوي (جدنا الذي قدم من مصر) والشيخ بكر العطار وأصحابهم.

ولا بما في صناديقهم من مال ولا بما يبتزّون من أموال الدولة (¬1)، ولكن يقيسهم بما في نفوسهم من فضائل وما في قلوبهم من إيمان وما في رؤوسهم من علم، وإذا نظر الناس من خارج فرأوا الطبل سميناً عظيماً نظر هو من داخل فرآه خالياً حقيراً. وكانوا يخشون أن يسوء ذلك الباشا، ويودون لو رجوا الباشا، ولكن كيف يصلون إليه وهو في قصره، حوله الحجّاب والأعوان والجند بالسلاح، ومن حوله الموت ألواناً وأشكالاً يحمي حماه ويحرس أبوابه. ويتمنون لو رجوا الشيخ، ولكن الشيخ أعز من مئة ملك جبار، تحميه هيبته ويحرسه تقواه، وتحف به الملائكة واضعة له أجنحتها (¬2). ولم يكونوا يخافون أن ينال الشيخ سوء، فهذا شيء تُحيله عقولهم لما استقر فيها من إجلال الشيخ وإكباره، ولا تراه أبصارهم، لأنهم يقضون عن آخرهم قبل أن تراه أبصارهم؛ ولكنهم كانوا يخشون الشيخ على الباشا ويخشون الباشا على أنفسهم. * * * ومضوا يقيمون معالم الزينة ويبنون أقواس النصر، ويرفعون الرايات على طريق البطل الفاتح، ويقطفون أزهى أزهار الغوطة ¬

_ (¬1) يعني الرواتب! (¬2) جاء في الأثر: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع.

لينثروها عليه ... فما كان الأصيل حتى تم كل شيء، وأقبل الباشا في الموكب الفخم والجند والسلاح والدبدبة، حتى انتهى إلى باب المسجد. وكان باباً صغيراً فاعترض الباشا، كأنه يقول له: ارجع أو أرجِعْ دنياك. إنك تدخل بيت الله بشراً خاضعاً، أما أن تكون تزوير إله ... بألف عبد وألف ثوب، فلا! إنه لا يجتمع ميراث النبوة التي جاءت بالتوحيد والمساواة ببقايا الجاهلية التي قامت على الشرك والتمييز بين الناس، إلا محي أحدهما. فانظر: هل محا باطلٌ حقاً؟ قال الراوي: وتردد الباشا هنيهة يفكر، ثم أبعد أعوانه وترجّل، ودخل المسجد منفرداً. وكان الشيخ جالساً على حصير قد وضعت فوقه حشية، وكان ماداً رجله، فسمعته يقول: والمرء إذا خاف الله وصدق في مخافته خافه كل شيء، لأنه لا يرى كبيراً إلا صغره عنده أن الله أكبر. الله أكبر؛ إن لهذه الكلمة سراً إلهياً، ولكن المسلمين استعجموا فلا يرددون منها إلا حروفاً فارغة من المعنى، وما فرض الله على المسلم أن يقولها كل يوم خمساً وثمانين مرة أقل ما يقولها (¬1) ويسمعها من المنارة ثلاثين مرة (¬2) إلا ليعلم أنه لا كبير في الدنيا، وأن من كان مع الله لم يبال شيئاً: لا الملك ولا المرض ولا الوحش، فلو أن المسلم عرف معنى هذه الكلمة وهو يقولها ما عرف الذل والجبن ولا الكسل. ¬

_ (¬1) إن صلى الصلوات المفروضة (17 ركعة كل يوم)، وذلك ما لا يكون المسلم مسلماً إلا به. (¬2) في كل أذان ست مرات.

قال رجل من طرف الحلقة: فإن قتله الملك يا سيدي الشيخ أو أماته المرض؟ فقال الشيخ: سبحان الله! وهل يهاب المسلم القتل أو يبغض الموت؟ إن الموت شديدٌ لأنه انقطاع اللذات وخسران الدنيا، ولكنه لا يكون بهذا المعنى إلا عند الكافر الذي يعيش في الدنيا ويستمتع بملاذّها، أما من كان يتهيأ فيها للعيشة الخالدة، ويقيم فيها كالمستعد للسفر، ويرقب ساعته كما يرقب المسافر ساعة القطار، ويراه حين يمضي ليلقى ربه كالآيب إلى وطنه حين يذهب ليلقى أهله وصحبه ... من كان هذا شأنه لا يرى في الموت موتاً، وإنما يرى فيه ولادة جديدة وابتداء حياة. وقد حفظنا من مشايخنا أن أفضل الشهداء رجل يقول كلمة حق عند إمام جائر فيقتله بها. وكان الباشا قد وقف على الحلقة منتفخاً مصعراً خده شامخاً بأنفه، فنظر إليه الشيخ - رحمه الله - فلم يتغير، ولم يَبدُ عليه أنه رأى فيه أكثر من رجل، وأشار إليه (أن اجلس) كما كان يفعل بغيره، فلم يتمالك الباشا أن جلس. ونظر في الحاضرين يقلب فيهم بصره يفتش عن شيء أضاعه فيهم، عن الخضوع والإكبار اللذين تعود أن يراهما حوله دائماً، ينتظر أن يقوموا له وأن يقفوا بين يديه صفاً، ولم يدرِ أن القوم كانوا في غير هذا؛ لم يدرِ أن الشيخ قد علا بهم حتى جعلهم يُطلّون على الدنيا من شرفة طيارة أو من قطع السحاب، فيرون الأرض كلها كمَفْحَص قَطاة (¬1)، ولا يرون ¬

_ (¬1) مفحص القطاة: حفرة تحفرها القطاة (وهي من أنواع الحمام البري) أو الدجاجة في الأرض لتبيض فيها (مجاهد).

في الباشا العظيم إلا نملة. فمَنذا الذي يحفل بنملة؟! وأجال الباشا نظره فيهم حتى علق برجل الشيخ (وكانت ممدودة نحوه)، فأثار مرآها كبرياءه وسلطانه، ورأى فيها علامة تعجب أضيفت إلى عظمته وجلاله إضافة سخرية وتهكم، ورآها كبيرة في عينيه، فأحس كأنما هي في عينه، ونظر في الحاضرين: ألم يجرد واحد منهم سيفه يتقرب إلى الباشا بقطّها؟ وكان الباشا ينظر بعين بصره المادية، لم تُفتح - بعد - عين بصيرته المعنوية، فيفاضل بين قصره وسريره ومكان الشيخ وحصيره، وبين جنده وأعوانه وتلاميذ الشيخ وإخوانه، فيوقن أن دنيا الشيخ كلها لا تثبت لحظة لسيفه الذي لم تثبت له دنيا الخليفة العثماني (إمبراطور الشرق). وكان كالأسد الذي زعموا أنه مر على قنبلة من القنابل المدمرة ملقاة في أجمته، فعجب منها وحقرها وقال: ويحك، أي حيوان أنت؟ يا للضعف والمهانة! أين الأنياب؟ أين المخالب؟ أين ... أين ... ؟ يا للهوان ماذا يصنع بأهله! قالوا: ثم ركلها برجله، فانفجرت القنبلة! وانفجرت القنبلة من فم الشيخ فرجع يتكلم. * * * قال: ومن عجيب صنع الله في الإنسان أنْ خلقه حيواناً كالحيوان، ولكنه وضع فيه ملكاً ووضع فيه شيطاناً، فمن كان همَّه من دنياه لذتا بطنه وفرجه وابتغاهما من حِل ولم يعرف غيرهما لم يكن فيه إلا الحيوان، فهو يرتع كما يرتع الحمار ويتبع غريزته

كما يتبع. ومن كان همه اللذة من حل وحرمة، ومن كان لا يبالي ما اجترح من السيئات، لم يكن فيه إلا الشيطان، وكان العقرب والخنفساء خيراً منه، لأن مصيرهما إلى التراب ومصيره إلى النار. ومن كان همه أن يعيش في هذه الحياة كما يعيش في مدرسته، يتلقى فيها أساليب الكمال ليعيش من بعده في أساليب الكمال، فهو الإنسان حقاً. ومن عجيب صنع الله في الإنسان أنه وضع في نفسه المَلَك، فلا يحتاج مهما كان ضالاً فاسقاً ظالماً إلا تنبيه الملك في نفسه ليطرد الشيطان ويقود الحيوان، فلست أنت الذي يعظه، ولكنه يعظ حينئذ نفسه. وهذا معنى قولهم: لا تنتهي الأنفسُ عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجِرُ وذلك ثوابه في الجنة، والجنة لا تكون بالتشهّي والأمل، ولكن بالجِد والعمل. ولو أن تلميذاً أمضى عامه في لعبه ولهوه ثم تمنى النجاح، أكان ينجح؟ ولو أن صياداً ألقى بندقيته فلم يضرب بها، ورمى شبكته فلم ينصبها، ثم حلم بالقنيصة، أكانت أحلامه تعدو في إثر الغزال حتى تأتي به مكتوفاً، أم كانت السمكة تأتيه وحدها وعلى ظهرها الملح والفلفل تقول له: كلني؟ قال الرجل: ولكن القلوب قست يا سيدي الشيخ، فما علاجها؟ قال: إن الشيطان لا يأتي إلا من إشعاره الكمال، فأشعر نفسك النقص وذكّرها في الصحة المرض وفي الحياة الموت. ولقد أدركنا من مشايخنا مَن إذا قسا قلبه أمَّ المستشفى أو قصد المقبرة،

فخوّف نفسه المرض وذكّرها الموت. والمؤمن لا يزال بخير ما زال بين الخوف والرجاء، فإن لم يخف أو يرجُ فقد هوى. ولقد سمعنا أن منهم من كان يُدني يده من المصباح ويقول: يا نفس، إن لم تصبري على هذا فكيف - ويحك - تصبرين على نار جهنم؟ وإن المؤمن ما ثارت في نفسه شهوة إلا أطفأها بأنهار الجنة، أو أحرقها بنار جهنم، فاستراح منها. وما الإنسان لولا العقل؟ وكيف يكون العقل إن لم يكن معه الإيمان؟ إنه لا يكون - إذن - إلا كما قالوا: أوله نطفه مذرة، وآخره جيفه قذرة. وإن للسلطان لسكرة، فمن أسكره سلطانه وعزته على الناس فليذكر هوانه على الله، وأن الله أهلك أشد الملوك (وهو النمرود) بأضعف الخلق (وهو البعوض)! فيا مَن أصله من التراب، لا تنسَ أن نهايتك إلى التراب! * * * وكان الباشا يشعر - والشيخ يتكلم - كأنه كان محبوساً في صندوق ثم فتح عينيه فنشق الهواء الطلق، أو كأنه كان في ظلمة فاحمة فطلع الشيخ عليه شمساً نيرة، فتضاءل حتى جلس على ركبتيه، ورأى نفسه دون هؤلاء كلهم لأنهم ألصق منه بالشيخ وأدنى إليه، ولم يعد يزعجه مرأى الشيخ وهو ماد رجله ... بل كان يراه الغريق ويراها خشبة النجاة، وكان يبصرها عالية كجناح النسر المحلق، ثم لم يعد يرى فيها شيئاً. لقد استحال الشيخ في نظره إلى فكرة ... لم يعد يرى فيه إلا الحقيقة تمثلت إنساناً! * * *

قال الراوي: «فلما ذهب الباشا بعث إلى الشيخ بكيس فيه ألف دينار من الذهب العين، فلما جاءه به الرسول وألقاه بين يديه تبسم الشيخ رحمه الله ورده إليه، وقال له: سلم على سيدك وقل له: إن مَن يمد رجله لا يَمد يده» (¬1). * * * ¬

_ (¬1) هذه الفقرة هي أصل القصة التي رويناها وبنيناها عليه.

