قصة الأدب في الحجاز

عبد الله عبد الجبار

المقدمات

المقدمات: التوحيد.. وأي أثر كان لهم في الرقي الاقتصادي والاجتماعي؛ لأن هذا الرقي من أعظم الدعائم للرخاء والاطمئنان وضم الصفوف. ثم أي أثر لهم في إقرار السلام؛ لأن السلام، كان ولا يزال، عاملا جوهريا للاتحاد ولا سيما في بيئة مزقتها الحروب والأحقاد. ثم ماذا فعلوا في محاربتهم للطغيان؟ فإن استبداد الحاكم يبعث على الخوف، ويقضي على الروح الوطنية التي هي من أقوى الدوافع لبناء صرح القومية! كل ذلك وغيره قد تناولناه بالدرس المفصل في هذا الكتاب، وبيّنا كيف انعكست آثاره على نتاجهم الأدبي شعره ونثره, حتى وصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الحجاز كان -بحق- قلبا للأمة العربية! 3- ثم إن الحجاز هو بيئة النبوة، وموطن الرسالة، والأرض التي اهتزت جوانبها بالصدى المدوي الذي أحدثه نزول القرآن. ولذا كان من الضروري أن ندرس هذا الموطن وتلك البيئة من شتى نواحيها السياسية، والاجتماعية, والعقلية، والأدبية، واستعداد الحجازيين النفسي والمادي والفني؛ لنعرف عمق هذا الحادث العظيم الذي هز الإنسانية، وأيقظ الدنيا، وحرر العقل، ورفع صروح المدنية، وقضى على عصور الظلام والوحشية. وعندما نريد أن نفهم إعجاز القرآن وبلاغته الرفيعة خاصة, وأن نفهم الحياة الأدبية في الحجاز في عصر النبوة عامة، لا بد لنا من دراسة بيئة الحجاز الأدبية في العصر الجاهلي أولا وقبل كل شيء؛ لنفهم خصائص هذا الشعب الحجازي وعقليته وتفكيره، وذوقه في الحياة وفي الفن والأدب على وجه الخصوص؛ لأنه هو الذي حمل الدعوة، وبلغها إلى الآفاق، وبشر بها العالم كله، وسارت جحافله ومعه إخوانه من شتى أرجاء الجزيرة العربية توغل في الأرض مبشرة بدين الله الجديد، وثورته القوية العارمة.

إذن فحياة الحجاز عامة، وحياته الأدبية خاصة، جديرة بالدرس؛ لأثرها القوي في تصفية العناصر الجوهرية للقومية العربية، ثم لأنها تمثل البيئة التي انبعثت منها الدعوة الإسلامية الجديدة. ولو لم يكن هذان العاملان، لكانت هذه الحياة خليقة بالدرس لذاتها؛ لما حققته من أمجاد تزيد من الثروة الروحية والخلقية للإنسانية عامة. 4- ويشتمل هذا الكتاب على "تمهيد" في ست عشرة ومائة صفحة، ويحتوي على وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية. وقد "بلورنا" فيه حقائق عن الحجاز لم يضمها أي بحث أو كتاب سابق, ويعد هذا التمهيد كتابا مستقلا بذاته. وكان من الممكن نشره على حدة، لولا أننا آثرنا أن يكون مقدمة لدراسة الحياة العقلية والأدبية للحجاز في مختلف العصور؛ هذه الحياة التي اعتزمنا تقديمها للقارئ العربي متتالية بحول الله. ويلي هذا التمهيد القسم الأول من الكتاب، وهو عن العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي: من الحياة السياسية، والاجتماعية، والدينية، والعقلية، وهذا القسم يصلح لأن يكون كذلك كتابا منفردا كاملا عن شتى جوانب الحياة في الحجاز. ويلي ذلك القسم الثاني من الكتاب، وهو عن الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، ويشتمل هذا القسم على دراسات واسعة للنثر الحجازي الجاهلي وأشهر أعلامه، وللشعر الحجازي في العصر الجاهلي وخصائصه وفنونه ومناهجه ومذاهبه وأصوله، ولأعلام الشعراء من الحجاز في العصر الجاهلي، ولسوى ذلك من شتى جوانب الحياة الأدبية القديمة في أرض الحجاز. ولتصوير أهمية هذه الدراسات يكفي أن نقول: إننا قد عرضنا فيها لكثير من أعلام الأدب الحجازي القديم، كانوا في نسي منسي من الباحثين والدارسين.

مقدمة: 1- هذا الكتاب: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي" أوسع دراسة ظهرت عن بيئة أدبية من بيئات الأدب العربي القديم، وهو أول كتاب يؤلف عن الحجاز ونهضة الأدب العربي وازدهاره فيه في العصر الجاهلي، وإذا أطلقنا كلمة "الحجاز" فإنما نعني بها ما يشمل الحجاز, وما يسمى بـ"تهامة الحجاز". وهذا الكتاب جديد في الأدب العربي؛ لأن موضوعه جديد بكر، لم يتناوله على هذا النحو أحد من قبل. فالذين يتحدثون عن آداب العرب القديمة، يتحدثون عنها في الجزيرة العربية كلها بأقسامها العديدة، دون أن يخصصوا دراساتهم ببيئة مستقلة من بيئات الجزيرة العربية كالحجاز، وإنما يدرسون أدب هذا الشعب العربي جملة، لا يفرقون بين الأدب الحجازي، وبين الأدب النجدي، ولا بين هذين وبين الأدب اليمني، ولا يتحدثون عن خصائص ومميزات الأدب في كل إقليم متميز من هذه الأقاليم، فتجيء الأحكام الأدبية عامة مجملة، غير صادقة تمام الصدق، ولا عميقة في جملتها عمقا يحيط بحقائق الأدب وأصوله وحياته في هذا الجانب أو ذاك، من جوانب الجزيرة العربية الشاسعة المسافات، المترامية الأطراف. إن خصائص الأدب في بيئة نجد، لا يمكن أن تكون هي نفس خصائصه في الحجاز، والشاعر الجاهلي الذي قضى حياته في ربا نجد، لا يصح أن تكون شاعريته مطابقة تمام المطابقة لشاعر جاهلي آخر عاش في الطائف أو مكة أو المدينة. ومن ثم كان لا بد لنا من تخصيص هذه الدراسة عن الحجاز في العصر الجاهلي.

2- وربما اعترض علينا بعض القراء بأننا في عصر القوميات، الذي انتفضت فيه القوميات، وانبعثت من مرقدها. وهذه القوميات تحتم علينا دراسة الشعب العربي جملة، وآدابه جملة كذلك، دون النظر إلى أقاليمه وبيئاته. ونحن نقول لهؤلاء المعترضين: إن دراسة آداب الشعب العربي جملة لا تتأتى إلا عن طريق دراسة آداب أقاليمه وبيئاته دراسة نقد، واستيعاب، وتحليل، بحيث يتبين منها الخصائص والسمات، وتستمد الأحكام الأدبية الصادقة التي لا حيف فيها على الحقيقة. ثم إن الحجاز كان البوتقة الحيوية التي انصهرت فيها الخصائص الأساسية للأمة العربية، وتخلصت فيها من الشوائب والمثالب، حتى غدا جوهرها صافيا نقيا ... انصهرت في الحجاز العقائد, واللهجات، والتقاليد، والعنعنات، والسجايا والأخلاق، فصفاها من أوشابها وأدرانها، حتى برزت تلك العناصر الفعالة، التي استندت إليها القومية العربية الإسلامية في نشوئها وتكوينها ومراحل تطورها، هذه القومية العظيمة التي وثبت اليوم وثبتها القوية الجبارة! أفلا يجدر بنا -وهذا هو دور الحجاز منذ القدم- أن ندرس حياته وخصائصه، وشخصيته الأدبية والفنية، وجميع مقوماته السامية؟! وإذا كانت اللغة هي إحدى عناصر القومية، أفليس من الواجب أن ندرس إلى أي حد، أثر الحجاز عامة، ولهجة قريش خاصة، في تهذيب اللغة العربية، وترقيتها، وتوحيدها، حتى أصبحت اللسان القومي للأمة العربية جمعاء؟! ثم ما هو موقف الحجازيين من العقيدة، ووحدة الأماني المشتركة, والتبادل التجاري، ونمو الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وجميع العوامل التي تعتبر عناصر هامة للقومية العربية؟! ما هو موقفهم من ذلك كله؟ لنرى أي أثر تركه الحجازيون في تخليص العقائد من الخرافات والأباطيل؛ لأن هذه التنقية وسيلة هامة من وسائل

تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية 5- وسوف يستبين للقارئ الكريم أن طائفة من شعراء الحجاز في الجاهلية، كانوا يحبون السلام، ويشيدون بأنصار السلام، وكانوا يكرهون الظلم والطغيان، وينددون بأرباب العدوان ... وكانوا يدعون إلى التكافل الاجتماعي حتى يكون فقيرهم كغنيهم في ميزان الحياة على السواء. والشعر الحجازي في الجاهلية -في بعض صوره- فضلا عن بلاغته وروعته، غني بالمضامين الحية، وبالروح الإيجابية، والثورة على الخرافات والأوهام والأوضاع الفاسدة، والقيم الموروثة البالية. وهو إلى ذلك سجل دقيق يصور بيئتهم القلقة المضطربة، وحاكٍ أمين يحكي لنا عن مذاهبهم في الحياة، وأساليبهم في العيش، وطرائقهم في التفكير والتعبير. وسيجد القارئ أن ألوانا جديدة من الفنون أو الأغراض الشعرية كان الحجازيون أسبق إلى ابتداعها، ولا تكاد توجد في البيئات الأدبية الأخرى في سائر أنحاء الجزيرة. وما أثر من النثر الجاهلي ينسب معظمه إلى أدباء حجازيين. 6- ونود في أعقاب هذا التقديم أن نشير إشارة مجملة إلى أهم ما كتبه الأستاذ عبد الله عبد الجبار، فقد تناول بالبحث ما يلي: أولا: في التمهيد: بيئة الحجاز الطبيعية ومدنه "ما عدا مكة والمدينة" 24-78 المضريون في الحجاز إلى آخر التمهيد 87-113 ثانيا: في القسم الأول: التوطئة 119-123 طبيعة الحكم في الحجاز 150-165 باب الحياة الدينية 202-218

ثالثا: في القسم الثاني: أ- في النثر: باب الحكم والأمثال 262-304 ب- في الشعر: الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع 349-406 الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي 407-571 الباب الرابع: الموسيقى والغناء 571-592 ثم الخاتمة, وثبت أسماء الشعراء الحجازيين. وبعد، فهذا الكتاب ثمرة تعاون وثيق صادق، ولا نريد هنا أن ننوه بما عانينا في بحثه من جهد، ولا بما رجعنا إليه من مصادر، ولا بما اكتشفنا فيه من جديد، أو حققنا في ثناياه من أوهام وأخطاء. وحسبنا أننا وضعنا أقلامنا على موضوع جديد، بذلنا فيه ما وسعنا من طاقة، وحسبنا كذلك أن تتجاوب معه جمهرة المثقفين والباحثين والأدباء، وكل قارئ واعٍ في دنيا القومية العربية وفي كل مكان.

أقسام الجزيرة: تنقسم الجزيرة العربية إلى خمسة أقسام: الحجاز, تهامة, نجد, اليمن, العروض. وهذا التقسيم يكاد يكون طبيعيا، فإن جبل السراة -أعظم جبال الجزيرة- يمتد من اليمن إلى أطراف بادية الشام، فيقسم الجزيرة قسمين: صغير منخفض في الغرب يسمى تهامة أو الغور، وكبير مرتفع في الشرق يسمى نجدا، والعرب تقول: أغار وأنجد، وأتهم وأنجد ... وجبل السراة هذا يسمى "الحجاز" لحجزه بين القسمين السابقين، وجنوبي الحجاز تقع اليمن، وبين نجد والبحر الشرقي "خليج عمان والبصرة" تقع العروض لاعتراضها بينهما، وسنتكلم في إيجاز على هذه الأقسام الطبيعية للجزيرة العربية: 1- فأما تهامة فهي بلاد منخفضة بين الحجاز وبحر القلزم، ويضاف جزؤها الشمالي إلى الحجاز والجنوبي إلى اليمن، فيقال: تهامة الحجاز، وتهامة اليمن. 2- وأما الحجاز فإقليم جبلي يمتد من الشام إلى اليمن، مضافا إليه تهامة الشمالية. ويسكن جنوبي الحجاز قبيلة كنانة ومنها قريش، وهي التي كان لها السيادة على الحجاز كافة، بل على العرب عامة. 3- وأما اليمن فتقع في الطرف الجنوبي الغربي للجزيرة، وهي أغزر بلاد الجزيرة العربية أمطارا، وأكثرها زرعا، وأقدمها حضارة، وتسميها العرب "الخضراء" لكثرة مراعيها ومزارعها وأشجارها، ويطلق عليها المستشرقون "البلاد السعيدة", وفيها يقول شاعر يمني قديم: هي الخضراء فاسأل عن رباها ... يخبرك اليقين المخبرونا ويمطرها المهيمن في زمان ... به كل البرية يظمئونا وفي أجبالها عز عزيز ... يظل له الورى متقاصرينا وأشجار منورة وزرع ... وفاكهة تروق الآكلينا

ومن أشهر القبائل اليمنية: مذحج، وهمدان صاحبة يغوث ويعوق. وتشمل اليمن: أ- حضرموت، وقد اشتهر الحضارمة بالتجارة، وتقع شمالي بلادهم الأحقاف مسكن عاد قوم هود. ب- مهرة، وإليها تنسب الإبل المهرية، وهي نجائب تسبق الخيل، ولغة أهل هذا الإقليم الحميرية القديمة المستعجمة, وهي لا تكاد تفهم. جـ- الشحر. وأهم مدن اليمن: نجران في الشمال، وقد اعتنق أهلها قديما النصرانية، وأرادهم ذو نواس على اليهودية فأبوا فأحرقهم في الأخدود، وقد أنشأ فيها أبرهة بناء ضخما يشبه الكعبة ليصرف العرب عنها، وسماه "القليس" وإلى ذلك ترجع حادثة الفيل. ومن مدن اليمن: مأرب وهي مدينة سبأ، وبها كان السد الذي حطمه سيل العرم في القديم، وقص قصة سبأ القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ... } إلخ. وصنعاء هي حاضرة اليمن قديما وحديثا، وبها قصر غمدان التاريخي العجيب، وقد وصفه الهمداني وصفا شيقا. ومن مدن اليمن: ظفار وهي عاصمة الشحر، وفي المثل: "من دخل ظفار فقد حمر" أي: تكلم بالحميرية. وبين الحجاز واليمن تقع منطقة عسير، وتقع هذه المنطقة جنوبي الحجاز، وشمال اليمن، وقد جعلها الأتراك أيام حكمهم متصرفية تابعة لولاية اليمن، ولكن حكومة الأشراف في الحجاز كانوا يدعون تبعيتها للحجاز, وقد كان نفوذ أمير مكة يمتد إلى هذه البلاد. وجو عسير قريب من جو اليمن وأمطارها كثيرة وتجري الأودية الرئيسية بها في اتجاه وادي الدواسر الواقع في جنوبي نجد، والبلاد الداخلية في هذه المنطقة خصبة، وهي نظيرة اليمن في الخصب ووفرة المزروعات، وسكانها كثيرون يقدرهم حافظ وهبة بمليون ونصف1.

_ 1 جزيرة العرب في القرن العشرين ص37 ط1946.

الجزيرة العربية: تقع جزيرة العرب، أو على الأصح شبه الجزيرة العربية جنوبي الشام، وتحيط بها المياه من جهات ثلاث، وقد أطلق العرب عليها اسم "جزيرة" مع أن حدودها الشمالية وهي أرض الجزيرة وبوادي الشام وفلسطين ليست إلا أرضا برية لا تشتمل على بحار أو أنهار، أما حدودها الأخرى فهي واقعة على البحار، وهي جهات الخليج الفارسي "العربي" وبحر عمان وبحر فارس ونهر الفرات شرقا، وبحر القلزم غربا، وبحر العرب -أو المحيط الهندي- جنوبا، ونقل صاحب لسان العرب عن التهذيب: سميت جزيرة العرب جزيرة؛ لأن البحرين: بحر فارس وبحر السودان أحاطا بناحيتيها، وأحاط بناحية الشمال نهر الفرات. وجزيرة العرب هضبة كبيرة مكونة من جبال وصحارى رملية، أما الصحارى فأهمها اثنتان: 1- صحراء السماوة: وتسمى بادية السماوة أو صحراء النفود، وتشمل معظم شمالي الجزيرة, ورمالها وعثاء يصعب فيها السير، وتسوخ فيها القدم، وسكانها بدو رحل، يقيمون فيها شتاء، ويرحلون عنها صيفا إلى التخوم الشمالية طلبا للماء والكلأ، وجنوبيها جبل شمر وهو على صورة هلال يتقوس عند انحداره نحو الجنوب، ويسمى جبل طيء، وهو غزير المطر، معتدل الجو. 2- صحراء الربع الخالي: وفيها بلاد الأحقاف، وهي شمالي حضرموت وكانت الأحقاف مسكنا لعاد قوم هود، ومن هذه الصحراء جزء يسمى الدهناء شمالي مهرة، وتتصل هذه الصحراء ببادية السماوة، وتمتد شرقا إلى الخليج الفارسي، وأرضها مستوية صلبة انتثرت الحصباء فيها، وهي مجدبة وقد ينزل بها مطر قليل, فينبت عليه بعض الكلأ، ويقيم بها البدو شتاء ويرحلون عنها صيفا.

ويوجد نوع من التربة يسمى الأحساء في المنطقة المعروفة بهذا الاسم على الخليج الفارسي, وهي أرض رملية تحتها طبقة صلبة، فإذا سقط المطر تشبع الرمل بالماء، فإذا حفر الإنسان الرمل أصاب الماء. وهذا هو التعريف اللغوي للأحساء الذي يتضمن أنها أرض رملية تحتها طبقة صلبة, فإذا نزل المطر بلعته الرمال حتى يصل إلى الطبقة الصلبة فأمسكته، فإذا حفر الرمل ظهر الماء وسمي الموضع حسيا وجمعه أحساء، إلا أن إقليم الأحساء وإن كثرت مياهه ووجدت فيه أراضٍ رملية لا ينطبق عليه هذا التعريف اللغوي انطباقا تاما، فالمياه فيه غزيرة جدا، وهي تنبع من الأرض، وتتدفق بقوة، وبعضها يكون بحيرات تشق منها قنوات كثيرة. وأما الجبال في الجزيرة العربية, فأشهرها: 1- سلسلة جبال السراة "الحجاز" وهي تمتد من بوادي الشام إلى اليمن، وبها كثير من الأودية العميقة التي تتخللها وتعوق السير فيها، وسنتحدث في الفصول التالية بتوسع عن الحجاز وجباله. 2- جبل شمر. 3- الجبل الأخضر في الجنوب الشرقي. وفي الجزيرة العربية أودية كثيرة، من أشهرها: 1- وادي الرمة ويبدأ قريبا من المدينة، وينتهي إلى شط العرب مارا بالقصيم. 2- وادي حنيفة ويبدأ من منحدرات جبل طويق الغربية، غرب مدينة الرياض، إلى اتجاه الخليج الفارسي. 3- وادي بيشة، ويمتد في الجهة الجنوبية من الحجاز نحو الشرق.

ومن موانئ عسير: البرك, والشقيق, وجازان "جيزان" وسواها، وأشهر بلادها: أبها, وهي على بعد 139 ميلا من بيشة1، ومحايل، وخميس مشيط، وأبي عريش2، وصبيا3. 4- ومن أقاليم الجزيرة: نجد، وهو إقليم صحراوي تكثر به الأودية والدارات. والدارة: كل أرض واسعة بين جبال, ويرادف هذه الكلمة كلمة "واحة" العامية. وذكر صاحب القاموس المحيط من هذه الدارات عشرا ومائة، وينحصر إقليم نجد بين الحجاز والعراق وبحر فارس والعروض والشام وهو أصح بلاد العرب هواء, وأجملها منظرا, وأكثرها أزهارا, وأطيبها شميما، وبه أرض العالية التي كان يحميها كليب، واشتعلت بسببها حرب البسوس, ومن جبالها: أجا وسلمى جبلا طيء. ومن أشهر قبائل نجد: كندة، وتميم، وغطفان، وقيس عيلان، وطيء، وبكر، وتغلب. وأما العروض فيشمل عمان واليمامة والبحرين: فعمان تقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للجزيرة وأهلها مشهورون بالملاحة. واليمامة في الداخل وإليها تنسب زرقاء اليمامة التي يضرب بحدة بصرها المثل، والبحرين على بحر فارس. والعروض أكثر بلاد العرب نخيلا؛ ولذا ضرب المثل بهجر قاعدتها في كثرة التمر، فقيل: كناقل التمر إلى هجر، وقد خربها القرامطة، وبنوا الأحساء، واتخذوها عاصمة مكانها.

_ 1 على بعد 420 ميلا من شرق الجنوب الشرقي لمكة، وتقع على الطريق من وادي الدواسر إلى الحرمين، وهي أهم بلدة بين صنعاء والطائف، وتعتبر مفتاح اليمن. 2 كانت عاصمة الشريف حمود. 3 كانت عاصمة الأدارسة إلى أن تنازلوا عن الحكم للسعوديين 1349هـ-1929م.

الحجاز: بيئة الحجاز الطبيعية الموقع والتضاريس: يقع الحجاز من جزيرة العرب في ناحيتها الشمالية والغربية, وهو يمتد من معان مارا برأس العقبة إلى القنفدة على شاطئ البحر الأحمر. أما حدود الحجاز من الجهة الشمالية فتسير قريبا من مدين إلى الشمال منها، على حين ترجع حدوده الشرقية على الحجر إلى جبلي: "أجا وسلمى"1 "ويطلق عليهما اليوم جبل شمر". أما في الجنوب فوادي تثليث، وما دونه هو الحد الفاصل لسلسلة جبال الحجاز عن اليمن2، ووادي تثليث يقع في الجنوب الشرقي من بلاد عسير منحدرا إلى الشمال، هذا من الناحية الجنوبية والجنوبية الغربية تجاه عسير، أما من الناحية الجنوبية الشرقية تجاه نجد، فقد ذكر ياقوت أن تربة3، ورنية، وبيشة، ثلاثة أودية ضخام أسفلها في نجد، وأعلاها في السراة. وعلى هذا, فالأودية الثلاثة تجري في منطقة الحجاز حتى تتصل بنجد4.

_ 1 الإصطخري في كتابه المسالك "ط دي غويه، ص12، 14". 2 معجم البلدان ص219 ج3. 3 وتربة البلدة، على بعد 90 ميلا من جنوب شرقي الطائف، وعلى الطريق من نجد إلى اليمن، وقد قاومت تربة جيش محمد علي عام 1815م، ووقعت فيها معركة شديدة بين جنود نجد، والملك حسين في 24 من مايو سنة 1919م. 4 ذكر البركاتي في رحلته تحديدا للحجاز, فقال: "يحد الحجاز من الغرب البحر الأحمر، ومن الشرق البادية الكبرى، ومن الجنوب بلاد قبيلة "بني مالك" الكائنة بجبال السراة, المتاخمين لبلاد زهران، هذا من جهة الجبل، وأما من جهة تهامة فيحدها جنوبا وادي دوقة، وشمالا بادية الشام إلى تبوك من الداخل، ومن جهة البحر الأحمر العقبة, ومن الجنوب الشرقي من الولاية وادي "رنية"" ا. هـ. وهذا التحديد -من الناحية الجنوبية، والجنوبية الشرقية- يختلف عما اعتمدناه مما جاء في معجم ياقوت، إذ اعتبر ياقوت الحد الفاصل للحجاز هو وادي تثليث وبلاد مذحج, وما بعده يسمى يمنا. والذي نراه أن البركاتي قد اعتمد في تحديد الحجاز على التنسيق الإداري العثماني لما كانت تسميه الحكومة العثمانية "ولاية الحجاز". أما من الناحية الشمالية فنحب أن نشير إلى بعض أقوال الأقدمين.

والمساحة التقريبية للحجاز -كما يقدرها بعض الباحثين- تبلغ زهاء 700 ميل طولا "من الشمال إلى الجنوب"، و250 ميلا عرضا "من الشرق للغرب"1.

_ 1- ذكر بطليموس في جغرافيته أن الحدود الشمالية لبلاد العرب السعيدة "والحجاز منها" تبدأ من ساحل البحر بين محلتي أيلة وحقل, ثم تتجه نحو الشمال الشرقي حتى إقليم جبل "الشراة" الذي يفصل بين بلاد العرب السعيدة، وبين بلاد العرب الحجرية. 2- يطلق مؤلفو العرب اسم الحجاز على الجزء الشمالي الغربي من بلاد العرب السعيدة، ووفقا لما ذكره ابن حوقل وأبو الفداء فإن الحدود الجنوبية للشام تتكون من خط مستقيم يبدأ من ساحل البحر قريبا من ميناء أيلة ويتجه نحو الشرق متبعا الحد الإداري لأعمال تبوك. وإذن فهو يتبع السفح الجنوبي لجبال الشراة ووفقا لما ذكره ياقوت من "أن ممر شتار يقع في جبل الشراة بين إقليم البلقاء والمدينة" فإن جبال الشراة يجب أن تكون الحد الفاصل بين الحجاز والشام. 3- وطبقا لما ذكره الإدريسي فإن الحدود الشمالية للحجاز تقع عند السفح الجنوبي لجبل الشراة الذي يمكن الوصول إليه بعد أربع مراحل من تبوك، والمرحلة الواحدة 45 ك. م. 4- أضاف الأصمعي حرة ليل إلى الحجاز، وكذلك شغب، وبدا، اللتين يدخلهما المقريزي في مصر، كما ذكر إبراهيم الحربي أن جزءا من فلسطين يدخل في الحجاز. أما من الناحية الشرقية فيضع ابن الفقيه حدود نجد عند بدء ظهور الغضا, فهو يقول: إن أرض الحجاز لا تنبت الغضا وإنما تنبت الطلح والسمر والأسل، وهذا خطأ؛ فإن بالحجاز مساحات واسعة من الغضا كأرض المحتطب المنخفضة الواقعة إلى الشمال والشمال الشرقي من تبوك, وكذلك وادي الجزل. 1- ذكر صاحب "الرحلة اليمانية" المطبوعة 1912 بمصر "أن الحجاز يبلغ طوله من الشمال إلى الجنوب ألفا وخمسمائة كيلو متر، وعرضه من الشرق إلى الغرب خمسمائة وخمسين كيلو مترا تقريبا".

ويمتد الحجاز على طول السهل الساحلي على البحر الأحمر من عسير إلى خليج العقبة1، ويختلف عرض هذا السهل من 10 إلى 40 ميلا. ويمتد هذا السهل إلى حاجز جبلي عظيم، يتكون من صخور نارية ومتحولة عند حافته الشرقية التي يبلغ ارتفاعها أكثر من 8000 قدم فوق سطح البحر. والمنخفضات الغربية من هذه السلسلة شديدة الانحدار، وعلى الأخص في الطرف الجنوبي في اتجاه مقاطعة عسير. أما في الجنوب من طريق: مكة, الطائف, الرياض، فلا تستطيع السيارة اجتياز تلك المنطقة الجبلية، مع أنه يوجد هناك طريقان في الشمال؛ إحداهما من جدة إلى منجم الذهب، وسهل نجد، والأخرى تصل ما بين جدة، وينبع، وأخفض ممر يمكن العبور خلاله من الساحل يرتفع 2200 قدم عن سطح البحر، وتتدرج الأراضي في الميل إلى جهة الشرق في اتجاه صعيد نجد المرتفع. أقسام الحجاز الطبيعية: يتكون الحجاز من أقسام طبيعية يجاور بعضها البعض الآخر، وهي: 1- المنطقة الساحلية، وهي سهل متوسط عرضه نحو 29 كيلو مترا, ويمتد بمحاذاة شاطئ البحر الأحمر "تهامة"، ويحيط بها شعاب مرجانية، وتقع فيها موانئ: العقبة، والمويلح، والوجه، وأملج، وينبع، ورابغ، وجدة، والليث. 2- المنطقة الجبلية، وهي مرتفعة وتأخذ في الانخفاض التدريجي حتى تصل إلى ما بين جدة ومكة، ولا يزيد ارتفاعها هنالك على ألفي قدم. 3- المنطقة النجدية، وهي واقعة بين جبال مرتفعة جدا في الشمال، ومغطاة بالحمم "السائل البركاني" وتأخذ في الانخفاض في اتجاهها للجنوب، إذ يصل ارتفاعها غربي مكة والطائف إلى نحو ألف قدم, وتقع فيها المدينة ومكة.

_ 1 الساحل هنا كثير الجزائر والصخور والضحاضح، والموانئ فيه قليلة، والملاحة شاقة، وأعظم مرافئه جدة فينبع، ومنها الوجه، والجار الذي كان ميناء المدينة قديما.

4- الأخدود الرئيسي، والأجزاء المرتفعة منه مغطاة بالحمم كما هو حال الخرمة والعويرض وخيبر "6000-8000" قدم، ويصل ارتفاعه إلى نحو 5000 قدم ما خلف مكة. 5- المنطقة الأخيرة وهي أعلى حافة المنحدر الشرقي في اتجاه قلب الجزيرة العربية. وبين القسم الرابع والخامس توجد واحات خاصة متناثرة، ومنها: الحائط، والحويط، وفدك، وخيبر، والحناكية، والطائف، ووادي فاطمة "مر الظهران"، والصفراء، ووادي القرى. جيولوجية الحجاز: أ- الأعصر الجيولوجية: لقد كانت بلاد العرب وسوريا وشبه جزيرة سيناء في وقت من أوقات الأدوار الجيولوجية القديمة قسما من إفريقيا الشمالية الشرقية، وإن أخدود البحر الأحمر ووجود صخور ابتدائية متشابهة التكوين في الطبيعة والزمان على جانبي هذا البحر اعتبارا من شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة متبعة القسم الشمالي الشرقي من أفريقية حتى جهات رأس الرجاء الصالح، كل ذلك يدل دلالة قوية لا تحتمل الشك على أنه قد قامت في الأزمان الجيولوجية قارة عظيمة مؤلفة من هذه النواحي ويفصلها عن القارة اليوراسية بحر كبير بقيت لنا من آثاره الكتلة العظيمة المائية التي نسميها الآن بالبحر الأبيض المتوسط. وهذا البحر القديم يظن أنه في الأزمنة الجيوراسية كان محيطا بالأطراف الشمالية والشرقية لهذه القارة العظيمة بشكل منحنٍ, وكانت سيناء والعقبة وتبوك والعلا في تلك الأيام قريبة من شاطئ ذلك البحر أيضا. بينما نجد أن جبال الحجاز وعسير وبلاد نجد حتى جبلي أجا وسلمى وجبل النير والعارض كانت قسما من القارة القديمة المشار إليها. وتلا هذا العصر الجيولوجي الجيوراسي عصر آخر عرف بعصر البحر الكريتاسي, الذي كان طائفا بنفس الأماكن في الشمال والجنوب. ويظن أن

هذا البحر كان يغطي منطقة خليج فارس ورأس عمان كما نعرفها الآن، والمظنون أيضا أن مياه هذا البحر كانت تلاطم نفس الشواطئ التي كان البحر القديم يلاطمها, ولم تأخذ بلاد العرب شكلها الأخير الذي نعرفه الآن لها في هذه الأزمنة التاريخية إلا بعد انقشاع المياه عن سطح البقاع التي كان يغسلها وارتفاع تلك البقاع الأرضية عن مستوى سطح البحر, ثم تلا هذا العصر حركات أرضية سببت تكوين أخدود البحر الأحمر وانقسام القارة العظيمة إلى قسمين: قسم غربي البحر الأحمر نعرفه الآن بإفريقيا، وقسم آخر شرقيه هو الحجاز وبلاد العرب. ب- الطبقات الأرضية: أما التكوين الطبيعي للصخور والطبقات في الحجاز, فإنه مماثل تمام المماثلة للطبقات التي تؤلف المنطقة الغربية للبحر الأحمر, اعتبارا من الساحل المصري إلى أقصى الجنوب. مع أنه في العلا على طرف البلاد من الناحية الشمالية تتكاثر الحجارة الرملية بطبقات سفلى كثيفة, وتمتد المساحة الغربية الباقية حتى البحر الأحمر. أما أملج وضبا والمويلح قرب رأس خليج العقبة, فتتألف من تشكيلات نارية وميتامورفية "متحولة" تميل إلى رواسب مواد الأجسام المعدنية, وتوجد بعض هذه المواد في كل من نوعي هذه التشكيلات، إلا أن فائدتها باستثناء الملح والكلس والجبس "سلفات الكلس" للبلاد في الوقت الحالي ضئيلة. وفي جبل النورة الذي يبعد حوالي 12 ميلا من مكة توجد كمية طيبة من الجير المحروق يتحصل عليه من الشظايا الراسبة التي قد تحولت إلى ميتامورفية بفعل الحرارة والريح. وترى كذلك جزر مشابهة على الطريق من جدة إلى مهد الذهب حوالي 40 ميلا خلف جدة، كما تشاهد في القرين الأبيض "قرن الماعز الأبيض" على بعد 100 ميل تقريبا عن جدة. وأكمة منجم مهد الذهب بالذات عبارة عن صخور بركانية متماسكة كحجر الصوان شكلا ورواسب متيامورفية بشكل مرتفع، يعلوها مجرى من البازلت، وجبل المنجم هو نوع من الأندسيت يقطعه عروق من المرو، وقسم منه مكسوّ جزئيا بالريوليت وهو نوع من

الصخور النارية "الكوارتزية" ومعظم الجبال العارية المتعرضة للشمس شرقي الجبال الميتامورفية والبركانية هي من حجر الجرانيت. وفي الطائف يرى الجرانيت على هيئة حواجز متقاطعة متداخلة إلى الغرب, حيث تميل الجبال إلى ارتفاع أعلى. وبحذاء الطرف الجنوبي لسلسلة الجبال المتكاثفة في اليمن توجد رواسب منضدة من الرماد البركاني أو الحمم المقذوفة. الطبوغرافيا: "تخطيط الأرض" لكي نعرف طبوغرافية الحجاز بوجه عام علينا أن نعود ثانية إلى حاشية السهل بمحاذاة البحر الأحمر، ثم إلى السور الجبلي المنحدر الذي يرتفع إلى 8000 قدم خلف مكة, و4000 قدم غربي مهد الذهب, و3000 قدم قرب المدينة، وتمتد شمالا إلى نحو هذا الارتفاع، يقطعها وادٍ طوله ألفا قدم هو وادي الحمض وأودية أخرى. ويقع إلى الشرق من هذه السلسلة الجبلية مرتفعات تتراوح من 6000 إلى 4000 قدم ما بين عسير والطائف، ومن ثم تهبط إلى 2200 قدم عند العلا. وعلى الجانب الغربي من سلسلة الجبال يقع القسم الساحلي العظيم المعروف بتهامة ويتاخم البحر الأحمر, ويتراوح عرضه من 40 ميلا في الحديدة باليمن ونحو 30 ميلا من جيزان فشمالا إلى الليث, ثم من 10 إلى 20 ميلا حول الوجه. وأخيرا ينخفض حتى يستوي تماما عند خليج العقبة. والحاجز الجبلي فيما وراء السهل الساحلي تقع في كل مكان منه تلال جبلية بعلو أقدام فقط، كما أن هنالك أودية عظيمة تتصل بعيدا إلى الشرق، وأعظمها وادي الحمض جنوبي الوجه. وأحد أطراف هذا الوادي يصل قرب المدينة, بينما الفرع الآخر منه يصل إلى جوار العلا. ومن الأودية الأخرى المهمة: وادي ينبع ووادي رابغ ووادي غران ووادي فاطمة، وأحيانا تحمل هذه الأودية كميات غزيرة من المياه وكذلك كميات كبيرة من الطمي، وندرة العشب في معظم منحدرات الجبل التي تشكل مجرى حوض

هذه الأودية ناتجة من أن 100% تقريبا من الماء يسيل لبطن الوادي، ورواسب الطمي من الجهة الأخرى تؤلف أراضي كثيرة خصبة وصالحة للزراعة في أمكنة تكون فيها بطون الأودية مستوية تقريبا، وعند تعرج مصب الأودية وعند بروز جداول من مسارب الجبال، وعند التقاء الأودية بالبحر. وأما الجهة الشرقية من سلسلة جبال الحجاز فتنحدر برفق إلى الشمال والمساحات المنبسطة في الطائف ذات علو معدله 5000 قدم فوق سطح البحر وعند عشيرة 3700 قدم وعند البركة 2800 قدم وعند الحفيرة على خط سكة حديد الحجاز 1740 قدم، وإلى 66 ميلا للشمال عند قلعة الحج التركي القديم التي تدعى قلعة الصوري يبلغ الارتفاع 2200 قدم، وتقع هذه القلعة عند نقطة الاتصال بطريق السيارات الموصلة إلى خيبر التي تبعد 104 أميال لجهة الجنوب, والتي تعلو أيضا 2200 قدم. جبال الحجاز: تحيط بالحجاز جبال وحرار كثيرة، وقد اعتبرها الباحثون سلسلة واحدة أسموها "السراة", وسلسلة جبال السراة تمتد طولا من الشمال إلى الجنوب، وهي العمود الفقري لشبه الجزيرة العربية، وبعض هذه السلسلة مرتفع وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يزيد ارتفاعه عن 2200 متر عن سطح البحر، وجبل وتر, وجبل شيبان، وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة ثم تعود بعد ذلك إلى العلو. وسلسلة السراة يجعلها البعض منتهية في الشمال وراء عرفة والمناقب1. أما الحرار والجبال الأخرى الواقعة في شمال هذه السلسلة فهي أقل ارتفاعا منها، ويقول الهمداني في وصف السراة: "هو أعظم جبال العرب وأذكرها"2. ويمكن تقسيم هذه السلسلة إلى ثلاثة أقسام على النحو الآتي:

_ 1 معجم البلدان لياقوت "3/ 65". 2 صفة جزيرة العرب "48".

1- القسم الواقع في اليمن ويبلغ طوله 500 كيلو متر, يقتطعها من الجنوب إلى الشمال بين ساحل عدن إلى حدود عسير ونجران. وسروات اليمن كما ذكرها الهمداني عشر سروات، وهي من الجنوب إلى الشمال: سراة المعافر, سراة الكلاع, سراة بني سيف, سراة جيلان, سراة الهان, سراة المصانع, سراة قدم, سراة عذر وهنوم, سراة خولان, سراة جنب. 2- القسم الواقع بين اليمن في الجنوب والحجاز في الشمال، ويشمل مقاطعتي عسير ونجران، وكان يسمى في القديم سراة "أزد شنوءة" وفيه أربع سروات هي: سراة عنز, سراة الحجر, سراة باة, سراة يشكر. 3- وأما القسم الثالث من سلسلة السراة -وهو الذي يعنينا- فهو الجزء الواقع في منطقة الحجاز بين حدود عسير في الجنوب وجبال عرفات في الشمال، وكان مقسما إلى خمس سروات من الجنوب إلى الشمال هي: سراة غامد, وسراة دوس, وسراة زهران, وسراة فهم وعدوان, وسراة الطائف. أما اليوم فيطلق عليه اسم جبال الحجاز. وأعلى قمة في سراة الحجاز 2598-8400 قدم في جبل إبراهيم الواقع إلى الجنوب من مصب وادي الكرا، ومن الأماكن في سراة الحجاز ما يبلغ ارتفاعه 2544-8268 قدما وهو جبل دكا، 2512-8164 قدما وهو جبل الشفا، 2500-8100 قدم وهو جبل القرينيط، 2363-7700 قدم وهو جبل حيرة, 2326-7570 قدما وهو جبل السراة, 2308-7500 قدم وهو جبل برد، 2215-7200 قدم في جبل كرا، 1630-5297 قدما في الطائف، 1385-4500 قدم في الحوية. ويجعل كثيرون سلسلة جبل السراة ممتدة في الشمال إلى معان وأطرافها حيث تسمى هناك جبل الشراة. وتكوين سلسلة السراة بسيط, إذ تحتوي على الصخور الابتدائية الكرستالية المكونة من تجمد قشرة سطح الأرض والصخور الاندفاعية،

وغالب صخورها يتكون من الصخور البلاطونية، وفي بعض الأحيان الميتامورفية، وأهم تركيبها الجرانيت والشست، وسلسلة هذه الجبال في الشمال تدعى كما سبق بجبال الشراة ويليها من الجنوب سلسلة جبال حسمى التي تقع إلى شرقيها وجنوبيها الشرقي الحرات الكبيرة الشمالية، وفيها بعض القمم الشاهقة التي تصل إلى 2000 متر فوق سطح البحر، ومن أهم هذه الجبال المرتفعة: جبل مبارك، وجبل اللوز، والمقلع، وجبل الشفا، وجبل أرنب. وإلى الجنوب من هذه السلسلة توجد عند المويلح وضبا والوجه عدة جبال مرتفعة أهمها: المويلح وجبل شار، وإلى الجهات الجنوبية من حسمى جبال الشرارة، وغنمات، وشيبان. وتوجد كذلك في غرب منطقة مداين صالح جبال عنتر وقصد والقعيد ونهر، وإلى الجنوب من هذه الجبال توجد سلسلة آكام ممتدة بمحاذاة الساحل لا يزيد ارتفاعها عن ألف متر، وفي الوسط منطقة جبلية أخرى متوسط ارتفاعها 1200-1500 متر، وفي الأولى جبل الغوصة، والمشقق ومرتبة وعرمة وهجينة، وأعلى منها كلها رضوى إلى الشرق من "ينبع", إذ يبلغ ارتفاعه إلى نحو ألفي متر، وفي أطراف المدينة إلى الشمال والجنوب منها عدة جبال مشهورة أهمها أحد, ويبلغ ارتفاعه 1200 متر، ويليه: الرحلة، والفرع، والحمض. وبين مكة والمدينة سلسلة متصلة من هذه الجبال، أهمها: نصع وجبل بني أيوب وجبل صبح، وتعلو في الجنوب الشرقي من مكة علوا غير قليل، فيتألف منها سلسلة جبل كرا بين الطائف ومكة الذي يصل إلى 2200 متر، وسلسلة الجبال الخلفية وأهمها: برد والقرينيط والشفا ونجير ودكا، وإلى الشمال من هذا يشرف جبل حضن على سهل ركبة إلى جهة المشرق منه، ثم في الجهات الجنوبية جبل السعدية والأبانين والطور الأخضر، والعقبة وجبال عسير.

الحرار في الحجاز: توجد في الحجاز حرات عديدة، والحرات جمع حرة، وهي المناطق السود ذات الحجارة النخرة المحرقة بالنار، أو الحجارة المؤلفة من السائل البركاني المتجمد، وقد تسمى اللابة واللوبة أيضا كما في اللسان1. ويظهر أنها تكونت بفعل البراكين، وتكثر فيها الحجارة ذات الرءوس الحادة، ومن الأرجح أن الحرار هي أفواه البراكين، واللابة هي المناطق التي غطتها حمم البراكين وسالت فوقها ثم جفت، والكراع هي أعناق الحرار. وشرقي الحجاز سلسلة من أرض بركانية ذات حجارة سوداء كأنها أحرقت بالنار، وأكثرها بين المدينة والشام، ومنها: حرة سليم إلى الجنوب الشرقي من المدينة، وحرتا المدينة الشرقية والغربية، وحرة خيبر. وتكثر الحرار في الحجاز، ومنها: 1- حرة العويرض وتقع إلى جهة الغرب من درب الحاج الممتد من تبوك إلى العلا بمحاذاة سكة حديد الحجاز، ويبلغ طولها أكثر من مائة ميل، وعرضها يكاد يقرب من ذلك، ومتوسط ارتفاعها عن سطح البحر 500 قدم، وأعلى مواقعها جبل عنازة، ويزيد ارتفاعه 7000 قدم عن سطح البحر. 2- حرة خيبر وهي من أعظم الحرات وأوسعها مسافة، وإن كانت أقل ارتفاعا وأقل انحدارا من حرة العويرض، وتسمى الحرة الصحراوية، ويبلغ طولها مرحلتين من الشرق والغرب، ومرحلتين من الشمال إلى الجنوب، وتمتاز بالخصب والنماء وكثرة المياه2. 3- حرة بني سليم وتعرف بحرة المدينة, وهي لا تقل كثيرا عن حرة خيبر.

_ 1 اللسان "2/ 242". 2 وتقع خيبر على بعد مائة ميل شمال المدينة، وترتفع عن سطح البحر 2200 قدم.

4- وتكثر الحرار عموما في المنطقة الممتدة من تبوك إلى مكة، ومنها: حرة بس، وحرة الخشب، وحرة أوطاس. وقد استفاد الحجازيون من الحرار فاستخرجوا منها الأحجار والمعادن، فكانت مواطن للتعدين في القديم. ومن آخر الأحداث البركانية في الحجاز، ثورة إحدى الحرات في شرقي المدينة بضعة أسابيع عام 654هـ-1356م، وقد وصل ما سال منها إلى مسافة بضعة كيلومترات من المدينة، وكانت نجاة المدينة من الأعاجيب. السدود في الحجاز: في الحجاز مواقع لعدة سدود أقيمت لحفظ المياه التي تلي سطح البحر، وعدد منها يحتوي على سدود من أصل قديم، ومن بينها: 1- سد العيار، ويبعد نحو ستة أميال شرقي الطائف، وعلى صخوره كتابة كوفية تدل على أنه أنشئ على عهد معاوية أمير المؤمنين، وقد بناه عبد الله بن إبراهيم عام 58 بعد الهجرة، 680 بعد الميلاد، ولم يستعمل في بنائه الطين والملاط. 2- سد السملجى أو "السملقى" ويعرف كذلك بسد ثمالة أو سد بني هلال، ويبعد نحو عشرين ميلا من جنوب شرقي الطائف. 3- سد الجبرجب بالقرب من وادي محرم، ويقع على بعد 8 أميال شمال غربي مدينة الطائف، وهو جديد. 4- سد الحصيد، وهو أحد ستة سدود لتخزين مياه الري حول خيبر، وهذا السد مبنيّ من حجارة مكسورة مع ملاط وكلس، ويبعد نحو 15 ميلا إلى الجنوب الشرقي من قرية خيبر. وطول قاعدته 182 قدما، وطول قمته 27 قدما، ويعلو فوق مجراه المبني من الحجر 28 قدما، وسعته نحو 750 فدانا, ويقال: إن هناك خمسة سدود أخرى موجودة بحالة مماثلة لذلك السد. 5- ومن السدود الفرعية كذلك سد ثلبة وسعته 6400 متر مكعب

وكان الغرض منه تخفيف حدة السيول وحماية البساتين، وسد العرض وهو قريب من الطائف، وقد تهدّم هذا السد. ومن السدود: سد مكة الجديد الذي أقيم لوقايتها من السيول1، وسد عكرمة على وادي وج؛ لشرب مدينة الطائف، وسد سيسد. أودية الحجاز: اشتهرت في أرض الحجاز أودية كثيرة, من بينها: 1- وادي رضوان: ويصب شمالي ينبع. 2- وادي العقيق: وهو يقع غربي المدينة ويشقه طريق مكة. 3- وادي فاطمة "مر الظهران": وهو من أكثر أودية الحجاز خصبا، ويبدأ من وادي الليمون، ويمتد غربا إلى "حدة" على الطريق بين مكة وحدة, ويبلغ طوله من الشرق إلى الغرب ثمانين كيلومترا. وهذا الوادي غني بمياهه الجوفية وفيه حوالي 35 عينا فيّاضة بالماء، منها "عين المضيق" بوادي الليمون وعين "سولة" وعين "الزيمة" وعين "حداء". 4- وادي النعمان: وادٍ خصب التربة يقع بعد عرفة, وفيه بئر ينخفض ماؤها عن سطح الأرض نحو 30 مترا تسمى بئر نعمان. قيل: إنها مبدأ عين زبيدة, والحقيقة أن ماء البئر يتصل بها من سفوح جبل كرا مجتمعا من الأمطار. وقد جعلت بين هذه البئر وعين زبيدة قناة هي إحدى القنوات التي تصب في العين. 5- وادي إبراهيم: ويخترق مكة من أعلاها إلى أسفلها. 6- "وادي أضم": وفيه تجتمع سيول أودية المدينة كالعقيق ووادي

_ 1 ويقول المهندس علي شافعي في تقرير فني له عنوانه "المملكة العربية السعودية, مشروعات عمرانية بمنطقتي مكة والطائف" ص16: إن هذا السد لا يفيد في تحويل مياه السيول إلى وادي العشر بعيدا عن مكة، ولا يصلح لتخزين كمية كبيرة من المياه تؤثر في حدة السيل، مثل السد القديم الحالي.

قناة ووادي بطحان، ثم تكون هذه الأودية واديا واحدا يدعى القسم الواقع بقرب المدينة منه باسم "أضم" والقسم الممتد إلى بحر القلزم من هذا الوادي يدعى باسم وادي الحمض؛ لكثرة النباتات التي تحمض الإبل برعيها فيه, ويصب في البحر جنوبي الوجه. سهول الحجار: من أهم سهول الحجاز سهل ركبة المشهور الذي يحده من الشرق جبل حضن، ومن الجنوب جبال عشيرة, والعرجية، والطائف، ومن الغرب سلسلة جبال الحجاز العليا، ويمتد من نواحي عشيرة التي تبعد عن الطائف 65 كيلومترا إلى جهات المويه، وأرض هذا السهل الواسع مؤلفة من الطبقات "الرسوبية" الصلصالية تعلوها في أماكن قليلة حصباء سوداء أو خلافها. وفي الحجاز بعض السبخات المشهورة وهي أراضٍ سهلة غالبا تحوي كثيرا من الأملاح المتجمدة، واختلف في منشئها، فقيل: إنها بقايا بحيرات مالحة، أو بقايا الأبحر القديمة التي كان تغطي سطح كثير من بلاد الحجاز. وقيل: إنها أمكنة تجمع فيها كثير من الأملاح, وتكونت فيها بمرور الزمان هذه السبخات, ومن أهمها: 1- سبخة رابغ، بين جدة ورابغ. 2- " المدينة المنورة. 3- " قريات الملح. بعض الآثار القديمة في الحجاز: في الحجاز مساحات كبيرة كانت آهلة بالسكان عامرة بالضياع والمزارع، ثم أفلت منها الحضارة وغدت بيداء موحشة، إلا أن آثار الحضارة ما تزال ظاهرة، فهناك علامات تدل على وجود زراعة سابقة في وادي الجزل شمال شرقي ينبع. وإذا جلنا بالطائرة شمال ينبع ما بين أملج ووادي حمض، نرى

أسوارا مستديرة غريبة الشكل من الحجارة، مع سور حجري في صف واحد ممتد بشكل نصف قطر دائرة, ويظن أن قطر هذه الدائرة يبلغ 200 قدم. وإلى الجنوب من الوجه على الضفة الجنوبية من وادي حمض تقع بقايا يظن أنها هيكل روماني. ولا تزال بعض الدرجات في موضعها، إلا أن أحجار الجص المحفورة حفرا بديعا غدت تستعمل كعلامات لقبور الذين كانوا يخرون صرعى من الغزوات والغارات الأهلية. وبحذاء الطريق شمالي المدينة باتباع خطة سكة حديد الحجاز القديمة تقع أول محطة في قرية ذات أهمية وهي العلا. وهذه المدينة قائمة على مقربة من هضبات صخرية من حجر الرمل الأصفر والأحمر وتحد الأودية المنبطحة. وإلى بعد خمسة أميال ونصف عن العلا تقع "الخريبة" حيث توجد آثار قرية كبيرة تحتوي على بعض الكتابات وقطع الفخار. وتقع في هضاب الصخور الرملية البالغة نحو ستين قدما والملاصقة للآثار هناك, الكثير من الغرف أو القبور المنحوتة من الصخور الصلبة، وفي بعض الحالات ترى الردهة كبيرة وتتسع لتابوت واحد. وقد نبشت كل القبور وسرق كل ما بها، وآية كل ذلك باقية. وممن شهد السطو والكشوف أحياء يرزقون. مدائن صالح: وعلى بعد 11 ميلا من خريبة شمالا بمحاذاة سكة الحديد تقع المقابر القديمة المسماة "مدائن صالح" التي وصفها دوتي في كتابه "الصحراء العربية العظمى" في دقة واستيعاب. هناك حوالي ثلاثين مقبرة مقطوعة من الصخور الرملية الصفراء الناعمة وهي تختلف في الحجم، ولكنّ لها جميعا أنفاقا لتوارى فيها الأجساد. ومساحة أكبر قبر 18 قدما و9 بوصات في 13 قدما. ويبلغ السقف 7 أقدام فوق الأرض، وكان الصدى يدل على أنه مفرغ؛ ولذلك يحتمل أن تكون هناك فتحة سفلى، وتكون النوافذ أحيانا خمسة أقدام تحت سطح الأرضية الرئيسي, وتمتد 5 أو 6 داخل جدران الغرفة.

وفي خارج قبور مدائن صالح يرى وجه الصخرة مقطوعا بشكل مصقول على شكل عمودي، ومدخل القبر باب مثلث الشكل ويكون عادة على الأقل 3 أقدام في 7 أقدام، ومحاطا ببيت محفور حفرا بديعا. وفي كثير من الحالات يرى نسر محفور على قمة المدخل المثلث الشكل، كما نجد مثل هذا النسر محفورا على كل طرف بحذاء جوانب الباب. ورءوس هذه النسور وأجسامها قد أزالها البدو الذين يعتقدون أن الله فقط هو الذي يخلق الجسم الحي، وكل من يحاول أن يقلد صنع الله فإنه يقترف وزر تدنيس الأحياء. وتحت قبة بعض ممرات الأبواب المثلثة وجه آدمي محفور منبسط ودائري مضحك الشكل، يحيط به من كلا جانبيه ثعبان منطرح بموازاة ميل الباب المثلث ويمتد من القمة إلى الزاوية السفلى. ومن أهم ما عثر عليه من آثار ثمود هرم يعرف بقصر البنت وقبر الباشا والقلعة والبرج. الآثار في منطقة الطائف: وإلى الغرب من الطائف عدد كبير من النقوش الكوفية ذات الزوايا، وغالبا ما تكون آيات قرآنية وعبارات دينية تكتب تبركا وزلفى إلى الله. وهناك أيضا عدة صور لحيوانات محفورة في الصخور الجرانيتية. وتمتد فترة الخط الكوفي في الخطوط التاريخية القديمة من 700 بعد الميلاد إلى 1120م. وعلى بعد بضعة أميال إلى الجنوب الشرقي من غربي الطائف دلائل على حضارة مندثرة غابرة. أما الآثار الإسلامية في منطقة الحجاز فهي كثيرة مشهورة، وسنتحدث عنها في مواضعها من أجزاء هذا الكتاب. جو الحجاز: جو الحجاز في عمومه صحراوي قاري، ويعتدل الجو في الطائف والمناطق المرتفعة, وفيما عدا ذلك فهو حار شديد الحرارة. ودرجة الحرارة في أجزاء الحجاز الواطئة أخف منها في تهامة اليمن.

ويبلغ متوسطها 80ْ-90ْ ف، ومكة شديدة الحرارة صيفا؛ لانخفاض ارتفاعها "280-750 قدما" ولأنها محاطة بمرتفعات صحراوية جرداء، بخلاف المدينة, فإن درجة الحراة لا تزيد عن 70ْ ف وهي بلد صحي ... والطائف أحسن بلاد الحجاز مناخا، وهي جافة الهواء ... وأما المرتفعات وراء مكة والطائف فجوها بارد، ويهطل بها المطر في أواخر شهر أغسطس من كل عام، ويدوم نحو شهر أو أكثر قليلا. جدول يبين توزيع الحرارة في أهم مدن الحجاز اسكنر على أن العامل الأول في تعيين نظام الحرارة في الحجاز هو درجة الارتفاع؛ فكلما زاد الارتفاع عن سطح البحر قلت الحرارة1, ومن ثم كانت السهول المنخفضة الساحلية أشد حرارة، ومثلها في ذلك الموانئ الساحلية كجدة التي تعد من أشد جهات الحجاز حرارة، وتساعد الرطوبة فيها وفي السهول على شدة حرارتها، وتكون الرطوبة عادة فيها فوق 85% مصحوبة بدرجة حرارة 99ْ, وحينما تهب العواصف الرملية في جدة قد يصل الزئبق إلى 119ْ, فيصبح الهواء بعد ذلك جافا جدا مشبعا بالرمال, وقد سجلت أقل درجة حرارية في جدة فكانت 54ْ. وتنخفض درجة الرطوبة على مسافة 5 أميال بعيدا عن

_ 1 ولذلك كانت منطقة الهدى في جبال كرا من ألطف أماكن الحجاز جوا حتى في الصيف، ويشعر الإنسان فيها في وقت الظهيرة وفي قلب الصيف بنسيم لطيف عليل.

الشاطئ، وجميع الأماكن المرتفعة عن سطح البحر وسط سلسلة جبال الحجاز ذات هواء معتدل وجو لطيف، ومكة ذات حرارة جافة بتأثير الأراضي الجرانيتية والصخور القديمة السوداء التي تزيد في قوة انعكاس الحرارة، حتى لكأنها تصب على أطرافها أشعة محرقة من شهب الحرارة الجافة المحرقة1. وهناك منطقة تهامية جبلية يشتد فيها الحر، ويهب فيها السموم اللاذع في أشهر الصيف والقيظ، وهذه المنطقة هي التي تصاقب المدينة ومكة غربا، أما في جبال الحجاز فيظل الجو معتدلا حتى في أشهر الصيف، وفي جهات الطائف وجبال الشفا، لا يشعر السكان أنهم في بلاد حارة. أما الأمطار في الحجاز فهي قليلة, وتهطل في جبال الحجاز في فصل الرياح الموسمية، وذلك في أشهر الخريف غالبا ما بين شهري أغسطس حتى أواخر ديسمبر، وبعضها ينزل في الشتاء، ويزيد في المدينة نزول المطر عن مكة وجدة. ومتوسط المطر ما بين 3.5، 4.5 بوصة، إلا في جنوبي الحجاز فيتراوح ما بين 10، 12 بوصة، وأغزر مطر حدث في منجم مهد الذهب في 11 مايو 1935. أما السيول فكثيرة، وليس لها نظام معين. الثروة الزراعية والحيوانية: أ- الزراعة: بالإضافة إلى منتجات الأحراج من الفحم في شمال الحجاز، والأخشاب المختلفة في جبل كراء، غربي الطائف في الحجاز، يوجد في الحجاز وفرة من المحصولات الزراعية الهامة من التمر والذرة والقمح. والتمر هو المحصول الزراعي الرئيسي في البلاد، وأصنافه لا عدد لها, وأفخر أنواعه في المناطق الغربية تغل في جوار المدينة. وتعتبر ميناء ينبع

_ 1 يتبدل الطقس الحار الجاف في سبتمبر وأكتوبر في جهات مكة التي تهب عليها رياح جنوبية ذات رطوبة تجعل الجو هناك شديدا من أثر اختلاط الحرارة بالرطوبة.

مركزا من مراكز تصدير التمور. وفي كل قرية في الحجاز على الغالب على ارتفاع أقل من 4500 قدم ينتج هذا الغذاء الرئيسي. وفي جنوب الحجاز تنمو الذرة برءوس وسيقان أكبر إلى علو 17،7 قدما, وفي شمال الحجاز تؤلف الذرة جزءا من طعام الفرد العادي. وكان القمح فيما مضى المادة الأساسية بعد التمر الغذاء, ولكن بعد مضي بضع سنوات استورد بعض التجار الجريئين الأرز بكميات وبأسعار حملت بالفعل أغلب السكان على أن يستبدلوا بالقمح الأرز. إلا أن الخطر على الشحن أثناء الحرب العالمية الثانية قد سبب عودة الناس إلى القمح, وعلى ذلك أعيدت زراعته في أجزاء عديدة من البلاد. وأعظم الكميات تنمو في المزارع الشمالية نحو الطائف. فواكه الحجاز وخضراواته: من الفواكه: الموز والمشمش والرمان والتين والخوخ والنارنج والليمون والكمثرى والتين الشوكي والسفرجل والبطيخ "الحبحب" والتفاح البري والأعناب والنبق والعناب والتوت والبخارى "البرقوق". وتمتاز فواكه الحجاز على غيرها بالحلاوة والرائحة ولطف المذاق. فعنب الطائف ورمانه وسفرجله كل هذه أجود منها في أي بلد آخر. ومن الخضراوات: الجزر التمري والجزر المديني والجزر اليماني "البطاطا" والباذنجان الأحمر "الطماطم" والباذنجان الأسود والبامية والقرع "الدبة" والفول والملوخية والكرنب والخس والجرجير والفجل الأحمر والأبيض والفلفل الرومي والأخضر والبصل. والبرسيم هو أعظم الغلات التي تؤلف أهم غذاء للماشية، وكذلك الحشيش "العتري والمسقوي" وغيره من أنواع الحشائش الأخرى. وأهم المناطق الزراعية في الحجاز: 1- وادي فاطمة: وبه مياه جوفية غزيرة, إذ تصب فيه أودية كثيرة

كوادي الزبارة ووادي الشامية ووادي علاف، ويغل هذا الوادي: التمر والفواكه والخضر. 2- المدينة وضواحيها، وأهم الغلات فيها: التمر والحبوب والفواكه، وتعتمد الزراعة على الآبار والعيون. 3- وادي ينبع ورابغ: وينتج الحبوب, وبه كثير من النخيل. 4- الطائف, وأهم الغلات بها: الفواكه ونباتات الزهور والخضر. 5- الليث والقنفدة: وتعتمد الزراعة فيهما على الآبار والعيون، وينتجان التمر والفواكه. 6- الزيمة والجعرانة والشرائع: وغلاتها الفواكه والبرسيم. الماشية: وهناك مصدر أعظم من المصادر المذكورة آنفا للثروة، حتى إنه ليفوق التمور في أهميته، وهو الماشية, مثل: الإبل، والماعز، والغنم، والبقر، والحمير، والدواجن، والخيول. ويعتبر الجمل من أسرة البدوي وهو لا يستغني عنه. وكثيرا ما تقدر ثروة البدوي بعدد ما يملك من الإبل؛ لأنها تدر عليه الحليب، وتعطيه اللحم، وتحمله إلى حيث يشاء في أسفاره. والبدوي عادة يطلق إبله للمرعى في غير أشهر الحج كي يسمنها ويغذيها ويعطيها القدر الكافي من الراحة والغذاء، وربما كان هذا واضحا بالنسبة لإبل قريش المشهورة لدى أهل الحجاز وخاصة المطوفين. ولقد كانت هناك فيما مضى حركة تصدير واسعة للإبل إلى أفريقية ومصر وسوريا والعراق وغيرها مما أثر على هذه الثروة الحيوانية العظيمة النفع والأثر، وإن كانت قد فقدت أهميتها كثيرا باستعمال السيارات في الوقت الحاضر. وجميع الإبل التي تعيش في البلاد ذوات سنام واحد، وتعتبر الضأن أعظم الحيوانات التي تقدم للإنسان الغذاء من اللحم، أما الماعز فتزيد بما تدره من الحليب كغذاء، وقليل من الجمال تذبح لأجل لحومها.

ويلي الإبل من حيث الأهمية الضأن, وتفوقها كثيرا في العدد على الرغم مما يستهلك من لحومها في الوقت الحاضر، وأجود أصناف الضأن بالحجاز الخراف الحرية1. وقد استغل الجشعون جودتها في أثناء الحرب الأخيرة, فصدروها بكميات كبيرة إلى الخارج حتى كادت تفنى. وجميع الأغنام العربية بها شحم وأليات مستعرضة تحتوي على غذاء شهي، ودهن الألية مادة جديرة بالذكر في التجارة الأهلية ويسيح, فيكون نوعا من الدهن. الأصواف والجلود: وتربى أنواع من الماشية لأصوافها، ويجز قسم بسيط من الصوف ويغزل وينسج لعمل المشالح أو البيديات "جمع بيدى2" وهي مشالح كالمعاطف مستوية ثقيلة بدون أردان وبطول الركبة، وتستعمل في مرتفعات الطائف، ولوجود الزيت الطبيعي في الصوف تنفض البيديات الماء جيدا لوقت قصير، إلا أنها بعد أن تمتص ماء مطر يوم كامل تصبح كالإسفنجة المشبعة ثقيلة الحمل, والصوف العربي من النوع الخشن الذي يعرف بصوف السجاد، ويستعمل في صنع السجاجيد الشمال "جمع شملة", وهي بسط من صوف شعبية معروفة3. ويصدر القليل جدا من جلود الماشية؛ وذلك لأنها لا تعتبر من النوع الفاخر، وقد صار استيراد الأغنام الصومالية السوداء الرأس، وعلى ذلك فهنالك إمكانية تصدير واسعة المدى والانتشار؛ وذلك لأن جلودها من نوع مرغوب فيه لصنع القفازات وحقائب الكتب الجلدية عند الأمريكيين.

_ 1 نسبة إلى الحرة بفتح الحاء، وجمعها: حرار. 2 منسوبة إلى بيدة, قرية معروفة ببلاد غامد وزهران, وهي في المعاجم العربية "أبيدة". 3 ليس في الحجاز صوف ممتاز إلا قليلا نادرا، فكل ما يجز من الحيوان إنما هو شعر. إلا أن بعض الرعاة يعنون بشعر الحيوان ووبره ويربونهما تربية صالحة؛ وبذلك حصلوا على صوف جيد يستعمل في نسج العباءات الفاخرة.

وبعد انقطاع المطر في عام 1948-1949، في منطقة الطائف، صار استيراد نوع كبير قوي من الماعز من السودان؛ لتحسين القطعان المحلية. الماعز: إن اللبن والأرز والتمر، وأحيانا كثيرة لحوم الضأن معها, تؤلف الغذاء الرئيسي في الحجاز، ولا سيما البادية. والماعز تنمو وتزداد في الوقت الذي نرى أن عدد الضأن في تناقص. وتصنع من شعور الماعز الخيام العربية السوداء المشهورة. الأبقار: وفي جدة أبقار وأسواق لمنتجات الماشية وكذلك في مكة, مما يدل على أن تربية الماشية يمكن أن تصبح تجارة رابحة مفيدة بالرغم من وسائل النقل الحالية التي تعرقل رواجها. ويعتبر الحمار في الأراضي المرتفعة والمنخفضة المقيم على الإخلاص والود للبدوي وهو الحيوان الذي يثقل ظهره بالأحمال الثقال ... ومن أجود أنواعه بالحجاز الحمير الحصاوية التي تجلب من الأحساء1. الثروة المعدنية: لا تزال بلادنا بكرا لم يكشف من كنوزها المخبوءة إلا القليل، وإن الدراسات الفنية الجيولوجية التي جرت حتى الآن تعتبر بسيطة. ونأمل أن يكثر الخبراء الفنيون والمهندسون الجيولوجيون من أبناء البلاد وتهيأ الدراسات والبحوث المستفيضة وأعمال التنقيب لاستخراج هذه الثروة التي لم يستغل منها سوى النزر اليسير. مهد الذهب: عثر الفنيون على مواقع خمسة وخمسين منجما قديما، وحفروا سبعة منها

_ 1 وتوجد في الحجاز بعض الحيوانات, منها: النمر والفهد والذئب والثعلب والغزال والكلب والقطط, ومن الحيوانات: الوعول والقردة والأرانب. وهناك أنواع من الطيور الجارحة والطيور الأنيسة؛ كالصقر والنسر والبوم.

بالماس فكان الفشل حليفهم، فيما عدا منجما واحدا من هذه السبعة تبين أن مساحته كبيرة، وذات قيمة تشجع على الإنشاء والتزويد بجهاز التعدين ومعالجة المعادن. وأطلق على هذا المنجم "مهد الذهب" وهو المعروف قديما بمعدن "بني سليم". كان العمل جاريا في هذا المنجم في عهدين مختلفين في العصور القديمة كما تشير إلى ذلك بقايا النفايات القديمة. وهذه النفايات ملقاة تحت النفاية الحديثة، وعمر الحديث منها يرجع إلى سنة 750-1150 بعد الميلاد, كما تدل على ذلك الكتابة الكوفية المحفورة التي وجدت بينها. ولا يوجد دلائل إلى الآن تشير إلى تقرير العهد الصحيح للنفايات السفلية, ولا يوجد هناك أيضا ما يدل على مدى الوقت الذي كان العمل فيه جاريا في كليهما أو فيما إذا وجدت هنالك أية عهود جرى العمل فيها غير ما ذكرنا. وعلى ما يظهر من الحفريات القديمة في جبل المنجم ومن النفايات أيضا ربما كان من غير الممكن إرجاع هذا المنجم إلى عهد الملك سليمان. وهنالك رواية: أن منجم أم قريات على بعد 140 ميلا عن الوجه، كان يعمل في التعدين فيه رجال الملك داود أبي الملك سليمان. وقد كان للذهب في الأزمان القديمة العهد جدا قيمة شرائية أكثر بكثير منها في الوقت الحاضر. وإن مهد الذهب به ثلاثة أصناف من التبر، فتأتي النفايات التي ذكرناها أولا. ثم هنالك كمية معينة من درجة رديئة منثورة على السطح بين الحفريات القديمة قد صار تعدين الكثير منها إلى الآن بوسائل الحفر القليلة التكاليف. والبئر التي تقع تحت سطح الأرض والتي جرى التنقيب عنها بالثقب الماسي على عمق الآف الأقدام. وقد جرى الحفر والتوصيل إليها بواسطة ممرات ومقاطع على عمق يقرب من ثلاثمائة قدم من السطح. والطريق التي تصل مهد الذهب بجدة طولها 246 ميلا, تمر بها السيارات في جبال تبلغ أعلى قممها حوالي 3700 قدم, والسيارات الخفيفة تقطع هذه المسافة في عشر ساعات.

منجم ظلم: وقد كشف "منجم ظلم" وجرى حفر الأرض بالماس. وقالت تقارير الخبراء: إنه توجد أقيام جيدة من الذهب, وإنه كان من المتوقع طحن 50 طنا في عام 1951، ولكن بعض العقبات أخّرت العمل1. الذهب قرب الطائف: وجد منقب تركي كتلتين من تبر الذهب قرب الطائف، وقد شاهد بعض الخبراء الموقع. وبعد الفحص تحقق أنهما ذهب حقيقي، إلا أن جيولوجية وطبوغرافية الأرض كانت لا تبشر إلا ببصيص من الأمل. وجرت أعمال الحفر والتنقيب، وفرز الذهب من التبر بالماء مدة ستة أشهر في هذه المنطقة التي تقع غربي الطائف، ومع أنه أمكن استخلاص ذهب نقي إلا أن ذلك لم يكن وافرا بحيث يدر الربح. الفلزات: 1- الذهب والفضة: تنتشر آثار عمليات الأقدمين في الحجاز، وأشهرها كما بينا منطقة مهد الذهب التي بلغت الكميات المستخرجة منها حديثا حوالي أربعة وعشرين ألف كيلوجرام من الذهب. وقد توقفت أعمالها مؤخرا؛ نظرا لاستهلاك جميع الاحتياطي التجاري المعروف حتى الآن. وعثر على عدة مناجم أخرى قديمة العهد، استغلها الغابرون على نطاق واسع وهي في الوجه على البحر الأحمر. أما الفضة فهي لا تستغل إلا من تبر مهد الذهب.

_ 1 وهذا المعدن وجد في جبل ظلم الواقع غرب منهل الدفينة بميل نحو الجنوب, وهناك جبل ثانٍ يقع في جبل "الأشعر" في شمالي المدينة لجهينة بقرب محطة "المميليح" من محطات سكة الحديد, وفيه معدن يستخرج منه الشب. وجبل ثالث يسمى بهذا الاسم، ذكره عرام السلمي في رسالته فقال: "إنه يكتنف الطرف التي تبعد عن المدينة 24 ميلا على ما ذكره الهمداني".

2- الحديد: توجد أهم تكوينات الحديد في القسم الشمالي الغربي في المنطقة التي يحدها البحر الأحمر وخليج العقبة واليابسة الداخلية من ضبا إلى تبوك, ومنها إلى العقبة ... وهذه التكوينات عبارة عن طبقات متداخلة من حجر الدم "Hematite" واليشب "Jaspar" تغطي مساحات شاسعة, وتتراوح نسبة الحديد فيها من 10% إلى 47%. وعثر على رواسب ساحلية من المغننايت "Magnetite" مع بعض الألمنيات "llminite" على طول شاطئ المملكة. ولبعض هذه الرواسب إمكانيات اقتصادية. 3- النحاس: يوجد النحاس في خامات الذهب في منجم مهد الذهب بمركب كبريتور النحاس "Copper Sulphibes" وقد توقفت أعمال المنجم مؤخرا؛ نظرا لنفاد تبره ذي القيم التجارية المعروفة. وفي منطقة تدعى "عقيق" وأم الدمار التي تبعد 30 كيلومترا إلى الشمال الشرقي من مهد الذهب عثر على خامات النحاس بمركبات "Malachite Azurite" المنتشرة في الطبقات الصخرية ذات الصفائح "Schist" وقد استغله الأقدمون. وقد عثر على تحويلات النحاس المعدنية في منطقة طولها 3 كيلومترات وعرضها نصف كيلومتر، وقد جرى فحصها فحصا بدائيا فقط. وهنالك أيضا مواقع أخرى تبدو فيها ظواهر النحاس المتعدن. 4- الرصاص: ويوجد الرصاص في تبر مهد الذهب, وهنالك مركب من الرصاص والفضة Silver Bearing Galana في جبل زهوة شرقي القنفدة على مسافة 65 كيلومترا من ساحل البحر الأحمر.

اللافلزات: 1- الجبس أو الجص: على بعد قليل نحو الداخل تمتد طبقات كبيرة من الجبس على طول ساحل البحر الأحمر, من ينبع حتى خليج العقبة. 2- خامة الباريوم Barite: وهنالك عروق من البارايت قرب رابغ شمالي جدة, ولم تدرس إمكانيات هذا المعدن الاقتصادية. 3- الأسبستس المعروف بحجر الفتيلة: عثر على الأسبستس "Asbestes" في عرق من الحجر الأخضر المبقع المعروف بالسربنتين Serpentine بين الحنيكية والنقرة، ولم يحدد نوعه وأقيامه حتى الآن. 4- خامة المغنيسيا Magnesite: توجد في نفس الحجر الذي عثر فيه على الأسبستس بين الحنيكية والنقرة، ولم تحدد قيمته بعد. 5- الصلصال Clays: توجد عدة طبقات من الصلصال الصالح لصناعة الآجر والفخار في أماكن مختلفة من الحجاز.

مدن الحجاز: أشهر مدن الحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، وجدة. ومن مدن الحجاز وقراها الواقعة في المنطقة الشمالية: العقبة، والمويلح، وضبا، وتبوك، وتقع في المنطقة الوسطى: الوجه، وأملج، وينبع، والعلا، وتيماء, والحناكية، وخيبر، وهي واحة فيها عدة قرى تبعد عن المدينة بمائة ميل من الشمال. وتقع خيبر نفسها في وادي زيدية أكبر الوديان فيها. وبها قلعة قديمة تسمى الحصن، وفيها عيون ومياه جارية. وكانت خيبر منزل اليهود في الجاهلية وسكانها اليوم نحو ثلاثة الآف نسمة. وفي القسم الجنوبي من الحجاز تقع رابغ، وجدة، والليث، ومكة. وهذه هي طائفة من مدن الحجاز: مكة المكرمة: أما مكة1 فهي البلد الحرام وفيها البيت الحرام. ويقول الله تعالى في كتابه الحكيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} , وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وقال عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} . ولا يحس المسلم برهبة قدر إحساسه وهو يدخل مكة زائرا، أو حاجا. وتقع مكة التي شهدت أول عهد الرسول بالوحي ووضع فيها أول حجر أساسي للإسلام في وادٍ مبارك بين سلسلة من الجبال، وهي ترتفع عن سطح البحر 280 مترا، وتقع أيضا على بعد 75 كيلومترا شرقي ميناء جدة أكبر موانئ الحجاز، وعلى بعد 345 ميلا جنوبي المدينة، وأهم ما فيها من الآثار: شعب بني هاشم الذي ولد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرى آخرون أنه ولد في شعب بني عامر، ودار خديجة التي ولدت فيها فاطمة الزهراء، ثم غار حراء الذي نزل فيه الوحي على الرسول لأول مرة، ويقع في قمة جبل النور في طريق الطائف، ثم جبل ثور، حيث غار الهجرة الذي اختفى فيه النبي وأبو بكر، وهما مهاجران

_ 1 تقع في وادٍ ضيق يتجه من الشمال للجنوب، وتحيط به جبال شاهقة نسبيا وهي عند درجة 21 من درجات العرض الشمالي، ودرجة 37 من درجات الطول الشرقي، وتتفاوت حرارتها بين 18ْ و39ْ صيفا.

من مؤامرة كفار قريش، ويبلغ سكان مكة نحو 250 ألف نسمة، ويشربون من عين زبيدة, التي أضيفت إليها غيرها من العيون الأخرى؛ وفاء بحاجة السكان، ولا سيما في مواسم الحج، وبئر زمزم مشهورة. أما الكعبة فيبلغ ارتفاعها 15 مترا, وطول أحد ضلعيها عشرة أمتار، والآخر 12 مترا, وارتفاع بابها مترين، كان لها سلم مصفح بالفضة. وبظاهر مكة: المعلاة، وتقع في الشمال الشرقي منها، وقبالة مقبرة المعلاة يقع مسجدان: مسجد الراية، ومسجد الجن. وبالصفا تقع دار الأرقم أو الخيزران، وكان يجلس فيها الرسول مع المسلمين الأولين في أول العهد بالنبوة، والمسجد الحرام أول ما يقصده الحاج إلى مكة, وكان منذ بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة فناء واسعا حول الكعبة، وبنيت حولها البيوت منذ عهد مضى، فبنت قريش دورها حول الكعبة المعظمة. وتركت للطائفين مقدار مدار المطاف، على أنه لم يكن للمسجد الحرام ذكر في الجاهلية، وإنما كل ما كان معروفا منه هو مدار الطواف حول الكعبة. وكان هذا المدار أو الفناء مجلسا للناس في الصبح والمساء. وكانت حدود المسجد الحرام في صدر الإسلام من الجهة الشرقية: بئر زمزم وباب بني شيبة، ومن الجهة الغربية: حافة المدار الذي عليه أساطين النحاس المعلق عليها المصابيح الواقعة بين مدار المطاف ومقام المالكي، ومن الجهة الشمالية: حافة المدار كذلك الواقعة بين مدار المطاف ومقام الحنفي، ومن الجهة الجنوبية: هذه الأساطين الواقعة بين مدار المطاف ومقام الحنبلي، وفي عام 17هـ-637م زِيدت عليه زيادات كثيرة. وكذلك وُسِّع المسجد الحرام في عهد عثمان عام 26هـ-646م، وفي عهد عبد الله بن الزبير عام 65هـ-684م. وأمر عبد الملك بن مروان عام 75هـ-694م بعمارة المسجد الحرام، وفي عام 91هـ-709م أمر الوليد بن عبد الملك بتوسيع المسجد الحرام وعمارته. ومن الزيادات فيه زيادة المنصور عام 137هـ-754م, حيث جعل المسجد الحرام ضعف ما كان عليه، وزيادة المهدي عام 160هـ، ثم زيد فيه عام 264هـ, ثم زيدت دار الندوة عليه عام 281هـ, وزيد باب إبراهيم عام 306هـ.

ومن العمارات فيه: عمارة المعتمد العباسي عام 271هـ، وعمارة ملوك الجراكسة عام 803هـ-1400م، وعمارة السلطان قايتباي عام 882هـ، وعمارة السلطان سليمان عام 972هـ-1564م، وعمارة السلطان مراد خان. ومساحة المسجد الحرام الآن تبلغ أربعين ألف متر، وتقوم الحكومة الآن بتوسيعه لتصل مساحته إلى مائة ألف متر، وسيقام بناء طابق أعلى فوق التوسعة 40 ألف متر، وستنشأ شوارع واسعة حوله تحيط به من جميع جهاته الأربع بعرض عشرين مترا، وستنشأ ميادين في أركان المسجد الحرام يعمل الفنيون على تنسيقها وتشجيرها، والمساحة التي ستنزع ملكيتها من المباني تبلغ نحو 80 ألف متر، وسيتصل المسعى ما بين الصفا والمروة بالمسجد الحرام، وسينشأ ميدان حول دار الأرقم، ويقوم هذا الميدان في الجهة الشرقية الشمالية. وقد جرى الاحتفال بمشروع توسعة المسجد الحرام في الساعة الواحدة "عربي" يوم الخميس 23 شعبان سنة 1275هـ. حدود بيت الله الحرام اسكنر

يوجد اسكانر

يوجد اسكانر

يوجد اسكانر

يوجد اسكانر

يوجد اسكانر

المدينة المنورة: وأما المدينة1 فإنها تسمى "المنورة" لوجود قبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فيها، وقد دفن فيها أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- أيضا، وترتفع عن سطح البحر بنحو 600 متر. وأهم أماكنها المقدسة: المسجد النبوي ومسجد قباء ومسجد حمزة والبقيع, حيث دفن فيه عدد كبير من شهداء المسلمين. ويقع المسجد النبوي في وسط المدينة على شكل مستطيل، طوله 126 مترا وعرضه نحو ثلثي ذلك. وله عدة أبواب، منها: "باب الرحمة", وباب جبريل، وباب الشام، وباب النساء، وكان يضم مسجد النبي الأول بيت عائشة، ومساكن زوجاته، ومنازل بعض الصحابة، وتقع المقصورة الشريفة "قبر النبي" في طرفه الجنوبي الشرقي. أما الروضة الشريفة فهي المكان الواقع بين القبر ومنبر الرسول.

_ 1 تقع على الخط الخامس والعشرين من العرض الشمالي، والخط الأربعين من الطول الشمالي، وعلى بعد ثلاثمائة ميل من مكة, ومائة وثلاثين ميلا من ينبع. وهي في سهل ينحدر تدريجيا نحو الشمال, ويحده جبل أحد شمالا، وجبل عير جنوبا، ومن الشرق والغرب الحرتان الشرقية والغربية والشرقية أبعد عن المدينة، وبينهما سهل فسيح خصب، وتسمى "حرة واقم", وكان عندها وقعة الحرة المعروفة في عهد يزيد بن معاوية عام 63هـ. ويطلق على الحرة اسم "اللابة" أيضا. وقد جاء في الحديث: "ما بين لابتيها أفقر من أهل بيتي". وشمالي المدينة جبل سلع, وعلى ثلاثة أميال منها شطر الشمال جبل أحد، وكانت عنده المعركة المشهورة في العام الثالث من الهجرة، وقريب منها جبلان متقاربان يسمى أحدهما عير الوارد، والآخر عير الصادر. ومن الأودية في سهل المدينة: وادي العقيق، وقد أكثر الشعراء الإسلاميون من ذكر المدينة في قصائدهم. وقد هدمت في العهد السعودي الأضرحة والقباب والمباني المقامة في المدينة وما سواها على قبور الصحابة والتابعين، وكان تقيم هذيل في سراة هذيل شرقي مكة وفيما بينها وبين المدينة. ومرفأ المدينة ينبع، وكانت "الجار" مرفأ لها قبل ينبع.

وقد أسس الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا المسجد، حينما قدم مهاجرا في شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة. وكان أساسه من الحجر، وجداره من الطين، وسقفه من الجريد، وعمده من جذوع النخل. وكانت مساحته 60 ذراعا في 70، وفيه ثلاثة أروقة جهة القبلة، وساحة واسعة، وكان له ثلاثة أبواب، أحدها: في الجهة الجنوبية, إذ كانت قبلته أول الأمر إلى الشمال نحو بيت المقدس، والثاني: في الجهة الغربية, وهو باب مكة "باب الرحمة"، والثالث: باب آل عثمان "باب جبريل". وروي أنه لما رجع الرسول من خيبر سنة 7 من الهجرة، زاد في المسجد من الشرق والغرب والشمال، فصارت مساحته مائة ذراع في مائة. وفي سنة 17 من الهجرة وسع الخليفة الثاني عمر -رضي الله عنه- المسجد من جهة القبلة، ومن الغرب والشمال، وجعل بناءه كما كان في عهد الرسول, وجدرانه من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من الخشب. ثم زاد فيه عثمان -رضي الله عنه- سنة 29 من الجهات الثلاث التي وسع فيها عمر وبنى الجدران بالحجارة, وجعل عمده من حجارة يصل بينها الحديد والرصاص وسقفه من خشب الصاج. ثم كان عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك, الذي بنى الجامع الأموي في دمشق، ثم أراد أن يشيد المسجد النبوي ويتأنق في تشييده كما شيد جامع بني أمية، فعهد إلى والي المدينة عمر بن عبد العزيز فجدد المسجد ووسعه, واستمر في التعمير من سنة ثمان وثمانين إلى سنة إحدى وتسعين، وزاد في المسجد من جهاته الأربع. وكان عمر وعثمان -رضي الله عنهما- قد تجنبا الزيادة من جهة الشرق حيث الحجرات, وأدخل الوليد في المسجد حجرات أزواج الرسول -صلوات الله عليه وسلامه- وجانبا من حجرة عائشة التي فيها قبور الرسول وصاحبيه. وقد افتن عمال الوليد في بناء المسجد بالحجارة والجص، ونقش جدرانه بالفسيفساء والمرمر، وجعل سقفه من الصاج، وذهب كما ذهبت رءوس الأساطين في عهد الخلافة العباسية في حكم الخليفة الثالث المهدي بن المنصور، الذي زاد في المسجد الحرام زيادة كبيرة، كما زاد في المسجد النبوي من جهة الشمال إلى الحد الذي كان عليه المسجد قبل العمارة السعودية، وتمت عمارة المهدي في أربع سنوات من سنة 161 إلى سنة 165هـ

واستمرت عناية الخلفاء العباسيين وغيرهم من ملوك المسلمين بتعمير المسجد طول عهد الخلافة العباسية، وفي سنة 654هـ شبت نار في المسجد أتت على أكثره، فاهتم آخر الخلفاء العباسيين الخليفة المعتصم بالله وملوك آخرون كالملك المظفر الرسولي صاحب اليمن، والظاهر بيبرس سلطان مصر, فتتابعوا على المسجد كله، وتمت العمارة على يد الظاهر بيبرس. ثم تولى سلاطين المماليك في مصر تعمير الحرمين، حتى عهد السلطان الملك الأشرف قايتباي، وهو أعظم المماليك أثرا في تعمير الحرمين. وقد عمر كثيرا من جدر المسجد النبوي وسقوفه، ثم وقع حريق آخر سنة 886 فأرسل قايتباي الأمير "سنقر" الجمالي، ومعه مائة من الصناع، فبنوا المأذنة الكبيرة وجدار القبلة، والجدار الشرقي إلى باب جبريل، والجدار الغربي إلى باب الرحمة، وبنوا الحجرة النبوية والقبة وقبابا صغيرة كثيرة، وبنوا المدرسة التي كانت بين باب السلام وباب الرحمة، والتي عرفت بعد باسم "المدرسة المحمودية". ثم جاءت الدولة العثمانية فقام سلاطينها على عمارة المسجد والعناية بشئونه حتى سنة 1265هـ. وفي هذه السنة بدأ السلطان عبد المجيد العمارة الكبيرة التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وقد انتهت سنة 1277هـ بعد اثنتي عشرة سنة. وقد شملت العمارة المسجد كله إلا المقصورة ومأذنة قايتباي والجدارين الغربي والشمالي، ونقشوا الجدار والأسطوانات والمنابر والمحاريب وذهّبوها. وقدم الخطاط عبد الله زهدي من إستانبول، فلبث ثلاث سنين يكتب على جدران المسجد من الآيات القرآنية والأحاديث، ما نراه اليوم حلية رائعة جميلة، تسكن إليها العيون والقلوب. وبلغت نفقات العمارة المجيدية ثلاثة أرباع مليون جنيه مجيدي، ففي العمارة القديمة القائمة اليوم آثار ملوك من المماليك والعثمانيين، أعظمهم أثرا السلطان قايتباي، وأوسعهم تعميرا السلطان عبد المجيد. وقد تم مشروع جديد بتوسعة المسجد النبوي الشريف عام 1375هـ-1955م, وقد وضع أساس هذا المشروع في شهر ربيع الأول عام 1272, وهي عمارة رائعة جميلة. وقد احتفل بالانتهاء من عمارة المسجد النبوي الشريف احتفالا رائعا، حضره الملك سعود، ووفود من مختلف البلاد العربية والإسلامية، وذلك

في الساعة الثانية من مساء ليلة السبت 5 ربيع الأول 1375هـ-23 أكتوبر 1955 في المدينة المنورة. ومشروع عمارة الحرم النبوي الشريف، بدئ بالعمل فيه في شهر شوال 1370هـ، ووضع الحجر الأساسي للمشروع في ربيع الأول 1372هـ، وبدئ في حفر الأساس في الجناح الغربي في شعبان 1372هـ. وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1372هـ, بدئ في بناء العمارة الشريفة، وفي شهر ربيع الأول عام 1373، زار الملك سعود المدينة المنورة، ووضع أربعة أحجار في إحدى زوايا الجدار الغربي بالمسجد الشريف، وشكلت لجنة خاصة من كبار رجال المدينة، لتقدير أقيام العقار، وقد روعي في ذلك مصلحة أصحاب الأملاك. وبلغت مساحة الأراضي للدور والأملاك التي انتزعت ملكيتها للتوسعة والشوارع والميادين التي حول المسجد النبوي الشريف 22955 مترا مسطحا. وأنشئ من أجل العمارة مصنع مخصوص لعمل الأحجار الصناعية "المزايكو"، وزود بكافة الأدوات الميكانيكية، واختير له مكان في منطقة "أبيار علي" حيث جلب له مهندسون إخصائيون. وعمل تحت إشرافه أكثر من أربعمائة شخص، وعمل بالحرم الشريف أربعة عشر مهندسا، منهم اثنا عشر مصريا، وواحد من السوريين، وواحد باكستاني، وعمل تحت إشرافهم أكثر من مائتي صانع من المصريين والسوريين, وعدد من الباكستانيين والسودانيين واليمنيين والحضارمة، كما عمل معهم أكثر من ألف وخمسمائة عامل من السعوديين. وقد أنشئت ورشة خاصة بالمدينة، زودت بالمهندسين الميكانيكيين والصناع، وكلهم سعوديون؛ لأجل تعمير وإصلاح السيارات والآلات الميكانيكية التي تعمل بالعمارة الشريفة.

وهذه إحصائيات رسمية عن المشروع قبل وبعد البدء فيه: أمتار مربعة مساحة المسجد النبوي الشريف حينما بناه النبي صلى الله عليه وسلم 2475 زيادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1100 زيادة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه 496 زيادة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك 2369 زيادة الخليفة العباسي المهدي 2450 زيادة الملك الأشرف قايتباي 120 زيادة السلطان عبد المجيد العثماني 1293 المساحة الكلية للمسجد النبوي الشريف قبل التوسعة السعودية 10303 الزيادة التي بدأ بها الملك عبد العزيز رحمه الله وأتمها الملك سعود 6024 المساحة الكلية للمسجد بعد التوسعة الأخيرة 16327 عمارة التوسعة السعودية 6024 عمارة الأجزاء القديمة والتي هدمت وأعيد تعميرها وهي الجهات الثلاث 6247 مجموع العمارة السعودية 12271 مساحة الجهة القبلية الباقية في البناء القديم 4056 المجموع 16327 أما العمارة الجديدة فها هي ذي إحصائيات عنها: عدد الأعمدة المحيطة بالجدار 0474 عمودا مربعا عدد الأعمدة المحيطة المستديرة في العمارة الجديدة 0232 عمودا مربعا الجدار الغربي 0128 مترا طوليا الجدار الشرقي 0128 مترا طوليا الجدار الشمالي 0091 مترا طوليا

وترتبط المدينة بغيرها من البلاد بالطرق, وهذه هي المسافات بين المدينة وغيرها. إسكنر

تؤخذ اسكنر

تؤخذ اسكنر

تؤخذ اسكنر

تؤخذ اسكنر

جدة: تعتبر جدة الميناء الرئيسي للحجاز على البحر الأحمر، وهي ميناء مكة، والمسافة بينهما خمسة وخمسون ميلا، ويبلغ سكانها الآن حوالي مائتين وخمسين ألف نسمة. وقد كانت قضاعة أول من سكن جدة قبل الإسلام، ولم يجر اتخاذ مدينة جدة مرفأ تجاريا لمكة إلا في السنة السادسة والعشرين من الهجرة، في زمن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان -رضي الله عنه, فقد قدم في ذلك العام معتمرا من المدينة إلى مكة, فسأله أهلها أن ينقل ساحل مكة القديم من الشعبية1 جنوبي جدة الآن، إلى جدة لقربها من مكة، فخرج بنفسه ورآها واغتسل بها وأمر أصحابه أن يغتسلوا بها, ووصف الغسل من البحر بأنه مبارك. والشعبية تبعد عن جدة نحو اثنتي عشرة ساعة بحرا وست وثلاثين ساعة برا لراكب البعير. ومن هذه الحقائق التاريخية تظهر لنا حقيقة أولى، هي أن مدينة جدة لم تكن تخلو من الماء, فقد كانت بها آثار عذبة وإلا لما أمكن لقضاعة أن تسكنها قبل الإسلام، ولما أمكن للخليفة الثالث أن يوافق على جعلها مرفأ لمكة2. ولما قويت الدعوة الإسلامية وفتح الله على المسلمين بلادا كثيرة، وتغلغل الدين الإسلامي في النفوس ووفد المسلمون من كافة أقطار الأرض إلى هذه البلاد حاجين ملبين، كبرت جدة وتطورت على مرور الأيام, وأخذت أهميتها تظهر بكثرة الوافدين

_ 1 كانت الشعبية مرفأ مكة من قبل. 2 جاء في تاج العروس ج2 ص313: قال ابن الأثير: الجد -بالضم- شاطئ النهر والجدة أيضا, وبه سميت المدينة التي عند مكة جدة. قلت: وهي الآن مدينة مشهورة مرسى السفن الواردة من مصر والهند واليمن والبصرة وغيرها. واختلف في سبب تسميتها بجدة, فقيل: لكونها خصت من جدة البحر أي: شاطئه. وقيل: سميت بجدة بن جرم بن زبان؛ لأنه نزلها كما في الروض الأنف للسهيلي. وقيل غير ذلك، وقال البكري في المعجم: الصواب أنه هو الذي سمي بها لولادته فيها.

إلى مكة من الحجاج عن طريق البحر الأحمر، وبرواج التجارة في مكة، واتخاذ البحر في جدة طريقا لورودها بواسطة التجار الأحباش والرومان والفرس الذين يؤثرون ركوب السفن الشراعية لإلفهم إياها. وهذا التحول في مدينة جدة جعل سكانها أكثر تعدادا, ومرافقها أكبر من ذي قبل، فظهرت الحاجة إلى المياه لقلتها فيها من تلك القرون السحيقة. ولا شك أن الناس لم يتركوا مظنة وجود الماء في باطن الأرض إلا نقبوا عنها واستخرجوها؛ فكثرت الآبار، واختلفت بين العذوبة والملوحة، وبين الصفاء وغيره، واختلفت أماكنها. والآبار المطوية حول جدة تبلغ سبع آبار, هي: "بئر السلسلى" شرق جنوبي جدة، و"بئر الوزيرية" في الشرق وهي من وادي غليل, و"بئر مريخ" وهو مقابل للكندرة, و"بئر تنضب" وهو مقابل بني مالك, و"بئر الحفنة" شمالي بني مالك, و"بئر بريمان" شمال شرق بئر مالك. أما الآبار المحفورة فتبلغ خمس عشرة بئرا, وهي: السرورية، الحمزة، النشارية، القرينية، تمد "سليمان" عند البحر شرق جنوبي بريدة في طريق أبي صالحة، أبو سباع شرق جنوبي برود، القريبة، مويحة، أبو صالحة، الصحيفة، الشرقية، الضفارى، العسيلة. والحديث من هذه الآبار المحفورة هي: الصحيفة، والشرقية، وقد حفر الأولى منها المرحوم الشيخ عبد الله نصيف من أعيان جدة وتجارها، وحفر الثانية وأقام حواجزها من العقوم المرحوم حميد الشيخ المالكي. وكان هذا خلال القرن الثالث عشر الهجري، وإلى جانب الصحيفة صهاريج كثيرة لآل نصيف، وكل هذه الأماكن معروفة حتى الآن. وقد بلغ عدد الصهاريج ما يزيد على ثلاثمائة صهريج, لا كما قدره صاحب "مرآة الحرمين" بثمانمائة صهريج. وقد عمد أهل جدة مستعينين بالجالية الفارسية إلى بناء الصهاريج الكبيرة نظرا لقلة الماء، ويروي بعضهم أن أول بناء الصهاريج بها كان في عهد هارون الرشيد.

وقد أجرى السلطان الغوري لجدة عينا من وادي قوس شمالي الرغامة ووصل ماء هذه العين إلى جدة في أيام ثم انقطعت، وأعيد تعميرها على يد تجار جدة بزعامة التاجر المعروف الشيخ فرج يسر حوالي عام 1270هـ, وظلت جارية حتى انقطعت وغاض معينها ما بين عام 1310 و1320هـ. ومن عيون جدة عين الوزيرية، وهي مسحوبة من وادي غليل المعروف، ولكنها لم تصل إلى البلد إلا في عهد الوالي عثمان باشا نوري, فظلت جارية إلى عام 1314هـ ثم ضعفت وقل ماؤها. ولقد تكررت فيها الإصلاحات، وتوالى عليها التعمير، في عهد الحكومات السابقة، وفي هذا العهد أيضا لا زالت ضعيفة لنضوب ينابيعها. ولقد لجأت الحكومة العثمانية حينما رأت قلة الماء في جدة، إلى استيراد آلة لتقطير المياه من البحر "كنداسة" فوصلت إليها في عام 1325هـ. ولقد كانت هذه الكنداسة المورد الوحيد تقريبا لسقيا أهل جدة أيام حصار الجيوش السعودية لجدة سنة 1343-1344هـ, إذ إن الآبار التي حول جدة لم يكن يجرؤ على الذهاب إليها أحد للحصار المضروب على البلدة، فكانت الحاجة إليها شديدة جدا. وقد استوردت الحكومة الحالية آلتين كبيرتين لاستخلاص المياه العذبة في عام 1336, وقد كانت سقيا البلدة في الأعوام الأخيرة من هاتين الآلتين ومن ماء الوزيرية الذي كان يكثر أحيانا ويقل أحيانا حتى خربت إحدى الآلتين. وفي أوائل عام 1365هـ حينما رأى أهل جدة ما حَلّ بمدينتهم من الظمأ، فكروا في استجلاب المياه من إحدى العيون إلى جدة على نفقتهم الخاصة، وأقاموا لذلك حفلا عظيما سارع الناس إلى الاكتتاب فيه. وقد بلغ المبلغ الذي جمع ما يزيد عن نصف مليون من الريالات. ثم إن جلالة الملك عبد العزيز أمر بجلب الماء إلى جدة مهما كلف من مال في أقصر زمن, فأعيد للناس ما دفعوه من تبرعات. وجرت المفاوضة مع أصحاب العيون في وادي فاطمة, واشتريت منهم وجبات في ثمانٍ من العيون، هي: الخيف, الروضة, البرقة, أبو عروة, الحسنية, الجموم, أبو شعيب, الهنية.

وبدأ العمل في ذلك في منتصف عام 1365هـ, وأحضر المهندسون والخبراء من إنجلترا ومصر، وجلبت الأنابيب من إنجلترا وهي من الأسبستوس والأسمنت حتى وصل الماء إلى جدة يوم الجمعة غرة المحرم عام 1367هـ, وكان يوم فرحة كبرى وسرور عام في مدينة جدة بأسرها. وفي يوم الثلاثاء الخامس من شهر محرم عام 1367هـ جرى احتفال كبير بوصول الماء إلى جدة. وبجدة قبر ينسب إلى حواء أم البشر، وقد كان الحجاج يزورون هذا القبر ويتبركون به. وقد هدمت الحكومة القبة الموضوعة على القبر كما أزالت البنيان الذي على القبر, ومنعت الناس من التمسح به، ولقد زار ابن جبير الأندلسي جدة في "سنة 579هـ" فذكر بعض آثار جدة، ومنها الموضع الذي شيد عليه "قبة عتيقة" يقال: إنه كان منزل حواء أم البشر عند توجهها إلى مكة. وقد كانت جدة مدينة مسورة أقام سورها السلطان الغوري في القرن العاشر الهجري, ولكن هذا السور قد هدم منذ بضع سنوات لاستبحار العمران. ويدعى الباب المواجه للجنوب باليمني، والباب الذي يواجه مكة المقدسة "باب مكة", والذي يواجه الشمال "باب المدينة", ويحيط بجدة قرى صغيرة في الشمال والجنوب أكثرها مؤلف من بيوت صغيرة وأكواخ يسكنها البدو والجمالون وكثير من الزنوج, وقد تلاشى أكثرها لتحل محلها العمارات و"الفيلات" الجميلة. وقد استفاض العمران بمدينة جدة حتى وصل إلى الكيلو "14" في طريق مكة, قريبا من "أم السلم" ومن ناحية طريق المدينة إلى ما بعد "الرويس". وبجدة ميناء بحري وآخر جوي, وهما يستقبلان عشرات الألوف من الحجاج جوا وبحرا كل عام. ورصيف الميناء البحري الحديث يقع على بعد ميل واحد من دائرة الجمرك "الكرنتينة" القديمة وهو يمتد إلى 32 قدما من الماء في المد المنخفض عند رأس الرصيف, و100 قدم بـ 560 قدما، ويمكن رسوّ باخرتين على جانبيه. وطول الطريق المردوم 5500 قدم، والمساند الحديدية

على جوانب الرصيف طولها 2243 قدما، وعرض الطريق 24 قدما، وفي الرصيف مكاتب حديثة للجمارك, وفي الجهة الشمالية توجد المستودعات، وفي الجهة الجنوبية أماكن خاصة بالحجاج, كما توجد أيضا مكاتب لموظفي خفر السواحل والجوازات. ويوجد في وسط بناء الجمرك منارة لتسهيل دخول الميناء. وقد أنشئ محجر صحي جديد بجدة. وفي يوم الثلاثاء 21 من شعبان 1375هـ الموافق 13/ 4/ 1956م جرى افتتاحه، ويعتبر من أعظم المحاجر الصحية في الشرق الأوسط، وتحتوي مدينة الحجر على 150 مبنى وشيدت على مساحة 22800 متر مسطح. وتعتبر جدة خلية حية للنشاط التجاري تقوم فيها المراكز الرئيسية للبنوك والمؤسسات المالية والأجنبية والأهلية، وتتفرع فروعها في المدن الأخرى. هذه هي جدة التي تنمو نموا كبيرا مطردا، حتى ليقدر عدد سكانها اليوم بأكثر من "120" ألف نسمة، على حين قدر بعض المؤرخين هذا العدد منذ عشر سنوات بحوالي ثلاثين ألفا. الطائف: هي مصيف الحجاز، تقع على ارتفاع 5100 قدم فوق سطح البحر، وهي مدينة واقعة في سهل رملي محاط بتلال منخفضة، وتبعد عن مكة نحو الجنوب الشرقي بمقدار 75 ميلا، وجوها معتدل. وقد قلت فيها المياه إلا أنها منذ بضع سنوات أصبحت شحيحة، والأمطار تسقط فيها في الخريف، وأغلب سكانها من ثقيف وعتيبة، ويعملون في زراعة البساتين والخضر. وتمتاز الطائف بفواكهها من العنب والرمان والخوخ والليمون والمشمش والسفرجل، وتنمو فيها أزهار الورد. والطائف قديمة النشأة، وتشبه مدن الشام في الجو. وكان من ساداتها في عصر النبوة أبناء عمر بن عمير بن عوف الثقفي: عبد ياليل ومسعود وحبيب. ومن شعرائها: أمية بن أبي الصلت، وأبوه أبو الصلت. ومن ساداتها كذلك عروة بن مسعود الثقفي.

وفي الطائف مسجد ابن عباس, ويقوم حيث كان يقوم جيش المسلمين الذين حاصروا الطائف في عهد الرسول -صلوات الله عليه- ويجاور قبور الصحابة الذين استشهدوا في هذا الحصار, إذ تقع القبور في مكان مسور بجوار المسجد من ناحية الشمال. وقد دفن ابن عباس بمسجده، وتوفي عام 68 هـ. ومن ضواحي الطائف الحديثة: قروة، وشبرا، ونجمة، وبجوار المدينة تقع بادية الطائف المترامية الأطراف وبالقرب من المدينة وادي وجّ الذي يمر بقرية المثناة منحدرا إلى ناحية الطائف. ومن الوديان حولها وادي السداد, وفي القرب منها سد السملحى، وهذا السد أضخم سدود الطائف. وتشتهر الطائف بفاكهتها وبصنع البسط والسجاجيد والمعاطف التي تشبه البطانيات, وتسمى "البيدى".واتساع العمران وزيادة السكان ملحوظ في الطائف مما أدى إلى قلة مياه الشرب؛ ولذلك أقيمت السدود حولها، ومنها سد عكرمة على وادي وجّ. وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان, وهي من المدن الجاهلية القديمة، ويقال: إنها كانت تعرف قديما بوجّ، وقد عثر فيها على كتابات ثمودية, وتحيط بالطائف أودية كثيرة تسيل فيها الأمطار في موسم السحب، وحولها عيون ومياه وبها آبار كثيرة. وكان أكثر سكانها عند ظهور الإسلام من ثقيف، وكان لهم بها صنم كبير يسمى اللات. وهذه هي المسافات بين الطائف وجدة. اسكنر

ينبع: الميناء الثاني للحجاز بعد جدة، وسكانها اليوم نحو عشرة آلاف نسمة، وتعد ميناء المدينة، وبينها وبين المدينة 131 ميلا، وحواليها وادي ينبع، وإلى الشمال منها قرية أملج، وبين ينبع وميناء الوجه 186 ميلا. وهذه هي المسافات بين جدة, ينبع, المدينة: جدة, ينبع, المدينة إسكنر

الوجه: من موانئ الحجاز على البحر الأحمر، وتقع على هضبة مرتفعة تواجه البحر وتطل عليه، وميناؤها عميق الغور يتسع للبواخر التي تبلغ حمولتها 1500 طن، وتفرغ حمولة الباخرة بوساطة السفن الشراعية "السنابيك" التي تنقل حمولة الباخرة إلى الشاطئ، وفي الوجه صرح له تاريخ حافل، وكان قد اتخذه "تي. إي. لورنس" مركز قيادته في أثناء الثورة العربية التحريرية في الحرب العالمية الأولى، وينقل الماء إلى الوجه من آيار التي تبعد نحو ميل عن الداخل، وعلى بعد نحو تسعة أميال إلى الشرق توجد أم قريات القديمة التي عمل فيها الملك داود كما تدل على ذلك الآثار. وتفكر النقابة العربية السعودية في إمكان فتح المناجم القديمة في هذه الجهات, إلا أن البحث أثبت عدم فائدة ذلك الاستغلال. والوجه صالح لاستعماله قاعدة جوية، وقد مهدت أرضها لنزول الطائرات فيها. وفي شرق الوجه بعدة أميال قلعة مصرية قديمة أقيمت في طريق الحج. وهي على نمط أبنية القرون الوسطى، وكانت معدة لإقامة الجنود فيها لحماية الحجاج من قطاع الطريق. الجوف: هي المدينة الرئيسية وسط منطقة زراعية كبيرة واقعة إلى شمال النفود على رأس وادي السرحان، والواحة واقعة في منخفض يقع نحو 500 قدم تحت سطح الصحراء المحيطة بها، وتوجد واحات صغيرة أخرى تابعة لواحة الجوف واقعة إلى الشمال الشرقي منها, وهي: سكاكة، وقارة، والطوير، وجاوة. وسكاكة هي الأكبر, ومزارع النخيل فيها تكثر جدا حتى إنها تفوق تلك التي في جوف نفسها. ويبلغ طول واحة الجوف نحو 3 أميال في نصف ميل عرضا، وهي تمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وكلها حدائق وبساتين, وبها نحو 12 قرية، وبها نحو 400 منزل. وموقع الجوف الجغرافي مهم جدا؛ لأنه يقع على الطريق المباشر بين سوريا ووسط بلاد العرب، وهي منفصلة، إذ تقع في المنتصف ما بين الفرات وطريق

الحجاز الحديدي، وبين جبل شمر وجبل الدروز، وعلى بعد نحو 300 ميل من كل من هذه المواقع, وهي الواحة الوحيدة ما بين العقبة وبغداد1. وأهم غلات الجوف: القمح والشعير والتمر وهو من أجود الأنواع, والفواكه كالبطيخ والعنب. وفي منطقة الجوف تكثر النعام والغزلان والحمر الوحشية2. وكانت مدينة الجوف تسمى قديما دومة الجندل. وروى ابن سعد نقلا عن بعض أهل الحيرة في سبب بنائها وتسميتها: "أن أكيدر صاحبها وإخوته كانوا ينزلون دومة الحيرة, وكانوا يزورون أخوالهم من كلب فيتغربون عندهم. فإنهم لمعهم وقد خرجوا للصيد إذ رفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلا بعض حيطانها، وكانت مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا فيها الزيتون وغيره، وسموها دومة الجندل تفرقة بينها وبين دومة الحيرة"3. وكانت قبائل العرب في الجاهلية تنزل هذه السوق في أول يوم من ربيع الأول للبيع والشراء، على ما سنذكره في حينه4.

_ 1 جزيرة العرب في القرن العشرين ص76. 2 جغرافية البلاد العربية "لصلاح البكري" ص70. 3 أسواق العرب ص195، 196. 4 المرجع السابق ص199.

وهذه هي المسافات بين الجوف والعلا وغيرهما: يؤخذ اسكنر

يؤخذ اسكنر وهذه كذلك المسافات بين قريات الملح والعلا وبينها وبين العقبة: إسكنر

إسكنر تبوك: تقع تبوك على خط السكة الحديد الحجازية. قال ياقوت: تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر. وهو حصن به عين ونخل وحائط ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيها غزوة تبوك المشهورة سنة تسع للهجرة، وسميت تبوك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد اثنين من رجاله يدخلان أسهمهما في نبع شحيح ليفرز الماء، فقال لهما: "ما زلتما تبوكان منذ اليوم"، فسميت تبوك. والبوك: إدخال اليد في الشيء وتحريكه. وقال القرماني: "تبوك: عين ماء ونخيل، وبنى بها السلطان سليمان العثماني برجا، وأسكن فيها عشرين نفرا من الإنكشارية لحفظ العين". وتشمل تبوك بوصفها إمارة في العهد الحاضر، القبائل المقيمة في أطرافها، كالحويطات وبني عطية، وسكانها اليوم أكثر من ألف نسمة. العقبة: تقع على الشاطئ الشرقي من خليج العقبة، قريبا من رأس الخليج، وبها قلعة قديمة على شكل مربع، وبها بساتين ومزارع نخيل. وفي الحرب الحجازية الأخيرة ضُمت العقبة ومعان إلى شرقي الأردن. وتعرف العقبة قديما باسم أيلة ولها تاريخ قديم، وأشار إليها القرآن الكريم بقوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . وللأسف توجد القوات البريطانية فيها مهددة سلامة البلاد العربية.

السلالات البشرية في الحجاز في القديم والحديث: الشعب العربي أقسامه: العرب من الشعوب السامية، التي انحدرت في الأصل من سام بن نوح، وهذه الشعوب تشمل الأحباش والفينيقيين والبابليين، وقد جرت عادة المؤرخين من العرب على تقسيم الشعب العربي إلى: بائدة وباقية، والباقية إلى: عاربة وهم القحطانيون, ومستعربة أو متعربة وهم الإسماعيليون أو العدنانيون. وعلى ذلك فهم ثلاث طبقات: بائدة وعاربة ومستعربة، وبعضهم يسمي البائدة عاربة أو عرباء، والقحطانيين متعربة، والإسماعيلية مستعربة: 1- العرب البائدة: فهم الذين انقرضت قبائلهم، وضاعت أخبارهم إلا ما قصته الكتب السماوية أو حفظته الآثار، ومنهم: عاد التي كانت تسكن الأحقاف كما سبق, وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية، وثمود التي كانت تنزل الحجر "مدائن صالح" شمالي خيبر، وقد أهلكوا بالطاغية الصاعقة أو الرجفة، وطسم وجديس باليمامة، والعمالقة بالحجاز وتهامة ونجد والشام ومصر. ويضرب بطول قامتهم المثل، ويرى بعض المحدثين من المؤرخين أن الدولة الحمورابية من العرب البائدة. 2- القحطانيون: وأما العرب المتعربة فمنهم أبناء يعرب بن قحطان الذين سكنوا اليمن بعد المعينيين، ويعرب هذا هو الذي يزعمون أنه أول من نطق بالعربية؛ لأن لسان أبيه كان سريانيا، أي: إنه أول الناطقين بها من هذا الجيل, إذ سبقه بها العرب البائدة وعنهم أخذها. وكما يسمى هؤلاء القحطانيين يسمون اليمنيين، والحميريين، والسبئيين.

3- العدنانيون: وأما العرب المستعربة، ويسمون العدنانيين والنزاريين والحجازيين والإسماعيليين، فينتهي نسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- أنزله أبوه بمكان الكعبة طفلا {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ... } الآية وتركه وأمه هاجر "المصرية" هناك, وقد ماتت أمه بعد أن شبَّ. ونزل بالقرب منهم جماعة من جرهم الثانية، نشأ بينهم إسماعيل وتعلم لغتهم وأصهر إليهم، ورزق أولادا كثيرين، طردوا الجرهميين فيما بعد. ولذلك, ولبعد الشقة بين منازل الإسماعيليين والقحطانيين، اختلفت اللغتان: لغة الحجاز ولغة اليمن، حتى جدّت عوامل الاختلاط فتقاربتا، ثم توحدتا في لغة القرآن الكريم. ويبدأ تاريخ الحجازيين في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وهم وإن انتهى نسبهم إلى إسماعيل عليه السلام، إلا أن عمود نسبهم الصحيح ينتهي إلى عدنان، فأما ما وراءه من الآباء فقد اختلف فيه النسابون اختلافا كبيرا, فيعدون من خمسة عشر إلى أربعين أبا، وبين إسماعيل وسام آباء كثيرون لا يعلمهم إلا الله. أشهر القبائل القحطانية والعدنانية: اضطرب الكلام في قبائل العرب وأنسابهم اضطرابا كبيرا، دعا كثيرا من الباحثين إلى الارتياب في صحة هذه الأنساب، لكن العرب المتأخرين قد تلقوا ما تُنُوقِل منها بالقبول، واعتمدوا عليه في مفاخراتهم ومنافراتهم، وتمادحهم وتهاجيهم، واستغل الخلفاء فيما بعد هذه العصبيات في توطيد ملكهم وتوهين خصومهم، فلم يبق لنا بد من تعرفها، حتى نستطيع أن نفهم أسس تلك المفاخرات والأشعار, ومنشأ حروبهم وتحزبهم. والعرب بطبقاتهم الثلاث يرجعهم النسابون إلى سام بن نوح، وهذه سلسلة نسبهم، وهي تبين لك أشهر قبائل كل طبقة من طبقاتهم: أشهر الشعوب القحطانية: كهلان وحمير: 1- وقد تفرع من كهلان قبائل: كندة باليمن ونجد، وعاملة شمال الشام, ومذحج باليمن، ومراد، وهمدان بها أيضا, وجذام على خليج العقبة, وهم أول

من نزل مصر من العرب لقربهم منها، ولخم "ومنهم المناذرة ملوك الحيرة"، وطيئ بأجا وسلمى، والأزد، ومنها: الأوس والخزرج سكان المدينة، وغسان ملوك الشام. 2- وأما حمير: فقد نسل قضاعة، وذهب بعض النسابين إلى أن قضاعة عدنانية. والمشهور من قبائل قضاعة: بلى شمالي الحجاز، وجهينة كذلك، ومن قراهم ينبع، ولهم بقايا بالصعيد، وكلب ببادية الشام، وعذرة بأعالي الحجاز، وإليهم ينسب الهوى العذري، وتنوخ قرب المعرة. وأما العرب الإسماعلية: فأشهر شعوبهم ربيعة ومضر. ومن نسل ربيعة: وائل وبكر وتغلب. وأما مضر، فيقال لها: مضر الحمراء، وفيها يقول الشاعر: إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم وأشهر أبنائه: إلياس وقيس عيلان، وأشهر قبائل قيس: عدوان بالطائف، وغطفان، ومن غطفان: عبس وذبيان. وتقطن قبيلة غطفان شرق المدينة وشمالها، بحيث تتصل بلادها شرقا بالقصيم من نجد، وشمالا في حرار خيبر وأوديتها، ويجاورها جنوبا بنو سليم الذين تقع بلادهم بقرب المدينة, ممتدة على أطراف جبال الحجاز، وحراره الشرقية من شرق المدينة نحو الجنوب، حتى تتصل ببلاد بني عامر من قيس عيلان. وهوازن بالحجاز، ومن هوازن: ثقيف بالطائف، ومن قيس: باهلة باليمامة، ومن مضر أيضا: طابخة، ومن نسل طابخة: ضبة وتميم.

يؤخذ اسكنر

يؤخذ اسكنر

يؤخذ اسكنر

السلالات الحجازية القديمة في مكة: يقال: إن العمالقة كانوا أول من سكن مكة، ثم خلفتهم قبيلة جرهم الثانية، وفي عهدهم نزل إسماعيل وأمه بوادي مكة، وصاهرهم إسماعيل، ولما مات، تولى البيت نابت أكبر أولاده، ثم تولى ولاة من جرهم استمرت ولايتهم إلى سنة 207م, كما ذكر سديو. ولبثت ولاية البيت في جرهم حتى عظمت شوكتهم، وقوي نفوذهم، وعاثوا فسادا في الحجاز، واستحلّوا أموال الكعبة، واضطهدوا حجاج بيت الله. ثم قدمت خزاعة من اليمن بعد سيل العرم، وتفرق سبأ على أثره، فأجلت جرهما، وانتزعت منها السيادة، إذ عرج على مكة بنو حارثة بن عمرو الملقب خزاعة، فاستعان بنو حارثة بكنانة فغلبهم بنو حارثة، وكان رئيسهم يومئذ عمرو بن لحي، واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة، وهم الذين أدخلوا عبادة الأصنام والأوثان إلى مكة. ولما قويت قريش وكثر نسلهم، نازعوا خزاعة السلطان، وتغلبوا عليها في القرن الخامس الميلادي، واستولى قصي بن كلاب على مكة, والبيت الحرام سنة 440م. وأخذ مفاتيح الكعبة من يد خزاعة، وأجلاهم عن مكة، وبذلك انتقلت السيادة إلى قريش، وتوارث القرشيون حكم مكة بما كان لهم من العصبية والشرف والمجد. ومن ذلك ترى مدى امتزاج السلالات العربية، التي حكمت مكة منذ القديم إلى أن انتهى الأمر إلى قريش سلالة إبراهيم وإسماعيل، وأصل النسب النبوي الشريف1.

_ 1 راجع كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسي المتوفى عام 833هـ"، تحقيق خفاجي وعبد الجبار والفلالي, نشر مكتبة النهضة الحديثة بمكة لصاحبها عبد الشكور وعبد الحفيظ فدا.

السلالات العربية القديمة في المدينة: أما المدينة، فيقال: إن أول من نزلها هم العمالقة1، ثم هاجرت إليها سلالات من اليهود من فلسطين بعد هجوم الدولة الرومانية على بلاد فلسطين في القرن الأول قبل الميلاد. ثم بعد حرب اليهود والرومان عام 70م، هذه الحرب التي انتهت بخراب فلسطين وبتشتيت اليهود في أصقاع العالم، وقد تكاثر عدد اليهود والنازحين منهم إلى المدينة، وظهر منهم عدة قبائل، أشهرها: قريظة والنضير. ثم نزل المدينة بعد ذلك، إثر سيل العرم، الأوس والخزرج، واستوطنوها، وأقاموا مع اليهود، وعاشوا في ضنك وإذلال من اليهود، وكان على اليهود رئيس مستبد، استبد بالنازحين، فاستجاروا بالتبابعة في رواية، وبالغساسنة في رواية أخرى فجاءوا لنصرتهم. فكانت بين الفريقين حرب انتهت بقتل زعماء اليهود وأشرافهم، وأصبح الأوس والخزرج بعد ذلك أعز أهل المدينة، وتحالفوا مع اليهود، ثم دبّ الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا الشرف والسيادة. وقامت بينهم حروب وأيام طاحنة، من أشهرها: يوم بعاث، ويوم سمير، ويوم حاطب، ويوم السرارة, مما سنذكره تفصيلا في الفصول التالية. وهكذا نجد كذلك سلالات عديدة تمتزج وتكون شعب المدينة الحجازي2.

_ 1 يقول أبو الفرج الأصفهاني في الجزء 11 من الأغاني: كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قوما من الأمم الساحقة يقال لهم: العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكان ملك الحجاز منهم, ويقال له: الأرقم، ينزل بين تيماء وفدك. وكانوا قد ملئوا المدينة, ولهم نخل كثير وزرع، ثم بعث موسى إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل, فقدم الجيش الحجاز فأظهرهم الله على العماليق، واستقر جماعة من الجيش بالمدينة، فكان ذلك أول سكنى اليهود بالمدينة. 2 راجع كتاب الدرة الثمينة بأخبار المدينة لابن النجار, طبع القاهرة.

عرب الطائف في العصر الجاهلي: الطائف من مدن الحجاز وحواضره، وتمتاز بجوها البديع وحدائقها وفاكهتها كما سبق، وقد أقام بها العرب في العصر الجاهلي، وكان أهلها من عدوان الذين منهم عامر بن الظرب العدواني، حكم العرب في العصر الجاهلي، وكان عددهم يقارب السبعين ألفا، ولكن الخصومات بينهم أدت إلى حروب شديدة، مات فيها الكثير، وكان قصي بن منبه -وهو ثقيف- صهرا لعامر بن الظرب، فلما ضعف أمر عدوان تغلب عليهم ثقيف، وهم فرع من هوازن1. وقد روى البكري عن هشام الكلبي في سبب تسمية ثقيف بهذا الاسم، وما كان من نزول منبه بن بكر بن هوازن، وهو ثقيف بالطائف، رواية طويلة لا داعي لذكرها في هذه العجالة2. وكان ممن نزل بنواحي الطائف: عامر بن صعصعة، حيث نزلوا بجوار أصهارهم عدوان بن عمر بن قيس. ثم لما تفرقت عدوان، وحارب بعضهم بعضا، طمعت فيهم بنو عامر وأخرجتهم من الطائف, غير أن ثقيفا أخذتها من عامر لتزرعها، على أن يكون لها النصف بعملها فيها، وللعامريين النصف بحقهم في البلاد. ولبثوا على ذلك زمانا حتى كثرت ثقيف، وحصنوا الطائف، وبنوا عليها حائطا يطيف بها، فسميت الطائف3. المضريون في الحجاز: القبائل المضرية في الحجاز في العصر الجاهلي: لم تزل مضر بن نزار، بعد خروج ربيعة من تهامة، مقيمة في منازلها من تهامة وما والاها، حتى تباينت قبائلهم، وكثر عددهم وفصائلهم، وضاقت

_ 1 ابن خلدون 2/ 237, 338 العرب قبل الإسلام لجورجي زيدان ط 1939. 2 راجع 64، 66، 67 جـ1 البكري، وص14-16/ 1 تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم. 3 راجع 77 و78/ 1 معجم ما استعجم للبكري 16/ 1 تاريخ الإسلام.

بلادهم عنهم، فطلبوا المتسع والمعاش، وتتبعوا الكلأ والمرعى والماء، وتنافسوا في المحال والمنازل، وبغى بعضهم على بعض، فاقتتلوا، فظهرت خندف على قيس، وظعنت قيس من تهامة طالعين إلى بلاد نجد، إلا قبائل منهم, فانحازت إلى أطراف الغور من تهامة. فنزلت هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ما بين غور تهامة إلى ما والى بيشة، وترجا، وناحية السراة، والطائف, وذا المجاز، وحنينا، وأوطاسا وما صاقبها من البلاد. وهوازن من القبائل العربية الكبيرة، وكانت مساكنها، كما ذكرنا في مواضع متعددة، من نجد -على حدود اليمن- وفي الحجاز. ثم تنافس أولاد مدركة وطابخة ابني إلياس بن مضر في المنازل، وتضايقوا فيها، ووقعت بينهم حرب، فظهرت مدركة على طابخة، فظعنت طابخة من تهامة، وخرجوا إلى ظواهر نجد والحجاز. وانحازت مزينة بن أد بن طابخة، إلى جبال رضوى، وقدس، وآرة وما والاها، وصاقبها من أرض الحجاز. وأقامت قبائل مدركة بناحية عرفات، وعرنة، وبطن نعمان، ورجيل، وكبكب، والبوباة، وجيرانهم فيها طوائف من أعجاز هوازن. وكانت لهذيل جبال من جبال السراة, ولهم صدور أوديتها وشعابها الغربية. ومسايل تلك الشعاب والأودية على قبائل خزيمة بن مدركة في منازلها، وجيران هذيل في جبالهم: فهم، وعدوان، ابنا عمرو بن قيس عيلان. ونزلت خزيمة بن مدركة أسفل من هذيل بن مدركة. واستطالوا في تلك التهائم إلى أسياف البحر، فسالت عليهم الأودية التي كانت هذيل في صدورها وأعاليها، وشعاب جبال السراة التي هذيل سكانها، فصاروا فيما بين الشاطئ وجبال السراة الغربية. وأقام ولد النضر بن كنانة بن خزيمة حول مكة وما والاها، بها جماعتهم وعددهم، فكانوا جميعا ينتسبون إلى النضر بن كنانة. وأقام ولد فهر حول مكة، حتى أنزلهم قصي بن كلاب الحرم، وكانت مكة ليس بها أحد. قال هشام: قال الكلبي: كان الناس يحجون ثم يتفرقون,

فتبقى مكة خالية، ليس بها أحد, فقريش البطاح من ولد فهر: من دخل مع قصي الأبطح، وقريش الظواهر، من ولد فهر: تيم الأورم بن غالب بن فهر ومعيص بن عامر بن لؤي، ومحارب والحارث ابنا فهر، فهؤلاء قريش الظواهر، وسائر قريش أبطحيون، إلا رهط أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- وهم بنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، ورهط سهل وسهيل ابني البيضاء، وهم بنو هلال بن ضبة بن الحارث بن فهر, فإنهم دخلوا مع قصي الأبطح فهم أبطحيون. فهذا ما كان من حديث افتراق معد ومنازلهم التي نزلوها، ومحالهم التي حلوها في الجاهلية، حتى ظهر الإسلام1. القبائل العربية في الحجاز حين نزول الإسلام: قبائل تنزل بالحجاز: وجاء الله -عز وجل- بالإسلام، وقد نزل الحجاز من العرب: أسد، وعبس2، وغطفان، وفزارة، ومزينة، وفهم، وعدوان، وهذيل، وخثعم، وسلول، وهلال، وكلاب بن ربيعة. فطيء -وأسد وطيء حليفان-وجهينة، نزلوا جبال الحجاز: الأشعر، والأجرد، وقدسا, وآرة، ورضوى، وأسهلوا في بطن أضم. ونزلت قبائل من بلي شغبا وبدا، بين تيماء والمدينة, ونزلت ثقيف وبجيلة حاضرة الطائف، ودار خثعم، من هؤلاء: تربة وبيشة وظهر تبالة، على محجة اليمن، من مكة إليها، وهم مخالطون لهلال بن عمرو, وبطن تبالة لبني مازن. ودار سلول في عمل المدينة، ومنازل أزد شنوءة

_ 1 راجع معجم ما استعجم ج1 ص87-89. 2 أسد وعبس نزلتا في نجد، فأسد كانت مجاورة لطيء ومحالفة لها، ومنازلها في شمال القصيم، وعبس كانت تنزل أعلى القصيم، ومن غطفان قسم كبير استوطن نجدا على ضفاف وادي الرمة, كبني عبد الله بن غطفان وغيرهم. "راجع عن تفصيل منازل هذه القبائل كتاب لغدة الأصفهاني" مخطوط. ويرى الأستاذ حمد الجاسر أن قبيلتي عبس وأسد لم تنزلا بالحجاز حين مجيء الإسلام.

السراة، وهي أودية مستقبلة مطلع الشمس بتثليث وتربة وبيشة، وأوساط هذه الأودية لخثعم، على ما تقدم، وأحياء مذحج. وهذه الأودية تدفع في أرض بني عامر بن صعصعة, ومن بقي بأرض الحجاز من أعجاز جشم ونصر بن معاوية, ومن ولد خصفة بن قيس، فهم بالحرة، حرة بني سليم، وحرة بني هلال، وحرة الربذة إلى قرن وتربة، وهم مخالطون لكلاب بن ربيعة، هؤلاء كلهم من ساكني الحجاز1. بنو عذرة: ومن عرب الحجاز: بنو عذرة, وتقع منازلهم في أعالي الحجاز، في جوار عدد من قبائل "قضاعة" وهي: نهد، وجهينة، وبلي، وكلب، وتقع أرضها في جوار غطفان، ومن مواضعها: وادي القرى، وتبوك حتى أيلة. وكانت لبني عذرة صلات بقبيلة قريش، وكان ساعدة بن رزاح أخا من الأم لقصي. كما كانت لهم صلات بالأوس والخزرج، فوالدة الأوس والخزرج عذرية، فهي قيلة بنت كاهل بن عذرة. ومن بطون هذه القبيلة: بنو ضبة، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو الجلحاء، وبنو حروش، وبنو جن، وبنو مدلج على رأي بعض النسابين، وبنو رفاعة, وبنو كثر، وبنو صرحة، وبنو حرام، وبنو نصر، وبطون أخرى يذكرها النسابون. أشجع: ومن القبائل الحجازية: أشجع، وتقع مواطنها بضواحي يثرب، وكانوا حلفاء للخزرج، وقد ساعدوهم في يوم بعاث، وكان بينهم وبين سليم بن منصور يوم في موضع "الجر". ومن بطون أشجع: بكر، وسبيع، ومن سبيع: حلاوة، وهفان، وفتيان، وقنفد، وذبيان2.

_ 1 راجع كتاب: معجم ما استعجم ج ص90. 2 سبائك الذهب 35، تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 316/ 4.

هذيل: وبين مكة والمدينة تقع منطقة هذيل، وتعرف باسم سراة هذيل. وهي موطن قبيلة هذيل، التي تنتسب إلى هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي أخت قبيلة "خزيمة" وكانت تجاور قبيلة بني سليم وكنانة، وقد اشتهرت بشعرائها وصفاء لغتها؛ ولذلك احتج اللغويون بكلامهم، وكانت هذيل مع قريش في أثناء حملة "أبرهة" على مكة، وكانت تعبد "سواع"، وكان بموضع "رهاط"، وكذلك عبدت "مناة" وكان موضع هذا الصنم في "قديد"، ومن أشهر بطون هذيل: بنو لحيان، وبنو دهمان، وبنو عادية، وبنو ظاعنة، وبنو خناعة. اختلاط العناصر في الحجاز: كان عمر بن الخطاب ينادي في الحجاج، بعد أداء مناسكهم: "يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم". وكان يرمي بهذه القولة، صرف الأجناس المختلفة عن الإقامة بالحجاز لأسباب كثيرة, منها: أن الحجاز كان وما زال آمنا من عدوان المعتدين وإغارة المغيرين. ومن الخير أن يعود أهل كل مصر إلى مصرهم؛ ليحافظوا عليه، ويردوا عنه غارة المغيرين عليه، من كل من تسول له نفسه الإغارة على البلاد التي ظللها الإسلام. ومن الأسباب أيضا: المحافظة على أخلاق الحجازيين، وعاداتهم، وتقاليدهم، والمحافظة أيضا على أرزاقهم. فأسباب العيش في الحجاز محدودة؛ إذ إن الحجاز ليس بلدا زراعيا، ولا بلدا صناعيا كما هو الحال في غيره من الأمصار. وقد استطاع الحجاز بسياسة عمر الواقعية، الاحتفاظ بكل مقوماته، وبعد أن انحرف الحكام عن سياسة عمر، بدأ سيل المهاجرين يغمر الحجاز، وكان أغلب المهاجرين في العصر الأموي من الصناع وأرباب الحرف المختلفة، وفي النادر من كان يهاجر إليه؛ للانقطاع عن الدنيا، والانصراف للعبادة. أما في العصور الأخيرة، فبعد أن استفحلت شرور الاستعمار، أخذ المسلمون يهاجرون إلى الحجاز من بلادهم؛ للمحافظة على دينهم وتقاليدهم، فامتلأت

مدن الحجاز بسيل جارف من الأجناس المختلفة، حتى رأينا فيه جموعا غفيرة من الفرغانة، والقشغر، والخوتان، ورأينا الصيني، والأندونيسي, والمغاربة، والسودانيين، والنيجيريين، والحضرميين, وغيرهم. وما كانت هذه الهجرة لتضير الحجاز، لو أنها نظمت تنظيما يفيد البلاد، ويفيد المهاجرين. ويؤسفنا أن نقول: إن عدم الالتفات لتنظيم الهجرة، بما يتفق وحالة الحجاز وظروف معاشه، ترك الحجازيين والمهاجرين في بلبلة ذهنية وخلقية1 ومعاشية، الأمر الذي يستاء له كل مخلص لمهد العروبة وقبلة الإسلام. إن البعض يهون من شأن الهجرة، ولا يرى فيها ما نراه من هذا التبلبل الذي نخشى مغبته. ولكن إذا علمنا عدد البخاريين والتركستانيين، يزيد عن مائة ألف نسمة، ويضاهيهم في هذا العدد النيجيريون، ويقرب عدد الأندونسيين من ستين ألفا، وعدد المغاربة من عشرين ألفا، وعدد الهنود نحو عشرين ألفا أيضا، ومن الأجناس الأخرى مجتمعة أكثر من مائة ألف، كل هؤلاء مكدسون في مكة والمدينة وجدة، حيث يحلو لهم الإقامة فيها دون غيرها. إذا علمنا ذلك أدركنا مبلغ الأضرار التي تنجم من ذلك. وإن في الحجاز كثيرا من الواحات، وكثيرا من العيون المطمورة، والأراضي الصالحة للزراعة. وكل ذلك في حاجة إلى الأيدي العاملة، فلو وزعنا هؤلاء المهاجرين على تلك المناطق التي هي في حاجة إلى الإصلاح، وفي حاجة إلى الأيدي العاملة، لما أبيدت في بلادنا الثروات، من حيوانية ونباتية وغيرهما، ولما قاسى السكان ما يقاسون الآن ندرة الحيوانات، والخضراوات, والدواجن, ولوجدنا في هذه الأيدي العاملة -أيدي المهاجرين- ما يوفر

_ 1 ومن الأمثلة العالية التي كانت في أخلاق الحجازيين: أن الجار يحترم جاره ويصون جواده, ويعطف عليه ويواسيه، ويفتقده ويسأل عنه. وقبل خمسين سنة كان صاحب الدكان إذا استفتح "بزبون" وجاءه زبون آخر، فإنه يبعثه ليشتري من جاره الذي لم يستفتح بعد، وكان المطوف إذا جاءه حجاج، ولم يأت لصديقه أو لجاره حجاج، فإنه يبعث إليه من عنده طائفة الحجاج الثانية التي ترد إليه.

للبلاد ما هي في حاجة إليه، ولما عرفنا هذه الأزمة، في المنازل، وارتفاع أجورها ارتفاعا يعجز عنه الأهلون والمهاجرون على السواء. وقد نجم عن هذه البلبلة في العناصر، والهجرات العديدة إلى الحجاز: اضطراب في الأخلاق، وفساد في الألسنة، وضعف في العصبية العربية، واستهانة بالأخلاق الإسلامية الأصيلة من تعاطف وتعاون ومحبة.

القبائل الحجازية في العصر الحاضر: بلي: مقر بلي جنوبي حويطات التهم, وتمتد منازلها إلى جهة الشرق حتى محطة دار الحمراء, ولبلي فروع عديدة منها: المعاقلة، الرُّمُوط، الفواضلة، الزَّبَالة، الشَّامَات، الكوبين، الرُّبَطة، الوايصة، الحُرُوف، الوُحَشة، العِراضات, السَّهامة. وكان كبير بلي ابن رفادة, الذي مقره الوجه وأطرافه. ثمالة: قبيلة حجازية إلى جنوب الطائف، وهي من الأزد. ثقيف: قد اختلف كثيرا في نسب ثقيف, والمعول عليه أنها من هوازن التي منها الشيابين أحد أفخاذ عتيبة، ومنازل ثقيف في جبال الحجاز بين مكة والطائف، وعلى الأصح بينه وبين جبال الحجاز. والمعروف بين المعاصرين أن ثقيفا تقسم إلى البطون الآتية: 1- طويرق: وهم قسمان: حضر وبدو، فالحضر فيهم العشائر الآتية: الجُعَيْدات، الحَصَافين, والزَّحارية، والفُضَّل. وأما بدو طويرق, ففيهم العشائر الآتية, وهي: الرُّوسان، والغَرايين، والتراكبة، والكَلْبَة، والعَبْدة، والظفيريبن, والحُمْران.

2- بطن النمور: وهم يقسمون بحسب منازلهم إلى قسمين: أهل الهَدَى، وأهل وادي المُحرِم. فأهل الهدى فيهم أربع عشائر وهي: الكُمَّل، واللمُّظة، والغربا، والبِنِّي، وهؤلاء يقال: إن الحجاج بن يوسف منهم. وأما أهل وادي المحرم فهم أهل الخَضْرة والمشايبخ وأهل الدار البيضاء. 3- بطن ثمالة "وقد دخلت هذه القبيلة في ثقيف, وهي كما قدمنا أزدية قحطانية": وهم ثمانية أقسام: أهل الصُّخَيْرة, وآل مُقْبِل، والضباعين، والسواعدة، وآل زيد، والسُّوَدَة، والطوال، ويقال أيضا: إن المشايبخ من ثمالة. 4- بطن بني سالم: وفيه عشائر: العيّاشة، والعَصَبَى، والمُنْجِف. 5- بطن عوف: وهم في وادي لِيَّة، وبعضهم ينسبهم لحرب، ومنهم عشيرة الغُنَّم. 6- بطن سفيان: وهم فخذان: بنو عمر وآل شريف، وأما بنو عمر فمنهم: العُسران، وتميم، والخُضَرة، وأما آل شريف ففيهم عشائر كثيرة، أهمها: "أولا": آل ساعد، ويقسمون إلى الحرْجلى "وهؤلاء يقال: إنهم من بكر حلفاء قريش زمن الرسالة, أي: الجحادلة" وآل حسن, وآل عُبَيْد، والسواعدة، وآل منصور. "ثانيا": آل حِجَّة، وفيهم: الخُمس, والبهادلة، وأبو الدَّم، وأبو الظهير، وآل منيف، وآل عيسى، وهؤلاء ثلاث عائلات: آل حسين، وآل حمود، وآل غُبَيْشَة. "ثالثا": آل عائشة، ومنهم: الطلْحات، والحَجَلة، وآل عمر. 7- بطن قريش: منهم الحضر والبدو، فالحضر يقسمون إلى الحُصْنان الذَّراوة، والزِّنَّان، والمطرة، والبدو، وآل غانم يقسمون إلى هَواملة، وآل علي, والهيافين، والغشامرة، ومن قريش أيضا القُصران، وبنو صخر، والخُرتَة. 8- بطن هذيل: وسيأتي ذكر فروعه.

9- ثقيف اليمن: وهم بقرب بني مالك عند التُّرْعة، وهم أقسام عديدة، أهمها: فخذان، عَنْس، وبنو يوسف، والأولون فيهم الجاهلي، والنُّدَيبي، وآل يعلى، وبنو محمد، والغُغْدة، والأحلاف، والحُمَرَة، وتقيم في المليساء، وآل مسعود, وبنو يوسف، وفيهم المجردي، والعَسْبَلي, والقُريحي. وينسب إلى ثقيف اليمن بنو ذبيان، وفيهم ثلاثة فروع: بكري، وبُرَيْدي، وذبياني، غير أن المقول: إنهم يردون إلى عبس لا ثقيف. الجَحَادلة: تمتد ديرة الجحادلة من حدود حرب عند سُروم حتى الليث على شواطئ البحر، وفي داخل البلاد إلى جبل الشوك، وجبل السعدية. وتمتد من الجنوب إلى الداخل، حتى ديرة آل مهدي وذوي بركات، ومنهم من يقيم بين مكة وعرفات، وبينها وبين شدَّاد ووادي المحرم. وهذه القبيلة من أكثر القبائل الحجازية الصغيرة عددا, وأعظمها منعة. ويقال: إنها من بقايا بني بكر حلفاء قريش على عهد النبي "صلى الله عليه وسلم". ومن فروع الجحادلة ما يأتي: العليانِيَّة الشِّينِيَّة الحَرْشِيَّة الجَمْشية الثُّعْبانية حَسْنانية جَرْشية أو قرشية ومن الفروع الأخرى: آل منيف والحيرية وآل فهم، وأهم فروعها: آل سهم

آل مَدَاثر بنو بور آل يام آل زُحَفيْس الجعافرة: هذه إحدى القبائل التي يتألف منها أشراف الحجاز, المنقسمين إلى 21 قبيلة، وديرة الجعافرة شمالي جازان. جُهَيْنَة: تمتد منازل جهينة على الساحل من جنوبي ديرة بلي حتى جنوبي ينبع ... والقبيلتان بلي وجهينة من بقايا قضاعة اليمانية كما هو المعول عليه. وتقسم جهينة إلى بطنين: الأول مالك, والثاني موسى. "أولا": بطن مالك فيه عدة أفخاذ, هي: 1- فخذ القُوفَة، وفيه عشائر عديدة أهمها: القُضاة، العُرّف، الدّبّة، الفَيْنَاث، الحُضات، الكشُوش، الحشالِكة، المرَوات، الموَالبة، المشاعلة, الرَّبَيات، الكنَنَة، الرُّجبان, الهُدْبان. 2- فخذ عروة، وفيه عشائر عديدة أهمها: الشلاهِبَة، الجَعانة، الفُهود، المسْعَد، الونيان، الجماملة، الملادية. 3- فخذ الزَّوَايدة, وفيه العشائر الآتية: الخضرة، المسايِرة، العِقاب. 4- فخذ العوامرة، ولم نطلع على فروعه. 5- فخذ رفاعة، وفيه العشائر الآتية: المشاهير، المساونة، الوَهبان, الثُّرود.

6- فخذ كلب، وفيه العشائر الآتية: العرافين، الحضَرَة، الزهيرات. 7- فخذ بني إبراهيم، وفيه من العشائر: الحربيات، الصَّرَاصرة، المسافرة، الجرَسة، الشَّطارة، الشَّابين، ذوو سعد, الفقهاء، ذوو سليم، ذوو زيد، ذوو حُمُودَة الموالي، الحلاثيث، الدَّسابكة الشَّنَاورة، المتادقة العلاونة، الصفاريون. - فخذ العاشة، وفيه من العشائر: الشّقَاقا, النَّفْران، العَبْسان، الفَدَاعين الصيادلة، المساوية، الصياديدة. "ثانيا": بطن موسى, وفيه الأفخاذ والعشائر الآتية: 1- فخذ الغُنَيْم، عشائره هي: الزرفاق، النُّمَسة، المحاسِنَة، الحَمدان، المُقْبلي، العلافين، الفحامين. 2- فخذ ذبيان، وعشائره: المداجنة، والمُصْلخ، الهُمَيْمات، الغربان، العُطَيْفات. 3- فخذ غَيْمة، وعشائره: المِسْكة، الحوافظة، المساعرة، روس البعير، الحُمَيْد. 4- فخذ حُبَيْش، وعشائره: المساجل، النُّبَسة، الضواحكة. 5- فخذ السُّمَرة، وعشائره: المرادِسة، القطاعين، الطبسة. 6- فخذ القوايدة, وعشائرة: الشَّوايعة, والعُرود. قبيلة حرب: وهم كثير من المؤلفين في أنساب العرب حينما نسبوا قبيلة حرب إلى العدنانية. ومنشأ هذا الوهم: 1-أن المؤلفين في الأنساب رأوا هذه القبيلة تقطن مواطن العدنانيين القديمة, وهي أقوى من يقطن بين مكة والمدينة. 2- رأوا أن بعض القبائل العدنانية قد انضمت إليها, ودخلت فيها كقبيلة مزينة.

3- كثير من الذين ألفوا في الأنساب يكتبون وهم بعيدون عن مواطن القبائل التي يدونون أنسابها، وهذا مما يوقع في الوهم. والصحيح في نسب حرب أنه يرجع إلى خولان من قحطان، وأن انتقال هذه القبيلة إلى الحجاز كان في آخر القرن الثاني الهجري أو قريبا منه. ولقد أوضح علامة اليمن ونسابته "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني" مؤلف كتابي "الإكليل" و"صفة جزيرة العرب" نسب هذه القبيلة, وأورد طرفا صالحا من أخبارها, وأشار إلى لمى من حروبها عندما استقرت بموطنها الأخير بين مكة والمدينة مع أشراف المدينة وقبيلة بني سليم وغيرها من القبائل. "راجع الجزء الثاني من الإكليل للهمداني". وأماكن هذه القبيلة القوية في نجد وفي الحجاز. ففي الحجاز تمتد ديرتها من جنوبي ينبع إلى القنفذة على محاذاة الساحل، وحول المنطقة الجبلية الممتدة من المدينة إلى مكة إلى قرب جبل أبانَيْن، ثم تمتد شرقا إلى داخل نجد بغرب وادي الرمة، وحدها الجنوبي درب الحج من بريدة إلى مكة. وإن قسما كبيرا من عشائر القبيلة وأفخاذها يوجد في الحجاز, بينما أن قسما آخر يوجد في نجد. بطن بني علي: يقيم بعض أفخاذ هذا البطن في نجد، والبعض الآخر في الحجاز. والذين يقيمون "مقرب المدينة" هم: البدارين، حَفَارة، الفُرَدَة. البطن الثاني من حرب: الفُرَدَة: يوجد قسم قليل منه بقرب المدينة, إلى الشرق منها. البطن الثالث: بنو سالم: هذا البطن -من حرب- من أكبر أقسام حرب، ومنه من هم مقيمون في نجد، مثل: ولد سالم، والزكيبات، والهبيرات, ومنه من هم مقيمون في الحجاز, مثل الأفخاذ والعشائر الآتية:

الأحامدة بين المدينة وينبع صُبْح في جبل صبح بدر الرَّحَّالة من بئر عباس إلى بئر ابن حصانى الحناطيات وادي الخيف ووادي الصفرا العُزَيْمات وادي الخيف ووادي الصفرا الجَماعِلة وادي الخيف ووادي الصفرا هوازن بقرب وادي الصفرا الظواهر وادي الصفرا الرُّوَيْثة وادي الصفرا المُزَيْنات في شرق الحجاز البطن الرابع من حرب: بنو عمرو: هذا البطن من حرب يقيم بعضه في نجد وبعضه الآخر في الحجاز، أما القسم الحجازي فيشمل العشائر الآتية: البَلد بين الفُرع ورابغ المَعْبَد بقرب مكة الحمْران بين مكة وجدة بنو جابر بين مكة وجدة بِشْر في وادي فاطمة عُبَيْدة في جبل ثبرا الزِّبقَة في جبل الفرع بقرب المدينة مَنَاش غرب المضيق بقرب الفرع جَهم بين مكة والمدينة في الفُرع بنو محمد شمالي رابغ

البطن الخامس من حرب: مسروح: بعضهم ينسب بني علي إلى مسروح، ولكن هذا مختلف فيه, وسيطرة مسروح في الحجاز مشهورة؛ فإنهم يملكون ثغر رابغ وقسما كبيرا من الأرض يمر منها درب الحج. وفي هذا البطن ثلاثة أفخاذ رئيسية هي: "الأول": زبيد, وعشائرها هي: الصُّحُف، والعُصُوم، والمغاربة، والصَّيَّادة، والوُفيان، والجعاثهة، والهنود، والحَرَاجرة، والعَزَارة، والولدية، والجُهَدَة، والعِسْلان. "الثاني": فخذ عوف, وعشائره: سُوَيد، والسهلِيَّا، واللَّهَبَة، والصّفْران, والكنادرة. "الثالث": فخذ ولد سالم والسعديين, ومنهم القُوَّاد ومنازلهم على درب الحج وشمال المدينة. قبيلة الحويطات: تقع منازل الحويطات بين تيماء جنوبا والكرك شمالا, ووادي السرحان والنفود الكبير شرقا وساحل خليج العقبة وشبه جزيرة سيناء غربا. تقسم الحويطات إلى ثلاثة بطون: 1- حويطات التِّهمَة "وأماكنها من ساحل البحر إلى جبال الحجاز". 2- الحويطات العلويون "أو العلاويون, وأماكنها من منطقة الحِسْمة إلى الشراة". 3- حويطات ابن جازي "في جبال الشرة وشرقيّها". أما عشائر حويطات ابن جازي فهي: المطالقة

الدَّرَاوشة العَمَامِرة المَرايع الدَّمَّانية العُطون التَّوايهة وأما عشائر حويطات العلاويين فهي: الصُّوَيلحين الخُضَيرات القُدمان المَقَابلة السَّلامين العوَّاحة المحاميد العَزاجين السَّلامَات البُدُوو السَّروريين الفَيَالِين الصُّقور المناجعة وتتألف حويطات التهمة, التي تمتد منازلها على شاطئ البحر حتى مدينة الوجه جنوبا من العشائر الآتية: العُمْران البيّات العُمَيْرات المَواسَة المساعيد المشاهير الذّبابين الفُرعان الزَّماهرة الجَواهِرة الطقَيقَات القُبَيْضات السُّليمانيين الفَحَّامين الجَرَافين

ذوو حَسن: تمتد ديارهم من شمال الليث إلى السكة الشامية جنوبي الليث، وإذا قِيست بالأميال كانت مسافتها 45 ميلا، وتمتد في الداخل حتى أول الهضاب الساحلية، وهؤلاء يقولون: إنهم من الأشراف. ومن أفخاذ ذوي حسن الفروع الآتية: الصمدان الخواتمة ذوو بركات آل علي ذوو عياف آل عساف الخمجان سبيع آل مهدي الصواملة آل حسن بن حمدان المجايشة الصعوب النعرة القراسمة خَثْعَم: تقع ديرة خثعم على طريق الطائف أبها، بين منازل شمران في الشمال والغرب وبلقرن في الجنوب والشرق، ومن أقسامها: آل مرة، والسردان، والمزارقة، والسلمان. خزاعة: ومن بقايا خزاعة الأقدمين منهم في وادي فاطمة، وفي الخبت عند القنفذة، وفي الراك الواقعة إلى الشرق الجنوبي بحرة, وفي الضيم. ربيعة اليمن: تقيم هذه القبيلة في وادي خُلب ووادي لِيّة، وتصل في بعض الأحيان حتى الشقيق وديار بني مُغَيد، ويحيط بها من الشمال والشمال الشرقي بنو مُغَيد، ومن الجنوب الشرقي شهران, ومن الجنوب قبائل مخلاف اليمن، ومن الغرب رجال ألمع.

زهران: تقع ديارها بين بني مالك من الشمال، وغامد من الشرق، وزبيد من الجنوب والجنوب الغربي، وذوي بركات وذوي حسن من الغرب، وتمتد في الغرب إلى ما يقرب من ساحل البحر الأحمر بمقدار خمسة عشر ميلا، وهذه بطون زهران: البطن الأول: دَوْس، وفيه فخدان: بنو منهب وهم جماعة ابن خضران, وبنو فهم وهم جماعة الصغير. البطن الثاني: بنو عمرو، وفيه ثلاثة أفخاذ: بنو حرير، وبنو عدوان جماعة السبيحي، قريش جماعة السين، وبنو بشر، وبنو جندب وهم جماعة ابن زفاف. البطن الثالث: بنو يوسى، وفيه خمسة أفخاذ وهي: بنو حسن، وهم جماعة أحمد بن عصيدات، بالخزمر، بنو كنانة, بنو عامر, أهل بيضان. البطن الرابع: بطيل. البطن الخامس: بنو سليم، وفيه أربعة أفخاذ: بلفَضل، أولاد سعدى، الشغبان, الجبر. البطن السادس: الأحلاف، وفيه أربعة أفخاذ: بلعور, بنو نقمة، بنو خُرَيْض، بلأسود. بنو سعد: قبيلة عربية شريفة الأرومة، منها حليمة بنت أبي ذؤيب ظئر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وديارها من الطائف إلى جهة الجنوب الشرقي, وتحسب هذه القبيلة أصل قسم كبير من عتيبة. وتقسم في الوقت الحاضر إلى بطنين: البطنين، والثبتة. وللثبتة فروع كثيرة, أهمها الصريرات واللصة. وأما البطنين ففيه فروع كثيرة أيضا, أهمها: الطفحة، الخديج، بنو زايد، السلاقة، ربيع، العيلة. ومن العائلات

التي تتبع البطنين: خديد, والسبابيل، والروقة، واللهوب، والنفعة, والسلاقة, وربيع, والعيلة, وبنو زايد، والطفحة، والجعدة, والوذَانين, والسوطة, والعمارة, والزوران, والحليقات. أما عائلات الثبتة فهي: لصة, وضريرات -واللصة هم قساورة, والقساورة هم ذوو عطية- والمظافرة، والدهامين، والبراق، والمخلد، والمناصير, وآل طلحة، والمراوحة، والغدران، والسمرة، والشعايرية، والثعابين، والمناجم, والعلاويين، والشتالمة، والشتيات، والحوطة، والغنانيم، والمراشدة، والروسان, والمقافشة، والروقة، والفقها. والصريرات فيهم: الشهبة، والعصمة, والدعاجين، والعيسى، والذبانية، والحمية، وهؤلاء يقال لهم: الثبثة. سفيان: فرع من ثقيف، تقيم في أطراف الطائف إلى الجهة الجنوبية الشرقية منه، وديرتهم ديرة بني سفيان المسماة بالشفا، وهي عبارة عن عدة وديان، تبدأ من آخر حدود قريش الحضر عند شقراء. والقبيلة متحضرة, لها زراعة وفلاحة, وأهلها كثيرو الأغنام، ولهم أقسام عديدة ذكرناها في ثقيف. بنو شهر بن مالك بن الحجر: وهؤلاء بالنسبة لمنازلهم وللعادات والتقاليد واللهجة يحسبون من القبائل اليمانية الأصل، كالأزد التي سكنت جبال الحجاز واعتبرت من قبائل الحجاز، فإن لهجتهم تختلف عمن يجاورهم من أبناء عمومتهم، فأم بدلا من أل نادر جدا في كلامهم، وطراز حياتهم ومعايشهم يختلف بعض الشيء عن قبائل عسير. الأشراف: في الحجاز ديار قريش, وقريش ينتسب إليها عدد كبير من القبائل ومن سكان المدن والأمصار، أما في الحجاز، فيمكن قسمة الأشراف إلى قسمين: بقايا قريش، وسلالة السبطين الحسن والحسين. فالقسم الأول منه الفروع الآتية: الشيبيون وهم سدنة

البيت، وقريش في منى وأطرافها وفي أطراف الطائف، وهم غير قريش الثقفية. وأما القسم الثاني، فيقال: إن منها في الحجاز إحدى وعشرين عشيرة، وسنحاول ذكر بعضها هنا: الشنابرة, ذوو سرور, ذوو زيد, العبادلة في عسير والحجاز, ذوو بركات, ذوو حسن, ذوو حراز, ذوو عبد الكريم, الحرث, المناعة, ذوو جيزان, ذوو جود الله, المناديل, ذوو عمرو, ذوو إبراهيم, الجعافرة, ذوو حسين, الفعور. شمران: مساكن هذه القبيلة على طريق الطائف، وأبها منحدرة إلى الغرب في تهامة، وتحيط بها من الغرب والشمال غامد، ومن الشرق شهران, ومن الجنوب خثعم وبلقرن. وتقسم إلى شمران الشام وشمران تهامة، ومنهم العبوس، وإلى بادية, وأهم أقسامها: سحاب وآل مبارك. بنو شهر: منازل هذه القبيلة ممتدة من تهامة، بقرب القنفدة، إلى أعالي جبال الحجاز، ثم تنحدر منها إلى الشرق حتى وادي شهران. ويحيط ببني شهر كل من بلعريان، وبلقرن، وبني عمرو من الشمال، وشهران من الشرق، وبالأسمر والريش وآل موسى والحميدة وربيعة المقاطرة من الجنوب، ومن الغرب بنو زيد. الشلاوي: تمتد ديرتهم من شرقي الطائف، من جبال الحجاز إلى حدود ديرة البقوم، ومن الجنوب إلى حدود زهران وغامد، ومن الشمال إلى ديار ثقيف، وأقسام الشلاوي كما يأتي:

المتاعبة الطهفَة الموسى العضَاوين الحسيكة شيعث الجثايث الشدادين بَنيوس المسيلات قبيلة عنزة: تنسب عنزة إلى أسد بن ربيعة، وتتفرع إلى عدة بطون وأفخاذ، ومن فروعها التي تسكن الحجاز وتعتبر من قبائله: 1- المنابهة: وهذه القبيلة انتقل معظمها إلى شمال سوريا، أما بقيتهم فمنازلهم في شمال الحجاز. 2- الأيدى: ومنازلها في شمال الحجاز, وغربي نجد. قبيلة عُتيْبة: لا يوجد بين القبائل من يفوق عتيبة في القوة، أو يزيد عنها في العدة، إلا قبيلة عنزة. ولا يكاد أحد ينازعها السلطة في القسم المتوسط من المملكة. ومنازلها من سفوح جبال الحجاز الشرقية إلى الحرار التي بين درب الحج، ونجد من الشمال والشرق، وديرة قحطان والبقوم والشلاوة وسببع في الجنوب. ويوجد قسم قليل من عتيبة في الحجاز غربي السلسلة الجبلية في أطراف الطائف، وفي أطراف مكة والمضيق والسيل. وتقسم القبيلة إلى بطنين كبيرين: الروقة وبرقاء، ولكل بطن أفخاذ وعشائر عديدة. غامد: تقع ديرة هذه القبيلة المهمة ما بين درجتي العرض 30ْ-19ْ-15ْ-20ْ، وبين درجتي الطول 30-41ْ, ودرجة 42ْ, ويحيط بالقبيلة من الشمال الشلاوة،

ومن الشرق سمران، ومن الجنوب بلقرن وبلعربان، ومن الغرب زُبَيْد وزَهران. ويمر طريق "الطائف أبها" وسط ديار هذه القبيلة، التي يمكن التفريق بين أفرادها وتقسيمهم إلى قسمين: البدو والحاضرة, ومقر غامد الباحة. فالقسم المتبدي يسمى آل صياح، وهم منتشرون في أماكن مختلفة بين إخوانهم المتحضرين، ويتوغلون إلى أودية: رنية، وبيشة، وتربة، والدواسر. وأما القسم المتحضر فيقيم في قرى مختلفة, وأهم أقسامهم: بنو ذبيان، بنو كبير، الحُمشران، الظافر، الرَّمادة، الزعلة، للفرْزعة، بنو عمر، بنو لام، المنتظر. فهم: منازلهم في الحجاز بين بني ثقيف شمالا، والجحادلة غربا. وهي قبيلة قليلة العدد، تعمل في الماشية والجمال، وأنسابها من أصرح الأنساب وأقربها إلى قريش, وأماكنها في وادي الوِغار, وهم مشهورون بالفصاحة. ويقال: إنهم ما زالوا محافظين على لغة قريش التي كانت في صدر الإسلام. ولعل لهجتهم أقرب اللهجات الحاضرة إلى العربية الفصحى، وكفى بهم فصاحة أن منهم الابنة التي تزوجها الفيروزآبادي, ففرت منه لاكتشافها عجمته. قريش: تطلق قريش في الوقت الحاضر على قسمين من الناس: الأول: الأشراف القرشيين بقايا قريش، سواء كانوا أشرافا، أم من بقايا قريش المقيمين في منى وعرفات وما جاورهما. والثاني: ويطلق على فرع من فروع قبيلة ثقيف، يسمى بقريش، ودياره في جهات الطائف, ومنه طبقتان: بدو وحضر، فالحاضرة تقطن في الأودية القريبة من الطائف، كالوهط، والوهيط، والمثناة, وسواها. والبادية ما زالت تعيش عيشة البداوة على رعي الماشية واستثمار خيراتها، وقد ذكرت في ثقيف.