مع النابغة الذبياني

مع النابغة الذبياني على أطلال دار «نُعْم» لما بلغ الركب مشارف نجد، وترك القَارَة السوداء عن يمينه واستقبل تل بني عامر، أحس الشاعر بفرحة غامضة تشتمل عليها ضلوعه ويرقص لها قلبه، ولم يعرف لها سبباً. حتى إذا بلغ الركب ذروة التل، وتكشف له الفضاء الرحيب ومن حوله تلال الرمل الأحمر آخذٌ بعضها برقاب بعض وهي تتموج تموّج البحر، لينة رخوة تود النفس لو نامت عليها ثم اتخذت منها جناحين ناعمين طارت بهما في أجواء حلم فاتن، والعلم الشرقي يلوح من بعيد بأوديته القاحلة وصخوره المهولة. ودون ذلك كله السهل الأفيح وغديره الذي لا ينضب، والنخلات المطيفات به إطافة العشاق بمنزل الحبيب ... هنالك أدرك الشاعر سر فرحته: هذه ديار نُعْمٍ! وأقبل الركب ينحدر عن التل، وقد مدت الإبل أعناقها فسالت بها تلك السفوح والحدور، واستطاب السَّفْر الإغذاذ (¬1)، ¬

_ (¬1) السَفْر هو المسافر، تقال للواحد والجماعة. والإغذاذ هو الإسراع في السير (مجاهد).

فضربوا بطون الإبل، يغتنمون لين الأمسية وطيبها بعد حرّ الهاجرة واشتعالها، ليبلغوا الغاية بعدما طال عليهم السفر وقطعوا فيه سواد إحدى عشرة ليلة وبياض نهارها. وإذا الشاعر يصرخ فيهم صرخة معمود الفؤاد حزين: عوجوا فحيّوا لنُعمٍ دِمنةَ الدّارِ ويلطم عنق ناقته لا ينتظر جواباً فيحولها ذات اليمين، وينطلق يحدوه الشوق وتدفعه الذكريات إلى ديار المحبوب. ولم يشأ أصحابه أن يتركوه يهيم في هذه القفار وحيداً، فتبعوه عن كثب، يخافون أن تنكأ الدار جراح قلبه ولمّا يبرأ من داء الغرام. كان الشاعر ضاحك الوجه متهللاً، كأنما قد رجع إليه شبابه الذي ولى منذ حين وعادت لياليه البواسم، فلم يكد يبلغ الحي الخالي ويراه قفراً يَباباً حتى وقف وغمرت نفسَه كآبةٌ طفت على وجهه، فلاحت ظلالها في عيون الرفاق، فأحزنهم مرآه وفاضت نفوسهم بالرثاء له والحدب عليه، وودوا لو استطاعوا أن يواسوه ويرفعوا عنه وَقْر الذكريات، فأحاطوا به وعيونهم تنطق بكلمات الحب والإشفاق، ولكنهم احترموا صمته وأساه فلم يحركوا ألسنتهم بكلمة. وظلت أفكار الشاعر شاردة كأنما هي ضائعة في الفضاء، فطفقوا يثيرون انتباهه إليهم، ويحاولون أن يشعروه بأنهم حوله حتى يعود إلى حاضره وهو غارق في لجج الماضي، يفكر في المرأة التي أحبها وأحبته، ويلمح وجهها طالعاً عليه من كل صوب، ويرى عينيها اللتين جعلهما مرآة تتجلى فيها ألوان العواطف: فهما

تضحكان بلا صوت، وتبكيان بلا دمع، وتغضبان وترضيان، وتعطيان وتمنعان! وإن من الجمال لما يثير الشهوة وينطق بلغة الغريزة، ولكن جمال «نُعم» يثير الحنان والعطف ويهيج في النفس الحب، فتفنى حاجات الجسد في مطالب الروح، ويرفع إلى عالم كله طهر، وينسى من يراه دنياه حين تغمره لذات هذه الدنيا الصغيرة من الجمال، ويجمع أهواءه المتفرقة في هوى واحد؛ هو القرب منها، والاطمئنان إليها، والفناء فيها. وجعل يطوف بالحي طواف العابد المتنسك بالبيت الحرام، يخيل إليه الوهم أن الحبيب دانٍ والشملَ مجتمعٌ. ثم صحا وانتبه، فإذا يده صفر من هذا النعيم كله، وإذا الحياة قد ماتت في الحي، وخرب العمران، وامّحت صفحة من أمتع صفحات الحب والجمال فلم يبقَ منها إلا بقايا سطور. هنا كانت خيمة الحبيبة مهوى أمانيه وكعبة آماله، وكان نعيمه كله في أن يجلس فيها مع «نُعم» فتناجيه بأسرارها وتفتح له قلبها، ويبيحها أسراره ويكشف لها عن قلبه، وتلك هي غاية ما يبلغه المتحابّون: أيّامَ تخبرني نُعْمٌ وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري وهنا كان موقد أهلها؛ طالما جالسها عنده تأنس روحه بقربها، ويحيا فؤاده بنجواها، وينتعش قلبه بأنفاسها التي لو لامست حرارتها الجلمد لوهبته الحياة، فكيف بقلب الشاعر! فلم يبق من خيمة الحبيب إلا هذه الحفرة التي كانت تحف بها تمنع عنها المطر، ولم يبق من موقدها إلا تلك الحجارة السود! وتبلجت الحقيقة للشاعر المسكين، وانتابه الخجل مما حمل

رفقته من عناء العوج على دار الحبيب، والدار قواء، وقد عبثت بها الرياح الهوج وألبستها ثوباً من التراب، فأقبل يسائلهم وفي تسآله رجفة الخجل ورنة الأسى: ... ... ... .... .... ... ماذا تحيّون من نُؤيٍ وأحجار أقوى وأقفَرَ من نُعمٍ وغيّره ... هوج الرياح بهابي الترب مَوّار ويهم أصحابه بالرحيل لطيتهم، يحسبون الشاعر قد آب إلى نفسه واستوفى من زيارة الدار مُناه، ويسايرهم يريد براحاً، ولكنه لا يستطيع، ويجد نفسه معلقاً بالديار؛ قلبه نهب بأيدي الذكرى وحياته مبعثرة في نواحي الربع، فيقف ناقته المأمونة ويرجع ليسأل الدار عن نعم وآلها: وقفتُ فيها سُراة اليوم أسألُها ... عن آل نُعمٍ أموناً عبرَ أسْفَارِ فاستعجمَتْ دارُ نُعمٍ ما تكلّمُنا ... والدار لو كلّمَتْنا ذاتُ أخبار والدار سجل الماضي الحلو، والدار كتب الحب، فيها ولد ونما، وعلى هذه التلال الطرية الفاتنة، في الليالي الساجية ذات النجوم الساهرة، وفي ظلال تلك الشعاف البعيدة في مدخل الوادي المتلوي الرهيب، إذ ينفردان فيه في شدة الهاجرة، يأويان إلى ظله وبرده فيحيله الحب جنة عدن. وعلى الغدير إذ يصب فيه القمر زُلاله الصافي النمير ... كم شهدت هذه المغاني من صور الحب وكم حفظت من ذكرياته! خبّري يا دار عن الحبيب وآله: ماذا حل بالحبيب؟ يا دار! قد ذهبت المجالس، وقُوّضت الخيام، وأقفرت من أهلها المنازل،

أفيمحى الحب من الوجود مثلما امّحت منازله؟ أيفنى الغرام؟ إن الروح باقية يا دار، فلماذا لا تبقى العواطف ويخلد الشعور؟ أوَليست الذكرى من الماضي كالظل من الضاحي ... خبريني إذن يا دار عن حبي، إن ذكراه لا تزال حية في نفسي، فأين الحب؟ أيكون ظل لشيء وليس من شيء؟ أللماضي حقيقة قائمة ووجود ملموس، وأين مكانه في هذا الكون؟ أهو شيء وراء المادة، أم هو منها وفيها، أم هو قد فني إلا صورة له في الذهن هي هذه الذكرى؟ أوَتكون الذكرى هي العذاب لنا والنسيان هو الدواء؟ أيموت الحب كما يموت المحبوب؟ ما الحب، ما البغض، ما الحياة؟ خبري يا دار ماذا صنعتِ بحبنا وما استودعناك من أنفسنا الحرار؟ أبردت هذه الأنفاس واستحالت هواء تصفر به الريح؟ وذلك الحديث الذي كان كأنه قطع الروض الممطور؟ وأين أثر أقدامنا حين كنا نسير والحب ثالثنا، ومع الحب الطهر والعفاف؟ أين يا دار ذهب أمس بما يحمل من شعورنا وعواطفنا؟ أين يَنْصَبُّ نهر الزمان؟ هل يلتقي الشيخ المهدم بالشاب المتوثب الذي كان يوماً إيّاه؟ أين ذلك الطفل الذي كان يوماً «أنا ...»؟! ماذا حل بنُعم يا دارَ نُعم؟ لقد سمع القمر نجواها وحديثها، وحمل النسيم طيبها وأريجها، وألبستها الشمس حلة من نورها، وكستها الأمطار ثوباً من قَطرها. فهل تخبرني عنها الشمس والقمر، وهل يحدثني حديثها النسيم والمطر؟

لقد كنت في نعيم مع «نُعْمٍ»، فما لي أجد هذا النعيم أحلى كلما أوغل في البعد عني؟ ما لي أحنّ إلى الماضي كله وأرى سعادتي فيه أكبر كلما أُلقيَتْ بيني وبينه من الأيام سُجُفٌ وأستار؟ ما لي تلذّني مآسيه وتؤلمني أفراحه؟ ألأني فقدتُها وخرجت من يدي؟ ماذا عندك يا دار؟ خبري! يا أسفي! فاستعجمَتْ دارُ نُعمٍ ما تكلّمُنا ... والدار لو كلّمَتْنا ذاتُ أخبار * * * وراجع الشاعرَ كربُه وأساه. لقد ترك الدار تفيض بالحياة وتضج بالأحياء، تعيش للحب والحرب. وتلك هي حياة العربي في جاهليته؛ وقْفٌ على قلبه وسيفه، فإذا احتضن الجبل شمسه الغاربة اجتمع الحي على الغدير، فتشرق فيه شموس جمة وأقمار من كل فاتنة الطرف غضة الإهاب ذات حسن غير مجلوب، فتدور سوق الغرام وينشأ الحب، ويعيش هذا المولود قوياً مدللاً وإن لم يستكمل مدة حمله، وينمو طاهراً لا تعلق به ريبة ولا يدنّسه خاطر سوء، غذاؤه النظر والكلام؛ هو حب الصحارى لا يعيش في المدن ولا يدري به علماؤها! وإذا أصبح الصباح، وأضحى الضحى وتسعرت الشمس وتلظت، وبدا الموت من وراء الرمال المتأججة كالحَ الوجه كاشراً عن نابه ... عصفت في الحي صرخات فرسانه الذين لا تثنيهم الهواجر عما نذروا نفوسهم له من المجد، يطيرون بخيولهم إلى الفلوات الفيح والبيد القفار، يحملون لبني العمومة الموت الأحمر على ظبا الأسنة وشفار السيوف. لم يكن