بنو مالك: تقع ديار بني مالك قرب وادي مَوْر إلى شرقي الليث، بين بني سعد في الشمال، والشلاوة في الشرق، وزهران جنوبا، والجحادلة غربا. هتَيْم: قبيلة بين شمال نجد وشمال الحجاز, لا تنتسب إلى أي بطن كان من بطون العرب؛ ولذلك ينظر إليها كأنها مثل الصلبة. ومن عشائرها: الذيبَة، الجلدة، آل بَرَّاك، الخُليوِية، الدّوامِش، الفجاوين. هذيل: من قبائل الحجاز المهمة، وهي تنقسم إلى قسمين: شمالي وجنوبي، فالأول تقع دياره في أطراف مكة من جهة الشرق والجنوب، وخاصة في أطراف مكة والطائف, بقرب جبل يَرد وجبل ذكا المشهور. فالقسم الأول: هو هذيل الشمال, ويتألف من سبع عشائر هي: المطارفة بوادي فاطمة, المساعيد في السيل، السواهر في السيل أيضا، لحيان إلى الشرق من مكة، عمرو أو عمير على يمين الطريق من مكة إلى جدة، الجنابر بجبل الكُرّ، وهناك يسمون باسم المواقع التي يقيمون فيها، فيدعون السعايد والحساسنة والكباكبة والمجاريس. والقسم الثاني: هذيل اليمن, ويتألف من الأقسام الآتية: 1- الندوية، وفيه ثلاثة فروع: المرازيق، والجيَسة، والجُملة. 2- دعد، وفيه ثلاثة فروع: الحسنانِ، وآل يَعْلَى، والظبَّان. 3- السَّراونة، وفيه ثلاثة فروع: الظهوان، وآل عليا، والمجاريش. 4- العاهلة.

5- جميل، وفيه أقسام وفروع, أهمها: الطلوح، الحساسنة، العَبْده، الحِمْسودة. فمن الطلوح: آل خالد، وآل صالح، ومن آل خالد يتفرع: آل راشد، وآل عطاف. ومن آل صالح يتفرع: الطلحات. ومنهم: آل راشد، وآل منيف، والأعصاب. وآل مَنَّاع، ومنهم: البقلة وآل حميد وآل زيدان, ثم من المِسْودة يتفرع: بنو إياس، والسّوَالمة، وآل محمود، والجَوايرة، وآل زيد الفرح، وكعب. فمن الفرح: آل محسن, وآل كامل، وآل ساري, والدِّعجان. ومن آل زيد يتفرع: القِنعان والمحاميد، ثم من الجوابرة يتفرع: آل حسن، وآل حمدان، وآل علي. ومن السالمة البُزْذة, وآل فرح. وبعد، فهذه جولة سريعة في ربوع الحجاز ألممنا فيها بصورة مقتضبة من بيئته الطبيعية والبشرية، تلك البيئة الروحية الطاهرة، التي انبلج فيها فجر الإسلام، وخرج منها الحجازيون الأول يحملون إلى أقطار العالم مشاعل النور والهداية، ويبشرون بدين جديد ورسالة جديدة تقضي على الوثنية الآفنة، والنظم الاجتماعية الفاسدة، حتى تخلصت العقائد من شوائب الضلالات، وتحررت النفوس من ربقة العبودية إلا لله وحده، وانطلقت العقول من عقال الجمود، وسبحت في الآفاق الفكرية والإنسانية الرحيبة، وتخلصت المجتمعات التي أظلتها رايتهم من الظلم والاستبداد والإقطاع والفساد. يقول المستشرق دوزي في كتابه "تاريخ المسلمين في أسبانيا": "لقد كان الفتح العربي نعمة بالنسبة لأسبانيا؛ لأنه أدى إلى ثورة اجتماعية مهمة، وأزال قسما كبيرا من المساوئ التي كانت أسبانيا تئنّ تحت عبئها منذ عصور طوال ... وقد خففوا عبء الضرائب، وانتزعوا من أيدي الأغنياء الأرض التي كان يتقاسمها الإقطاعيون ويزرعها الفلاحون الأقنان أو العبيد الناقمون، ووزّعوها بالتساوي على من كانوا يشغلون فيها، فعكف الملاك الجدد على استثمار الأرض بحماسة شديدة، واستخرجوا معها محصولا أوفر من قبل. أما التجارة فقد تحررت من قيود الحدود والمكوس

الفادحة التي كانت ترهقها، وتطورت تطورا ملحوظا. وكان القرآن يسمح للعبيد بالتحرر نظير تعويض منصف، فبرزت من جراء ذلك قوى اجتماعية. وقد أفضت هذه التدابير كلها إلى حالة من الرخاء العام، كانت الحافز الأول للترحاب الذي استقبل به الحكم العربي في عهده الأول". وإن أمثال هذه الشهادات الناصعة من الغربيين هي التي حملت بعض المنصفين منهم أن يعتبروا معركة "بواتييه" التي انهزم فيها العرب، نذير شؤم على أوروبا والإنسانية عامة، ولقد أضاعت فرنسا فرصة تاريخية للاشتراك في الحضارة العربية التي ازدهرت بعد ذلك بزمن وجيز، أي: إنها فقدت فرصة عظيمة لاختصار عهد الفوضى الإقطاعية, وتكوين وحدتها القومية. يقول أناتول فرانس بظرفه البارع في "الحياة المزهرة": "سأل السيد دوبوا -مرة- السيد نوزيبر الإجابة على هذا السؤال. وحينئذ قال السيد دوبوا: إن أكثر أيام التاريخ شؤما هو اليوم الذي جرت فيه معركة "بواتييه" في سنة 732، حين تراجع العلم والفن العربيان والحضارة العربية أمام البربرية الفرنجية"1. ولقد كانت فاتحة دستور الإسلام هذه الآيات العظيمة التي نزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم- بغار حراء حين بلغ الأربعين: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . ومن طريف المصادفات أن مكة عاصمة الإسلام الكبرى التي دوى في بطحائها هذا الاستهلال الرائع، الذي يحث على القراءة والعلم والثقافة والاطلاع، هي التي شهدت صناعة الورق -وسيلة العلم والثقافة والاطلاع- وكان ذلك في سنة 87هـ، أي: في عهد الوليد بن عبد الملك، أحد خلفاء بني أمية، ومنها أخذ الورق وصناعته طريقهما إلى البلدان الإسلامية الأخرى, ثم إلى دول أوروبا.

_ 1 الحضارة العربية، لروجيه جارودي ص8, 9.

وجاء في دائرة المعارف البريطانية ما يأتي: "إن البندر والتلغراف الإشاري -وإن لم يكونا من اختراع العرب كما يعتقد البعض- فإن من المحقق أنهما قد نُقلا عن طريقهم إلى أوروبا، وكذلك صناعة الحرير والقطن، واختراع آخر ذو قيمة كبيرة هو البوصلة البحرية، ولقد صنع ورق الكتابة في مكة حوالي 706 بعد الميلاد, ومنها انتشر إلى الأقطار العربية الأخرى حتى وصل آخر الأمر إلى العالم الغربي". ونجمل القول بشهادة أحد كتاب الفرنجة عن أثر الحضارة العربية في الحضارة الغربية, حيث يقول: "إن العلوم والفنون والآداب العربية قد كونت حلقة اتصال بين الحضارة القديمة والحضارات الحديثة والثقافة. وإن "الحضارة" التي قدمها العرب للأقطار التي فتحوها قد بقيت مدة أطول من سلطة الفاتحين أنفسهم"1. "ونحن ندين لهم -بطريق مباشر أو غير مباشر- بإحياء العلوم والفلسفة في أوروبا الغربية، حيث كانوا أول الموقظين والباعثين لروح النقد والبحث والاستقصاء، التي كان لها أثر كبير في إنقاذ أوروبا من سبات جهالة الرهبنة وضلالة التعصب الديني. ويعزى إليهم -أخيرا استنتاجا، وبطريق غير مباشر- معظم تلك الفنون المفيدة والاختراعات العلمية التي بلغت حدا من الكمال بجهود الأمم في العصور الحديثة، ومهما اتسعت دولة السيف العربية عن طريق القوة، فإنها أضيق مدى واتساعا، وأقل خلودا وبقاء، من دولة الفكر العربي"2. هذا هو الشعاع الذي انبثق من هذه البيئة الحجازية التي عقدنا العزم على دراسة حياتها الأدبية، منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر، قاصرين هذا

_ 1 Encyclopaedia Britannica, Vol. ll مادة Arabia. 2 المرجع السابق.

الجزء على دراسة "الأدب الحجازي في العصر الجاهلي" شعره ونثره, وفحول أدبائه وشعرائه؛ كالنابغة الذبياني، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، وقيس بن الخطيم الأوسي، وحسان بن ثابت الخزرجي، مقدمين بين يدي هذه الدراسة العوامل التي أثّرت في هذا الأدب، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو عقلية أو غيرها، مما سيكون موضوع بحثنا في الفصول والأبواب التالية، إن شاء الله.

مصادر التمهيد: نذكر فيما يلي طائفة من أهم المصادر التي اعتمدنا عليها في كتابة هذا التمهيد: دوائر المعارف: 1- دائرة المعارف الإسلامية الطبعة العربية. 2- دائرة المعارف البريطانية Encyclopaedia Britannica. المعاجم: 3- تاج العروس للزبيدي. 4- التهذيب للأزهري. 5- لسان العرب لابن منظور. 6- معجم البلدان لياقوت. 7- معجم القبائل العربية لرضا كحالة. 8- معجم ما استعجم للبكري "تحقيق الأستاذ السقا". 9- جمهرة أنساب العرب لابن حزم. مصادر مختلفة: 10- الأدب العربي بين الجاهلية والإسلام لفيف من الأساتذة. 11- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار للأزرقي "المطبعة الماجدية بمكة المكرمة سنة 1352هـ". 12- أسواق العرب في الجاهلية والإسلام لمحمد سعيد الأفعاني, دمشق سنة 1937. 13- الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني طبعة ساسي. 14- الإكليل للهمداني ج2 "مخطوط". 15- بلوغ الأرب للألوسي. 16- تاريخ ابن الأثير.

17- تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم حسن. 18- تاريخ الطبري. 19- تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي, 4 مجلدات. 20- تاريخ الكعبة المشرفة حسين باسلامة الحجازي. 21- تاريخ المسجد الحرام حسين باسلامة الحجازي. 22- تاريخ مكة أحمد السباعي الحجازي. 23- جزيرة العرب في القرن العشرين للشيخ حافظ وهبة. 24- جغرافية البلاد الغربية لصلاح عبد القادر البكري. 25- جغرافية الجزيرة العربية لرضا كحالة. 26- الحضارة العربية والدور الذي مثلته في التاريخ لروجيه جارودي, تعريب قدري قلعجي. 27- الحياة الأدبية في العصر الجاهلي محمد عبد المنعم خفاجي. 28- الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار. 29- رحلة ابن جبير للشريف عبد المحسن البركاتي الحجازي. 30- الرحلة اليمانية للشريف عبد المحسن البركاتي الحجازي. 31- الشعراء الجاهليون لمحمد عبد المنعم خفاجي. 32- سبائك الذهب. 33- شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لتقي الدين الفاسي المكي, نشر مكتبة النهضة الحديثة بمكة "ط عيسى الحلبي بمصر سنة 1956". 34- شمال الحجاز ا. موسل. 35- صفة جزيرة العرب للهمداني, تحقيق الشيخ محمد بن بليهد. 36- في ربوع عسير لمحمد عمر رفيع. 37- في منزل الوحي للدكتور محمد حسين هيكل. 38- قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة.

39- محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للخضري. 40- مختارات أشعار الشعراء الجاهليين محمد عبد المنعم خفاجي. 41- مرآة الحرمين تأليف اللواء إبراهيم رفعت باشا ط دار الكتب 1925م. 42- مسافات الطرق في المملكة العربية السعودية لرشدي الصالح ملحس. 43- مسالك الممالك للإصطخري طبعة دي غويه. 44- المملكة العربية السعودية لعبد الله أحرار خوجة. 45- المملكة العربية السعودية لكازل تويتشل, ترجمة شكيب الأموي. 46- المملكة العربية السعودية مشروعات عمرانية بمنطقتي مكة والطائف. 47- مهد العرب تقرير للمهندس علي الشافعي, للدكتور عبد الوهاب عزام "سلسلة اقرأ". صحف ومجلات: 48- جريدة البلاد السعودية. 49- جريدة المدينة المنورة. 50- مجلة الحج. 51- مجلة المنهل.

القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي مدخل ... القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي الباب الأول: الحياة السياسية توطئة: الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي اختلف الباحثون في تحديد العصر الجاهلي؛ فمنهم من قال: إنه العصر الذي خلا من الرسل بين عيسى ومحمد1. ومنهم من قال, وهو الحكم بن عيينة: إن الجاهلية كانت بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة2، وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس3. ويرى بعض المفسرين أن المراد بالجاهلية في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الزمن الذي ولد فيه إبراهيم -عليه السلام- حيث كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، فتمشي وسط الطريق لتعرض نفسها على الرجال4. وروي عن ابن خالويه أن هذا اللفظ في الإسلام أُطلق على الزمن الذي كان قبل البعثة5. ويرى نيكلسون، أن الجاهلية تشمل -في الحقيقة- كل الفترة منذ آدم إلى محمد، ولكنها قد تستعمل في دائرة محدودة للإشارة إلى عصر ما قبل الإسلام للأدب العربي6.

_ 1 الموسوعة الإسلامية, مادة جاهلية. 2 الألوسي: بلوغ الأرب في أحوال العرب جـ1 ص17. 3, 4 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن جـ14 ص179. 5 الألوسي: نفس المصدر جـ1 ص15. 6 راجع كتاب نيكلسون "تاريخ العرب الأدبي", و"التاريخ الإسلامي العام" للدكتور علي إبراهيم حسن.

ويرى بعض الباحثين، أن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام -وتقدر بنحو قرنين من الزمان- هي التي يطلق عليها العصر الجاهلي، أما ما سبق ذلك من أحداث، فتسمى "تاريخ العرب قبل الإسلام". واختلفوا كذلك في معنى "الجاهلية" أهي مأخوذة من الجهل الذي هو ضد العلم، وهو عين ما وصفت به الأزمنة السابقة للنصرانية في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح السابع من سفر أعمال الرسل؟ وقد ورد لفظ الجهل بهذا المعنى في أقوال الشعراء الجاهليين، كقول عنترة: "إن كنت جاهلة بما لم تعلمي" أم هي مأخوذة من الجهل الذي هو السفه والغضب والأنفة، كما يميل كثير من المؤرخين؟ على أننا إذا دققنا النظر في الآيات الأربع التي ورد فيها لفظ الجاهلية، تبين لنا أن هذا المعنى هو المقصود, وهذي هي الآيات: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] , {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] ، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} الأحزاب. ويطلق لفظ الجاهلية على الحال التي كانت عليها العرب قبل بزوغ فجر الإسلام. يقول الدكتور "فيليب حتى": "تفسر كلمة الجاهلية عادة بعصر الجهل أو البربرية الهمجية Barbarism، ولكنها في الواقع تعني تلك الحقبة التي كانت فيها الجزيرة العربية خالية من أي قانون, أو نبي موحى إليه، أو كتاب منزل"1. ويرى المستر "فيلبي" أن هذا العصر كان عصر مجادة وازدهار، وحياة تجارية وفكرية عظيمة، وأن العرب قد أجحفوا حين وسموا هذه الحقيقة الزاهية -من تاريخهم- بسمة "العصر الجاهلي"، وفي ذلك يقول:

_ 1 Hitti: History of the Arabs, p. 87.

" ... إنه قبل ظهور محمد -عليه السلام- بحوالي ألفي عام، كانت الجزيرة العربية قوة من القوى العظمى في العالم, لها مكانتها التجارية والثقافية العظيمة. ثم غدت مرة أخرى بعد انبثاق فجر الإسلام مركزا لإمبراطورية عالمية عظيمة، شعلة من العلم والمعرفة حية متقدة وسط عصور الظلام في أوروبا، ولكن الجزيرة العربية كانت -بعدئذٍ- قد نسيت ماضيها المجيد، وانصرفت عن تقدير ما حققته في عصورها التليدة، وأطلقت بكل كبرياء على تلك الفترة التي حققت فيها ماضي عظمتها الباكرة "اسم الجاهلي""1. والذي نميل إليه، هو أن الجاهلية -في مدلولها الواسع- لا تطلق على الجهل الذي هو ضد العلم فقط، ولا على السفه والطيش والحمية وحسب، وإنما تشمل كل ما يجافي الروح الإسلامية من عقائد وأخلاق وعادات، كالربا وعبادة الأوثان، ونصرة الأخ ظالما ومظلوما، ووأد البنات. بيد أن المؤرخ خليق -حين يدرس العصر الجاهلي- أن تذكر ما يتعارض مع الإسلام من التقاليد والمعتقدات وألوان السلوك، وما لا يتعارض مع روحه ومبادئه، كحلف الفضول، وما عرف عن قريش من ختان الأولاد، وتكفين الموتى، والاغتسال من الجنابة، وتعففها في المناكح عن الأخت وبنت الأخت، مما أوجبه الإسلام. أما فيما يختص بالأدب وتحديد مدة الشعر الجاهلي، فقد ظن كثير من الباحثين -قديما وحديثا- أن أقدم شعر جاهلي وصل إلينا كان قبل الهجرة بنحو 150 سنة إلى مائتي سنة. وفي طليعة هؤلاء، أبو عمرو الجاحظ، الذي يرى أن العرب تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر، فبنت غمدان وكعبة نجران وقصري مارد وشعوب، والأبلق الفرد، كما بنت الأعاجم كرييداد، وبيضا إصطخر، وبيضا المدائن. والكتب -فيرأيه- أبقى من بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من سبقهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم2.

_ 1 The Baekgrsund of Jslam, p. 11. 2 الحيوان للجاحظ "جـ1/ 36, 37".

فالجاحظ يضع الشعر في تقدير العرب موضع البناء في تقدير العجم؛ لتخليد الآثار, والأمم عادة يتنبه فيها الوعي لتخليد آثارها منذ أن تستيقظ. ومعنى هذا أن الشعر العربي موغل في القدم، قدم الصحوة العربية الباكرة؛ لأنه الوسيلة الأولى لخلود الذكر عند العرب. وهذا يتنافى مع القول بأن عمر الشعر الجاهلي ما بين 150 سنة إلى مائتي سنة؛ إذ المعروف أن مدنية العرب وحضارتهم أقدم من ذلك بكثير ... هذا إلى أن النمو الطبيعي للقصيدة العربية يستدعي أن تكون قد مرت بأطوار شتى في طرق التعبير والتصوير، وانتقلت من طور السجع إلى الرجز إلى الأوزان القصيرة الأخرى، فالأوزان الطويلة، ومن الحسي إلى المعنوي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من الاكتمال سواء في ناحية الموسيقى والوزن أو ناحية البلاغة والبيان ... ومن هنا كان رأي ثعلب، الذي نقله الأصمعي، من أن الشعر الجاهلي كان قبل الهجرة بنحو 400 سنة، أدنى إلى المعقول، والمنطق السليم ... بل إن بعض الباحثين المحدثين -اعتمادا على حساب أجيال الأنساب "40 سنة للجيل الواحد"- قد وصل إلى أن أقدم شعر جاهلي كان قبل الهجرة بأكثر من ستمائة سنة, وأن أقدم المقطوعات ينسب لطي بن أدد في القرن السابع قبل الهجرة, وأن لقيطا الإيادي في قصيدته التي مطلعها: يا دار عبلة من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا يعتبر ناظم أول قصيدة من الطوال. وفيها ينذر قومه ويحذرهم من زحف ملك الفرس "سابور ذي الأكتاف"، وقد قيلت هذه القصيدة في سنة 326م "296ق. هـ"1. وديوان لقيط الأيادي -وهو مخطوط بدار الكتب- يعتبر -على الأرجح- أقدم دواوين الشعر الجاهلي2.

_ 1 الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي ص118, 119. 2 ديوان الإيادي "ضمن مجموعة خطية برقم 41138, أدب".

أما في النثر، فنعتبر الأمثال المنسوبة أقدم فنون الأدب العربي، وأن منها ما ترجع أقدميته إلى القرن الثامن قبل الهجرة، أو القرن الثاني قبل الميلاد المسيحي، وذلك كالمثل الذي ينسبونه إلى أبي الحجازيين "إلياس بن مضر"، وهو: "السليم لا ينام ولا ينيم". ومهما كانت قيمة هذه الآراء في ميزان التحقيق العلمي، فإن الأدب الجاهلي الذي وصل إلينا مكتملا سويا لا يمكن أن يكون حديث الميلاد لا يتجاوز عمره 150 عاما؛ فالقصيدة العربية أقدم ميلادا وأوغل في طوايا الزمن مما تصور الجاحظ, ومن نحا منحاه من النقاد ... بيد أن أصول هذا الأدب وأطوار نموه "قد هربت منا -كما يقول "دي فرجيه"- لسوء الحظ، فهو حين يطلع علينا لأول وهلة، يطلع علينا من قلب الصحراء، تام الخلقة كما خرجت "منيرفا" من ذهن جوبتير"1.

_ 1 راجع L,Arabie Par Desvergers, 472 تاريخ الشعر العربي البهبيتي ص5.

الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم الدور الذي لعبه الحجاز قديما: الحجاز أهم أقاليم الجزيرة العربية؛ لأسباب عديدة: 1- وقوعه قديما على الطريق التجاري، الذي يصل اليمن ببلاد الشمال. 2- يبلغ أكثر من خمس الجزيرة العربية كلها بجميع أقاليمها، فبينما يبلغ متوسط عرض الجزيرة 700 ميل، نجد أن عرض الحجاز من الشرق إلى الغرب 250 ميلا، وبينما نجد أن متوسط منتهى طول الجزيرة 1200 ميل، نجد أن الحجاز يبلغ طوله زهاء 700 ميل من الشمال للجنوب. 3- وقوعه وسط مناطق الحضارة في بلاد الشرق، وهي: بلاد اليمن والشام ومصر. 4- أن الحجاز مركز إستراتيجي مهم. 5- استقرار أتباع الديانات فيه قبل الإسلام، فقد رحل إليه اليهود، وأنشئوا فيه عدة مواطن، منها المدينة وخيبر وغيرهما، وكان يوجد فيه من قديم أتباع الحنيفية، وعبدة الأوثان والأصنام، وبعض النصارى. 6- انبعاث أعظم قوة روحية عالمية من الحجاز، وهي رسالة الإسلام التي نزلت على محمد بن عبد الله الحجازي الكي القرشي، والإسلام هو الذي ساد العالم إلى اليوم، وقامت على أصوله أعظم حضارة عرفها التاريخ، وأعدل حكم شهدته الشعوب التي دانت لدول الخلافة الإسلامية بالطاعة. 7- كان قريش أعظم قبائل الحجاز، ولقريش السيادة على القبائل الحجازية خاصة والعربية عامة، منذ القدم قبل الإسلام وبعده1.

_ 1 مهد العرب, عبد الوهاب عزام 53.

8- اشتمال الحجاز على مقدسات الإسلام العريقة في المجد والتاريخ، وهي مكة والمدينة وما يحيط بهما وما بينهما، وعلى الآثار الإسلامية الخالدة. وقد بقي الحجاز منذ عصر النبوة وحتى اليوم محرما أن يعيش فيه أو يسكنه أو يدخل إليه غير المسلمين. وكانت هذه المنطقة إلى جانب تجارتها الخاصة ملتقى القوافل التجارية بين وادي النيل والهند ودول شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط. وكان أهم السلع التي اتجر فيها العرب: الذهب، والنحاس، والأحجار النفيسة، وقد كان من أهم موارد الذهب في تلك الأحقاب السحيقة, ذلك المنجم الذي كان يستثمره اتحاد التعدين في الحجاز، ولا تزال الأحجار الكريمة تستخرج من الحجاز. وكانت تتشعب من جنوب غربي شبه الجزيرة العربية شبكة من طرق التجارة: أحدها كان يمتد على طول الجانب الغربي مارا بمكة, متجها إلى دمشق, ويدور فرع منه حول خليج العقبة ميمّما شطر مصر ... وكان ثمة طريق آخر، يمتد إلى الخليج الفارسي عند ميناء الجرعاء, التي تقوم الآن على مقربة من موقعها ميناء العقير، حيث كانت سلع اليمن تشحن على السفن إلى بابل ودول الشرق الأوسط. على أن التجارة لم تكن كل ما امتاز به الحجاز وما حوله في العصور القديمة، بل لقد قامت فيه -إذ ذاك- مراكز عمرانية تكونت فيها مدنية خاصة تكيفت بعوامل الجو والبيئة والظروف وما إليها، والمعتقد أن الكثير من المعلومات الخاصة بها دفين الرمال في انتظار المنقبين من خبراء الآثار. على أن التاريخ حرص دائما على أن يميز بين عرب الجنوب وعرب الشمال؛ إذ كان أهل الجنوب -ويقال: إنهم أصل العنصر السامي- يعيشون في مدن، بينما كان أغلب أهل الشمال من القبائل الرحل، فكانت لهم ثقافة تختلف عن ثقافة أولئك ... غير أن ازدياد التجارة بين الجنوب والشمال لم يلبث أن قرّب بين الفريقين ... كما هاجم الساميون من الجنوب الشمال في أوقات

الأزمات والحروب، واشتركوا مع الشماليين في الحملات التي كانت تنبعث من شبه الجزيرة للإغارة على الوديان الخصيبة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وكانوا في كل حركاتهم هذه يحملون ثقافتهم ومدنيتهم معهم، فيمزجونها بما لدى الشماليين، ثم يحملون الحضارة المشتركة معهم إلى حيث كانوا يغيرون, فيمزجونها بالحضارات التي كانت تقوم في تلك الوديان. وانفردت الجزيرة العربية -أو قل: الحجاز من بينها- بصفة خاصة: بأنها كانت مصدر المعجزات الإنسانية خلال عصور التاريخ. فهي التي وجهت العالم القديم قبل الإسلام، وهي التي وجهت العالم بعد ظهور الإسلام، وهي التي خرّجت عظماء الإنسانية خلال عصور التاريخ، ومنها خرج محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ومنها كذلك انبثق نور الإسلام وشع ضوءه على أرجاء الدنيا في المشرق والمغرب. ولقد قام سكان الجزيرة العربية -وفي مقدمتهم عرب الحجاز- بكثير من الأدوار المهمة في تاريخ الشرق الأوسط وحضارته؛ فقد كانت هذه الحضارات تتعرض للانهيار، فكان أهل صحارى العرب ينشطون في بعض الأحقاب، فيبثّون روح النهوض من جديد، إذ كانت الواحات المتناثرة في أرجاء الصحارى مراكز للمدنية، وكانت مدنها معاقل للثقافة والتجارة والزعامة ... وكانت القبائل الرحل كثيرا ما تغير على مراكز المدنيات في وديان الأنهار في شمال الجزيرة العربية -وديان: دجلة والفرات وسوريا وفلسطين- في أويقات ضعفها، حاملة معها نقاء الصحراء وطهرها وبساطتها، فيبثون هذا الروح الجديد فيمن تتم لهم الغلبة والسيادة عليهم، ويأخذون عنهم ثقافتهم. ويكفي مثالا أن نذكر أن بدو شبه الجزيرة العربية هم الذين خرجوا من ديارهم منذ ثلاثة عشر قرنا، وقد تملكهم الإيمان بعقيدة جديدة -هي الإسلام- فانسابوا ينشرون ضياءها في الأرض.

وليس هذا هو الدور الأوحد الذي قام به العرب, فيما يتصل بالحضارات التي قامت في وديان النيل ودجلة والفرات، بل إنهم أنشئوا علاقات تجارية وثيقة. ولقد كان ظهور الإسلام على يدي محمد بن عبد الله، خاتم المرسلين، أكبر معجزة إنسانية وعاها التاريخ، وأعظم حدث عالمي ردّدته الأجيال، فلقد حول الرسول الكريم ورسالته العظمى مجرى الحياة، وبدل سير التاريخ، وأنقذ العالم من الفوضى والوثنية والعبودية. وتمّم خلفاء الرسول الأعظم المعجزة، فنشروا الإسلام في الدنيا، وهدوا العالم إلى الحق وإلى كلمة الله، وأقاموا للحضارة والثقافة منارا رفيعا في كل مكان نزلوا فيه. وأصبح للإسلام وللعرب دولة تشد أزره، وتستهدف أفكاره، وتصنع للحضارة والإنسانية والعالم صنيعا مشكورا، ولا يمكن لإنسان أن يقدره حق قدره. وامتد تاريخ الإسلام من عهد الرسول الأعظم إلى اليوم، وسيمتد آلاف السنين والأجيال بإذن الله. وقد امتد كذلك تاريخ الحجاز خلال العصور والأجيال، وشهد حكم الخلفاء الراشدين وبني أمية وابن الزبير وآل العباس، وحكم كثير من الدول الإسلامية التي قامت بعد ذلك، وكذلك حكم الأشراف إلى عصر الأتراك العثمانيين, فالعصر الحديث.

الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي "أولا" في مكة أشرنا فيما مضى إلى حكم العمالقة لمكة، وأنه كان طورا من أطوار التاريخ القديم لها، إلا أن التاريخ الموثوق به يبدأ من هجرة إبراهيم بإسماعيل -عليهما السلام- إلى مكة، وسنفصل الحديث في ذلك بقدر ما يتسع له المقام. هجرة إبراهيم بإسماعيل إلى مكة: يشير القرآن الكريم إلى أن إبراهيم هبط مكة بابنه إسماعيل -عليهما السلام- ثم بنيا الكعبة، وجعلت أفئدة الناس تهوي إليها. وتدل الروايات -تفصيلا لهذا الحادث- على أن إبراهيم حينما وضع إسماعيل وأمه هاجر بمكة، وتركهما بهذا القفر لم يضعهما الله، إذ حدث ظمأ إسماعيل، فانطلقت أمه هاجر، حتى صعدت جبل الصفا لتنظر هل ترى شيئا فلم تر شيئا، فانحدرت إلى الوادي، فسمعت حتى أتت المروة، فاستشرفت لعلها ترى شيئا, فلم تر شيئا، فعلت ذلك سبع مرات، ثم عادت إلى إسماعيل وهو يدحض الحجر بقدميه، والماء يتفجر من الأرض، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء حتى لا يضيع في الرمال, وهي تقول: زم زم، فسميت لذلك زمزم. وحومت الطير حول الماء، وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكة، فلما رأت الطير قصدت نحوها، فوجدوا هاجر وابنها إسماعيل، فقالوا لها: لو شئت فكنا معك وآنسناك والماء لك، فقالت: نعم، فكانوا معها حتى شَبَّ إسماعيل وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل فتاة منهم، وتعلم منهم العربية، وأنجب نسلا كثيرا هم العرب المستعربة.

وينفي "وليم موير" هذه القصة, ويرى أنها بعض "إسرائيليات" ابتكرها اليهود قبل الإسلام؛ ليربطوا بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة "إبراهيم" لهم جميعا -إن كان "إسحاق" أبا اليهود- فإذا كان "إسماعيل" أبا للعرب، فهم إذًا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسير تجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند "موير" في رأيه هذا، إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم "حنيفا مسلما". ويقول "الدكتور هيكل": إن تعليل "موير" ليس كافيا لنفي واقعة تاريخية، وإن وثنية العرب، بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة، لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز، وحين اشترك إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة، وأنه لا يوجد ما يمنع أن يدعو إبراهيم إلى الوحدانية، فلا يستمع العرب لدعائه، فقد سبق أن دعا إليها في فلسطين، فلم ينجح1. أجمع المؤرخون على قصة إبراهيم وإسماعيل في جملتها وإن اختلفوا في التفصيل، وسندهم في هذا، ما جاء به القرآن الكريم: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} ، وكذلك السنة النبوية التي كادت تبلغ حد التواتر، وهذه القصة من الأمور الممكنة التي لا يحيل العقل وقوعها، فإن حدوث هجرات من مكان إلى آخر أمر جائز وواقع إلى الآن، وحجة "وليم موير" أنه ليست لديه مصادر تؤيدها، ولو كان منصفا لاعتبر الكتب السماوية أصح المصارد التي يركن إليها الإنسان على الأقل عند فقد النقوش؛ فقد أثبتت الآثار المكتشفة حديثا صدق روايتها في كثير من الحوادث التاريخية، كما جاء في تاريخ عاد وثمود وسبأ، وإن كثيرا من الأخبار لا يزال مطمورا لم يكشف عنه بعد، مع أن من غير المعقول أن هذه الكتب السماوية تكون صادقة في البعض، وكاذبة في البعض الآخر، فالمؤرخ المنصف ينبغي أن يصدق ما جاء

_ 1 راجع "حياة محمد" للدكتور هيكل ص89 و90.

بها، أو على الأقل يتريث ولا يحكم عليها بأنها أسطورة، إلا إذا كشف البحث والتنقيب عن حقائق صحيحة تصادم ما قررته هذه الكتب، وهيهات أن يحدث ذلك في كتاب {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} !. ومن البعيد جدا أن يكون اليهود اخترعوا هذه القصة قبل الإسلام، لأغراض سياسية أو اقتصادية، ويرى محمد -عليه السلام- المصلحة في ذلك فيقرهم عليها كما يزعمون. بعيد هذا الزعم؛ لأنه لو صح لنقل إلينا، وبخاصة عندما اشتدت الخصومة بين اليهود والرسول، على أثر إجلائهم عن المدينة، بعد حروب طال أمدها، ودماء مسفوكة من الجانبين، فإن هذا كان ظرفا مناسبا, دافعا أيضا لأن يطعن كل منهم في نسب الآخر، ويعتبره دخيلا عليه. أما وأن هذا لم يحدث، فإن صحة نسب العرب العدنانيين إلى إسماعيل وإبراهيم وهجرتهما إلى مكة، وبناءهما البيت، لا يصح التردد فيها بحال. ويشير القرآن الكريم، والتوراة، إلى أن الله أراد أن يمتحن إبراهيم؛ فأمره في منامه أن يذبح ولده، فأخذ إبراهيم الغلام، وألقاه على جبينه، وهمّ بذبحه؛ امتثالا لأمر الله، فافتداه الله بذبح عظيم. لم يصرح القرآن باسم الذبيح، أهو إسماعيل أم إسحاق؟ ولم يذكر الموضع الذي حدثت فيه الحادثة، أكان بفلسطين أم بالحجاز؟ وقد اختلف من أجل ذلك المؤرخون. فاليهود يرون أن الذبيح هو إسحاق؛ حرصا منهم على أن يكون أبوهم هو المفدى، الذي استعد للتضحية بنفسه، وينسب هذا الرأي أيضا إلى جماعة من المسلمين، منهم الطبري وابن خلدون، ولعل حجتهم في ذلك هو ما ورد في التوراة من قوله: "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه "إسحاق"، واذهب إلى أرض الموديا1 ... إلخ".

_ 1 راجع الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين، الآيات 1-14.

والمحققون يرون أن الذبيح هو إسماعيل، بدليل ما في سورة الصافات في قصة الذبيح، فإنه بعد أن ذكر قصة الذبيح، قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ, وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} ، فالتبشير بإسحاق بعد ذكر قصة الذبح والفداء، دليل على أن الله حفظ له ولده الموجود -وهو إسماعيل- وبشره بوجود وارث من "سارة" هو "إسحاق" وعود الضمير في {عَلَيْهِ} على الغلام الذبيح، وذكر "إسحاق" معه صريحا يقتضي المغايرة. وقد نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا ابن الذبيحين" أي: إسماعيل، وعبد الله. والتوراة تذكر أن الذبيح كان وحيد إبراهيم, ولا ينطبق هذا إلا على إسماعيل الأكبر؛ لأنه كان وحيد أبيه قبل ميلاد إسحاق. ويقول الشيخ عبد الوهاب النجار: إن لفظ "إسحاق" الذي ورد في آية التوراة السابقة، إنما حشر حشرا بيد اليهود؛ حرصا منهم على أن يكون أبوهم هو الذبيح1. بناء البيت: وكان نزول إسماعيل وأمه هاجر بمكة بموضع عند البيت الحرام، إذ لم يكن البيت إذ ذاك قد بُني، وإنما كان ربوة حمراء مشرفة على ما حولها، وتقول التوراة: إن نزول إسماعيل كان في برية فاران، وفاران: اسم جبال مكة، ثم أمر الله خليله ببناء البيت الحرام، فبناه بمساعدة ولده إسماعيل عليهما السلام. ولما ارتفع البنيان وعجز إبراهيم عن رفع الحجارة، قام على حجر هو "مقام إبراهيم"، واستمر يبني حتى فرغ من البناء، فأمره الله تعالى بالأذان بالحج، فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس، وأذن في الناس بالحج كما أمر الله، ثم رجع إلى قرية الخليل بفلسطين, ويقال: إن إبراهيم -عليه السلام- قد دفن بها.

_ 1 راجع "قصص الأنبياء" "قصة إسماعيل".

بعد إسماعيل حكم الجراهمة: ومن هذه الأحداث نعلم أن إسماعيل صار زعيم العرب الحجازيين، فلما مات إسماعيل تولى الجراهمة بعده أمر الكعبة، وظلت في أيديهم مدة طويلة من الزمن، ولم ينازعهم أبناء إسماعيل لأن الجراهمة أخوالهم، ويقال: إن ولاية الكعبة كانت في ذرية إسماعيل، وكان يعاونهم أخوالهم من الجراهمة. والراجح أن جرهما توّجوا أحد أولاد إسماعيل ملكا عليهم، أما سدانة الكعبة ومفاتيحها، فكانت في ولد إسماعيل بلا خلاف. حتى انتهت إلى "نابت" فانتزعها منه بنو جرهم، وبقيت فيهم إلى أن بغوا واستحلوا حرمة البيت، وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، وفشت فيهم الرذائل، وما زال أمرهم في ضعف وانحلال حتى سلط الله عليهم خزاعة، فتمكنت من قهرهم، وتغلبت عليهم، واستولت على مكة، واستأثرت بولاية البيت وسدانة الكعبة. وقبل أن يبرح آخر حكامهم "مضاض بن عمرو" مكة، عمد إلى بئر زمزم، فأعمق حفرها، وأودع في قاعها ما كان بالكعبة من تحف وذخائر وأموال، ومن بينها غزالتان من الذهب وسيف ودروع أخرى، ثم طم عليها الرمال. حكم خزاعة: استولى الخزاعيون على أمر الكعبة بعد أن أجلوا الجراهمة عنها، ويقال: إن خزاعة أصلها قبائل من اليمن، هاجرت منها بعد سيل العرم، ونزلت بمكة وبقيت بها حتى لاحت لها فرصة القضاء على الجراهمة, حوالي القرن الثالث الميلادي. وقد سادت مكة زهاء قرنين من الزمان، يجمعون في يدهم السلطة الزمنية "السياسية" والدينية معا، ولم يتركوا لأهل مكة من الوظائف إلا أقلها. ومن أشهر الخزاعيين: "عمرو بن لحي" الذي يقال: إنه أول من أدخل عبادة الأصنام في مكة, وآخر من ولي من الخزاعيين "حليل بن حبشية", وهو

الذي ظهر في أيامه "قصي بن كلاب"، الأب الخامس للرسول -عليه السلام. وقد عهد حليل إلى ابنته "حبى" بولاية البيت، فقالت: إنها لا تقدر على فتح الباب وإغلاقه. عودة الحكم إلى أبناء إسماعيل: سلالة إسماعيل: لا نعرف عن ذرية إسماعيل كثيرا خلال هذه الفترة الطويلة، ويبتدئ التاريخ المسلم بصحته من عدنان، الجد الأعلى للعدنانيين, ووارث إسماعيل جده الأعلى. ويختلف النسابون فيمن كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء, فيقدره بعضهم بأربعين، ويقدره آخرون بعشرين، وسواهم بخمسة عشر أبا. ويرى آخرون أنه يستحيل تقديرهم بهذا العدد؛ لطول الزمن بين إسماعيل وعدنان1، ويقال: إن والد عدنان هو أدد2, وقيل: اسمه مقوم. وقد ولد عدنان عددا من الأولاد، من أشهرهم: معد، وعك. وموطن العدنانيين من تهامة -ومكة من تهامة- ولكن ظروفا قاهرة اضطروا من أجلها إلى الهجرة والتفرق. فظعنت قضاعة بن معد بن عدنان إلى اليمن, بسبب خصومات وقعت بينها وبين نزار، فخرجت قضاعة متفرقين3, وتلا ذلك هجرات أخرى للعدنانيين، فانتشروا في مناطق واسعة من شبه جزيرة العرب، حتى وصلوا العراق والشام، فهاجرت عبد القيس وهي من رنيعة، وبطون من بكر إلى البحرين، وخرجت بنو حنيفة إلى اليمامة، وأقامت سائر بكر في اليمامة، أقامت تغلب بالجزيرة الفراتية، وسكنت ثقيف الطائف، وهوازن في شرقي مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة،

_ 1 الطبري 2, 191، سيرة ابن هشام 1/ 3، مروج الذهب 1/ 394, طبقات ابن سعد, القسم الأول من الجزء الأول 28, 29, ابن خلدون 2/ 198، وراجع كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للفاسي. 2 الطبقات 1، 1 ص28، تاج العروس 9/ 275. 3 الأغاني 11/ 154, ابن خلدون 2/ 240.

وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة، وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقامت بطون قريش بمكة وضواحيها. ولمعد أربعة أولاد: نزار، وقضاعة، وإياد, وقنص1. ونزار هو جد القبائل النزارية، وتتألف القبائل العدنانية من: ربيعة، ومضر، وإياد, وأنمار2. ومن نسل مضر، إلياس، وخلف إلياس مدركة، ومن أبناء مدركة خزيمة, ونسل خزيمة كنانة، وخلف كنانة النضر وهو قريش في أحد الآراء، ومن بني النضر مالك وولد مالك فهرا، وهو قريش في رأي آخرين، ثم سارت سلسلة النسب النبوي إلى عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، راجع جدولي النسب إلى عدنان وإلى قصي. قصي: ولقصي ذكر ذائع في التاريخ الحجازي القديم3، فقد مات والده كلاب وقصي لا يزال طفلا في المهد، فتزوجت أمه ربيعة بن خزام، ورحل بها إلى الشام حيث شب قصي بين آل ربيعة بعيدا عن أهله4. ولما بلغ أشده رحل عن بني ربيعة إلى مكة موطن آبائه وأجداده، وكان النفوذ الديني والمدني في أيدي خزاعة، وحاكمهم إذ ذاك "حليل بن حبشية". وعَزَّ على قصي أن يرى قومه تحت سلطان الأجانب من خزاعة، فصمم على أن ينزع منهم الأمر والسلطان، وبدأ ينفذ خطته بالتدريج، فدأب على السعي والتجارة حتى كثر ماله وعظم شرفه وتزوج من "حبي" بنة حليل بن حبشية؛ أملا في أن يرث عنه امتيازاته، وحدث أن "حبى" حينما عرض أبوها

_ 1 ابن هشام 1/ 7. 2 ابن خدلون 2/ 300 , ابن حزم ص9. 3 راجع كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للفاسي. 4 ولهذا سمي قصيا، وكان اسمه في الأصل زيدا.

عليها ولاية البيت زهدت فيها وتنحت عن تسلم المفاتيح، فسلم "حليل" المفاتيح لرجل آخر من خزاعة يسمى أبا غبشان، فابتدأ قصي يحتال على أبي غبشان، حتى اشترى منه مفاتيح الكعبة. كان قصي يعلم ما سيكون, فاتخذ للحرب عدتها من قبل، وما كادت خزاعة تعلم بذلك حتى هاجت وماجت، وادعى أبو غبشان أنه لم يبع المفاتيح، بل كان ما حدث بطريق الرهن، وامتشق قصي الحسام، ومن ورائه قومه من بني إسماعيل ودافع عن الكعبة وهزم خزاعة وأجلاهم عن مكة، وصار الأمر كله فيها لقصي، فكان رئيسا دينيا يخصه العرب بالإجلال والتعظيم. وقد جمع قصي قريشا من نواحٍ متعددة إلى وادي مكة، ولقب من أجل ذلك "مجمعا"؛ وذلك ليكون منهم عصبية بالقرابة، وجعل قصي لكل بطن حيا خاصا على مقربة من الكعبة، وكان الناس قبل ذلك لا يجرءون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها، وكانت حجة قصي في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر، ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، فكانت البيوت كالحصون حول الكعبة من جميع نواحيها. وبنى قصي دار الندوة، وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة مباشرة، وكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار التي جعل من اختصاصها حسم المشاكل، وحل المعضلات، وكان لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكانوا يزوجون فيها بناتهم. وإذا بلغت الجارية مبلغ النساء ألبست الدرع في تلك الدار، وكانوا يعقدون فيها لواء الحرب، وقد انتهى أمرها قبل مجيء الإسلام. وكان في يده اللواء وهو راية الحرب, فكانت لا تعقد إلا بيده، ثم انتهى أمرها إلى بني أمية من ذريته. وأسندت إليه الحجابة, وهي سدانة البيت، يفتح بابه ويغلقه حسب الحاجة، ويتولى خدمة الكعبة، ويكون عنده مفتاحها، ثم استقرت بعده في بني شيبة.

وعلى الجملة, فقد جمع قصي كل مفاخر العرب ومظاهر الشرف والسيادة والمجد فيها، من سقاية ورفادة وقيادة، وتولى كذلك أمر المشورة والسفارة والحكومة في الخصومات، وبذلك جمع قصي في يده كل السلطات الدينية والسياسية فكان زعميم العرب, ورئيسها الديني، وقائدها العسكري، وزعيم قريش سادة العرب ... وهكذا كانت مكة -وهي أهم مدن الحجاز- على نصيب كبير من الثقافة والحضارة والرقي السياسي والاجتماعي؛ لاشتغال أهلها بالتجارة وترددهم في رحلاتهم على الممالك المتحضرة كفارس والروم ومصر، وأصبح في مكة نوع من الحكومة المنظمة، وضع أساسه قصي في القرن الخامس الميلادي، إذ جدد بناء الكعبة، وابتنى -كما ذكرنا- دار الندوة؛ ليجتمع فيها الرؤساء فيتشاوروا ويعقدوا أنكحتهم وألويتهم، ويفصلوا في خصوماتهم ويختنوا غلمانهم. توارث أمجاد قصي بعد وفاته: وورث أبناء قصي هذه المناقب بعده إلى أن وصل الحكم إلى هاشم، ثم إلى عبد المطلب سنة 520م، وكان الذي تولى بعد قصي هو ابنه عبد الدار، وبعد خصومات كثيرة بين سلالة قصي وزعت السلطات الدينية والسياسية في مكة على بطون قريش؛ منعا للتنازع والشحناء, وها هي ذي1: 1- السدانة: خدمة الكعبة وحجابتها، وبيد صاحبها مفتاح الكعبة، ولها المقام الأول عندهم، وكانت لبني عبد الله. 2- السقاية: وهي سقي الحجاج بجلب الماء على الإبل من الآبار العذبة حتى بعثت زمزم، وكانت السقاية في بني هاشم. 3- الرفادة: وهي ما كانوا يخرجون عنه من أموالهم؛ ليرفد به من ليس ذا سعة ولا مال، وكانت في بني نوفل، وقد سن هذه السنة قصي قائلا: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل بيته، والحجاج ضيوف الله وزوار

_ 1 راجع بلوغ الأرب للألوسي, التمدن الإسلامي, محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري بك جـ1 ص50 وما بعدها.

بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا, وقيل: أول من أقامها عبد المطلب1. 4- العقاب2: وهي راية قريش، ويخرجها من هي عنده وقت الحرب، فإن اتفقوا على واحد حملها وإلا رأسوا صاحبها، وكانت في بني أمية. 5- الندوة: الإشراف على دار الندوة، وكانت في بني عبد الدار. 6- المشورة3: وصاحبها يُستشار في الأمور الهامة، وكانت قريش لا تقر أمرا حتى تعرضه عليه، فإن أقره وإلا تخير، وكانوا له أعوانا، وكانت في بني أسد. 7- الأشناق: وهي الديات والمغارم، وصاحبها إذا احتمل دية أو مغرما أُعين عليه, وإذا احتمله غيره خذل، وكانت في بني تيم، وآخر من تولاها أبو بكر -رضي الله عنه. 8- القبة: وهي الخيمة التي تودع فيها أدوات الحرب، وكانت في بني مخزوم. 9- الأعنة: وهي تولي أمر الخيل وقت الحرب وإدارة شئونها، وكانت في بني عدي. 10- السفارة: وهي التوسط بين قريش وغيرها عند الحرب، والسعي في الصلح، والقيام عنهم بالمنافرة, وكانت في بني عدي أيضا، وعمر آخر سفرائهم في الجاهلية. 11- الأيسار: وهي تولي أمر الأزلام، وكانت في بني جمع4. 12- الحكومة والأموال المحجرة: أي: الفصل بين المتخاصمين وحفظ الأموال التي كانوا يسمونها لآلهتهم، وكانت في بني سهم5.

_ 1 المستطرف للأبشيهي. 2 بوزان فعال كغراب. 3 بوزان مفعلة كمعونة. 4 بوزن فعل كعمر. 5 بوزن فعل كنصر.

13- العمارة1: وهي الإشراف على المسجد الحرام، ومنع الجالسين فيه من الرفث، ورفع الصوت، وكانت في بني هاشم. ومن نوع النظام الحكومي في مكة: حلف الفضول، وحلف المطيبين, وسنتكلم عنهما فيما بعد. عبد مناف وذريته: ساد عبد مناف بن قصي قومه، وارتفع إلى مرتبة الشرف والرياسة باذا في ذلك أخاه عبد الدار أكبر أولاد قصي، غير أن عبد مناف لم ينازع أخاه عبد الدار احتراما لوصية أبيه. واستمرت الرياسة في يد عبد الدار إلى أن مات، وانتقلت إلى أولاده، فنازع بنو عبد مناف بني عبد الدار، واحتدمت بينهم الخصومة، وانقسمت بطون قريش وحلفاؤهم وجيرانهم فريقين: ففريق يعاضد بني عبد مناف, وفريق يعاضد بني عبد الدار. وعقد كل فريق حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا ووضعوها عند الكعبة، وتحالفوا وجعلوا أيديهم فيها, فسمي هذا الحلف لذلك "حلف المطيبين"، وسنشير إليه بالتفصيل. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا, فسموا لذلك "الأحلاف" ثم تجمع الفريقان للقتال، وباتت مكة على شفا حرب أهلية لا يعلم مدى خطرها إلا الله. ولكن حرص قريش على بقاء الوحدة القومية، وضنهم بالحرم أن تسال فيه الدماء, جعلهم يتداعون إلى الصلح على وجه ينال به كل من الفريقين حظا من ذلك الشرف الموروث. فكان لبني عبد مناف: السقاية، والرفادة، والقيادة، والندوة, ولبني عبد الدار: الحجابة، واللواء، على نحو ما أسلفنا. ثم حكم بنو عبد مناف القرعة في تقسيم نصيبهم, فكانت السقاية والرفادة لهاشم، والقيادة والندوة لعبد

_ 1 بوزن فعالة كتجارة.

شمس. ثم انتقلت منهم الندوة بعد ذلك لبني عبد الدار. ويلاحظ في التقسيم أن ما أفاده بنو عبد مناف أكسبهم ذكرا ومجدا خارج قريش، في حين أن ما أفاده بنو عبد الدار أكسبهم نفوذا وسلطانا في مكة نفسها. وقد انقسم بنو عبد مناف إلى فرعين: بيت هاشم وبيت أخيه عبد شمس، وقد نال الهاشميون منصبي الرفادة والسقاية، ونال عبد شمس منصب القيادة في الحرب. هاشم بن عبد مناف: كان هاشم بن عبد مناف قد احتفظ بمنصبي الرفادة والسقاية، وكان رجلا شجاعا ذا لسان ومقام رفيع بين قومه، ولم تكن شجاعته أقل من كرمه، فقد دعا قومه إلى إخراج قسط من أموالهم كل عام، يتولى إنفاقه في إطعام الحاج أثناء المواسم، ولم يقتصر كرمه على الحجيج، فقد أمد أهل مكة نفسها بكثير من الميرة حين أصابتهم سنة مجدبة، فزادت بذلك مكانته بين العرب، وكان هو أول من سنّ رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام؛ لتنظيم التجارة، والاتصال بين البلدين. وقد كان لهذه السنة أثر عظيم في ازدهار مكة، حتى لم تكن بين البلاد العربية مدينة تفوقها، فقد غدت قبلة أنظار العرب جميعا. لم تكن أيام هاشم خالية من المتاعب، فقد نغّص عليه صفو الحياة ما قام به أمية ابن أخيه عبد شمس من حركة تمرد وتطاول عليه؛ لما كان يتمتع به من شهرة وكثرة في المال والولد، وظن أمية أنه سينال بقوته ما بيد عمه من شارات الشرف. وحض الناس هاشما على التمسك على ما بيده، إذ هو وهو شيخ كبير أحق الناس بميراث قصي, وكادت الحرب تنشب بين هاشم وابن أخيه، غير أن الأمر استقر أخيرا على أن يتحاكما إلى الكاهن الخزاعي بعسفان على خمسين ناقة تذبح بالحرم, وخروج من يحكم عليه من مكة إلى بلد بعيد عشر سنوات، وخرج كل من هاشم وأمية في جماعة من أنصارهما حتى وصلوا إلى الكاهن، فقضى الكاهن

لهاشم1، ولم يجد أمية بدا من تنفيذ ما عاهد عليه، فخرج من مكة مكرها بعد أن نحر الإبل، ومكث بالشام المدة، وهذه أول العداوة بين هاشم وأمية وأولادهما. وعلى الرغم من تقدم هاشم في السن، فقد ظل محافظا على الغدو والرواح إلى الشام وإلى اليمن، وإنه لفي رحلته يوما عائدا من الشام، إذ عرج على يثرب مع جماعة من قريش، فاسترعى نظره فتاة تشرف على قوم يتجرون، فأعجب بها، وزادت رغبته إليها حينما علم أنها ابنة عمرو الخزرجي، إذ كان ذا شرف في قومه، وكانت تسمى"سلمى" فتقدم هاشم لخطبتها، فقبلته زوجا لها. وانتقلت معه إلى مكة، ثم رجعت إلى يثرب حيث ولدت لهاشم غلاما سمته شيبة الحمد، بقي في حضانتها في حياة هاشم وبعد موته. ومات هاشم بغزة أثناء إحدى رحلاته، فقام بأعباء الملك من بعده أخوه المطلب، وجمع في يده منصب الرفادة والسقاية، وكان يسمى "الفيض" لسماحته وكرمه. عبد المطلب: وقد فكر المطلب يوما في شيبة الحمد ابن أخيه هاشم، فذهب إلى يثرب وطلب إلى سلمى بنة عمرو الخزرجية أن تسلم إليه الفتى، ففعلت، وأردفه المطلب على بعيره، ودخل به مكة، فظن الناس أنه عبد اشتراه المطلب، وصاحوا: هذا عبد المطلب، فصاح بهم المطلب: إنه شيبة الحمد ابن أخي هاشم قدمت به من يثرب، ولكن على الرغم من هذا غلب هذا الاسم على شيبة الحمد، حتى صار يدعى "عبد المطلب".

_ 1 قال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر "ابن الأثير ج2 ص10، والنزاع والتخاصم بين بني أمية وهاشم للمقريزي, ص2 وما بعدها".

وأراد المطلب أن يعطي ابن أخيه مال أبيه هاشم، فأبى عليه ذلك أخوه نوفل، ووضع يده على ذلك المال، ولما كبر شيبة الحمد واشتد ساعده -بعد وفاة المطلب- لجأ عبد المطلب إلى أهل مكة، فرفضوا أن يدخلوا بين العم وابن أخيه، فكتب بعد ذلك إلى أخواله بني النجار في يثرب فنصروه، واضطر نوفل إلى رد ماله إليه قسرا، وقام عبد المطلب في مناصب هاشم من السقاية والرفادة، لكنه لقي في القيام بها مشقة، وبخاصة السقاية؛ لأن سقاية الحاج كانت تجمع من آبار عدة مبعثرة حول مكة، ولم يكن لعبد المطلب من يساعده غير ولده الحارث، وشغل هذا الأمر بال عبد المطلب، وتمنى لو أن زمزم لا زالت باقية، وأن مضاض بن الحارث الجرهمي لم يكن قد طمّها في القرون الخالية, وظل عبد المطلب يعاني المتاعب في سقاية الحاج وحده، فهو منشغل بأمر السقاية، وبينما هو في منامه، إذ ناداه هاتف: أن احفر زمزم. فقال: وما زمزم؟ فقال الهاتف: بين الفرث والدم عند نقرة الأعصم، وما زال الهاتف يأتيه، حتى اهتدى عبد المطلب إلى مكان زمزم1. شمر عبد المطلب عن ساعد الجد، وجعل يحفر، وابنه الحارث ينقل التراب والرمال حتى نبع الماء، وظهرت النفائس من الذهب والأسياف والدروع، التي كان قد خبأها الملك مضاض الجرهمي، فعزّ على قريش أن تترك ذلك لعبد المطلب، فنازعوه على البئر وما وجد فيها، ولم يكن للمطلب من الأولاد عدد يستمد منهم ومن قوتهم حولا وسلطانا، ولم يستطع أن يمنع نفسه من قريش؛ فرضخ للاحتكام إلى الأقداح لدى هبل في جوف الكعبة، وضربت الأقداح, فوقعت النفائس من نصيب عبد المطلب والكعبة. وكان من بينها غزالتان وألواح كلها من الذهب، تنازل عنها عبد المطلب وضربها ألواحا للكعبة، وحليا لأبواب البيت الحرام. ولكن المسألة تركت أثرا في نفس عبد المطلب، ذلك أنه شعر بهوانه

_ 1 على هامش السيرة للدكتور طه حسين، ومكان زمزم بين "إساف ونائلة".

على قومه وضعفه بينهم وقهره على أن يرضخ لحكم القداح. ولم يكن له من الأولاد ما يجد بهم نصرة، فنذر لئن بلغ ولده عشرة بنين يراهم قادرين على منعه من مثل ما لقي حين حفر زمزم، لينحرن أحدهم قربانا إلى الله عند باب الكعبة، وكرّت الأعوام، وألفى عبد المطلب حوله بنين عشرة، كلهم أشداء, قد بلغوا من القوة ما حسب عبد المطلب معه أنهم قادرون على منعه من مثل ما لقي حين حفر زمزم. فدعا عبد المطلب أبناءه للوفاء بنذره، فأجابوه إلى ما طلب، فاقتادهم إلى جوف الكعبة لدى هبل، وكتب كل واحد من الأولاد اسمه على قدح، ثم أديرت الأقداح في جمع من قريش, فخرج القدح على عبد الله، أصغر أولاد عبد المطلب وأحبهم إليه. واقتاد عبد المطلب ولده عبد الله إلى ما بين إساف ونائلة، حيث كانت تنحر العرب أنعامها. فبكت بنات عبد المطلب، وتعلقن بأخيهن، ورأت قريش في نحر عبد الله شدة وقسوة، فتوسلت إلى عبد المطلب أن يكف عن النحر، وأن يلتمس العذر على عدم الذبح عند هبل, ولم يشأ عبد المطلب أن ينزل عن مراده حتى توجد وسيلة لإرضاء الله، فتشاور القوم. وأخيرا قرّ رأيهم على استشارة عرافة بيثرب، فأشارت بتقريب عشرة من الإبل تضرب عليها وعلى عبد الله القداح, فإذا خرجت القداح على عبد الله، زِيد في الإبل عشرة، وضربت الأقداح ثانية، وهكذا حتى ترضى الآلهة، وفعلوا وجعلت الأقداح تخرج على عبد الله فيزيد في الإبل عشرة، حتى بلغت مائة والناس يشهدون عند الكعبة. ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل، فقال الناس: قد رضي ربك، وقال عبد المطلب: لا, حتى أضرب عليها ثلاثا فتخرج على الإبل، فضرب ثلاثا فخرجت عليها، فنحرت الإبل، ثم تركت لا يصد عنها إنسان, ولا طير، ولا وحش1. وفي عهد عبد المطلب كانت واقعة الفيل، بين أصحاب الفيل من طغاة الأحباش

_ 1 الكامل لابن الأثير ص2, 3.

الذين كانوا قد زحفوا على اليمن، فاستعمروا البلاد، ثم ما لبث أبرهة قائدهم أن صمّم على الاستيلاء على مكة، وحاول صرف العرب عن الكعبة بهدمها, وبإنشاء كعبة أخرى مماثلة لها في اليمن، وقد أهلك الله أبرهة وجيشه بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وقد احتفل الشعراء الحجازيون بهزيمة الحبشة في الحجاز، ونظموا قصائد طويلة يصورون فيها هذا النصر الكبير، وتجد بعض هذه القصائد في كتاب بلوغ الأرب للألوسي1، وهذا الشعر ينفي ما ذهب إليه ابن سلام، في كتاب "طبقات الشعراء"، من قلة الشعر الحجازي في العصر الجاهلي؛ لعدم الحروب والملاحم2. حلف المطيبين: دفعت الضرورة القبائل الحجازية العربية إلى تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن, والدفاع عن مصالحها المشتركة. ومن هذه الأحلاف: حلف المطيبين الذي عقد في مكة، بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، وإجماعهم على أخذ ما بأيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا، على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، ما بل بحر صوفة، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، قيل: إن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم؛ توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا, ولا يسلم بعضهم بعضا, فسموا الأحلاف3.

_ 1 بلوغ الأرب 1/ 251-262. 2 طبقات الشعراء 21. 3 ابن هشام 1/ 431، ابن الأثير 1/ 183, الطبري 1/ 138، لسان العرب 10/ 400.

حلف الفضول: دعت إليه قبائل قريش، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عنه مظلمته، وسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وكان أول اجتماع لقبائل قريش -من بني هاشم وأسد وزهرة وتيم- في دار عبد الله بن جدعان، حيث صنع لهم طعاما كثيرا، ثم عمدوا إلى ماء من بئر زمزم، فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت، فغسلت به أركانه، ثم أوتوا به فشربوه, وتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم، ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه, ما بل بحر صوفة. وقد حضر هذا الحلف رسول الله -صلوات الله عليه- وقال فيه: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار ابن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" 1. معاهدات مع الأمم المجاورة: وقد عقد القرشيون سادة مكة معاهدات على جانب كبير من الخطورة في العصر الجاهلي مع الأمم التي تجاورهم، وهي معاهدات اقتصادية تحمي حرية التجارة، وينتشر في ظلالها نفوذ العرب في كل مكان. ويروي صاحب الأمالي في كتابه ذيل الأمالي والنوادر ما نصه2: "كانت قريش تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب, فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام, فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة، ويضع جفنة ثريد، ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فقيل له: ههنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم,

_ 1 ابن هشام 1/ 145، الأغاني 16/ 61، الاشتقاق لابن دريد ص111, العقد الفريد 12/ 4، اللسان 10/ 199 و1/ 90 محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري. 2 ذيل الأمالي ص199.

وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجارتهم, فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا، والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف، إنما هو أمان الطريق، وعلى أن قريشا تحمل لهم بضائع فيكفونهم حملانها، ويؤدون إليهم رءوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام، حتى قدم مكة، فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم، يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة، وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهدا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان أكبر أولاد عبد مناف، وكان يسمى الفيض، وهلك بردمان من اليمن، وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة، فقبره بالحجون, وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش، وإيلافا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق، فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة، وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام".

"ثانيا" المدينة: تاريخ المدينة السياسي قبل الإسلام: "كان ساكنو المدينة -في أول الدهر قبل بني إسرائيل- قوما من الأمم الساحقة، يقال لهم: "العماليق". وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، فكان ملك الحجاز منهم يقال له: الأرقم, ينزل ما بين تيماء وفدك، وكانوا قد ملئوا المدينة ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعا ولا يستبقوا منهم أحدا، فقدم الجيش الحجاز فأظهرهم الله على العماليق، فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم كان وضيئا جميلا, فضنوا به على القتل، وقالوا: نذهب به إلى موسى فيرى رأيه فيه، فرجعوا إلى الشام فوجدوا موسى قد توفي، فقال لهم بنو إسرائيل: ما صنعتم؟ فقالوا: أظهرنا الله عليهم فقتلناهم, ولم يبق منهم أحد غير فلان كان شابا جميلا, فنفسنا به على القتل، وقلنا: نأتي به موسى فيرى فيه رأيه، فقالوا لهم: هذه معصية، قد أمرتم ألا تستبقوا منهم وألا تدخلوا علينا الشام أبدا. فلما صنعوا ذلك قالوا: ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين قتلناهم بالحجاز، نرجع إليهم فنقيم بها، فرجعوا على حاميتهم فنزلوها، فكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود بالمدينة1. ويشك ابن خلدون في صحة هذه الرواية؛ لأنها لم توجد عند اليهود، ولأن اليهود لا يعرفون هذه القصة. ولكن من الراجح أن اليهود نزحوا إلى الحجاز في بعض النكبات التي أصابتهم، وإن كان نزوحهم ثابتا لما هدم بختنصر بيت المقدس, وأجلى من أجلى، وسبى من سبى من بني إسرائيل، ففر قوم منهم إلى الحجاز، ونزلوا وادي القرى ويثرب وتيماء2. ثم لحق بهؤلاء إخوان لهم فرارا من بومبي، ومن تيطس، ومن هادريان.

_ 1 الأغاني ج11. 2 تاريخ الطبري 1/ 281, وفتوح البلدان للبلاذري 21-23.

والحقيقة أن جموعا من اليهود المضطهدين كانوا يبحثون لهم عن ملجأ كلما حزبهم الأمر، وكان هذا الملجأ هو الحجاز1، ومن المحتمل أن الأنباط حين غزوا فلسطين أسروا كثيرا من اليهود، وأن هؤلاء الأسرى وغيرهم يمّموا شطر الجنوب موغلين2. على أن عددهم بالحجاز قبل الميلاد بقرن، كان ضئيلا؛ لأن جريزل Grayzel نشر خريطة دقيقة لمواطن اليهود في العالم القديم في القرن الأول قبل الميلاد، وسجل فيها عددهم في كل موطن، وليس بها إشارة إلى اليهود بالحجاز أو باليمن3. وفي الحجاز أقام اليهود، وبنوا الحصون، وثمروا الأموال، وزرعوا الأرض4, وبتطاول الزمن صارت لهم في الحجاز مستعمرات عدة، منها: خيبر، وفدك، ووادي القرى، وتيما، ومقنا. وكانت قرى كثيرة شمالي يثرب آهلة باليهود، وهي والمستعمرات اليهودية تصور مبلغ كثرتهم وانتشارهم بالحجاز5. وكثر اليهود بالحجاز، واختلطوا بالعرب؛ لأن الأوس والخزرج نزلوا يثرب ووجدوا بها عدة قبائل من بني إسرائيل، هم: بنو عكرمة، وبنو ثعلبة، وبنو محمر، وبنو زغوار، وبنو قينقاع، وبنو زيد, وبنو النضير, وبنو قريظة، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو الفصيص. وكان هنالك بنو ضخم، وبنو ماسكة، وبنو القممة، وبنو زيد اللات، وبنو حجر، وبنو زهرة, وبنو زبالة, وبنو ناغضة، وبنو عكوة، وبنو مزاية، حتى لقد نيّفت قبائلهم على العشرين، وزادت آطامهم وآطام من نزل معهم من العرب على السبعين6. وكانت معهم بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان -حي من اليمن- وبنو مرثد -حي من بلي- وبنو نيف -من بلي- وبنو معاوية

_ 1 Deperceval p. 642. 2 تاريخ اليهود لجريزل, صفحة 244. 3 تاريخ اليهود لجريزل, صفحة 244. 4 خلاصة الوفاء للسمهودي ص79. 5 معجم البلدان 7/ 428. 6 خلاصة الوفا 79.

-من بني سليم- وبنو الشيظة -من غسان- وبنو مزيد -من بلي- وبنو الجذمى "الجذماء" من اليمن. ثم بعد سيل العرم وفد إليهم الأوس والخزرج، واستوطنوا المدينة، وأقام بعضهم بين القرى اليهودية، وأقام آخرون مع اليهود في قراهم، ونزل بعضهم وحده لا مع اليهود, ولا مع العرب الذين كانوا قد تألفوا إلى اليهود1. والأوس: ينتسبون إلى أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد، وينقسمون إلى بطون، منهم: عوف، والنيبت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس. وأما الخزرج: فهم إخوة الأوس، فالخزرج شقيق أوس، وهم بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى تيم الله بن ثعلبة، والحارث، وجشم، وعوف، وكعب ... وكان للخزرج رئيس منهم هو عمرو بن الإطنابة، وقد حكم الحجاز في أيام النعمان بن المنذر، وقتله الحارث بن ظالم قاتل خالد بن جعفر بن كلاب. والأوس والخزرج يدعون ببني "قيلة"، وهي: قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة على الراجح. وقضى الأوس والخزرج ردحا من الزمن في ضيق؛ لأن الخيرات كانت في قبضة اليهود، ثم تحالفوا وتعاملوا، وظلوا على ذلك زمنا طويلا2 حتى قدم أبو جبيلة الغساني إلى يثرب، فآزر الأوس والخزرج، وأفنى كثيرا من اليهود. وقد أشاد الشعراء بأبي جبيلة وافتخروا به، وكان أبو جبيلة من الخزرج الذين نزحوا إلى سوريا، واندمج في الغساسنة، فمن الطبيعي أن يستجيب لنصرة قومه. ثم نكل مالك بن العجلان مرة أخرى باليهود، فنقموا منه ولعنوه في بِيَعهم وكنائسهم. ولكنهم بعد ذلك ذُلوا وتخوّفوا بطش العرب، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه، لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون,

_ 1 المرجع السابق 82. 2 الأغاني 19/ 96.

بل يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين يعيش بين أظهرهم؛ لأن كل قوم من يهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم1. ثم دبّ دبيب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا السلطان، فجرت بينهم الوقائع، وكانت بينهم حروب طويلة، أشهرها: الأيام المعروفة بيوم سمير، ويوم السرارة، ويوم حاطب، ويوم بعاث. وما زال الخلاف قائما بين الأوس والخزرج، يستعين فيه بعضهم ببعض قبائل اليهود على بعض؛ حتى كان اعتناقهم للإسلام، وهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم سنة 622م، حيث آخى بينهم, وتناسوا ما كان بينهم من عداوة وأحقاد كادت أن تأتي عليهم2.

_ 1 الأغاني 91/ 97, والمرأة في الشعر الجاهلي. 2 عصر ما قبل الإسلام ص178 لمحمد مبروك نافع, وراجع الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار.

الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي الحكم القبلي: أبطلت البحوث الحديثة نظرية "روبرتسون سميث Robetson Smith" القائلة: إن النظام الاجتماعي في بلاد العرب كلها واحد يمكن تلخيصه في أن القبيلة هي الوحدة السياسية والاجتماعية؛ فقد أثبت العلامة روبرت لوي R. Lowie "أن الأسرة هي أصغر وحدة اجتماعية, وأن الجماعات الكبيرة كالعشيرة والقبيلة قد نشأت من نمو الأسرة"1. ولذا عدت الأسرة عند أكثر الأمم قديما وحدة اجتماعية، فكانت أشبه بحكومة صغيرة في الأمة الكبيرة. ومن الأسر المشتركة في الدم تنشأ القبيلة موسومة بطابع الأسر التي كونتها. وكل خيمة في المجتمع تمثل أسرة، والمعسكر المكون من عدة خيام يسمى حيا وأعضاء الحي الواحد يكونون قوما، ومجموعة الأقوام القريبة النسب يكونون قبيلة. فالقبيلة العربية إذًا هي الأساس الاجتماعي الكبير لحياة العرب. ويعد أفراد القوم الواحد أنفسهم أبناء دم واحد يخضعون لرئيس واحد، ويتداعون إلى الحرب بصيحة واحدة، ويضيفون كلمة "بني" إلى الاسم الذي يجمع بينهم2. ورئيس القبيلة يتميز بصفات خاصة هي التي دفعته إلى الصدارة؛ فهو

_ 1 R. Lowie primitive Society Smith & Religion of The Semites p 38. 2 تاريخ العرب, فيليب حتى 1/ 32, ترجمة الأستاذ محمد مبروك نافع.

أقواهم شخصية، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم يدا، وأفصحهم لسانا، وأوسعهم صدرا، وأنضجهم عقلا, وهو في الوسط من قومه ينتمي إلى آباء توارثوا المجد. وشيخ القبيلة -أو سيدها- ينتخب انتخابا طبيعيا إذا ما توفرت له تلك الفضائل من كرم وشجاعة، ومروءة وشهامة، وفصاحة ولسن, وحكمة وتجربة, وفاق غيره فيها. ومن حيث إن هذه الخلال لا تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، فإن سيادة القبيلة ليست منصبا وراثيا. وفي المسائل القضائية والحربية وغيرها من الشئون العامة لم يكن شيخ القبيلة مستبد السلطان, بل إن عليه أن يستشير مجلس القبيلة المكون من زعماء الأقوام, وبقاؤه في منصبه رهين برضاء زمرة ناخبيه، فسيادة الرئيس إذًا ليست مبنية على التسلط والقهر والاستبداد، وإنما منشؤها التجلة والاحترام والعدالة والديمقراطية، والتفاني في خدمة العشيرة, ومن قولهم المأثور: "سيد القوم خادمهم". وإذا ما ركب شيخ القبيلة رأسه واعتز بطغيانه واستبد بجماعته، فإنه لا يلبث طويلا حتى يثور عليه بعض أفراد قبيلته, ويقتلوه أو يقصوه عن الحكم. "والعرب عامة, والأعراب منهم خاصة وقد ولدوا في مهاد الديمقراطية، يقابل الواحد منهم شيخه ويقف منه موقف المساواة. ولم يستعمل العرب لقب ملك -في الأغلب- إلا حينما كانوا يشيرون إلى الحكام الأجانب أو أسرتي غسان والمناذرة المتأثرتين بالنفوذ الروماني والفارسي، ومن شذ عن هذه القاعدة ملوك بني كندة1. والحكم القبلي على هذا النحو هو الذي كان سائدا في البوادي والقبائل الحجازية. أما المدن كمكة والمدينة، فقد احتفظت بجوهر الروح الديمقراطية في الحكم القبلي، إلا أنها اتخذت ألوانا من التنظيم والتنسيق طبقا لما كانت عليه من درجة التحضر والرقي.

_ 1 المرجع السابق ص25, 26.

الحكم في يثرب: فأما "يثرب" حيث تنازع السلطان فيها الأوس والخزرج، فقد أراد كل فريق منهما أن يكون الحكم في رجاله، وبعد حروب استقروا على أن يكون الحكم بينهما بالمناوبة، فيحكم في كل عام زعيم من زعماء الحي الواحد، يليه في العام الثاني, وبذلك يكونون قد وضعوا لهم نظام التناوب في الحكم، فيكون لهذه المدينة حاكم في كل عام1. وكان أهل يثرب أباة أحرارا, يثورون على الظلم ولا يقبلون الضيم. وقد حدث أن حكم يثرب وما حولها الفطيون اليهودي، وكان فاسقا فاجرا مستهترا، وكانت اليهود تدين بألا تتزوج امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها. ويقال: إن هذا الفاسق قد سولت له نفسه الخبيثة أن يمارس هذه الفعلة الشنعاء مع الأوس والخزرج، بيد أن روحهم العربية الأبيّة أبت أن يُوصَموا بهذه الوصمة البغيضة، فاندس إليه رجل من الخزرج فقتله ... وذلك في قصة ترويها كتب التاريخ ومؤداها: "أن أختا لمالك بن العجلان الخزرجي تزوجت، فلما كان زفافها خرجت إلى مجلس قومها وفيه أخوها مالك، وقد كشفت عن ساقيها، فقال لها: "لقد جئت بسوء" فقالت: "الذي يُراد بي الليلة أسوأ من هذا، أدخل على غير زوجي؟! " ثم عادت فدخل عليها أخوها، فأشار عليها أن يدخل مع النساء، فإذا خرجن ودخل الفطيون قتله، فذهب مع النساء في زي امرأة ومعه سيفه، فلما خرجن قتله مالك وخرج هاربا ... واستنجد مالك بأبي جبيلة عظيم غسان2, فأباد كثيرا من اليهود الذين بالمدينة وصار العز بها للأوس والخزرج". وهكذا تخلصت يثرب من العسف والطغيان, وقضت على سلطان الدخيل، ومحت عن نفسها وصمة الذل والعار بسيف ابن من أبنائها البررة الشجعان.

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج4 ص230. 2 كان اسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم, وهو خزرجي كذلك؛ لأنه من بني غضب بن جشم من الخزرج. انظر الكامل لابن الأثير ج1 ص401, 402.

الحكم في مكة: مكة الكبرى لقاح: كانت مكة في الجاهلية لقاحا1 لا تدين لملك، وتأبى أن ينفرد بالحكم فيها فرد متوج أيا كان هذا الفرد ولو كان من صفوة بنيها الأخيار، فلا تاج ولا صولجان ولا استئثار بالسلطان؛ ذلك لأن الحكم الفردي يخالف طبيعتها، ويجافي فطرة أبنائها، تستنكره تهامة أعظم الاستنكار, ومكة من تهامة بل هي قلب تهامة، يقول الجاحظ: "لم تزل مكة أمنا ولقاحا، لا تؤدي إتاوة، ولا تدين للملوك2 ... ". ولما طمع أحد القرشيين -وهو عثمان بن الحويرث- في أن يملك قريشا وأن يعقدوا له على رأسه التاج، وافقوا -بادئ ذي بدئ- لأنه تحيل عليهم، ولكنهم ما لبثوا حين استبانوا الرشد أن فاءوا إلى طبيعتهم فانتفضوا وثاروا، وقالوا له: "ما كان بتهامة ملك قط" وأقسموا باللات والعزى على ألا يكون ذلك أبدا. وفيما يلي نسجل حديث هذه الانتفاضة كما وردت في التاريخ: "خرج عثمان بن الحويرث وكان يطمع أن يملك قريشا, وكان من أظرف قريش وأعقلها، حتى قدم على قيصر وقد رأى موضع حاجتهم ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبه فيها, وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء، فملّكه عليهم وكتب له إليها, فلما قدم عليهم قال: يا قوم, إن قيصر من قد علمتم, أموالكم ببلاده, وما تصيبون من التجارة في كنفه, وقد ملكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم وواحد منكم، وإنما آخذ منكم الجراب من الأقط والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام, فلا تتجروا فيه ويقطع مرفقكم منه.

_ 1 اللقاح: الذي لا يخضع لحكم أحد. 2 الحيوان ج3 ص141, تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون.

فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فاجتمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية وفارقوه على ذلك. فلما طافوا عشية بعث الله عليه ابن عمه أبا زمعة الأسود بن عبد المطلب بن أسد, فصاح على الجمع وكانت قريش في الطواف وقال: عباد الله, ملك بتهامة؟! قالوا: "صدقت, واللات والعزى ما كان بتهامة ملك قط! " فانتفضت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر يعلمه". وفي رواية أخرى: قال الأسود بن عبد المطلب: "إن قريشا لقاح لا تملك" وكانت نهاية عثمان أن سُمَّ، ومات بالشام مسموما1. الحكومة المكية: ويجدر بنا أن نلاحظ أن بعض المدن والقرى، ولا سيما العربية الغربية مثل مكة، لم يكن عليها ملك كما أسلفنا، إنما يحكمها عدة رجال, قسمت الأعمال بينهم، ولا يلقب زعيمهم والمتقلد فيهم بلقب ملك. و"للملأ" وهم أصحاب الحل والعقد في البلد، الحكم في الناس على وفق العادات والأعراف والقوانين الموروثة, ويكون لهم في البلد مجتمع خاص يكون ناديهم ومقرهم, وناديهم ومقرهم ودار حكمهم عرف بـ"دار الندوة" بمكة وبـ"المزوِّد" عند أهل اليمن. ويمكن أن نقول: إنه مجلس تلك الزمرة، وبرلمان ذلك العهد, ويرى بعض الباحثين أن طريقة الحكم في أمثال هذه المدن هو ما يقال له بـ"حكومات المدن" عند المؤرخين الغربيين2, وقد نظر بعض المؤرخين إلى مكة من زاوية خاصة وهي اشتهار أهلها بالتجارة وأطلقوا عليها اسم "الجمهورية التجارية"، تلك الجمهورية التي شبهها "لامنس" بجمهوريتي البندقية وقرطاجنة؛ لسيطرة الماليين من أرباب التجارة وأصحاب رءوس الأموال3 كما وصفها "در منجهم" بأنها جمهورية بلوتقراطية،

_ 1 شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام, لتقي الدين الفاسي ج2 ص182, 183, مخطوط رقم 28314. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام ج4 ص22-230. 3 مجلة الشرق سنة 1936 ص539، وأسواق العرب ص91، 92.

ويقصد بكلمة بلوتقراطية أنها حكومة الأغنياء, وكان يشرف عليه البارزون من بني قصي. وهذه النزعة التجارية حتّمت عليهم أن يضربوا في جنبات الأرض شرقا وغربا وشاما ويمنا, وأن يحتكوا بالفرس والرومان وغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة. ومن المرجح أنهم استفادوا من بعض الأنظمة الاجتماعية التي وجدوا عليها الروم وفارس حتى ظن بعض المؤرخين المحدثين أن دار الندوة نفسها ما هي إلا "اقتباس مغير مصغر عن مجامع الروم الدينية والمدنية"1. بيد أننا نعتقد أن هذه الدار قد انبثقت من صميم الروح الديمقراطية العربية التي كانت تسري في دم قصي وفي الملأ الذين عاشوا في بيئته وعصره، وأن استمرار هذا البرلمان القرشي وبقاءه حتى بزوغ فجر الإسلام يعتبر دليلا على أصالة هذه الروح وحب القرشيين للشورى وإيثارهم لرأي الجماعة على رأي الفرد، ولم تكن حكومة قريش هي حكومة الأغنياء التي يسيطر فيها أصحاب رءوس الأموال كما يصور ذلك بعض المستشرقين ومن لف لفهم من المؤرخين العرب، وإنما كانت حكومة ديمقراطية تستهدف إقامة العدالة الاجتماعية والقضاء على مشكلة الجوع والفقر ... ونحن لا ننكر أن فئات من قريش قد أثرت، وأن بعض هذه الفئات قد تولى السلطان، بيد أن هؤلاء لم يكونوا يستغلون نفوذهم للثراء الفاحش وامتصاص دم الشعب، وإنما كانوا يتخذون السبل المشروعة لجمع المال، ثم ينفقونه في وجوه البر والخير كإطعام الحجاج ومساعدة المعتفين والمحتاجين وتحمل الديات، فالمناصب الحكومية كانت مغارم عليهم لا مغانم لهم. بل إن اشتغالهم بالتجارة لم يكن إلا لتعففهم عن الغزو والسلب والنهب، حتى كان بعض القرشيين إذا أجدبوا ولم يجدوا ما يحفظ رمقهم ورمق أبنائهم ينتحون مكانا قصيا حتى يموتوا جوعا, مؤثرين الموت الشريف على الحياة التي يجللها عار السرقة والنهب. ولم تكن رحلة الشتاء والصيف إلا ليخلقوا مجتمعا سويا لا يحس فيه أحد منهم بألم الجوع وذل الفقر، فالأغنياء والقادرون على العمل والكسب كانوا

_ 1 أسواق العرب 109.

يعملون في التجارة صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن حتى إذا انتعشت الحياة الاقتصادية وراتفعت نسبة الدخل القومي، تضاءلت نسبة الفقراء، فإذا بقي بعد ذلك فقير أو عاجز أو مستضعف كان له حظ في أموال الأغنياء، بل كانوا يخلطون فقيرهم بغنيهم، فإذا الكل على حد سواء. هذه ظاهرة من ظواهر الرقي الاجتماعي الذي حققته حكومة قريش وبرلمانها "دار الندوة", تلك الدار التي لم يكن يدخلها للمشورة من غير بني قصي إلا من بلغ أربعين عاما، في حين كان يدخلها بنو قصي وحلفاؤهم جميعا. وقد رأى بعض المؤرخين المحدثين في هذا التفريق لونا من الامتياز, فوسم قصيا مؤسس هذه الدار بأنه "كان أرستقراطيا"، ولكن يخفف من هذا النقد أن أولاد قصي كانوا من الكياسة والنضج وحسن التدبير للأمور في المكان الأرفع. أضف إلى ذلك أن دار الندوة كانت تستقبل كل حكيم مفوّه ولو لم يبلغ الأربعين, مما يدلنا على أن قصيا لم يكن يقصر عضوية دار الندوة على أبنائه وحدهم، وإنما كان يفتح أبوابها لكل نابغة محنك, فهو إذًا لم يكن يستهدف إلا قوة الشخصية والنضج العقلي. أول رئيس للحكومة المكية: ولقد كان زيد بن كلاب، زعيم النهضة القرشية، وسمي قصيا فيما بعد؛ لأنه نشأ بعيدا عن موطنه الأصلي "مكة"، فقد كان طفلا عندما مات أبوه كلاب, كما سبق في الفصل السابق، وسرعان ما تزوجت أمه فاطمة من رجل من بني عذرة في حدود الشام ونشأ هناك, ولما استوى عوده عاد إلى مكة وكان النفوذ الديني والمدني في أيدي الخزاعيين، فعزّ على قصي أن يرى الأجانب سادة على قومه القرشيين، فعقد العزم على أن ينتزع منهم السلطان, وتزوج من ابنة زعيم خزاعة "حليل بن حبشية". ولما مات حليل -وكان قد أوصى له بحكم مكة وولاية البيت من بعده كما تذكر بعض الروايات- شب الخلاف بين قصي وقريش، وبين خزاعة، وانضمت بكر لخزاعة كما انضمت كنانة وعذرة لقريش, وظلت الحرب بينهما سجالا حتى حكّموا فيما بينهم رجلا من كنانة, فقضى لقصي بولاية

الكعبة وحكم مكة، وبذلك أصبح قصي رئيسا للجمهورية المكية وزعيما لديانتها، وكان أول ما صنعه قصي أن جمع قريشا وأسكنها وادي إبراهيم، فنزل سادتها وسراتها فيما بين الأخشبين ويسمون قريش البطاح، ونزل سائر قريش فيما وراء ذلك بظاهر مكة, فسموا قريش الظواهر. وكان لقصي كل الوظائف الرئيسية دينية كانت أم سياسية، وكان -كما سبق- رئيسا لدار الندوة وبيده اللواء والرفادة والحجابة. وإذا ما استعرضنا الاصطلاح الحديث -مع شيء من التجاوز- قلنا: إنه كان مهيمنا على السلطات التشريعية والمالية والحربية, وكان القائد الأعلى للجيش كما كان كبير مستشاري الدولة، ورئيس الجمعية الوطنية في الحكومة المكية الفتية، وكان -لشخصيته القوية ونفوذه الواسع وجمعه لهذه المناصب الكبيرة- زعيما لبلاد العرب ورئيسها الديني الأعلى. الحزب الهاشمي, والحزب الأموي: كان قصي في حياته قد وكل أمر اللواء والرفادة وغيرهما لابنه عبد الدار؛ ولذا كان من الطبيعي أن يتولى السلطان بعد وفاة والده، وظلت السلطات في أيدي بني عبد الدار وأحفاده. ونستطيع أن نقول: إنه كان يحكم قريشا في هذه الفترة حزب واحد, حتى نشأ الخلاف بين عبد مناف وعبد الدار، ووزعت بينهم السلطات على نحو ما سبق بيانه، فأصبحت الحكومة القرشية حكومة ائتلافية يشترك فيها حزبان كبيران. بيد أن سلالة عبد مناف احتفظت بالزعامة الحقيقية لمكة، وانقسم بنو عبد مناف بدورهم إلى حزبين هما: بيت ابنه هاشم، وابنه عبد شمس، ولقد احتفظ البيت الهاشمي بمنصبي الرفادة والسقاية، فكسب بذلك نفوذا ثبَّته حسن إدارة المطلب، ثم ابن أخيه عبد المطلب من بعده الذي اعتبرته مكة -كما اعتبرت أباه هاشما من قبل- زعيم شيوخ مكة. أما فرع أمية بن عبد شمس, فإنه كان كثير العلاقات بالبيوت الأخرى، وأكسبته علاقاته هذه نفوذا، واحتفظ بمنصب هام هو القيادة في الحرب.

"وبلغ التنافس بين هذين الحزبين أشده إبان البعثة النبوية, ولكن باعتناق مكة الإسلام اختفت هذه المنازعات إبان الحماس الديني والفتوح الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين"1. العدالة السياسية, والتكافل الاجتماعي: بعد هذا سنعرض بعض المشكلات الجوهرية التي تواجه عادة الحكومات والمجتمعات في كل عصر ومصر؛ لنرى كيف حلها المجتمع القرشي والحكومة القرشية. فأما المشكلة الأولى فهي مشكلة الأمن الداخلي لسلامة الوطنيين وغير الوطنيين, سواء كانوا من الجاليات الأجنبية أو من العرب الذين يفدون إلى مكة وأسواقها لأغراض دينية أو تجارية أو أدبية. وقد وجدت قريش أن قوة القانون وحدها لا تكفي لتحقيق هذا الغرض, بل لا بد من حصانة خلقية تسوق المجتمع لحماية الأفراد من العدوان أيا كان هذا العدوان، ولا بد أن يستشعر القرشيون -بوصفهم مواطنين لا بوصفهم حكاما- أن عليهم أن يردوا المظالم وأن يأخذوا بيد الضعيف والمظلوم, وأن ينتصفوا له من ظالمه أيا كانت شكيمته. وهذا اللون من الالتزام والشعور بالمسئولية ما ساد مجتمعا من المجتمعات إلا رفرف عليه روح الأمن والطمأنينة والسلام, وأصبح في الذروة من الرقي والحياة الحرة الكريمة. كان ذلك في دار عبد الله بن جدعان, حيث اجتمعت طوائف من قريش تنتظم بني هاشم وأسد وزهرة وتيم, وتعاقدوا على ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم. فاعجب لأناس ينتصفون للخصم والمظلوم من أنفسهم قبل غيرهم. وبعد إبرام هذا الحلف العظيم الذي كان يسمى حلف الفضول, قدم رجل من خثعم مكة تاجرا ومعه ابنة له اسمها القتول من أوضأ نساء العالمين وجها، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم يبرح حتى نقلها إليه وغلب

_ 1 تاريخ العرب: عصر ما قبل الإسلام ص181, 182.

أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول، فأتاهم فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيهًا، فقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل، وهو يومئذ منتد بناحية مكة وهي معه، فأخرجها إليهم, فأعطوه إياها وركبوا وركب معهم الخثعمي. وأما المشكلة الثانية, فهي مشكلة العوز والفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع المكي، تلك المشكلة التي لا تزال الحكومات والمجتمعات الحديثة تشكو منها، ويستبين عجزها الفاضح عن حلها ... قد حلتها قريش بأسلوب، مهما قيل في بساطته، فقد كفل القضاء على الفقر والإدقاع؛ إذ ألزمت الأغنياء بكفالة الفقراء، وبذلك دُفع عن ذوي الحاجة غائلة الخصاصة، وأصبح الأغنياء والفقراء في ميزان الحياة على السواء بهذا التكافل الاجتماعي الذي غدا مبدأ مرعيا، وسنة من سنن المجتمع المكي منذ عهد هاشم حتى مجيء الإسلام. فلقد كانت قريش إذا أصاب واحدًا منهم مخمصة، خرج هو وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه, وكان له ابن يقال له: أسد, وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه, فشكا إليه الضر والمجاعة، فدخل أسد على أمه يبكي, فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما. ثم أتى ترب أسدا مرة أخرى وشكا إليه الجوع, فقام هاشم خطيبا في قريش فقال: "إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون, وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم، والناس لكم تبع" قالوا: "نحن تبع لك, فليس عليك منا خلاف". فجمع هاشم كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم. فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش. وهذا معنى قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي1 وأما المشكلة الثالثة, فهي مشكلة المحافظة على الكيان السياسي والاقتصادي، وقد اتخذت قريش الوسيلة لحلها عن طريقين, أولهما: الطريق السلمي الذي يعتمد على المعاهدات السياسية والتجارية, والتي تؤمن الشريان الحيوي لتجارتها عبر الصحراء إلى الشام واليمن. وثانيهما: قوة الدفاع الوطني التي تعتمد أولا على السواعد القوية لقبيلة قريش الفتية، وثانيا على طائفة الحبش من فلول جيش أبرهة وغيرهم، وعلى حلفاء قريش من العرب الذين كانوا يسمون "الأحابيش". أحابيش قريش وقوة الدفاع العسكري: ويستعمل لفظ "الأحابيش" في الدلالة على القوة العسكرية التي كانت تستأجرها قريش قبيل الإسلام؛ للدفاع عن بلدها وقوافلها التي كانت تتردد بين الشام واليمن. ويؤخذ من صريح النصوص العربية، لغوية كانت أو تاريخية، أن هذه القوة كانت عبارة عن حلف قوامه أحياء من عرب كنانة وخزيمة اللتين كانتا تنزلان أغوار تهامة، ومن خزاعة التي كانت تنزل بظاهر مكة. بهذه النصوص أخذ المستشرق الألماني الكبير فلهاوزن, فقال في كتابه الذي ألفه "عن الوثنية العربية" هذه العبارة: "الأحابيش: أحلاف قريش السياسيون". ولكن لامانس المستشرق اليسوعي المعروف نشر في المجلة الأسيوية, مقالا ضافيا ذهب فيه أن رواة اللغة العربية قد وهموا في تفسير هذا اللفظ, وأن الأحابيش كانوا -كلهم أو جلهم على أقل تقدير- زنوجا من بلاد الحبشة، وأن رواة السيرة تعمدوا القول بأنهم عرب؛ أنفة من أن يقولوا: إن قريشا كانت في الجاهلية تستعين بالسودان في الدفاع عن حوزتها. بيد أن المرحوم عبد الحميد العبادي قد أثبت: 1- أن الأحابيش كانوا عربا.

_ 1 الكافي: الغنى. راجع بلوغ الأرب ج3 ص368.

2- وأن القول بعربيتهم هو المتفق مع تاريخهم. 3- وأن العبيد الذين كانت قريش تستعين بهم في حروبها, لم يكونوا من الأحابيش في شيء. وقد لاحظ أن التفسير اللغوي لكلمة الأحابيش يفيد ثلاثة معانٍ خاصة: 1- الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. 2- التجمع والتأشب. 3- كثرة العدد ويكنى عنها بالسواد؛ لأن العرب تنعت الشيء إذا كثر وتكاثف بسواد اللون. وهذا التفسير اللغوي يتمشى مع مدلول الأخبار الواردة في بيان أصل نظام الأحابيش. قال ابن إسحاق: والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة. وقال ابن هشام: "تحالفوا جميعا فسموا الأحابيش؛ لأنهم تحالفوا بوادٍ يقال له: الأحبش بأسفل مكة"1. ويقول صاحب معجم البلدان: "حبشي: جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك، يقال: به سميت أحابيش قريش، وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده وحالفوا قريشا، وتحالفوا بالله: إنا ليد واحدة على غيرنا ما سجا ليل ووضح نهار، وما رسا حبشي مكانه. فسموا أحابيش قريش باسم الجبل، وبينه وبين مكة ستة أميال ... "2. ومن هذه النقول التاريخية نأخذ أن الأحابيش: 1- كانت أحياء عربية تنتمي إلى كنانة وخزيمة وخزاعة. 2- أن هذه الأحياء تجمعت بوادٍ يقال له: الأحبش، أو عند جبل يقال له: حبشي, وتحالفت فسميت الأحابيش. 3- أنها حالفت قريشا على التناصر والتآزر، فالمدلول التاريخي لكلمة "الأحابيش" متمشٍّ مع مدلولها اللغوي.

_ 1 سيرة ابن هشام, طبعة جوتنجن 245, 246. 2 معجم البلدان: حبشي.

وجنسية الأحابيش العرب يؤكدها تاريخ حلفهم الذي نرجح أنه قام في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي, وانتهى بفتح الرسول مكة سنة ثمانٍ للهجرة. فإنا إذا رجعنا إلى تاريخ عصر النبوة وجدنا الأحابيش طوال ذلك العصر الخطير قوة عربية لها خصائص القبيلة: من سيد يتزعمها، وأرض تنزلها، وراية تحفّ بها عند الحرب، وأنها كانت من حيث علاقاتها السياسية بقريش تنزل منها منزلة الحليف من الحليف، والند من الند، وأنها كانت مسموعة الكلمة في الشئون العامة لقريش ... فالأحابيش عرب وليسوا زنوجا، وقد كانوا حلفاء لقريش تستأجرهم للدفاع عن كيانها الاقتصادي. وقد كان بمكة قوة من الحبش حقا, ولكن هذه القوة لم تكن من الأحابيش في شيء، بل كانت عبارة عن طبقة من العبيد مسخرة لأشراف مكة في حالي السلم والحرب. ومما يدل على تمييز هذه الطبقة من الأحابيش قول الطبري في غزوة أحد: "فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة"، وعطف عبدان على ما قبلها هنا عطف نسق يفيد المغايرة، وليس عطف توضيح وبيان كما يرى لامانس1. وبعض طبقة الحبش قد شري بالمال، وبعضها كان من فلول حملة أبرهة الحبشي على الحجاز ... يقول الأزرقي: "وأقام بمكة فلال من الحبش وعسفاء وبعض من ضمه العسكر, يعتملون ويرعون لأهل مكة"2، وعرف عنهم خلتان: إطعام الطعام، والبأس يوم البأس. ومن هذه الطبقة وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وصؤاب حامل لواء قريش في ذلك اليوم. وقصارى القول: أن القوة العسكرية لمكة لم تكن تعتمد على سواعد القرشيين وحسب، وإنما كانت تنتظم كذلك طوائف من الحبش الأرقاء، ومن

_ 1 صور من التاريخ الإسلامي, العصر العربي, الأستاذ عبد الحميد العبادي ص13-21. 2 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص91، طبعة مكة.

الأحابيش الأحرار، هؤلاء الأحابيش الذين استأجر أبو سفيان منهم عددا يبلغ الألفين في يوم أحد. وقد كانت قريش إذا أزمعت حربا تتلقى اللواء من يد زعيمها قصي الذي كان يمثل الرئيس الأعلى للجيش، فقد كان يعقد رقاعا من القماش الأبيض على أطراف الحراب ويقدمها بنفسه، أو يبعثها مع أولاده إلى زعماء قريش. وقد ظل هذا التقليد -الذي يسمى "عقد اللواء" منذ أن أنشأه قصي- إلى آخر أيام الفتوح العربية جاريا. وبعد أن مات قصي أصبح زعيم قريش عبد الدار أكبر أبنائه، وتولى أبناؤه بعد وفاته تلك الوظائف التي أسلفنا ذكرها، ومن بينها اللواء، ووليها من بعدهم أحفاده، ولكن خلافا نشب بين بني عبد الدار وبني عبد مناف، كاد يفضي إلى القتال لولا أن الفريقين اتفقوا على أن تكون السقاية والرفادة لعبد شمس بن مناف، وأن تظل الحجابة والندوة واللواء في أيدي بني عبد الدار, مما أكسبهم نفوذا وسلطانا قويا في مكة ذاتها. وكانت قريش تميل للسلام، وإذا استعرنا أسلوب العصر الحديث، قلنا: إنها كانت من دعاة التعايش السلمي peaceful Coexistence، ولكنها إذا اضطرت للقتال كافحت كفاح الأبطال، وربما بدا من بعض أفرادها ما يشبه أفعال الفدائيين أو الفرق الانتحارية في الحروب الحديثة. وفي إحدى حروب الفجار التي كانت بينها وبين قيس عيلان جمعت قيس جموعها ومعها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها منهم: كنانة جميعها، والأحابيش، وأسد بن خزيمة، وخرجت قريش للموعد, على كل بطن منها رئيس بعد أن تسلحت، فكان على بني هاشم: الزبير بن المطلب ومعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإخوته أبو طالب، وحمزة، والعباس بنو عبد المطلب، وعلى بني أمية وأحلافها: حرب بن أمية، وعلى بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعلى بني مخزوم: هشام بن المغيرة أبو أبي جهل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني جمح: معمر بن خبيب بن وهب، وعلى بني سهم: العاص بن وائل, وعلى بني عدي:

زيد بن نفيل والد سعد بن زيد، وعلى بني لؤي: عمرو بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة, وعلى الأحابيش: الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى بني فراس بن غنم من كنانة: عمير بن قيس جذل الطعان، وعلى بني أسد بن خزيمة: بشر بن أبي خازم، وكان القائد العام لهذه الجيوش جميعها حرب بن أمية. وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس، وكان مع حرب بن أمية إخوته: سفيان، وأبو سفيان، والعاص، وأبو العاص. فعقل حرب نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا: لن يبرح رجل منا من مكانه حتى نموت أو نظفر ... فيومئذ سموا العنابس، والعنبس: الأسد. واقتتل الناس قتالا شديدا, فكان الظفر أول النهار لقيس وانهزم كثير من بني كنانة وقريش، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار، ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس وأكثروا، وحمي القتال واشتدّ الأمر، فقتل يومئذ تحت راية بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون, وانهزمت قيس وقتل من أشرافهم عباس بن زعل السلمي وغيره. ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال: يا معشر بني نصر، قاتلوا عني أو ذروا. فعطفت عليه قبائل من قيس وقاتلوا قتالا شديدا. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى، فأي الفريقين فضل له قتلى، أخذ ديتهم من الفريق الآخر. فتعادوا القتلى، فوجدوا قريشا وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلا، فرهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها, ورهن غيره من الرؤساء أبناءهم، ووضعت الحرب أوزارها1. وقد كانت مستودعات الأسلحة في القبة كما سبق وفي دور أشراف قريش، إذ كان كل سري من سراتهم يحتفظ لديه بكمية وافرة من العتاد والسلاح

_ 1 بتصرف الكامل, ج1 ص361, 362.

يفرقها على الجنود وقت الحاجة. ففي حرب الفجار فرقت قريش السلاح في الناس, فأعطى عبد الله بن جدعان التيمي مائة رجل سلاحا تاما، وفعل الباقون مثله1. ويلوح لنا أن دار ابن جدعان كانت بها أماكن خاصة لحفظ الأسلحة؛ لأنه لم يكن يختزن عتاده الخاص الذي يذود به قريشا إذا حزبها أمر وحسب، وإنما يحفظ كذلك أسلحة العرب الذين يفدون إلى عكاظ لتبقى عنده، حتى إذا فرغوا من حجهم وأسواقهم استردوها ورجعوا لديارهم. وقد كان من الطبيعي -استيفاء لبحث الحياة السياسية في الحجاز- أن نعقد فصلا لأيام قريش وأيام الأوس والخزرج، ولكنا آثرنا إرجاء ذلك إلى حين نتحدث عن الشعر السياسي.

_ 1 الكامل لابن الأثير ج1 ص361.

الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي الفصل الأول: "1" تمهيد: كان بين عرب الحجاز العدنانيين، وعرب اليمن القحطانيين فروق كثيرة في شتى نواحي التفكير والحياة والمعيشة: فمن حيث كان عرب الجنوب يعيشون عيشة استقرار وإقامة غالبا؛ لأنهم كانوا يسكنون في مدن عامرة، كان عرب الشمال على عكس ذلك؛ لا يستقرون في مكان, بل ينتقلون غالبا وراء أرزاقهم في بادية العرب، ومساكنهم تبعا لذلك يحملونها معهم على ظهور الإبل ويضربونها حيث يطيب لهم المقام؛ لأنها كانت خفيفة تنسج من صوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، ولم يتحضروا إلا في مكة والمدينة والطائف وبعض مدن قليلة في الحجاز, إبان ذلك العصر الجاهلي البعيد. وحين كان يغلب على أهل الجنوب الحضارة والمدنية, إذ كان لهم حظ كبير في العلوم والمعارف, ويحذقون كثيرا من الصناعات المختلفة: كصقل السيوف، وتقويم الرماح، ونسج البرود والأكسية والثياب، كان عرب الشمال أهل بداوة, يحتقرون الصناعات وبعض العلوم غالبا؛ وذلك تبعا للبيئة والأمم المجاورة.

2- وكانت الأمية تغلب على العرب جميعا، سواء منهم أهل الجنوب أم الشمال، غير أن أهل الجنوب كانوا أكثر إلماما بصناعة الكتابة من أهل الشمال, كما كانوا أسبق منهم إلى معرفة الخط. وكان الخط اليمني يكتب بحروف منفصلة ويسمى المسند الحميري, وهو مشتق من الخط الفينيقي المأخوذ من الهيروغليفي "المصري القديم". ومن اليمن انتقل الخط المسند إلى كندة والنبط، ومنها إلى الحيرة والأنبار، ثم نقل إلى الحجاز على يد حرب بن أمية بعد أن دخله تغيير أبعده عن صورة المسند الحميري. فالخط المصري من أقدم الخطوط المعروفة، وهو مبدأ سلسلة الخط العربي باتفاق المؤرخين غربيين وشرقيين، وعنه أخذ الفينيقيون "سكان ساحل الشام غربي جبال لبنان" خطهم الفينيفي لترددهم على مصر بالتجارة، إلا أنهم زادوا فيه حروفا، وأدخلوا عليه من التعديل ما صيره أسهل تناولا. وعن الفينيقيين أخذت أمم شتى "أصول" خطوطها؛ ففي شمال بلاد العرب الآراميون وهم من الأمم السامية القديمة التي كانت تسكن شمالي بلاد العرب في فلسطين والشام والعراق، وفي جنوبها الحميريون. ومن هنا اختلف مؤرخو العرب والفرنجة، فيرى الأولون أن النبطيين "سكان مدين والعقبة والحجر وفلسطين وحوران" أخذوا خطهم عن الحميريين وأصحاب المسند، بدليل ما عثر عليه فيها من الآثار الكتابية بالخط المسند، ولأن النبط كانوا متصلين باليمن تجاريا، وكان اليمنيون في ذلك الوقت على جانب عظيم من الحضارة، ثم أخذ أهل الحيرة والأنبار خطهم عن هؤلاء النبط، وعن كندة التي أصلها من حمير، وعن هاتين المدينتين انتقل الخط الحميري "النسخي" إلى الحجاز بوساطة بعض التجار الحيريين1 ولكن لم يتعلمه منهم

_ 1 ويقال: إن حرب بن أمية كان قد صادق بشر بن عبد الملك أخا أكيدر صاحب دومة الجندل، بسبب أسفاره التجارية، واستصحبه إلى مكة، وزوجه بنته =

إلا القليل ولذا سموا بالأميين، وكان خطهم ضعيفا، ودون ما كان عليه عند حمير بمراحل؛ لمكانهم من البداوة ومكان أولئك من الحضارة، كما يقول ابن خلدون. وقد عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة بدر على نشره بتشجيعه المعروف. وخلاصة رأي هؤلاء المؤرخين: أن الخط الحجازي النسخي مأخوذ عن المسند, لا عن الآرامي أخيه، فمنشأ الخط كان في اليمن1، ثم انتقل منها إلى العراق، حيث

_ = الصهباء، فأقام بمكة مدة، علّم بها نفرا من أهلها الكتابة، منهم حرب هذا, وقيل: إن الذي علمه هو عبد الله بن جدعان وقيل غير ذلك، وقد أشار إلى الرواية الأولى بعض الشعراء فقال: ولا تجحدوا نعماء بشر عليكم ... فقد كان ميمون النقبة أزهرا أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا فأجريتمو الأقلام عودا وبدأة ... وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا وخط الجزم هو الخط الذي تفرع من المسند الحميري. 1- ويذهب البعض إلى أن الخط العربي من وضع جماعة من طيء, سكنوا الأنبار، وضعوه قياسا على هجاء السريانية "4/ 242 العقد الفريد"، ثم تعلمه منهم أهل الأنبار، وأخذه عنهم أهل الحيرة، أخذه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر صاحب "دومة الجندل", وكانت له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر مع بشر إلى مكة، فتعلم منه جماعة من أهلها "3/ 368 بلوغ الأرب، 2/ 246 المزهر". ورأى بعض آخرون أن أهل مكة تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق، وكانوا يكتبون "3/ 369 بلوغ الأرب". ويذهب آخرون إلى أن إسماعيل هو الذي وضع الكتابة العربية "2/ 242 المزهر". وذهب غيرهم إلى أن أول من وضع الكتابة هم أبناء إسماعيل "ص7 الفهرست لابن النديم". وقيل: واضعها جماعة, هم: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، فكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، والباقون ملوكا بمدين، وقيل: ببلاد مضر "2/ 348 المزهر".

تعلمه أهل الحيرة، وعنهم تعلمه أهل الأنبار، وعنهم أخذه جماعة من أهل الحجاز، وينسب هذا الرأي لابن عباس1. ومهما كان فالحجازيون هم الذين عرفوا الكتابة قبل عرب الجزيرة الشماليين. ولما جاء الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب، ومنهم: الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت تحسن الكتابة، وكذلك جماعة من النسوة، وفي المدينة قليل من الأوس والخزرج يكتبون، ومنهم سويد بن الصامت، وحضير الكاتب، وكانا من أهل يثرب2. أما مؤرخو الفرنجة فيقولون: إن الخط الحيري مأخوذ عن النبطي كما قال مؤرخو العرب، ولكنهم يقولون: إن النبط أخذوا خطهم عن الخط الآرامي؛ لقرب الآراميين من النبط، وإن الخط الكوفي متولد عن نوع من الخط السرياني، يسمى السطرنجيلي قبيل الإسلام، بدليل تشابههما في الحروف، واتفاقهما في بعض قواعد الرسم: كحذف ألف المد من "الظالمين" و"كتاب"، وفي الأغراض التي يستخدمان فيها، وهي: النقش على جدران المعابد, وكتابة الكتب السماوية. وعلى هذا الرأي، فالمسند لا دخل له في سلسلة الخط العربي بنوعيه، بخلاف الآرامي، وهذا عكس ما يقول مؤرخو العرب في هذه النقطة ... وكانت الكتابة على العسب والرقوق والعظام حتى اخترع الورق سنة 120هـ.

_ 1 2/ 349 المزهر للسيوطي. 2 15/ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام, للدكتور جواد علي.

إسكنر 3- وأما اللغة فقد كانت الحميرية هي السائدة بين عرب الجنوب، ويقال: إن إسماعيل -عليه السلام- تكلم بلسان جرهم، وكان لسانه قبل ذلك: إما سريانيا كأهل فلسطين، أو كلدانيا كأهل كلدانيا؛ لأن إبراهيم أباه عاش في كليهما، أو مصريا تبعا لأمه هاجر. ويظهر أن لغة إسماعيل تأثرت بكل من هذه اللهجات الثلاث، وقد نشأت سلالته في الحجاز على العربية الفصحى. على هذا كانت لغة أهل الحجاز تخالف لغة أهل اليمن من بعض الوجوه، وتظهر بعض الفوارق في المفردات؛ فمثلا: المدية عند اليمنيين تسمى سكينا في لغة أهل الحجاز، كما تظهر أيضا في أسماء الإشارة والضمائر وأدوات التعريف وأوجه الإعراب ... إلخ. ولما نزل القرآن الكريم بلغة قريش أهملت العرب لغة حمير, فكادت تنعدم ولم يبق منها إلا القليل، كالتي تسمى جعجعة قضاعة, وشنشنة اليمن، وتلتلة بهراء, وطمطمة حمير1.

_ 1 الجعجعة: جعل الياء جيما، تقول في "الراعي خرج معي": الراعج خرج معج، والشنشنة: جعل الكاف شينا، تقول في "أطع أباك وأمك": أطع أباش وأمش، والتلتلة: كسر حرف المضارعة كلهجة المصريين، والطمطمة: جعل أم بدلا من ال كقول بعض بني حمير للنبي -صلى الله عليه وسلم: "أمن أمبر أمصيام في أمسفر؟ "، أي: أمن البر الصيام في السفر؟

4- وتوجد فوارق أخرى خِلْقِيَّة بين عرب الشمال والجنوب ترجع إلى لون البشرة وشكل الرأس وطول القامة؛ فأهل الشمال يغلب عليهم جمال الوجه واستدارته, وكبر الرأس وطول القامة، والبياض الضارب إلى السمرة، وهي خصائص الجنس السامي. أما أهل اليمن, فقليلا ما تتوفر فيهم هذه الصفات السامية، بل يغلب عليهم السواد، وتشبه سحنهم من وجوه كثيرة سحنة الإفريقيين من الأحباش. وكان أساس الاجتماع عند العرب كما تقدم شماليين وجنوبيين هو الأسرة التي يكونها الرجل منهم بالزواج والتناسل ولا يزال يقوم عليها، ويعنى بكل حاجياتها حتى تشتد سواعد أبنائها، ويصبحوا قادرين على الكسب، فيقوم فيهم الوالد يرشدهم بما كسبه من التجارب ويدلهم على طرق الخير بما أفاءت عليه الظروف من حكمة وعقل، ويفصل بينهم في المنازعات المختلفة التي قد تقوم بينهم، فلا يتركهم يتفرقون حتى لا يطمع فيهم طامع، إذ هم مصدر عزته وجاهه، وتستمر الأسرة في الزيادة حتى تتكون القبيلة. والعرب الحجازيون: بدو وحضر، وبين الفريقين تفاوت كبير في التقاليد والعادات والأخلاق: أما البدو، فهم قوم رحّل يسكنون الخيام، ولا يقرون في مكان, ينتجعون الكلأ، ويتتبعون مساقط الماء ومنابت العشب، يرحلون إليها بأنعامهم التي يغتذون بلحومها وألبانها، ويكتسون بأصوافها وأوبارها، وهم -لجدب بلادهم، وانصرافهم عن أوجه التكسب الأخرى- كانوا يقنعون من العيش بالكفاف، ولا يفتنّون في المطاعم والملابس، بل كانوا يعيشون غالبا على اللبن والتمر واللحم. ولقلة مواطن الكلأ لديهم، وميلهم إلى الانتقام

والأخذ بالثأر, كثرت الحروب بينهم كثرة مفزعة، وكانت نيرانها لا تخبو إلا لتشتعل، وكانوا يأنفون من الاشتغال بالزراعة والصناعة، ويرون أنهم لم يخلقوا إلا للقتال ولم يعدهم الدهر إلا للصراع والنزال، وأنه لا ينبغي أن يتناولوا رزقهم إلا من سيوفهم ورماحهم, ولم يكن لديهم سوى نظام القبيلة. والقبائل العربية كانت متعادية، متنافرة، أما أفراد القبيلة الواحدة فكانوا متضامنين أشد التضامن؛ ما يغنمه أحدهم فهو للقبيلة، وما يصيبه فعليها، يعتز كل منهم بنسبها ويفاخر بحسبها ويوافقها على خطئها وصوابها: وهل أنا إلا من غزية، إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزية أرشد وإذا اعتدي على أحدهم، هبوا إلى نصرته سراعا، زرافات ووحدانا: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا1 لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا لكن أخاهم، إذا جرّ عليهم المغارم، واسترسل في جناياته، تخلوا عنه وأعلنوا براءتهم منه، ويسمى عندهم "خليعا". وقد كان أساس العصبية عند العرب هو النسب؛ ولذلك كانت العصبية القبلية هي أقوى العصبيات؛ لقربها واتحادها، وشدة ارتباط أفرادها، وهنالك عصبيات أخرى كالحلف والولاء: الحلف: فالحلف -أو المعاهدة- يجمع بين القبائل ولو تباعدت أنسابها، وإنما يلتجئون إلى هذا النوع -في الغالب- حينما يفتقدون القوة والنصرة في ذوي القرابة, فيتعاقدون ويتناصرون مع الأباعد لتتوفر لهم أسباب القوة التي ينالون بها الرياسة، أو يدفعون عن أنفسهم الظلم والعدوان، أو يغالبون بها من سواهم، وهذه العصبية أضعف من العصبية القبلية.

_ 1 بضم الواو: جمع واحد وواحدة بمعنى منفرد, والزرافات: جمع زرافة -بفتح الزاي- الجماعة ... وهذا كقول سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الطنابيب

الولاء: والولاء هو الرابطة التي كانت توجد بين العرب والأعاجم الذين عاشوا بينهم، ويسمون هؤلاء الأعاجم موالي، ومثلهم الأسرى الذين لم يستطيعوا فداء أنفسهم، وكان العرب يسمون هؤلاء جميعا بسمة القبيلة؛ لأن كل قبيلة كان لها سمة خاصة تعرف بها، وتسم بها رايتها وإبلها كيا بالنار. وكان المولى يرث من القبيلة التي استلحق بها, كما يرث الصريح من أبنائها. الخلع: وضد الولاء "الخلع", فكان الرجل إذا ساءه أمر من ابنه أو من مولاه خلعه أي: نفاه عن نفسه، فيصبح غير مرتبط بالمولى وتصبح قبيلته -تبعا له- في حل من جميع التصرفات التي يرتبط بها المولى ولا يتحملون جريرتها، وقد يعلنون ذلك الخلع في سوق عكاظ، فيبعثون مناديا ينادي فيه بذلك، وقد يكتبون به كتابا1. عصبية الأبوة: وعصبية النسب معناها الانتساب إلى الأب، فقد كان هو المعول عليه في القرابة عند العرب2. وقد روى المبرد أن رجلا من الأزد كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه، فقيل له: ألا تدعو لأمك؟ فقال: إنها تميمية3.

_ 1 من أشهر حوادث الخلع -قبل الإسلام- خلع كل من عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد من عشيرتهما، وسبب ذلك أنهما ذهبا في الجاهلية بتجارة إلى الحبشة واختصما في الطريق، فأساء عمارة إلى عمرو فأضمر عمرو له الشر، فكتب إلى أبيه أن يخلعه؛ دفعا لما قد يجره عليه من المكروه إذا هو آذى عمارة, وكتب كذلك عمارة إلى أهله بمثل ما كتب عمرو، فخلعت كل من العشيرتين صاحبها، وأرسلوا بذلك مناديا إلى مكة. راجع التمدن الإسلامي جـ4 ص19 عن الأغاني. 2 قال شاعرهم: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد 3 الكامل جـ1 ص198.

عصبية الخئولة: ومع شدة تمسك العرب بعصبية الأبوة وتقديمها على عصبية الأمومة، فقد كانوا إلى جانب ذلك يرعون حق الأمومة، ويسمونها "عصبية الخئولة". وأوضح شواهد على ذلك نصرة أهل المدينة للنبي؛ لأن أم النبي -صلى الله عليه وسلم- من بني النجار من الخزرج، وهي قبيلة قحطانية، وأبوه من قريش، وهي قبيلة عدنانية، فلما توفي والده التجأت أمه إلى أخواله بني النجار بالمدينة فأكرموا وفادتها، ولما بلغ أشده واستوى وآتاه الله العلم والحكمة واضطهدته قريش ومن تبعه، هاجر إلى المدينة في حماية أخواله وأتباعه؛ لأن خئولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله، وكل الحوادث في المدينة تدل على أن بني النجار كانوا دائما في مقدمة المحامين عن الرسول وأتباعه بعد الهجرة. ونذكر بعد ذلك أيضا من الحوادث، أن بني كلب انضمت إلى معاوية بن أبي سفيان حينما نهض للمطالبة بدم عثمان، ولعل أهم سبب في انضمامهم أن نائلة زوج عثمان كانت من قبيلتهم، وأمثلة ذلك كثيرة في الجاهلية وبعد الإسلام. آثار العصبية القبلية: ومن الواضح أن العصبية القبلية كانت من أهم أسباب النزاع الذي نشب بين العرب في الجاهلية، وقد اتخذت هذه العصبية أشكالا مختلفة، ظهرت في شكل مفاخرات، وفي شكل منافرات، وأخيرا جرّت إلى نشوب معارك دموية، وأورثت أحقادا وحزازات تأصلت في نفوس العرب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها صاحب الدعوة -عليه السلام- في محوها من نفوسهم، فقد بقيت تشغل معظم تاريخ النزاع في جزيرة العرب, وفي غيرها أيضا حوالي ثلاثة قرون من الزمان. وأشهر حوادث المنافسة ما كان بين القبائل القحطانية والعدنانية، وقد يفوت القارئ ملاحظة ذلك أثناء اطلاعه على تاريخ المعارك؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين، فيقولون مثلا:

"ونشبت الحرب بين قيس وكلب" ولا يذكرون أن قيسا من العدنانية وكلبا من القحطانية لاعتقادهم أن القارئ يعلم ذلك، وعلى هذا النحو قولهم: تفاخرت قحطان ونزار، أو معد واليمن، أو مضر وحمير، أو هوازن وكهلان, أو قيس وهمدان ... إلخ. على أن النزاع الذي حدث بين هذه القبائل، لم يكن أعظم عنفا وأثرا مما حدث بين بني العباس وبني أبي طالب وهما جميعا من بني هاشم، ولا مما حدث بين بني هاشم وبني أمية، وكلاهما من بني عبد مناف. موقف الإسلام منها: أما موقف الإسلام من العصبية القبلية، فكان موقفا عدائيا، فإن صاحب الرسالة -عليه السلام- قد دعا إلى الوحدة، والتضامن، ونبذ الخلاف والشقاق والأنانية، وعمل على إزالة الفوارق، ونشر العدالة، وأعلن المساواة بين الناس، وكان آخر ما خاطب به الناس في حجة الوداع: "إن ربكم واحد, وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى". 5- مكانة الشاعر: وكانوا يحبون الشعر والاستماع له؛ لأنه ديوانهم الذي يخلد مفاخرهم، ويسجل أنسابهم ووقائعهم، ويذكي نار الحماسة في نفوسهم، وكان لكل قبيلة شاعر أو أكثر، يناضل عن أحسابها، ويشيد بمفاخرها، ويذود عن حياضها. اللهو: كما كانوا يلهون بالخمر, وغناء القيان، ولعب القمار، وصيد الوحوش بالكلاب المعلّمة أو بالخيل أو بحفر "الزبية". ومن أمثالهم: بلغ السيل الزبى، وكل الصيد في جوف الفرا.

أثر المرأة: وكانت المرأة البدوية تشاطر زوجها أعباء الحياة؛ فتواسي الجرحى وتقف خلف الصفوف تبعث الحمية في نفوس الرجال فيستميتون في القتال؛ خوفا على نسائهم أن يقعن في السبي. وفي السلم تنسج الخيام والملابس وتخيطهما, وتحضر الماء وتطهي الطعام وتصنع الأقط والزبد, وكانت سافرا تقابل الضيوف وتقريهم، وتستشار في زوجها فتقبل أو ترفض. وقد كثر ذكرها في أشعارها واحتلت الذروة منها وافتتحوا بها قصائدهم، وكثيرا ما نراها واقفة في وجه زوجها تصده عن الاسترسال في الكرم والقتال ضنا بنفسه وبماله، فلا يثنيه ذلك عما ركب في طبيعته من حب السخاء والشجاعة؛ إيثارا لحسن الأحدوثة وجمال الذكر. قال أحد شعرائهم القدامى: وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يغتمز في قبل ذاك عذول تقول: اتئد لا يدعك الناس مملقا ... وتزري بمن يابن الكرام تعول فقلت: أبت نفس علي كريمة ... وطارق ليل غير ذاك يقول ولكن العرب -لشدة غيرتهم على نسائهم وحرصهم على أعراضهم أن تثلم، ولأن حياتهم حياة حربية, ثم لفقرهم- كرهوا البنات، وقالوا: دفن البنات من المكرمات. ومما يروى في ذلك، أن رجلا تحول عن بيت زوجه إلى بيت جاره حين ولدت بنتا، فسمعها ذات يوم تغني, وهي ترقصها: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا ... والله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد زرعوه فينا فأثر ذلك في نفسه، وعاوده حدب الوالد على ولده. وقد أسرف بعضهم في بغضهن فاستباح وأدهن. واستفظع ذلك كثير من عقلائهم، فكانوا يفدونهن من أهلهن ويحتضنونهن، ومن هؤلاء صعصعة بن ناجية، وبه افتخر الفرزدق، فقال:

ومنا الذي أحيا الوئيد، وغالب ... وعمرو، ومنا حاجب والأقارع أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا -يا جرير- المجامع ومن الحجازيين الذين استنكروا الوأد، زيد بن عمرو بن نفيل القرشي ... كان يستحيي الموءودات، فإذا بصر برجل يهم بوأد بنته، قال له: لا تقتلها، أنا أكفيك مئونتها، ويأخذها وينفق عليها حتى تكبر، ثم يقول لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مئونتها. ويقال: إنه أحيا ستا وتسعين موءودة1. وأما ما أثر من أخبار العهر2, فخاص بالإماء دون الحرائر. أما الحضر: فكانوا يسكنون المدن، ويبنون الدور والقصور، ويفتنون في المطعم والمشرب والمسكن، ويشتغلون بالصناعة والزراعة والتجارة، ولا يرون في ذلك بأسا ولا غضاضة، وهؤلاء هم سكان مكة والمدينة والطائف وبعض القرى الحجازية الأخرى. القرشيون والتجارة: وكان القرشيون أهل تجارة يغدون ويروحون في جزيرة العرب آمنين مطمئنين وقد اتسعت تجارتهم، فامتدت إلى الشام واليمن وكانت إلى الأولى رحلتهم الصيفية، وإلى الثانية رحلتهم الشتوية، كما شملت الحبشة والفرس والهند، وقد تقسم أولاد عبد مناف هذه الأقطار: فكان هاشم يذهب إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس. وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار، بحبال هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم؛ لأن كل أخ منهم كان قد أخذ من ملك ناحية سفره أمانا له3 وإنما استأثرت قريش بالتجارة لما كانت تتمتع به بين العرب من

_ 1 بلوغ الأرب للألوسي 3/ 45، وراجع 50/ 5 البخاري. 2 عهر المرأة كمنع عهرا وعهورا وعهارة وعاهرها: أتاها الفجور، أو زنى "قاموس". وفي المصباح: عهر كتعب وقعد في لغة: فجر. 3 وفي ذلك يقول الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف؟ الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي

أمن على أموالها وقوافلها لمنزلتهم الدينية في نفوس سكان الجزيرة. قال الزمخشري وصاحب القاموس: وكان لقريش رحلتان: يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام, فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله، وولاة بيته، والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض، قالوا: نحن أهل حرم الله، فينصرف عنهم من غير أن يمسهم بسوء. ولهذه الرحلات وما فيها من مشاهدات أثر كبير في رقيهم الثقافي والفكري؛ لذلك كانوا أرقى عرب الشمال عقلا، وأسماهم فكرا وثقافة. النسيء: ومعناه: التأجيل والتأخير، وأصله أن العرب كانوا على دين إبراهيم -عليه السلام- يعتقدون تعظيم الأشهر الحرم، وهي أربعة: المحرم, رجب, ذو القعدة, ذو الحجة، وكانوا يتحرجون فيها من القتال، ولكنهم كانوا يكرهون توالي ثلاثة أشهر من غير قتال ونفوسهم مجبولة على الحروب وشن الغارات, فكانوا إذا احتاجوا إلى الحرب في المحرم أخّروا تحريمه إلى صفر، فإن احتاجوا أيضا إلى الحرب في صفر أحلوه وحرموا مكانه ربيعا الأول, وهكذا حتى استدار التحريم على جميع فصول السنة, وانعدم ضبط الأشهر الحرم، وضاعت خصوصيتها اعتمادا على تحريم مجرد العدد. أما كيفية ذلك, فكان الرجل من كنانة يقوم على باب الكعبة، أو عند جمرة العقبة إذا صدر الحاج من منى, فيقول: أنا الذي لا أعاب، ولا أخاب، ولا يرد لي قضاء، فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا، فيقول: إني أحللت لكم شهر كذا وأنسأته وحرمت مكانه شهر كذا "ويسمي الشهر". وكان من عادتهم أيضا تأخير أشهر الحج أو أشهر أخرى, يقصدون بذلك أن يأتي الحج في فصل معين من السنة لا يختلف باختلاف الفصول حتى

يتمكنوا من أدائه من غير مشقة ولا عنت، ومن غير أن تتأثر مصالحهم بأدائه؛ لأن حجهم -حسب شريعة إبراهيم- كان يقع في شهر ذي الحجة, وهو من الشهور الهلالية التي تدور في كل فصل من فصول السنة ولا توافق فصلا معينا، فربما أدركهم هذا الشهر وهم مشغولون بشئون معاشهم, فلا يستطيعون السفر للحج والتجارة كما هي عادتهم. وقد حرم الله النسيء بنوعيه، في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الآية. أما تخصيص هذه الأشهر بالحرمة, فلفضل مزيتها؛ لأن المحرم يبدأ به العام ورجبا وسطه والقعدة والحجة آخر العام، إشارة إلى وجود السلم في العام كله، فإذا حدثت الحرب لا ينبغي أن تشغل جميع العام، بل يجب أن تنقطع بفترات من السلم في الأول والوسط والآخر؛ تهدئة لنارها، وإراحة للناس من عنائها وويلاتها، وفتحا لمجال المصالحات والمهادنة، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع فريضة الحج فيهما وهي التي لا تؤدى إلا في سلام ووئام تامين.

الفصل الثاني: أسواق العرب في الحجاز وحياة الحجاز التجارية

الفصل الثاني: أسواق العرب في الحجاز 1 وحياة الحجاز التجارية 1- كان العرب في العصر الجاهلي يقيمون أسواقا عامة للتجارة، وكانت هذه الأسواق تستمر طول العام ينتقلون من بعضها إلى بعض، ومن أشهر أسواقهم العربية في الحجاز: 1- سوق عكاظ، وكانت تعقد في أول ذي القعدة إلى العشرين منه، وهي أعظم أسواقهم، وقد اتخذت سوقا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة وظلت قائمة في الإسلام حتى نهبها الخوارج عام 129هـ حين خرجوا بمكة مع المختار بن عوف, وسنخصها بحديث بعد. 2- سوق مجنة: ومجنة موضع بمر الظهران أسفل مكة على أميال منها, وكانوا ينتقلون إليها من عكاظ فيقيمون فيها إلى نهاية ذي القعدة. 3- سوق ذي المجاز بمنى خلف عرفة: وكانوا يقيمون فيها ثمانية أيام من ذي الحجة، ثم يقفون بعرفة في اليوم التاسع. 4- دومة الجندل: وتنعقد في ربيع الأول، ويحدد البغدادي ميعاد انعقادها فيجعله اليوم الخامس عشر من ربيع الأول من كل عام. 5- مكة: وهي سوق دائمة. 6- نطاة خيبر: وتعقد بعد أيام الحج, كما روى الألوسي. 7- سوق منى.

_ 1 87-90 جـ1 تاريخ آداب العرب للرافعي، 264، جـ1 بلوغ الأرب، معجم البلدان.

وقد أغفلوا بعض مواضع مهمة1 تقوم فيها أسواق، ربما لا تقل شأنا عن التي أفردوها بالذكر؛ كالطائف، وكالسوق التي يقيمها النبط في المدينة أحيانا، فإنا نعلم أن الطائف مدينة قديمة جاهلية، وهي "بلد الدباغ, يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة" ولأهلها زراعة وتجارة وغنى، وربما قاربوا قريشا في شأنها التجاري، ومن ثم كانت لأسواق الطائف أهمية تجارية ملحوظة. 2- وكانت هذه الأسواق العربية -رغم أنها مكان للتجارة والمقايضة- ميدانا فسيحا لتبادل الآراء، وعرض الأفكار، والتشاور في مشكلات الأمور، ومجالا للمفاخرات والمنافرات والمحاورات، ومعرضا لإذاعة مفاخر القبيلة وشرف الأرومة، وناديا واسعا لإلقاء روائع الشعر، والمباهاة بالفصاحة, والمفاخرة بالبلاغة. وفيها ألقيت أشهر القصائد والمعلقات العربية؛ فأنشد عمرو بن كلثوم معلقته في عكاظ، وكذلك فعل الأعشى الذي أنشد فيها قصيدته في مدح المحلق. ولقد سبق الإغريق العرب إلى أمثال هذه المحافل في المجتمعات الأولمبية التي كانوا يقيمونها كل أربع سنوات للألعاب الرياضية البدنية كلما حجوا إلى هيكل المشترى في أولمبية، وكانوا يحرمون القتال على أنفسهم في أثنائها على نحو ما يفعل العرب في الأشهر الحرم، فلما استوثق لهم الأمر صارت هذه المجتمعات الأولمبية أندية لإنشاد الشعر وتبادل الأفكار. وكانت في هذه الأسواق منابر الخطابة في الجاهلية, يقوم عليها الخطيب بخطبته فيذيع فعاله ويعدد مآثره ومآثر قومه وأيامهم عاما بعد عام.

_ 1 أسواق العرب ص183, وراجع في أسواق العرب: اليعقوبي في تاريخه 1/ 313, 314، والهمداني في صفة جزيرة العرب، والمرزوقي في الأزمنة والأمكنة 161-170، والقلقشندي في صبح الأعشى 1/ 410, 411، والبغدادي في خزانة الأدب 4/ 360-362, والألوسي في بلوغ الأرب 1/ 264-270.

وكان النقاد والشعراء والرواة يجتمعون في الأسواق, فينشد الشعراء, وينقد النقاد، ويذيع الرواة ما سمعوه في كل مكان. وكان النابغة الذبياني حكم الشعراء بسوق عكاظ، وكانت تضرب له قبة فيه، فتأتيه الشعراء ينشدونه قصائدهم فيحكم لبعضهم على الآخرين. وكان هذا الميدان الأدبي الفسيح، بما فيه من آذان مرهفة، وعيون متطلعة, وأذواق حصيفة، يحمل الشعراء والخطباء على التجويد والتهذيب والتنقيح، ويدعوهم إلى تخير الألفاظ العذبة، والأساليب الجميلة، والمعاني الرائعة؛ قصدا إلى الوضوح والإفهام والإمتاع، ومن ورائهم الرواة يذيعون هذا الأدب المختار في البلاد، وينشرونه في القبائل، ويروونه في كل مكان للسامعين. ذلك هو الأثر الأدبي الكبير لهذه الأسواق, فوق أثرها الخطير في توحيد العقائد والأخلاق والعادات، والنهوض الحثيث بالمجتمع العربي، والسير به في طريق الوحدة التي بلغها بعد ظهور الإسلام ونبيه الكريم. 3- وللأسواق عمل لغوي خطير، فقد كانت سببا في التقريب بين لغات العرب ولهجاتهم. كانت تنزل بها شتى القبائل العربية على اختلافها، من قحطانيين وعدنانيين، كما كان ملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتيها التجار من مصر والشام والعراق. فكان هذا الاجتماع الكبير وسيلة من وسائل التفاهم اللغوي، والتقارب بين اللغات واللهجات العربية، واختيار القبائل بعضها من بعض. وكانت الأذواق المرهفة في هذه الأسواق تعمل عملها في النقد اللغوي، فتأخذ كل قبيلة من لغة الأخرى ما خفّ على النطق، وعذب في الألسنة, وظهرت فصاحته من مختلف الألفاظ والأساليب. وكان القرشيون خاصة من بين قبائل العرب وبتأثير اجتماعات الحج والأسواق والحروب، أكثر القبائل ميلا إلى النقد اللغوي, فاقتبسوا من

لهجات القبائل أعذبها ومن ألفاظهم أسهلها وأنصعها وأفصحها، وأخذوا يضيفون ذلك إلى لغتهم؛ فزادت ثروة اللغة العدنانية القرشية. وقلدت القبائل الأخرى قريشا في ذلك، وأخذت عنها محاكية لها في لغتها؛ وذلك لمكانة قريش وإشرافها على هذه الأسواق، مما حدا بالشعراء الذين يريدون لشعرهم الذيوع أن يتحروا لهجتها المختارة الذائعة في إذاعة محامد قبائلهم وأمجادهم، فكان لذلك آثاره البعيدة في تهذيب اللغة العربية وتوحيدها وجمعها في لغة مختارة هي لغة قريش أفصح القبائل العربية التي نزل بها القرآن الكريم. وعمل الأسواق في توحيد الألسنة والتقريب بين اللهجات وتهذيب اللغة العربية كان ذا أثر بعيد في نمو اللغة العربية ونهضتها وانتقالها من طور اللهجات المتباينة واللغات المتنافرة والمتناكرة إلى طور جديد، مهد للوحدة اللغوية بين قبائل العرب، التي نزل القرآن الكريم مؤيدا لها ومذيعا للغة قريش في كل مكان. 4- أهم الأسواق: 1- سوق عكاظ: وننتقل بعد ذلك إلى الحديث في إيجاز عن سوق عكاظ وأثرها في اللغة والأدب؛ توضيحا لأثر الأسواق الجاهلية، وزيادة في معارفنا عن أسرار الاجتماع الجاهلي؛ لأن هذه السوق كانت تمتاز عن غيرها بأن جميع القبائل كانت تقصدها. أين تقع عكاظ؟ في موقع عكاظ آراء عديدة, نذكر أشهرها، وهذه طائفة من أقوال المؤرخين القدامى في تحديد موقع عكاظ: 1- عكاظ بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له: الغدق "ابن إسحاق, الواقدي, أبو عبيدة"1.

_ 1 معجم البلدان ص203 جـ6، معجم البكري ص606 الطبعة الأوروبية.

2- عكاظ نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقوم سوق العرب بموضع يقال له: الأثيداء، وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها "الأصمعي"1. 3- عكاظ في وسط أرض "قيس عيلان", "ابن هشام"2. 4- عكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء, في عمل الطائف على بريد منها. وهي سوق لقيس عيلان وثقيف, وأرضها لنصر "الأزرقي"3. 5- عكاظ في أصل جبل بس أو ماء بس بقعة لبني هلال, وحذاءها أخرى يقال لها: الخدود، وعكاظ منها على غلوة. وعكاظ صحراء مستوية ليس فيها جبل ولا علم إلا ما كان من الأنصاب التي كانت في الجاهلية، وبها من دماء الإبل كالأرجام العظام، وحذاءها عين يقال لها: خليص للعمريين، وخليص هذا رجل وهو ببلاد تسمى ركبة "عرام بن الأصبغ السلمي البكري"4. هذه جملة من أقوال المتقدمين في تحديد عكاظ, وهي متقاربة في المعنى متطابقة في الجملة. وجميع الأوصاف المتقدمة تنطبق على الأرض الواسعة الواقعة شرق الطائف -بميل نحو الشمال- خارج سلسلة الجبال المطيفة به، وتبعد تلك الأرض عن الطائف مسافة "35كم" تقريبا، ويحدها غربا: جبال بلاد عدوان "العقرب, وشرب, والعبيلاء"، وجنوبا: أبرق العبيلاء وضلع الخلص، وشرقا: صحراء ركبة، وشمالا: طرف ركبة والجبال الواقعة شرق وادي قران. وتشمل هذه الأرض وادي الأخيضر "وهو المعروف قديما بوادي عكاظ"، ووادي شرب حينما يفيضان في الصحراء ويخرجان من الجبال وما بينهما من الأرض وما اتصل بهما من طرف ركبة5.

_ 1 معجم البلدان: جـ6 ص203. 2 التيجان ص310. 3 تاريخ مكة: المطبعة الماجدية ص210 جـ1. 4 أسماء جبال تهامة، ومعجم ما استعجم ص660-662. 5 موقع عكاظ لعزام وابن بليهد والجاسر ص62.

هذا هو موقع عكاظ كما حققه الثقات عن مشاهدة وعيان، ولا عبرة بمن يقول: إن موقع عكاظ في السيل الكبير على الطريق بين مكة والطائف, أو السيل الصغير في الطريق بين السيل الكبير والطائف؛ أولا: لما في هذا القول من مخالفة للتحديد المذكور في الأقوال السابقة, وهو الأهم. وثانيا: لأنها تقع في مجرى السيول التي تسير في تلك الناحية. وثالثا: لأنها تضيق عن الغرض المقصود منها, وهو إقامة تلك السوق العربية الكبيرة. أثرها الأدبي: كانت سوق عكاظ ميدانا للتجارة, وفداء الأسرى, والمفاوضة في الرأي، وتبادل الأفكار؛ كما كانت ميدانا للمنافرة والمفاخرة وإنشاد القصائد, وكان بها في الجاهلية منابر يقوم عليها الخطباء، فيقف أشراف القبائل مفاخرين بمناقبهم ومآثر قومهم. وكانت معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب، وينقد ذلك كله ويهذب، وفيه أنشد ابن كلثوم معلقته، ويقال: إن المعلقات أنشدت فيها, كما أنشد فيها الأعشى مدحته المحبرة في المحلق. وممن ألقى فيها مدائحه حسان، كما كانت الخنساء تلقي فيها مراثيها وتعاظم بمصيبتها. وكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ ويجتمع عليه الشعراء فيتحاكمون إليه. أتاه الأعشى يوما فأنشده، ثم أتاه حسان, فقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، قال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك، فقبض النابغة على يده، وقال: يابن أخي, أنت لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى منك واسع ثم أتته الخنساء, فأنشدته: قذى بعينك أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار؟ 1 فلما بلغت قولها: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار

_ 1 العوار والعائر: كل ما أعل العين والرمد والقذى.

قال: ما رأيت ذا مثانة أشعر منك. ويروى: أنه قال لها: لولا أن أبا بصير سبقك لقلت: إنك أشعر من بالسوق، ويروى أنه قال لحسان حين بلغ من قصيدته: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما قللت جفانك ولو قلت: الجفان لكانت أكثر، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، وقلت: يلمعن بالضحى، ولو قلت: يبرقن بالدجى لكان أبلغ؛ لأن الضيف بالميل أكثر طروقا، وأنثت السيوف1. وكذلك قصدت هند بنت عتبة بن ربيعة هذه السوق حين قتل أهلها في بدر، وقرنت جملها بجمل الخنساء، وأخذت كل منهما تعاظم الأخرى بمصابها وتساجل في الشعر لوعة بلوعة، ورثاء برثاء. وفي سوق عكاظ خطب قس بن ساعدة خطبته المشهورة، وقد سمعها الرسول -صلوات الله عليه. وكان عليها رئيس يشرف على الموسم ويقضي بين المتخاصمين، ومن الرؤساء عامر بن الظرب العدواني، واستمرت في الإسلام. وكان محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لها، وكان أبوه يقضي فيها في الجاهلية. وقد قصدها الرسول الأعظم يبث فيها دعوته, وبقيت حتى خربت عام 129هـ. وكانت سوق عكاظ سببا في أربع حروب نشبت بين العرب, وسميت حروب الفجار. وكان سبب الأولى "المفاخرة في سوق عكاظ"، وسبب الثانية "تعرض فتية من قريش لامرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ", وسبب الثالثة "مقاضاة دائن لمدينه مع إذلاله في سوق عكاظ", وسبب الرابعة "أن عروة الرحال ضمن أن تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة, فقتله البراض في الطريق". وهذه الحروب كانت قبل مبعث الرسول وهو ابن أربع عشرة سنة وشهدها مع أعمامه, وقال: $"كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي".

_ 1 الأغاني جـ8 ص194، 195، والجفنات: القصاع الكبيرة.

وقد دعت هذه الحروب التي كانت تنشب أيام قيام هذه السوق، ويترتب عليها السلب والنهب في التجارة، أن قام فريق من العرب بالدعوة إلى السلم، ومن أشهرهم عبد الله بن جدعان، فكان إذا اجتمعت العرب في السوق دفعت أسلحتها إليه ثم يردها عليها إذا ظعنوا، ويظهر أن هؤلاء السادة هم الذين سموا هذه الحروب بحروب الفجار؛ لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء, وقد نجحوا في وقف هذه الحروب وربما كان ذلك من أثر حلف الفضول. 5- 1- وأما سوق مجنة: فكانت تبدأ من العشر الأواخر من ذي القعدة بعد أن يفيض الناس من عكاظ قرب موسم الحج. ومجنة موضع قرب مكة، وكان يحضرها كثير من قبائل العرب ولكنها كانت أقل مكانة من عكاظ. 2- وأما ذو المجاز: فكانت قرب عرفة على بعد فرسخ منها فيما بينها وبين "الشرائع", ولا يزال ذو المجاز معروفا، وكانت سوقها تقام إلى الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية، وكانت العرب تتم في هاتين السوقين ما فاتها في سوق عكاظ من أعمالها التجارية وغير التجارية. 3- دومة الجندل: دومة الجندل ويقال: دوماء الجندل, كلاهما بالضم1, وهي بلد تقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريبا. وبينها وبين دمشق خمس ليالٍ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة لعدم استقامة الطريق بينهما. وهي في غائط من الأرض طوله خمسة فراسخ, وفيها حصن "مارد" المشهور، وإلى غربها عين تثج, فتسقي ما حولها من النخل والزرع. وسميت دومة الجندل؛ لأن حصنها مبني بالجندل. وقريب منها جبلا طيء

_ 1 ونقل الفتح فيهما صاحب النهاية، وفي الصحاح أن أصحاب اللغة يضمون, وأصحاب الحديث يفتحون.

وكان بهذا الحصن بنو كنانة من كلب، وكانت خربة فأعاد بناءها أكيدر صاحبها وإخوته, وهي التي تسمى حديثا بالجوف. وكانت العرب في الجاهلية تنزل سوق دومة الجندل للبيع والشراء في غرة ربيع الأول. قال الألوسي: كان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم, فتقوم سوقهم إلى نصف الشهر. وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم ويتولى أمرهم يومئذ بعض رؤساء بني كلب فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر. ويدور نشاط هذه السوق حتى منتصف ربيع الأول, وتغص بمن يؤمها من أطراف الشام والعراق وسائر الجزيرة، وهي من الأسواق الكبرى للعرب حتى إنهم ليلقون في سيرهم إليها نَصَبا كبيرا لوعورة الطريق والتعرض للأخطار وفقدان الأمن. ولا يحملهم على ذلك كله إلا ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة. قال المرزوقي: "كانت قريش تخرج إليها من مكة، فإن أخذت الحزن لم تنخفر العرب حتى ترجع ... وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم, فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد حتى يخرجوا على طيء فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا؛ لأن طيئا حلفاء بني أسد، فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمور، مرثد من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز لهم ذلك ربيعة كلها"1. ثم تفتر حركتها وتأخذ بالاضمحلال حتى آخر الشهر، إذ يفترق أهلها وموعدهم إليها من قابل، شهر ربيع الأول. 4- سوق نطاة خيبر: خيبر قرية شمالي المدينة, وهي عدة حصون لليهود وفيها مياه ومزارع. ونطاة اسم حصن بها واسم عين أيضا, وقيل: هي خيبر نفسها.

_ 1 الأزمنة والأمكنة 2/ 16.

وقد اشتغل أهلها بالزراعة والتجارة، ونظرا لوقوعها على الطريق التجارية الكبرى بين اليمن والشام قام أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدى محطات القوافل التجارية في سفرها إلى الشام. ونجح أهلها في متاجرهم حتى أفادوا منها غنى واسعا واستفاضت لهم ثروات طائلة ونشأت فيهم رءوس الأموال الضخمة. ويرى بعضهم أن خيبر كانت مصرف الجزيرة المالي, ولما فتحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- صالح أهلها على الشطر من الثمر والحب. وكلما مرت عير لقريش أو لطيمة من لطائم النعمان قامت لها سوق في خيبر1. الحياة التجارية: كانت أهم السلع التي تشغل هذه الأسواق: الخمور من هجر وغزة وبصرى, والأدم والبرود الموشاة من اليمن، والطيب والحرير والزيوت من الشام، والجلود من الطائف، والمسك من الحيرة، وكان البيع فيها بطريق المبادلة في الغالب. وقد عرف الحجازيون التجارة منذ القدم، وكان في الجزيرة العربية طرق تسلكها القوافل التجارية بين المحيط الهندي وبلاد الشام, فكان أحدها يسير من حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي "طريق الغرب" وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في المنتصف تقريبا بين صنعاء وبطرة. وقد سلك العرب هذه الطرق البرية؛ لأن طريق البحر لم يكن آمنا. وكانت التجارة لا تخرج إلا محروسة، وكانت تسير في أزمنة محدودة وقد أثبت العرب شرفا في التبادل التجاري، واشتهروا بحب الوفاء وتقدير الوعد، والصدق في عرض السلع، فوثقت بهم الممالك المجاورة، وبذلك مهد العربي الطريق لتجارة واسعة منظمة. وكانت بعض القبائل تتولى تأمين المتاجر مقابل جُعْل خاص، فإذا عدا عليها عادٍ بذلوا في سبيل حمايتها حياتهم ودماءهم, وإذا عجزوا عن حمايتها ردوا الجعل لأصحاب التجارة، وربما عوضوهم عما أصابهم من خسائر.

_ 1 من المراجع المهمة في هذا الموضوع كتاب "أسواق العرب" للأفغاني.

ولما كانت قريش تسكن مكة في مكان متوسط بين اليمن والشام غير ذي زرع، وليس بهذا المكان موارد تكفيهم، فقد اتخذ القرشيون التجارة مهنة لهم، وأصبحوا ينافسون عرب اليمن، وغدت تجارة قريش -على عهد هاشم بن عبد مناف- تخرج في قوافل عظيمة تشبه الجيش, وقد بلغت أحيانا خمسمائة وألف بعير، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهداة يهدون السبيل والحراس يخفرونها. وكانت القوافل الحجازية تنزل في أسواق عينتها الحكومة الرومانية لتحصل منهم الضرائب، ولتراقب الأجانب الوافدين على بلادها، وكانت هذه القوافل التي تقصد البلاد الرومانية تنزل أولا في أيلة "العقبة" ومنها تذهب إلى غزة ثم تتفرق القافلة حسب مقتضيات التجارة, على أن تعود فتتجمع في غزة في موعد مضروب, تعود بعده القافلة نحو البلاد العربية. وقد استفاد العرب أثناء رحلاتهم التجارية بعضا من مدنية الروم والفرس وآدابهم, واقتبسوا مما شاهدوه في هذه الأمم من أنظمة حكومية في جمع الضرائب، ومن أخلاق، ولغة وعادات لم تكن لهم، يؤيد ذلك ما أدخله العرب على لغتهم -بتأثير هذه المخالطة- من ألفاظ فارسية، ورومانية، ومصرية، وحبشية، مما أصبح على مر الأيام جزءا لا يتجزأ من اللغة العربية، إلى حد أن نطق بها القرآن الكريم1. ويقال: إن اسم "قريش" إنما سميت به قبيلة قريش المكية لاشتغالها بالتجارة، فقد ورد في لسان العرب: وقيل: سميت بذلك لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، وذلك من قولهم: فلان يتقرش المال أي: يجمعه.

الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز 1- أصل العربية: ليس في الإمكان معرفة لغة الإنسان الأول ولا اللغات التي تفرعت عنها، فقد مضى على ذلك قرون عجز التاريخ عن الإلمام بها، وما يقال من أن لغة آدم -عليه السلام- كانت سريانية أو عربية، وأنه رثى ابنه بشعر عربي, تَجَنٍّ على التاريخ حمل عليه تعصب كل قوم للغتهم، وليست اللغة العربية في حاجة إلى مثل هذه الخرافات لتشرف على غيرها من اللغات؛ إذ لها من المفاخر الحقيقية ما يغنيها عن هذه الترهات. وغاية ما أمكن الباحثين، أن أرجعوا اللغات الحالية إلى لغات أبناء نوح الثلاثة: يافث، وحام، وسام، الذين أبقى الله ذريتهم دون من كان معهم في السفينة, كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وتفرقوا في جهات الأرض، وكان لكل فريق منهم لغة نسبت إلى جدهم الأعلى، وهي: اليافثية أو الآرية, والحامية، والسامية. أما الأولى، فقد انتشرت في الهند وامتدت منه إلى الأفغان وفارس ثم إلى أوروبا، مصاحبة لأهلها في فتوحاتهم وتجولاتهم؛ ولذا قسمت قسمين: أ- آرية شمالية، ومنها تفرعت اللاتينية واليونانية وغيرهما، ومنهما تفرعت لغات أوروبا الحالية. ب- آرية جنوبية, وهي السنسكريتية "الهندية القديمة", وفروعها: الهندية الحالية والفارسية والأفغانية والأرمينية.

وأما الحامية، فقد انتشرت شمالي أفريقية, وتشمل: الزنجية، والبربرية لغة سكان المغرب، والمصرية القديمة التي كانت قبل الهكسوس. أما بعد إغارتهم فصارت خليطا من الحامية والسامية، لغة الفاتحين. وأما السامية، فقد انتشرت غربي آسيا في العراق والشام وجزيرة العرب, ثم الحبشية بأفريقية على رأي. وتشمل اللغة السامية: البابلية, نسبة إلى بابل التي بقيت أطلالها بقرب الكوفة، والسريانية بأعلى العراق وشمال سورية، والكلدانية1 جنوبيه, والآشورية شماليه, والفينيقية بين جبال لبنان والبحر الأبيض، والعبرية بفلسطين، والحبشية, والعربية. وقد ماتت هذه اللغات ما عدا العبرية، والسريانية, والعربية، ولكن المنقبين قد اهتدوا إلى الآشورية والبابلية، ووضعوا فيهما المعاجم كأنهما من اللغات الحية. وإنما عاشت هذه اللغات دون أخواتها الساميات لتقييدها بالكتابة, وزاد العربية تأييدا نزول القرآن الكريم بها, وهي أغنى أخواتها الساميات؛ لطول عمرها واتساع رقعتها، ونزول القرآن بها، ولما اقتبسته من الأمم التي اتصلت بأهلها سياسيا أو تجاريا أو مجاورة. وقد اختلف الباحثون في هذه اللغات: أتفرعن من واحدة مجهولة لنا، أم إن إحداهن أم للباقيات؟ والذين يذهبون إلى الرأي الثاني اختلفوا في أيهن الأم، فقيل: هي البابلية؛ لما بينها وبينهن من تشابه قوي, فبعض الكلمات على صورة واحدة فيها وفي العربية، ككلمتي: أنف وعنب، وهما في العبرية والسريانية بحذف النون, والتنوين في العربية نون، وفي البابلية ميم، وهما متقاربان في العربية؛ ولذا تبدل إحداهما من الأخرى، مثل: غين في غيم، وامتقع في انتقع، وعلامة الجمع فيها الواو والنون، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم, والسين في العربية

_ 1 الكلدانيون يضم الكاف: قوم من عبدة الكواكب "زبدي", والبابلية القديمة كانت تدعى أولا آرامية, ثم تغيرت قليلا فدعيت كلدانية, ثم تغيرت تغيرا آخر فعرفت بالسريانية.

شين في العبرية، والألف في العربية واو في العبرية, والضاد في العربية صاد في العبرية, والثاء في العربية شين في العبرية؛ فيقال في سلام وأرض وثور: شلوم، وأرص، وشور بالعبرية، والذال في العربية زاي في العبرية ودال في السريانية, والحاء في العربية خاء في العبرية والسريانية, والغين في العربية عين فيهما. ولا يعقل أن تكون العبرية أو السريانية أصلا؛ لأن البابلية أقدم، وإنما كانت أصلا للعربية؛ لأن العرب انتقلوا من بابل إلى جزيرتهم، فالبابلية أصل العربية. وقيل: هي العربية؛ لأن الكلمات المشتملة على حرف الضاد تنقل إلى العبرية والسريانية -وهما أغنى اللغات السامية بعد العربية- بجعل الضاد صادا في العبرية وعينا في السريانية، ولو كانت العربية ناقلة عنهما، لما كان هناك داعٍ لجعل هذين الحرفين ضادا لوجودهما فيها، ولأن في العربية من أصول الكلمات ما ليس فيهما. والتشابه بين هذه اللغات مما لا شك فيه، ولكنه لا يكفي في الحكم بأن إحداهن أم للأخريات؛ ولذلك رجح العلماء الرأي الأول، وهو أنهن أخوات لأم عفى عليها الزمن1 ... يقول جورجي زيدان في كتابه "تاريخ آدب اللغة": واللغات السامية أخوات لا يعرف لهن أم، وظن بعضهم أن البابلية والآشورية القديمة أمهن ولكن المحققين لا يؤيدون ذلك، والمعول عليه أن هذه اللغات السامية أخوات انقرضت أمهن قبل زمن التاريخ، وقال في "تاريخ العرب قبل الإسلام": وقيل: إن أمهن العبرية، وقيل: العربية، وقيل: البابلية، وكلها لا تخرج عن حد التخمين. ا. هـ. ونقول: لعل الحامل لهؤلاء على أقوالهم تعصب كل فريق للغته. ومن هذا يتبين لك أنه ليس من السهل الوصول إلى معرفة أصل اللغة العربية.

_ 1 هي لغة قدماء الساميين الذين سكنوا ما بين النهرين, وقد دعاها علماء اللغة باللغة الآرامية؛ نسبة إلى آرام أحد أبناء سام.

2- نشأة العربية: إذا كنا لم نستطع أن نعين أصل العربية، فإننا نستطيع أن نقول: إن اللغة العربية تألفت من لغات شتى، تدخل كل منها في بنائها في طور من أطوار حياتها، وذلك أن أقدم العرب هم الطبقة البائدة، ويظن أنهم هم المعينيون الذين قدموا من العراق إلى اليمن، وكانت لغتهم عامية البابلية، وبإقامتهم باليمن أخذت لغتهم تتباعد عن أصلها شيئا فشيئا حتى ضعفت الصلة بينهما، ثم جاء السبئيون أو القحطانيون إلى هذه البلاد من الحبشة أو من سقي الفرات، في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، واقتبسوا لغة المعينيين، ولعل هذا المعنى هو قول المؤرخين: إن القحطانيين أخذوا اللغة العربية عن العرب البائدة, ثم نزل إبراهيم بابنه إسماعيل -عليهما السلام- وبأمه هاجر بمكة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ونشأ إسماعيل بين قبيلة جرهم الثانية القحطانية التي انتقلت هي وغيرها من اليمن على أثر حادث سيل العرم, وأصهر إليهم وكان لسانه عبرانيا، فأدخل في لغة قحطان العنصر العبري، وتغلبت بعد ذلك اللغة العدنانية على الحميرية وغيرها من اللغات بواسطة الأسواق, واجتماعات الحج. ومن هذا تعرف كيف نشأت اللغة العربية, وكيف استمدت من البابلية والحبشية والعبرية، وتمثلت بعد ذلك لغة مستقلة فاقت كل هذه اللغات. 2- مميزات العربية: ومما تمتاز به العربية عن سواها: 1- الإعراب: وتشاركها فيه الحبشية، والألمانية، ويقول العارفون: إن الألمانية كادت تتخلص منه. ويظهر أن الإعراب أليف البداوة دون الحضارة؛ فقد كانت البابلية واللاتينية واليونانية والسنسكريتية معربة حين كان أهلها متبدين، فلما تحضروا ذهب عنها الإعراب، ولم يبق

في بعضها إلا بالكتابة والتقييد كما هو الحال في العربية والألمانية، على أن عامية العربية قد فقدت الإعراب. 2- غناها وثراؤها: ففيها لكل ما دقّ وجلّ من الأزمنة الثلاثة, ولكل ما يخطر بالذهن من المعاني، وأحوالها، وأصنافها، وكيفياتها، اسم بل أسماء، مما لا مثيل له في أرقى لغات البشر، كما قال جورجي زيدان: وإذا رجعت إلى كتب فقه اللغة1, رأيت من ذلك ما يملؤك عجبا وإعجابا. 3- انفرادها بصيغ المشاركة: يقول العارفون: إن صيغ المشاركة فيها؛ كتقاتلوا وتشاركوا لا نظير لها في اللغات الأخرى، إنما يعبر عن معناها بعدة ألفاظ. 4- الإيجاز: وهو وإن كان في غيرها إلا أنه أظهر، وأمثلته في الكتاب والسنة والحكم والأمثال وكلام البلغاء كثيرة لا تحصى. ومثل ذلك الاشتقاق والمجاز, فقد كثرا في هذه اللغة بخلاف اللغات الأخرى, فإنهما يقلان فيها. 5- الاشتراك والتضاد: فهما من خصائص العربية. 4- اختلاف اللهجات العربية: تتعدد اللغات بتعدد الأوطان واختلاف البيئات والأجواء، والمناظر تملي على أهلها الأسماء، والجو يفعل فعله بالأعصاب اللسانية، وهذا بيّن في أنواع الأبدال السابقة. ولما كانت بلاد العرب متسعة الأرجاء، وشماليها يخالف جنوبيها في السطح والمناخ وأحوال المعيشة، اتسعت هوة الخلاف بين لغتي السكان فيهما؛ ولذا قال عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا،

_ 1 كالمخصص وفقه اللغة للثعالبي ولطائف اللغة وكفاية المتحفظ وغيرها.