قد بعث الله لهم بعدُ من يعلّمهم أن المجد في إعلاء كلمة الله لا في قتل بني العمومة ونهب أموالهم، ولم يكن قد جاء من يقودهم إلى قرطبة من هنا والسند من هناك، فيكتبوا تاريخهم في سطر طويل يمتد من الأندلس إلى الصين عنوانه: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، {إنّ اللهَ يَأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتاءِ ذي القربى، ويَنْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكرِ والبغي}. وخلال ذلك ربائب البيوت يهيئن الحياة الرغيدة لأولئك الفرسان البهاليل، فلا تجد في الربع إلا عاملاً كادحاً لا ينسيه الحب أماني المجد ولا يسليه المجد عن أحلام الحب. فلم يلقَ الشاعر من هذا العالم كله الذي خلفه يوم ارتحل إلا الحجارة التي كانت موقد النار، وهذا النبت الضعيف الواني الذي لا تحمله سوقه، فيمتد على الأرض عاجزاً: فما وجدتُ بها شيئاً ألوذُ بِهِ ... إلا الثّمامَ وإلا مَوْقد النّارِ * * * وكأن الشاعر قد اختبل ولم تحمل أعصابه هذا الهول كله، وعرته جِنّة فانطلق ينادي وهو هائم على وجهه في الربع المقفر: نُعْمَ، يا نُعم! هأنَذا أتيت فتعالي. لقد جئتك بأمتع أحاديثي وأجمل أشعاري، يا نعم! ما لك لا تجيبين؟ لقد طفت بالربع كله، جست خلال الخيام وأممت التل، وألممت بالوادي وجثوت عند الصخرة، فوجدت ندى الحب ولمحت طيف الذكرى وشممت عطر الماضي الحلو، ولكني لم أجدك أنت. فأين أنت يا نعم؟

وطفق يضحك ضحكاً مروعاً أجفل منه الرفاق وأمسكوا قلوبهم بأيديهم، وحبسوا أنفاسهم حزناً على الشاعر الذي جن حقاً، وجعل يعانق شيئاً يتوهمه في الفضاء. ثم سكت فجأة وجذب رفيقه الحارث إليه، فجعل يشير له إلى بقعة غامضة في الفضاء ويقول له: ألمحة من سَنا برقٍ رآى بصري ... ... .... .... .... ... فيحار الحارث ولا يدري بماذا يجيب وهو لا يرى برقاً ولا يبصر شيئاً، ولا يقدر أن يفجع الشاعر بأحلامه فيزيده جِنة، فيسكت ملتاعاً. .... .... .... .... .. .... أم وجهُ نُعْمٍ بَدا لي؟ أم سَنا نارِ؟ ويسكن الشاعر ويعلو وجهَه إشراقٌ وابتسام، فيسير مرحباً وهو يهمس همساً ناعماً فرحان مبتهجاً: بل وجهُ نُعْمٍ بَدا والليل معتكرٌ ... فلاحَ من بينِ أثوابٍ وأستارِ ويغمر حسَّه خيالُ نُعمٍ ويملأ خواطره وشعوره، ويرى عينيها فيحس كأنما دارت به الأرض وهو يحدق فيهما، ثم أسرعت في دورانها، ثم اختفت بما عليها ولم يبقَ في الوجود إلا عينان قال الله كونا فكانتا. وخالط نفسَه الميلُ إليها والرهبة منها، والرغبة في امتلاكها وإفنائها فيه والاستسلام إليها والفناء فيها، واختلطت عليه المشاعر فلم يعد يعي شيئاً إلا أنه يعيش مرة ثانية في الماضي الحبيب، فأعاد طوافه بالربوع التي كانت مهد غرامه وجنة أحلامه، والرفاقُ ينظرون إليه ولا يقدرون له على شيء، وطيف «نُعم»

ما يفارقه فصورتها في ناظريه نقية حلوة مخلوقة من النور: بيضاءَ كالشّمسِ وافَتْ يومَ أسعدَها ... لم تؤذِ أهلاً ولم تُفحِشْ على جارِ وعطرها في أنفه؛ لا العطر الذي تستعيره الحسان من الزهر ويستجدينه الروض، بل العطر الذي تقبس الوردة منه فتتيه على زهور الحقل بأريجها، وتأخذ منه الزنبقة فتختال منه عجباً، وتشمه الفلة فتميس بين الرياحين دلالاً، لا تمس «نعم» الطيب إلا لتطيبه بها: والطيبُ يزدادُ طيباً أنْ يكونَ بها ... في جِيدِ واضحةِ الخدَّينِ مِعطارِ ويهمس الشاعر في أذن الطيف الذي يراه أحاديث الغرام، ويبثه الشوق المبرح والحنين الطويل، والطيف صامت لا يجيب. فتخالطه الحسرة والكمد، ولا يدري لهذا العتب سبباً، ويود لو فداها بروحه وأعتبها. ويقبل على الرفاق يقول لهم، وما قوله إلا صدى أفكاره ورَجْع ما في نفسه من الحسرات: نُبِّئتُ نُعماً على الهُجران عاتبةً ... سقياً ورعياً لذاك العاتِبِ الزّاري ويخاف الرفاق أن يطول بالشاعر تذكره أو يعود إلى جِنته، فلا يزالون به حتى يصحو من سَكرته ويعود إليهم. * * * ويولي الركب عن دار «نُعمٍ» والشاعرُ منكبٌّ على راحلته صامت كئيب، يفكر في دار الحبيب وهي خلاء قواء، تنشد فيها الرياح أناشيد الفناء؛ لا الحب عاد ولا عادت لياليه، ولا الشباب

آب ولا آبت مجاليه، وإنما هي الذكريات انبعثت في صدر الشاعر فهدت أركانه، وضعضعت بنيانه، وشعبت في قلبه شعبة تفجر منها الشعر صادق اللهجة ملتهباً بالعاطفة، قد خرج من فؤاد ائتكل من نار الجوى، يبكي به الحبيب على أطلال دياره، فكان سؤال الديار بيت القصيد في ديوان الغزل، وكان سيد شعر العاطفة. وانتشر الليل، ومشت القافلة صامتة، قد سكت فيها الحادي وخشع الرفاق، حتى لفها الظلام في طياته. * * *

في صحن الأموي

في صحن الأموي في أمسية رخيّة (من صيف سنة 489هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط وأسرجوا السرج، حتى كاد المسجد يقطر ذهباً ويشتعل لهباً. وأقبلوا عليه زرافات ووِحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم وبالاجتماع والتعاون على الخير حق بعضهم على بعض، فيعودون بثواب الله واطمئنان النفس وراحة البال. وليس أشهى إلى النفس ولا أحلى في العين من صحن الأموي في ليالي الصيف. وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تنفجر منها العيون ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه في عينه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه - حين يجلس فيه - هزة طرب ونفحة أنس لا يجدهما في شيء من ذلك. وكانت عشيةً تُنسّم نسماناً ناعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم ويسرع إلى قبة الماء، وهي في وسط الصحن صغيرة مثمّنة،

من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سَوارٍ من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين (¬1) وقد زينت جوانبها بالمصابيح. ومصلٍّ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها (¬2)، فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه عن الدنيا التي خلّفها وراء ظهره. وجالسٍ إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة، يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع ¬

_ (¬1) هذا الوصف لابن بطوطة (وقد زارها في آخر الربع الأول من القرن الثامن)، وفوق البركة اليوم سدة جميلة قد يجلس فيها المؤذنون، قائمة على أربعة أركان وأربع سَوار من الرخام. وقد أُجري إلى هذه البركة ماء الفيجة الذي ينبع من قرية «الفيجة»، وهي من دمشق على عشرين كيلاً، وعلى الينبوع آثار بناء فخم من أبنية الرومان. وأول من جر هذا الماء إلى دمشق ناظم باشا رحمه الله، أحد ولاة العثمانيين، فأجراها في الطرقات في أنابيب. ثم جُرّ قسم أكبر من الماء في قناة نقرت في الصخر وأدخل البيوت والمساجد. أما قبة الماء هذه فقد أزيلت. (¬2) ومن المشاهَد في الأموي أنه إلى اليوم هذا لا يخلو من صلاة قائمة من أذان الظهر إلى أن يغلق المسجد أبوابه، فلا تنقضي جماعة حتى تشرع أخرى. وهذا خلاف السنة. ملاحظة: كتبت هذه الحاشية يوم نشرت القصة في سنة 1935، أما الحال الآن فـ «إنّا لله وإنا إليه راجعون».

الذاكرين، أو مستند إلى أسطوانة من الأساطين، أو مُحْتَبٍ تحت رواق من الأروقة يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يُسبّح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشؤون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة. وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد رجل رث الثياب، ما عليه إلا مِزَق مردمة وخلقان بالية، يرنو بعينه إلى الناس تارة وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي «من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد» (¬1) «وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها» (¬2) ... وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس «منارة عيسى» (لحديث جاء فيه أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق (¬3)) ويعجب من سموها وارتفاعها، وهذه المنارة الغربية التي بناها المسلمون ¬

_ (¬1) ابن بطوطة. (¬2) ياقوت. قلت: ولا تزال إلى اليوم كما وصفاها على ما استُحدث في دمشق من بنايات عالية، فيها ما هو بست طبقات وما هو بسبع، وهي بجانب القبة كالطفل بجانب الرجل. وتحت هذه القبة يجلس المحدث الأكبر في البلد، وآخر من جلس تحتها البدر الحسني رحمه الله رحمة واسعة. (¬3) ولم تكن المنارات معروفة أصلاً على عهد الرسول صلوات الله عليه.

فأجادوا بنيانها ووضعوا فيها العجائب: من براعة الزخرف ودقة النحت والضبط والإحكام، والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازّينت وأُوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (¬1) «المؤقِّت» ليعلن دخول العشاء. ودخل المسجدَ قرويٌّ له مسألة، فسأل عن مجلس المفتين حتى دُلَّ عليه عند قبة عائشة (¬2). فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم ¬

_ (¬1) وهذه الشرفة مخصصة اليوم للبسيط الذي تُعرف به الأوقات. وكان الذي صنع البسيط الشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم، الفلكي المشهور بابن الشاطر المتوفى سنة 777هـ، فطرأ عليه خلل سنة 1293هـ، فصنع الشيخ محمد الطنطاوي المصري الأزهري نزيل دمشق (وهو جد أبي) بسيطاً غيره وحسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوس الباقي للفجر، وأنزل القديم وجعل هذا مكانه في يوم مشهود، وهو فيها إلى الآن. قال مؤلف «الحدائق»: "وهو (أي البسيط) موضوع شريف لا نظير له تفرد به الطنطاوي بعد ابن الشاطر". ثم مدح الشيخ الطنطاوي بقصيدة مطلعها: صنع البسيطَ بغاية التأسيس ... شيخُ الشآم رئيسُ كلّ رئيسِ يجيب بها أحد سفهاء دمشق على قصيدة حمقاء كان قد نال بها من الشيخ فجلده عليها الأمير عبد القادر الجزائري حد القذف. (¬2) وهي غرفة عالية غربي المسجد ليس لها إلا باب صغير من الحديد تقوم على ثمانية أعمدة كبيرة من الحجر وفوقها قبة، ولا طريق إليها إلا على سلم ينصب حيال الباب. وكنا نتحدث ونحن أطفال أن فيها كنزاً حتى فتحها الألمان -كما أذكر- في الحرب العامة وسرقوا منها كنوزاً من الكتب والمصاحف القديمة. ولا أحسبها تحتوي الآن شيئاً له خطر.

يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدّثين يسألهم، فلم يفُزْ منهم بطائل. فيئس منهم وهمّ بالخروج من المسجد، والفقيرُ ينظر إليه ويعجب من حاله وحالهم، وعزّ عليه أن ينصرف آيِساً فأشار إليه، فلما جاءه قال: اعرض عليّ مسألتك. فضحك القروي وصاح: انظروا - يا قوم - إلى هذا المجنون؛ يزعم أنه يجيبني على مسألتي وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فإنه مجنون. وقائل: لا عليك أن تسأله، فلعل عنده علماً. وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون. ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القرّاء والمدرسين والذاكرين ولم يبقَ فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا «الله أكبر» تدوّي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي وجلال الدين وجمال الإيمان، فتقوضت المجالس، ورُصّت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام: «الله أكبر»، فماتت الدنيا في نفوسهم وامّحت منها الشهوات وطُمست فيها الميول، لأنه مهما يكن من كبير فـ ... الله أكبر. * * * فلما قُضيت الصلاة عادوا إلى القروي فقالوا له: اذهب

فسل صاحبك. فذهب إليه فقال: يا هذا، زعمت أنك قادر على الجواب، فهل أنت على قولك؟ قال: أستعين بالله. قال: إنها قد أعجزت المفتين وحيّرتهم، أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟ قال: أستعين الله. قال: هي كذا وكذا ... قال: الجواب كيت كيت ... وابتدر الفقير الباب. وحفّ الناسُ بالقروي فقالوا: هل أجابك؟ بِمَ أجابك؟ قل لنا بماذا أجابك؟ فقال: ما أنا بقائل لكم حرفاً حتى ألقى المفتين. وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين وقد عادوا إلى مجلسهم، فقال: أرأيتم ذلك الفقير؟ قالوا: نعم. قال: قد أجابني عن مسألتي. فضحكوا من جفائه وجهالته، وقالوا: بِمَ أجابك؟ قال: كذا وكذا. فلما سمعوه أخذ منهم الجِد مأخذه، ونظر بعضهم إلى بعض

وكلهم مشدوه حائر لا يدري مِمّ يعجب: أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته، أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه؟! ثم انتبهوا فقالوا: ويحكم، أدركوا الرجل فإن له لشأناً، وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت ترينا حقيقة العلم وسمو الفقر وجلال التواضع. أدركوا الرجل! فقالوا: قد خرج. قالوا: أوَليس فيكم من يعرفه؟ قال رجل من القوم: والله ما رأيناه إلا في السميساطية (¬1)، وقد نزلها منذ أيام فكان ينظف مراحيضها، ويتخذ مجلسه على الباب حتى أذنوا له بالدخول. وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلاً بتسبيح، ولم يكلم أحداً. قال المفتون: ويحكم! قوموا بنا إليه. فلما دخلوا عليه قالوا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالوا: قد سمعنا جوابك، وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت. ¬

_ (¬1) الخانقاه السيمساطية وراء جدار الأموي الشمالي، حيال الحديقة التي فيها اليوم قبر صلاح الدين الأيوبي، وهي قديمة، كانت منزل عمر بن عبد العزيز فجعلها السيمساطي مدرسة. والمشهور اليوم أن اسمها «الشيمصاتية» (بالشين والتاء) وهو غلط. وقد مر ذكرها في هذا الكتاب في «قضية سمرقند».

قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أمَا وقد أقسمتم فأنا أبو حامد الغزالي. فصاحوا: حجة الإسلام! وانكبّوا على يديه يقبلونهما ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد، ثم انصرفوا. * * * فلما كان الغد نظروا، فإذا الشيخ قد فارق دمشق! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انظر طبقات السبكي: ج4 صفحة 104.

حكاية الهميان

حكاية الهميان كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قُعَيقِعان (¬1) وأبي قبيس، فينساب مع نسيم السحَر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت «محطة» بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة فيتنزّل على مَن في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين. وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوفٌ في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها وتبصرها بقلوبها، تقوم وراء الجبال الشمّ والبحار، في المدن والقرى والصحاري والسهول والأودية والقمم، في القصور والأكواخ والمغائر والسجون، في القفار المشتعلة حراً والبطاح المغطاة بالثلج ... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون. * * * ¬

_ (¬1) وهو يُسمى اليوم «جبل الهندي» في قلب مكة.

وأمّ أهل مكة الحرم، ولم يبقَ في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وانٍ محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام؛ من كل حلو وحامض وحار وبارد وسائل وجامد، ووقف هو يصلي وما يستطيع القيام من الجوع؛ فقد أمسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء ... فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً. وما كان يفكر في نفسه، فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حتى نسي نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله (وهو كاسبها ومعيلها) وهذه المناكب العارية. ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق (¬1) فلا يجده، لثار على الدنيا وذمّ الزمان وحقد على الناس. ولكنه كان رجلاً مؤمناً موقناً أن الله هو الذي قسم الأرزاق، فأعطى - لحكمة يعرفها - ومنع، وأن الناس لا يملكون عطاءً ولا منعاً، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك وما كان لغيرك لن تناله بقوتك؛ رُفعت الأقلام وجفت الصحف. فقال: إهْ؛ الحمد لله على كل حال! وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة. فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتفّ بها. ¬

_ (¬1) الدانق: أصغر عملة، أي أنه مثل الهللة أو الفلس، بل هو أصغر.

فقالت المرأة: يا أبا غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً، وهذا يوم صيام وحر. فإذا صبرتَ وصبرتُ أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدّهن الجوع، فاستعن الله واخرج فالتمس لنا شيئاً، فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها لفطورنا. قال: أفعلُ إن شاء الله. * * * وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها. وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليَقيلوا، فلم يلقَ في تطوافه أحداً. واشتد الحرّ وتخاذلت ساقاه وزاغ بصره، وأحسّ بجوفه يلتهب التهاباً من العطش. وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار، وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد. وجعل ينكت التراب بيده وهو سادرٌ في أمانيّه، فلمس يدَه شيءٌ مستطيل لين، فسحبه ونظر، فإذا هو بذَنَب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله. ثم عاودته رغبته في الموت وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر أنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت وإنما ينبغي له أن يقول: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الموت خيراً لي". فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها، ولمسها برجله فلم تتحرك، فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حِزام وليس

بحية، فشدّه فجاء في يده «هِمْيان» (¬1) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله؛ فأحس كأن جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صُبّت في أعصابه والشباب قد عاد إليه، وتصور أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة، ويملأ أيديهن مما كُنّ يتخيلنَه ولا يعرفنَه من نعيم الحياة ورغد العيش. وجعل يفكر فيما يشتريه لهن، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن، حتى كاد يخالَط في عقله. ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك، إنما هي لقطة لا بد لك من التعريف بها سنةً، فإذا لم تجد صاحبها حلت لك. وتصوّر السنة وطولها، وهو الذي يبحث عن عشاء يومه. وهل يبقى حياً سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعدما مات من الجوع ومات معه من يرثه؟ وأحس كأن قواه قد خارت، وودّ لو أعاد الهميان إلى مكانه ولم يكن قد ابتُلي بهذه البلية. ولكنه كان رجلاً فقيهاً يعلم أن اللقطة إن مُست فلا بد من التعريف بها، وإن هو أرجعها إلى مكانها وفُقدت كان المسؤول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها. وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع، حتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه. ¬

_ (¬1) نطاق تُجعل فيه النفقة ويُشَدّ على الوسط.

وطفق يسمع صوتاً يهتف به أن خذها؛ فهي رزق ساقه الله إليك ... ادفع بها الموت عن بناتك اللائي أطاف بهن الموت ... أشبع بها هذه الأكباد الغرثى ... اكسُ هذه الأجساد العارية. ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها أو دفعتها إليه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها. ثم يسمع هاتف دينه يقول له: اصبر - يا رجل - ولا تخن أمانتك ولا تعصِ ربك. وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله، وذهب إلى داره يخبئ الهميان حتى يجيء صاحبه ... أو يحكم الله فيه. * * * ودخل الدار متلصصاً، فرأته امرأته فقالت: ما جاء بك يا أبا غياث؟ قال: لا شيء. وأحب أن يكتمها خبر الهميان، وما كان يكتمها من قبل أمراً. قالت: بلى والله، إن معك شيئاً، فما هو؟ فخاف أن تراه فيستطار لبها، فقص عليها القصة. وكانت امرأة تقية دينة، ولكنها أضعف منه إرادة وأوهن عزماً، فقالت: افتحه وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئاً، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة (¬1). ¬

_ (¬1) ما قالته هو الحكم الشرعي.

قال: لا والله، ولئن مسستِه أو خبّرتِ خبره أحداً فأنت طالق. وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئاً حلالاً يدفع به الضرّ عن عياله. * * * ومشى إلى الحرم، وكان فيه شاب طبَري طالب علم. قال الشاب الطبري: «فرأيت خراسانياً ينادي: "معاشر الحجّاج، من وجد همياناً فيه ألف دينار فردّه علي أضعف الله له الثواب". فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً فيأخذه ويرده عليك. قال الخراساني: يابا! كم يريد؟ قال: العُشر، مئة دينار. قال: يابا! لا نفعل، ولكن نحيله على الله تعالى» (¬1). وافترقا. قال الطبري: «فوقع في نفسي أن الشيخ هو الواجد للهميان ¬

_ (¬1) ما بين قوسين (في هذه الصفحة وما بعدها من القصة) هو ما رواه التاريخ.

فاتبعته، فكان كما ظننت. فنزل إلى دار مسفلة زريّة الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة. قالت: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقاً، فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً. فقال: كم؟ قلت: عُشْره. قال: لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فإيش نعمل؟ لا بد لي من رده. فقالت له: نُقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم». يا أبا غياث إن الله أكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس. إنك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك. إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة. قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ، فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن، فسال دمعه على شيبته. ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه، ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير ... ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة، فما كان ليضيع ذلك كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله، فما كان ليلقاه خائناً أمانته. أمّا عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم.