ولا عربيتهم بعربيتنا". وقال ابن خلدون: "ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها, كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق "القيل" في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح". ولما كان سكان الشمال بدوا يعيشون على انتجاع الكلأ، وتكاد كل قبيلة تكون في معزل عن القبيلة الأخرى -واختلاطهم قليل- لزم أن يكون بين لهجاتهم بعض الاختلاف، وإن كانت مادة لغتهم واحدة، ولكن هذا الاختلاف أقل مما بين سكان الشمال وسكان الجنوب؛ لاتحاد البيئة والمرئيات في شماله "فلم يتعدّ الاختلاف بينها صورة النطق وكيفيته، كما هو الحال بين سكان البلاد المصرية، إذ إن اللهجات المصرية وليدة اللهجات العربية، كما ذكر حفني ناصف وغيره. وقد علمنا أن قريشا بمكة كانت تفوق قبائل الشمال" عقلا ورقيا وتهذيبا وحضارة؛ لما كانت عليه من سيادة، وما كان لها من رحلات تجارية، اتصلت فيها بأمم شتى؛ نقلت عنها شيئا من الحضارة، فكانت بذلك، وبما أودع الله في ألسنتها من مرونة وقوة أقدر على ترقية لغتها وتهذيب نطقها، بما انتقته من لغات القبائل الوافدة عليها في موسم الحج ومجامع التجارة، وما أضافته إلى لغتها من لغات البلاد التي كانت تتجر معها، ولم يسع القبائل الأخرى إلا أن تحاكيها في النطق؛ لسيادتها ونفوذها، فأخذت لغة قريش تقوى ويتسع نفوذها بينما كانت اللهجات الأخرى آخذة في الانكماش؛ وبذا تقاربت اللهجات وكادت تتحد، فلما نزل القرآن الكريم بلغة قريش, وسحر العرب ببيانه، واعتنق العرب الإسلام؛ نمت الغلبة للغة قريش وتوارت تلك اللهجات، إلا آثارا قليلة دونت1 مع لغة قريش.

_ 1 كإعلال الفعل الماضي الثلاثي المختوم بياء، بقلب يائه ألفا، في لغة طيء نحو: =

وقد كان لكل لهجة من اللهجات هنة أو أكثر سوى لغة قريش، فإنها سلمت من تلك الهنات. ومن هذه اللهجات: 1- عجعجة1 قضاعة: وهي إبدال الياء المتطرفة بعد عين جيما، نحو: الساعج خرج معج، وفقيم تبدل الياء جيما إن وقعت في الآخر مشددة أو ساكنة، فالأول كقول الشاعر: خالي عويف وأبو علج ... المطعمان اللحم في العشج والثاني كقول الآخر: يا رب إن كنت قبلت حجتج ... فلا يزال شاحج2 يأتيك بج ولغة فقيم أعم من لغة قضاعة.

_ =بقا ونسا في: بقي ونسي, وهي لغة المصريين، وتصحيح مدين ومبيع عند تميم فيقال: مديون ومبيوع, وقلب همزة رأس وكأس وبئر وظئر ولؤم حرفا من جنس حركة ما قبلها عند تميم, وقلب ألف المقصور المضاف لياء المتكلم ياء عند هذيل, ومنه: سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم ... البيت وحذف نون من الجارة إذا وليها ساكن، نحو: خرجت مالدار، وجئت مالمسجد عند خثعم وزبيد من قبائل اليمن, وهي لغة مصر, وحذف ألف على الجارة وألف الاسم الذي يليها، إذا وليها ساكن، وهي لغة بلحارث نحو: ركبت علفرس، وقعدت علأرض، وهي شائعة في مصر. وحذف نون اللذين واللتين عند بلحارث بن كعب نحو: أبني كليب، إن عميّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا ومن اختلاف اللهجات: التفخيم والترقيق، والإمالة وعدمها، والسرعة والبطء, وأهل اللغة لم يدونوا كيفيات النطق, كما أنهم لم يدونوا اللهجات كاملة؛ لأن الذي كان يعنيهم هو فهم القرآن والسنة وهما بلغة قريش، فاكتفوا بتدوينهما ما عثروا به في الأشعار، أو أخذوه من سكان البوادي والرواة. وقد ذكر ابن فارس أوجها أخرى للاختلاف، فراجعها في الصاحبي. 1 العجعجة في اللغة: الصياح. 2 الشاحج: البغل.

وقد ورد عكس هذا الإبدال، قال الشاعر: إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شيرات1 2- فحفحة2 هذيل: وهي إبدال الحاء عينا، كقولهم: علت العياة لكل عي، في: حلت الحياة لكل حي. 3- عنعنة تميم وقيس: وهي جعل الهمزة المبدوء بها عينا, نحو: عنك فاضل، وعنت كريم، في: إنك فاضل، وأنت كريم. 4- استنطاء سعد وهذيل والأزد وقيس والأنصار: وهو جعل العين الساكنة نونا إذا جاورت الطاء، فيقولون في أعطى درهما: أنطى درهما، وقرئ شذوذا: "إنا أنطيناك الكوثر"، وفي الحديث: "فإن اليد العليا هي المنطية، واليد السفلى هي المنطاة". 5- كشكشة ربيعة ومضر: وهم في ذلك طوائف؛ فطائفة تجعل بعد الكاف المخاطبة المؤنثة شينا في الوقف فقط، وهو الأشهر، وطائفة تثبتها في الوصل أيضا، وطائفة تجعل مكان كاف المخاطبة المؤنثة شينا مكسورة في الوصل ساكنة في الوقف. حكى بعضهم أنه سمع أعرابية تقول لجاريتها: "ارجعي وراءشي, فإن مولاشي يناديشي" أي: وراءك ... إلخ، وروي قول الشاعر: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... البيت بإبدال الكاف شينا: فعيناش عيناها، وجيدش جيدها ... ولكن عظم الساق منش دقيق3 6- كسكسة ربيعة ومضر: يجعلون بعد الكاف أو مكانها سينا في خطاب المذكر؛ ليفرقوا بين خطاب المذكر وخطاب المؤنث، يقولون: "عرفتس لما أن نظرتس" وقد نسبها الحريري لبكر لا لربيعة ومضر، وجعلها زيادة شين بعد خطاب المؤنثة، وفسرها القاموس كتفسير الحريري لكنه نسبها لتميم لا لبكر.

_ 1 أصلها: شجرات. 2 الفحفحة: صوت الأفعى، وبحة في الصوت. 3 يروى بالدال وبالراء: "دقيق ورقيق".

7- وهم كلب: وهو كسر هاء الغيبة متى وليتها ميم الجمع مطلقا نحو: منهِم وعنهِم وبينهِم، والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة مثل: عليهِم وبهِم. وزاد في المزهر في الرديء المذموم من لغات العرب قلب الكاف جيما؛ يقولون: الجعبة في الكعبة, وزاد ابن فارس الحرف الذي بين القاف والكاف1 في لغة تميم. قال الشاعر: ولا أكول لكدر الكوم قد غليت ... ولا أكول لباب الدار مكفول وهي لغة أكثر المصريين. والحرف الذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، فيقولون في "جمل": "كمل" وهي السائدة في القاهرة والجهات المجاورة لها. قال الجاحظ في البيان والتبيين: قال معاوية يوما: من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات وتيامنوا عن كشكشة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر, ليس في لغتهم غمغمة قضاعة2 ولا طمطمانية حمير، قال: من هم؟ قال: قريش. 4- عوامل تهذيب اللغة العربية: لم تخلق اللغة العربية كما ننطق بها الآن، بل مرت -قبل ذلك- بأطوار وتقلبت عليها عصور وأجيال، وتعاورتها عوامل شتى حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من غنى وثراء، وحلاوة منطق وفصاحة بيان. والإنسان يملكه العجب حين يستعرض هذه العوامل، فيراها متضافرة على غرض واحد، وهو توحيد اللغة وكأن الله تعالى أراد أمرا جليلا فهيأ له أسبابه, حتى إذا نزل كتابه كانت الآذان قد تهيأت لفهمه والتأثر به،

_ 1 لابن خلدون في مقدمته بحث طريف عن هذا الحرف، أي: نطق القاف نطقا بينها وبين الكاف. 2 الغمغمة: الكلام الذي لا يبين.

لإنقاذ هذه الأمة مما كانت ترسف فيه من الجهل والضلال، وليسري هذا النور منها إلى غيرها فيسعد به الناس، وتنتظم به حياتهم، ويرفه به عيشهم. وأول هذه العوامل: ما حدث بنزول يعرب بن قحطان بيلاد اليمن, فقد قيل: إنه اتصل ببقايا العرب البائدة، وتعلم منهم لسانهم، وأعقب ذلك تغير اللغة عن أوضاعها الأولى إلى أوضاعها الجديدة التي هي مزيج من لغة العرب البائدة ولغة بابل أو الحبشة "بلاد يعرب بن قحطان"، ومن هنا نفهم مراد من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من نطق بالعربية أي: أول من نطق بها بعد أن اتجهت هذا الاتجاه الجديد. وثانيها: ما حدث بنزول إسماعيل -عليه السلام- وأمه بمكة، واتصاله بجرهم الثانية القحطانية، ونشأته بينهم طفلا، ومصاهرته إياهم. فقد تسرب إلى اللغة القحطانية ألفاظ عبرية من إسماعيل وأمه، وتشكلت اللغة بشكل جديد, وصارت مزيجا من اللغتين. أما ما يقال -وقد روته بعض كتب الحديث- من أن إسماعيل أول من انفتق لسانه بالفصحى، فمعناه: أنه أول من تكلم بها بعد هذه النشأة الجديدة، وليس المراد أنه أول من تكلم بالنهج القرآني الفصيح؛ لأن بين إسماعيل وبين نزول القرآن تسعة عشر قرنا, لا يتصور أن تظل اللغة العربية فيها جامدة على ما كانت عليه، ولا تتغير ولا تتبدل1. وليس بغريب أن يشتد الخلاف بين اللغتين اليمنية والحجازية، وإن كانت القحطانية أصلحها؛ لأن ما بين الإقليمين من بعد الشقة، واختلاف البيئة، إلى قلة طرق الاتصال، كفيل بأن يباعد بين اللغتين. وثالثها: اختلاط القبائل واجتماعاتها, وقد أخذت عوامل الاختلاط التي من أهمها: حادث سيل العرم، والحروب، والاتجار، والحج، تحدث أثرها العظيم في تفاهم القبائل وتقارب لغاتها؛ ففي هذه الاجتماعات يضطرون إلى التحادث، ويأخذ كل فريق عن صاحبه.

_ 1 نشير بهذا إلى ما ذكره الجاحظ في البيان جـ3 ص178.

وأهم هذه الاجتماعات كلها اجتماعات الحج، واجتماعات الأسواق: أ- أما الحج فقد سن من عهد إبراهيم -عليه السلام- وكان العرب يفدون إلى البيت الحرام من كل فج عميق، حتى جاءت قريش, فكانوا جيرته وسدنته، وقد كانت قريش على جانب من الثقافة، والرقي الفكري، والذوق الأدبي، فاستطاعت بذلك أن تميز بين اللهجات والألفاظ، وأن تنتقي ما خفّ على اللسان وحلا في الآذان، من ألفاظ القبائل الوافدة عليها؛ فارتقت لغتهم، وتنزهت عن مستبشع اللغات، وبذلك مرنوا على نقد الألفاظ، وصاروا أجود العرب انتقاء للأفصح والأسهل والأبين، وأخذت القبائل تحاكيها في لغتها وتأخذ عنها كما أخذت عنهم. وكان لقريش عمل آخر في هذا السبيل، وهو إدخالهم في اللغة ألفاظا كثيرة جلبوها في رحلاتهم التجارية من الشام وفارس والحبشة بعد أن عربوها، وصارت بلغتهم آلف. وبذا تتبين: أن قريشا كانت تقوم بأكثر مما تقوم به المجامع اللغوية في توحيد اللغة وتوسيعها! ب- وأما الأسواق فقد كانت من العوامل في تقارب اللهجات وتداخلها؛ حتى يتيسر التفاهم، وتقضى الحاجات. وقد انساق العرب إلى متابعة قريش على لغتها؛ لما رأوه فيها من بلاغة وفصاحة، ولما كان لها من سلطة دينية وعزة قومية, والضعيف مولع بتقليد القوي في كل زمان ومكان، فأخذوا يحاكونها ويتقربون من لغتها، ويلتزمونها في خطبهم وأشعارهم، حتى كادوا يجمعون عليها, لتسير أشعارهم في الآفاق ويتناقلها الرواة والحفاظ في كل الجهات، ولا أدل على ذلك من أن العرب في أنحاء الجزيرة فهموا كلهم القرآن عند نزوله, وتأثروا به. فلما نزل القرآن الكريم بها زادها قوة ورسوخا وانتشارا، وزاد تلك اللهجات ضعفا واختفاء، فلم يبق منها إلا ما هو من فطرة اللسان وتأثير الأجواء. وسيظل القرآن الكريم قائما بحراستها إلى نهاية الأيام والعصور.

الباب الثالث: الحياة الدينية

الباب الثالث: الحياة الدينية الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية كانت ديانات العرب الحجازيين1 متعددة: فمنهم من عبد الأوثان وصورها بشتى الأشكال، يصنعونها بأيديهم من ذهب أو حجر أو خشب ثم يقفون أمامها خاشعين، ويقدمون لها القرابين، ويستنصرون بها على الأعداء، ويستشيرونها في المهام، فإن أمرت بشيء فعلوه وإلا كفوا عنه وتركوه، حتى تأذن لهم فيه، ومما يدعو إلى الضحك والرثاء، ما حكي من أن بني حنيفة اتخذت لها صنما من حيس، عبدته مدة طويلة، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال الشاعر يعيرهم: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة وكان منهم فريق عبدوا الشعرى، وردّ الله تعالى عليهم بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} ، وحكى القرآن عبادة فريق للجن والملائكة، فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} الآية. وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة، ومن صورها قول شاعر قرشي: يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟

_ 1 راجع الأصنام للكلبي, الميثولوجيا عند العرب لمحمود سليم الحوت, الحياة الأدبية في العصر الجاهلي 2/ 278, شفاء الغرام للفاسي.

وفريق منهم اعتنق اليهودية, وهؤلاء كانوا بالمدينة وخيبر وفدك, كما كانوا باليمن كذلك. أما النصرانية فقد كانت قليلة في الحجاز، وكان أغلب أتباعها في الشام وفي الحيرة ونجران، وكان من أتباعها أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة وسواهما. الحنيفية: والذين نبذوا هذه الأديان، واعتنقوا التوحيد هم من عرب الحجاز, وقد اهتدوا إلى ذلك بفطرتهم السليمة، وكانوا يسمون "الحنفاء", ومنهم: "ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل, الذي يقول: أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل الخبير وكان هؤلاء يعظمون الكعبة التي كان أول من بناها أبو الحنيفية البيضاء إبراهيم عليه السلام، ولم يجعل لها سقفا. ثم تجدد بناؤها في عهد العمالقة، وجرهم. ثم جددها أيضا قصي بن كلاب وسقّفها بخشب الدوم وجريد النخل1. ثم بنتها قريش والرسول ابن خمس وثلاثين سنة، ورفعوا بابها حتى لا تدخل إلا بسلم؛ وذلك لتستطيع قريش منع من تشاء من دخولها، وقد حرصت قريش على ألا يدخل في بنائها من كسبهم إلا ما كان طيبا ليس فيه شيء من ربا، أو مهر بغي، أو مظلمة لأحد، واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر الأسود موضعه، واحتكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى بينهم بالحكمة. ثم كان أن احتمى عبد الله بن الزبير في المسجد من الحصين قائد جيش يزيد بن معاوية، وقذف الحصين الكعبة بالمنجنيق، فكاد يهدمها لولا أن قضى الله بوفاة يزيد فانصرف الجيش، فهدم عبد الله بن الزبير بناءها، وبناها على قواعد إبراهيم، وكسا بابها بصفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب أيضا، وجعل لها بابين في مستوى الأرض؛ كي يسهل على العرب المرور بداخل الكعبة.

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي, ص143.

ولما جاء عبد الملك بن مروان أمر أن يُعاد بناؤها إلى ما كان عليه أيام الرسول. ثم جاء أبو جعفر المنصور، فأراد أن يعيدها إلى ما كانت عليه أيام عبد الله بن الزبير, فمنعه مالك بن أنس؛ سدا لهذا الباب، ومنعا للتلاعب في هذا البناء المقدس في مستقبل الزمان. ومما ورثه العرب من شريعة إبراهيم: الحج بما فيه من تلبية وطواف، وسعي ووقوف بعرفة، والطهارة بنوعيها، والصلاة مولين وجوههم شطر الكعبة، والزكاة، والصدقة, وصلة الأرحام، والصوم. ومجموع هذه الشريعة يسمى "التحنف", ومعتنقوها "حنفاء"1. وقد كانت هذه النزعة الإصلاحية التي سيطرت على عقول بعض الحكماء والمفكرين العرب تنبيها للأذهان، وإرهاصا لظهور النبي الجديد، وتهيئة للعقول لتستعد لقبول التعاليم الجديدة التي سيدعو إليها النبي الكريم. اليهودية: ظهور اليهودية في يثرب: الراجح أنه حدث في زمن متقدم بعامل الاضطهاد, أو تحت تأثير المنافع المادية، فحينما كثر عدد اليهود بأورشليم، وتطلعت نفوسهم إلى الاستئثار بأمور التجارة والمنفعة، تسربت طوائفهم من أورشليم إلى العقبة، ثم ظهروا في يثرب مهاجرين واستوطنوا الجهات الأكثر صلاحية لهم ولمعايشهم، كأرض خيبر الواقعة شمال يثرب، ووادي القرى المشهور بأرضه الخصبة وحدائقه الزاهرة، وأرض تيماء أيضا، وكل هذه الجهات واقعة شمال الحجاز، ولها أهمية اقتصادية عظيمة، فبعضها يشرف على الطرق التجارية، والبعض ينعم بخيرات الجزيرة. وقد استطاع اليهود أن يعيشوا في بلاد العرب بوسائلهم التقليدية من المكر والخداع والكيد، ونجحوا إلى حد كبير في الاستئثار بخيرات البلاد، ولكن دينهم نفسه لم يجد له طريقا إلى قلوب العرب, ولعل السبب في ذلك أن كثيرا من أحكام اليهودية لا تتناسب مع أخلاق العرب؛ فاليهودية مثلا

_ 1 اقرأ تفصيل أخبار الموحدين في بلوغ الأرب جـ ص253 وما بعدها.

لا تبيح الانتفاع بغنائم الأعداء بل تقول بحرقها، والعربي إنما يقاتل للنهب والسلب غالبا، والعربي إلى جانب ذلك يميل إلى الحرية وعدم التقيد "بالسبت" أو بشيء آخر مما ورد في التوراة. المسيحية: وأما المسيحية فلم تكن مجهولة في قلب الجزيرة، ولا سيما مدن الحجاز التجارية؛ فقد كان الحجازيون على اتصال دائم بأهل الشمال. وليس من شك في أن الرهبان الذين كانت صوامعهم تنتثر من فلسطين وشبه جزيرة سيناء حتى قلب الصحراء، كان لهم أثر كبير في تعريف العرب بالنصرانية، على أن الصحراء كانت ملجأ تلوذ به بعض الفرق المضطهدة من الكنيسة الرسمية. وقد عرفت النصرانية في بني أسد بن عبد العزى من قريش، ومنهم عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل على رأي، وكان ورقة قد استحكم في النصرانية حتى علم من أهل الكتاب كثيرا. وفي يثرب كان من المناوئين للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند شخوصه إليها, شريف مطاع اسمه أبو عامر عبد عمرو بن صيفي، كان قد ترهب ولبس المسوح وسمي "الراهب", وكان بمكة نصراني اسمه موهب ضرب عليه النبي دينارا كل سنة. وكان بأيلة نصارى، ضرب عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة دينار كل سنة, وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا ولا يغشّوا مسلما1. الأصنام وأتباعها: وكانت عبادة الأصنام أقواها نفوذا وأوسعها انتشارا، وليس ذلك بعجيب؛ فإن ضعفاء النفوس في كل زمان ومكان يأبون إلا الارتماء في أحضانها والتشبث بأهدابها {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} الآية. وكأن هذه العقول يشق عليها أن تفهم معنى الألوهية على حقيقته فتريد إلها مجسما, تناجيه عن كثب وتتقدم إليه بحاجاتها كما تتقدم إلى الحكام في شئونها الدنيوية.

_ 1 راجع العرب والإمبراطورية لبروكلمان ص29، واليعقوبي 1/ 289، وابن هشام 2/ 216، والأم للإمام الشافعي 4/ 101.

ويرجع سبب انتشارها في جزيرة العرب إلى الأزمان السحيقة, حين كان يهاجر المكيون من مكة -لما ضاقت بهم- منتشرين في أنحاء الجزيرة، فكان كل فريق منهم يحمل معه حجرا من أحجار البيت، يطوف به حيث يقيم، كما كان يطوف بالكعبة، فلما تقادم العهد، انحرفوا عن الحجارة وزين لهم الشيطان عبادتها، فعبدوها من دون الله. ويقال: إن الذي نشر عبادتها في الحجاز عمرو بن لحي الخزاعي، جلبها معه من الشام، وقد ذهب إليها يستشفي، فرآها عندهم، فسألهم عنها، فقالوا له: إننا نستنصر بها على الأعداء، ونستسقي بها المطر، فطلب أن يصنع له منها عدد, فصنع وحمله معه، ونصبه حول الكعبة فعبدها العرب، وتعلقوا بها، وكثر اتخاذهم لها، حتى قيل: إنه وجد منها حول الكعبة -يوم الفتح- ستون وثلاثمائة صنم، وكان بالكعبة تمثالا السيد المسيح والعذراء مريم -عليهما السلام- فأخذ الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- يطعنها في وجوهها وأعينها بسية قوسه، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا" ولم يكتف أهل مكة بهذه الأصنام، بل اتخذ أهل كل بيت صنما لهم في بيتهم، فإذا أراد أحدهم سفرا, كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، فإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع أن يتمسح به. وكان لغير قريش طواغيت، أي: بيوت كالكعبة، يصنعون فيها الأصنام، ويطوفون بها، ويهدون إليها الهدايا، ويذبحون عندها الذبائح، ويستقسمون عندها بالقداح، ولها سدنة وحجاب. والقول بأن الوثنية أول من جلبها إلى بلاد العرب عمرو بن لحي من غير أن يكون لها سابق وجود بشبه الجزيرة، مشهور، وقد يكون بعيدا عن الصواب؛ لأن العرب كان لهم اتصال منذ قديم الزمان بالأمم التي تجاورهم بواسطة التجارة والترحال، وكانت هذه الأمم، وعلى الأخص الفينيقيون، والكلدانيون، والآشوريون، والمصريون، يدينون بالوثنية، وطبعي أن يتأثر العرب بهذه الوثنيات شيئا فشيئا، ثم تسري عدواها إلى القبائل واحدة بعد واحدة حتى تعم القبائل برمتها، وهذا ظاهر من أن كل قبيلة كان لها صنم خاص بها تنصبه في أرضها لتعبده.

وتشير رواية الكلبي إلى أن عبادة الأصنام بجزيرة العرب ترجع إلى عهد أسبق من عمرو بن لحي، ذلك أن إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- لما سكن مكة وولد له أولاد كثيرون, حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد. وكان الذي جَرَّهم إلى عبادة الأصنام أنه كان كما ذكرنا لا يظعن ظاعن من مكة إلا احتمل معه من حجارة الحرم؛ تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبا له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة, ويحجون ويعتمرون على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم جرهم ذلك إلى أن عبدو ما استحبّوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره؛ فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قوم نوح وغيره1. وإذًا, فعمرو بن لحي ليس هو أول من جلب هذه العبادة إلى جزيرة العرب، وينبغي أن يكون مفهوما أن عبادة الأصنام التي شاعت بين العرب كانت تختلف في معناها عن الوثنيات الأخرى، فبينما كانت الأصنام في الجهات الأخرى تعبد بصفتها آلهة بذاتها، كانت تعبد في جزيرة العرب بصفتها شفعاء عند الله، فالعرب -بذلك- قد أشركوا الأصنام مع الله سبحانه وتعالى! أي: إن إيمانهم كان شركا. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . وأشهر أصنامهم، ما ورد بذكره القرآن، وهو: ود وسواع ويغوث ويعوق2 ونسر واللات والعزى ومناة. وسمت العرب: عبد ود، وعبد يغوث، وتيم اللات، وكانت قريش وأهل مكة لا يعظمون شيئا من

_ 1 الأصنام للكلبي ص6. 2 قال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر.

الأصنام مثل ما يعظمون اللات والعزى ومناة وهبل كبير آلهتهم؛ ولذا كانت قريش تقول في طوافها: واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، وكانت هذيل تعبد سواعا, قال الشاعر: تراهم حول قبلتهم عكوفا ... كما عكفت هذيل على سواع وروي في التاج: حول قيلهم "بالياء بعد القاف المفتوحة". من عادات قريش الدينية: الحمس: كانت العرب على دينين: حلة، وحمس. فالحمس قريش وكل من ولدت من العرب، وكنانة، وخزاعة, والأوس والخزرج, وجشم, وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأزد شنوءة، وجذم، وزبيد، وبنو ذكران من بني سليم، وعمرو اللات، وثقيف، وغطفان، والغوث، وعدوان، وعلاف، وقضاعة. وكانت قريش إذا أنكحوا عربيا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو أحمسي على دينهم، وزوج الأدرم تيم بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابنه مجدا, ابنة تيم ربيعة بن عامر بن صعصعة على أن ولده منها أحمسي على سنة قريش, وفيهم يقول لبيد بن ربيعة بن جعفر الكلابي: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال1 واختلف المستشرقون في معنى كلمة حمس وأصلها؛ فذهب "فلهوزن" إلى أن المقابلة بين كلمة حمس وكلمة حلة تفيد معنى المقدس، أما "نولدكه" فقد أظهر ميلا إلى الشك في حقيقة هذه المقابلة, وقال: إن الحمس كالأحامس قد تفيد معنى المتحمس من حيث صلتها بأصل الكلمة التي نحن بصددها2.

_ 1 الأزرقي ج1 ص115، 116. 2 دائرة المعارف الإسلامية مادة "حمس" 8/ 104, الطبعة العربية.

"وإنما سميت الحُمس حُمسا للتشدد في دينهم؛ فالأحمسي -في لغتهم- المتشدد في دينه"1. وكانت قريش لا تعظم شيئا من الحل كما تعظم الحرم؛ وذلك لئلا تستخف العرب بحرمهم، ولذا فقد تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها, إلا أنهم قالوا: نحن الحمس أهل الحرم, فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره. ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم، إياهم يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، ودخلت معهم خزاعة وكنانة ومن ذكرناهم من القبائل، وابتدعوا في ذلك أمورا: فلم يكونوا يأقطون الأقط ولا يسلئون السمن وهم حرم ولا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما، بل غالوا في تشددهم فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا كانوا حجاجا أو عمارا, ولا يأكلون في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قراء وإما شراء. وكان مما ابتدعوه أنه إذا حج الصرورة من غير الحمس, رجلا كان أو امرأة, لا يطوف بالبيت إلا عريانا, إلا أن يطوف في ثوب أحمسي, إما عارية وإما إجارة، يقف أحدهم بباب المسجد فيقول: من يعير ثوبا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبا أو أكراه طاف به، وإن لم يعره ألقى ثيابه بباب المسجد من خارج, ثم دخل الطواف وهو عريان يبدأ بإساف فيستعلمه, ثم يستلم الركن الأسود, ويأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه, فإذا ختم طوافه سبعا استلم الركن ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه, ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس, فيأخذها فيلبسها ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانا. وقد جاءت امرأة يوما وكان لها جمال وهيئة, فطلبت ثيابا عارية فلم تجد من يعيرها, فلم تجد بدا من أن

_ 1 أخبار مكة 1/ 116 طبعة مكة, و2/ 41 شفاء الغرام.

تطوف عريانة, فنزعت ثيابها بباب المسجد ثم دخلت المسجد عريانة, فوضعت يديها على فرجها وجعلت تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله1 وكان أحدهم إذا أراد شيئا من داره نقب نقبا في ظهر بيته, فمنه يدخل إلى حجرته ومنه يخرج, ولا يدخل من بابه ولا يجوز تحت أسكفة بابه ولا عارضته، فإن أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم تسوّروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح, ثم ينزلون في حجرتهم، ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب2. وكان يحضر المواسم بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز التجار ممن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد, ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية فيتروى من الماء, فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة وتنزل الحلة عرفة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سننه التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة, لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم, وكان يقف مع الناس بعرفة. وإذا أفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم وأفاضت الحلة من عرفة حتى يلتقوا بمزدلفة جميعا، وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب, وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، فإذا كان هذا الوقت دفعت الحلة من عرفة ودفعت معها الحمس من الضباب الحرم حتى باتوا جميعا بمزدلفة, فيبيتون بها حتى إذا كانوا في الغلس وقفت الحلة والحمس على قزح, فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير. أي: بالشمس حتى ندفع من

_ 1 الأزرقي ج1 ص113-115. 2 الأزرقي ج1 ص117.

المزدلفة فأنزل الله في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني: من عرفة. فلما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس بعرفة فقال: "إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ونحل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدا -إن شاء الله- قبل طلوع الشمس، هدينا مخالف لهدي أهل الشرك والأوثان"1.

_ 1 الأزرقي ج1 ص122, 123.

الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز هُبل: كان هبل أعظم أصنام العرب في جوف الكعبة وحولها، وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة المضري, وكانت تضرب عنده القداح1. وذكر الأزرقي أن عمرو بن لحي قدم به من هيت من أرض الجزيرة, ولم يرد له ذكر في القرآن الكريم. وكان هبل رمز الشمس عند عُبَّادها من الصابئة. أما صنمه فكان عظيما منحوتا من العقيق الأحمر, محاطا بثلاثمائة وستين صنما, كلها أصغر حجما منه, وكان لكل يوم من أيام السنة صنم واحد منها. وكان هبل ممثلا بهيئة شيخ جليل طويل اللحية, حطمت يده اليمنى فأعاضه منها عباده القرشيون يدا من ذهب، وكان يحمل في تلك اليد قداحا سبعة "سهام الحظ" لكل من أيام الأسبوع قدح منها2, وعنده ضرب المطلب القداح على ابنه عبد الله. فهبل إذًا هو كبير الآلهة في الجاهلية, كما كان زُفُس وجوبتير عند الإغريق والرومان، وآمون عند المصريين, ومردوخ في بابل، إلى ما هنالك. ورأى جورجي زيدان في "أنساب العرب القدماء" أن لفظ هبل لا اشتقاق له في العربية من معناه، وأنه عبراني أو فينيقي أصله هبعل, ومعنى بعل "السيد", أما الهاء فهي أداة التعريف في العبرية مثل "ال" في العربية بإضافة هذه الأداة إلى بعل يريهون

_ 1 الأصنام ص25. 2 الميثولوجيا العالمية ص64.

الإله الأكبر. أما العين الزائدة فسهل إهمالها بالتخفيف ثم ضياعها بالاستعمال وخصوصا في لفظ بعل؛ لأن الكلدانيين كانوا يلفظونه "بل" بإهمال العين، وهو اسم هذا الإله عندهم. العُزَّى: صنم كان لقريش من أكبر أصنام العرب, أو هي شجرة كانت تعبد، وقربها صنم منصوب1. وقيل: العزى مصرية عرفها المصريون القدماء باسم "أزي" وهي من المعبودات السماوية مثل مناة؛ لأن معنى "أوزيت" القمر المنير بعد خسوفه"2. ويرى بروكلمان أنها كانت في صورة كوكب "الزهرة" فينوس. وروي أن العزى كانت شيطانة بعث الرسول إليها خالد بن الوليد لما افتتح مكة, وكانت ببطن نخلة, فأتاها وإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يدها على عاتقها، تصرف بأنيابها، فضربها خالد ففلق رأسها، ثم أتى النبي فأخبره فقال: "تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب! أما أنها لن تعبد بعد اليوم" 3. وفي رواية أخرى: أنها شجرة قطعها خالد بن الوليد بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ووردت في النقوش البابلية كلمة ASRRI - lZZU ومعناها: ملك النار، ومعنى العزو "النار" في اللغة البابلية4. وقد روى الجاحظ أن خالدا حين هدم بيت العزى رمته بالشرر حتى احترق عامة فخذه. ولا يخفى ما بين المعنى البابلي والرواية العربية من التشابه.

_ 1 الأغاني ج4 ص152 حاشية "1". 2 أحمد كمال في المقتطف 23/ 505. 3 الأصنام ص27, 28. 4 الأساطير العربية قبل الإسلام ص199, نقلا عن كتاب الأدب البابلي بالإنجليزية ص65.

والآراء مختلفة في حقيقة العزى: أكانت صنما، أم كوكبا، أم شجرا، أم حجرا أبيض، أم بيتا؟ وقد ذكر ابن هشام أنها بيت تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها. مناة: صنم لهذيل وخزاعة كان منصوبا على ساحل البحر بقُدَيْد "كزُبَيْر" على ثلاث مراحل من مكة بطريق المدينة, وكانت العرب جميعا تعظمه وخاصة الأوس والخرزج، وهدم عام الفتح بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ومناة أيضا حجر كبير كانوا يذبحون عليه. وقد وجدت باسمها ورسمها في الآثار المصرية، أي: مناة، وهي إحدى الحاتحورات أي: المعبودات السماوية السبع، وعلى الظن أن النجم المسمى مناة المعروف الآن باسم الوتد سمي كذلك بالنسبة إليها, وإن صح هذا فعبادها من الصابئة1. واتفق أكثر الرواة على أن مناة هذه كانت صنما, لا حجرا يذبح عليه، وكانت من أقدم الأصنام التي جاء بها عمرو بن لحي كما قاله الكلبي, فبدهي أن عبادتها دخلت في بادية الحجاز ولم تولد فيها, ويؤيده ما ورد في الأدب البابلي أنه كان لهم آلهة الموت والقدر باسم مامناتو MAMNATU وكذلك ورد مناواة في أقدم النقوش النبطية2. اللات: اسم صنم كان في الجاهلية لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة, وقد هدمها المغيرة بن شعبة بعد أن سخر من أهلها حين أسلمت ثقيف سنة تسع من الهجرة، وقيل: إن اللات أو الطاغية تسمى في المسمى "اللات" ويرمز بها إلى الحصاد والنمو؛ لأن معناها لغة "الرضاعة", ولعلها رمز إلى النجم "لَلَتْ" وهو النسو الواقع, فعبادها صابئون3.

_ 1 أحمد كمال، مجلة المقتطف، 23/ 505. 2 الأساطير العربية قبل الإسلام ص128. 3 أحمد كمال باشا في المقتطف 23/ 505.

وكلمة أللاتو ALLatu وهي ملكة الهاوية أو الموت1, قديمة وردت في الأدب البابلي الذي يرجع عهده إلى ثلاثة آلاف سنة تقريبا. وهي اسم إله من آلهة البابليين، وكانت هذه الآلهة من بنات رب الأرباب, واختارها مامناتو Mamnatu وعشتار2 lshtar. وَدّ: قال الكلبي: قلت لمالك بن حارثة: صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه, قال: "كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، وقد دير عليه حلتان, متزر بحلة، ومرتد بأخرى. عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووَفْضة "أي: جعبة" فيها نبل"3. وقال ابن منظور: الود: صنم كان لقوم نوح ثم صار لكلب, وكان "بدومة الجندل" وكان لقريش صنم يدعونه ودا, ومنهم من يهمز فيقول: أدا4. قزح: أما عبادة الصنم قزح، فكانت منتشرة في أنحاء شبه جزيرة العرب، وقد أورد "كوك" عنه في كتابه "ديانة فلسطين" ما يلي: "إن "كوز" إله أدومي وهو القزح العربي والرامي اللاهوتي الذي كانت نباله البرق والرعد والمطر, وكان العرب يحافظون على عبادته بقرب مكة"5. ذو الخلصة: اختلف الباحثون في ضبط "ذي الخلصة"؛ فقال ياقوت والجوهري وعياض

_ 1 الأساطير العربية قبل الإسلام ص109. 2 الأساطير العربية ص117 نقلا عن الأدب البابلي والآشوري بالإنجليزية ص94. 3 الأصنام ص56. 4 لسان العرب ج4 مادة "وود" ص469 ط بولاق. 5 ديانة فلسطين بالإنجليزية ص203, 204، وراجع كذلك مقدمة ديوان "عبقر" عن الأساطير العربية، لشفيق معلوف.

بفتح أوله وثانيه، وحكاه هشام بضمتين, وروى ابن دريد فتح الأول وإسكان الثاني, وضبطه بعضهم بفتح أوله وضم ثانيه. وفتح الخاء واللام هو الأشهر عند المحدثين، كما أنه هو المعروف المشهور عند قبائل السراة اليوم. ويطلق "ذو الخلصة على وثنين: 1- أولهما: البيت أو الصنم الذي كان بتبالة, بين مكة واليمن، على مسيرة سبع ليالٍ من مكة" وكان سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر. قال الكلبي: "كان ذو الخلصة مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج"1، وكانت تعظمها دوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بأرض تبالة2, وسمي ذا الخلصة؛ لأن عباده والطائفين به كانوا خلصة كما يروي ياقوت. ويرى الزمخشري وغيره أن ذا الخلصة كان صنما لا بيتا، وقال الحافظ ابن حجر: "ذو الخلصة: اسم للبيت الذي فيه الصنم، وقيل: اسم البيت الخلصة، واسم الصنم ذو الخلصة"، إلا أن الأشهر عند المحدثين والمؤرخين أنه كان بيتا فيه نصب تعبد كما في صحيح البخاري وكتب الأحاديث والسيرة. وكانت تسمى أيضا "الكعبة اليمانية" كما كانوا يسمون بيت الله الحرام "الكعبة الشامية". ونقل الزبيدي وابن منظور عن الجوهري أنها كانت تسمى "كعبة اليمامة"، وهذا وهم من الجوهري أو تحريف من الناسخ، فالفرق واضح بين اليمامة واليمانية والمكان مختلف. وكانت تسمى "بيت ذي الخلصة" أيضا، وعلى هذا سار أكثر الباحثين, وكانوا يستقسمون عندها بالأزلام. ولما خرج امرؤ القيس يطلب ثأر أبيه استقسم عنده, فخرج له ما يكره, فسب الصنم ورماه بالحجارة، وأنشد: لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا

_ 1 الأصنام 34-36. 2 سيرة ابن هشام 1/ 30.

ويفهم مما ورد في بعض المصادر, أنه لم يستقسم عنده أحد بعد امرئ القيس، ولكن جاء في حديث جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم اليمن كان بذي الخلصة رجل يستقسم بالأزلام، وحديث الباب يدل على أنهم استمروا على ذلك حتى نهاهم الإسلام "فتح الباري: غزوة ذي الخلصة" وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرير بن عبد الله البجلي لهدم ذي الخلصة، فما أطال الغيبة حتى رجع، فقال رسول الله: "هدمته؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق، وأخذت ما عليه وأحرقته بالنار, فتركته كيما يسوء من يهوى هواه, وما صدنا عنه أحد1. ثم لما تعاقبت العصور، وأصاب الناس موجة من الاضطراب، وساد الفقر في بعض الجهات، شعرت بعض النفوس بحاجتها إلى ملجأ تفزع إليه, فانقلبت -بدافع من الجهل- إلى التمسك بالبدع والخرافات، وعادات إلى التمسح بالأحجار والأشجار، ورجعت دوس ومن جاراها من القبائل إلى ذي الخلصة تتمسح به وتهدي له وتنحر عنده. إلا أن موجة من الإصلاح كانت قد ارتفعت تناهض هذه الضلالات والخزعبلات، فهدمت ذو الخلصة زمن عبد العزيز بن محمد بن سعود، كما يروي ابن بشر في كتابه عن تاريخ نجد2، ويبدو أن هذا الهدم لم يكن شاملا؛ إذ ظلت بعض جدرانه شاخصة حتى سنة 1344هـ, حيث حطمت الحملة التي بعثها عبد العزيز آل سعود بقايا ذلك الوثن، ورمت بأنقاضه إلى الوادي, فعفى بعد ذلك رسمه وانقطع أثره، كما أحرقت الحملة كذلك شجرة العبلاء التي كانت تصاقب ذا الخلصة. وقد كان بنيان ذي الخلصة ضخما، بحيث كان لا يقوى على زحزحة الحجر الواحد منه أقل من أربعين شخصا3. 2- وثانيهما: الصنم الذي كان بأسفل مكة، في الرواية التي ذكرها الأزرقي ونقلها عنه المؤرخون، وكان يسمى "الخلصة", وكانوا يلبسونه القلائد،

_ 1 الطبقات الكبير جـ1 ق3 ص77، 87, وراجع هدمه في البخاري جـ5 ص208. 2 عنوان المجد جـ1 ص180. 3 أخبار مكة 1/ 263.

ويهدون إليه الشعير والحنطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام1. وغير بعيد أنه كان في ضاحية من ضواحي مكة صنم بهذا الاسم, فكسر يوم فتح مكة، أو أنه كان في قرية "الخلصة" التي قال ياقوت عنها: إنها في مر الظهران المعروف اليوم بوادي فاطمة ... وقد رجح الأزرقي وجود هذا الصنم في القرية المذكورة لاتحاد اسميهما، أما اليوم فلا توجد قرية تسمى الخلصة في الوادي المذكور، وإنما يوجد فيه خيف يسمى "عين الخلص"2.

_ 1 المرجع السابق: 1/ 73. 2 راجع عن ذي الخلصة البحث الذي كتبه الأستاذ رشد ملحس، ملحقا بالجزء الأول من الأزرقي ص256-269.

الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي 1- الحياة العقلية لأية أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، يقصد بها مدى ما بلغته هذه الأمة في الميدان الثقافي والعلمي والفكري؛ هذا الميدان الذي يؤثر تأثيرا خطيرا في عقل الأمة وتفكيرها وازدهار النهضة فيها. ومن العجيب أن يكون أكثر سكان الحجاز في العصر الجاهلي بدوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فضلا عن أن يعرفوا علما أو ثقافة، ومع ذلك فقد كان لهؤلاء البدو لون من ألوان الثقافة الشعبية المستمدة من البيئة والتجارب والاقتباس من قريش؛ حكام مكة، وزعماء الحجاز في العصر الجاهلي. أما مدن الحجاز وفي مقدمتها: مكة، والمدينة، والطائف، فكان لها طابع آخر، إذ كان الكثير من أهلها مثقفين ثقافة خاصة بتأثير البيئة والاختلاط والرحلات ومواسم الحج وأسواق العرب، فقد كان الحارث بن كلدة وابنه النضر بن الحارث مثقفين بثقافة فارسية واسعة، وكان بنو عبد مناف يرحلون إلى كسرى وقيصر وإلى اليمن في متاجرهم، ويتزودون بقسط من ثقافات هذه الأمم المجاورة لهم. كما كان عمارة بن الوليد المخزومي وعمرو بن العاص -كلاهما- تاجرين،

خرجا إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها1, وكان أبو رافع يلقب تاجر أهل الحجاز2. وكان بمكة طبقة مثقفة تدعى طبقة الحكام، يفصلون في كل المشكلات، وتعرض عليهم شتى الخصومات فيقضون فيها. ومن الحكام بمكة من قريش من بني هاشم: عبد المطلب، والزبير، وأبو طالب، ومن بني أمية: حرب بن أمية، وأبو سفيان بن حرب, ومن بني زهرة: العلاء الثقفي حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم: العدل، وهو الوليد بن المغيرة, ومن بني سهم: قيس بن عدي، والعاص بن وائل، ومن بني عدي: كعب بن نفيل3. ولا شك أن هذه الطبقة كانت مظهرا لثقافة أصيلة، وهي لا ريب كانت عاملا مهما في تطور الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي. وقد يقال: إن هذه الطبقة نشأت على الحكمة نشأة الفطرة والطبع كما ذهب إليه الشهرستاني في الملل والنحل, ولكننا ننفي ذلك، فلا يمكن أن يكون مثلا هذا النظام السياسي الذي وضعه قصي وبنوه لحكم مكة في العصر الجاهلي أثرا من آثار الفطرة والطبع، إنما هو مظهر لثقافة سياسية ربى أبناء قصي عليها رحلاتهم ومشاهداتهم في الأمم التي كانوا يذهبون بقوافل التجارة إليها. ثم إنه قد كان يعيش في مكة والمدينة طبقة أخرى من الحكماء الذين تأثروا بالديانات السماوية القديمة التي كان لها بعض الآثار في مكة والمدينة والطائف، ومن هؤلاء مثلا: ورقة بن نوفل، وكان كما ورد في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري "امرأ قد تنصر في الجاهلية, وكان يكتب الكتاب العبراني, فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" ومنهم كذلك زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت, وكان قد نظر في الكتب وقرأها وهو أول من قال: باسمك اللهم، وسواهم. ولا شك أن هؤلاء كان لهم أثر على الحياة العقلية عند عرب الحجاز في هذا العصر.

_ 1 الأغاني: 8/ 52. 2 5/ 138 صحيح البخاري. 3 راجع ص108 جـ2 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام.

ومهما كان, فإن تفكير العربي في العصر الجاهلي لم يكن موسوما بالتفكير العلمي المبني على ربط المسببات بالأسباب ربطا محكما نتيجة للدراسة والبحث والتمحيص، وإنما كان في أغلبه يعتمد على البديهة وحدّة الخاطر وكثرة التجارب, وعلى التقليد والكهانة والعرافة والعيافة وزجر الطير، وما إلى ذلك من مقومات التفكير في المجتمعات القديمة البعيدة عن مناهل العلم والمعرفة. ومن مظاهر هذه العقلية، ما ورد في سيرة ابن هشام من أن حيا من ثقيف "فزعوا للرمي بالنجوم, فجاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا، فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا إن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها, فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها, فهذا لأمر أراد الله بهذا الخلق". فهذه الدقة العقلية لا يصح أن نجعلها أثرا لدراسة أو ثقافة، إنما هي أثر لنضج عقل العربي المتأثر بحياة البادية والصحراء، والذي تكثر تجاربه فيها. ونحن مع ذلك لا نوافق الذين يرمون العقل العربي بالبلادة والضعف وانعدام النظرة الشاملة إلى العالم1. ولا شك أن البيئة الطبيعية والاجتماعية كان لها أثرها في حياة عرب الحجاز في العصر الجاهلي، هذه البيئة التي استمد العرب منها ثقافتهم في العصر الجاهلي.

_ 1 راجع ص29 وما بعدها من كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين.

2- ومظاهر الحياة العقلية لعرب الحجاز في هذا العصر الجاهلي تتجلى لنا في أشعارهم وأمثالهم وقصصهم التي شهروا بها في العهد البعيد، وبعبارة أوضح: تتجلى في بلاغاتهم التي هي مستمدة من منابع الوجدان والشعور والعاطفة، وهذه البلاغات تحمل طابعا واضحا من التفكير في شئون الحياة والإحساس والوجدان، وكانت هذه البلاغات هي شهرة العرب في العصر الجاهلي ولا سيما عرب الحجاز الذين صفت لغتهم، ورقّ وجدانهم، وأرهفت أذواقهم، وذاعت فصاحتهم, وسمت أساليبهم، حتى كانت لغتهم هي اللغة المختارة التي نزل بها الذكر الحكيم, الذي يعتبر إعجاز البلاغة العربية وتاجها. كما تتضح مظاهر حياتهم العقلية في معارفهم وثقافتهم العامة التي تتحدث عنها مصادر الثقافة العربية القديمة. ولعرب الحجاز ثقافات وتجارب في الحياة، وأهم هذه المعارف هي: 1- الأخبار: ليس غريبا أن يكون العرب رواة حفاظا؛ لأنهم كانوا أميين يعتمدون على حافظتهم، وكانوا -إلى ذلك- قليلي الأعمال، يحبون السمر والحديث، فرووا أخبارا كثيرة اعتمد عليها المؤرخون في عصر التدوين، ولم يقتصروا فيما رووه على أخبار العرب, بل رووا الكثير من أخبار الأمم المجاورة لهم. فمن سكن مكة أحاط بأخبار العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب والأمم التي كانت قريش تتجر معها. ومن سكن الحيرة، خبر بأخبار العجم؛ لمجاورته لهم، وأخبار حمير. ومن سكن الشام خبر بأخبار الروم واليونان. ومن سكن البحرين وعمان، خبر بأخبار السند وفارس. ومن سكن اليمن أخبر بأخبار أمم كثيرة. وكان النضر بن الحارث يروي أخبار الفرس والأكاسرة ويعارض بذلك ما يتلوه النبي -صلى الله عليه وسلم- من القرآن1.

_ 1 يروى أن النضر كان من شياطين قريش، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ورستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله مجلسا فذكر بالله، خلفه في مجلسه إذا قام, وقال: إنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إليَّ أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس وغيرهم، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ ابن هشام 1: جـ190 من الروض الأنف.

ولكن ما ورد من هذه الأخبار لم يسلم من الدسّ والتحريف والمبالغات كما حدث لغيرهم من الأمم، إلا ما تضافرت الروايات على صدقه، كقصة الفيل ونحوها. 2- الأنساب: وكانوا من أحفظ الأمم, وأشدها عناية بحفظ أنسابهم؛ لأنها مناط فخرهم وعزّهم ومدار منافراتهم, وهم إليها محتاجون في حروبهم للتناصر والتساند, فكان أحدهم إذا سُئل عن نسبه، ذكر عددا كبيرا من آبائه. وكان في كل قبيلة نَسَّابة يعرف من أنساب العرب وقبائلهم وبطونهم وأفخاذهم ومفاخرهم ومثالبهم وأيامهم ووقائعهم ما يستوجب العجب والدهشة, ويستطيع أن يلحق الفرع بأصله وينفي عن القبيلة من ليس من أبنائها. وكان من أشهر النسابين في العصر الجاهلي وما بعده: أبو بكر الصديق، وينسب إليه كثير من ألوان الحذق في معرفة النسب العربي ومفاخره ومغامزه, حتى إن حسان بن ثابت لما أراد هجاء قريش بعث به الرسول -صلوات الله عليه- إلى أبي بكر؛ ليعلمه نسبهم وما يمكن القدح من جهته وما لا يمكن. ولما سمع أبو سفيان قصيدة حسان في هجائه التي يقول منها: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد قال: هذا الشعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة. ولما هجا حسان قريشا، قال له رسول الله صلوات الله عليه: "كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي "؟ فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: "ايت أبا بكر؛ فإنه أعلم بأنساب القوم منك" فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم، فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة. وأبو بكر هو صاحب المثل المشهور: "إن البلاء موكل بالمنطق". وطبقات الأنساب عندهم: الشعب، فالقبيلة، فالعمارة، فالبطن، فالفخذ, فالفصيلة.

فالشعب: النسب الأبعد, كعدنان وقحطان. والقبيلة: ما انقسم فيه الشعب, كربيعة ومضر. والعمارة: ما انقسمت فيه القبائل, كقريش وكنانة. والبطن: ما انقسمت فيه العمارة، كبني عبد مناف وبني مخزوم. والفخذ: ما انقسم فيه البطن, كهاشم وبني أمية. والفصيلة: ما انقسم فيه الفخذ، كبني أبي طالب وبني العباس. فالفخذ يجمع الفصائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل. وإذا تباعدت الأنساب، صارت القبائل شعوبا والعمائر قبائل. 3- النجوم: وكان لهم معرفة بأسماء النجوم, وطلوعها وغروبها. دعاهم إلى ذلك اعتمادهم عليها في سيرهم برا وبحرا، وساعدهم على ذلك: صفاء جوهم، ومعرفة خلطائهم من الكلدانيين "الصابئة" الذين كانوا كثيرين ببلاد العرب، وقد عرفوا السيارات السبع. كما عرفوا البروج المجموعة في قول الشاعر: حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان ورمى عقرب بقوس لجدي ... نزح الدلو بركة الحيتان1 وإن تشابه أسماء السيارات والأبراج أو اتحادها في العربية والكلدانية, لدليل على اعتماد العرب في هذه المعارف على الصابئة. 4- المطر والرياح: وكان لهم بالأمطار والرياح عناية كبيرة؛ لاعتمادهم عليها في حياتهم، فاستطاعوا بتجاربهم أن يعرفوا السحاب الممطر والكهام والبرق الخلب والصادق2 ودلالة الرعد على قرب المطر أو بعده، والسحب

_ 1 قسم العرب الفلك "مدار الشمس" إلى اثني عشر قسما، كل منها يسمى برجا، وهي منطقة يجتمع فيها عدد من كواكب ثابتة تضمها خطوط موهومة، وتعطي صورة معينة للشيء من الأشياء التي ذكرت في البيتين. 2 وفي سمط اللآلئ: البرق الذي يستطير في السحاب من طرفها إلى طرفها لا شك في مطره, والذي في أسافلها لا يكاد يصدق. قال رجل من العرب لابنه وقد كبر, وكان في داخل بيته تحت السماء: كيف تراها يا بني؟ قال: أراها قد تبهرت "أضاءت" أورى برقها أسافلها. قال: أخلفت يا بني.

التي أمطرت، وفي أي مكان سقط مطرها، والسحب التي لم تمطر، ومتى تمطر, ولا يزال في الكثير من البداة مثل هذه الفراسة. وفي كتب الأدب من الأخبار في ذلك الشيء الكثير، روى صاحب الأغاني: أن أعرابيا مكفوف البصر خرج ومعه ابنة عم له ترعى غنما لها، فقال لها: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقالت: كأنها بغال دهم1 تجر جلالها. فقال: ارعي واحذري. ثم مكث ساعة، وقال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا، فانظري. قالت: هي كما قال الشاعر: دان مسف، فويق الأرض هيدبه2 ... يكاد يدفعه من قام بالراح كأنما بين أعلاه وأسفله ... ريط منشرة أو ضوء مصباح3 فقال: انجي، لا أبا لك، فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء. وأما الرياح فقد عرفوا صفاتها وأنواعها، ومنها: الصبا والقبول والدبور والنعامى والشمال والجنوب والنكباء والسوافي والحواصب والصرصر والعاصف والسماء والمعصرات والأعاصير وغير ذلك. 5- الملاحة: وكانت جدة هي ميناء الحجاز، وكانت السفن تخرج منه إلى البحر للصيد والتجارة شأن عرب اليمن والبحرين، وكان عرب الحجاز القريبون من سيف البحر يشاهدون المراكب غادية ورائحة، فاحتاجوا إلى ألفاظ لها ولأجزائها، فقالوا: سفينة وشراع وقارب ومجداف وسكان وجؤجؤ وربان ... إلخ. 6- الطب، وكان لهم منه نصيب مكتسب بالتجارب، أو منقول عن غيرهم من الأمم المجاورة، يتوارثونه عن مشايخهم وعجائزهم، وكانوا يعالجون مرضاهم بخلاصة النبات، أو بالعسل، أو بالكي، وأحيانا بالبتر وبالحجامة. وكثير منهم كان يعالج المرضى بالرقى والعزائم. وأخذ بعضهم الطب عن الروم

_ 1 الدهم: جمع أدهم, وهو الأسود. 2 الهيدب: ذيل السحاب المتدلي. 3 الريطة: الملاءة.

والفرس قبيل الإسلام، ومن أشهر أطبائهم: الحارث بن كلدة الثقفي المتوفى عام 43هـ، وهو من ثقيف ورحل إلى فارس، وتعاطى الطب هناك, ثم عاد إلى بلاده، وأدرك عصر الرسول، وعاش حتى أدرك عهد معاوية، وكان الرسول -صلوات الله عليه- يشير على من به علة أن يستوصفه، ومن حكمه: "البطنة بيت الداء, والحمية رأس الدواء". ويؤخذ مما حوته اللغة العربية من أسماء العلل والأمراض والعقاقير أنهم عرفوا كثيرا من الأمراض وأنواع علاجها، كما أن الناظر في كتب فقه اللغة, يتبين من ذكرهم أعضاء الجسم الإنساني كلها, ما ظهر منها وما بطن -من الرأس إلى القدم والعروق- أنهم كانوا يعرفون التشريح. وقد عرفوا أيضا محاسن الخيل وعيوبها, وأمراضها وعلاجها مما يسمى الآن "الطب البيطري" "بيطر الدابة: عالجها, فهو مبيطر وبيطار, وصنعته البيطرة". 7- القيافة: ومن أهم معارفهم قيافة الأثر؛ وهي تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر والاستدلال بها على ذويها، وبذلك تعرف النعم الضالة والمسروقة، ومسالك اللصوص والفارين ... وقد مهروا في ذلك حتى كانوا يميزون بين قدم الشاب والشيخ, والرجل والمرأة, والبكر والثيب, وتعتمد الحكومة المصرية إلى الآن على فريق من العرب في تعقب اللصوص والسفاكين والمهربين. وقيافة البشر، وهي الاستدلال بهيئة الإنسان وملامحه وأعضائه على نسبه. وقد روي أن قائفا دخل فرأى أسامة بن يزيد وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا بها رءوسهما وبدت أقدامهما, فنظر إليها وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسُرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. 8- الفِراسة: وكان لهم نصيب كبير أيضا من الفراسة, وهي الاستدلال بهيئة الشخص وشكله ولونه وكلامه على أخلاقه وفضائله ورذائله، ومرجعها إلى العقل، فكلما كان أكمل كانت أقوى. يحكى أن أولاد نزار: مضر، وربيعة, وإيادا، وأنمارا، ساروا إلى الأفعى الجرهمي ليحكم بينهم في ميراث, فرأوا كلأ مرعيا، فقال مضر: إن البعير الذي

رعاه أعور، وقال ربيعة: هو أزور، وقال إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود، فصادفهم صاحبه, فسألهم عنه فوصفوه له, فتعلق بهم وسألهم إياه, فأقسموا ما رأوه, فقال: كيف وقد وصفتموه؟! قال مضر: رأيته يرعى جانبا دون جانب فعرفت أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور، وقال إياد: رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر، وقال أنمار: رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره فعرفت أنه شرود. فقال لهم الجرهمي: اطلب بعيرك من غيرهم. وعرب اليمن أوفر حظا من غيرهم في الفراسة، ويقال: إن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أخذها عنهم، فكان له منها نصيب كبير. ومن الفراسة الريافة، وهي معرفة مواطن الماء في الأرض ببعض الأمارات؛ كشم التراب والنبات، ويقال: إن في الحجاز ونجد من يعرف ذلك إلى الآن. 9- الكهانة والعرافة1: قيل: هما شيء واحد وهو الإخبار عن المغيبات، ماضية أو مستقبلة أو حالية, اعتمادا على القرائن، أو على النجوم، أو على الحصى، أو الجن في زعمهم، أو بقياس المستقبل على الماضي. وقيل: إن الكهانة الإخبار عن الماضي والمستقبل، والعرافة الإخبار عن الماضي فقط. وقيل: إن الكهانة خاصة بالمستقبل، والعرافة خاصة بالماضي. وكانت الكهانة فاشية في العرب قبل الإسلام، فكانوا يفزعون إلى كهنتهم في تعرف الحوادث والفصل في الخصومات وعلاج المرضى ومعرفة المستقبل وتعبير الرؤى، كما كان الحال عند غيرها من الأمم القديمة، كمصر وبابل وغيرهما، حتى جاءت الشريعة الإسلامية فأبطلتها2 ونهت عن الاعتماد عليها؛ لكثرة الكذب فيها، وحماية للعامة من أن يفتنوا بهم فيضلوا عن الدين الحنيف.

_ 1 الكهانة والعرافة, بكسر أولهما، ويجوز في الأولى الفتح على المصدر, وفعلها كمنع وكرم ونصر, وفعل الثانية كنصر. 2 ورد: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد".

ويظن بعضهم أن الكهانة نقلت إلى العرب على يد الصابئة مع المعارف النجومية الآنفة، مستدلا بأن العرب يسمون الكاهن جازيا وهو لفظ كلداني، معناه: الناظر أو البصير، ويدل عندهم على الحكيم والنبي. فكان الكهنة ببلاد العرب من الصابئة أولا، ثم من اليهود، وبعد ذلك ظهرت في العرب، وادعاها منهم رجال ونساء كثيرون، سيأتي الكلام عليهم في السجع.

الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي ورقة بن نوفل القرشي الحجازي 1- كان ورقة بن نوفل القرشي حكيما متدينا موحدا، وشاعرا بليغا مجيدا، وسيدا شريفا سريا في قومه، عاش يتلمس دين التوحيد في عصر الوثنية الجاهلية، ويبشِّر بقرب ظهور نبي العرب وخاتم الرسل، ويولي وجهه شطر السماء ينشد الهداية والنور, حتى أدرك بعثة سيد الأنبياء محمد صلوات الله عليه. وكان العرب قبل البعثة المحمدية في حيرة وضلال، لا يجمعون على دين، ولا يتفقون على عبادة؛ عبد جمهورهم الأوثان والأصنام، وفريق منهم عبدوا الشمس أو القمر أو الكواكب، وآخرون دانوا بالنصرانية أو اليهودية. وجماعة منهم اعترفوا بوجود الله ووحدانيته، وظلوا على فطرة التوحيد الخالص، وعبدوا الله على دين إبراهيم وإسماعيل؛ يعظمون الشعائر، ويؤدون المناسك، ويقدسون البيت الحرام، ويلتزمون الحج والعمرة والطواف والوقوف بعرفة ونحر الذبائح والأضاحي، وسوى ذلك من ألوان العبادات والطاعات، ومنهم: ورقة، وأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل, وكعب بن لؤي، وقصي، وعبد مناف، وهاشم، وعبد المطلب. في هذه الحيرة والضلال، ونحو عام 521 ميلادية، قبل ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- بنصف قرن، ولد في مكة ورقة القرشي ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، من بيت عرف بالسيادة وكرم المحتد ... وأي مجد ومحتد يبلغان ما بلغته منهما قريش، سادة العرب وسدنة البيت العتيق؟

وإلى قصي أيضا يرجع نسب أم ورقة هند بنت أبي عبد بن قصي. وقصي هو الأب الخامس لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو الذي جمع شتات قريش، ووحّد كلمتهم، وصارت إليه الرياسة والسيادة على مكة كما سبق. ذلك هو نسب ورقة وحسبه. ولقد نشأ وشبّ في هذه السيادة الفاخرة، وتلك المآثر القرشية الخالدة، عاش في مكة مع قومه يعمل في التجارة كما يعملون, ويلهو كما يلهون، وشهد مواطن قريش، وشارك في مفاخرها، وأصبح بعد قليل رجل صدق وعزم إقدام ورحلة، ويصف ورقة جده ولهوه في هذه الفترة، فيقول: ولقد ركبت على السفين ملججا ... أذر الصديق وأنتحي دار العدى ولقد دخلت البيت يخشى أهله ... بعد الهدوء وبعدما سقط الندى فوجدت فيه حرة قد زينت ... بالحلى تحسبه بها جمر الغضا فنعمت بالا إذ أتيت فراشها ... وسقطت منها حين جئت على هوى فتلك لذات الشباب قضيتها ... عني فسائل بعضهم ماذا قضى؟ وخالط ورقة في رحلاته للتجارة أهل الكتاب، واستمع إليهم، ومال إلى ما يؤمنون به من فطرة التوحيد وعبادة الله؛ فأنكر ما كانت عليه قريش من باطل وجهل، وما كانت تمعن فيه من وثنية وشرك, وأعرض عن غيها وباطلها، فاعتزل عبادة الأوثان، وامتنع عن أكل ما يذبح باسم الأصنام، وآمن أن قومه أخطئوا دين أبيهم إبراهيم وإسماعيل, فأخذ ينشد الحنيفية البيضاء، ويسأل عنها الأحبار والرهبان: يروى أنه اجتمعت يوما في عيد لهم عند صنم يعظمونه وينحرون له ويعكفون، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، هم: ورقة بن نوفل القرشي، وابن عمه عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل بن كعب بن لؤي، وعبيد الله بن جحش الأسدي وهو ابن أميمة بنت عبد المطلب، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليتكتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل، فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء, لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر

ولا ينفع، يا قوم! التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما عبد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه حتى بعث الرسول, فأسلم وهاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومات فيها بعد أن اعتنق المسيحية وارتد عن الإسلام. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر, وآمن بالمسيحية، وعاش في القسطنطينية. وأما زيد فأقام على الحنيفية، يعظم شعائرها، ويقول: أعبد رب إبراهيم، وعاب على قومه ما هم عليه، وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويرفع صوته: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: والله لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه, ثم يسجد على راحلته، ويستقبل الكعبة داخل المسجد قائلا: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم، ويصيح في الناس: يا معشر قريش، والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري. وكان يعيب على قريش ذبائحها, ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض نباتا، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟! وآذته قريش فخرج يطلب دين إبراهيم, ويسأل الأحبار في الشام، حتى انتهى إلى راهب من شيوخ الرهبان, فسأله عن الدين، فقال له: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها؛ فإنه مبعوث الآن, هذا زمانه, فرجع إلى مكة. ولما اشتد إيذاء قريش له, كان يخرج إلى "حراء" يتعبد فيه، ولقيه عامر بن ربيعة في طريقه إلى حراء, فقال له زيد: يا عامر, إني فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد إسماعيل بعده، وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه ... وقتل زيد قبل البعثة بخمس سنين, وقال الرسول الأكرم: "يأتي زيد يوم القيامة أمة واحدة". ورثاه ورقة بن نوفل بقصيدة منها: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا أقول إذا ما زرت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر على الأعاديا حنانيك إن الجن كنت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا أدين لرب يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا أقول إذا صليت في كل سبعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا هذا شأن هؤلاء الثلاثة الباحثين عن الحقيقة الكبرى. فأما ورقة فرحل إلى الشام يلتمس الدين الصحيح، ويتحدث إلى الأحبار والرهبان ويسمع منهم، حتى مال قلبه إلى دين المسيح، ورآه إنقاذا له من الحيرة، فاتبعه وعمل به، وقال لزيد: أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتي النبي الذي تبشرنا به الأحبار. وأخذ يحفظ من النصرانية ما يحفظ، ويعي من الرهبان ما شاء الله أن يعي، وعاد إلى مكة, فأقام فيها آمنا وادعا، عاكفا على دينه ونفسه، لا يعرض لأحد ولا يحب أن يعرض له أحد. وازداد مكانة في قريش، فكان مستشارها في الأزمات ومرجعها في الخطوب، والحكيم الذي تسترشد برأيه كلما دجت الظلمات ... وقرأ ورقة الكتب السماوية, وكان يعرف العبرية، وينقل من الإنجيل إلى العربية ما شاء، ويأخذ من أهل التوراة والإنجيل ما يأخذ. 2- فلما شاء الله أن ينقذ الإنسانية, ويهدي البشرية إلى النور والخير والتوحيد، والسلام والأمن والعدل والرحمة، ولد رسول الله محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- واستبشر بميلاده الكون، وعَمَّ الفرح والبِشْر كل مكان. وشبَّ رسول الله ونما سيدا شريفا, ونبيلا سريا، وفتى زكيا، حتى إذا كان في الثالثة عشرة من عمره، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في تجارة،

وفي بصرى قصبة حوران والبلاد العربية الخاضعة لحكم الروم رآه بحيرى الراهب. فرأى الآية الكبرى، والمعجزات الناطقات، فأخذ يحدث محمدا ويسأله. ثم قال لعمه: اذهب بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فإن له لشأنا. وتحدث من كانوا مع أبي طالب بهذا في مكة، وسمعه ورقة, فآمن بقرب ظهور النبي المرتقب، والرسول الأمي الذي يخرج من بلاد العرب لهداية الدنيا, وإنقاذ العالم من الشرك والضلال. وخرج محمد بن عبد الله، وقد تخطى العشرين عاما, إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ابنة عم ورقة، أمينا حفيظا عليها. وكانت خديجة سيدة جليلة ذات يسار وتجارة، وكان مع محمد في رحلته غلامها ميسرة، فذهبا إلى الشام وباعا وابتاعا وربحا ثم عادا إلى مكة، وأخبر "ميسرة" سيدته بما شاهد من مخايل الاصطفاء وإظلال الملائكة والغمام لمحمد، وأحاديث الأحبار عنه، فذهبت خديجة إلى ورقة تذكر ذلك له، فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة, فإن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه. وصار ورقة حكيم العرب وشيخها، وعالمها وقطبها، وحبرها الخبير بأحداث الدهر وتجارب الأيام، وازداد مكانة في قومه، وازداد قومه له إجلالا وتقديرا، فكانوا يصدرون عن رأيه، ويستهدون بمشورته، ويتفاءلون بنصائحه وفراسته وصدق إلهامه ... وكان في الخامسة والسبعين من عمره، ومحمد بن عبد الله -صلوات الله عليه- في الخامسة والعشرين. وكان ورقة يتفاءل بمستقبل حافل عظيم لمحمد، ويتطلع إلى ما سوف تظهره عناية الله على يديه من هدى ونور ورحمة وخير للإنسانية. واستشارته خديجة بنت خويلد، ابنة عمه، في الزواج بمحمد, فهنّأها من أعماق قلبه بهذا الجد السعيد، والزوج الكريم، محمد بن عبد الله، الأمين المؤتمن، والصادق الصدوق. وأخذ ورقة يبشر الناس بأن محمدا سيكون نبي العرب، والرسول المرتقب،

الذي يختاره الله من بين الخلق لإبلاغ رسالته إلى الناس كافة، وجعل يتلهف أن يرى أيام بعثته, وأن يظهر نور الله، وينزل ناموسه إلى الأرض، وهو حي؛ ليؤمن به ويصدقه ويؤازره وينصره، وأخذ يستبطئ الأمر، ويقول: حتى أمر الله!! وكانت خديجة تقص عليه ما تشاهد من كرامات زوجها محمد بن عبد الله، وورقة يزداد إيمانا بأن محمدا هو النبي المدخر لهداية الناس والدنيا، ومن قوله في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا1 ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا فإن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا وصار ورقة يستزيد ابنة عمه خديجة من أخبار بعلها وفتاها، ويسأل عن محمد ليل نهار، ويعلن في الناس أن محمدا مدخر لأمر عظيم، ويقول: وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور في التجدين حيث الصحاصح2 إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن مع الأحمال قعص دوالح3 يخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان: هود وصالح

_ 1 اللجاجة: التمادي في الأمر. النشيج: مثل بكاء الصبي, يردده في صدره. 2 جمع صحصح: ما استوى من الأرض, وأرض صحاصح: ليس بها شيء ولا شجر ولا قرار للماء. 3 قعص من قعصه: إذا قتله قتلا سريعا. دوالح من دلح البعير: إذا مر بحمله مثقلا.

وكان ورقة ينشد الشعر يتشوق فيه إلى إنجاز وعد الله، وكريم رحمته، وعظيم رعايته للحياة والإنسانية, بإرسال رسول من العرب إلى الناس ليهديهم سواء السبيل، وكان يمني نفسه بأن يرى بعثته ليؤمن به ويصدقه وينصره. وهكذا عاش ورقة كريما مبجلا، وسيدا شريفا سريا, وحكيما متدينا متطلعا إلى التوحيد، إلى أن بعث محمد بن عبد الله. 3- ولما بعث رسول الله، وشاهد بحراء ما شاهد، ونزل عليه جبريل يبلغه رسالة ربه ... وعاد محمد إلى بيته، قالت له خديجة: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة, ورجعوا إليَّ. فحدثها بالذي رأى. فقالت: أبشر يابن عم واثبت, فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ابن عمها ورقة، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله أنه رأى وسمع, فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده إن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله, فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله معتكفا ما قضى وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة فقال: يابن أخي, أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله، فقال ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبَّل يافوخه، وانصرف رسول الله إلى منزله. وفي البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من حراء يرجف فؤاده، دخل على خديجة، فقال: "زملوني ... " حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله

ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم, وتحمل الكَلّ, وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني1، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيه جذعا2, ليتني حيا إذا يخرجك قومك، فقال له رسول الله: "أَوَمخرجي هم"؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي, وفتر الوحي. وهكذا شهد ورقة أن محمدا نبي هذه الأمة ... ومن شعره الذي قاله في ذلك: وإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إياه فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال فاعلمي ... من الله وحي يشرح الصدر منزل فسبحان من تهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل وله أيضا: جاءت خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لنا بخفي الغيب من خبر جاءت لتسألني عنه لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر فقلت: على الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر

_ 1 أي: يعرف اللغة العبرية, ويكتب بها. 2 منصوب على تقدير: أكون، ويروى بالضم, والجذع: الشاب الحدث.

إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر فقلت: ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور وشهد ورقة دعوة الرسول، وإيمان الناس برسالته وتعذيب قريش لهم. يروى أنه مر ببلال وهو يعذب برمضاء مكة، فيقول: أحد أحد، فوقف عليه، وقال: أحد أحد يا بلال, ونهاهم عنه فلم ينتهوا، فقال: والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حنانا1, وقال: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعيتم فقولوا: دونه حدد2 سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ... رب البرية فرد واحد صمد سبحانه ثم سبحانه نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد3 مسخر كل من تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوئ ملكه أحد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ دان الشعوب له ... والجن والإنس تجري بينها البرد4 لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد؟ حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا ولقد كانت خديجة تأتي ورقة بما يخبرها به رسول الله أنه يأتيه. فيقول ورقة: لئن كان ما يقول حقا, إنه ليأتيه الناموس الأكبر، ناموس عيسى ابن مريم، ولئن نطق وأنا حي لأبلين لله بلاء حسنا.

_ 1 أي: موضع حنان, ومظنة رحمة من الله أي: مزارا. 2 الحدد: المنع. 3 الجودي: جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح. والجمد: جبل بنجد. 4 جمع بريد، وهو الرسول.

وكبرت سن ورقة، وفقد بصره من الكبر، وتوفي بعد البعثة بقليل دون أن يترك له عقبا. ولقد شهد له الرسول شهادة كريمة؛ يروى أنه قال: "لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيته في ثياب بيض". وروي عن عروة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأخي ورقة أو لابن أخيه: "شعرت أني قد رأيت لورقة جنة أو جنتين" والشك من هشام. وروى الترمذي: قال رسول الله: "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض". وروي أنه سئل عن ورقة فقال: "رأيته في المنام وعليه ثياب بيض, فقد ظن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض, فرحمه الله ورضي عنه". زيد بن عمرو بن نفيل القرشي: كان من المتحنفين الموحدين في الجاهلية، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم، ومات قبل البعثة بخمس سنين، فكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش, والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يقول عن نفسه: يا عامر, إني فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل، وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه, وأنا أوصي به وأصدقه وأشهد أنه نبي. وأسلم ابنه سعيد، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة. وكان نفر من قريش: زيد وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش خالفوا قريشا وقالوا لهم: إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام، ولا يأكلون ذبائحهم. واجتمع زيد بالنبي قبل البعثة وقال له: إني شاممت النصرانية واليهودية فلم أر فيهما ما أريد, فقصصت ذلك على راهب، فقال لي: إنك تريد ملة إبراهيم الحنيفية وهي لا توجد اليوم, فالحق ببلدك فإن الله تعالى باعث من قومك من يأتي بها, وهو أكرم الخلق على الله. ويروى أنه كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم1.

_ 1 247-252/ 2 بلوغ الأرب، و123-130/ 3 الأغاني.

عبد الله بن جدعان 1: كنيته أبو زهير، من تيم، جواد كريم، مدحه الشعراء فأجزل لهم العطاء، وممن مدحوه: أمية بن أبي الصلت، وأبوه. وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وتتحدث عنه الأساطير القديمة بأنه كان فقيرا مملقا، فكشف كنزا خبأه ملوك من جرهم، فأصبح غنيا كريما، يصل عشيرته، ويطعم الناس، ويفعل المعروف، ويروى أن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- كان يحضر طعامه، وفي بيته عقد حلف الفضول بين قبائل قريش، وقد تعاهدت قريش يومئذ على ألا يظلم أحد مكة، وأن تنصف كل من وقع عليه ظلم. وعبد الله ابن عم عائشة؛ ولذلك قالت فيه عائشة لرسول الله: يا رسول الله, إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا؛ إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وفيه يقول أمية بن أبي الصلت: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء ويقول فيه كذلك: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... بخير، وما كل العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك، كما بعض السؤال يشين

_ 1 87-90/ 1 بلوغ الأرب، 327-332/ 8 الأغاني، 121 و122/ 3 بلوغ الأرب أيضا.

ومن الحجازيين: 1- مطاعيم الريح، وهم أربعة, منهم: كنانة بن عبد ياليل الثقفي عم أبي محجن، ولبيد بن ربيعة، وكانت العرب تضرب بهما الأمثال. 2- أزواد الركب -وهم ثلاثة- من قريش: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وسموا أزواد الركب؛ لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، وبهم كانت قريش تضرب المثل. وثالثهم أبو أمية, هو الذي قال للرسول: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، ولما مات رثاه أبو طالب عم الرسول بقصيدة طويلة منها: ألا إن زاد الركب غير مدافع ... بسرو سحيم1 غيبته المقابر وكان إذا يأتي من الشام قافلا ... بمقدمه تسعى إلينا البشائر2 خالد بن جعفر بن كلاب العامري: يضرب به المثل في الشجاعة والبطولة، وهو الذي قتل زهير بن جذيمة الطاغية الذي كان يستعبد هوازن ويذلها3. ومن أشراف الحجازيين من قريش قبيل البعثة: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم. فمن تيم: أبو بكر وكانت إليه في الجاهلية الأشناق وهي الديات والمغرم، ومن مخزوم: خالد بن الوليد وكانت إليه القبة والأعنة، ومن عدي: عمر بن الخطاب وكانت إليه السفارة في الجاهلية، ومن جمح: صفوان بن أمية وكانت إليه الأيسار وهي الأزلام، ومن سهم: الحارث بن قيس وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم، ومن أمية: أبو سفيان بن حرب وكانت عنده العقاب راية

_ 1 سحيم: موضع في طريق الشام من مكة, مات فيه أبو أمية. وسرو الشيء: أعلاه. 2 92 و93/ 1 بلوغ الأرب. 3 118-120/ 1 بلوغ الأرب.