وشد من عزمه، وصاح بها: «لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ستٍّ وثمانين سنة». قال الطبري: «ثم سكت وسكتت المرأة، وانصرفت أنا». * * * وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات التقطها لهم، وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب، ولكن ليذكّرنا هذا الجوعُ الاختياري الموقوت أن في الدنيا مَن يجوع جوعاً إجبارياً لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا مذكر بالإحسان. فمَن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش. إن العادة تضعف الحس، وإن أُلْفَ النعم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية وهذه الجرعة الباردة نعمةٌ من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلاً، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة، حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف.

كان الشيخ يفكر في هذا فيألم لما صارت إليه حال المسلمين، ثم يذكر بأن الله هو ملهم الخير ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض. وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز والبنات يتبلغن بها. * * * قال الطبري: «فلما كان من الغد سمعت الخراساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر وباد، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب. فقام الشيخ إليه فقال: يا خراساني، قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلتُ لك أن تدفع إلى واجده مئة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت. فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة. فقال له الخراساني: يابا! لا نفعل، ولكن نحيله على الله عز وجل. ثم افترقا. فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام إليه الشيخ فقال: يا خراساني، قلت لك أول أمس العُشر منه، وقلت لك أمس عُشر العُشر عشرة دنانير فلم

تقبل، فأعطه ديناراً واحداً عُشر عُشر العُشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله. قال: يابا! لا نفعل، ولكن نحيله على الله عز وجل». فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وزوجته وأمها ... وأن هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعري والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر. وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة؟ لا والله، ولقد روي أن مَن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه؛ فترك له الهميان، وقال للخراساني: تعال خذ هميانك. فقال له: امشِ بين يدي. قال الطبري: «فمَشَيا وتبعتهما حتى بلغا الدار، فدخل الشيخ، فما لبث أن خرج وقال: ادخل يا خراساني. فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فأخرج الهميان أسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه وقال: هذا همياني.

ثم حلّ رأسه من شدٍّ وثيق، ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً، ثم قال: هذه دنانيرنا». وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله وحسبنه قد فُقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه. «وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده، ووضعه على كتفه وقلب خلقانه (¬1) فوقه وخرج». ولم ينظر في وجه الشيخ، ولم يُلقِ في أذنه كلمة شكر. وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قلبها، فطارت وراءه. وشُدِه البنات ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولاً ... فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس. وسمع الشيخ حركة فنظر، فإذا الخراساني قد رجع، فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد. وكان أولى به أن يعرض عنه وأن يبغضه وقد منعه ديناراً واحداً يحيي - لو جاد به عليه - هذه الأنفس المشرفة على الموت، ولكن الشيخ كان رجلاً سمحاً لا يتسع قلبه لبغضاء، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني: «يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال: أخرج ثلثها ففرّقْهُ في أحق الناس عندك له، وبع رحلي واجعله نفقه ¬

_ (¬1) أي ثيابه العتيقة.

لحجك، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار وشددته في هذا الهميان، وما رأيتُ منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلاً أحق به منك، فخذه بارك الله لك فيه. ووضعه وولى». قال الطبري: «وكنت قد ذهبت، فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني، فرجعت إليه فقال لي: لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت أنك عرفت خبرنا. وقد سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت نافعاً يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: «إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، ولا ترداها فترداها على الله، فهي هدية من الله والهدية لمن حضر»، فسر معي. فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط ولا أمّلته قط. أترى هذا القميص؟ إني والله لأقوم سحراً فأصلي الغداة فيه، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها، وبناتي، وأختاي، واحدة بعد واحدة، ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله به عليّ من أقط وتمر وكسيرات كعك، فنتداول الصلاة فيه. حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى: يا لبابة، يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعاً. فأقعدني عن شماله، وحلّ الهميان وقال: ابسطوا حجوركم. فبسطت حجري، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن، وأقبل يعد ديناراً ديناراً، حتى إذا بلغ العاشر قال، وهذا لك.

حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مئة دينار ونالني مئة» (¬1). * * * ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس عليها الطيبات من الطعام قال لامرأته: أرأيت يا لبابة؟ إن الله لا يضيع أجر الصابرين؛ إن الله هو أرحم الراحمين. يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً فجاءنا الله بألف حلالاً. وأكل الشيخ لقيمات ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته: إلى أين يا أبا غياث؟ قال: أفتش، فلعل في الناس فقيراً صائماً لا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا. * * * ذيل القصة: قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: (¬2) «وقد نفعني الله بهذه الدنانير، فتقويت بها وكتبت العلم ¬

_ (¬1) ما بين قوسين في القصة هو ما رواه التاريخ. (¬2) وجدت هذه القصة مخطوطة في مجموع من مجموعات المكتبة العربية في دمشق مروية عن الطبري بالسند المتصل. وقد وضعت عبارة الأصل بين قوسين صغيرين.

سنين. وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك، وعلمت أن الشيخ توفي بعدما فارقته بشهور، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة ويكرمونني غاية الإكرام. وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحد، رحمة الله عليهم جميعاً». * * *

على أبواب المدينة

على أبواب المدينة زينب: كُفّي يا فاطمة، كُفّي يا حبيبتي! لقد بلغنا مشارف المدينة. فاطمة: وماذا أصنع في هذه المدينة؟ أألقى فيها أخي؟ أألقى الفتية الكرام من آل النبي؟ لقد ذهبوا يا زينب، لقد ذهبوا إلى الأبد. سميّةُ أمسى نسلُها عددَ الحصى ... وليس لآل المصطفى اليومَ من نسلِ (¬1) زينب: إنا لله وإنا إليه راجعون! فاطمة: ماذا أجد في المدينة؟ يا مدينة الرسول! هؤلاء بنات الرسول يتامى ثاكلات أسيرات ذليلات كأنهن سبايا الروم! يا مدينة الرسول ... زينب: فاطمة! أشفقي على الصغار؛ لقد نفدت دموعهن. ¬

_ (¬1) أنشده يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم بين يدي يزيد ولم ينكر عليه.

فاطمة: ولمن يدّخرن الدموع بعد حسين؟ ابكين، ابكين ... لقد قتل الحسين! زينب: فاطمة! أهكذا تدخلين المدينة يا فاطمة؟ كفي يا أختاه، كفي. فاطمة: لقد كانت مدينتي يا زينب يوم كان فيها أهلي، فما لي اليوم فيها من أهل. إن مدينتي هناك، في القفرة التي غصت أحشاؤها بأجساد الهاشميين، آه! هل دخل على أهل بيت ما دخل علينا؟ آه، يا رب! زينب: استعيني بالله. فاطمة: لقد رأيت ابن أخي (وهو ابن خمس سنين) يخرج من الخيمة فيتلفت مذعوراً لا يدري ما هذا الذي يرى، فلحقته لأدخله، فوجدت ... آه يا رب! وجدت ... السهم ... لقد قتلوا الطفل! زينب: اصبري يا فاطمة؛ إن الله مع الصابرين. فاطمة: لقد رموا أخاه فمات في حجر أبيه، فتلقى الحسين دمه بيده. انظري يا زينب! ألا ترين إلى الدم قد خضب حواشي الأفق؟ زينب: هذا هو الشفق يا فاطمة! فاطمة: وهذا السواد الذي غطى على الكون؟ زينب: هذا هو الليل، ما لك يا فاطمة؟ هذا الليل.

فاطمة: إننا سنعيش في ليل دائم لا يُلمح في جوانبه فجر. سنعيش بعد الحسين في ليل الأحزان السرمدي. زينب: عدتِ إلى البكاء! فاطمة، إلى متى تبكين؟ فاطمة: إلى أن يرجع حسين، حسين خير الفتيان وسيد شباب الجنة. زينب: لا حول ولا قوة إلا بالله. فاطمة: حسين! يا أخي يا حبيبي، يا قرة عين رسول الله. زينب: .... .... فاطمة: لقد رباك النبي وغذتك فاطمة بنت محمد ليقتلك سنان بن أنس النخعي؟ لتكن ملعوناً يا سنان على كل لسان. زينب: تعال كلمها يا علي، تعال كلم عمتك. فاطمة: أين هو علي؟ علي: هأنَذا يا عمتي. فاطمة: ادنُ مني يا علي. أنت بقية آل محمد؛ أنت اليوم رجلنا وحامينا، لم يبقَ إلا أنت. كل أسرة فيها رجالها، ورجال بيت النبي مُصرّعون في كربلاء. لقد وسع المسلمون بعدلهم الذمي والكافر، ولكن عدلهم ضاق عن آل النبي. لقد قدموا الحياة السعيدة للنصراني واليهودي، ولكنهم لم يجدوا لابن بنت النبي إلا الموت الأليم. أفكان لهم ثأر عندك يا محمد!

علي: كفّي يا عمة! لست وحدك المصابة؛ إن المجد والشرف والإسلام، كل أولئك أصيب يوم أصيب الحسين. كفّي يا عمة، لست وحدك الباكية. ستبكي معك عيون طاهرة لن يجف فيها الدمع إلى يوم القيامة. لقد مات الحسين، لقد قُتل أبي، ولكنه سيعيش خالداً بروحه في جنان الخلد، وخالداً باسمه في القلوب. ألم يختر هو الموت اختياراً؟ ألم يقدُم عليه؟ ألم يُعرض عن نصيحة عمي محمد بن الحنفية؟ ألم يستحلفه عالما الأمة ابن عمر وابن عباس أن يقيم في الحجاز وألا يثق بما يقول الكوفيون، وألا يشقّ عصا المسلمين، فأبى إلا المسير؟ ألم يأتِه الخبر بمقتل مسلم بن عقيل وانقلاب أهل الكوفة عليه؟ فاطمة: بلى، بلى. ولكنه رأى الجور فاشياً، والمنكر معروفاً، وأموال الله نهباً مقسماً وحمىً مستباحاً، فنهض ينصر الحق ويحيي العدل، ولم يقم حتى دعوه وألحوا عليه. ما كان يظن أن المسلمين يقتلون ابن بنت نبيهم ويذبحون أطفاله ويسوقون نساءه كما تُساق أسرى الروم. فكيف كان هذا يا علي ولم تطبق السماء على الأرض؟ أيُقتل بنو النبي وتُسبى نساؤه ولا يغضب أحد؟ ألم يبقَ على ظهر الأرض مسلم؟ هذا ابن بنت النبي وفتى بني هاشم، لو مات على فراشه لهز موته أهل الإسلام، فكيف وقد قُتل مظلوماً، وقد قُتل معه هؤلاء الفتيان البُرآء وهتكت أستار أكرم بيت رفع على هذه الأرض؟ آه! أيطِلُّ (¬1) دمك يا حسين؟ علي: اطمئني يا عمة. إن دم الحسين لن يطل؛ لقد وقع ¬

_ (¬1) طلَّ دم القتيل: هدر وبطل ولم يُثأَر به ولم تُؤخذ ديته (مجاهد).

الزلزال فأفاق الناس فزعين، ولكن الهزة لم تدع لهم سبيلاً إلى التفكير. إن العالم حائر مشدوه لأنه لم يكن يصدق أن هذه هي النتيجة. كلا، ولا هؤلاء الذين تألبوا على أبي يحاربونه. كانوا يظنون أنه سيستسلم لهم. كانوا يتحامَون قتله وينأون عنه، لا يريد أحد منهم أن يلقى الله بدمه وأن يبوء بهذه اللعنة، فلما رأوه مقتولاً ذُعروا وتيقظوا كأنما أفاقوا من حلم هائل. فاطمة: ولكنهم أفاقوا بعدما فات الأوان. يا لهؤلاء الوحوش، يا للذئاب! لقد دعوه وألحوا عليه، حتى إذا جاء نهضوا إليه بالسيوف وضنوا عليه حتى بالماء. لقد شهدته يقاتل عطشان قد جف حلقه من الظمأ، فحسبتهم سيسقونه، ولكنهم سددوا إلى فمه سهماً ملأ فمه بالدم. هذا هو الذي منوا به عليه! علي: إنهم سيندمون يا عمة؛ سيعضّون أصابعهم حسرة. إنهم سيلطمون وجوههم لوعة. إن هؤلاء الذين قتلوا الحسين وقتلوا أباه هم الذين سيبكون عليه وعلى أبيه. إن الكوفة التي أذاقتنا الغصص ستكون مثابة شيعتنا ومثوى أحبائنا. سيفنى الأعداء ويبقى الأحباء. سيأتي يوم يقال فيه: أين من قتلوا حسيناً؟ أين أنسالهم؟ أين من يبغض آل بيت النبي؟ قد خلا وجه الأرض منهم، ليس في الدنيا من بني أمية أحد. الدليل: وما ذنب بني أمية؟ علي: لقد نسيت أنك هنا. ما كان لي أن أتكلم عن بني أمية بمسمع منك.

الدليل: ولِمَ يا سيدي؟ إني من جنود بني أمية ولكني محب لكم ولذلك صحبتكم. وهل يتم إسلام امرئٍ يبغض آل بيت نبيه؟ إني والله ما أوثر عليكم أحداً من بني أمية، ولكنها كلمة الحق. علي: وما هي كلمة الحق؟ الدليل: هي أن أمير المؤمنين يزيد لم يُرد قتل أبي عبد الله ولم يأمر به، ولقد كتب إلى ابن زياد ألا يقاتل من لم يقاتله. علي: لقد عرف ذلك الحسين، فسأل القومَ أن يدَعوه حتى يضع يده في يد يزيد، أو يمضي إلى ثغر من ثغور المسلمين فيقاتل فيه المشركين، أو يعود من حيث جاء. الدليل: أنصفهم والله! ولو قدم على يزيد لوجده مبجِّلاً له عارفاً بقدره، إن لم يمنعه دينه من قتله منعته مروءته (وهو ابن عمه) أن يرمل نساءه ويهتك أستاره. علي: صدقت والله. ما رأينا من يزيد إلا خيراً؛ أحسن إلينا ولعن ابن سمية وترحم على الحسين، وكان قصره من البكاء على أبي عبد الله كأنه في مناحة (¬1). ولكن المجرم شمر بن ذي الجوشن. فاطمة: هذا الذي أوقد النار وضرّاها. لتنزل عليه اللعنة الحمراء، ليكن ملعوناً على كل لسان إلى قيام الساعة. علي: وعبيد الله بن زياد. ¬

_ (¬1) هذا ثابت عند المؤرخين.

فاطمة: هذا الذي أمر بها، هذا الذي ضرب بقضيبه فماً قبّله رسول الله. لتنزل عليه اللعنة الحمراء، ليكن ملعوناً على كل لسان إلى قيام الساعة. علي: سيبوءان بلعنة العصور ويصيران سُبّة التاريخ. لقد فقدا الدين والمروءة وخسرا الشرف. لم يستثر حميتهما ولم يهج إنسانيتهما هؤلاء الأبطال الذين وقفوا يدافعون عن الحق ويذودون عن أسرة النبي، يقاتلون وهم عطاش والموت عن أيمانهم، والموت عن شمائلهم، والموت من أمامهم، وهم ماضون في سبيلهم لا يريدون مالاً ولا يبغون جاهاً ولا يحرصون على عَرَض من أعراض الدنيا، ولكنهم يريدون الله. حتى إذا أحسوا باليأس طفقوا يسارعون إلى الموت واحداً بعد واحد، وكلما ذهب منهم بطل ودع الحسين وسلم عليه وأسلمه إلى من خلفه ليدافع عنه، حتى فارقوه جميعاً ليلقوه في الجنة. هؤلاء هم الأبطال الأشراف الذين ستبقى أسماؤهم درة في تاج التاريخ تلمع أبداً فتضيء للسارين طرقهم إلى النبل والشرف والمجد: حبيب بن مظاهر، وزهير بن العتيق، والحر بن يزيد الذي كفر عن خطيئته وتاب من ذنبه؛ رحمة الله على الجميع. زينب: انظري يا فاطمة، لقد وصلنا إلى المدينة. فاطمة: خرجنا منها منذ شهرين فسحنا في الأرض ورأينا العراق والشام، ولكنا عدنا كالسبايا. لقد خسرنا كل شيء، آه! أين ... أين أنت يا أخي تستقبلنا؟ أين فتيان بني هاشم يحفّون بنا؟ أين رجالك يا أسرة النبي؟

زينب: يا فاطمة، إنهم ذهبوا ولكن الله باق. فاطمة: هذه داركم يا آل النبي فتجرعوا فيها الآلام، هذه الدار فاذكروا ساكنيها الذين احتواهم جوف الأرض من كربلاء. هنا كانوا يقيمون وهنا كانوا ... علي: قد بلغنا المسجد، فانزلي فسلمي على الرسول. انزلي يا عمة. فاطمة: السلام عليك يا رسول الله، يا جدي. لقد قتلوا ابنك الحبيب! * * *

طالب علم

طالب علم قال محمد بن سعيد: ويْك! اتق الله يا أبا فلان. إنك لتوشك أن تقتل هذا الرجل الصالح وتبوء والله بدمه. ويلك اتق الله. لا تطرده من «فندقك» فإنه غريب نائي الديار، قطع سباسب (¬1) وبحاراً وجاب ما بين المشرقين. قال: أبقيّ بن مخلد (¬2) جاب ما بين المشرقين؟ قال: نعم، وهل تراني عنيت غيره؟ إنه حاجتي إليك، وما سألتك حاجة قبلها، أفلا تقضيها لي؟ إنه شيخ جليل القدر يحمل الحديث ويروي السنن، أفندعه يموت على قارعة الطريق؟ قال: وما أصنع به أنا؟ لقد آويته في فندقي عامين اثنين، لا آخذ منه مالاً ولا أرزؤه شيئاً ولا أعصي له أمراً، أفيكون جزائي أن أعجف عليه نفسي (¬3) حتى يموت، فيخرج من فندقي محمولاً ¬

_ (¬1) السّباسب هي الصحارى، مفردها: سَبْسَب (مجاهد). (¬2) انظر الصفحة 79 من «مختصر طبقات الحنابلة»، طبع دمشق. (¬3) يقال: عجف نفسه على فلان: احتمل منه ولم يؤاخذه، وعجف نفسه على المريض: صبّرها على التمريض والقيام عليه (مجاهد).

إلى القبر فيتشاءم الناس بالفندق فيتحامونه فأفلس؟ إنه مريض أنهكته الأوجاع وأدنفته الحمى، ولقد أعجز نقاريس (¬1) الأطباء، وما أراه إلا ميِّتاً العشية أو غداة الغد ... فارحموني، أنقذوني منه، ليس لي به حاجة. قبحها الله ساعة أكريته فيها هذا البيت، لقد كانت ساعة ما حضرها مَلَك! قال: أَرْبِعْ عليك أيها الرجل؛ فإنك في نعمة لو عرفت قدرها لقطّعت الليل بحمد الله عليها. إنك لا تدري أيّ خير ساقه الله إليك وأي أجر كتبه لك، فأقم نفسك في خدمته وارجُ وجه الله أطمعْ لك بالجنة. قال: إني والله لفي بلية لو عرفت مداها لما لمتني على الجزع منها. إنك لا تعرف هذا الشيخ أي رجل هو؟ أأقول لك، إنه لم يبت عندي ليلة واحدة حتى خرج بخلقان بالية ومزق مخرقة وركوة وعصا ليسأل الناس ... ما لك تضحك من كلامي؟ أتهزأ بي يا ابن سعيد؟ قال: لا، ولكنك لا تدري ما شأن هذا الرجل. قال: وإنّ له - بعدُ - شأناً؟ قال: وأي شأن! هذا رجل هجر جنات الأندلس ورياضها، وعيونها وأنهارها، ومكانة له فيها سامية وجاهاً له عريضاً، وفارق أهلاً فيها وصحباً، وعشيرة كبيرة، وأموالاً كثيرة، وذهب يخوض ¬

_ (¬1) جمع نِقريس، وهو الطبيب الحاذق (مجاهد).

اللجج والبحار ويجوب السباسب والقفار ليقدم بغداد، لا طمعاً بمال يناله أو جاه يحصله، أو صديق يزوره أو امرأة يخطبها أو لذة يطلبها، ولكن رغبة في العلم وحباً للحديث وشوقاً إلى لقاء أبي عبد الله! فلما سمع الفندقي اسم أبي عبد الله انتبه وتبدلت حاله، وطفت على وجهه خيالات من الحب العظيم والإجلال الكبير الذي يحتفظ عليه قلبه لهذا الإمام. وقال بلهجة أرق ونغمة أعذب، قد ذاب فيها حقده على بقيّ بن مخلد في محبته لأبي عبد الله: أتقول إن الرجل قدم من الأندلس ليلقي أحمد بن حنبل؟ - نعم. - يا له من شرف في الدنيا والآخرة! وهل لقيه؟ ألا تخبرني كيف لقيه؟ قال: إنه نزل عليك في هذا الفندق فألقى فيه متاعه وذهب يطلب أبا عبد الله، وكان ذلك أيام المحنة والناس لا يجرؤون على ذكر اسمه، وأبو عبد الله منفرد لا يلقاه أحد إلا أخذته عيون السلطان فناله أذى شديد. فلما علم الرجل بذلك ناله من الغم ما الله عالم به، فأمّ المسجد الجامع في الرُّصافة يسمع من المحدثين، فما زال يمر بالحِلَق حتى انتهى إلى حلقة نبيلة فوقف عليها، وكنت أول من رأى زيه الغريب، فسلمت عليه أونس غربته، فسألني: من هذا الشيخ؟ قلت: يحيى بن معين.