قريش، ومن نوفل: الحارث بن عامر وكانت إليه الرفادة، ومن عبد الدار: عثمان بن طلحة وكان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة والندوة كذلك, ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود وكانت إليه المشورة "249 و250/ 1 بلوغ الأرب". ومن حكام العرب: 1- غيلان بن سلمة الثقفي: وهو شاعر شريف وأحد حكام العرب في الجاهلية وممن وفد على كسرى، وكان أحد وجوه ثقيف، وجاء الإسلام فأسلم بعد فتح الطائف وعنده عشر نسوة, فخيره الرسول فاختار أربعا "319, 320/ 1 بلوغ الأرب" ولم يهاجر. وهو شاعر مقلّ ليس بمعروف في الفحول، وفد على كسرى فسُرَّ به وأكرمه "200-208/ 13 الأغاني, دار الكتب". 2- العاص بن وائل القرشي: من حكام قريش، وكانت له منزلة في الإسلام ولم يسلم، وهو الذي أجار عمر حين أسلم، ومات بمكة قبل الهجرة "328/ 1 بلوغ الأرب". 3- العلاء بن حارثة القرشي: كان من حكام قريش وفي الذروة منها في علو منزلته ونفوذ حكمه وسعة اطلاعه بأحوال العرب وأنسابهم وأحسابهم "329/ 1 بلوغ الأرب". 4- صفوان بن أمية: كان من حكام كنانة، وإليه مرجعهم فيما ينوبهم من المهمات، وكان فصيح اللسان، بليغ البيان "330/ 1 بلوغ الأرب". 5- سلمى بن نوفل الكناني: كان من حكام كنانة وعرفائها وساداتها "330/ 1 بلوغ الأرب". 6- مالك بن جبير العامري: كان من حكام العرب وحكمائها المشهورين بجودة الفهم وغزارة العقل "331/ 1 بلوغ الأرب". 7- القلمس الكناني: كان أحد حكام العرب في الجاهلية ومن نسأة الشهور, وكان يقف عند جمرة العقبة ويقول: اللهم إني ناسئ الشهور وواضعها مواضعها، أجاب ولا أعاب، اللهم إني قد أحللت؛ أحللت أحد الصفرين, وحرمت

صفرا المؤخر، وكذلك في الرجبين -رجب وشعبان- انفردوا على اسم الله تعالى "335/ 1 بلوغ الأرب, 39-41/ 2 شفاء الغرام". 8- ذو الأصبع العدواني1: وهو من حكام العرب وخطبائهم، وسنترجم له فيما بعد. ومن مشهوري الحجازيين: 1- أمية بن حرثان بن الأسكر الكناني: من سادات قومه وفرسانهم وله أيام مأثورة، وابنه هو كلاب الذي كان ممن أسلم وهاجر إلى المدينة في خلافة عمر فأغزاه عمر في جيش, وكان أبوه أمية قد كبر وضعف, فلما طالت غيبة كلاب عنه قال: لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله لو قبل الكتابا2 2- دريد بن الصمة الجشمي "134-137/ 2 بلوغ الأرب". 3- معاذ بن صرم الخزاعي: كان فارس خزاعة في وقته "158 و159/ 2 بلوغ الأرب". المتلمس بن أمية الكناني: كان يخطب العرب بفناء الكعبة, ويقول: أطيعوني ترشدوا، قالوا: ما ذاك؟ قال: إنكم قد تفردتم بآلهة شتى وإني لأعلم ما الله راضٍ به, وأن الله تعالى رب هذه الآلهة، وأنه ليحب أن يعبد وحده، فتفرقت عنه العرب3. نعيم بن ثعلبة الكناني: حكيم مشهور، وكان يخطب العرب في الموسم، وينقادون لأمره وينتهون عما ينهى عنه، وهو أول من نسأ الشهور4:

_ 1 راجع 335-338/ 1 و169/ 3 بلوغ الأرب. 2 138-141/ 2 بلوغ الأرب. 3 277/ 2 بلوغ الأرب. 4 175 و176/ 3 المرجع نفسه.

الحارث بن كلدة الثقفي: من الطائف، وسافر في البلاد، وتعلم الطب، وعرف الداء والدواء، وكان يضرب بالعود، ويجيد الغناء، وعاش بعد الإسلام، ويروى أنه وفد في الجاهلية على كسرى وحاوره. وكان الحارث أمهر أطباء العرب وحكمائهم1، ولد بالطائف في القرن السادس الميلادي، ورحل إلى اليمن وأرض فارس، وتعلم بمدرسة جنديسابور، وصار طبيبا في حاشية الملك خسرويه، وكان يوصي بعدم الإفراط في الأكل وعدم الاستحمام بعد الطعام، ويحض على استعمال الحجامة والحقن، ولما عاد إلى الطائف نال شهرة واسعة، وكان رسول الله يأمر من كان به علة أن يأتيه فيستوصفه، وتوفي سنة 33هـ في رأي أو سنة 43 في رأي آخر. النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي: كان ابن خالة النبي، وسافر في البلاد كأبيه وعاشر الأحبار والكهان، وحصل من العلوم القديمة كأبيه الكثير، وتعلم الطب من أبيه، وكان يجاري أبا سفيان في عداوة الرسول، وكان كثير الأذى والحسد له، وكان يقول للعرب: إن كان محمد يقص عليكم أنباء الأمم، فأنا أقص عليكم أخبار كسرى وبهرام وتاريخ فارس. وقد أسره الرسول يوم بدر، ومات مقتولا، وفيه قالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه قصيدتها: أيا راكبا إن الأثيل مطية ... من صبح خامسة وأنت موفق2 وهي قصيدة مشهورة وستأتي.

_ 1 ص20 الطب عند العرب, إبراهيم كراوية, طبعة القاهرة 1916. 2 الأثيل: موضع فيه قبر النضر في وادي الصفراء، ويروى أن قتيلة كانت بنت النضر لا أخته، وقد نشأت في قومها بني عبد الدار بن قصي من قريش.

القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي تمهيد: كانت العرب أمة صناعتها الكلام, ومفخرتها البيان، وكان أهل الحجاز من بينهم خاصة أهل لسن وفصاحة، يزدهيهم القول، وتأخذ بألبابهم البلاغة، وقد أثر لهم من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، وروائع الأساليب، ما يعد على وجه الزمان من مآثرهم الخالدة، ومناقبهم الباقية. ولا غرو فقد كان الحجازيون من أبلغ العرب لسانا، وأفصحهم بيانا، اجتمع لهم من الخطابة, والفصاحة، والبيان العجيب، والقول المصيب، والكلام الغريب، والمنطق الساحر، ما روته أسفار الأدب، وازدانت به لغة العرب. والبلاغة العربية الحجازية تتبدى في مظهرين: 1- الشعر الذي يعتمد على الإيقاع والموسيقى والوزن والقافية، وعلى الخيال والعاطفة. 2- النثر، وهو لون من الكلام لا تحده في الغالب قيود الوزن والقافية, بل هو أساليب سلسة، ينطقون بها عند المشاجرة والخصام، وعندما تقتضي الدواعي المتباينة منهم الكلام، فتفيض بها بديهة حاضرة، وقريحة مواتية، وطبيعة طيعة مستجيبة.

النثر الحجازي الجاهلي: 1- كان للحجازيين نثر فني صِيغ في قالب أدبي يثير المشاعر ويحرك العواطف؛ لأنهم كانوا ينطقون باللغة كما صنعوها على أعينهم، نقية من الشوائب، فقد عاشوا في جزيرتهم بعيدين عن المؤثرات التي تضعف الملكات، ومن ثم فقد كان نثرهم منخولا ينزع عن قوس الإجادة ويصدر عن وحي الطبع والملكة السليمة، وليس من شك أيضا أن هذا النثر كان لا منتدح منه في جميع شئونهم، وأمور حياتهم، يتحدثون به في معاشهم وتبين به شفاههم لتصوير ما يعتلج بنفوسهم ويختلج بأفئدتهم، وكان ملحمة لقراع الألسنة ومباراة للبلغاء في مضمار البيان والأسواق الأدبية، ولم يكن للعرب عند تفاقم الفتن ولا للأبطال في معمعة الحروب ولا للأمهات عند إهداء بناتهن، مناص من كلام يستأصلون به شأفة الفتن، ويحمسون به النفوس, ويصيبون به مقاطع الرأي. ولا نكاد نهتدي إلى صورة جلية تمثل هذا النثر الجاهلي الحجازي؛ فكل ما وصل إلينا قل من كثر، وغيض من فيض، ولقد ذكر الرواة أن ما وصلنا من أدب ليس إلا أقله، ولكن ما وصل إلينا من النثر كان أقل شأنا من الشعر، ومرد ذلك إلى: 1- أن العرب في الجاهلية كانوا أميين لا يكادون يقرءون أو يكتبون, فكانوا يعتمدون في رواية الأدب من نثر وشعر على المشافهة والاستظهار، والذاكرة أقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر وروايته. فإن ما للشعر من أوزان راقصة، ونغمات موسيقية، وقوافٍ متزاوجة، وجرس عذب مثير، يعين على استذكاره واستظهاره، والنثر ليس بهذه المثابة، فالنثر إذن يتطلب معرفة الكتابة وهي اختراع متأخر. 2- لم يستطع النثر منذ أن أطل برأسه إلى الحياة أن يباري الشعر في عهد الجاهلية، وأن يقوى على معالجة الموضوعات التي عالجها الشعر، فقد كان

الشعر ديوان العرب؛ سجلوا فيه حروبهم وأخبارهم وعاداتهم وعقليتهم، ودَوَّن فيه الشاعر ما رأى وما شعر، ومزج فيه الحياة التي حوله بمشاعره، وكان الشاعر لا منتدح منه للقبيلة يعلن مناقبها ويذود عن حياضها وينافح عن شرفها ويحمي حماها، وكان الشعر في الحرب كموسيقى الجيش تثير في النفوس الميل للقتال وتبعث على الاستبسال، أما موضوعات النثر فلم تك بهذه المثابة، فعني الناس بحفظ الشعر ولم يعنوا بحفظ النثر. 3- النثر وليد العقل وسعة الثقافة، والشعر وليد الخيال، والأمة في بادئ أمرها خيالها أكبر من عقلها. ويمتاز النثر الحجازي بمساوقته للطبع وجريانه على الفطرة، فليس فيه تكلف ولا تطرف ولا غلوّ، ينزع عن قوس البادية، ويمتح من ينابيع البيئة، ومن ثم فقد جاء قوي اللفظ متين العبارات فحل الأسلوب قصير الفقرات قريب الإشارة. 2- وإنما نعني بالنثر ههنا: النثر الفني الذي يحتفل به قائله، ويجود فيه، ويهذب من حواشيه، ويعنى بصياغته صياغة فنية مؤثرة، يعبر به عن أجمل ما في نفسه وخواطره من معانٍ وأفكار. ولا نقصد به ما يجري على ألسنة الناس في شئون الحياة العادية، مما نسميه "لغة التخاطب" التي لا يقصد فيها إلى جمال فني، ولا النثر العلمي؛ لأنه لم يكن للحجازيين في الجاهلية نثر علمي، وإنما جَدّ ذلك المظهر في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر دولة بني العباس، فالنثر العلمي ليس لونا من ألوان الأدب، وإن كان الأدب يعنى به؛ لأنه من آثار العقلية التي تنشئ الأدب، إذ هو مغذي الثقافة العقلية والأدبية، ثم هو مما يصقل مواهب الأديب، ويمده بزاخر المعاني والأفكار والموضوعات، وقد يكون النثر العلمي في بعض الأحايين أدبا إذا حرص صاحبه فيه على أداء الحقائق بأسلوب بليغ، وكلام رصين مختار.

والنثر الفني الحجازي ألوان متعددة: 1- فمنه الكلام المرسل الذي لم تقيد فقراته بوزن أو قافية, كخطبة هاشم بن عبد مناف القرشي التي يقول منها: "يا معشر قريش: إنكم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما، وأوسطها أنسابا. يا معشر قريش: إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته، وخصكم بجواره، دون بني إسماعيل1 ... إلخ". ويسمى هذا النوع نثرا مرسلا. 2- ومنه ما يجيء من الكلام المنثور متحدا في فواصله2 في الوزن دون اتفاق في القافية؛ ويسمى هذا اللون من النثر مزدوجا، والإتيان به كذلك ازدواجا، وقد يسميه البديعيون "موازنة". 3- ومنه الكلام المسجوع الذي تتحد فواصله في الحرف الأخير، وهو ما يسمى بالقافية، مثل وصية أبي طالب لوجوه قريش حين حضرته الوفاة: "يا معشر قريش، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم ألب"3 ويسمى مثل ذلك سجعا، وقد يسمى ما اتفقت الفواصل فيه في الوزن والقافية سجعا أو ازدواجا، مثل كلام أبي طلاب السابق، ومثل قول الحكم في المنافرة بين هشام بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر, لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر"4، ويغلب السجع في كلام الكهان، وبعض علماء البلاغة لا يمنعون أن يسمى ما جاء في القرآن من ذلك سجعا، ومنهم أبو هلال وابن سنان وابن الأثير، خلافا للباقلاني وأنصاره, الذين يرون تسمية الجمل القرآنية فواصل، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وهذا منع لتبادر الفهم إلى أن القرآن يشبهه شيء من الآثار الأدبية، وإكبار له عن أن يقال له: سجع.

_ 1 222/ 1 بلوغ الأرب للألوسي. 2 الفاصلة: الكلمة الأخيرة من الجملة من الكلام. 3 327/ 1 بلوغ الأرب. 4 308/ 1 بلوغ الأرب.

حظ الأدب الحجازي من النثر الفني في العصر الجاهلي: 1- يختلف الأدباء في النثر الفني: هل وجد في العصر الجاهلي, أم لم يوجد إلا بعده؟ أما أدباء العربية المتقدمون، والكثير من الأدباء المعاصرين أيضا، فيؤمنون بأن العصر الجاهلي عرف النثر الفني معرفة كبيرة، وكان للعرب عامة وللحجازيين خاصة في ذلك العهد، صور من النثر نستطيع أن نسميها إلى حد كبير نثرا فنيا, وكانوا يجيدون هذا الفن الأدبي إجادة بالغة. ودليلهم على وجود النثر الفني في الجاهلية هو: 1- كان عند كثير من الأمم القديمة كالفرس والهنود وقدماء المصريين نثر فني قبل الميلاد بقرون كثيرة، فلِمَ لا يكون للعرب نثر فني بعد الميلاد بخمسة قرون؟ 2- نزول القرآن الكريم يوجب الحكم بأن العرب في جاهليتهم كان لهم نثر فني، وكانوا يجيدونه ويبلغون فيه غاية البيان والفصاحة، وإلا فكيف يتحداهم الله -عز وجل- بفن من البيان لم يعرفوه؟ 3- بقاء بعض صور من النثر الفني للعرب الجاهليين في مصادر الأدب العربي وأمهات كتبه، من خطابة جيدة، ونصائح بليغة، وإن كان الكثير من النثر الجاهلي قد ضاع لعدم تدوينه بالكتابة، والنثر أحوج إلى التدوين بالكتابة من الشعر، الذي يسهل حفظه في الصدور، وتعين القافية والوزن على تصحيحه وروايته. أما النثر فيشق حفظه ويصعب تناقله. ولم تكن الكتابة معروفة في الجاهلية إلا للقليل من الناس، الذين كانوا يستخدمونها لأغراض سياسية

وتجارية لا لأغراض أدبية1. والسبب في ذلك أمية العرب وبداوتها, وأنها لم تكن أمة ذات حضارة أو ثقافة فكرية واسعة؛ ولذلك كان أكثر أدبها ارتجالا، أو ما يشبه الارتجال. يقول الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام. وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة, وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا. وكان الكلام الجيد عندهم أظهر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق, ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر2. 4- والدليل الرابع على وجود النثر الفني في العصر الجاهلي هو وجود صحائف من الكتب الدينية عند بعض طبقات العرب، من اليهود والنصارى ودعاة الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل. أما المستشرقون فيرون أن النثر الفني لم يعرفه عرب الجاهلية، ولم يشهده عصر صدر الإسلام، وإنما نشأ على يد ابن المقفع المتوفى عام 143هـ في صدر العصر العباسي الأول، وممن ذهب إلى ذلك المسيو مرسيه الفرنسي3، والمستشرق جب الإنجليزي، وغيرهما. ويؤيد ذلك بعض الباحثين المعاصرين4 كالدكتور طه حسين، ويدعمون ذلك بأدلة منها:

_ 1 ص5 الفن ومذاهبه في النثر العربي, لشوقي ضيف. 2 21 جـ3 البيان والتبيين للجاحظ, الطبعة الثانية. 3 راجع ص23 جـ1 النثر الفني لزكي مبارك. 4 يتفق هؤلاء مع المستشرقين في إنكار وجود النثر الفني عند العرب في الجاهلية، ولكنهم يختلفون معهم في تحديد مبدأ نشأة النثر الفني في الأدب العربي، فليس ابن المقفع هو أول من ظهر النثر الفني على يديه كما يرى المستشرقون، وإنما عرفه الأدب العربي في أول القرن الثاني الهجري، كما يرى هؤلاء المعاصرون من أدباء العربية.

1- أن عيشة العرب الأولين لم تكن توجد النثر الفني؛ لأنه لغة العقل، على حين سمحت بالشعر؛ لأنه لغة العاطفة والخيال. 2- عدم انتشار الكتابة في العصر الجاهلي، وهي عماد النثر الفني. 3- والقرآن -الذي يستدلون به على معرفة الجاهليين للنثر الفني، ووجوده عندهم- لا يصح عده من النثر كما لا يصح جعله شعرا؛ لأنه نمط أدبي مستقل ليس له شبيه في الآثار الأدبية. يقول الدكتور طه: "والواقع أننا لا نستطيع بحال من الأحوال -مهما نحرص على أن نكون من أنصار العصر الجاهلي- أن نطمئن إلى أن هذا العصر كان له نثر فني1. فالعصر الجاهلي لم يكن له نثر بالمعنى الذي حددته، ومع ذلك فقد كان له نثر خاص لم يصل إلينا؛ لضعف الذاكرة، وخلوه من الوزن، وهذا النثر هو الخطابة2, فأول القرن الثاني للهجرة هو الذي شهد ظهور الحياة العقلية، وهو الذي شهد مظهر الحياة العقلية وهو نشأة النثر الفني3". 2- والحق أنه كان للعرب قبل الإسلام، وخاصة الحجازيين منهم، نثر فني يتناسب مع صفاء أذهانهم وحدة تفكيرهم، ولكنه ضاع لأسباب منها: شيوع الأمية، وقلة التدوين، وبعد ذلك النثر عن الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام. والقرآن الكريم شاهد صدق على وجود النثر الفني قبل الإسلام، ويعطي فكرة عامة عن ازدهاره وقوته في هذا العصر الجاهلي، وما يقال من أنه ليس نثرا مغالطة لا تجوز على عقل. وأغلب الظن أن هؤلاء الذين يجعلون نشأة النثر الفني على يدي ابن المقفع إنما يريدون إسناد ذلك الفضل لأثر وراثاته الفارسية، وأن أدبنا العربي مدين في ذلك للعقلية الفارسية، وهذه شعوبية حديثة نرى مظهرها واضحا في إنكار،

_ 1 30 و31 من حديث الشعر والنثر لطه حسين. 2 ص32 المرجع نفسه. 3 ص49 المرجع نفسه.

فضل العرب، ونسبة كل مكرمة أدبية أو غير أدبية لغيرهم من العناصر الأجنبية. ثم إن الكتابة إنما يحتاج إليها النثر الفني في تدوينه لا في نشأته كما يسلم بذلك العقل. ونخلص من ذلك كله إلى إثبات رأينا الذي رأيناه, وهو أن النثر الفني قد وجد قبل الإسلام وقبل اتصال العرب الثقافي بالفرس واليونان بأمد طويل. 3- ولنوضح أخيرا موقف الدكتور طه من النثر الجاهلي، يرى الدكتور: 1- أنه لم يعرف الجاهليون النثر الفني، وإنما عرفوا ألوانا أخرى من النثر، من: أسجاع، وأمثال، وخطابة لم تكن شيئا ذا غناء1, وسجع كهان2, وهذه بينها وبين النثر الفني بون بعيد. 2- ويرفض الدكتور قبول ما ينسب لعرب الجنوب من نثر، من شتى هذه الأنواع النثرية المروية؛ لأن النثر إنما جاء بلغة قريش التي لم يكن لعرب الجنوب بها علم, ولأنهم كان لهم لغة معروفة كتبوها وتركوا لنا فيها نصوصا منثورة كشفها المستشرقون وهي لا توافق لغة قريش في شيء. فكل ما يضاف إلى اليمنيين من نثر مرسل أو مسجوع أو خطابة في الجاهلية عند الدكتور منتحل. أما عرب الشمال فيرى رفض ما يضاف إلى ربيعة وغيرها من عرب العراق والبحرين والجزيرة من نثر، ويتردد فيما ينسب منه إلى مضر، ويرى أن الكثير منه منتحل3. ونحن لا نوافق الدكتور على ما ذهب إليه: من إنكار وجود النثر الفني في الجاهلية, ولا من التهوين من شأن الخطابة الجاهلية، وإن كنا نسلم معه بأن بعض النصوص الأدبية من النثر الجاهلي قد انتحل بعد الإسلام.

_ 1 يرى الدكتور أن الخطابة فن إسلامي خالص, ويقول: لا تصدق أنه قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة، إنما استحدثت الخطابة في الإسلام "ص374 الأدب الجاهلي". 2 راجع 372-375 الأدب الجاهلي لطه حسين طـ 1927. 3 راجع ص269 من الأدب الجاهلي وما بعدها.

مأثورات من النثر الحجازي 1: 1- من حديث أم معبد, الذي حدث به حبيش بن خالد -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة -رضي الله عنهما- ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة2 جلدة, تختبئ بفناء قبتها ثم تسقي وتطعم, فسألوها تمرا ولحما ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين3, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: "هل لها من لبن؟ " قالت: هي أجهد من ذلك. قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟ "، قالت: نعم بأبي أنت وأمي, إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجت4 عليه ودرّت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط5, فحلب فيه ثجا6 حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى امتلأ الإناء ثم غادره

_ 1 نعد هذا نثرا جاهليا؛ لأنه قبل تمام الهجرة، وصاحبة هذا النثر لم تكن أسلمت أو تأثرت بالقرآن الكريم. 2 برزة هي من النساء الجليلة التي تظهر للناس، ويجلس إليها القوم، وأيضا هي الموثوق برأيها وعفافها. 3 مرملين أي: نفد زادهم, وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا به، كما قيل للفقير الترب. ومسنتين أي: مجدبين أصابتهم السنة, وهي القحط. 4 فتفاجت, التفاج: المبالغة في تفريج ما بين الرجلين، وضمير عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 يربض الرهط, أي: إنه يرويهم حتى يثقلهم، فيربضوا: فيناموا لكثرة اللبن الذي شربوه، ويمتدوا على الأرض، من ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وقام ملازما له. 6- ثجا أي: لبنا سائلا كثيرا. والبهاء يريد به بهاء اللبن وهو وبيص رغوته، وبهاء اللبن ممدود غير مهموز لأنه من البهى.

عندها وبايعها وارتحلوا عنها. فقلما لبثت1 حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا تساوك هزالا مخاخهن قليل2, فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد, والشاء عازب حيال3، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله, إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة4, أبلج الوجه, حسن الخلق, لم تعبه ثجلة5 ولم تزر به صعلة6, وسيما قسيما, في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي عنقه سطع، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثاثة. أزج أقرن7, إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأجملهم من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر8, كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة, لا يأس من طول9 ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا

_ 1 لبثت, أي: مكثت. 2 عجافا: جمع عجفاء وهي المهزولة. وتساوك هزالا أي: تتمايل من الهزال والضعف في مشيها. وقوله: مخاخهن قليل جمع: مخ, مثل: حباب وحب وكمام وكم، وإنما لم يقل: قليلة؛ لأنه أراد أن مخاخهن شيء قليل. قال الشاعر: إلى الله أشكو ما أرى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل 3 عازب أي: بعيدة المرعى, لا تأوي إلى المنزل إلا في الليل. والحيال جمع: حائل, وهي التي لم تحمل. 4 الوضاءة: الحسن والبهجة. 5 الخلق: السجية، والثجلة: عظم البطن وسعته. 6 الصعلة: صغر الرأس, ولم تزر به أي: لم تعبه. 7 الدعج والدعجة: السواد في العين وغيرها، تريد: أن سواد عينيه كان شديدا. والوطف: طول في هدب أشفار العينين. والسطع: طول العنق. والصحل كالبحة وألا يكون حادا. والزجج: دقة في الحاجبين وطول. وأقرن أي: مقرونهما. 8 فصل, لا نزر ولا هزر أي: ليس بقليل ولا بكثير فاسد. 9 لا يأس من طول أي: إنه لا يؤيس من طوله؛ لأنه كان إلى الطول أقرب منه إلى القصر.

وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به1, إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره, محفود محشود لا عابس ولا مفند2. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة, ولقد هممت بأن أصحبه, ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. 2- ومن خطبة هاشم بن عبد مناف, حين تنافرت قريش وخزاعة إليه: أيها الناس: نحن آل إبراهيم، وذرية إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته, إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة، وقطع رحم. يا بني قصي: أنتم كغصني شجرة، أيهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه3 اللجاج أخرجه إلى البغي. أيها الناس: الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر ذو غير، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله, فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم, وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضيع الشرف وتهدم المجد، وإن نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها, ومقام الحليم عظة لمن انتفع به. فقالت قريش: رضينا بك أبا نضلة4.

_ 1 يحفون به أي: يبالغون في بِرّه والسؤال عن حاله. 2 محفود محشود أي: إن أصحابه يخدمونه ويجتمعون عليه. والعابس: الكريه الجهم المحيا. والمفند: الذي لا فائدة في كلامه لكبر أصابه. 3 أي: أغضبه. 4 هي كنية هاشم.

3- ومن أمثلة المحاورات، ما يروى من أنه اجتمع عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي1 عند ملك من ملوك حمير، فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان. فقال عامر بن الظرب لحممة بن رافع: أين يجب أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرئية العديم، وذي الخلة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم, قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوال، والعيي القوال، قال: فمن أحق بالمنع؟ قال: الحريص الكائد، والمستميح الحاسد، والملحف الواجد، قال: فمن أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مُوطِل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضُويق سمح، قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه طمع، قال: فمن أحلم الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر، قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الأمور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب, وبرئ من ذنبه، قال: فمن أحذق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار، قال: فمن أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأس على المعهود، قال: فمن أبلغ الناس؟ قال: من جلّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز، قال: فمن أنعم الناس عيشا؟ قال: من تحلى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف، قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النعم وتسخط على القسم، واستشعر الندم على فوت ما لم يحتم، قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر الناس، وأبدى التجمل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم, قال: فمن أحكم الناس؟ قال:

_ 1 عامر بن الظرب وحممة بن رافع: حكيمان من حكماء العرب في الجاهلية الذين تفرغوا لصناعة الكلام والمساجلة بالبيان وقوة البديهة والقدرة على ارتجال الحكم والغوص على درر المعاني ولألئها، واصطياد شوارد الأفكار وأوابدها.

من صمت فادّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر, قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما، والتجاوز مغرما. وفي هذا الحوار رأى ابن رافع أن يجيب صاحبه عن هذه الأسئلة كلها أجوبة سداها الحكمة والقول الفصل والآيات البينات والأفكار الرائعات، تراه يقول له: إن أجدر الناس بالصنيعة ذو الخلق الكريم من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وأولى الناس بالمنع الحريص الكائد، وأكرم الناس عشرة من إذا ظلم صفح، وألأمهم من إذا سأل أراق ماء وجهه وإذا سئل بخل، وأحلم الناس وأحزمهم من عفا عند المقدرة وفكر في العواقب، وإن أخرق الناس من لم يعد للشيء عدته قبل الإقدام عليه، وأجودهم من جاد بالمجهود، وأبلغهم من عرض المعنى الغزير في اللفظ الوجيز, وأنعم الناس عيشا من تحلى بالعفاف، وأشقاهم من لم يرض بما وهب الله له وحسد الناس على آلائهم، وأحكم الناس المفكر المعتبر، وأجهلهم من ركب متن الشطط وأسرج أفراس هواه. ويؤخذ على هذه الحكم كثرة التكرار في المعنى الواحد، وعرضه في مواطن متفرقة؛ وقد كان خليقا أن تذكر الحكمة مع الحكمة التي تتجاور معها وتتزاوج فترى فيها تساؤلا عن الأيادي وعن الصنيعة، والمراد منهما شيء واحد وعن الحزم والحكمة وعن الكرم والجود وعن الخرق والجهل، وكلها معانٍ تدور في فلك واحد, ومع ذلك لم تجئ منسقة ولم تنبؤ أن كل حكمة مقعدها إلى جانب الحكمة التي تلائمها وتتسق معها مشربا وروحا. أما الأسلوب فيتجلى فيه ذلك الطابع العام للنثر الجاهلي من جزالة اللفظ ومتانة التركيب وقوة العبارة وإحكام النسج وقصر الفقرات والجنوح إلى الإيجاز وقلة الروابط بين الجمل، بحيث ترى الحكمة قد اطردت من غير مناسبة قوية، حتى إننا نستطيع أن نقدم ونؤخر في العبارات، ولا يتأثر المعنى ولا تضطرب الفكرة ولا يختل النظم، كما يتجلى في السجع الذي يغلب على الحكم والخطب والوصايا وتخرصات الكهان. هذه الحكم نفسها هي أكبر مظهر للعقلية العربية، والعرب لم يمتحوا من

ينابيع الثقافة ولم ينهلوا من موارد العلوم، ولكن تجاربهم الجمَّة أتاحت لهم ألوانا من الأفكار الرائعة، والخلجات الناصعة, والمعاني العميقة، والتأملات الدقيقة، ما مكنهم من صوغ الحكمة وإبراز معالمها، فهم وإن لم يكن لهم علوم منظمة ينتفعون بها, فقد كان لهم من خبرتهم وقوة مداركهم وحدة ذكائهم وصدق حسهم ومخالطتهم أحيانا ببعض الأمم التي تتاخمهم ما جعلهم ينظمون الحكم عقودا براقة, من جمان الأفكار, وعقيان المعاني. ثم نرى المعاني التي عرضت لها هذه الحكم صورة واضحة لخلجات العقل العربي وتأملاته وإدراكاته، فالكرم والبخل والعفة والقناعة والصبر والرضا والبلاغة والحكمة كلها معانٍ تحتل المكانة الأولى من العقلية العربية، وتتسم بها أفهامهم ومداركهم.

الباب الثاني: فنون النثر الحجازى في العصر الجاهلي

الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي الفصل الأول: الحكم والأمثال المثل في اللغة: في الأسفار العبرية للعهد القديم ورد اللفظ Masal للدلالة على الحكم والسيادة, ووردت صفة الحكم منسوبة إلى الله تعالى وإلى الناس وإلى الأجرام السماوية. وفي نسبة الحكم إلى الأجرام السماوية, وردت آيتان في سفر التكوين "1/ 16-18" هذا نصهما: "فعل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم. وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة". وإذا رجعنا إلى اللغة الآشورية, البابلية وجدنا لفظ Masala ومعناه: لمع أو سطع. وفي العربية: مثل القمر مثولا, إذا ظهر, والماثلة: منارة المسرجة. وربما استطاع الباحث في الأمثلة أن يفترض -على الأقل- وجود علاقة أسطورية قديمة بين نور الأجرام السماوية الذي اقترن بالقوة والسلطان وبين معاني اللمعان والظهور. أطلق اللفظ في العبرية إذًا على الحكم والسيادة مطلقا, فقالوا: الحاكم Himsil "ولى الحاكم وعينه" واشتقوا الاسم على وزن فعل فقالوا:

"Musl" Mosel "الحكم والسلطة والسيادة". وفي العبرية المتأخرة ورد Masal بمعنى: لمس وقبض، وقالوا: "شعلة النار أمسكت بهم أو انقضت عليهم" وليس ببعيد أن يكون معنى اللمس والقبض جاء تبعا لمعنى السيادة والحكم. أما العربية فلا تستعمل لمعنى الحكم ألفاظا مشتقة من "م ث ل" وقد اكتفت العربية بمادة "ح ك م" ومشتقاتها عن مادة "م ث ل" في الدلالة على الحكم والسيادة، في حين نجد لغات سامية أخرى كالعبرية قد استغنت بمادة "م ث ل" عن مادة "ح ك م" في الدلالة على الحكم والسيادة1, على أنه قد ورد في مادة "م ث ل" العربية ما يشير من بعيد إلى صلة ما بينها وبين معنى الحكم والسيادة، وذلك في قولهم: مثل الرجل يمثل مثالة, إذا فضل وحسن حاله. والمثيل: الرجل الفاضل, والأمثل: الأفضل. وفي القرآن: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104] ، ويقول العرب: امتثل القوم ما قال فلان، أي: أذعنوا وأطاعوا. والتمثال في العربية، وكذلك amsal, messale, wesl في الحبشية كلها بمعنى "الشيء المصور" ولكن من اليسير -فيما نرى- أن نجد صلة ما بين المعنيين إذا رجعنا إلى المفهوم القديم لمعنى التمثال في اللغات السامية. فقد أورد القرآن بعض الألفاظ الدالة على الصور المعبودة, ومن بينها لفظة تماثيل إشارة إلى معبودات قوم إبراهيم [قرآن الأنبياء: 52] ووردت كذلك للدلالة على أشياء مصورة ليست مخصوصة بالعبادة [قرآن سبأ: 13] فاللفظ أطلقه العرب القدماء على الصور التي تصنع لأغراض شتى منها العبادة. وكان السحر من أهم أغراض هذه الصناعة عند الساميين, فالبابليون أفرغوا في صناعة التماثيل جهدا ضخما لأغراض سحرية. والساحر البابلي كان يستهدف الغلبة والسيطرة على العوامل المشئومة التي تكتنفه من كل جانب. فكان إذا أراد أن ينتقم من عدوه وهو غائب عنه عمد إلى صورة ما يصنعها بيده ثم يحرقها بحرابه؛ أي: يشعل فيها النار اعتقادا منه أن

_ 1 قاموس عبري مادة Hakam, Masal.

ذلك يصل إلى جسم عدوه. وجملة القول أن التمثال في اعتقاده كان وسيلة تمكنه من السيطرة على الأصل. وهناك طائفة من التماثيل الصغيرة كان يستخدمها العبرانيون في مساكنهم الخاصة ويسمونها التراقيم Teraphim وهي بمثابة حمائل وطلاسم لحماية السكان من الشر والأذى. فالتمثال في ذهن السامي القديم كان رمز السيادة والإخضاع؛ إذ هو الوسيلة إلى الحماية والبقاء، أو هو السيد القوي الذي يرجى خيره ويخشى من شره. وهنا نعود إلى المعنى السابق فنفترض أن السامي القديم حين سمى الصورة "مسل mesl" أو تمثالا، اشتق اللفظ من معنى الغلبة والسيطرة. ثم نجد في المادة اللغوية معاني يبدو أنها متفرعة من معنى "الشيء المصور", من ذلك معنى القيام والانتصاب. قال العرب: "مثل الشيء" إذا انتصب, ومنه الحديث: "من سره أن يمثل له الناس قياما, فليتبوأ مقعده من النار"، ومنه حديث عائشة تتحدث عن أبيها: "فحنت له قسيها وامتثلوه غرضا" أي: نصبوه هدفا لسهام ملامهم وأقوالهم. ومن الشيء المصور لمح الناطقون معنى المشابهة والمشاكلة, فورد اللفظ في الساميات "المثل metal, Metal, masal" بمعنى الشبيه والنظير. واشتقوا الفعل masal في العبرية, masalu في الآشورية, masala في الحبشية القديمة والأمهرية، metal في الآرمية, meetsl في السريانية، وكلها أفعال تدل على المشابهة والمشاكلة. واشتق العرب من المادة لفظا يؤدي معنى القصاص "العقاب بالمثل" وتفردوا بإطلاق لفظ يدل على معنى القصاص من مادة "م ث ل" فقالوا: "المثال" وقالوا: أمثل الحاكم فلانا من فلان: إذا أقصه منه، وامتثل منه: اقتص، وقد يكون منشأ هذه التسمية أنهم لمحوا في القصاص معنى المشابهة والمشاكلة وذلك بأن يجعل شخص نظير شخص آخر في القتل. ومن المثال أو العقاب بالمثل ربما أخذوا معنى التنكيل فقالوا: مثل يمثل مثلا ومثلة بالرجل أي: نكل به وانتقم منه، وأصبحت المثلة دالة بذاتها على الآفة والعقوبة التي تقترن بالتشهير. وورد هذا المعنى في التوراة بضع مرات بلفظي: masa, meso

ففي التثنية "28/ 27": "وتكون دهشا ومثلا وهزأة في جميع الشعوب"، وفي القرآن: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56] وورد عدد من الأحاديث النبوية في هذا المعنى, أما في الأناجيل فلم يعثر الباحثون على هذا الاستعمال1. الحكمة والمثل, ومدلولهما الاصطلاحي: الحكمة: الحكمة: قول بليغ موجز صائب، يصدر عن عقل وتجربة وخبرة بالحياة, ويتضمن حكما مسلما، تقبله العقول وتأنس به الأفئدة، وتنقاد له النفوس والمشاعر2. وكان للعرب في الجاهلية حكماء شهروا بأصالة الرأي، وبعد الغور، ودقة التفكير، والنظر الصائب، والفهم الصحيح للحياة وأحداثها وتجاربها, وتنطلق ألسنتهم بالحكمة البليغة الرائعة، كلما حدث حادث، أو نزل خطب، أو أخذ رأيهم في مسألة. وكان العرب يلتجئون إلى هؤلاء الحكماء في الخصومات والمفاخرات

_ 1 الأمثال: لعابدين 2-7. 2 والحكمة في اللغة: المنع، وحكمه: منعه مما يريد, ومنه حكمة الدابة -وهو ما أحاط بحنكها من اللجام- لأنها تذللها لراكبها وتمنعها الجماح، ومنه اشتقت الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من الآثام والرذائل. راجع أساس البلاغة للزمخشري "مادة حكمة" 1/ 190، ومن الممكن أن ترد مادة "ح ك م" في اللغات السامية إلى معنى المنع والفصل. ومن: فصل الشيء ومنعه، يشتق معنى التوضيح والتمييز، وما ورد في القرآن الكريم يرجع إلى معنى القول الفصل، أي: الكلام الواضح البين المتميز، قال تعالى في موضع من حوالي ثلاثين موضعا ورد فيه لفظ الحكم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} ويفسر الحكم اقترانه بالقصص والفصل وهو الإبانة والتمييز، والعرب تطلق الحكم والحكمة بمعنًى، وفي الحديث: "إن من الشعر لحكما" والحكم هنا هو الحكمة، أي: العلم والتفقه, أو بعبارة أدق: القول الفصل.

والمنافرات ومشكلات الأمور، بل كان في كل قبيلة حكيم تفزع إلى رأيه في الخطوب، وتستعين بتجاربه في المشكلات، وتستضيء برأيه في جميع شئون حياتها. وقد يكثر الحكماء في القبيلة، فيكونون عونا لها في الشدائد، وتحلهم القبيلة من نفسها مكانا عليا. واشتهرت بعض النساء في العصر الجاهلي أيضا بالحكمة، ولهن آثار تروى، وحكم مخلدة في صحف التاريخ الأدبي. والحكم من البلاغة بمكان كبير؛ لإيجازها، ووضوحها، وفصاحتها، ودقة معناها، وروعة تأثيرها، وخصب خيالها، وصدق تجاربها الإنسانية، وهي تكسب الكلام سحرا وحلاوة, وتجعله مقبولا من الذوق، قريبا للقلب، مسلما به من العقل والشعور والوجدان. وإذا التمسنا تعريف الحكمة عند الفرنجة في بعض الموسوعات الأدبية الحديثة، نجدها تعرف على هذا النحو: Aphorim and Maxim may alike be Briefly defined as pittlhy sentences with a general basing on pite. أي: إنها "عبارة جامعة سديدة, ذات صلة عامة بالحياة" إلا أن كلمة Maxim ذات مدلول أضيق؛ لأنها تدل على المبدأ الذي يعتنقه المؤلف "الكاتب" ويستهدي به في الحياة أو ينشد به هداية الآخرين. مثال ذلك: أن تقول: إن مبدأ لوتسي, "Tao Lse" هو: l would meet trust with trust: l would bewise meetsuspicion Mith trust. الفرق بين الحكمة والمثل: وقد تشتهر الحكمة وتذيع بين الناس فتصبح مثلا. وعلى هذا سار المؤلفون في الأمثال، حيث لم يفرقوا بين ما صدر في حادثة معينة مثل "رجع بخفي حنين" أو ما فاض به لسان حكيم. والباحثون في الآداب السامية لم يهتدوا إلى نوع الصلة التي ربطت بين هذين الاصطلاحين: حكمة ومثل, في المراحل الأولى: أكانا لفظين مترادفين, أم أن كلا منهما يختص بلون من الكلام، أم أن الحكمة كانت أعم وأشمل في مدلولها من المثل؟ ومهما يكن من شيء، فقد قرر الاصطلاح العلمي المتأخر

الذي اتفق عليه الباحثون، على أن أدب الحكمة Wisdom Literature أعم من أدب الأمثال؛ فكل مثل حكمة, وليس كل حكمة مثلا. المثل وخصائصه: عندما قام الفرنجة بترجمة أسفار التوراة والإنجيل إلى اليونانية ثم إلى سائر اللغات الأوروبية, أدركوا أن كلمة masal في العبرية والآرامية ذات مدلول واسع، فاتخذوا للتعبير عنها عدة ألفاظ، ومنها الكلمتان اليونانيتان اللتان تقابلان في الإنجليزية كلمتي "Parable" "Proverb". وكان الاصطلاح الأول منهما هو اللفظ الشائع للمثل عندهم. فإذا عرفوه قالوا: "وهو العبارة التي تتصف بالشيوع والإيجاز وحدة المعنى وصحته" فالإيجاز ركن من أركان المثل عندهم, وبذلك حدده أرسطو1. وهنا يلتقي العرب واليونان القدامى، فأبو عبيد القاسم بن سلام "224هـ" يرى اجتماع ثلاث خلال في المثل: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وإبراهيم بن سيار النظام "221هـ=846م" يقول: "يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية, فهو نهاية البلاغة". ثم يأتي الفارابي الفيلسوف فيفرق بين النادرة والمثل بقوله: "النادرة: حكمة صحيحة تؤدي ما يؤدي عنه المثل, إلا أنها لم تشع في الجمهور، ولم تجر إلا بين الخواص, وليس بينها وبين المثل إلا الشيوع وحده". وهذا يطابق ما ذكره العالم بنتسن Bentzen في تقسيم أدب الحكمة إلى قسمين: الجملة الجامعة sentence والمثل Proverb. وقد عرف المثل بعض نقاد الأدب العربي, ومنهم المبرد بأنه: "قول سائر يشبه مضربه بمورده، أو يشبه فيه حال المقول فيه ثانيا بحال المقول فيه أولا". ويعرفه آخرون ومنهم المرزوقي بأنه: "جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده منها من غير تغيير يلحقها في لفظها ... ". وهذا التعريف الأخير يجمع الحكمة والمثل. فالمقتضبة من أصلها هي المثل الذي له أصل وقصة أو حادثة معينة، والمرسلة بذاتها هي الحكمة التي ينطبق بها الحكيم بعد

_ 1 Encyclopaedia of religion and Ethics.

طول التجربة والخبرة، وعليه يسير ابن رشيق، والميداني، وأبو هلال العسكري, وسواهم. وقد جمع أبو هلال والميداني في كتابيهما كثيرا من ذلك، وجعلاها كلها من الأمثال، سواء كانت من النوع الأول أو النوع الثاني. بيد أن هذا التحديد لا ينطبق إلا على بعض فنون المثل، فقد أطلق العرب القدامى مع إخوانهم الساميين كلمة المثل على عبارات لا يشترط فيها الإيجاز -على الأقل- كالأمثال القياسية, والأمثال الخرافية. أشكال مدلول المثل: وقد أطلق الساميون لفظ "مثل" على فنون من التعبير بعضها موجز وبعضها مطول. أطلقوه على الكلمة الموجزة التي اكتسبت صفة الشيوع والشهرة في الناس، والكلمة الجامعة المركزة الدالة على مهارة الصنعة والقدرة على الإلغاز والتعمية، وأطلقوه على القطعة الأدبية التي قد تبلغ الفقرة والفقرتين من الكلام, والتي تقص نبوءة من النبوءات، أو تنزع منزع الأنشودة الشعرية، أو ترد قياسا ومقارنة لتفسير فكرة، أو توضيح عبارة، أو تحكي قصة خرافية ذات مغزى. وفيما يلي أشكال مدلول المثل: 1- أمثال الأحلام والنبوءات: نظر الناطق القديم إلى أحلام النائم، وتهيؤات الكاهن، وتنبؤات النبي, فعدها أمثالا، فأطلقت التوراة هذا اللفظ على نبوءات بلعام وميخا وحبقوق، ويزعم بعض الباحثين أن القدامى عدوا هذا الشكل مثلا؛ لأنه كلام فيه تشبيه، وكان الكاهن والعراف في أشد الحاجة إلى الصورة المجازية يجد فيها مجالا للمواربة والإيماء والرمز والإلغاز. ونجد عددا من الأمثال الملغزة منسوبة إلى أقوال كهان العرب، أمثال: عزى سلمة الكاهن، والشعثاء الكاهنة وهي تصف سبعة إخوة، وطريفة الكاهنة وهي تخاطب قوم عمرو بن عامر، وكاهنة ذي الخلصة وهي تتكهن بما في بطن رقية بنت جشم، والكاهنة السعدية تخاطب العجفاء وصواحباتها.

2- المثل القياسي: وأطلق الساميون لفظ مثل على صورة مجازية أخرى ليست عبارة موجزة, ولكنها حكاية أو وصف قصد به توضيح فكرة أو البرهنة عليها بطريق المقارنة والقياس والتمثيل. ويمكن أن نسمي هذا المثل "المثل القياسي" ويسميه الفرنجة Prrable, عرف قديما في تعاليم بوذا، إذ كان المثل القياسي وسيلة تعليمية محببة إليه. رووا أن بوذا أخذ يوما يشرح تعاليمه لتلامذته, فذكر لهم أن المجاهدين في سبيله سيلقون جزاءهم ولكنه سيحتفظ لأشدهم تمسكا بتعاليمه بهدية المعرفة، وأن مثلهم في ذلك كمثل الملك الذي كافأ جنوده بأشياء كثيرة ولكنه احتفظ لأشدهم إخلاصا بدرة تاجه ... وكثر استخدامه في أيدي الأحبار والربانيين في توضيح التعاليم اليهودية وتفسيرها, ثم نجده في أقوال الإنجيل والقرآن ورجال الديانتين المسيحية والإسلامية. والظاهر أن المثل القياسي في الآداب السامية بنوع خاص قد نشأ في أحضان الديانات. وقد يلتقي المثل القياسي بالخرافة حتى يصعب التمييز بينهما، وإن كان بعض علماء اللاهوت يفرقون في الاصطلاح بين المثل القياسي والخرافة. 3- المثل الخرافي: ويصف "توراندريه T, Andrae" الصلة بين اللغز والخرافة بقوله: "في كليهما يتجلى الضباب والرياح كائنات حية، وتتمثل السحب أبقارا كما في كتابات رج فيدا، وفي ألغاز الألمان, ويبدو الليل والنهار شقيقين يتعهدان ولديهما الشمس والقمر ... ". وحين نطلق كلمة "خرافة" فإنما نقصد ما سماه الفرنجة Fable، وهو الذي يتخذ أداة تعليمية بنوع خاص. وهذا النوع هو الذي أطلق عليه الساميون كلمة مثل في أكثر الأحيان, أطلقها العبرانيون المتأخرون على هذه الصورة المجازية سواء أكانت مركزة أم مطولة. ففي القرن الأول الميلادي أطلق اليهود

كلمة masa على عدد من قصص الثعالب وخرافات كوبسيم أو كوبسيس. وأطلق العرب على قصص الحيوان أمثالا, وفي السريانية تؤدي كلمة matJa هذا المعنى نفسه. 4- المثل الشعبي: وأطلق لفظ "المثل" على العبارة الموجزة المعبرة عن رأي الشعب أو اتجاهه Folk-Proverp والآداب السامية تحتفظ بعدد من الأمثال الشعبية دونها جماع الأمثال فوصلت إلينا. ومن الأمثال الشعبية المصرية القديمة قولهم: "إنها لم تحدث لنا منذ أيام رع" ولذلك نجد عددا كبيرا من هذه الأمثال في التلمود والأمهرية والعربية. ونلاحظ أن بعض هذه الأمثال لا يفهم إلا إذا عرفنا مناسبته وقصته، فهو بذاته أشبه باللغز الذي يحتاج إلى حل؛ ولهذا حرص الرواة على إيراد قصص لهذه الأمثال لشرحها وتفسيرها. وهذه الأمثال في معظم الأحيان لا تعدو ملاحظات بسيطة لا تصل إلى حد التعمق والتأمل الفلسفي البعيد، ولا تعدو كلاما مرسلا على السجية, لا صنعة فيه ولا محاولة شعرية ظاهرة في سرد العبارة، كما أنها لا تلتزم التعبير المجازي دائما وإن كان لا يخلو عدد كبير منه. 5- المثل الأدبي: وأطلق لفظ "مثل" على العبارة الموجزة الأدبية Cnome التي تتميز عن النوع السابق بأنها تدل على عقل واعٍ وتأمل بعيد، وصنعة ظاهرة في تنميق العبارة وتنسيقها. فمن ذلك قول العربي: "رب عجلة تهب ريثا, ورب فروقة يدعى ليثا، ورب غيث لم يكن عيثا", وقول سفر الأمثال "1/ 8-10": "اسمع يا بني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك؛ لأنهما إكليل نعمة لرأسك, وقلائد لعنقك". ولا يشترط في هذه الأمثال أن تكون معبرة عن نفسية طبقات الشعب وذوق الجمهور, بل هي مبادئ وأقوال يقررها أفراد من الصفوة المثقفة

كالحكماء ورجال الدين، وتصدر عن روية وتفكير وإتقان، وهي بهذا كله تختلف عن الأمثال الشعبية. وهذا النوع من الأمثال يقترن في تاريخه الطويل بالكتابة والحكمة والتعليم الديني. المثل القولي والمثل الكتابي, والفرق بينهما: قسم بعض الباحثين الأمثال العربية إلى قسمين: "الأول" المثل الشعبي أو القولي في مختلف صوره وأشكاله. "والثاني" المثل الكتابي الذي تظهر فيه صنعة التركيب، ورؤية الكاتب, وتأمل المفكر1. ومن الملاحظ أن المثل الشعبي الذي يمثل الاتجاه العربي الخالص كان يرسم خطا واضحا في الاستعمال العام في تاريخ الأدب العربي, إلى أن ضعف النفوذ العربي في أواخر القرن الأول الهجري. أما المثل الكتابي فهو يمثل خطا آخر واضحا تبدأ بواكيره في الجاهلية, ثم يزدهر بظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم، وعناية المسلمين بالحكمة والتعليم الديني والدنيوي، ويشق هذا الاتجاه طريقه في خلال العصور2. فالمثل العربي القديم لم يخل من آثار كتابية، ولكنها كانت منحصرة في جانبين: أحدهما ما قام به الكتابيون من الآراميين والفرس من تشجيع لحركة جمع الأمثال وتدوينها، والثاني ما أودعه العرب في أمثالهم من حوادث وأفكار كتابية استمدوها من نصوص مدونة، أو من الأوساط الكتابية التي كانت تشغل مناطق من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. وبالرغم من هذا التأثير الكتابي, ظل المثل العربي القديم محتفظا بطابعه، متميزا بصبغته، واستطاع سلطان اللغة أن يخضع هذه الأفكار أو تلك الموضوعات الكتابية فيصوغها في قالب عربي قديم. فالتأثير الكتابي في المثل الشعبي القديم -حيثما وجد- تأثير جزئي لا يمس

_ 1 الأمثال في النثر العربي القديم صـ23, 24. 2 الأمثال في النثر العربي القديم صـ23, 24.

قالب المثل وصورته، ولا يطغى على الطابع الإقليمي الذي يميزه. فالشعبية أو الإقليمية هي الميزة الأولى للمثل الشعبي، وثمة فرق آخر بين المثل الكتابي والقولي وهو تلك النغمة التأديبية التي تسري في المثل الكتابي قوية واضحة، يصوغها الحكيم في معنى كلي, أو مبدأ إنساني، أو قاعدة عامة, فإذا لجأ إلى المجاز والتصوير، اتخذ ذلك وسيلة للعبارة عن المعنى الكلي, أو للإبانة عن تلك النغمة التأديبية. أما المثل الشعبي فغايته فنية غالبا, أو بعبارة أدق: يستهدف وصف جزئية من الجزئيات كحادثة, أو شخص، أو هيئة، أو حركة، أو نكتة لفظية. وفرق آخر يتعلق بالنشأة والمورد، فمؤرخ المثل الشعبي العربي ينبغي أن يتجه في فهم صورته ومادته، إلى البيئات العربية التي صدر عنها. أما المثل الكتابي فهو في خصائصه العامة -على الأقل- تراث مشترك بين شعوب مختلفة يمثل وحدة ثقافية بينهم1. خصائص المثل العربي في اللغة والأسلوب: يجنح الأسلوب السامي الأصيل إلى تلاصق العبارات ... فتتألف القطعة الأدبية من وحدات Units بسيطة متوالية أشبه بحبات العقد، كل منها جوهر فرد, فإذا انفصل عن العقد شيء ظل العقد دون أن يضار في جوهر بنائه وفي أساس نظمه. وقد يلجأ هذا الأسلوب إلى نوع من التركيب، ولكنه يستخدم عادة روابط هينة خفيفة, على حين نجد في الأدب اليوناني العبارات الطويلة المركبة Periodes التي تترابط فيما بينها ترابط أعضاء الكائن الحي أو أجزاء التمثال، يتوقف بعضها على بعض. فإذا انهار جزء منها أثر ذلك في تصميم الهيكل، وفي أساس التكوين. فالساميون القدماء قد صنعوا أدبهم على طريقة نظم العقود وليس على طريقة تصميم التمثال أو الكائن الحي. "وإذا نظرنا إلى الأمثال العربية القديمة، وتدرجنا معها من المثل الطويل المسهب

_ 1 lntroduction to the oLd Testament By Aage Bentzen Vol, 1. P. 110.

كمثل الخرافة، إلى الإشارة المثلية الموجزة، وجدنا أن أسلوبها المسهب أميل إلى التسوية والتلاصق، تكثر فيه الفواصل، والقفزات السريعة, والحروف العاطفة الخفيفة، كالواو والفاء ونحوهما, ولا يلجأ المثل إلى التركيب إلا في القليل، ولا يلجأ إلى أدوات الشرط والوصل وما شاكلها من الروابط "الثقال" إلا عند الضرورة القصوى. ففي خرافة الحية والفأس نجد مثل هذه العبارة: "فعمد إلى الفأس, فأحدها، ثم قعد لها، فمرت به فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر، ووقع الفأس بالجبل فوق جحرها فأثر فيه" ومعظم عبارات هذه الخرافة متلاصقة متكافئة سريعة القفزات. وفي الأمثال المركبة المؤلفة من جملتين أو أكثر نجد التسوية العطفية تسود كقولهم: "رب عجلة تهب ريثا، ورب فروقة يدعى ليثا، ورب غيث لم يكن عيثا" وقد لا يصطنع العطف، وربما استعملوا الجمل الحالية كقولهم: "أضرطا وأنت الأعلى" أو الجمل الشرطية كقولهم: "من عز بز1". فتركيب الأمثال العربية إذًا لا يخرجها عن سمة الإيجاز والتركيز، وإذا أنعمنا النظر في هذه الأمثال ألفينا ظاهرة لا مثيل لها في الأمثال السامية الأخرى؛ هذا الإيجاز البالغ الذي يصل أحيانا إلى أن يكون المثل لفظا واحدا أو صفة وموصوفا أو مضافا ومضافا إليه أو جارا ومجرورا. فمن أمثالهم: "أيها" ومعناه نعم, وأصلها: "أي ها الله" ثم كثر في كلامهم حتى وصلوا. ومن ذلك قولهم "اللهم" كان أصله -والله أعلم- يا الله أمنا بخير، ثم كثر حتى وصلوا الله بحرف من أمنا. ومن المضاف عدد من الأمثال أوردها الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" كقولهم: غراب نوح، وذئب يوسف، وعصا موسى، وخاتم سليمان، وبرد محارب، وعطر منشم، ومواعيد عرقوب، وجزاء سنمار ... إلخ. وذكروا ما سموه "المكنى والمبني والمثنى" وهي أمثال أحصاها حمزة الأصفهاني فبلغت ثلاثمائة وسبعين، والمكنى والمبني من هذه الأمثال هما عبارة

_ 1 الأمثال لعابدين صـ99, 100.

عن أسماء للأشخاص والأشياء والمعاني، أطلقها العرب عليها مبدوءة بأب أو أم أو بنت. ومن أمثال المثنى قولهم: الجديدان لليل والنهار, والأسودان للتمر والماء, والقمران للشمس والقمر. ومن أمثال المكنى قولهم: أبو الحارث كنية الأسد، وأبو حباحب كنية النار التي لا ينتفع بها، وأم فروة كنية النعجة. ومن أمثال المبني قولهم: ابن جلا، وهو لأول النهار، وطامر بن طامر للبرغوث, وابن الأيام للرجل الجلد المجرب, وجابر بن حبة للخبز، وبنت الجبل للصدى, وبنت الشفة للكلمة. ولعل أمثال المكنى والمبني والمثنى هي من جملة الأمثال التي تدفقت على المثل العربي القديم بعد أن اشتدت حركة أئمة اللغة في جمع شواهد العرب وأساليبهم التقليدية expressions من أهل البوادي العربية، وقد عد كثير من هذه الأساليب أمثالا، فاقتحمت باب المثل باعتبارها كلاما مأثورا يعبر عن طرائق مألوفة في لغتهم1. وهذه الخصائص التي أسلفنا ذكرها تشمل الأمثال العربية جميعها, حجازية كانت أو غير حجازية. المثل الحجازي: يعتبر كتاب "أمثال العرب" للمفضل الضبي أقدم ما وصل إلينا من كتب الأمثال, وهو يعالج إلى حد ما أمثالا جاهلية، أو بعبارة أدق: أمثالا تصور في صياغتها وموضوعها نزعة جاهلية، وقلما يعثر الباحث فيه على قصص وأمثال تشير إلى واقعة إسلامية. وهو يشتمل على حوالي مائة وخمسين مثلا موجزا, تندرج الكثرة الغالبة

_ 1 الأمثال لعابدين 105-107.

منها في قصص، ويبلغ عدد هذه القصص قرابة المائة, وتتضمن القصة مثلا أو أكثر. ويستغرق نصف صفحات كتاب الضبي تقريبا الحديث عن وقائع قصص وأمثال مستمدة من منطقة "تميم" بقبائلها المختلفة. وهناك عدد من القصص يروي ما كان بين اليمامة والمناذرة، وقصص عن امرئ القيس، وعدد من القصص يشير إلى أهل هجر "البحرين"، ومنه ما روى عن طرفة والمتلمس. وإذا تجاوزنا عددا من الأخبار ليس فيه إشارة واضحة إلى أسماء ووقائع معينة, وهذه لا تزيد على بضعة عشر خبرا، وجدنا عددا آخر يتحدث عن الغساسنة والحجازيين من سكان الجانب الغربي، وفي أخبار الغساسنة -وهي حوالي سبعة- إشارة إلى الخصومة التي نشبت بينهم وبين المناذرة، أو بين بعض عشائر قضاعة. وظاهر أن هذه الأخبار مستمدة من مصادر شرقية أيضا؛ لأنها تسجيل لحوادث تهم المناذرة بنوع خاص, والأخبار الحجازية لا تتجاوز الخمسة وأكثرها فكاهات, ولبعضها صلة بأهل الحيرة والنزعات الدينية التي يهمهم أن يعرفوها عن الحجاز1. مصدر هذه القصص إذًا هو الشرق، أو إذا أردنا التحديد فهو منطقة المناذرة وجهات القبائل التي تقع تحت سلطانهم. وطبيعي أن تكون عناية الضبي بأمثال نجد والمناذرة أكثر من عنايته بأمثال الحجازيين، فهو ينتمي إلى قبيلة "ضبة" إحدى قبائل المنطقة الشرقية, ويعتبر رأي المدرسة الكوفية الضبية. وليس بمستبعد أن يكون المناذرة أنفسهم قد أمروا بتدوين هذه الأمثال والأخبار وجمعها، ثم تداولها الرواة في الجاهلية حتى وصلت إلى الضبي في القرن الثاني للهجرة، فهي في مجموعها سجل لمفاخرهم وأحوالهم الأدبية والاجتماعية, ملوكا ورعية.

_ 1 قسم الباحثون المثل العربي إلى قسمين: أ- المثل الشرقي: وموطنه العراق والبحرين وعمان وحضرموت ونجد. ب- المثل الغربي: وبيئته الحجاز واليمن.

ومهما يكن من شيء فمما لا شك فيه أن الحجازيين في العصر الجاهلي قد كانت لهم أمثال مثل ما كان لليمنيين والغساسنة، والنجديين والمناذرة. ولكن يلاحظ أن أمثال الحجازيين واليمنيين والغساسنة أقل من أمثال النجديين والمناذرة, فما السر في هذا؟ وهل يمكن أن نتصور شعبا كشعب الحجاز -قد أعد لكي يؤثر في الحياة الإنسانية عامة, وكانت ميزته الكبرى التفوق في الفصاحة والبلاغة ولزعمائه الفصل في الخصومات بين العرب- لم يكن له حظ وافر من هذا التراث الضخم من الأمثال؟ إننا نعتقد أن بيئة الحجاز قد كانت عامرة بالأمثال، بيد أن الزمن قد عفى على كثير منها؛ لأنها لم تظفر من العناية والتسجيل والتدوين بما ظفرت به أمثال المناذرة والبقاع التي كانت تقع تحت نفوذهم, ولم تجد من السلطان القائم في تلك الأزمنة من يرعاها ويحميها ويحفظها من الضياع. هذا إلى أن تيارات الدعوات الكتابية كانت تهاجمها وتسعى جاهدة لمحوها باعتبارها مظهرا من مظاهر الأمجاد الوثنية القومية، وخاصة إذا علمنا أن المسيحية كانت تجد لها ظهيرا قويا من الروم والغساسنة. ومهما يكن من شيء، فثم تراث ضخم من الأمثال العربية انبت عن أصله، ولم تعين بيئته، حجازية أم نجدية أم غيرهما، بأية وسيلة من الوسائل الكاشفة المميزة كاللهجة أو الحادثة أو القائل ... وللحجازيين في هذا التراث العام -كما نرجح- نصيب كبير. ويجدر بنا أن نشير هنا إلى عدد من حكماء الحجاز في الجاهلية، وقد ذكرنا جملة منهم في فصل سابق, ومن هؤلاء: أمية بن عوف الكناني وكان من أتباع الحنيفية، يدعو إلى ترك الآلهة والتمسك بإله واحد، وكان يعظ العرب في فناء البيت، ومرعا بن الظرب العدواني، وهو حكيم قيس، وكان متصلا بملوك غسان، وهاشم بن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب من حكماء قريش. وكان بعض الحكماء يورثون أبناءهم الحكمة، كما صنع حكماء الشرق القديم, حين كانوا يلقنون أولادهم تعاليم الحكمة, فورثت ابنة عامر بن الظرب الحكمة من أبيها, وكانت ذرية هاشم بن عبد مناف حكماء قريش في الجاهلية، ونعني هشاما وعبد المطلب وأبا طالب, أما في الإسلام فقد اشتهر بها علي بن أبي طالب، وعمرو بن العاص كما عرف بها أبوه العاص بن وائل في الجاهلية.

وأمثال الحجاز في الجاهلية كانت -بوجه عام- تستقي من منابع ثلاثة: المنبع الأول: تلك الأمثال التي نطق بها الحجازيون قبل الإسلام وعليها طابع الحجاز المحلي، وارتسمت عليها صورة بيئتهم وعبرت عن طرائقهم في التفكير والتعبير، أو اقترنت بحادثة كاشفة أو لهجة مميزة أو تفوه بها زعيم من زعمائهم أو فصيح من فصحائهم. المنبع الثاني: الأمثال التي قيلت في بيئة المناذرة والمناطق التي كانت تدور في فلكها كنجد وهجر والبحرين، ثم انتقلت إلى الحجاز وشاعت في بيئتهم الاجتماعية ودارت على ألسنتهم واختلطت بأمثالهم الصميمة، وتناولوها بالتغيير والتحوير حتى تنسق مع ميولهم ونزعاتهم ولهجاتهم, وقد أصبحت هذه الأمثال جزءا من تراثهم الفني. المنبع الثالث: الأمثال التي كتب لها الرواج في منطقة الحجاز وكان مصدرها كتابيا تعليميا، ودلت الدلائل على أنها مستقاة من تعاليم قديمة، أو كتب مقدمة، ثم أخذت صيغة الأمثال الشعبية, فقد كانت هناك جاليات آرامية وغير آرامية استقر بعضها في مناطق عدة من الحجاز في أخصب البقاع حول المدينة، وأمرع الواحات بين الحجاز والشام وذاعت في تلك المناطق قصص من التوراة وغير التوراة. وكان من أثر التيارات والدعوات الكتابية أن ضعف إلى حد ما نفوذ الوثنية، وذاعت بعض الأفكار السماوية والتعاليم الدينية ... وكان بعضها في صورة حكم وأمثال. أقدم الأمثال: ومن أمثال العرب القديمة: "السليم لا ينام ولا ينيم" ويضرب لبيان أن الضرر لا يقتصر على منبعه وحده، بل يتعداه إلى غيره. وينسب هذا المثل إلى "إلياس بن مضر" أبي الحجازيين. وإلياس هو الجد السادس عشر للنبي "صلى الله عليه وسلم" ومن إلياس إلى عدنان 4 أجيال، فمتوسط الأجيال من إلياس إلى عصر النبوة =22.65-4=18.65 جيلا, ومدتها 18.65×40=746 سنة "الجيل: أربعون سنة".

أي: إن إلياس كان قبل الهجرة بنحو 746 سنة، وقبل الميلاد المسيحي بنحو 124 سنة، وثمت تقدير آخر لتعيين زمن إلياس وهو الاعتماد على سلسلة النسب الطاهر للنبي "صلى الله عليه وسلم" الذي يبلغ ما بينه وبين عدنان اثنين وعشرين رجلا. ومدتها 22×40=880. وبحذف الأجيال الأربعة بعد مضر إلى عدنان يكون الباقي من الناس إلى النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" جيلا, ومدتها 18×40=720 سنة, أي: إن إلياس كان قبل الهجرة بنحو 720 سنة, وقبل الميلاد المسيحي بنحو 98 سنة1. والذي نريد أن نصل إليه -على افتراض صحة هذا التقدير أو ذاك؛ صحة نسبة المثل إلى إلياس- أن الأمثال العربية عامة, والأمثال الحجازية خاصة، ضاربة في القدم، وأن عمر هذا المثل أكثر من سبعة قرون، وأن إلياس أرسله في القرن الثامن قبل الهجرة. وحديث هذا المثل فيما ذكر الكلبي2 عن الشرقي بن القطامي، أن إبل إلياس ندت ليلا فنادى ولده وقال: "إني طالب الإبل في هذا الوجه" وأمر عمرا ابنه أن يطلب في وجه آخر، وترك عامرا ابنه لعلاج الطعام قال: فتوجه إلياس وعمرو، وانقطع عمير ابنه في البيت مع النساء, فقالت ليلى بنت حلوان امرأته لإحدى خادميها: اخرجي في طلب أهلك, وخرجت ليلى فلقيها عامر محتقبا صيدا قد عالجه، فسألها عن أبيه وأخيه فقالت: لا علم لي. فأتى عامر المنزل وقال للجارية: قصي أثر مولاك, فلما ولت قال لها: تقرصعي أي: اتئدي وانقبضي, فلم يلبثوا أن أتاهم الشيخ وعمرو ابنه قد أدرك الإبل فوضع لهم الطعام, فقال إلياس: السليم لا ينام ولا ينيم, فأرسلها مثلا, وقالت ليلى امرأته: والله إن زلت أخندف في طلبكما وآلهة. قال الشيخ: فأنت خندف, قال عامر: وأنا والله كنت أدأب في صيد وطبخ. قال: فأنت طابخة. قال عمرو: فما فعلت أنا أفضل, أدركت الإبل, قال: فأنت مدركة, وسمى عميرا قمعة لانقماعه في البيت. فغلبت هذه الألقاب على أسمائهم, ويضرب مثلا لمن لا يستريح ولا يريح غيره.

_ 1 الأسس المبتكرة لدراسة الشعر الجاهلي 105, 106. 2 الميداني 1/ 352.

أثر البيئة في الأمثال الحجازية: تعتبر الأمثال أصدق شيء يتحدث عن أخلاق الأمة وتفكيرها وعقليتها وتقاليدها وعاداتها، ويصور المجتمع وحياته وشعوره أتم تصوير، فهي مرآة للحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية، وهي أقوى دلالة من الشعر في ذلك؛ لأنه لغة طائفة ممتازة، وأما هي فلغة جميع الطبقات. فالمثل -إذًا- هو صوت الشعب وصورته، ورسمه ومثله، ينبع من قلب الجماهير، ويصب فيها، والسمة الشعبية ركن من أهم أركان المثل الشعبي. "ويتضح عنصر الشعبية في اشتقاق اللفظ الدال على المثل في اللاتينية واليونانية. ففي اللاتينية تدل الكلمة Provsrqium على "الكلمة التي تقال أمام الملأ" ويرادفها لفظ adaguim ويردونها عادة إلى العبارة: ad agendum aptum واشتقت الإنجليزية كلمة adage وكلها تدل على هذا العنصر الشعبي، كما تدل على مغزى خلقي، وتنطق بالوظيفة العملية للمثل. أما الكلمة اليونانية التي تقابل كلمة المثل العربية, فهي تدل على التعبير الشائع الذي تبتذله العامة. ولذا كان من الطبيعي أن تكون الأمثال الحجازية في العصر الجاهلي صورة صادقة لنفسية الحجازيين وحياتهم الخلقية والدينية, وأن تنعكس على مرآتها بيئتهم الطبيعية والاجتماعية, وتصور عاداتهم وتقاليدهم ونزعاتهم وميولهم وهزلهم وجدهم، وطرائقهم في التفكير والتعبير. وماذا عسى أن ينتج من بيئات اشتغل أهلها بالزراعة والتجارة، وكانت لهم المصارف، وضربوا في جنبات الصحراء يحدون القوافل الموقرة بالسلع المختلفة لحسابهم، أو لحساب غيرهم، حتى أصبح لهم حظ من الثراء والترف والحضارة، وكانت بديارهم المواسم والمجتمعات والأسواق التجارية والأدبية, كما امتازوا بجوارهم للبيت الحرام الذي يقصده العرب جميعا لأداء الشعائر الدينية؟ كل ذلك كان له أثره العميق في نفوسهم, وفيما ينتجون من أدب بصفة عامة, وما يرسلون من حكم وأمثال بصفة خاصة.

وهكذا كانت الأمثال الحجازية التي وصلت إلينا ترجمانا صادقا عن حياة الحجازيين الاجتماعية، وشمائلهم الخلقية؛ نرى فيها شجاعتهم وبأسهم، وجرأتهم وفتكهم، فقد ضرب المثل بالبراض الكناني، فقيل: أفتك من البراص، وفي قصة المثل المشهور: "عند جهينة الخبر اليقين" بعد أن فتك الأخنس بن كعب الجهني بالحصين بن عمرو، وقفل راجعا إلى قومه رأى امرأة تنشد الحصين، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا امرأة الحصين. قال: أنا قتلته، فكذبته وقالت: أما لو لم يكن الحي خلوا ما تكلمت بهذا. فانصرف وفي ذلك يقول: كصخرة إذ تسائل في مراح ... وأنمار، وعلمهما ظنون تسائل عن حصين كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين وسيأتي تفصيل الحديث عن هذين المثلين. وفي بيئات الحجاز الزراعية كخيبر والمدينة حيث تنتشر النخيل نجد أن الحجازيين قد اتخذوا من "التمر" مادة للأمثال يعالجون بها أطرافا من شئونهم المعاشية وحياتهم الاجتماعية، فقالوا: "كمستبضع التمر إلى خيبر" ويقال للدلالة على خطأ هذا الفعل، فخيبر مصدر التمر، والذي يجلب إليها التمر مخطئ أعظم الخطأ مقضي على تجارته بالبوار والكساد وهذا من بديهيات التجارة، والشيء يجب أن يوضع في موضعه، ويوجه لمن هو في حاجة إليه، قال النابغة الجعدي: وإن امرأ أهدى إليك قصيدة ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا وقالوا: "كل خاطب على لسانه تمرة"1 وفي التمرة حلاوة, والخاطب عادة يحلو لسانه حتى يحوز الرضا ويفوز بحبة قلبه, وهو يضرب للذي يلين كلامه إذا طلب حاجة. وقالوا: "التمرة إلى التمرة تمر" وينسب هذا المثل إلى أحيحة بن الجلاح الأوسي, وذلك أنه دخل حائطا له فرأى تمرة ساقطة

_ 1 الميداني 2/ 98.

فتناولها، فعُوتب في ذلك، فقال ذلك القول يريد أن ضم الآحاء يؤدي إلى الجمع, ويضرب في استصلاح المال. وكان من عادتهم في الجاهلية أن يقوم منادٍ على أطم من آطام المدينة حين يدرك البسر، فينادي: "التمر في البئر ... التمر في البئر" يحثهم على أن يكثروا من سقي نخلهم, فإن من سقى وجد عاقبة سقيه في تمره، وهذا قريب من قولهم: "عند الصباح يحمد القوم السرى", ويراد بالمثلين: أن من عمل عملا كان له ثمرته1. وفي بيئات الحجاز التجارية كمكة مثلا, يجد الباحث أمثالا تصور حياتهم الاقتصادية كقولهم: أَقْرَش من المجبرين: والقرش: الجمع والتجارة, والتقرش: التجمع، ومن هذا سميت قريش قريشا. زعم أبو عبيدة أنهم أربعة رجال من قريش وهم أولاد عبد مناف بن قصي؛ أولهم هاشم ثم عبد شمس ثم نوفل ثم المطلب بنو عبد مناف، سادوا بعد أبيهم. لم يسقط لهم نجم، جبر الله تعالى بهم قريشا فسموا المجبرين؛ وذلك أنهم وفدوا على الملوك بتجاراتهم فأخذوا منهم لقريش العصم، أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الشام وأطراف الروم، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة, وأخذ لهم نوفل حبلا من ملوك الفرس حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض فارس والعراق, وأخذ لهم المطلب حبلا من حمير حتى اختلفوا بذلك السبب إلى بلاد اليمن2. وانعكست على أمثالهم كذلك صور من عاداتهم الدينية وبيئتهم المقدسة, فقالوا: "آمن من حمام مكة" و"آمن من الظبي بالحرم" وهما من الآمن, وقالوا: "آلف من حمام مكة" لأنه لا يثار ولا يصاد، وقالوا: "أصح من عير أبي سيارة" وهو رجل من بني عدوان اسمه: عميلة بن خالد بن الأعزل, وكان

_ 1 الميداني 1/ 144, وجمهرة الأمثال 1/ 185. 2 الميداني 2/ 72, وقد تقدم ذلك في هذا الكتاب عن القالي أيضا.

له حمار أسود أجاز الناس عليه من المزدلفة إلى منى أربعين سنة, وكان يقول: أشرق ثبير كيما نغير, وهو أول من سن الدية مائة من الإبل1. وفي مكة تبرز أمثال تصور مبلغ ما وصل إليه بعض القرشيين من الثراء والترف كقولهم: أقرى من حاسي الذهب: وحاسي الذهب هو عبد الله بن جدعان التيمي سيد مكة في الجاهلية. وسمي بذلك؛ لأنه كان يشرب في إناء من الذهب, وهو الذي أطعم العرب الفالوذ، وفيه قال أبو الصلت الثقفي: له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد2 ونجد أمثالا أخرى تصور جودهم وسخاءهم كقولهم: أفرى من زاد الركب: وهذا المثل من أمثال قريش, ضربوه لثلاثة من أجوادهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبي أمية بن المغيرة، وأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى. سموا زاد الركب؛ لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم, وقد ذكرنا نبأهم فيما سبق. ومن أمثال المكيين التي تحكي اعتزازهم وتفاخرهم قولهم: أنا ابن كديها وكدائها: وكدى وكداء جبلان بمكة والهاء راجعة إلى مكة, وهذا مثل يضربه من أراد الافتخار على غيره3. ومن أمثالهم التي تصور جمالهم ووسامتهم قولهم:

_ 1 الميداني 1/ 422, وجمهرة الأمثال للعسكري 2/ 128. 2 الميداني 2/ 72. 3 الميداني 2/ 197.

أجمل من ذي العمامة: وهو مثل من أمثال مكة, وذو العمامة سعيد بن العاص بن أمية, وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا يلبس قرشي عمامة على لونها، وإذا خرج لم تبق امرأة إلا برزت للنظر إليه من جماله1. ومن الأمثال العربية قولهم: كُسَيْر وعُوَيْر, وكل غير خير2. ولا يزال الحجازيون حتى اليوم يذكرون معنى هذا المثل بعد أن حولوه إلى اللهجة العامية، فيقولون: "صوير وعوير, وإلا ما فيه خير". ومن الأمثال الحجازية الشعبية قولهم: "شاهد الثعلب ذنبه" وقد جاء هذا المثل في خبر لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه3- وسار عبر القرون حتى العهد الحاضر, فإذا هو يدور على ألسنة الحجازيين على النحو الآتي: "قاللوا: مين يشهد لك يا أبو الحصين؟ قاللوا: ذنبي" وأبو الحصين -كما هو معروف- كنية الثعلب. أما حكمهم وأمثالهم التي تجلت فيها قدرتهم الفائقة على فن التعبير، وبرزت فيها سمات الوجازة والبلاغة الممتازة حتى دارت على الألسنة وتأثرت بها القلوب, فحسبنا أن نشير إلى قولهم: "الحرب سجال"، و"لا في العير ولا في النفير"، و"كل الصيد في جوف الفراء"، و"السليم لا ينام ولا ينيم"، و"رب زارع لنفسه حاصد سواه". وقد يصور المثل الحجازي حادثة أو شخصية جاهلية كقولهم: "أندم من أبي غبشان" وهو من خزاعة. يروى أنه أسلم قصي بن كلاب مفاتيح البيت الحرام وهو سكران، فطار بها من الطائف "وهو موضع اجتماعهم" إلى مكة، وقال: معاشر قريش! هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل, ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم, وأفاق أبو غبشان فندم، فقيل: أندم من أبي غبشان.

_ 1 الميداني 2/ 198. 2 الأغاني 1/ 293, دار الكتب. 3 جمهرة الأمثال للعسكري 2/ 18.