وكان يعرفه، ومن لا يعرف يحيى بن معين؟ فوقف ساعة، ثم لمح فرجة قد انفرجت فقام فيها، وكان الشيخ يكشف عن الرجال (¬1) فيقوّي ويضعف ويزكّي ويجرح، فقال: يا أبا زكريا، رحمك الله. رجل غريب نائي الديار، أردت السؤال، فلا تستخفني. فقال الشيخ: قُلْ. فجعل يسأل عن بعض من لقي من أهل الحديث (وكان قد لقي منهم خلقاً كثيراً) فبعضاً زكّى الشيخ وبعضاً جرّح. فسأله عن هشام بن عمار (وكان قد أكثر الأخذ عنه)، فقال الشيخ: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر ما ضره شيئاً لخيره وفضله. فتصايح أهل الحلقة: حسبك يرحمك الله، حسبك! غيرك له سؤال. فقال وهو واقف على قدم: أكشفك عن رجل واحد؛ أحمد بن حنبل؟ فما قالها حتى جمد الناس وعلت الشيخ كآبة، ونظر إليه متعجباً كأنه يقول له: أعن أحمد يسأل أحد؟ وهل تجرؤ على ذكره؟ وكأن الشيخ قد خالطه شيء من الجزع، ثم غلب عليه إيمانه فلم يعد يبالي السلطان وغضبه وقال للسائل: من أين أنت أيها الرجل؟ نحن نكشف عن أحمد بن حنبل؟ ¬

_ (¬1) أي رجال الحديث.

وسكت الشيخ لحظة ثم قال بجرأة عجب لها الناس ولبثوا شاخصين، ينظرون إلى الشيخ يخافون أن تتخطفه جلاوزة السلطان ... قال الشيخ: ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم. * * * ثم إن الرجل ذهب يستهدي الناس إلى دار أبي عبد الله، فمنهم من يُعرض عنه خشية أن يكون عيناً للسلطان ومنهم من يجرؤ فيمشي معه خطوات. حتى انتهى إلى الدار. فنال الإعجاب من نفس الفندقي كل منال، وسأله: أتقول إنه زاره في منزله أيام محنته؟ قال محمد بن سعيد: نعم؛ قرع عليه الباب، فلما فُتح له قال: إني رجل غريب أتيتك من مكان سحيق. قال أبو عبد الله: مرحباً بك، أين بلدك؟ قال: الأندلس. قال: إفريقية؟ قال: لا؛ أبعد من ذاك، أركب البحر من إفريقية إلى بلدي. قال: لا جرم أنه بعيد، فما حاجتك؟ قال: أسمع منك وأروي عنك. قال: ولكني كما رأيت وعلمت، لا ألقى أحداً ولا يدَعون أحداً يلقاني، ولست آمن عليك الأذى إذا أنت أتيتني. قال: ما كنت لأبالي في سبيل الأخذ عنك أذى ولا عذاباً. قال: فإن هم منعوك؟ قال: أحتال بحيلة. آتيك بزي السؤال فأصيح: الأجرَ يرحمك الله ... فتفتح لي وتحدثني. قال: على ألاّ تظهر في الحِلَق فيعرفوك. قال: على ألاّ أظهر. فكان يفعل ذلك. وكنتَ تظنه يخرج فيسأل الناس. فعاد الفندقي يسأله متثبتاً وقد كبر الرجل في عينيه حتى كأن

الذي تحتويه غرفته ملك أو وزير، عاد يسأل متثبتاً: إذن فهو من أصحاب أحمد بن حنبل؟ قال: نعم؛ ولبث على ذلك حتى رفع الله المحنة وولى الأمر المتوكل، فأحيا المذهب الحق، مذهب أهل السنة، وأمات البدعة، وجزى الله أحمد بما صبر. فكان - كما تعرف وأعرف - إمام الأمة، وأيّد الله به الدين كما أيّده بأبي بكر يوم الردة، فصار يَعرف لهذا الرجل حقه ويقول لأصحابه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم. قال الفندقي: جزاك الله يا ابن سعيد خيراً؛ فقد عرّفتني حقه، فهلمّ بنا إليه. كان بقيّ بن مخلد الأندلسي وحيداً في غرفته، يتقلب من الألم ويتلوى من الحمى، قد طحطحه المرض وهدّته الأوجاع فما أبقت منه إلا هيكلاً كالقناة الجوفاء يتردد فيها الهواء، ولَمَا يشكو من الحنين إلى بلده والتشوق إلى أهله أشد عليه من كل ذاك. ولم يكن في البيت إلا لبد اضطجع عليه ووسادة ألقى عليها رأسه، وكتبه مبثوثة من حوله ما يدعها، إذا أدركه انتباه نظر فيها، فإذا غاب عنه مِن الوجع عقله تركها في مكانها. فلما دخلا عليه ألفياه يقرأ في صحيفة في يده. فجلسا ساعة يؤنسانه، فما شعرا إلا ضجة تدنو حتى حسباها قد استقرت في الفندق، فنظرا من الشبّاك فإذا الرحبة والطرق التي تؤدي إليها ما فيها موطئ قدم خلا من إنسان، فاضطرب الرجل ونزل يسأل أنْ ماذا جرى؟ فما أحس إلا الناس يقولون: لقد أتى ... هو في الطريق. فأيقن أنه الخليفة،

ولكنه رأى موكب الخليفة غير مرة فما رأى مثل اليوم، ودنا من شيخ واقف في أطراف الناس فسأله من القادم، وأين يذهب؟ فقال: إنه أبو عبد الله، الذي لا يمشي إلى الخليفة، قادم ليعود مريضاً في هذا الفندق. فصاح الفندقي: أبو عبد الله قادم إلى فندقي، أبو عبد الله؟! وطفق يصيح ويثب لا يدري ماذا يصنع وماذا يقول، وما يحفله أحد لأن الناس يستشرفون الطريق ينظرون وقد احتشدوا فيها، فما بقي بزّاز في دكانه ولا تاجر في سوقه ولا طالب علم في حلقته، ولهم دويٌّ وجلبة. وصحا الفندقي على نفسه، فإذا هذا البحر ينشقّ بقدرة الله، وإذا الخلق يسكتون حتى كأن على رؤوسهم الطير، ويبدو الإمام ومن حوله طلبة العلم قد احتشدوا من جهات بغداد كلها، بغداد العظيمة التي يسكنها مليونان، وبأيديهم قراطيسهم وأقلامهم يكتبون كل كلمة يقولها. فانتهى الإمام إلى الغرفة، فوقف على المريض فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أبشرْ بثواب الله، أعلاك الله إلى العافية ومسح عنك بيمينه الشافية. فتناقل القوم ما قال فكتبوه. ومرت أعوام بعد ذلك وأعوام والناس يذكرون هذا اليوم المشهود. أما الفندق فغدا منذ تلك الزيارة محط رجال العلماء والكبراء، ودرت على صاحبه أخلاف الرزق، وأما بقيّ فقد شفاه الله وأعاده إلى الأندلس فملأها علماً. * * *

أبو جهل

أبو جهل (¬*) المنظر الأول (في بيت عاتكة بنت عبد المطلب) عاتكة: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك، فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب. العباس: حدّثيني، فسأكتم الحديث. عاتكة: رأيت راكباً قد أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: "ألا فانفروا يالَ غُدَر (¬1) إلى مصارعكم في ثلاث"، فأرى الناس اجتمعوا إليه. ثم دخل المسجد والناس ¬

_ (¬*) نُشرت في «الرسالة» قبل صدور كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم. وقد حوّلت فيها ما جاء في السيرة النبوية إلى تمثيلية من غير أن أبدل فيه شيئاً أو أزيد عليه شيئاً. (¬1) أي يا آل غدر، والغادر والغدّار هو الذي ينقض العهد ويترك الوفاء، ويُقال في حالة النداء خاصة: يا غُدَر! (مجاهد).

يتبعونه، فبينما هم حوله مَثُلَ (¬1) به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها، ثم مثل به على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت (¬2)، فما بقيت دار من دور مكة إلا دخلها منها فلقة. العباس: إن هذه رؤيا حق، فاكتميها ولا تذكريها لأحد. المنظر الثاني (في الحرم وقد غابت الشمس وجلست قريش في مجلسها من حول الكعبة) أبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة. أبو جهل: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. (يقبل العباس) أبو جهل: يا بني عبد المطلب! متى ظهرت فيكم هذه النبية؟ العباس (متجاهلاً): وما ذاك؟ أبو جهل: الرؤيا التي رأت عاتكة؟ العباس: وما رأت؟ ¬

_ (¬1) مَثُلَ به: قام به منتصباً (مجاهد). (¬2) ارْفَضَّ وترفّضَ الشيء: تفرق (مجاهد).

أبو جهل: كأنك لا تدري؟ ألم تحدّث بذلك الوليدَ بن عتبة؟ أما رضيتم - يا بني عبد المطلب - بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء؟ زعمَتْ عاتكة في رؤياها أنه قال: "انفروا في ثلاث". فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن حقاً فسيكون، وإن تمضِ الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب. العباس (وقد غضب): هل أنت منتهٍ يا مصفّراً استه؟ فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. (يهم به فيحول القرشيون بينهما) القرشيون: ما كنت - يا أبا الفضل - جَهولاً. المنظر الثالث (في بطن الوادي صباحاً) العباس (لرجل معه): لقد لقيت من عاتكة أذىً شديداً لما أفشيت من حديثها، ولم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني تقول: أقررتم ... أقررتم لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت. فوالله لأتعرضن له، وإن عاد قاتلته، فلقد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. الرجل: انظر يا أبا الفضل، هذا أبو جهل خارجاً من باب المسجد يشتدّ.

العباس: ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرَقاً مني؟ اذهب فانظر ما شأنه. (يذهب الرجل ويرجع على عجل) الرجل: (مضطرباً): ألا تسمع؟ العباس: ماذا؟ الرجل: هذا ضَمْضَم بن عمرو الغِفاري يصرخ ببطن الوادي وقد شق قميصه، وحوّل رحله، وجدع بعيره! اسمع ... (يتقدمان ويصغيان) ضمضم: يا معشر قريش، اللطيمة! اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عَرَض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث، الغوث! (حركة واضطراب ولغط وصيحات حماسية) رجل: هذه والله رؤيا عاتكة! آخر: والله إن أخذ محمد العير لا تفلح قريش أبداً. آخر: انفروا إلى مصارعكم في ثلاث. إن رؤيا عاتكة كأنها أخذ باليد. أبو جهل: هه! أيظن محمد أنها كعير ابن الحضرمي؟ والله ليعلمن غير ذلك، إنها قريش!

سهيل بن عمرو: يا آل غالب! أتاركون أنتم محمداً والصُّباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالاً فهذا مالي. (يتفرق الناس، يستعدون للخروج) المنظر الرابع (في الحرم وقت الظهيرة، أمية بن خلف وسعد بن معاذ سيد الأوس وهو ضيفه وخليله) أمية: تعَالَ فطُفْ بالبيت، فإنه وقت الظهيرة ولا يراك أحد. (يطوف بالبيت ويجلس أمية) أبو جهل (قادماً): من هذا الذي يطوف بالبيت؟ سعد: أنا سعد بن معاذ. أبو جهل: ماذا؟ أتطوف بالبيت آمناً، وقد آويتم محمداً وأصحابه وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟! أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعتَ إلى أهلك سالماً. سعد: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه: طريقك إلى الشام. أمية (لسعد): لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.

سعد (لأمية): إليك عني، فإني سمعت محمداً يقول إنه قاتلك! أمية: إياي؟ سعد: نعم. أمية: بمكة؟ سعد: لا أدري. أمية: والله ما كذب محمد. (يسقط أمية خائراً): إذن والله لا أخرج من مكة، إذن والله لا أخرج من مكة ... المنظر الخامس (في الحرم مساء، قريش في مجالسها، عقبة بن أبي معيط قادم على مجلس أمية معه مجمرة فيها بخور، أبو جهل على إثره) أمية: ويلك! لمن هذا؟ عقبة: لك يا أبا علي. قم استجمر فإنما أنت من النساء. أمية: قبحك الله وقبح ما جئت به. (يصل أبو جهل)

أبو جهل: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت من أشراف قريش تخلفوا معك، فسر يوماً أو يومين. أمية: أفعل! (يمشي عقبة وأبو جهل إلى عتبة وشيبة ابنَي ربيعة وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام) أبو جهل: أنتم سادة قريش وأنتم قادة الناس، فما بالكم لا تتجهزون؟ عتبة: لقد استقسمنا بالأزلام فخرج الناهي. عقبة: كلا؛ ولكنه الفزع من اللقاء. عتبة: ألمثلي يقال هذا؟ والله لولا أنك عند بيت الله ... أبو جهل: دعه يا أبا الوليد، فإنك اليوم شيخ قريش؛ فإذا لم تخرج أقام الناس. عتبة: سأخرج. المنظر السادس (يفصلون من مكة، وهم ألف رجل فيهم شيوخ قريش وأشرافها قد خرجوا على الصعب الذلول، ومعهم القَينات يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، وقد ارتجّ بهم الوادي)

المنظر السابع (ماء في البادية، عليه خباء رجل وعليه جاريتان تختصمان، يقف عليه رجلان من المسلمين فيستقيان) الجارية: لا أدعكِ حتى تقضيني الذي لي ... الأخرى: دعيني، فستأتي العير غداً أو الذي بعده، فأعمل لهم، فأقضيك. الرجل: لقد صدقت، فستأتي العير غداً أو بعد غد. (يسمع الرجلان فيجلسان على بعيريهما ليلحقا بالمسلمين. أبو سفيان يأتي بعد قليل يتقدم العير وحده) أبو سفيان: هل أحسست أحداً أيها الرجل؟ الرجل: ما رأيت أحداً أنكره، إلا أن راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما وانطلقا. أبو سفيان: أرني مبرك ناقيتهما. الرجل: هو ذاك ... (يأتي أبو سفيان المبرك فيأخذ من أبعارهما في يده، ويمضي مسرعاً فينجو بالعير) أبو سفيان: هذا هو النوى، هذه والله علائف يثرب.

المنظر الثامن (في جيش المسلمين في زفران، وقد جاءهم الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذَلول (¬1)، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟». رجل: عليك بالعير ودع العدو. آخر: هلاّ ذكرت لنا القتال حتى نتأهّب! إنا خرجنا للعير. (يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) المقداد بن الأسود: يا رسول الله! امضِ لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والله الذي بعثك بالحق نبياً، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه؛ نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، حتى تبلغه. (يشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) المسلمون: كلنا ذاك الرجل يا رسول الله، ولكننا ظننا أن في العير قوة للإسلام. ¬

_ (¬1) الذَّلول هو السهل الانقياد. ويقال: «ركب القوم كل صعب وذَلول في أمرهم»: أي اتخذوا كل سبيل (مجاهد).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي. عمر: يا رسول الله، إنها قريش وعزها. والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته وأعدد له عدته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس! سعد (¬1): لعلك تريدنا - معاشر الأنصار - يا رسول الله؟ قال رسول الله: أجل. سعد: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ولعلك - يا رسول الله - تخشى أن تكون الأنصار ترى عليك ألا ينصرونك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فَصِلْ حبالَ من شئت، وخُذْ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمرُنا تبع لأمرك. فامضِ يا رسول الله لما أردت ونحن معك. والذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك. فسر بنا على بركة الله. ¬

_ (¬1) ابن عبادة كما قيل، وابن معاذ على الأصح، وإذن يكون قد لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان بمكة لما علم بخروجه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم». المنظر التاسع (ماء في البادية عليه شيخ من العرب يقدم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ويسألانه عن قريش) - ماذا تعرف عن قريش؟ الرجل: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخبرتنا أخبرناك. الرجل: ذاك بذاك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم. الرجل: بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا، فإن كان صَدَق الذي أخبرني فهم اليوم في مكان كذا. أبو بكر (لنفسه): لقد عرف مكاننا. الرجل (متمماً): وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا، فإن صَدَق الذي أخبرني فهم اليوم في مكان كذا. فمَن أنتما؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء. الرجل (متعجّباً): من ماء؟ أمن ماء العراق أم من ماء الشام؟

المنظر العاشر (في بدر، على الماء الأدنى من المدينة) الحُباب بن المنذر: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل؟ أهو منزلٌ أنزلَكَه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. الحباب: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزله، ثم نغور ما عداه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه، فنشرب ولا يشربون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. (يتقدم المسلمون) المنظر الحادي عشر (في بدر، على الماء الأدنى من القوم) سعد: يا نبي الله! ألا نبني لك عريشاً من جريد تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرَنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا؟ فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا

أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد». المنظر الثاني عشر (قريش في الجحفة في طريقهم إلى بدر) رسولٌ: يا معشر قريش! قد أرسلني إليكم أبو سفيان أنه قد نجا بالعير، فارجعوا فأحرزوا عيركم. أبو جهل: سوأةً لك! والله لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم عليه ثلاثة أيام، ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، فلا يزالون يهابوننا أبداً. الرسول: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم. أبو جهل: صه! قطع الله لسانك. الأخنس: لقد صدق الرسول، وأنا راجع بقومي. (لقومه): يا بني زهرة! قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي حميتها وارجعوا فإنه لا حاجة بكم إلى أن تخرجوا في غير منفعة. (ضجة وهياج ولغط ... ينفرد الأخنس بأبي جهل) الأخنس: أترى محمداً يكذب؟

أبو جهل: ما كذب قط، كنا نسميه «الأمين». لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء يكون لنا؟ الأخنس: أنت والله تحسده. (يرجع الأخنس وبنو زهرة) عمير بن وهب (قادماً): يا معشر قريش! لقد ذهبتُ في الوادي أحرز أصحاب محمد، أنظر هل للقوم كمين أو مدد، فأبعدت فلم أر شيئاً، وإنهم لثلاثمئة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً. ولكني رأيت المطايا تحمل المنايا: نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ألا ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهليهم، زرق العيون كأنها الحصى تحت الجحف، ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؟ والله ما نرى أن نقتل منهم رجلاً حتى يُقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم. حكيم بن حزام (لعتبة): يا أبا الوليد! إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خصلة لا تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ عتبة: ما ذاك يا حكيم؟ حكيم: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي. عتبة: هذا والله الرأي، فادعُ لي الناس.

(يدعو الناس) عتبة (خطيباً): يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل منكم ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلاً من عشيرته. ارجعوا وخلّوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك كفاكم ولم تعرّضوا منه ما تريدون. يا قوم! اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جَبُنَ عتبة، وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم. يا قوم! أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك. يا معشر قريش! أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح أن تجعلوها أنداداً لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات. (يسكت عتبة ويلغط القوم لغطاً شديداً) رجل: نِعِمّا يقول أبو الوليد! آخر: هو والله الرأي. آخر: عتبة سيد الناس فأطيعوه. عتبة (لحكيم): انطلق إلى ابن الحنظلية. (يذهب حكيم) حكيم (لأبي جهل): إن عتبة أرسلني إليك لترجع بالناس، وهو يحمل دم حليفه ابن الحضرمي. أبو جهل: أهو يقول هذا؟ والله لو قالها غيره لأعضضته.

انتفخ والله سحره! كلا والله، لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد. (يرسل أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي) أبو جهل (لعامر): هذا حليفك، عتبة بن ربيعة، يريد أن يرجع الناس ويخذلهم عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها. ألا تستحي أن تقبل الدية من مال عتبة وقد رأيت ثأرك بعينك؟ فقم واذكر مقتل أخيك. (عامر يتكشف ويحثو عليه التراب) عامر (صائحاً): واعمراه ... واعمراه! (يهيج الناس ويتحمسون) حكيم (لعتبة): لقد أثارها. عتبة: دعه، فسيكون شؤماً وبلاء على قومه. المنظر الثالث عشر (اشتعلت الحرب وقتل المسلمون عتبة وشيبة والوليد، ورجع سراقة، وكان قد أجارهم من كنانة) أبو جهل: يا معشر الناس! لا يهمنّكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد. ولا يهمنّكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجّلوا. واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه

بالحبال. يا معشر قريش! لا تقتلوهم، خذوهم أخذ اليد. (يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش فيحض الناس على القتال) «أما والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم رجل فيُقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة». (عمير بن الحمام يأكل تمرات في يده) عمير: بخٍ بخٍ ... ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ (يلقي التمرات ويتقدم) عمير (هاجماً): ركضاً إلى الله بغير زادِ إلا التّقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهادِ وكلُّ زادٍ عُرضةُ النفادِ غير التقى والبر والرشاد (تزداد الحرب اضطراماً) المنظر الرابع عشر (قريش تنهزم. ابن مسعود يفتش بين القتلى عن رجل) عبد الله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟

(يضع رجله على عنق أبي جهل وهو على آخر رمق) أبو جهل: وبِمَ أخزاني؟ أعْمَدُ (¬1) من رجل قتلتموه! أخبرني، لمن كانت العاقبة: لنا أو علينا؟ عبد الله: بل لله ورسوله! المنظر الخامس عشر (في الحرم، وقد جلس أبو سفيان وأبو لهب في ناس من قريش ينتظرون الأخبار) أبو لهب: هذا ابن عبد عمرو. ما وراءك يا ابن عبد عمرو؟ ابن عبد عمرو: فنيت قريش! قُتل أبو جهل وعُتبة وشيبة وزمعة وأمية بن خلف ... لقد ظهر الإسلام، فسيظل غالباً إلى يوم القيامة ... وذَلَّ الشرك فلا يعز أبداً. * * * ¬

_ (¬1) أَعْمَدُ بمعنى: أعجبُ، وقيل معناه أتوجع وأشتكي. وذكر صاحب اللسان خبر قتل أبي جهل ومقالته هذه ثم قال: قال أبو عبيد: معناه هل زاد على سيدٍ قتله قومه، هل كان إلا هذا؟ أي أن هذا ليس بعار، ومراده بذلك أن يهوّن على نفسه ما حل به من الهلاك. انتهى كلام أبي عبيد (مجاهد).

من آثار المؤلف

من آثار المؤلف 1ـ أبو بكر الصديق 1935 2ـ قصص من التاريخ 1957 3ـ رجال من التاريخ 1958 4ـ صور وخواطر 1958 5ـ قصص من الحياة 1959 6ـ في سبيل الإصلاح 1959 7ـ دمشق 1959 8ـ أخبار عمر 1959 9ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فكر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1 ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1 ـ 8) 1985 ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (المجموعة الثانية) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (ج2) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 * * *

§1/1