ويعلق بعض الباحثين على هذه القصة بقوله: فإذا فرضنا أن هذه القصة قد اشتهرت بين الحجازيين حتى أصبح أبو غبشان فيها مضرب المثل, فليس من المحقق أن يكون هذا التركيب بهذه الصيغة كان مثلا شائعا بينهم, وفرق بين القصة والمثل، وبين معنى المثل وصيغته. بل نرجح أن الرواة المتأخرين قد "ترجموا" عن الشهرة بعبارة من صنع أنفسهم، فترجمها بعضهم: "أندم من أبي غبشان" وترجمها بعضهم: "أحمق من أبي غبشان" وترجمها غير هؤلاء وأولئك: "أخسر صفقة من أبي غبشان". فاختلاف التعبير عن القصة قد يحمل الدليل على أن المثل مفتعل، وإن كان مستفادا من قصة مشهورة، فهو متأخر عنها وضعه الواضعون بعد أن اشتهرت القصة, وهذا ما يجعلنا نرجح أن صيغة المثل إسلامية1. ونحن مع تقديرنا لهذا الرأي نرى أن المثل جاهلي صميم؛ إذ من غير المعقول أن تظل هذه الحادثة الخطيرة طيلة هذه الفترة الطويلة دون أن يتناولها الحجازيون، ويضربوا بصاحبها المثل. ومن المؤكد عندنا أن صيغة واحدة من صيغ هذا المثل كانت أسبق إلى الظهور, وأن هذه الحادثة لما لها من الخطر وعمق التأثير في حياتهم الاجتماعية والدينية، قد اشتقت منها الأقوال والأمثال بصيغ مختلفة، واختلط الأمر بعد ذلك على الرواة, فرووا هذه الصيغ جميعها، ولم يحفظوا أقدم الروايات ويفردوها بالنص, فالمثل -في رأينا- جاهلي صحيح، وليس إسلاميا مفتعلا. وبهذه المناسبة نذكر أن الأستاذ أحمد السباعي في كتابه "تاريخ مكة" قد سجل جملة من الحكم والأمثال عزاها إلى قريش في العصر الجاهلي. والواقع أن بعض ما أرده إسلامي القائل والقصة، كالمثل: "عند الصباح يحمد القوم السرى"2, فقد تفوه به خالد بن الوليد حين نجا هو وجيشه من الهلاك عطشا، بعد أن سلك المفازة بين اليمامة والعراق3 بناء على أمر الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- له بأن يتجه إلى العراق.

_ 1 الأمثال لعابدين ص93, 94. 2 الميداني 1/ 464. 3 وفي الكامل لابن الأثير: بين الشام والعراق.

وبعضها مولد كقولهم: "يبني قصرا ويهدم مصرا"1، ويضرب لمن شره أكثر من خيره, وقد ذكره الميداني في أمثال المولدين، وقولهم: "إذا أراد الله هلاك نملة أنبت لها جناحين"2. وبعضها ليس قرشيا كالمثل: "حسبك من شر سماعه"3, فقد نسبه الميداني لأم الربيع بن زياد العبسي، ونسبه المفضل لفاطمة بنت الخرشب من بني أنمار بن بغيض. الأمثال الحجازية, والمصادر الأجنبية: وقد يجد الباحث في الحجاز أمثالا قد دونت في المصادر الشرقية، كقولهم: "مكره أخوك لا بطل". روى الضبي: "أخوك" على الإعراب بالحروف، ثم نجدها في لهجات بعض المناطق الغربية: "مكره أخاك لا بطل" بالبناء على الألف. وورد في الضبي المثل: "إذا عز أخوك فهن" فإذا به يروى: "إذا عز أخاك فهن" ولكن الجاحظ يعده لحنا. ثم نلمح السمة الحجازية أحيانا في الأمثال، حين يختلف الرواة في شرح قصصها ومواردها، فيردونها إلى مصادر مختلفة، ففي شرح المثل القائل: "حدا حدا وراءك بندقة" يرى شرق بن القطامي الكوفي أن "حدا" علم على قبيلة، هي حدا بن نمرة بن سعد العشيرة، وهم بالكوفة، وبندقة من مظة, وهو سفيان بن سلهم بن الحكم بن سعد العشيرة وهو باليمن. أغارت حدا على بندقة فقتلت منهم، أما أبو عبيدة البصري، فيرى أن المراد هو هذا الحدأ الذي يطير، والبندقة ما يرمى به، وهي كرة تطلق من السهم يلعب بها الصبيان، وهو مثل يضرب في التحذير. فعلى قول أبي عبيدة يكون اللفظ جمع حدأة أسقطوا همزته. وفي اللسان: "العامة تقول: حدا حدا بالفتح غير مهموز" فالأقرب أن يكون المثل متأثرا

_ 1 الميداني 2/ 393. 2 المرجع السابق 1/ 91. 3 المرجع السابق 1/ 203.

بلهجة غريبة أو هو غربي المورد، فإن حذف الهمزة في نحو "حدا" هو ظاهرة مميزة للهجات الحجازية على أنه قد يصعب الاهتداء إلى مصدر المثل في كثير من الأحيان، كما في شرح: "أنا النذير العريان"، فقد أورد ابن الكلبي قصة وقعت حوادثها في الحيرة في أيام المنذر بن ماء السماء. أما ابن سلمة فيشرح المثل بما يدل على أن مصدره حجازي، إذ ينسبه إلى رجل من خثعم, حمل عليه يوم ذي الخلصة. ومن الأمثال التي يبدو الأثر الأجنبي في صيغتها قولهم: "إلا دِهِ فلا ده" وهو كلمة قالها الكاهن عزى سلمة حين أتاه جماعة من ثقيف، ومعهم عبد المطلب بن هاشم فخبئوا له، وقالوا: "لاده" أي: بيّن هذا الشيء، فأجابهم الكاهن بكلام مبهم، فقالوا له: "لاده" قال لهم: "إن لاده فلاده" هو رأس جرادة في خرز مزادة ... إلخ. قال الخليل بن أحمد: "لاده" فارسية الأرض, ورده أبو عبيدة إلى أصل عربي قال: "أريد كذا وكذا، فإن قيل له: ليس يمكن ذا، قال: فكذا وكذا". وقال الأصمعي: إن معناه: إن لم يكن هذا الآن، فلا يكون بعد الآن. وقال المنذري: "قالوا: معناه: إلا هذه، فلا هذه، يعني أن الأصل إلا ذه فلا ذه، بالذال المعجمة". وبالرغم من أن حوادث القصة حجازية، فإن المثل فيما نظن عبارة مأثورة من تلك المصطلحات العتيقة التي تتسرب عادة إلى أهل الحرفة من عصور بعيدة الآماد. ويرجح بعض الباحثين أن العبارة متأثرة بلهجة آرامية أو فارسية، وأنها جاءت من جهة العراق. ولا ننسى طائفة أخرى من الأمثال هي خرافات شعبية، نشأت وترعرعت في أوساط كتابية غالبا في الفترة التي ظهر فيها الإسلام أو بعده بقليل. وهنالك نوع من قصص الخلق نجدها منتشرة في الأوساط الكتابية، يذيعها المعلمون والوعاظ لبيان حكمة الخالق في خلقه، وهنالك عدد من قصص الخلق ذاعت في الكتب المقدسة القديمة، وقد نجح صانعو هذا القصص في صياغتها بعبارات شعبية.

قالوا: زعمت الأعراب أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فرجعت بلا أذنين؛ فلذلك يسمون ذكر النعام الظليم، ومن أمثالهم: "كطالب القرن جدعت أذنه" ويروى أن بشارًا تمثل فقال: "ذهب الحمار يطلب قرنين فعاد بلا أذنين". وورد المثل في شعر بعض الهذليين المخضرمين، وهو أبو العيال الهذلي، والهذليون مساكنهم في الحجاز، وهو يشير إلى النعامة لا إلى الحمار. وهناك مثل آرامي يهودي يقول: "ذهب الجمل يطلب قرنين فرجع بلا أذنين" وبذلك يتبادل الدور ثلاثة من الحيوان، ويبدو أن الجمل أقدمها ورودا في المثل، فقد ورد في نص آرامي، كما أن الحمار يمثل خلطا من الناطقين المتأخرين بين المثل الأصلي، ومثل آخر يذكر أذني الحمار. ثم إن هناك ما يسمى بـ "الخرافات الحوارية" التي تعتبر من وسائل تعليم الشعب وتسليته. وأكثر هذه القصص الحوارية يتسم بسمة "الحيلة", ومن ذلك الخرافة الحوارية التي رُويت عن علي بن طالب, رضي الله عنه: يقول الميداني: يروى أن أمير المؤمنين عليا -رضي الله تعالى عنه- قال: إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة كن في أجمة: أبيض وأسود وأحمر، ومعهن فيها أسد، فكان لا يقدر منهن على شيء؛ لاجتماعهن عليه. فقال للثور الأسود والثور الأحمر: لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله صفت لنا الأجمة, فقالا: دونك فكله, فأكله. ثم قال للأحمر: لوني على لونك، فدعني آكل الأسود لتصفو لنا الأجمة, فقال: دونك فكله, فأكله. ثم قال للأحمر: إني آكلك لا محالة, فقال: دعني أنادي ثلاثا, فقال: افعل, فنادى: ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض. ثم قال علي رضي الله تعالى عنه: ألا إني هنت -ويروى: وهنت- يوم قتل عثمان، يرفع بها صوته، وهو مثل يضربه الرجل يرزأ بأخيه. وقد ورد هذا المثل في كتاب كليلة ودمنة، ولاحظ هذا أبو هلال. كما أنه ورد مختصرا في خرافات إيسوب. ويعلق الدكتور عبد المجيد عابدين على ذلك بقوله: فإذا صحت رواية هذا المثل عن

علي بن أبي طالب، وهو أسبق في التاريخ من ابن المقفع مترجم كليلة ودمنة، فمن الممكن أن نفترض أن المثل عرفه الآراميون الذين سكنوا في الحجاز أو اليمن, من طريق الترجمة السريانية لكتاب كليلة ودمنة -وقد ترجم حوالي 570م- أو نفترض أن المثل عرفه الكتابيون في هذه المنطقة من طريق خرافات إيسوب التي كانت قد عرفها اليهود من قبل, وتدارسوها في مجالسهم ومدارسهم. وقصة استسقاء وفد عاد بمكة ومعهم لقمان معروفة مشهورة، وسنذكرها في موضع آخر إن شاء الله، ونحب أن نشير هنا إلى أن عناصر هذه القصة وثنية قديمة، لكنها امتزجت بعناصر كتابية فيما بعد في الفترة القريبة من الإسلام. "ولم يلبث أن أصبح لقمان مشتهرا بالحكمة الكتابية قبيل الإسلام، بعد أن كان صانع أمثال شعبية، تكاد تكون خالية من النغمة الكتابية الظاهرة وقوامها الألغاز، ويكثر فيها المجاز والإيماء والإشارة ومعاريض الكلام. ولم يكد يظهر الإسلام في شبه الجزيرة حتى كان عرب اليمن الذين سكنوا في الحجاز أو اتصلوا بالجانب الغربي من شبه الجزيرة قد مهدوا لظهور لقمان الجديد، لقمان القرآني، فرأينا كعب الأحبار وأصله من يهود المدينة ثم أسلم, قد أذاع عددا من أخبار لقمان, ورأينا سويد بن الصامت يقدم إلى مكة، ويعرض على الرسول مجلة لقمان. ونكاد نرجح أن هذه المجلة كانت تتضمن شيئا عن لقمان في صورته الكتابية. يدلنا على ذلك أن سويدا كان ممن قرءوا الكتب في الجاهلية، وأنه كان من أهل المدينة، وأن لفظ مجلة1 عبري أو آرامي الأصل"2. الفرق بين المثل اليمني, والمثل الحجازي: وقد اختلطت الأمثال اليمنية بالأمثال الحجازية، فقد لبست جميعها ثوبا من العربية الفصحى وأصبح من العسير على الباحث التمييز بينها. بيد أنه يلاحظ أن بعض الصيغ قد ترد في الملل, فتشير إلى أصله اليمني.

_ 1 يرى السهيلي في الروض الأنف 1/ 266 أن لفظ مجلة مشتق من الجلالة أو الجلال. 2 راجع جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1/ 282, وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 242، والأمثال في النثر العربي القديم ص50, 51.

ومن ذلك -فيما يظن بعض الباحثين- صيغة فعال, الاسم المؤنث المبني على الكسر، وقد جمع الباحث ك. فولرز Vollers طائفة من أسماء الأماكن الواردة على وزن فعال المنتهية بالكسر، ورأى أن معظمها يرجع إلى اليمن وما جاورها وصلة اليمن بالحبشة معروفة, وإذا رجعنا إلى الحبشة القديمة وجدنا أن فعال faal هي صيغة المؤنث لوزن فعيل، فيقال: حديس "جديد" ومؤنثه حداس "جديدة", ويقال: طبيب "حكيم" ومؤنثه طباب. وفي أمثالهم: "من دخل ظفار حمر, أو تحمر" وظفار بلد باليمن, وحمر: تكلم بالحميرية. وقالوا: "روغي جعار وانظري أين المفر" جعار الضبع، وهو مثل يضرب للذي يهرب ولا يقدر أن يغلب صاحبه. وقالوا: "تيسي جعار" يضرب للاستكذاب ولم يعرف أصل هذه الكلمة, والتيس جبل باليمن. ويقال: فلان يتكلم بالتيسية أي: بكلام أهل ذلك الجبل1. الأمثال الغريبة: وفي الحجاز يصادف الباحث عددا من الأمثال يتسم بسمة الإغراب، ويستغلق معناه في الفهم. ومن ذلك قول الحجاج بن يوسف الثقفي: "ده درين سعد العشيرة" ويروى: "دهدرين وطرطبين" قاله الحجاج لقوم من الفرس فلم يفهموه، ففُسِّر لهم، وهو مثل يقال لمن يأتي الباطل استهزاء به, ولم يعرف الأصمعي أصله. وقال أبو هلال: إنه كلمة لا معنى لها. وقال ابن الأعرابي: "وتركوا تنوين سعد استخفافا, ونصبو دهدرين على إضمار فعل"2 ولعل هذا المثل من بقايا لهجة حجازية بائدة, كانت تمثل مرحلة سابقة على الطور الأدبي. وروي أن عمر بن الخطاب جاءه رجل يحمل لقيطا، فقال عمر: "عسى الغوير أبؤسا" والغوير: تصغير غار, والأبؤس: الشدائد جمع بؤس، أي: لعلك

_ 1 راجع 49، 156. Ancient West Arabiau, By C. Radin. والمزهر: 1/ 49، والأمثال لعابدين 65, 66. 2 أبو هلال العسكري 1/ 295.

صاحب هذا اللقيط, تعريضا بالرجل، وقال اللغويون في معناه: "لعل الغوير يصير أبؤسا" وقالوا: عسى بمعنى كان. وتركيب المثل غريب؛ لأن هذا الاستعمال لم يرد في القرآن الكريم، وإنما وردت كلمة "عسى" مقرونة بأن والفعل, فلعلها لهجة حجازية سبقت طور العربية الفصحى. ويرى بعض الباحثين أن عسى تقابل في الاستعمال الكلمة العبرية asah أي: "صنع" ويكون معنى المثل: "صنع الغوير أبؤسا، أي: شدائد ونكبات"1 والمثل -وإن تمثل به عمر- فهو قديم كما قال أبو هلال. أما رواية الميداني القائلة بأن أصل المثل من قول الزباء، فليست صحيحة؛ لأنها لا تنطبق على ما ورد في أقدم نص لقصة الزباء في كتاب الضبي2. طائفة من الأمثال الحجازية: أفتك من البراض هو البراض بن قيس الكناني. ومن خبر فتكه: أنه كان وهو في حيه عيارا فاتكا يجني الجنايات على أهله، فخلعه قومه، وتبرءوا من صنيعه، ففارقهم وقدم مكة، فحالف حرب بن أمية ثم نبا به المقام بمكة أيضا ففارق أرض الحجاز إلى أرض العراق، وقدم على النعمان بن المنذر الملك فأقام ببابه. وكان النعمان يبعث إلى عكاظ بلطيمة كل عام تباع له هناك, فقال وعنده البراض والرحال -وهو عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب, وسمي رحالا لأنه كان وفادا على الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يقدمها عكاظ؟ فقال البراض: أبيت اللعن أنا أجيزها على كنانة, فقال النعمان: ما أريد إلا رجلا يجيزها على الحيين قيس وكنانة. فقال عروة الرحال: أبيت اللعن، أهذا العيار الخليع يكمل لأن يجيز لطيمة الملك، أنا المجيزها على أهل الشيح والقيصوم من نجد وتهامة. فقال: خذها، فرحل عروة بها، وتبع البراض أثره، حتى إذا صار عروة بين ظهراني

_ 1 الأمثال في النثر العربي القديم ص67. 2 أمثال العرب 64-68.

قومه بجانب فدك, نزلت العير فأخرج البراض قدحا يستقسم بها في قتل عروة، فمر عروة به، وقال: ما الذي تصنع يا براض؟ قال: أستخبر القداح في قتلي إياك، فقال: "استك أضيق من ذاك"، فوثب البراض بسيفه إليه فضربه ضربة خمد منها، واستاق العير، فبسببه هاجت حرب الفجار بين حيي خندف وقيس، فهذه فتكة البراض التي بها المثل قد سار، وقال فيها بعض شعراء الإسلام: والفتى من تعرقته الليالي ... والفيافي كالحية النضناض كل يوم له بصرف الليالي ... فتكة مثل فتكة البراض1 إن العصا قرعت لذي الحلم: عمرو بن مالك بن ضبيعة2: قيل: إن أول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني، وذلك أن سعدا أتى النعمان بن المنذر ومعه خيل له قادها وأخرى عراها, فقيل له: لم عريت هذه وقدت هذه؟ قال: لم أقد هذه لأمنعها، ولم أعر هذه لأهبها، ثم دخل على النعمان فسأله عن أرضه, فقال: أما مطرها فغزير وأما نبتها فكثير. فقال النعمان: إنك لقوال, وإن شئت أتيتك بما تعيا عن جوابه. قال: نعم. فأمر وصيفا له أن يلطمه، فلطمه لطمة. فقال: ما جواب هذه؟ قال: رب يؤدب عبده. قال: الطمه أخرى, فلطمه. قال: ما جواب هذه؟ قال: ملكت فأسجح، فأرسلها مثلا. قال النعمان: أصبت فامكث عندي, وأعجبه ما رأى منه فمكث عنده ما مكث. ثم إنه بدا للنعمان أن يبعث رائدا فبعث عمرا أخا سعد, فأبطأ عليه فأغضبه ذلك, فأقسم: لئن جاء ذاما للكلأ أو حامدا له ليقتلنه, فقدم عمرو وكان سعد عند الملك, فقال سعد: أتأذن أن أكلمه؟ قال: إذن يقطع لسانك. قال: فأشير إليه؟ قال: إذن تقطع يدك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: فأقرعها، فتناول سعد عصا جليسه وقرع بعصاه قرعة واحدة فعرف

_ 1 مجمع الأمثال للميداني 2/ 34. 2 الميداني 1/ 39-42، وجمهرة الأمثال للعسكري 2/ 128.

أنه يقول له: مكانك, ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات, ثم رفعها إلى السماء ومسح عصاه بالأرض، فعرف أنه يقول له: لم أجد جدبا, ثم قرع العصا مرارا ثم رفعها شيئا وأومأ إلى الأرض فعرف أنه يقول: ولا نباتا, ثم قرع العصا قرعة وأقبل نحو الملك فعرف أنه يقول كلمة, فأقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك، فقال له: أخبرني هل حمدت خصبا أو ذممت جدبا؟ فقال عمرو: لم أذمم هزلا ولم أحمد بقلا، الأرض مشكلة، لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف ومنكرها عارف وآمنها خائف. قال الملك: أولى لك, فقال سعد بن مالك يذكر قرع العصا: قرعت العصا حتى تبين صاحبي ... ولم تك لولا ذاك في القوم تقرع فقال رأيت الأرض ليس بممحل ... ولا سارح فيها على الرعي يشبع سواء فلا جدب فيعرف جدبها ... ولا صابها غيث غزير فتمرع فنجي بها حوباء نفس كريمة ... وقد عاد لولا ذاك فيهم تقطع أو عامر بن الظرب العدواني: وقال آخرون في قولهم "إن العصا قرعت لذي الحلم": إن ذا الحلم هذا هو عامر بن الظرب العدواني, وكان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما ولا بحكمه حكما، فلما طعن في السن أنكرت من عقله شيئا، فقال لبنيه: إنه قد كبرت سني وعرض لي سهو, فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل: كانت له جارية يقال لها: خصيلة, فقال لها: إذا أنا خُولِطت فاقرعي لي العصا، وأتى عامر بخنثى ليحكم فيه فلم يدر ما الحكم, فجعل ينحر لهم ويطعمهم ويدافعهم بالقضاء، فقالت خصيلة: ما شأنك قد أتلفت مالك؟ فخبرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى, فقالت: اتبعه مباله، قال الشعبي: فحدثني ابن عباس بها، قال: فلما جاء الإسلام صارت سنة فيه، وعامر هو الذي يقول: أرى شعرات على حاجبي ... بيضا نبتن جميعا تؤاما ظللت أهاهي بهن الكلا ... ب أحسبهن صوارا قياما وأحسب أنني إذا ما مشيـ ... ـت شخصا أمامي رآني فقاما1

_ 1 الميداني 1/ 39، 40.

عند جهينة الخبر اليقين: خرج حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب ومعه رجل من جهينة يقال له: الأخنس بن كعب، وكان الأخنس قد أحدث في قومه حدثا فخرج هاربا فلقيه الحصين، فقال له: من أنت, ثكلتك أمك؟ فقال له الأخنس: بل من أنت, ثكلتك أمك؟ فردد هذا القول, حتى قال الأخنس: أنا الأخنس بن كعب فأخبرني من أنت وإلا أنفذت قلبك بهذا السنان، فقال له الحصين: أنا الحصين بن عمرو الكلابي. ويقال: بل هو الحصين بن سبيع الغطفاني، فقال له الأخنس: فما الذي تريد؟ قال: خرجت لما يخرج له الفتيان. قال الأخنس: وأنا خرجت لمثل ذلك، فقال له الحصين: هل لك أن نتعاقد ألا نلقى أحدا من عشيرتك أو عشيرتي إلا سلبناه؟ قال: نعم, فتعاقدا على ذلك وكلاهما فاتك يحذر صاحبه، فلقيا رجلا فسلباه فقاللهما: هل لكما أن تردا علي بعض ما أخذتما مني وأدلكما على مغنم؟ قالا: نعم، فقال: هذا رجل من لخم قد قدم من عند بعض الملوك بمغنم كثير وهو خلفي في موضع كذا وكذا، فردا عليه بعض ماله وطلبا اللخمي فوجداه نازلا في ظل شجرة وقدامه طعام وشراب, فحيَّياه وحياهما وعرض عليهما الطعام فكره كل واحد أن ينزل قبل صاحبه فيفتك به, فنزلا جميعا فأكلا وشربا مع اللخمي، ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه فرجع واللخمي يتشحط في دمه، فقام الجهني وهو الأخنس وسل سيفه؛ لأن سيف صاحبه كان مسلولا وقال: ويحك, فتكت برجل قد تحرمنا بطعامه وشرابه. فقال: يا أخا جهينة، أتدري ما صعلة وما صعل؟ قال الجهني: هذا يوم شرب وأكل، فسكت الحصين حتى إذا ظن أن الجهني قد نسي ما يراد به قال: يا أخا جهينة هل أنت للطير زاجر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ما تقول هذه العقاب الكاسر؟ قال الجهني: وأين تراها؟ قال: هي ذه، وتطاول ورفع رأسه إلى السماء فوضع الجهني بادرة السيف في نحره فقال: أنا الزاجر والناصر, واحتوى على متاعه ومتاع اللخمي وانصرف راجعا إلى قومه، فمر ببطنين من قيس يقال لهما: مراح وأنمار، فإذا هو بامرأة تنشد الحصين بن سبيع, فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا صخرة امرأة الحصين، قال: أنا قتلته. فقالت: كذبت ما مثلك يقتل مثله؟

أما لو لم يكن الحي خلوا ما تكلمت بهذا, فانصرف إلى قومه فأصلح أمرهم, ثم جاءهم فوقف حيث يسمعهم وقال: وكم من ضيغم ورد هموس ... أبي شبلين مسكنه العرين علوت بياض مفرقه بعضب ... فأضحى في الفلاة له سكون وأضحت عرسه ولها عليه ... بعيد هدوء ليلتها رنين وكم من فارس لا تزدريه ... إذا شخصت لموقعه العيون كصخرة إذ تسائل في مراح ... وأنمار وعلمهما ظنون تسائل عن حصين كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين فمن يك سائلا عنه فعندي ... لصاحبه البيان المستبين جهينة معشري وهم ملوك ... إذا طلبوا المعالي لم يهونوا ويضرب هذا المثل في الرجل يعرف حقيقة الأمر. رب زارع لنفسه حاصد سواه: قاله عامر بن الظرب وذلك أنه خطب إليه صعصعة بن معاوية ابنته, فقال: يا صعصعة, إنك جئت تشتري مني كبدي وأرحم ولدي عندي, منعتك أو بعتك، النكاح خير من الأيمة والحسيب كفء الحسيب والزوج الصالح يعد أبا، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، ثم أقبل على قومه فقال: يا معشر عدوان، أخرجت من بين أظهركم كريمتكم على غير رغبة عنكم, ولكن من خط له شيء جاءه، رب زارع لنفسه حاصد سواه. ولولا قسم الحظوظ على غير الحدود ما أدرك الآخر من الأول شيئا يعيش به، ولكن الذي أرسل الحيا أنبت المرعى، ثم قسمه أكلا لكل فم بقلة ومن الماء جرعة, إنكم ترون ولا تعلمون، لن يرى ما أصف لكم إلا كل ذي قلب واعٍ ولكل شيء راعٍ ولكل رزق ساعٍ, إما أكيس وإما أحمق وما رأيت شيئا قط إلا سمعت حسه ووجدت مسه, وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا داعيا ولا غانما إلا خائبا ولا نعمة إلا ومعها بؤس, ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء، فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: ما هو؟ قد قلت فأصبت وأخبرت

فصدقت. فقال: أمورا شتى وشيئا شيا حتى يرجع الميت حيا ويعود لا شيء شيا؛ ولذلك خلقت الأرض والسماء، فولوا عنه راجعين، فقال: ويلها نصيحة لو كان من يقبلها1. كل شاة برجلها معلقة: قاله وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد وكان ولي أمر البيت بعد جرهم, فبنى صرحا بأسفل مكة عند سوق الخياطين اليوم, وجعل فيه أمة يقال لها: حزورة, وبها سميت حزورة مكة, وجعل في الصرح سلما فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله تعالى, وكان ينطق بكثير من الخبر, وكان علماء العرب يزعمون أنه صديق من الصديقين, وكان من قوله: مرضعة أو فاطمة ووادعة وقاصمة والقطيعة والفجيعة وصلة الرحم وحسن الكلم. ومن كلامه: زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا وبالشر عقابا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء, هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. فلما حضرته الوفاة جمع إيادا فقال لهم: اسمعوا وصيتي: الكلم كلمتان والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه, وكل شاة برجلها معلقة, فأرسلها مثلا2. صكة عمي: يقال: لقيته صكة عمي وصكة أعمى وهو أشد الهاجرة حرا، وعمي تصغير أعمى مرخما، قال اللحياني: هي أشد ما يكون من الحر أي: حين كان الحر يعمي من شدته، وقال الفراء: حين يقوم قائم الظهيرة. وعمي رجل من عدوان كان يفتي في الحج, فأقبل معتمرا ومعه ركب حتى نزلوا بعض المنازل في يوم شديد الحر، فقال عمي: من جاءت عليه هذه الساعة من غد وهو حرام بقي حراما إلى قابل، فوثب الناس إلى الظهيرة يضربون أي: يسيرون حتى وافوا البيت, وبينهم وبينه من ذلك الموضع ليلتان

_ 1 الميداني 1/ 325. 2 الميداني 2/ 88.

فضرب مثلا فقيل: أتانا صكة عمي, إذا جاء في الهاجرة الحارة، وفي ذلك يقول كرب بن جبلة العدواني: وصك بها نحر الظهيرة غائرا ... عمي ولم ينعلن إلا ظلالها وجئن على ذات الصفاح كأنها ... نعام تبغي بالشظى رئالها فطوفن بالبيت الحرام وقضيت ... مناسكها ولم يحل عقالها1 قد كان ذلك مرة, فاليوم لا: قالته فاطمة بنت مر الخثعمية وكانت قد قرأت الكتب, فأقبل عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب, فمر على فاطمة وهي بمكة فرأت النبوة في وجه عبد الله, فقالت له: من أنت يا فتى؟ فقال: أنا عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فقالت: هل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تنوينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه ومضى مع أبيه فزوجه آمنة وظل عندها يومه وليلته, فاشتملت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف وقد دعته نفسه إلى الإبل فأتاهم فلم ير منها حرصا, فقال لها: هل لك فيما قلت لي؟ فقالت: قد كان ذلك مرة, فاليوم لا. فأرسلت مثلا يضرب في الندم والإبانة بعد الاجترام, ثم قالت له: أي شيء صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب فكنت عندها، فقالت: رأيت في وجهك نور النبوة فأردت أن يكون ذلك في، فأبى الله تعالى إلا أن يضعه حيث أحب، وقالت: بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان وما كل ما نال الفتى من نصيبه ... بحزم ولا ما فاته بتواني فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يصطرعان

_ 1 تاج العروس 7/ 154.

وقالت في ذلك أيضا: إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت بحناتم القطر لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري1 أي الرجال المهذب؟ أول من قاله النابغة, حيث قال: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعت أي الرجال المهذب2 لقد استبطنتم بأشهب بازل قاله العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- لأهل مكة, أي: بُلِيتم بأمر صعب مشهور كالبعير الأشهب البازل، وهو الأبيض القوي، والباء في "بأشهب" زائدة، يقال: استبطنت الشيء, إذا أخفيته3. لا في العير ولا في النفير: قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب؛ وذلك أنه أقبل بعير قريش وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تحين انصرافها من الشام فندب المسلمين للخروج معه، وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة وقد خاف خوفا شديدا, فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست من أحد من أصحاب محمد؟ فقال: ما رأيت من أحد أنكره إلا راكبين أتيا هذا المكان, وأشار له إلى مكان عدي وبسبس عيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ أبو سفيان أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها فإذا فيها نوى, فقيل: علائف يثرب، هذه عيون محمد, فضرب وجوه عيره فساحل بها وترك بدرا يسارا, وقد كان بعث إلى قريش حين فصل من الشام يخبرهم بما يخافه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقبلت قريش

_ 1 الميداني 2/ 51, 52. 2 الميداني 1/ 25. 3 الميداني 2/ 153.

من مكة فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع, فأبت قريش أن ترجع ورجعت بنو زهرة من ثنية أجدى، عدلوا إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير, قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ومضت قريش إلى بدر فواقعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأظفره الله تعالى بهم، ولم يشهد بدرا من المشركين من بني زهرة أحد. قال الأصمعي: يضرب هذا للرجل يحط أمره, ويصغر قدره1. لا قرار على زأر من الأسد: من قول النابغة: نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد تمثل به الحجاج حين سخط عليه عبد الملك2. لا يجمع سيفان في غمد: قال أبو ذؤيب: تريدين كيما تجمعيني وخالدا ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد3 ألذ من الغنيمة الباردة: قال الجاحظ: إن أهل تهامة والحجاز لما عدموا البرد في مشاربهم وملابسهم إلا إذا هبت الشمال سموا الماء النعمة الباردة، ثم كثر ذلك منهم حتى سموا ما غنموه "البارد" تلذذا منهم كتلذذهم بالماء البارد4.

_ 1 الميداني 2/ 172. 2 الميداني 2/ 176. 3 الميداني 2/ 181. 4 الميداني 2/ 203.

الحرب سجال: المساجلة: أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري أو سقي. وأصله من السجل وهو الدلو فيها ماء قل أو كثر, ولا يقال لها وهي فارغة: سجل. قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب وقال أبو سفيان يوم أحد بعدما وقعت الهزيمة على المسلمين: اعل هبل، اعل هبل، فقال عمر: يا رسول الله, ألا أجيبه؟ قال: "بلى يا عمر" , قال عمر: الله أعلى وأجل, فقال أبو سفيان: يابن الخطاب, إنه يوم الصمت، يوم بيوم بدر، وإن الأيام دول، وإن الحرب سجال. فقال عمر: ولا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار, فقال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك, لقد خبنا إذًا وخسرنا1. أكلة الشيطان: يضرب في كل شيء ذهب فلم يوجد له أثر. وأكلة الشيطان: حية في الجاهلية لا يقوم لها شيء تأتي البيت الحرام في كل حين, فتضرب بنفسها الأرض فلا يمر بها شيء إلا أهلكته2. قد صرحت بجلدان: هو حمى قريب من الطائف لين مستوٍ، كالراحة، لا خمر فيه يتوارى به. يضرب للأمر الواضح البين الذي لا يخفى على أحد3. وجلدان بكسر أوله وإسكان ثانيه وبالدال المهملة على وزن فِعْلَان، وهي أرض سهلة؛ ولذلك قالوا: أسهل من جلدان. قال الشاعر: ستشمظكم عن بطن وج سيوفنا ... ويصبح منكم بطن جلدان مقفرا4

_ 1 الميداني 1/ 223. 2 الميداني 1/ 51. 3 الميداني 2/ 45. 4 تشمظكم: تمنعكم. وج: الطائف. معجم ما استعجم 2/ 389.

أعدى من الشنفرى: خرج الشنفرى هو وتأبط شرا وعمرو بن براق فأغاروا على بجيلة فوجدوا لهم رصدا على الماء، فلما مالوا له في جوف الليل قال لهما تأبط شرا: إن بالماء رصدا، وإني لأسمع وجيب قلوب القوم، فقالا: ما نسمع شيئا وما هو إلا قلبك يجب. فوضع أيديهما على قلبه وقال: والله ما يجب وما كان وجابا، قالوا: فلا بد لنا من ورود الماء. فخرج الشنفرى فلما رآه الرصد عرفوه فتركوه حتى شرب من الماء ورجع إلى أصحابه فقال: والله ما بالماء أحد ولقد شربت من الحوض، فقال تأبط شرا للشنفرى: بلى ولكن القوم لا يريدونك وإنما يريدونني, ثم ذهب ابن براق فشرب ورجع ولم يعرضوا له فقال تأبط شرا للشنفرى: إذا أنا كرعت في الحوض فإن القوم سيشدون عليّ فيأسرونني, فاذهب كأنك تهرب ثم كن في أصل ذلك القرن, فإذا سمعتني أقول: خذوا خذوا فتعال فأطلقني. وقال لابن براق: إني سآمرك أن تستأسر للقوم فلا تنأ عنهم ولا تمكنهم من نفسك, تم مر تأبط شرا حتى ورد الماء فحين كرع في الحوض شدوا عليه، فأخذوه وكتفوه بوتر، وطار الشنفرى فأتى حيث أمره وانحاز ابن براق حيث يرون, فقال تأبط شرا: يا معشر بجيلة هل لكم في خير أن تياسرونا في الفداء ويستأسر لكم ابن براق؟ قالوا: نعم. فقال: ويلك يابن براق, أما الشنفرى فقد طار وهو يصطلي نار بني فلان وقد علمت ما بيننا وبين أهلك، فهل لك أن تستأسر ويأسرونا في الفداء؟ قال: لا والله حتى أروز نفسي شوطا أو شوطين, فجعل يستن نحو الجبل ويرجع حتى إذا رأوا أنه قد أعيا طمعوا فيه فأتبعوه, ونادى تأبط شرا: خذوا خذوا, فخالف الشنفرى إلى تأبط شرا فقطع وثاقه, فلما رآه ابن براق وقد خرج من وثاقه مال إلى عنده فناداهم تأبط شرا: يا معشر بجيلة أعجبكم عدو ابن براق, أما والله لأعدون لكم عدوا ينسيكم عدوه. ثم أحضروا ثلاثتهم فنجوا. فكل هؤلاء الثلاثة كانوا عدائين ولم يسر المثل إلا بالشنفرى1.

_ 1 الميداني 1/ 507.

إن السبع مرتخص وغال: قالوا: أول من قال ذلك أحيحة بن الجلاح الأوسي سيد يثرب، وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير العبسي أتاه وكان صديقا له لما وقع الشر بينه وبين بني عامر, وخرج إلى المدينة ليتجهز لقتالهم حيث قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة فقال قيس لأحيحة: يا أبا عمرو، نبئت أن عندك درعا فبعنيها أو هبها لي. فقال: يا أخا بني عبس ليس مثلي يبيع السلاح ولا يفضل عنه, ولولا أني أكره أن أستلئم إلى بني عامر لوهبتها لك ولحملتك على سوابق خيلي، ولكن اشترها بابن لبون فإن البيع مرتحض وغال، فأرسلها مثلا، فقال له قيس: وما تكره من استلامك إلى بني عامر؟ قال: كيف لا أكره ذلك وخالد بن جعفر الذي يقول1: إذا ما أردت العز في دار يثرب ... فنادِ بصوت يا أحيحة تمنع رأينا أبا عمرو أحيحة جاره ... يبيت قرير العين غير مروع ومن يأته من خائف ينس خوفه ... ومن يأته من جائع البطن يشبع فضائل كانت للجلاح قديمة ... وأكرم بفخر من خصالك أربع كل الصيد في جوف الفرا: قال ابن السكيت: الفرا: الحمار الوحشي وجمعه: فراء, وأصله أن ثلاثة نفر خرجوا متصيدين, فاصطاد أحدهم أرنبا، والآخر ظبيا, والثالث حمارا, فاستبشر صاحب الأرنب، وصاحب الظبي بما نالاه وتطاولا عليه, فقال الثالث: "كل الصيد في جوف الفراء"، أي: هذا الذي رزقت وظفرت به يشتمل على ما عندكما, وذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعظم من الحمار الوحشي, وقاله النبي "صلى الله عليه وسلم" لأبي سفيان يتألفه. ويلوح لنا أن المثل قديم, ويضرب لمن يفضل على أقرانه2.

_ 1 الميداني 1/ 21. 2 الميداني 2/ 82.

إنما النشيد على المسرة: قاله الشنفرى قبيل قتله. وذلك أن نفرا من بني سلامان الذين كان يغير عليهم فيمن تبعه من قبيلته فهم, حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلا، فكمنوا له واحتالوا عليه حتى أسروه وأدوه إلى أهلهم, وقالوا له: أنشدنا، فقال: "إنما النشيد على المسرة" فذهبت مثلا. ثم ضربوا يده فقطعوها, ثم قالوا له حين أرادوا قتله: أين نقبرك؟ فقال: لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلا بالجرائر1 أحمى من حجير الظعن: هو ربيعة بن مكدم الكناني, ومن حديثه فيما ذكر أبو عبيدة أن نبيشة بن حبيب السلمي خرج غازيا فلقي ظعنا من كنانة بالكديد فأراد أن يحتويها, فمانعه ربيعة بن مكدم في فوارس وكان غلاما له ذؤابة. فشد عليه نبيشة فطعنه في عضده, فأتى ربيعة أمه وقال: شدي علي العصب أم سيار, فقد رزقت فارسا كالدينار, فقالت أمه: إنا بني ربيعة بن مالك ... يرزأ في خيارنا كذلك من بين مقتول وبين هالك ثم عصبته فأسقاها ماء. فقالت: اذهب فقاتل القوم فإن الماء لا يفوتك, فرجع وكرّ على القوم فكشفهم ورجع إلى الظعن وقال: إني لمائت وسأحميكن ميتا كما حميتكن حيا بأن أقف بفرسي على العقبة وأتكئ على رمحي, فإن فاضت نفسي كان الرمح عمادي فالنجاء النجاء, فإني أرد بذلك وجوه القوم ساعة من النهار, فقطعن العقبة ووقف بإزاء القوم على فرسه متكئا على رمحه

_ 1 الميداني، وبلوغ الأرب ص146 جـ2.

ونزفه الدم, فغاظ والقوم بإزائه يحجمون عن الإقدام عليه, فلما طال وقوفه في مكانه ورأوه لا يزول عنه رموا فرسه فقمص وخرّ ربيعة لوجهه, فطلبوا الظعن فلم يلحقوهن، ثم إن حفص بن الأحنف الكناني مر بجيفة ربيعة فعرفها, فأمال عليها أحجارا من الحرة, وقال يبكيه: لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شراب خمر مسعر لحروب لولا السفار وبعده من مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: ما نعلم قتيلا حمى ظعائن غير ربيعة بن مكدم1. أشبه امرأ بعض بزه: وهو مثل أرسله ذو الإصبع العدواني، وقصته أن ذا الإصبع بعد أن زوج بناته الأربع مكثن برهة ثم اجتمعن إليه، فقال للكبرى: يا بنية، ما مالكم؟ قالت: الإبل, قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، نأكل لحومها مزعا ونشرب ألبانها جرعا، وتحملنا وضعيفنا، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم الخليلة ويعطي الوسيلة2، قال: مال عميم وزوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنية ما مالكم؟ قالت: البقر، قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، تألف الغناء, وتودك السقاء3، وتملأ الإناء، ونساء في نساء، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله، وينسى فضله، قال: حظيت ورضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم؟ قالت: المعزى، قال: فكيف تجدونها؟ قالت: لا بأس بها, نولدها فطما ونسلخها أدما, قال: فكيف

_ 1 الميداني 1/ 231. 2 الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير. 3 تودك السقاء: تجعل فيه الودك وهو الدسم.

تجدين زوجك؟ قالت: لا بأس به ليس بالبخيل الحكر1 ولا بالسمح البذر، قال: جدوى مغنية. ثم قال للرابعة: يا بنية ما مالكم؟ قالت: الضأن, قال: وكيف تجدونها؟ قالت: شر مال، جوف2 لا يشبعن، وهيم3 لا ينقعن، وصم لا يسمعن4, وأمر مغويتهن يتبعن، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: شر زوج، يكرم نفسه ويهين عرسه، قال: "أشبه امرأ بعض بزه"5. وفي رواية: "أشبه امرؤ بعض بزه" وأرسله مثلا. أساء سمعا فأساء إجابة: قال ذلك سهيل بن عمرو وقد خرج ذات يوم ومعه ابنه أنس, فأقبل ابن شريق الثقفي وقال لسهيل: من هذا؟ قال سهيل: هو ابني, فقال ابن شريق الثقفي: حياك الله يا فتى، فقال الفتى: لا والله ما أمي في البيت، إنها انطلقت إلى أم حنظلة تطحن دقيقا، فقال أبوه: أساء سمعا فأساء إجابة, فأرسلت مثلا.

_ 1 الحكر: المستبدّ بالشيء. 2 جوف: عظام الأجواف. 3 هيم لا ينقعن: عطاش لا يروين. 4 شبهت الضأن بما لا يسمع لبلادتها, والعرب تقول: "أبلد ما يرعى الضأن". 5 الأغاني ص95, 96 جـ3 ط دار الكتب، والكامل للمبرد ص318 جـ1 ط أوروبا، والميداني جـ1.

الفصل الثاني: الخطب والوصايا

الفصل الثاني: الخطب والوصايا تمهيد: الخطابة فن من فنون النثر، ولون من ألوانه، وهي فن مخاطبة الجمهور الذي يعتمد على الإقناع والاستمالة والتأثير، فهي كلام بليغ يلقى في جمع من الناس لإقناعهم برأي, أو استمالتهم إلى مبدأ، أو توجيههم إلى ما فيه الخير لهم في دنيا أو آخرة. والخطابة ضرورية لكل أمة في سلمها وحربها؛ فهي أداة الدعوة إلى الرأي والتوجيه إلى الخير، ووسيلة الدعاة من الأنبياء والمرشدين, والزعماء والمصلحين، فهي ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية. وإنما تقوى الخطابة ويرتفع صوتها في زمن الحرية، وفي ظلال الديمقراطية، حيث تستطيع الأمة أن تتنفس بآمالها ومشاعرها، وتنطلق من قيود الذل والظلم، إلى حيث تتكلم أفواهها بما تجيش به الخواطر، وتضطرم به النفوس، وتتجه إليه الآمال, ففي ظلال الحرية تتقارع الآراء، وتتصارع الأفكار، وتتنازع المبادئ، وتتنافس المذاهب، وتتعدد الخصومات، وفي ذلك كله غذاء للخطابة ومدد لها وداعٍ إليها. والخطابة إما سياسية أو اجتماعية أو دينية، وقد ازدهرت في العصر الحديث الخطابة القضائية والبرلمانية. وفن الخطابة قديم وُجد في الأمم القديمة كقدماء المصريين واليونان والرومان. وكان للخطابة شأن عظيم في العصر الجاهلي، وكان للخطيب مركز ممتاز لا يقل عن مركز الشاعر، حتى إن أبا عمرو بن العلاء يقول: إن الخطيب في الجاهلية كان فوق الشاعر1.

_ 1 170 ج1 البيان والتبيين.

ولا بدع، فنحن نعلم أن العرب كانوا قبائل متناحرة متنازعة، تقتتل لأوهى الأسباب وأتفه الأمور، ومن أبرز شمائلهم: العزة والأنفة, والنفور من العار وحماية الجار والحرص على الأخذ بالثأر, والمباهاة بالعصبية والمفاخرة بالنسب, والتشدق بالبيان. فالخطابة إذًا ضرورة من ضروراتهم وحاجة من حاجاتهم, يتخذونها في السلم أداة للمفاخرة والمنافرة ويصطنعونها في الحرب لتثبيت الجنان وتحميس الجبان، وبعث الحمية في النفوس, وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف. ولهذا علت منزلة الخطيب, وراح الشعراء يفتخرون بالخطابة, ويتغنون بها فيما يتغنون به من المفاخر. وقد زادها رفعة أنها كانت لسان الأشراف والرؤساء والنابهين من القبائل، يفضلونها على الشعر الذي غض منه امتهان الشعراء له بالتكسب والارتزاق. فازدهار الخطابة إذًا في الجاهلية يرجع إلى الحرية التي لا يحدها سلطان ولا تقيدها حكومة، وإلى القتال الدائم بين القبائل وما يتطلبه من تحميس أو حض على ثأر، وإلى حب المفاخرة المتأصل في العرب، وإلى تأصل ملكة البيان فيهم، وقدرتهم على التصرف في وجوه القول وتشقيق الكلام، وإلى ابتذال الشعر آخر الأمر بالتكسب واختصاص الرؤساء والزعماء بها. وهكذا كانت موضوعاتها تدور حول الحث على القتال والأخذ بالثأر، والدعوة إلى الصلح بالتنفير من الحرب وويلاتها، والمفاخرة بالمكارم والعصبيات، والسفارة بين القبائل العربية، أو بينها وبين جيرانها في: التعازي والتهاني والاستنجاد وتأمين السبل وحراسة التجارة. وكان من موضوعاتها خطب النكاح، كما كانت تتناول الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتبشير برسوله كما سنرى في خطب دعاة التوحيد مثل: قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، والمأمور الحارثي. والخطب الجاهلية قصيرة بوجه عام، وفي الغالب؛ ولعل ذلك راجع إلى إيثار الإيجاز ورغبتهم في حفظها وانتشارها. قيل لأبي عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها, فقيل له: وهل كانت توجز؟ فقال: نعم ليحفظ عنها, ولكل مقام.

أما الخطيب فكانوا يشترطون فيه السيادة في القوم، والكرم في الخلق، والعمل بما يقول، ولا بد أن يكون جهير الصوت، رابط الجأش، ثابت الجنان، قوي الحجة، فصيح اللسان، قليل الحركة، حسن السمت، جميل المظهر. وكان من عادته أن يقف على نشز1 مرتفع معتجرا بعمامته، قابضا بيده على سيف أو عصا؛ وذلك كله للتأثير بإظهار الملامح، وإبعاد مدى الصوت. ومنهم من كان يمسك العصا في السلم والقوس في الحرب. ويظهر أنهم كانوا يرتجلون القول ارتجالا, بلا معاناة ولا مكابدة. وإنما يصرفون الهمم إلى الغرض؛ فتأتي المعاني متدفقة، وتنثال الألفاظ انثيالا، كما يقول الجاحظ2. ويشيع في الخطابة الجاهلية السجع، وقصد التجويد والتحبير. والمأثور من خطب الجاهليين قليل, أقل من الشعر المروي عنهم، والسبب في ذلك صعوبة حفظ النثر بعدم تقيده بوزن أو قافية، وسرعة نسيانه، وعدم تدوينه؛ لأميتهم وغير ذلك، مما أدى إلى ضياع الكثير من الخطب, واختلاف الرواية فيما بقي منها بطول العهد وتناقل الرواة. دفاع عن الخطابة الحجازية: يقول الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي: "كان في العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئا ذا غناء، وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص؛ وذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفوا, يغنى بها الأفراد لنفسها، وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة، وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن تدعو إلى خطابة قوية ممتازة، فالحواضر كانت حواضر تجارة ومال واقتصاد, ولم

_ 1 نشز: مرتفع، وهذه العادة في غير الزواج. 2 ويرى بعض الباحثين أن خطباء العرب كانوا يذهبون مذهب أصحاب التجويد والتحبير، وأنهم صاغوها صياغة فنية وهذا بعيد "الفن ومذاهبه في النثر العربي ص12-14, لشوقي ضيف".

يكن للحياة السياسية فيها خطر يذكر, ولم تكن لهم حياة دينية قوية تحتاج إلى إلقاء الخطب كما تعود النصارى والمسلمون. وأهل البادية كانوا في حرب وغزو وخصومات، وهذا يدعو إلى الحوار والجدال لا إلى الخطابة، فالخطابة تحتاج إلى الاستقرار والثبات والاطمئنان إلى الحياة المدنية المعقدة، وأنت لا ترى عند اليونان خطابة أيام الملوك ولا أيام البداوة ولا أيام الطغيان، وإنما الخطابة اليونانية ظاهرة ملازمة للحياة السياسية العامة ولم يعرف الرومان الخطابة أيام البداوة ولا أيام الملوك ولا أيام الجمهورية الأرستقراطية، وإنما عرفوها حين تعقدت حياتهم السياسية وظهرت فيهم الخصومات الحزبية، ولم تظهر الخطابة في أوروبا إلا في العصر الديمقراطي حين نضجت الحياة السياسية واشتركت فيها الشعوب ... فلا تصدق إذًا أنه قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة, إنما استحدثت الخطابة في الإسلام؛ استحدثها النبي والخلفاء، وقويت حين ظهرت الخصومة السياسية الحزبية بين المسلمين"1. ولسنا نوافق الدكتور طه حسين على هذا التهوين من شأن الخطابة الجاهلية: 1- فقد علمنا أن الأمة العربية أمة حربية, توفرت لديها دواعي الخطابة من الأنفة من العار، والأخذ بالثأر، والتفاخر بالأنساب، وكانت لها أيام حربية ووقائع لا تنتهي دعت إليها حياتهم وطبيعة بيئتهم وبداوتهم، وهذه المقامات تستدعي الخطابة وتجعلها قوية مزدهرة. ولقد كانوا يتنازعون السلطة في الرفادة والحجابة وغيرهما. وكان اتصالهم السياسي بالأمم المجاورة كالفرس والروم مدعاة إلى هذه الحروب والأيام المشهورة التي كان صوت الخطابة فيها قويا بجانب الشعر. 2- ومع هذه النهضة السياسية كانوا على جانب من الحضارة اكتسبوه من اليمن وهذه الأمم المجاورة التي اتصلوا بها واشتبكوا معها في الحروب. فقد تهيأ لهم ما ينكره الدكتور طه من الحضارة والتنازع السياسي والديني. 3- على أنه لا يعقل أن تظفر الخطابة، من ضعفها الذي يدعيه، إلى هذه

_ 1 374 الأدب الجاهلي لطه حسين.

القوة العظيمة التي يعترف بها هو في صدر الإسلام، وإلا فكيف تكون شيئا مذكورا من شيء لا غناء فيه؟! 4- ولقد اتفق علماء الأدب الأقدمون على قوة الخطابة الجاهلية وازدهارها. وهذا هو الجاحظ يصف الخطباء الجاهليين وحركاتهم ومواقفهم وأزياءهم ومزاياهم، ويروي في ذلك الكثير من الأشعار التي يستشهد بها, فكيف يشيد الجاحظ وأمثاله بشيء لا غناء فيه؟! كل ذلك يدلنا على أن الخطابة بلغت من الرقي مبلغا عظيما قبل الإسلام، وخاصة في الحجاز. خصائص الخطابة الحجازية: تمتاز الخطابة الحجازية بأن ألفاظها كانت تأتي كثيرا سهلة جميلة واضحة, كما ترى في خطب أبي طالب وما شابهها. ولم يكن الجاهليون يتأنقون في اختيار اللفظ ذي النغمة المتشابهة أو الجرس المتآلف، وكانوا لا يقصدون إلى المحسنات البديعية أو يتعمدونها، ويقل الترادف في نثرهم؛ إذ كانوا يؤثرون الإيجاز في كلامهم. وتمتاز هذه الخطب أيضا بوضوح المعاني وقربها وصدقها، كما رأينا؛ لأنها تمثل حياتهم البسيطة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا التواء، فهم لا يبالغون ولا يهولون، وإنما يعبرون عما يشعرون به في بساطة ودون تكلف، فمتى فهم اللفظ اتضح معناه دون معاناة في فهمه. ويغلب على الخطب الحجازية السجع كما في خطب هاشم وعبد المطلب, وأحيانا تجيء مرسلة أو مترددة بين الإرسال والازدواج أو السجع كما ترى في خطبة أبي طالب: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ... إلخ". ويشيع في النثر الحجازي بألوانه قصر الجمل، والإيجاز، وإيثار الكتابة الغريبة على التصريح، وتكثر فيه الحكم والأمثال كما رأينا في معظمها، وقد تأتي الخطبة كلها حكما وأمثالا.

ونلاحظ على الخطب الحجازية الجاهلية ضعف الربط وعدم التماسك بين الجمل، وعدم وحدة الموضوع في بعض الأحيان كما كان أيضا في الوصايا؛ ولعل ذلك راجع إلى الارتجال الذي تقسم به حياتهم، وإلى كثرة الحكم والأمثال التي تشيع في خطبهم، والتي لا يمكن الربط بينها، فإننا لو قدمنا بعضها وأخرنا البعض لم يختل المعنى ولا نظام الخطبة. وأخيرا, تتسم الخطب الحجازية الجاهلية بقوة التأثير وحرارة العاطفة, وبالإشراق والبيان والعذوبة والبلاغة والحكمة، وبالحض على الخير, وعلى عمل المعروف. أشهر الخطباء الحجازيين في العصر الجاهلي: 1- كعب بن لؤي القرشي 1: من أجداد رسول الله -صلوات الله عليه- وأحد خطباء العرب المشهورين، وكان أبوه لؤي كذلك من خطباء العرب2، وكعب في الذروة من المجد والسيادة في قريش ومكة والحجاز، بل والعرب عامة، وكان على الحنيفية البيضاء دين إبراهيم وإسماعيل. وكانت قريش تجتمع عليه كل جمعة، فيخطبهم خطبة، يأمرهم فيها بالإطاعة والفهم والتعلم والتفكر في خلق السموات والأرض، والاعتبار بأحداث التاريخ وعظاته، ويحضهم على صلة الرحم، وإفشاء السلام، وحفظ العهد، والتصدق على الفقراء والأيتام، ويذكرهم بالموت واليوم الموعود، ويبشرهم بمبعث رسول قد قرب زمانه، وأنه سيكون من ولده، ويحثهم على اتباعه إن أدركوه، وأنه يخرج من بيت الله الحرام، ويقول الجاحظ فيه: كان يخطب

_ 1 راجع 281/ 2 بلوغ الأرب، الروض الأنف، الطبري، الكامل لابن الأثير, 211/ 1 صبح الأعشى، البيان والتبيين للجاحظ 226/ 1. 2 الروض الأنف, 23/ 1 البيان والتبيين للجاحظ.

العرب عامة، ويحض كنانة خاصة على البر، فلما مات أكبروا وفاته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموته إلى عام الفيل1. 2- هاشم بن عبد مناف القرشي: سيد قريش والحجاز والعرب عامة، ملك بعد أبيه الرفادة والسقاية وصارت له السيادة على مكة، وكان يحمل ابن السبيل، ويؤدي الحقوق، وضرب بسخائه المثل، وهو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكان يصنع الطعام لحجاج بيت الله، ويسمى ذلك "الرفادة". ويروى أنه كان إذا أهلّ هلال ذي الحجة، قام في الصباح فأسند ظهره إلى الكعبة وخطب العرب وقريشا. ومن خطبه هذه الخطبة الشريفة: يا معشر قريش: إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما، وأوسط العرب أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما2. يا معشر قريش: إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته، فهم أضيافه، وأحق من أكرم أضياف الله أنتم، فأكرموا ضيفه وزواره؛ فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر3 كالقداح، فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فورب هذه البنية4 لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله

_ 1 266/ 1 البيان والتبيين. 2 221/ 1 بلوغ الأرب، الروض الأنف، الطبري، ابن الأثير، 458/ 2 ابن أبي الحديد، شفاء الغرام للفاسي. 3 جمع ضامر: الجمل المهزول. 4 الكعبة.

لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا. فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم، فيضعونه في دار الندوة. 3- عبد المطلب بن هاشم القرشي: جد الرسول، ومن حكام قريش وأشرافها وسادتها، وكان يسمى "شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له؛ إذ كان مفزع قريش في الخطوب، وملاذها في النائبات، وملجأها في المعضلات، وكان كذلك يدعى "الفياض" لجوده. وكان من حلماء قريش وحكمائهم وفصحائهم وخطبائهم، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، وكان يتلألأ النور في وجهه، وتلوح سمات الخير والمجد والسيادة في أساريره، وكان يأمر ولده بترك البغي والظلم، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن سفاسف الأمور، وكان يقول في وصاياه: من يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة، وكان يقول: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته. وكان مجاب الدعاء، وهو أول من تعبَّد بحراء، وكان يعبد الله على الحنيفية، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت قريش تستسقي به عندما يصيب الناس قحط، وكان إذا رأى هلال رمضان صعد إلى حراء يُطعِم المساكين. وقد ورث عبد المطلب السقاية والرفادة والرياسة عن أبيه، وعقد المعاهدات مع ملوك الشام وأقيال حمير باليمن وصارت رحلته إليهما، وهو الذي حفر بئر زمزم، ووضع الحجر في الركن. وكان مهيب الجانب، مرهوب الكلمة، سيدا عظيم القدر، مطاع الأمر، نجيب النسل، مر به أعرابي وهو جالس في الحجر، وأبناؤه حوله كالأسد، فقال: إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، فأنشأ الله تعالى لهم بالنبوة دولة عرضها المشرق والمغرب. وقد رفض عبد المطلب عبادة الأصنام، ووحَّد الله، وأوصى بالوفاء بالنذر

ونهى عن نكاح المحارم، وقطع يد السارق، ونهى عن قتل الموءودة، وحرم الخمر والزنا، ونهى أن يطوف إنسان بالبيت وهو عريان. ومن خطبه خطبته عند سيف بن ذي يزن؛ روي أنه لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وأجلاهم عن اليمن أتته وفود العرب للتهنئة، وكان فيهم وفد من قريش، وسيدهم هو عبد المطلب بن هاشم, فلما مثلوا بين يديه قال عبد المطلب: إن الله تعالى -أيها الملك- أحلَّك محلا رفيعا، صعبا منيعا، باذخا شامخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزت جرثومته، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت -أبيت اللعن- رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن -أيها الملك- أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. 4- أبو طالب بن هاشم بن عبد مناف 1: عم الرسول وكافله بعد عبد المطلب، وراعيه وحاميه، ولد قبل مولد الرسول بخمس وثلاثين سنة، وتوفي في النصف من شوال في السنة العاشرة من البعثة, عن أكثر من خمس وثمانين سنة. وكان من حكام قريش، ونصر رسول الله وآزره حين قام بالدعوة، وهو الذي مزَّق صحيفة قريش التي علقوها على الكعبة بمقاطعة بني هاشم، فزادهم ذلك بغيا وعدوانا، فقال أبو طالب: يا معشر قريش, علام نحصر ونحبس، وقد بان الأمر، وتبين أنكم أهل الظلم والقطيعة؟! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة وهو يقول: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا.

_ 1 324/ 1 بلوغ الأرب -الطبري- ابن الأثير، ابن أبي الحديد, الجزء الثالث 212 صبح الأعشى.

ولما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش وأوصاهم باتباع محمد، وستأتي هذه الوصية فيما بعد، وله خطبة مأثورة رُويت له عند خطبته خديجة لابن أخيه محمد بن عبد الله. خطباء مشهورون: ومن خطباء العرب عامة ومشهوريهم: قس، وأكثم, وكان قس يقيم في الحجاز وكان أكثم يتردد كثيرا عليه. 1- أما قس بن ساعدة الإيادي: فقد كان من حكماء العرب, وأعقل من سمع به منهم، وأول من كتب: من فلان إلى فلان، وأول من أقر بالبعث عن غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد عمر ثمانين ومائة سنة1، ولما قدم وفد إياد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وفرغ من حوائجهم قال: "هل فيكم من يعرف قس بن ساعدة"؟ قالوا: كلنا نعرفه، قال: "فما فعل"؟ قالوا: هلك, فقال: "كأني به على جمل أحمر قائما يقول: أيها الناس، اجتمعوا واستمعوا وعوا، كان من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة تروج، وليل داجٍ، وسماء ذات أبراج، أقسم قس حقا: لئن كان في الأرض رضا، ليكونن بعد سخط، وإن لله -عزت قدرته- دينا، هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟! ". ثم ساق أبو بكر -رضي الله عنه- شعره في هذه الخطبة، وهو مشهور،

_ 1 وقال المرزباني: زعم كثير من العلماء أنه عمر ستمائة, وكان حكيما عاقلا حليما، له نباهة وفضل, وقد ضرب به المثل في الحلم والخطابة, قال الحطيئة: وأقول من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مس النفوس نكالها وراجع الكلام على قس وبلاغته في "بلوغ الأرب" ص155/ 3, و224/ 2.

وقد رويت هذه الخطبة بروايات أخرى في صبح الأعشى، والبيان والتبيين، والأغاني, وغيرها، وفي بعض هذه الروايات: أن الرسول سأل: "من يحفظها منكم؟ " فرواها بعضهم له. 2- وأما أكثم بن صيفي التميمي: فهو وإن كان ليس من القبائل الحجازية، لكنه تردد على الحجاز كما استفاضت الروايات بذلك، وطارت شهرته وصار يعد حكيم العرب عامة كما كان من أبلغ حكماء العرب، وأعرفها بأنسابها، وأكثرها ضرب أمثال، وإصابة رأي، وقوة حجة، وكان خطيبا مفوَّها، وحَكَما موفقا، رفيع المكانة في قومه، يعد من أشرافهم ومن كبار المحكمين فيهم، وقلّ من جاراه من خطباء عصره في معرفة الأنساب، وضرب الأمثال، والاهتداء لحل المشكلات, والسداد في الرأي, وهو زعيم الخطباء المصاقع1 الذين أوفدهم النعمان على كسرى وكلهم خطباء بلغاء، ولسن مقاول، ولقد بلغ من إعجاب كسرى به أنه قال له: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. وقد عاش في الجاهلية, وعمر طويلا حتى أدرك مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمع قومه وحثّهم على الإيمان به. وكان قليل المجاز, حسن الإيجاز، حلو الألفاظ, دقيق المعاني، مولعا بالأمثال، لا يلتزم السجع، يميل إلى الإقناع بالبرهان، ويعتمد في خطابته على قوة تأثيره وشدة عارضته2 لا على المبالغة والتهويل, فهو في وصاياه وخطبه وحكمه قوي الأسلوب, بليغ الأداء, عميق الفكرة, دقيق المعنى, مشرق الديباجة, محكم النسج. ومن صور خطابته ما يروى عنه أنه قال من خطبته أمام كسرى: إن أفضل الأشياء أعاليها, وأعلى الرجال ملوكهم, وأفضل الملوك أعمها نفعا،

_ 1 المصاقع جمع: مصقع وهو البليغ أو العالي الصوت أو الذي لا يرتج عليه في كلامه ولا يتعتع. 2 العارضة: البيان واللسن والجلد والصرامة والقدرة على الكلام.

وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة, والكذب مهواة, والشر لجاجة1، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء2. آفة الرأي الهوى, والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، وحسن الظن ورطة3، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاصّ4 بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها، وشر الملوك من خافه البريء. الصمت حكم5 وقليل فاعله. ومن وصية لأكثم بن صيفي: تباروا فإن البر يبقى عليه العدد، وكفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه. إن قول الحق لم يدع لي صديقا، الصدق منجاة، لا ينفع التوقي مما هو واقع، في طلب المعالي يكون العناء، الاقتصاد في السعي أبقى للجمام، أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أمر من جاهله، يتشابه الأمر إذا أقبل، وإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق، البطر عند الرخاء حمق، والعجز عند البلاء أمن، لا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير، لا تجيبوا فيما لا تسألون عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، حيلة من لا حيلة له الصبر، إن تعش تر ما لم تره، المكثار كحاطب ليل، من أكثر أسقط، لا تجعلوا سرا إلى أمة6. وعزى أكثم ملك العرب عمرو بن هند عن أخيه فقال: أيها الملك، إن أهل هذه الدار سفر، لا يحلون عقد الترحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك

_ 1 اللجاجة: التمادي في الخصومة والنزاع والنقاش. 2 سهل. 3 الورطة: الهلكة، وكل أمر تَعَسَّر النجاة منه. 4 الشارق بالماء. 5 الحكم: الحكمة، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} والمعنى: الصمت حكمة, وقل من يفعله. 6 2/ 135 مجمع الأمثال.

ويدعك، إن الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد وعدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمه، واليوم غنيمة وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته، وغد لا تدري من أهله؟ وسيأتيك إن وجدك، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر، وقد مضت أصول نحن فروعها, فما بقاء الفروع بعد أصولها! وقد أدرك أكثم بعثة الرسول، وبعث ابنه حبيشا ليأتيه بخبره، فلما رجع جمعهم وخطبهم قائلا, كما في الجزء الثاني من مجمع الأمثال1: يا بني تميم، لا تحضروني سفيها، فإنه من يسمع يخل2، إن السفيه يوهن من فوقه، ويثبط من دونه، لا خير فيمن لا عقل له، كبرت سني، ودخلتني ذلة، فإذا رأيتم مني حسنا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم، إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة، وأتاني بخبره وكتابه، يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأوثان، وترك الحلف بالنيران، وقد عرف ذَوُو الرأي منكم أن الفضل فيما يدعو إليه، وأن الرأي ترك ما ينهى عنه. إن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقا فهو لكم دون الناس، وإن

_ 1 رواها أبو هلال العسكري في ديوان المعاني برواية أخرى جـ2 صـ247، وزاد أنه خرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فمات عطشا، وأوصى من معه باتباع النبي وأشهدهم على إسلامه ونزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. ومن عجب أن نرى أكثر الحكم العربية منسوبة إليه، وأن تكون خطبه ووصاياه كلها حكما, وقد أتينا على بعضها، وتركنا كثيرا منها لطوله. وفي الميدان جـ1 صـ78 وصية جمعت خمسة وثلاثين مثلا، وفي صفحة 210 جـ1 من أمثال العسكري الحكم التي بعث بها إلى النعمان بن حميصة البارقي في كتاب وهي تعد بالعشرات. وفي صـ103 جـ1 من أمثال العسكري خطبة أخرى له جمعت حكما كثيرة. والنسخة التي نعنيها هي طبع المطبعة الخيرية سنة 1910هـ. 2 قال أبو هلال العسكري: من يسمع الشيء ربما ظن صحته، وقيل: من يسمع أخبار الناس ومعايبهم يقع في نفسه المكروه عليهم، أي: إن مجانبة الناس أسلم.

يكن باطلا، كنتم أحق الناس بالكف عنه، وبالستر عليه، وقد كان أسقف1 نجران يحدث بصفته، وكان سفيان بن مجاشع يحدث به قبله، وسمى ابنه محمدا، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا آخرا، ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين, إن الذي يدعو إليه محمد، لو لم يكن دينا، كان في أخلاق الناس حسنا، أطيعوني واتبعوا أمري، أسأل لكم أشياء لا تنزع منكم أبدا، وأصبحتم أعز حي في العرب، وأكثرهم عددا، وأوسعهم دارا، فإني أرى أمرا لا يجتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عز. إن الأول لم يدع للآخر شيئا, وهذا له ما بعده، من سبق إليه غمر2 المعالي، واقتدى به التالي، والعزيمة حزم، والاختلاف عجز. فقال مالك بن نويرة3: قد خرف شيخكم، فقال أكثم: ويل للشجي من الخلي "انظر في ضبط الكلمتين وتصريفهما التاج وأمثال أبي هلال" والهفي على أمر لم أشهده، ولم يسعني! مجمع الأمثال 2/ 217. وأوصى أكثم بن صيفي قومه, فقال: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي، إن بين حيزومي4 وصدري لكلاما، لا أجد له إلا أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب داعية، تحمدوا مغبته. الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، والنفس مهملة، والروية5 مقيدة، وإن جهل التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشدا، والمستبد برأيه موقوف على مداحض6 الزلل،

_ 1 لقب ديني لمن فوق القس ودون المطران, كلمة يونانية. 2 غمر: غطى. 3 شاعر فارسي ولاه النبي صدقات قومه، فلما توفي الرسول فرقها فيهم، وقتل بأمر خالد بن الوليد، ولامه أبو بكر وعمر. انظر معجم الشعراء. 4 ضلع القلب، أو ما اكتتف الحلقوم من جانب للصدر. 5 الروية: اسم مصدر من رَوَّى في الأمر بتشديد الواو: فَكَّر. 6 جمع مدحض: مزلق، وفعله كخضع.

ومن سمع1 سمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا مقاتل2 الكرام, وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد3 أمن العثار, ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه, ويشغل فكره، ويؤرث4 غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه. يا بني تميم، الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف5 للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت، فهي أسد محرب6, أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب7. الوصايا: الوصايا جمع وصية, والوصية ما توجهه إلى إنسان أثير لديك من ثمرة تجربة وحكمة أو إرشاد وتوجيه, فهي بمعنى النصيحة. والوصية لون من ألوان الخطابة, قاصر على الأهل والأقارب والأصدقاء، والفرق بينهما أن الوصية تكون من المرأة لابنتها، ومن الرجل لقومه أو أبنائه عند الارتحال أو الشعور بدنوّ الأجل أو نحو ذلك. والخطابة تكون في المشاهد والمجامع العامة والحروب والمعارك وفي المفاخرة والمنافرة، وفي الوفادة على ملك أو أمير، وفي المواسم والحوادث الجِسَام.

_ 1 شنع. 2 الظاهر أنه جمع مقتل. 3 الأرض المستوية. 4 يوقد. 5 انتصب هدفا. 6 حرب كفرح: كلب واشتدَّ غضبه، ومحرب: مغضب. 7 مجمع الأمثال, وهي بروايات أخرى في جمهرة الأمثال 2/ 212.

والوصايا كثيرة في النثر الجاهلي وخاصة الحجازي. وتمتاز بجمالها وتناسب جملها وأساليبها, وبرقتها وروعتها, وما يشيع فيها من حكمة، وصدق تعبير، ونفاذ فكر، وبعد نظر؛ لأنها لا تصدر إلا من حكيم مجرب، أو كبير عرك الحياة وعركته الحياة. وربما كانت الوصية في الأدب الحجازي مزيجا من الشعر والنثر كما في وصية ذي الإصبع العدواني التي سنذكرها فيما بعد. وإليك طائفة من وصايا الحجازيين في الجاهلية: 1- وصية أبي طالب لقريش, حين حضرته الوفاة: يا معشر قريش: أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، الواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم إلب1، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش، وثباتا للوطء, صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأة2 في الأجل، وزيادة في العدد، اتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة؛ فإن فيهما محبة في الخاص، ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان3, وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا

_ 1 واحد, يجتمعون عليه بالظلم والعدوان. 2 أي: فسحة. 3 القلب.

أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له بلادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش: كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه أحد إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهي1. 2- وصية ذي الإصبع العدواني: لما احتضر ذو الإصبع، دعا ابنه أسيدا فقال له: يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: الي جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتم سؤددك، ثم أنشأ يقول: أأسيد إن مالا ملكـ ... ـت فسر به سيرا جميلا آخ الكرام إن استطعـ ... ـت إلى إخائهم سبيلا واشرب بكأسهم وإن ... شربوا به السم الثميلا أهن اللئام ولا تكن ... لإخائهم جملا ذلولا إن الكرام إذا تؤا ... خيهم وجدت لهم فضولا ودع الذي يعد العشير ... ة أن يسيل ولن يسيلا ابني إن المال لا ... يبكي إذا فقد البخيلا أأسيد إن أزمعت من ... بلد إلى بلد رحيلا

_ 1 327 جـ بلوغ الأرب طبعة 1924.

فاحفظ وإن شحط المزا ... ر أخا أخيك أو الزميلا واركب بنفسك إن هممـ ... ـت بها الحزونة والسهولا وصل الكرام وكن لمن ... ترجو مودته وصولا1 ومن أمثلة الوصايا الحجازية: وصية أوس بن حارثة لابنه مالك، وقد رواها صاحب الأمالي، وهي مشهورة2.

_ 1 الأغاني, دار الكتب ص99, 100 ج3. 2 102/ 1 الأمالي لأبي علي القالي, طبعة دار الكتب.

الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان المحاورة هي التحاور والتراجع في الكلام والحديث, وهي من ضرورات الاجتماع والحياة. وكان العرب كثيري المحاورة؛ لكثرة خصوماتهم ومفاخراتهم وتنازعهم على الشرف وما سواه. وتشمل المحاورات: المنافرة، والمفاخرة، ونحوهما من الجدال في مختلف شئون الحياة والمعرفة. فالمفاخرة مصدر: فاخر, وهي تفاخر القوم بعضهم على بعض، وكانوا يفاخرون بالحسب والشرف والأخلاق الكريمة والعزة والثروة وكثرة العدد. والمنافرة هي المحاكمة في المفاخرة, وأصلها من قولهم: أينا أعز نفرا، فهي التحاكم إلى المحكمين؛ ليفصلوا بينهم، ويقضوا بالشرف لأحدهم. ومن أمثلة المحاورة: ما جرى بين هند وأبيها عتبة بن ربيعة في زواجها قبل أن يزوجها من أبي سفيان بن حرب1. ومن أمثلة المحاورات كذلك: محاورة عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع, وكذلك قول ضمرة بن ضمرة المشهور بالمعيدي للنعمان، جوابا على قوله له: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه": مهلا أيها الملك، إن الرجال لا يكالون بالصيعان وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان، فقال: صدقت لله درك!! هل لك علم بالأمور والولوج فيها؟ قال: والله إني لأبرم منها

_ 1 راجع 104/ 2 أمالي القالي.

المسحول1، وأنقض منها المفتول، وأحيلها حتى تحول، وليس للأمور بصاحب، من لم ينظر في العواقب، قال: صدقت، لله درك!! فأخبرني: ما العجز الظاهر، والفقر الحاضر، والداء العياء2، والسوءة السوءاء؟ قال: أما العجز الظاهر، فالشاب القليل الحيلة، الملازم للحليلة، الذي يحوم حولها، ويسمع قولها، إن غضبت ترضَّاها، وإن رضيت تفدَّاها. وأما الفقر الحاضر, فالمرء لا تشبع نفسه، وإن كان من ذهب حلسه. وأما الداء العياء، فجار السوء إن كان فوقك قهرك، وإن كان دونك همزك، وإن أعطيته كفرك، وإن منعته شتمك، فإذا كان ذلك جارك، فأخلِ له دارك، وعجل منه فرارك، وإلا فأقم بذل وصغار، وكن ككلب هرار. وأما السوءة، فالحيلة الصخابة3, الخفيفة الوثابة، السليطة4 العيابة، التي تعجب من غير عجب، وتغضب من غير غضب، الظاهر عيبها، المخوف غيبها، فزوجها لا يصلح له حال، ولا ينعم له بال، إن كان غنيا لا ينفعه غناء، وإن كان فقيرا أبدت له قلاه، فأراح الله منها بعلها، ولا متع الله بها أهلها. ومن أمثلة المفاخرة: ما وقع -على ما قيل- من بعض سادة العرب بين يدي كسرى، وقد قال لهم: ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه، وليصدقن، وكان حذيفة بن بدر أول متكلم، فقال: قد علمت العرب أن فينا الشرف الأقدم، والعز الأعظم, ومآثر للصنيع الأكرم. فقال من حوله: ولم ذاك يا أخا فزارة؟ قال: ألسنا الدعائم التي لا ترام، والعز الذي لا يضام؟ قيل له: صدقت. ثم قام الأشعث بن قيس، فقال: "لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكبر، وزحفها الأكبر, وأنا غياث اللزبات5. فقالوا: لم يا أخا كندة؟ قال: لأنا ورثنا ملك كندة, فاستظللنا بأفيائه، وتقلدنا منكبه الأعظم، وتوسطنا بحبوحه6 الأكرم".

_ 1 المفتول على طاقة واحدة. 2 الذي لا يرجى برؤه. 3 كثير اللغط والجلبة. 4 البذيئة. 5 اللزبات بسكون الزاي: جمع لزبة, وهي الشدة. 6 بحبوحة الدار بضم الباء: وسطها, وبحبوحة العيش: رغده وخياره.

ثم قام بسطام بن قيس، فقال: "قد علمت العرب أنا بناة بيتها الذي لا يزول، ومغرس عزها الذي لا يحول. قالوا: ولم يا أخا شيبان؟ قال: لأنا أدركهم للثار، وأضربهم للملك الجبار، وأقولهم للحق، وألدهم للخصم. ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، فقال: قد علمت العرب أنا فرع دعامتها وقادة زحفها. قالوا: ولم ذاك يا أخا بني تميم؟ قال: لأنا أكثر الناس عديدا، وأنجبهم طرا وليدا، وأعطاهم للجزيل، وأحملهم للثقيل". ثم قام قيس بن عاصم، وقال: "لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم، وأثبتهم في النائبات مقادم1. قالوا: ولم ذاك يا أخا بني سعد؟ قال: لأنا أدركهم للثار، وأمنعهم للجار، وأنا لا ننكل إذا حملنا، ولا نرام إذا حللنا". يروى أن الأوس والخزرج تفاخرتا؛ فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة، حنظلة بن الراهب، ولنا عاصم بن الأفلح الذي حمت لحمه الدبر، ومنا ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت، ومنا الذي اهتز لموته العرش سعد بن معاذ. فقالت الخزرج: منا أربعة قرءوا القرآن على عهد رسول الله, لم يقرأه غيرهم: زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبي بن جبل، وأبي بن كعب، ومنا الذي أيده الله بروح القدس في شعره, حسان بن ثابت2. ومن أمثلة المنافرات، وأشهرها: منافرة3 عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين, وقد تنازعا الرياسة، ومنافرة هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس.

_ 1 مقادم: جمع مقدام ومقدامة وهو الشجاع. 2 187 بلوغ الأرب. 3 راجعها في 188/ 1 بلوغ الأرب.

منافرة هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس: لما تولى هاشم أمر مكة بعد أبيه، وساد قومه بما كان عليه من محاسن الأخلاق، وجليل الشيم، وكمال الشجاعة، وروعة الكلام، وغاية الفصاحة، وسوى ذلك من المآثر والمفاخر الجليلة، حسده ابن أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ عجزا عن اللحاق به وعن مباراته في صنيعه وفي شيمه، ونشبت العداوة بين أمية وهاشم وأراد منافرته، فكره ذلك هاشم لنسبه وقدره، فلم تدعه في قريش حتى نافره إلى الكاهن الخزاعي في خمس نوق سود الحدق ينحرها ببطن مكة, والجلاء عن مكة عشر سنين، فخرج كل منهما في نفر، ونزلوا على الكاهن، فقال قبل أن يخبروه خبرهم: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر. فنفر الخزاعي هاشما، وقال لأمية: تنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأحسن منك وسامة، وأقل منك لأمة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا؟! فقال أمية: من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضرها, وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين. ومنافرة قريش وخزاعة إلى هاشم وخطبة هاشم في هذا1، وكذلك منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين، مشهورتان في كتب الأدب. سجع الكهان: وينبغي أن نشير إلى لون آخر من ألوان النثر الجاهلي، ونعني به ذلك السجع الذي كان الكهان يلتزمونه، ويحتشدون له، ويؤثرونه على كل أسلوب، ويتكلفون فيه؛ للتأثير على الناس، وللتعمية في الجواب. والكهانة هي الإخبار عن الأمور المغيبة ماضية كانت أو مستقبلة, وكان

_ 1 راجع 332 جـ1 بلوغ الأرب.

في العرب كهان، لهم فيهم اعتقاد ... ومن أشهرهم: سطيح، وشق, وطريفة الخير، وفاطمة الخثعمية1. وكان العرب يفزعون إلى كهانهم في كل ما يطرأ عليهم من أمر، أو يستعصي عليهم من مشكلات وأزمات وشدائد، ويستطبونهم في الأدواء. وكانت الكهانة منتشرة في الجاهلية قبيل البعثة, وتدور غالبا حول التبشير بنبي يبعث، وتفسير الرؤى، ومعرفة ما أشكل من الأمور أو خفي من الحوادث. والكهانة الصادقة على أي حال نوع من الفراسة والإلهام وصدق الحس وصفاء الروح, وكثيرا ما نرى ذلك حتى اليوم. ويقول الجاحظ: "كان كهان العرب يتحاكم إليهم أكثر الجاهلية، وكانوا يدعون الكهانة, وإن مع كل واحد منهم رئيا من الجن"2. وكان كلام هؤلاء الكهان في تنبؤاتهم يدور حول ما يستفتون فيه من مسائل ومشكلات. وكان هذا الكلام كله مسجوعا, وكان الكهان يعتمدون فيه على الإغراب للتعمية في الجواب. ومهما يكن من شيء, فإن حرفة الكهانة في ذلك العصر قد أثمرت ضربا طريفا من الخطابة, كان يتكئ على السجع والتوقيع؛ كما كانت تكثر فيه الأقسام، والألفاظ الغريبة، ويتسم بقصر الجمل غالبا. وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن سجع الكهان؛ وذلك لمكانه من التكلف والإغراب والغموض، وبعده عن الصدق, وادعائه المشاركة في علم الغيب. ومن الكواهن والكاهنات: زبراء، وشق أنمار، وسطيح الذهبي. وفي كتب الأدب صور كثيرة للكهانة تدل على حذق الكهان وبراعتهم

_ 1 كانت فاطمة بمكة, ولها قصة مع عبد الله والد الرسول -صلوات الله عليه- قبل زواجه بآمنة. 2 195جـ1 البيان والتبيين.

في معرفة طوايا النفوس والكشف عن خبايا الأمور، ومن ذلك ما يرويه صاحب الأغاني: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش, وكان له بيت للضيافة بارز يغشاه الناس من غير إذن, فخلا البيت ذات يوم فاضطجع هو وهند فيه, ثم نهض لبعض حاجته، فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت, فولجه. فلما رآها رجع هاربا، وأبصره الفاكه، فأقبل إليها فضربها برجله، وقال: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أهنتني، فقال لها: ارجعي إلى أمك. وتكلم الناس فيها, وقال لها أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك, فإن يكن الرجل صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك المقالة له، وإن يكن كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فقالت: لا والله ما هو بصادق، فقال له: يا فاكه، إنك قد رميت بنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض الكهان. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من عبد مناف، ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد, وقالوا: غدا نرد على الرجل، تنكرت حال هند. فقال لها عتبة: إني أرى ما حل بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك. قالت: ولا والله يا أبتاه, ما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب, ولا آمن أن يسمني ميسما يكون عليَّ مسبة، فقال لها: إني سوف أختبره لك, ثم أدخل في إحليل فرسه حبة بر، وأوكأ عليها بسير. فلما قدموا على الرجل أكرمهم ونحر لهم، وقال له عتبة: جئناك في أمر، وقد خبأت لك خبئا أختبرك به، وانظر ما هو؟ قال: ثمرة في كمرة. قال: أوضح، قال: حبة بر في إحليل مهر، قال: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن، فيضرب بيده على كتفها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند، فقال لها: انهضي غير رسحاء1 ولا زانية، وستلدين ملكا يقال له: معاوية، فنهض إليها الفاكه، فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده، وقالت: إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان".

_ 1 الرسحاء: قليلة لحم العجز والفخذين.

الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر

الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر: الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي الفصل الأول: نماذج هذا الشعر 1- كانت قريش قد تحالفت على بني هاشم؛ لحمايتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أبو طالب بن عبد المطلب يذكر تلك المحالفة, ويرد عليها: فلما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرا والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل1 صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول2 وأحضرت عند البيت أهلي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل3 قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدي حيث يقضي حلفه كل نافل4

_ 1 المزايل: المفارق. 2 سمحة أي: لينة يريد بها الرمح، والعضب: القاطع يريد به السيف، والمقاول: ملوك اليمن. 3 الوصائل: جمع وصيلة وهي حبرات اليمن، وكانت تكسى بها الكعبة، وأول من كساها بها تبع أبو اليمن، والمراد بإمساك الوصائل: إمضاء العهد على المقاومة. 4 الرتاج: الباب العظيم، والنافل: المقطوع.

أعوذ برب الناس من كل طاعة ... علينا بسوء أو مُلِحّ بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول1 وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل وليلة جمع2 والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل؟ فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل يطاع بنا أمر العدا! ودَّ أننا ... يسد بنا أبواب ترك وكابل كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم في بلابل3 كذبتم وبيت الله يبزى4 محمد ... ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم بالحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل5 وينهض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل6 يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل7

_ 1 الكاشح: الذي يضمر العداوة. 2 جمع: هي المزدلفة، يجتمع فيها الناس قبل نزولهم منى. 3 نترك مكة أي: لا نتركها, والبلابل جمع بلبلة -بفتح الباءين- وهي الهم والوسواس. 4 يبزى أي: يقهر ويستذل، وهو من حذف حرف النفي. 5 الروايا جمع راوية، وهي الناقة التي تحمل الماء، وذات الصلاصل: بقية الماء في الروايا, القِرَب. 6 هذا وصف لرسول الله, صلى الله عليه وسلم. الثمال: المجا والغياث. 7 الحدب: العطف والإشفاق. ذروة الناقة: أعلى سنامها. كلكلها: ما بين محزمها إلى ما مس الأرض منها.

2- وكان بين بني النجار وبين خطمة منازعة في حليف لبني النجار من عبس بن بغيض, فالتقوا يوما بالدرك وجمع بعضهم لبعض حتى نال بعضهم بعضا بالجراح, ولم يكن بينهم قتلى ومنعت بنو النجار حليفها, فقال حسان بن ثابت قبل الإسلام في ذلك: ففدًى أمي لعوف كلها ... وبني الأبيض في يوم الدرك منعوا ضيمي بضرب صائب ... تحت أطراف السرابيل هتك وبنان نادر أطرافها ... وعراقيب تقسا كالفلك1 فأجابه يزيد بن طعيمة الخطمة: إذ تنادوا يا لعوف اركبوا ... ليس ستين قوي وركك فاجتمعنا ففضنا جمعهم ... بالصعيداء وفي يوم الدرك قذفوا سيدهم في ورطة ... قذفك المقلة شطر المعترك2 أبلغا عوفا بأنا معقل ... نمنع الضيم، وفرع مشتبك وإذا ما ملك حاربنا ... ضمن الخوف لنا قلب الملك3 3- وقال حسان في الجاهلية: ما هاج حسان رسوم المقام ... ومظعن الحي ومبنى الخيام والنؤي قد هدم أعضاده ... تقادم العهد بواد تهام

_ 1 تحت أطراف السرابيل هي الدروع, وفي التنزيل: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي: الدروع. وهتك أي: قطع وخرق صفة للضرب الصائب. والضيم: الذل. وبنان متعلق بمنعوا أيضا أي: منعوا ضيمي بضرب صائب وببنان ... إلخ. وتقسا: تشتدّ. 2 ركك جمع ركيك, وهو من الرجال الفسل الضعيف في عقله ورأيه. والصعيداء تصغير صعيد: الموضع العريض الواسع. والورطة: الشدة التي يقع فيها الإنسان. 3 فرع مشتبك, يكنى بذلك عن لحمة النسب بينهم. وضمن الخوف ... إلخ, أي: فزع منا الملك, فلم يقو على محاربتنا.

قد أدرك الواشون ما حاولوا ... فالحبل من شعثاء رث الزمام جنية أرقني طيفها ... تذهب صبحا وترى في المنام هل هي إلا ظبية مطفل ... مألفها السدر ينعفي برام تزجي غزالا فاترا طرفه ... مقارب الخطو ضعيف البغام1 كأن فاها قهوة مزة ... حديثة العهد بفض الختام2 شجت بصهباء لها سورة ... من بيت رأس عنقت في الخيام عتقها الحانوت دهرا فقد ... مر عليها فرط عام فعام نشربها صرفا وممزوجة ... ثم نغني في بيوت الرخام تدب في الجسم دبيبا كما ... دب دبى وسط رقاق هيام3 كأسا إذا ما الشيخ والى بها ... خمسا تردى برداء الغلام من خمر بيسان تخيرتها ... ترياقة تسرع فتر العظام يسعى بها أحمر ذو برنس ... مختلق الذفرى شديد الحزام أروع للدعوة مستعجل ... لم يثنه الشأن خفيف القيام4 دع ذكرها وانم إلى جسرة ... جلدية ذات مراح عقام

_ 1 النؤي هو الحفير حول الخيام, يدفع عنها السيل يمينا وشمالا ويبعده، وأعضاده: نواحيه، ورث الزمام أي: بالٍ خلق. جنية: إنما أراد امرأة كالجنية إما في جمالها وإما في تلونها وابتذالها, ولا تكون الجنية هنا منسوبة إلى الجن الذي هو خلاف الإنس حقيقة. ومطفل أي: صاحبه أولاد. والنعف من الرملة: مقدمها وما استرق منها. وبرام: اسم موضع. وتزجي غزالا ضعيف البغام أي: تسوق غزالا صغيرا صوته ضعيف. 2 مزة: هي الخمر التي فيها مزازة, وهو طعم بين الحلاوة والحموضة. 3 كما دب دبى: هو أصغر ما يكون من الجراد والنمل. والرقاق: الأرض من غير رمل. وهيام صفة أي: ذات تراب يخالطه رمل, ينشف الماء نشفا. 4 بيسان موضع تنسب إليه الخمر, وترياقة العرب تسمي الخمر ترياقة لأنها تذهب بالهم، والترياق في الأصل دواء السموم. قال الأعشى: سقتني بصهباء ترياقة متى ما يلين عظ مي تلن وضمير بها يعود إلى الخمر أي: يطوف علينا بها رجل أحمر ... إلخ. مختلق الزفرى أي: تام الخلق والجمال شاب طويل. أروع للدعوة أي: نشيط خفيف عند الدعوة.

دفقة المشية زيافة ... تهوي خنوفا في فضول الزمام تحسبها مجنونة تغتلي ... إذا لَفَّع الآل رءوس الإكام1 قومي بنو النجار إذ أقبلت ... شهباء ترمي أهلها بالقتام لا نخذل الجار ولا نسلم الـ ... ـمولى ولا نخصم يوم الخصام منا الذي يحمد معروفه ... ويفرج اللزبة يوم الزحام2 4- قال حسان بن ثابت للحارث بن عامر, وكان فيمن سرق غزال الكعبة: يا حار قد كنت ولولا ما رميت به ... لله درك في عز وفي حسب3 جللت قومك مخزاة ومنقصة ... ما إن يجلله حي من العرب4 يا سالب البيت ذي الأركان حليته ... أد الغزال فلن يخفى لمستلب5 سائل بني الحارث المزري لمعشره ... أين الغزال عليه الدر من ذهب؟ بئس البنون وبئس الشيخ شيخهم ... تبا لذلك من شيخ ومن عقب

_ 1 دع ذكرها: انتقال من وصف الخمر إلى وصف ناقته, فقوله: "وانم" أي: أسند الحديث وارفعه إلى ذكر جسرة, وهي الناقة الماضية, وجلدية أي: شديدة غليظة, وعقام: لا تلد, وزيافة: مختالة في مشيتها, وتهوي خنوفا أي: تميل بيديها في أحد شقيها من النشاط, ولفع الآل أي: إذا شمل وغطى السراب رءوس الآكام. 2 إذا أقبلت شهباء أي: سنة شهباء ذات جدب وقحط. والقتام: الغبار. ولا نخصم أي: نغلب بالحجة. واللزبة: الشدة. 3 لولا ما رميت به أي: لولا ما وصمت به من العار, وجواب لولا محذوف, أي: لكنت شريفا. 4 جللت قومك مخزاة أي: ألبستهم عارا وخزيا. والمنقصة: العيب. 5 يا سالب البيت إلى آخر القصيدة, قيل: أول من علق المعاليق بالكعبة في الجاهلية عبد المطلب, علقها بالغزالين من الذهب اللذين وجدهما في زمزم حين حفرها وكانا معلقين =

5- وقالت قتيلة بنت النضر بن الحارث1 ترثي أخاها: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة، وأنت موفق2 أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق3 مني إليك، وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها، وأخرى تخنق4 هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق5 أمحمد يا خير ضنء كريمة ... في قومها، والفحل فحل معرق6

_ = مدة حتى سرقوهما, وقصته أن جماعة من قريش كانوا في ليلة من الليالي يشربون الخمر وفيهم أبو لهب وهو معنى قول الشاعر: وبئس الشيخ شيخهم، وكان معهم القيان ولما فنيت أسباب طربهم عمدوا إلى باب الكعبة وسرقوا الغزالين وباعوهما من تجار قدموا مكة بالخمر وغيرها, واشتروا بثمنهما جميع ما في العير من الخمر والمزة, واشتغلوا بالطرب واللهو شهرا ولم يدر من سرق, حتى مر العباس بن عبد المطلب في ليلة من الليالي بباب الدار التي تلك الجماعة فيها, فسمع القيان يغنين بقصة سرقة الغزالين من باب الكعبة وبيعهما من أهل القافلة, وأخبر بها العباس قريشا فأخذوهم وضربوهم وقطعوا أيدي بعضهم, ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج. 1 قتيلة بنت النضر -وقيل أخته- نشأت في قومها بني عبد الدار بن قصي من قريش. وكان أخوها أو أبوها النضر مع قريش على الرسول في غزوة بدر, فأمر الرسول -عليه السلام- بقتله, وترى أن شعرها على قوته أكرم شعر موتور وأعفه وأكفه وأحلمه. 2 الأثيل: موضع فيه قبر النضر في وادي الصفراء بقرب المدينة, تقول: إن الأثيل يظن أن تبلغه في صبح الليلة الخامسة, إذا وقفت ولم يعقك عائق. 3 النجائب: جمع نجيبة, وهي جياد الإبل. وخفقان النجائب: شدة اهتزازها، وإن زائدة. 4 مني متعلق بأبلغ. والمسفوحة: المصبوبة، أي: بلغه مني رسالة، واذكر له عبرة على فقده سالت، وعبرة أخرى جمدت، وأخذ حزنها بالحلق فخنقه. 5 أم هنا للإضراب أي: بل كيف يسمع ... إلخ. 6 الضنء: الأصل، والولد. والكريمة: النجيبة. والمعرق: من له أصول واضحة في الكرم، والمعنى أن أمك شريفة وأباك عريق في المجد.

ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق1 أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق2 فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق3 ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق! 4 صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد، وهو عان موثق5 6- وقال أمية بن أبي الصلت6 يعتب على ابن له: غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعل بما أدني إليك وتنهل7 إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهرا أتملل8

_ 1 المعنى: إذا كنت كذلك, فما كان ضرك لو مننت على أخي وأطلقته؛ فقد يعفو الكريم وهو منطوٍ على الغيظ والحنق. 2 أي: وما ضرك لو قبلت فدية، فإنك إن فعلت أنفقنا لفديته أعز وأغلى ما نملك. 3 كان تامة, أي: وأحقهم بأن يعتق إن حصل منك عتق وفكاك. 4 تنوشه: تتناوله، ولله أرحام تعجب، أي: لم يقتله أحد غير بني أبيه, فعجبا من أرحام يقطعها أصحابها. 5 صبرا أي: حبسا حتى يقتل، والمعنى: أنه يقاد للموت بعد الحبس, وهو متعب يرسف رسف المقيد، أي: وهو أسير موثق. 6 هو عبد الله بن أبي ربيعة الثقفي, نشأ بالطائف جاهليا يلتمس المعارف الدينية, متعبدا راجيا أن يكون نبي العرب, حتى إذا كانت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسها عليه، وناضله مع أعدائه حتى مات بالطائف سنة 9هـ. ويمتاز شعره بالسهولة، والدخيل من الألفاظ، وتناول الأساطير والأمور الدينية، مع المدح والحكمة، وكان أكثر مدحه في عبد الله بن جدعان القرشي. 7 غذاه: قام بمئونته، وعاله: كفله وقام به، واليافع: من قارب العشرين، ونعل: من العلل، وهو الشرب الثاني. والهل: الشر الأول، يريد أنه يسبغ عليه من نعمه مرة بعد مرة. 8 أتملل: أتقلب على الملة, وهي الجمرة.

كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني، وعيني تهمل1 تخاف الردى نفسي عليك، وإنها ... لتعلم أن الموت حتم مؤجل2 فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي منك جبها وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل3 فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل4 وسميتني باسم المفند رأيه ... وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل5 تراه معدا للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل6 7- ومن مدائح النابغة الذبياني في عمرو بن الحارث الغساني، هذه المدحة الرائعة التي استهلها بوصف ليله النابغي المضروب به المثل، والتي يصف فيها الجيش بملازمة النصر له، حتى إن الطير عرفت ذلك، فهي تتبعه في كل غزاة؛ ثقة منها بأنه سيشبعها من جثث قتلاه: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب7

_ 1 تهمل أي: يسيل منها الدمع. 2 الردى: الهلاك. حتم أي: لا مفرّ منه. مؤجل أي: له وقت. 3 الجبه: مقابلة الإنسان بما يكره. 4 أي: ليتك إذا أبيت أن تعاملني معاملة الأب, عاملتني كما يعامل الجار جاره. 5 فنده: نسبة إلى سوء العقل، أي: وصمتني بسوء الرأي والغباوة، ولو عقلت لعلمت أن الفند حقيق بأن ينسب إليك لا إلي. 6 معدا أي: محضرا ومهيئا، أي: إنه يهيئ الخلاف، ويقابل به كل شيء كأنه كلف أن يفند آراء أهل الصواب. 7 كليني لهم: دعيني وهمي, من وكله للشيء أي: أسلمه له، وأميمة: اسم امرأة تصغير أم، وناصب صفة لهم أي: هم ذوو نصب أو ناصب صاحبه، وبطيء الكواكب أي: بطيء غروب كواكبه, توهَّم أن ليله بطيء الكواكب, وأنه طويل لكثرة ما يقاسيه فيه من الهموم.

تطاول، حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب1 وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب2 علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب3 وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت ... كتائب من غسان غير أشائب4 إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب5 يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الدواب6 تراهن خلف القوم خزرا عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب7

_ 1 وليس الذي يرعى النجوم بآيب أي: وحتى قيل: ليس الذي "البيت". والذي يرعى النجوم, يريد النجم الذي يتقدمها فيكون بمنزلة الراعي لها؛ يؤيد ذلك رواية: "وليس الذي يهدي النجوم", وإياب النجوم والشمس مغيبها, كأنها رجعت إلى مبدئها ومسقطها أي: وحتى قيل: إن أول النجوم الطالعة في هذا الليل لا تغيب مع أنه سابقها, فكان حقه أن يكون أول غائب, وكل ذلك كناية عن طول الليل. 2 وصدر أي: وكلني أيضا لصدر. وأراح الليل: من الرواح, وعازب: غائب, والمعنى: دعني أيضا وصدري المتضاعف الحزن، الذي أرجع هذا الليل ما كان غائبا من همه. ثم اقتضب الكلام اقتضايا وشرع في مدح عمرو بن الحارث, فقال: علي لعمرو. 3 عقارب النعمة: تكديرها بالمن والأذى. والمعنى: علي لعمرو نعمة حديثة بعد نعمة قديمة لوالده, لم يكدرهما من ولا أذى. 4 أشائب: جمع أشابة وهم الأخلاط، أي: إن هذه الكتائب كلها من صلب غسان. 5 أي: إذا غزوا حلقت عليهم جماعات النسور والعقبان والرخم لتأكل ممن يقتلونهم. 6 أي: تسير جماعات الطير معهم كأنها تغير بإغارتهم على الأعداء, ضاريات متدربات على دماء القتلى. 7 خزرا: جمع أخزر وخزراء، أي: ضيقة العيون خلقة، أو أنها تتخازر أي: تقبض أجفانها لتحدد النظر. جلوس الشيوخ ... إلخ, أي: إنها عند اشتداد القتال تقع على أعالي الأرض والهضاب كأنها في ريشها ووقوفها وتحديد النظر, تترقب القتلى جالسة جلوس الشيوخ إذا التفوا بأكسية المرانب يحددون النظر إلى شيء بعيد. مرانب: جمع مرنباني وهو الثوب المبطن بفراء الأرنب.

جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب1 لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب2 8- وقال أبو صخر الهذلي، ويقال: إنه أغزل شعر قالته العرب: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأم موعدك الحشر عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت لا عرف لدي ولا نكر 9- ومن مراثي الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمي في أخويها: معاوية وصخر, قولها في معاوية: أريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرا إن أطقت وإن تطيقي وقولي إن خير بني سليم ... وفارسها بصحراء العقيق ألا هل ترجعن لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق وإذ نحن الفوارس كل يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق3 فبكيه فقد أودى حميدا ... أمين الرأي محمود الصديق فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين والرأس الحليق4

_ 1 جوانح أي: مائلات للوقوع. 2 أي: القنا الخطي المنسوب إلى الخط بلد بالبحرين، والكواثب: جمع كاثبة، وهي من جسم الفرس ما تحت الكاهل إلى الظهر, بحيث إذا نصب عليه السرج كانت أمام القربوس. 2 الفنيق: الضخم. 4 كان من عادة النساء حلق الرأس وتعليق النعلين حزنا.

وقولها في صخر: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا يكلفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى 10- وقال دريد بن الصمة في رثاء أخيه: أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعاقبة، أم أخلفت كل موعد وبانت، ولم أحمد إليك نوالها ... ولم ترج منا ردة اليوم أو غد كأن حمول الحي إذ متع الضحى ... بناصية الشحناء، عصبة مذود1 أو الأثاب العم المحرم سوقه ... بكابة لم يخبط، ولم يتعضد فقلت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدي علانية: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد وقلت لهم: إن الأحاليف هذه ... مطنبة بين الستار وثهمد ولما رأيت الخيل قبلا كأنها ... جراد يباري وجهة الريح مغتدي2

_ 1 رث الحبل: بلي، والمراد العهد. متع الضحى: بلغ آخر غايته. العصبة بفتح فسكون: الشجرة تعلق في شيء عالٍ لتكون كالخيمة عليه, وهو الشجر المتسلق كاللبلاب مثلا. مذود: اسم جبل. الأثاب: شجر. العم: العظيم. كابة: موضع. لم يخبط: لم تعصب فروعه وتضرب بالعصي فتكسر. لم يتعضد: لم يقطع. عارض: اسم أخ للشاعر. 2 الأحاليف: المتحالفون على نصرة بعضهم. قبلا: عيانا ومقابلة.

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلما عصوني كنت منهم، وقد أرى ... غوايتهم أني بهم غير مهتدي وهل أنا إلا من غزية؟ إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد دعاني أخي، والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد1 أخ أرضعتني أمه من لبانها ... بثدي صفاء بيننا لم يجدد فجئت إليه، والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... إلى قطع من جلد مجلد2 فطاعنت عنه الخيل حتى تنهنهت ... وحتى علاني حالك اللون أسود قتال امرئ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد تنادوا، فقالوا: أردت الخيل فارسا؟ ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردي؟ فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافا ولا طائش اليد ولا برما إما الرياح تناوحت ... برطب العضاه والضريع المعضد3 وتخرج منه صرة القر جرأة ... وطول السرى دري عضب مهند كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضراء طلاع أنجد4 قليل تشكيه المصيبات ذاكر ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

_ 1 غزية: حي من بني جشم. القعدد: الجبان يقعد عن نصرة قومه. 2 الصياصي: جمع صيصاة، شوكة يسوي بها الحائك نسجه. البوّ: ولد الناقة والبقرة، يحشى جلده تبنا فتجد رائحته فيه, فتدر اللبن له. 3 البرم: من لا يدخل مع القوم في الميسر ضنا بالجزور، وكانوا يطعمون لحومها الفقراء. تناوحت الريح: لغبت من كل ناحية وذلك زمن الشتاء. العضاه: الشجر الشائك. الضريع: نبات خبيث لا تقربه الدواب. 4 كميش الإزار: كناية عن الخفة والنجدة. طلاع أنجد: كناية عن اقتحام الصعاب.

إذا هبط الأرض القضاء تزينت ... لرؤيته كالمأتم المتبلد وكم غارة بالليل واليوم قبله ... تداركها مني بسيد عمرد1 سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... طويل القرا نهد أسيل المقلد يفوت طويل القوم عقد عذاره ... منيف كجذع النخلة المتجرد وكنت كأني واثق بمصدر ... يمشي بأكناف الجبيل فهمد2 له كل من يلقى من الناس واحدا ... وإن يلق مثنى القوم بفرح ويزدد وهون وجدي أنني لم أقل له: ... كذبت، ولم أبخل بما ملكت يدي

_ 1 السيد العمرد: الذئب الشرس في عسلانه، يريد به فرسه. الشظى: العظم اللازق بالساعد أو الساق. العبل: الضخم. الشوى: الأطراف. النسا: عصب يجري في الفخذ والساق. الشنج: المنقبض. المقلد: العنق. القرا: الظهر. 2 المصدر: الأسد. الجبيل فهمد: موضعان.

الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي ... الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الحجازي الجاهلي 1- ذكر علماء الأدب ومنهم أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء "أن الشعر كان أولا في ربيعة، وهي قبائل كثيرة، منها: بكر وتغلب وعبد القيس والنمر بن قاسط ويشكر وعجل ولجيم وضبيعة وشيبان وذهل وسدوس، كانوا يقيمون في الحجاز، وتهامة الحجاز، ثم في نجد، ثم نزحت بكر وتغلب نحو العراق"1. ثم تحول الشعر في قيس عيلان، ومن بطونها: عبس وذبيان وغطفان وهوازن وسليم وعدوان وثقيف وعامر بن صعصعة ونمير وجعدة وقشير وعقيل وخفاجة، وكانت هذه القبائل في نجد وأعالي الحجاز. ومن ثم يمكننا اعتبار كثير من شعراء هذه القبائل من شعراء الحجاز، وعلى رأسهم النابغة الذبياني وزهير. ثم استقر الشعر في تميم، وهي قبيلة كبيرة من مضر، ومن بطونها: مازن, ودارم، ويربوع، ومجاشع، ومالك، وبهدلة. وكانت تقيم تميم في تهامة، ثم نزحت في أواسط القرن الثاني -قبل الهجرة- إلى بادية العراق وما يليها جنوبا، ومنهم أوس بن حجر، وكان شاعر مضر في الجاهلية، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وهما حجازيان, ثم ظهر الشعر في بطون مدركة، وهي: هذيل وأسد وكنانة وقريش والدئل، وأغلب هؤلاء من أهل البادية.

_ 1 ومن شعرائها: المهلهل، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وهو أشعر المرقشين، وسعد بن مالك، وعمرو بن قميئة، وطرفة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم.

2- وأما الحواضر فكانت قليلة في بلاد العرب، وهي: المدينة، والطائف، ومكة. وقد نبغ منها في العصر الجاهلي كثيرون، وأشعر الحواضر في الجاهلية حسان بن ثابت1, ولا بأس من أن نذكر الآن أسماء طائفة من الشعراء الحجازيين من أهل الحواضر، أما الحجازيون الآخرون فهم كثيرون في العصر الجاهلي, وسيأتي تفصيل الحديث عن هؤلاء وأولئك فيما يأتي من أبواب وفصول. وأشهر شعراء المدينة: حسان، وكعب بن مالك، وابن رواحة، وقيس بن الخطيم، وابن الأسلت "84-93 طبقات الشعراء". وكان فيها جماعة من اليهود الشعراء, منهم: السموءل، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد "115-120 طبقات الشعراء". وكان لقريش شعراؤها وشعرها، وإن كان قليلا في الجاهلية، يقول ابن سلام: نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. وأشهر شعراء مكة: عبد الله بن الزبعرى، وأبو طالب، وأبو سفيان، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وضرار بن الخطاب، وأبو عزة الجمحي، وعبد الله بن حذافة السهمي، وهبيرة بن أبي وهب بن عامر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والزبير بن عبد المطلب صاحب البيت المشهور: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه2 وأشهر شعراء الطائف: أبو الصلت، وأمية بن أبي الصلت، وغيلان، وكنانة بن عبد ياليل3.

_ 1 راجع 21، 22 طبقات الشعراء لابن سلام, 295/ 2 المزهر للسيوطي. 2 62 طبقات الشعراء. 3 107-113 طبقات الشعراء.

3- ومن القبائل الحجازية الشاعرة قبيلة هذيل، وكانت أولى القبائل التي يقتدى بها في البلاغة والبيان، وهذيل تمتّ إلى قريش بالنسب والمصاهرة والجوار، وكانت تحاكي قريشا في انتقاء الأفصح من الألفاظ, مما يسهل على اللسان في النطق، ويحسن عند المتذوق والسامع المتفهم. والهذليون من مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وكانوا يحاورون القرشيين، فقد كانت قريش تسكن مكة، وكانت هذيل تسكن حولها أو قريبا منها، ومن ثم كان الهذليون والقرشيون قسماء في الفصاحة. وقد نبغت هذيل من الشعر خاصة، حتى كان الرجل منهم ربما أنجب عشرة من البنين كلهم شعراء، يقول أبو الفرج الأصبهاني: "كان بنو مرة عشرة: أبو خراش، وأبو جندب، وعروة، والأنج، والأسود، وأبو الأسود، وعمرة، وجنادة، وسفيان، وزهير، وكانوا جميعا شعراء دهاة". ويروى عن الأصمعي أنه قال: إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو راميا, فلا خير فيه. وحسبك ما جمعه كتاب "ديوان الهذليين" الذي نشرته دار الكتب المصرية بالقاهرة من أعلام الشعراء الهذليين1, وقد طبع في أوروبا مجموعات ثلاث في شعراء هذيل, وهي: 1- ما بقي من أشعار الهذليين، ويعرف بالبغية, ويحتوي على سبعة وعشرين شاعرا. 3- شرح ديوان الهذليين، لأبي سعيد السكري، ويحتوي على تسعة وعشرين شاعرا. 3- مجموعة أشعار الهذليين، المطبوع في ليبزج، ويشمل ستة شعراء. ويروى أن الرواة لم يكونوا يأخذون عن لخم وجذام وقضاعة وغسان وإياد وتغلب والنمر، وإنما كانوا يأخذون العربية عن قيس وأسد وتميم وهذيل وبعض كنانة، وكانوا يأخذون عن قيس وأسد وتميم الإعراب والتصريف والغريب، من حيث كانوا يأخذون عن قريش وهذيل الفصاحة والبلاغة.

_ 1 وهو عن مجموعة خطية للشنقيطي "رقم 6 أدب، ش بدار الكتب".

ومن شعراء هذيل: أبو ذؤيب، وأبو خراش، وساعدة بن جؤية، وأبو العيال، وأبو قلابة، وأبو المثلم، وأبو جندب، ومالك بن خالد، وبدر بن عامر، والمتنخل, وأبو كبير، ومعقل بن خويلد، والبريق، وأمية بن أبي عائذ، وصخر الغي، وعمرو ذو الكلب، وحبيب الأعلم، وعبد مناف بن ربع، والمعطل، وقيس بن عيزارة، وأسامة بن الحارث، وساعدة بن العجلان، وجنادة بن عامر، وأبو بثينة، والعجلان بن خالد، وحذيفة بن أنس، وخالد بن زهير، ومالك بن الحارث، وعمرو بن الداخل، وأسامة بن الحارث. 4- ويجعل ابن سلام شعراء المدينة الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج، واثنان من الأوس. فمن الخزرج من بني النجار: حسان بن ثابت, ومن بني سلمة: كعب بن مالك, ومن بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، ومن الأوس: قيس بن الخطيم من بني ظفر، وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف, وأشعرهم حسان1. ومما يدل على انتشار الشعر في يثرب، ما يرويه ابن عبد ربه عن أنس بن مالك، أنه قال: "قدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر، قيل له: وأنت يا أبا حمزة؟ قال: وأنا". ويقول: وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد2. ويقول: وبالطائف شعراء وشعرهم ليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، والذي قلل شعر قريش كذلك أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا3. 5- وللشعر الحجازي خصائصه الواضحة في الأسلوب واللفظ والمعنى والخيال والغرض. ويلاحظ اشتماله على كثير من الحكمة وقصص الأنبياء، واحتواؤه على

_ 1 84 طبقات الشعراء. 2 115 طبقات الشعراء. 3 107 المرجع السابق.

فكرة التدين، إلى جزالته وفصاحته ومتانة أسلوبه في عذوبة، وقد ترتفع العذوبة إلى منزلة عالية في البلاغة. وتتمثل كذلك في الشعر الحجازي -في الأغلب- عفة اللفظ وشرف المعنى ونبل الغرض، فلم يفحش كثير من الشعراء الحجازيين في قول, ولم يسفوا في بيان، ولم ينزلوا عن مستواهم الرفيع في شرفهم وحسبهم ومنزلتهم الاجتماعية العالية، ويضاف إلى ذلك الطبع وعدم التعجل في التكلف في شعر شعراء الحجاز عامة، إلى العذوبة والرقة في شعر شعراء الحواضر. ولقد كان الشعر الحجازي ممثلا للفكر العربي بما فيه من طموح ومن قوة، ومن شرف وعزة وإباء، وتطلع وحيرة، ومعرفة وخبرة وتجربة، ففيه الكثير من معارف العرب وآرائهم في الحياة، وفهمهم لها، وإدراكهم للتاريخ، مما سيتجلى في حديثنا عن الشعراء الحجازيين. ويرى ابن سلام أن شعر قريش كان قليلا في الجاهلية1 لقلة حروبهم ... وقد يرد على هذا بعام الفيل وما ورد فيه من شعر كثير2، وبالخصومات الكثيرة بين القبائل الحجازية، مما كانت الأيام الحجازية أثرا لها، وبالخصومات التي وقعت بين الرسول وأعداء الإسلام. ومن شعراء قريش في العصر الجاهلي: زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، ونبيه بن الحجاج، وابن الزبعرى، وعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وعدي بن نوفل، وورقة بن نوفل، وأميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو سفيان3. وبعد, فهذه فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي. أما الحديث المفصل عن هذا الشعر فسينتظم الفصول والأبواب الآتية، وسنبدأ في الباب التالي بتمحيص الشعر الحجازي الجاهلي؛ حتى تستقيم دراستنا على أسس ثابتة، إن شاء الله.

_ 1 62 طبقات الشعراء. 2 251-262/ 1 بلوغ الأرب. 3 راجع مهذب الأغاني، الجزء الثاني، في تراجم هؤلاء الشعراء.

الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع مدخل ... الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع 1- الوضع والنحل من الظواهر الأدبية التي لا تقتصر على أمة دون أمة، ولا عصر دون عصر، ولا جيل دون جيل، وإنما هي ظاهرة عامة تشمل الأجيال كافة، والعصور جميعا، حتى العصر الحديث؛ عصر العلم والحضارة, فهو لم يخل من هذه الظاهرة. وقد سطا لصوص الأدب -ولا يزالون يسطون- على تراث الأموات, بل وتراث الأحياء على السواء، وادعوه لأنفسهم دون خجل أو حياء. وفي عصرنا الحاضر نرى أن قصة ما أو مقالة أو قصيدة قد تنسب لغير كاتبها أو ناظمها؛ لغرض التعمية, أو التنادر، أو الإغاظة، أو الخوف، أو السرقة، أو غير ذلك من الأغراض مما نشاهده في حياتنا الأدبية الحاضرة. وظاهرة النحل والانتحال، قد عرفت في الأدب العربي منذ عهد بعيد؛ عرفتها عهود الإسلام الأولى، بل وعرفتها الجاهلية نفسها، فقد قال أبو عبيدة: كان قراد بن حنش من شعراء غطفان، وكان جيد الشعر قليله، وكان شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه، منهم زهير بن أبي سلمى ادعى هذه الأبيات: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت إن الركاب لتبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشهور أحلت ولنعم حشو الدرع أنت لنا إذا ... نهلت من العلق الرماح وعلت ينعون خير الناس عند كريهة ... عظمت مصيبتهم هناك وجلت1

_ 1 طبقات فحول الشعراء: 568, 569.

وروي أن النابغة الجعدي دخل على الحسن بن علي فودعه، فقال له الحسن: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشد: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما فقال له: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت! قال: يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره1. وسألت عائشة -أم المؤمنين- من صاحب هذه الأبيات: جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يستمع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتى أزرق العين مطرق؟ فقالوا: مزرد بن ضرار. قالت عائشة: فلقيت مزردا بعد ذلك، فحلف بالله: ما شهد تلك السنة الموسم2. حتى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قد نحلوه الشعر. وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام. وقد تنبه كثير من الرواة العلماء في القرنين الثاني والثالث لأمر الوضع، حتى لا نكاد نجد أحدا من هؤلاء الثقات لا ينص على أن بيتا أو طائفة من الأبيات موضوعة منحولة. 2- ويمكن تقسيم الشعر الجاهلي من حيث الصحة والوضع إلى ثلاثة أقسام: الشعر الصحيح، والشعر المنحول، والشعر المختلف عليه. 1- الشعر الصحيح: فأما الصحيح، فالواقع أن رواة الشعر قد أجمعوا على كثير من الشعر الجاهلي ولم يختلفوا إلا في بعضه؛ قال ابن سلام: وقد اختلف العلماء في بعض

_ 1 المرجع السابق: 106, 107, والأغاني 5/ 10. 2 ابن سعد 3/ 241.

الشعر، كما اختلفوا في بعض الأشياء, أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه. وقال في إجماعهم على الموضوع من الشعر: "وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه-أن يقبل من صحيفة, ولا يروي عن صحفي"1. وهذا النص يكشف لنا عن مدى تقريرهم لإجماع الرواة في رواية الشعر، سواء منه الصحيح والمنحول، فما أجمعوا على صحته قبلناه، وما أجمعوا على وضعه رفضناه. ومما اعتمدوا عليه كذلك في صحة الشعر، وجود القصيدة أو الأبيات في ديوان الشاعر أو ديوان القبيلة مما رواه العلماء الثقات، يقبلون منه ما يجيء في صورة اليقين والجزم، ويقفون أو يشكون فيما اختلف فيه، وربما قبلوا النظر فيه وأصدروا عليه أحكاما نقدية خاصة. وقد أورد أبو الفرج الأصبهاني قصيدة لدريد بن الكلبي، عدتها ثلاثة عشر بيتا، ومنها قوله: أمن ذكر سلمى ماء عينيك يهمل ... كما انهل خرز من شعيب مشلشل وماذا ترجي بالسلامة بعدما ... نأت حقب وابيض منك المرجل وحالت عوادي الحرب بيني وبينها ... وحرب تعل الموت صرفا وتنهل قراها إذا باتت لدي مفاضة ... وذو خصل نهد المراكل هيكل2 وعلق أبو الفرج على هذه الأشعار والأخبار التي وردت فيها بقوله: وهذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعة كلها، والتوليد فيها بين وفي أشعارها. ويستدل على وضعها بقوله: وما رأيت شيئا منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات3. وقد يحكمون ذوقهم الأدبي الذي صقلته التجربة وطول الدرس والمعاناة في تمييز الصحيح من الفاسد من الشعر، إلى جانب المقياسين السابقين، وهما:

_ 1 طبقات فحول الشعراء، ص6. 2 شلشل الماء: قطر. المرجل: الشعر، يقال: رجل الشعر, إذا سرحه. المفاضة هنا: الدرع. وذو خصل, يريد فرسا. والمراكل: جمع مركل وهو حيث تصير رجلك من الدابة, وفرس نهد المراكل: واسع الجوف. والهيكل: الضخم. 3 الأغاني 1: 39, 40, دار الكتب.

أ- إجماع الرواة. ب- وجود الشعر في ديوان القبيلة أو الشاعر. وإذا ما اطمأنوا إلى صحة الشعر الذي يوردون, وصفوه بعبارات تثبت صحته وقدمه، كما فعل أبو عبيدة حين أورد شعرا جاهليا، ووصفه بقوله: إنه "الشعر الثابت الذي لا يرد" وكما فعل الواقدي حين أورد شعرا لحسان، وعلق عليه بقوله: "ثبت قديمه" وغير ذلك من العبارات التي تدل على القطع واليقين. 2- الشعر المنحول: وأكثر هذا الضرب هو ما وضعه القصاص ليزينوا به قصصهم، ويتلمسوا به الثقة في نفوس السامعين أو القارئين، وما وضعه بعض الرواة ليثبتوا به نسبا أو يدلوا به على أن لبعض العرب قدمة سابقة. وقد أرسل الواضعون لأنفسهم العنان، فنسبوا شعرا لأناس لم يقولوا شعرا قط، بل وأوغلوا في ضلالهم فوضعوا شعرا على لسان بعض العرب البائدة كعاد وثمود، بل وعلى لسان آدم أبي البشر -عليه السلام- وغيره من الأنبياء. وقد هاجم ابن سلام محمد بن إسحاق، عالم السيرة المعروف، الذي ضمن سيرته أشعارا كثيرة موضوعة، فقال في معرض نقده له: أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، أي: لا بقية لهم, وقال أيضا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى, وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . والشعر إما أن يكون موضوعا على وجه اليقين القاطع، أو على الترجيح الغالب؛ ومن السهل اكتشاف أمره وافتضاح سره, فهو لا يكاد يخفى على الباحث. 3- الشعر المختلَف عليه: وأما الشعر المختلف عليه، فيظهر للقارئ المتعجل عظيما كبير القدر، ولكنه في الواقع ليس بالكثرة التي يبدو بها، فقد يروي الثقة ديوان شاعر عن روايتين أو ثلاث من الطبقة الأولى، فيورد كثيرا من قصائد الديوان والإجماع منعقد على صحتها، ثم يشير في قصائد قليلة إلى أن

هذه القصيدة قد رواها فلان ولم يروها فلان، أو أن تلك القصيدة قد تنسب إلى فلان وهو غير صاحب الديوان. وقد يجمع هذا الراوية -وهو من الطبقة الثانية أو الثالثة- أبياتا متفرقة، ومقطعات صغيرة يضمها عنوان هو "المنحول من شعر فلان" وهو يقصد بالمنحول ما لم يروه هؤلاء الرواة العلماء الذين رووا هذا الديوان. فإذا ما أحصيت هذه الأبيات التي نص في تضاعيف الديوان أنها مما رواه فلان دون فلان، وضممت إليها "المنحول" وجدتها كلها لا تكاد تعد شيئا مذكورا, إذا قِيست بالقصائد التي أجمع الرواة على صحتها1. وأمر آخر جدير بالعناية، وهو أن كثيرا من النص على "النحل" لا يعني أن هذا الشعر منحول موضوع حقا، وإنما غاية ما يعني أن هذا الراوية لعالم يذهب إلى أن هذا الشعر منحول، بينما يذهب غيره إلى أنه صحيح. فمرد الأمر إذًا إلى خلاف في الحكم والرأي مرجعه اختلاف المصادر أو اختلاف المناهج2 ... فقد ذكر أبو خليفة الفضل بن الحباب, أنه روي لعباس بن مرداس بيت في عدنان، قال: وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد ثم قال: "والبيت مريب عند أبي عبد الله" يعني ابن سلام. ولعل ابن سلام ارتاب في البيت لذكره عدنان "ولم يذكر عدنان جاهلي غير لبيد بن ربيعة". بينما أورده ابن هشام على أنه صحيح غير مريب، وذكر أنه أخذه عن أبي محرز خلف الأحمر، وعن أبي عبيدة. وكذلك أورده أبو عبد الله المصعب الزبيري على أنه صحيح، ولم يشر إلى ارتيابه كما أشار إلى ارتيابه في غيره من الأبيات التي تذكر الأنساب3. ومما قد يوهم بالنحل والوضع أيضا اختلاف الرواة في نسبة الشعر؛ فتراهم

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، للدكتور ناصر الدين الأسد 470, 471. 2 المرجع السابق 473. 3 طبقات فحول الشعراء: 10, 11، والسيرة 1/ 9، ونسب قريش 5.

ينسبون بعضه إلى شاعرين أو ثلاثة شعراء جاهليين, والأمثلة على هذا كثيرة جدا. ومن ذلك أن القصيدة التي منها: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما نسبها يونس للنابغة الجعدي، ونسبها أبو عبيدة لأمية، ثم سئل خلف الأحمر عنها فقال: "للنابغة، وقد يقال: لأمية". ويلاحظ أن الشعر في هذا المثل -وفي كثير غيره- نسب إلى شعراء جاهليين، وأن الخلاف في نسبته لم يخرجه عن نطاق الشعر الجاهلي؛ فجاهلية هذا الشعر إذًا ثابتة لا شك فيها عند هؤلاء الرواة العلماء، وإن كانوا اختلفوا في الشاعر الجاهلي نفسه1.

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي 475, 476.

الشعر الحجازي في الميزان

3- الشعر الحجازي في الميزان: وعلى هذا المقياس سندرس الصحيح والمنحول والمختلف عليه من الشعر الحجازي, وسنناقش خلال بحثنا طائفة من النصوص وأقوال القدماء، وآراء المحدثين من عرب ومستشرقين حتى يستقيم لنا رأي ممحص في الشعر الحجازي، وتبقى لنا منه بعد نفي المنحول مادة تصلح لأن تكون أساسا يعتمد عليه الباحثون في الأدب الحجازي في العصر الجاهلي. ونحب أن نشير هنا -قبل المضي في البحث- إلى أننا قد حرصنا فيما سبق من هذا الباب، أن تكون الشواهد والنصوص التي أوردناها، وثيقة الصلة بشعراء حجازيين؛ كزهير بن أبي سلمى, وأمية بن أبي الصلت، ومزرد بن ضرار، ودريد بن الصمة، وحسان بن ثابت، وعباس بن مرداس. ولعل أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث، تلك العبارة التي أوردها ابن سلام عن قريش، إذ يقول: "وقد نظرت قريش، فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"، وعقب الدكتور طه حسين عليها بقوله:

"وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يهجى به الأنصار". والدكتور طه يعتقد أن السياسة كانت سببا في انتحال الشعر، وأن العصبية بين قريش والأنصار دعت إلى أن يتزيد كل فريق من أشعار الهجاء في الفريق الآخر, وسود تسع صفحات في مسألة "المهاجاة بين المهاجرين والأنصار" وحدها، ولكنه لم يذكر في بحثه الطويل كلمة واحدة تتصل بأن فريقا من الفريقين اختلق شعرا, ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية. ويقول الشيخ محمد الخضر حسين في نقده لهذا الرأي: "وبعد ذلك كله، ألم يكن من واجب المؤلف -وهو أستاذ كبير- أن يذكر لقراء كتابه بعض الشعر الذي وضعته قريش في الإسلام، ونسبته إلى بعض شعرائهم في الجاهلية، وكان الداعي إلى وضعه السياسة؟ "1. ونحن نعتقد أن الشعر القرشي قد دخله شيء من التزيد لهذا السبب أو لغيره من الأسباب، ولكن هذا الاعتقاد لا يجعلنا نطرح هذا الشعر جملة من حساب التاريخ، وإنما حسبنا ما نبه إليه الأقدمون من مواطن الكذب أو الانتحال، نشير إليها، ونطرحها لتبقى لنا بعد ذلك أشعار صحيحة, راجحة الكفة أو أدنى إلى الرجحان في هذا الميزان. وقد تحدث صاحب الأغاني بإسناد له، عن عبد العزيز بن أبي نهشل، أنه قال: قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وجئته أطلب منه مغرما: يا خال, هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة، وقل: سمعت حسانا ينشدها رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول, سمعت عائشة تنشدها فعلت, فقال: لا، إلا أن تقول: سمعت حسانا ينشدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس. فأبى علي، وأبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال. فأرسل إلي، فقال: قل أبياتا

_ 1 في الأدب الجاهلي، ص124.

تمدح هشاما, يعني ابن المغيرة وبني أمية؛ فقلت: سمهم لي, فسماهم، وقال: اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك، فقلت: ألا الله قوم و ... لدت أخت بني سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم وذو الرمحين أشباك ... على القوة والحزم فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي أسود تزدهي الأقرا ... ن مناعون للهضم وهم يوم عكاظ مـ ... ـنعوا الناس من الهزم وهم من ولدوا أشبوا ... بسر الحسب الضخم فإن أحلف وبيت اللـ ... ـه لا أحلف على إثم لما من إخوة تبني ... قصور الشأم والردم بأزكى من بني ريطة ... أو أوزن في الحلم قال: ثم جئت، فقلت: هذه قالها أبي. فقال: لا، ولكن قل: قالها ابن الزبعرى، قال: فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى1. ويعلق الدكتور طه حسين على ذلك بقوله: "فانظر إلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينتحل الشعر على حسان؛ ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسانا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي، كل ذلك بأربعة آلاف درهم. ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي بهذا المقدار، واستباح أن يكذب على عائشة. وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب على النبي؛ فاختصما. وكلاهما شديد الحاجة إلى صاحبه، هذا يريد شعرا لشاعر معروف، والآخر يريد المال؛ فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش"2.

_ 1 الأغاني 1/ 63، دار الكتب. وأشباك حسبك، كما في الأمالي, وفي مخطوط الأغاني: أشبال. 2 في الشعر الجاهلي 75, 76.

وعلى هذه الرواية فهذه القصيدة منحولة قطعا، وذكر محمد بن طلحة: أن قائل هذه القصيدة هو عمر بن أبي ربيعة1. ومن العجيب أن ابن سلام على تشدده ودقته في ميزان التحقيق العلمي لم يشر إلى هذه القصيدة -وقد أوردها في كتابه- بما يفيد أنها منحولة أو موضوعة أو مشكوك في صحة نسبتها إلى ابن الزبعرى2. وذكر ابن سلام أبا طالب "فقال: إنه كان شاعرا جيد الكلام، وأبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل ثم قال: "وقد زيد فيها وطولت. رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة، وقد علمت أن قد زاد الناس فيها، فلا أدري أين منتهاها, وسألني الأصمعي عنها فقلت: صحيحة جيدة. قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا أدري ... "3. وقد ذكر ابن هشام ما صح له من هذه القصيدة وهو أربعة وتسعون بيتا. وقال ابن كثير عنها: إنها قصيدة بليغة جدا, لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه؛ وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى. وقد شرح الشيخ حمزة فتح الله منها أربعة وأربعين بيتا في كتابه4. وذكر ابن سلام بيتين قال: إن الناس يروونهما لأبي سفيان بن الحارث، ثم قال5: "وأخبرني أهل العلم من أهل المدينة: أن قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي قالهما ونحلهما أبا سفيان؛ وقريش ترويهما في أشعارها". ومما يؤكد صحة النص الأدبي؛ ما يظاهره من أخبار وأحاديث تثبت روايته الصحيحة. ومثال ذلك ما رواه أبو وداعة؛ حيث قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله عنه- عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول:

_ 1 الأغاني 1/ 64. 2 طبقات فحول الشعراء 200, 201. 3 طبقات فحول الشعراء 204. 4 المواهب الفتحية، ج1، ص148-164. 5 طبقات فحول الشعراء 208, 209.

يأيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقتار فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: "أهكذا قال الشاعر؟ " قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: بأيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقراف الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي ويكللون جفانهم بسيوفهم ... حتى تغيب الشمس في الرجاف1 فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم وقال: "هكذا سمعت الرواة ينشدونه". وقد ذكرنا -فيما سبق- طرفا من نقد ابن سلام لابن إسحاق, والآن نسوق هذا النقد كاملا: قال ابن سلام2: وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحاق بن يسار -مولى آل مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف- وكان من علماء الناس بالسير ... فقبل عنه الناس الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: "لا علم لي بالشعر، أوتى به فأحمله". ولم يكن ذلك له عذرا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارا كثيرة، وليس بشعر؛ إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} , أي: لا بقية لهم، وقال أيضا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ، وقال في عاد: {هَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} .

_ 1 الأمالي للقالي 1/ 241، والرجاف: البحر. 2 طبقات فحول الشعراء 8, 9.

وقال ابن سلام كذلك1: "ولأبي سفيان بن الحارث شعر كان يقوله في الجاهلية، فسقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل. ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرا. ولئلا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذلك لهم". ويقول في موطن ثالث2: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما رواه الصحفيون, ما كانت إليه حاجة, ولا فيه دليل على علم". وأكثر ما أورده ابن إسحاق من شعر ينسب لشعراء حجازيين. وفي دراسة هذا الشعر وتحقيقه يتضح لنا كثير من الصحيح والمنحول المختلف عليه من شعر الحجاز عامة، وشعر قريش خاصة, وقد عني بذلك ابن هشام في سيرته المعروفة.

_ 1 المصدر السابق 206. 2 المصدر السابق 11.

استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

استدراكات ابن هشام على بن إسحاق ... استدراكات ابن هشام على ابن إسحاق: وقد تتبع بعض الباحثين كل ما أخذه ابن هشام على ابن إسحاق ونقده فيه، فوجده لا يعدو واحدا من أمور أربعة: الأول: أنه يورد أبيات الشعر التي أوردها ابن إسحاق وينسبها إلى من نسبها إليه ابن إسحاق، ثم يضيف أنها قد تنسب كلها أو بعضها إلى غيره, وقد تكرر منه ذلك في ثمانية وعشرين موضعا1. ونكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال: فمن ذلك ما يروى لأمية بن أبي الصلت مما يروى لغيره أيضا. فقد أورد أبياتا عن

_ 1 نذكر فيما يلي أرقام صفحاتها، كما وردت في سيرة ابن هشام على سبيل الحصر السيرة: جـ1/ 15، 60، 62، 67، 68، 69، 74، 89، 90، 91، 105، 136، 242، 247؛ جـ2/ 159، 223، 256، 310؛ جـ3/ 16، 70، 83، 129، 212، 221، 223، 262، 282؛ جـ4/ 51، 90، 199.

ابن إسحاق من شعر أبي قيس بن الأسلت، ثم عقب عليها بقوله1: "قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له، والقصيدة تروى لأمية بن أبي الصلت". وكذلك قال ابن إسحاق2: "وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي في شأن الفيل، ويذكر الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: تروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي". وقال ابن إسحاق3: "وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، قال ابن هشام: وتروى لأمية بن أبي الصلت". وأورد ابن إسحاق أبياتا نسبها إلى زيد بن عمرو بن نفيل، فقال ابن هشام4: "هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له, إلا البيتين الأولين والبيت الخامس وآخرها بيتا". وأورد كذلك أبياتا نسبها إلى ورقة بن نوفل بن أسد, فقال ابن هشام5: "يروى لأمية بن أبي الصلت البيتان الأولان منها وآخرها بيتا في قصيدة له"، وقد أورد أبياتا رواها ابن إسحاق ونسبها إلى سيف بن ذي يزن الحميري، فعقب عليها ابن هشام بقوله6: "وهذه الأبيات في أبيات له, وأنشدني خلاد بن قرة السدوسي آخرها بيتا لأعشى بني قيس بن ثعلبة في قصيدة له, وغيره من أهل العلم بالشعر ينكرها له". وأورد ثلاثة أبيات من الرجز نسبها إلى "رجل من العرب" فقال ابن هشام7: "من الناس من ينحلها امرأ القيس بن حجر الكندي". وذكر إسحاق بيتا نسبه إلى أعشى بني قيس بن ثعلبة, وهو قوله8: بين الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الكعبات من سنداد فقال ابن هشام: "وهذا البيت للأسود بن يعفر النهشلي في قصيدة له, وأنشدنيه أبو محرز خلف الأحمر:

_ 1 السيرة جـ1، صـ60. 2 المصدر السابق 1/ 62. 3 المصدر السابق 1/ 67. 4 السيرة 1/ 242. 5 السيرة 1/ 247. 6 السيرة 1/ 66, 67. 7 السيرة 1/ 88, 89. 8 السيرة 1/ 91.

أهل الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الشرفات من سنداد وذكر ابن إسحاق أبياتا نسبها إلى عبد الله بن الزبعرى، فقال ابن هشام1: "وتروى للأعشى بن زرارة بن النباش". وكذلك ذكر أبياتا لحسان, فقال ابن هشام2: "ويقال: بل قالها عبد الله بن الحارث السهمي". وأورد أبياتا لحسان بن ثابت, فعقب عليها ابن هشام بقوله3: "وآخرها بيتا يروى لأبي خراش الهذلي، وأنشدنيه له خلف الأحمر. وتروى الأبيات أيضا لمعقل بن خويلد الهذلي". وذكر أبياتا نسبها ابن إسحاق لحسان بن ثابت شاعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عقب عليها ابن هشام بقوله4: "أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك". وأما الضرب الثاني من تعقبه ابن إسحاق: فهو إيراده الحادثة التاريخية كما وردت في سيرة ابن إسحاق، حتى إذا وصل إلى الشعر الذي قبل هذه الحادثة أسقطه ولم يثبته؛ لأنه لم يصح عنده. ولعل ذلك قد تكرر منه في مواطن كثيرة؛ لأنه ذكر في المقدمة أنه ترك أشعارا ذكرها ابن إسحاق ولم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها. غير أنه لم ينص على تركه الأشعار إلا في موضعين اثنين؛ فقد أورد مسير أبي كرب تبان أسعد إلى يثرب وغزوه إياها، فلما أن وصل إلى شعر خالد بن عبد العزى الذي فيه5: حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد قال ابن هشام: "الشعر الذي فيه البيت مصنوع؛ فذلك الذي منعنا من إثباته". وكذلك أورد ما ذكره ابن إسحاق من نذر عبد المطلب ذبح ولده، وحذف ما جاء في أثناء هذا الحديث من شعر، وقال6: "وبين أضعاف هذا الحديث رجز, لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر".

_ 1 السيرة 2/ 16. 2 السيرة 2/ 20. 3 السيرة 2/ 82. 4 السيرة 3/ 138, 139. 5 السيرة 1/ 34. 6 السيرة 1/ 164.

وضرب ثالث من تعقيباته: يذكر فيه أبياتا من الشعر الذي أورده ابن إسحاق ويكتفي بها ولا يورد باقيها، ثم يقول: إن ذلك ما صح له منها. وقد تكرر منه ذلك في ثمانية مواضع1؛ منها: أن ابن إسحاق أورد أبياتا لعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف، وقد اجتزأ ابن هشام بثلاثة أبيات منها، وقال2: "قال ابن هشام: هذا ما صح له منها". وروى ابن إسحاق أبياتا كثيرة لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، ومع أن ابن هشام قال: إنها تروى لابنه أمية, فقد قال أيضا3: هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها, إلا آخرها بيتا قوله: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فإنه للنابغة في قصيدة له. وذكر ابن سلام أن هذا البيت ترويه عامر للنابغة، والرواة مجمعون على أن أبا الصلت بن أبي ربيعة قاله. وقد أتى به مثلا على أن الشاعر قد يستزيد في شعره بيتا قاله قائل قبله، كالمتمثل حين يجيء موضعه من غير أن يقصد اجتلابه أو سرقته. وأورد ابن إسحاق قصيدة أبي طالب، فذكر ابن هشام منها أربعة وتسعين بيتا، ثم قال4: "وهذا ما يصح لي من هذه القصيدة, وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها". والضرب الرابع: مثل ما يؤثر من أن ابن هشام كان يورد الشعر الذي أورده ابن إسحاق كاملا لا يخرم منه بيتا, ثم يذكر أنها منحولة. وقد تكرر

_ 1 جـ1/ 53، 68، 104، 122، 399, جـ3، ص187, جـ4 ص34. 2 السيرة 1/ 53. 3 السيرة 1/ 68, 69. 4 السيرة 1/ 299.

منه ذلك في ستة وثلاثين موضعا1, ويكاد يلتزم في تعبيره عن شكه أربعة أنواع من العبارة: أ- يورد ما رواه ابن إسحاق من شعر لأبي بكر الصديق2, وعبد الله بن الزبعرى3, وسعد بن أبي وقاص، وحمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وهند بنت أثاثة، وحسان بن ثابت، وميمونة بنت عبد الله، وكعب بن الأشرف، وعلي بن أبي طالب، والزبرقان بن بدر، والحارث بن هشام، ويعقب على كل قصيدة يوردها لهؤلاء بقوله: "وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها له"4. ب- ويورد ما رواه ابن إسحاق من شعر لمالك بن الدخشم5، ومكرز بن حفص، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وضرار بن الخطاب، والحارث بن هشام, وهند بنت عتبة، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن الزبعرى، وعمرو بن العاص، وخبيب بن عدي، ومسافع بن عبد مناف، ويعقب على كل قصيدة يوردها لهؤلاء بقوله: "وبعض أهل الشعر ينكرها له". جـ- وإذا كان قد ذكر في العبارات الأولى: "أكثر أهل العلم بالشعر"، وفي العبارات الثانية: "بعض أهل العلم بالشعر"، ففي عبارة ثالثة يقول: "إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذه الأبيات".

_ 1 جـ1/ 179, جـ2/ 244، 245، 246، 248، 303، 304, 305, 442, جـ3/ 8، 11, 24، 29، 30، 41، 42، 44، 56، 57، 148، 151، 154، 163، 174، 178، 185، 187، 193، 206، 236، 280، 281, جـ4/ 34، 62، 90، 209، 231. 2 السيرة 2/ 242. 3 السيرة 2/ 244. 4 السيرة 2/ 245، 246، 248, 3/ 8-11, 44، 56, 57, 163, 193، 236, 4/ 29. 5 2/ 304، 305، 3/ 24، 29، 30, 41, 42, 148, 151, 154, 174, 178، 185, 186، 187، 281, 280.

ومن ذلك أن ابن إسحاق روى عن محمد بن سعيد بن المسيب خبر وفاة عبد المطلب بن هاشم، وبكاء بناته الست عليه، وهن: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة، وأروى. وقد بكت عليه كل واحدة بشعر أورده ابن هشام، ثم عقب عليه بقوله1: "ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه". وكذلك روى ابن إسحاق قصيدتين؛ الأولى: لعلي بن أبي طالب في يوم بدر، والثانية: نقيضتها وهي للحارث بن هشام بن المغيرة، وقد أوردهما ابن هشام وقال: "ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها ولا نقيضتها، وإنما كتبناهما لأنه يقال: إن عمرو بن عبد الله بن جدعان قتل يوم بدر ولم يذكره ابن إسحاق في القتلى، وذكره في هذا الشعر"2. وروى ابن إسحاق أبياتا لعلي بن أبي طالب, فأوردها ابن هشام، وقال: "قالها رجل من المسلمين يوم أحد غير علي، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر، ولم أر أحدا منهم يعرفها لعلي"3. د- وقد نص في موضع واحد على اسم عالم من علماء اللغة والشعر والأخبار، هو: أبو عبيدة، وذلك أنه أورد قصيدة من اثني عشر بيتا، رواها ابن إسحاق لعمرو بن معديكرب، ثم قال: إن أبا عبيدة أنشده الأبيات الثلاثة الأولى منها، وفيها خلاف في رواية بعض ألفاظها، وإنه لم يعرف سائرها4. وثمة مآخذ أخرى استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، ولم تدخل في الضروب الأربعة السالفة, وهي: 1- يروي ابن إسحاق قصيدة لأمية بن أبي الصلت يبكي زمعة بن الأسود وقتلى بني أسد, ويوردها ابن هشام كما رواها ابن إسحاق، ويعقب عليها بقوله: "هذه الرواية لهذا الشعر مختلطة ليست بصحيحة البناء، ولكن أنشدني أبو محرز خلف الأحمر وغيره، وروى بعض ما لم يرو بعض". ثم يورد القصيدة بهذه الرواية الأخرى، صحيحة البناء مستقيمة الوزن5.

_ 1 2/ 179. 2 السيرة 3/ 11. 3 السيرة 3/ 174. 4 السيرة 4/ 231. 5 السيرة 3/ 34.

2- ويروي ابن إسحاق قصيدة من ثلاثة عشر بيتا للعباس بن مرداس، وقد رواها كلها متتابعة على أنها قصيدة واحدة -إذ إنها ذات وزن واحد وروي واحد- وأوردها على ذلك ابن هشام، ثم عقب عليها بقوله: "قال ابن هشام: من قوله: "أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها ... إلخ" في هذا اليوم، وما قبل ذلك في غير هذا اليوم, وهما مفصولتان, ولكن ابن إسحاق جعلهما واحدة"1. 3- ويحذف ابن هشام بيتا أو أبياتا من قصيدة رواها ابن إسحاق، لا لشك في صحة الشعر ونسبته، وإنما لأن الشاعر أقذع فيه. وكذلك أبدل كلمات من شعر رواه ابن إسحاق؛ لأن الشاعر "نال فيها من النبي, صلى الله عليه وسلم" وترك بيتين من قصيدة لأمية بن أبي الصلت؛ لأنه "نال فيهما من أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم"2. 4- وله أحيانا تعليقات على ما يورد من الشعر, من حيث العروض أو من حيث جمال الشعر. فمن ذلك أن يذكر كلاما لرئي من الجن هو: "ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإبساسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها"، ثم يعقب عليه بقوله: "قال ابن هشام: هذا كلام سجع وليس بشعر"3. وذكر قولهم: "لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة" وعقب عليه بقوله: "هذا كلام وليس برجز"4. ويورد كذلك أبيات سبيعة بنت الأحب، ومطلعها: أبني لا تظلم بمـ ... ـكة لا الصغير ولا الكبير ثم قال: يوقف على قوافيها لا تعرب5, وأورد أبياتا على الكاف المكسورة رواها ابن إسحاق لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ثم عقب عليها بقوله: "بقيت منها أبيات تركناها لقبح اختلاف قوافيها".

_ 1 السيرة 4/ 84. 2 3/ 11، 33. 3 السيرة 1/ 223, 224. 4 السيرة 2/ 142. 5 السيرة 1/ 27.

ويورد أبياتا لحسان بن ثابت يذكر عدة أصحاب اللواء يوم أحد، ثم يعقب عليها بقوله: "هذا أحسن ما قيل". ويورد أبياتا رواها ابن إسحاق لأبي أسامة معاوية بن زهير بن قيس، ويعقب عليها بقوله1: "وهذه أصح أشعار أهل بدر"2. هذا ما ذكره ابن هشام عن الشعر الجاهلي الذي رواه ابن إسحاق في سيرته, ومعظمه شعر حجازي. 5- وأورد ابن سلام ما يروى عن الشعبي، عن ربعي بن خراش, من أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم الذي يقول: لفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون؟ وعلق عليه بقوله: هذا غلط على الشعبي أو من الشعبي, أو من ابن خراش. أجمع أهل العلم على أن النابغة لم يقل هذا، ولم يسمعه عمر، ولكنهم غلطوا بغيره من شعر النابغة، وقد عد الجاحظ أيضا البيت السالف من منحول شعر النابغة3. وكذلك ذكر مرجوليوث هذا البيت، أثناء حديثه عن الأدلة التي ساقها لإثبات نظريته في أن الشعر الذي نقرؤه على أنه شعر جاهلي، إنما نظم في العصور الإسلامية. ويرى أن النابغة كان يعرف قصة نوح بتفصيلاتها، ويعقب على ذلك بقوله: "ويبدو أن القرآن هو المصدر الوحيد عن هذا الأمر"، ثم يورد بيت النابغة، ويقول: وهنا إشارة إلى الصفة "أمين" وهي في القرآن من صفات

_ 1 السيرة 3/ 35, 156, 223. 2 راجع في هذا الموضوع: "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" 337-345. 3 الحيوان 2/ 246.

"نوح" ويعني بذلك الآيات: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ, إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ, إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 1. وقد ذكر ابن سلام حسان بن ثابت، فقال عنه2: "إنه كثير الشعر جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبت, وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تنقى"3. وذكر أبو عمرو بن العلاء، أن ذا الإصبع العدواني قال يرثي قومه4: وليس المرء في شيء ... من الإبرام والنقض إذا يفعل شيئا خا ... له يُقضى وما يقضي جديد العيش ملبوس ... وقد يوشك أن يفضي ثم نص على أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع الضادية هذه إلا الأبيات التي أنشدها، وأن سائرها منحول, بينما نرى أبا الفرج نفسه يورد من هذه القصيدة غير الأبيات المتقدمة نحوا من أربعة وعشرين بيتا آخر5. وذكر الجاحظ في الحيوان، قول غيلان بن سلمة: في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع كأن متونه السحل عقلا ورقما ثم أردفه ... كلل على ألوانها الخمل كدم الرعاف على مآزرها ... وكأنهن ضوامرا إجل ثم علق على ذلك بقوله: وهذا الشعر عندنا للمسيب بن علس، فهو إذًا يجزم بأن هذا الشعر محمول على غيلان، ولكن دون حجة أو دليل. ولننتقل بعد هذا لدراسة لاميتي الشنفرى وتأبط شرا.

_ 1 راجع مقالة مرجوليوث عن أصول الشعر العربي، في عدد يوليو 1925, من المجلة الملكية الآسيوية. 2 طبقات الشعراء 179, تعاضهوا: تراموا بالإفك والشتيمة. 3 الأغاني 3/ 106. 4 المصدر نفسه 3/ 96. 5 المصدر نفسه 12/ 107, 108.

لامية العرب بين الشنفرى وخلف الأحمر: فأما لامية الشنفرى فقصيدة مشهورة تسمى لامية العرب, وقد قال أبو علي القالي1: كان أبو محرز -وهي كنية خلف بن حيان الراوية الشهير بخلف الأحمر- أعلم الناس بالشعر واللغة وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية. ومن العجيب أن أبا بكر بن دريد على تفضيله خلفا على الأصمعي وجعله الأول بحرا والثاني ثمادا، قد ذكر أن خلفا هو قائل هذه اللامية، ولكن مما يضعف هذا الاتهام ويرجح أن القصيدة للشنفرى، أن ابن سلام ينص على علم خلف بالشعر، وينص كذلك على توثيقه في الرواية. ثم لا يكتفي بأن يجعل ذلك رأيا خاصا به، وإنما يذكر أن هذا الرأي هو إجماع علماء البصرة، قال ابن سلام: "أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقهم لسانا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرا أو أنشدنا شعرا ألا نسمعه من صاحبه"، ولرأي ابن سلام قيمة خاصة, إذ إن ابن سلام هو من نعرف شكا في بعض الشعر الجاهلي، ونصا على بعض المنحول منه، والحق أن ابن سلام لم يكتف بكل هذا الذي قاله في توثيق خلف، وإنما أضاف إليه أقوالا أخرى ذهب فيها إلى أن خلفا كان ناقدا للشعر الجاهلي، يميز صحيحه من فاسده, وينص على المنحول منه، ويردد كثيرا مما كان يروى في زمنه. ومن أجل هذا جاءه خلاد بن يزيد الباهلي, وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله, فقال له: بأي2 شيء تردد هذه الأشعار التي تروي؟ فقال له خلف: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت.

_ 1 الأمالي 1/ 156. 2 طبقات الشعراء 8.

وهو يصوره أيضا أنه -في شكه في بعض الشعر الجاهلي- لا يقطع ولا يجزم، وإنما يقول: إن هذه الأبيات أو تلك القصيدة "يقال": إنها لفلان؛ فمن ذلك أن ابن سلام سأله عن بيت من الشعر: من يقوله؟ فأجابه: "يقال: للزبير بن عبد المطلب"1. ولقد تجنى بعض الرواة على خلف، حتى إنهم وضعوا على لسانه شعرا ورجزا، ثم نسبوا إليه أنه وضع ذلك الشعر ونحله الشعراء القدماء. قال الجاحظ2: "ولقد ولدوا على لسان خلف الأحمر، والأصمعي، أرجازا كثيرة، فما ظنك بتوليدهم على ألسنة القدماء؟ " وكل ذلك يرجح رأينا في أن هذه القصيدة قد نظمها الشنفرى، ولم ينحله إياها خلف الأحمر.

_ 1 طبقات الشعراء 205. 2 الحيوان 4/ 181, 182.

لامية تأبط شرا

لامية تأبط شرا: وقد اختلف النقاد كذلك في نسبة اللامية التي مطلعها: إن بالشعب الذي جنب سلع ... لقتيلا دمه ما يطل فنسبها بعضهم، كأبي تمام في حماسته1، إلى تأبط شرا، ولم يشر إلى أنها قد تنسب إلى غيره. ونسبها بعضهم إلى الشنفرى2، ولم يشر كذلك إلى أنها قد تنسب إلى غيره. ونسبها بعضهم إلى ابن أخت تأبط شرا، قالها في خاله. وسواء أكانت هذه القصيدة لتأبط شرا أم لابن أخته أم للشنفرى، فهي جاهلية صحيحة وليست منحولة. وهؤلاء جميعا كانوا يضطربون في بيئة حجازية؛ فناظم هذه القصيدة إذًا -وأيا كان هذا الاختلاف- جاهلي حجازي, بيد أن عقدة هذا الموضوع فيما ذكروه من أن خلفا هو ناظم هذه القصيدة، وقد نحلها تأبط شرا.

_ 1 جـ1 ص348. 2 الأغاني 6/ 86, 87، وأمالي المرتضى 1/ 28.

فلنبدأ بمناقشة أقوال من ذهب إلى أنها منحولة، ثم نعقب بما يثبت رأينا من الأخبار والأقوال. قال التبريزي: قال: قال النمري1: ومما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها: "جل حتى دق فيه الأجل"، فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا. قال أبو محمد الأعرابي2: هذا موضع المثل: "ليس بعشك فادرجي" وليس هذا كما ذكره، بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظا ومعنى, وليس من هذه الجهة عرف أن الشعر مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكره لنا أبو الندى3. قال: "مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه سلعا، وهو بالمدينة، وأين تأبط شرا من سلع؟ وإنما قتل في بلاد هذيل ورمي به في غار يقال له: رخمان". وفي هذا النقض دليل على إحساس الأقدمين أنفسهم بضعف قول من قال: إن هذه القصيدة لخلف نحلها تأبط شرا أو ابن أخته، وما هو هذا المعنى الفلسفي العميق الذي لا يستطيع أن يتغلغل إليه الأعرابي؟ إنه كما قالوا نصف بيت في القصيدة كلها وهو قوله: جل حتى دق فيه الأجل. فإذا كشفت عن هذا المعنى لم تجده يعني شيئا غير قوله: إن وفاة هذا الرجل لأمر عظيم يصغر بإزائه كل عظيم من الأمور. فأي عمق في هذا القول لا يدركه الأعرابي ومن هو دون الأعرابي4. بيد أن الدليل الذي أقامه أبو الندى على أنقاض هذا الدليل؛ لإثبات أن هذه القصيدة مصنوعة، وهو أن الشاعر ذكر سلعا وسلع: جبل بالمدينة،

_ 1 أحد شراح حماسة أبي تمام المتقدمين قبل التبريزي. 2 هو الحسن بن أحمد المعروف بالأسود الفندجاني, علامة نسابة, عارف بأيام العرب وأشعارها, من رجال آخر القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس. "ترجمته في نزهة الألباء 239، ومعجم الأدباء 7/ 261-265". 3 هو محمد بن أحمد، أبو الندى، كان أبو محمد الأعرابي يكثر من الرواية عنه والاعتماد عليه "معجم الأدباء 17/ 159-164". 4 المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها, تأليف: الدكتور عبد الله الطيب ص76, 77, التعليق رقم 1.

منقوض أيضا؛ فإن سلعا -كما ورد في القاموس مادة سلع، وفي معجم البلدان- اسم لعدة مواضع, ومنها كما نص الأقدمون أنفسهم جبل بهذيل, وقد وضح نقض هذا الخبر الذي يتهم خلفا بوضع هذه القصيدة ونحلها الشنفرى أو تأبط شرا أو ابن أخته، حيث قد رجح لدينا أن أكثر هذه القصيدة لا يمكن أن يكون موضوعا متكلفا منحولا. ويجدر بنا -بعد هذا- أن نورد كيف التبس الأمر على القوم في هذه القصيدة؟ فقد أورد الخالديان اثني عشر بيتا من هذه القصيدة ونسباها الشنفرى، ثم قالا: وقد زعم قوم من العلماء أن الشعر الذي كتبنا للشنفرى هو لخلف الأحمر، وهذا غلط. ونحن نذكر الخبر في ذلك: أخبرنا الصولي، عن أبي العيناء، قال: حضرت مجلس العتبي، ورجل يقرأ عليه الشعر للشنفرى، حتى أتى على القصيدة التي أولها: إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل فقال بعض من كان في المجلس: هذه القصيدة لخلف الأحمر. فضحك العتبي من قوله, فسألناه عن سبب ضحكة؟ فقال: والله ما لآل أبي محرز خلف من هذه القصيدة بيت واحد، وما هي إلا للشنفرى، وكان لها خبر طريف لم يبق من يعرفه غيري. قلنا: وما خبرها؟ قال: جلسنا يوما بالمربد، ونحن جماعة من أهل الأدب، ومعنا خلف الأحمر نتذاكر أشعار العرب، وكان خلف الأحمر أروانا لها وأبصرنا بها، فتذاكرنا منها صدرا، ثم أفضينا إلى أشعارنا، فخضنا فيها ساعة، فبينا خلف ينشدنا قصيدة له في روي قصيدة الشنفرى هذه وقافيتها, يذكر فيها ولد أمير المؤمنين عليهم الرحمة، وما نالهم وجرى عليهم من الظلم، إذ هجم علينا الأصمعي، وكان منحرفا عن أهل البيت، وقد أنشد خلف بعض الشعر، فلما نظر الأصمعي قطع ما كان ينشده من شعره ودخل في غيره إلا أنه على الوزن والقافية، ولم يكن فينا أحد عرف هذا الشعر ولا رواه للشنفرى، فتحيرنا لذلك وظنناه شيئا عمله على البديهة. فلما انصرف الأصمعي قلنا له: قد عرفنا غرضك فيما فعلت, وأقبلنا نطريه

ونقرظه، فقال: إن كان تقريظكم لي لأني عملت الشعر، فما عملته والله، ولكنه للشنفرى يرثي تأبط شرا، ووالله لو سمع الأصمعي بيتا من الشعر الذي كنت أنشدكموه ما أمسى أن يقوم به خطيبا على منبر البصرة فيتلف نفسي. فادعاء شعر، لو أردت قول مثله ما تعذر علي، أهون عندي من أن يتصل بالسلطان، فألحق باللطيف الخبير. قال أبو العيناء: فسألنا العتبي شعر خلف الذي ذكر فيه أهل البيت، فدافعنا مدة, ثم أنشد: قدك مني صارم ما يفل ... وابن حزم عقده لا يحل ينثني باللوم من عاذليه ... ما يبالي أكثروا أم أقلوا "وهي 47 بيتا أوردها كلها، ثم قال": كتبنا هذه القصيدة بأسرها؛ لأنها في سادتنا عليهم السلام، ولأنها أيضا غريبة لا يكاد أكثر الناس يعرفها1.

_ 1 حماسة الخالديين "مخطوط في دار الكتب المصرية رقم 587 أدب" ورقة 120-122.

شعر أمية بن أبي الصلت الديني

شعر أمية بن أبي الصلت الديني ... شعر أمية بن أبي الصلت المديني: ومن أشهر من شك في شعر أمية بن أبي الصلت الدكتور طه حسين، والواقع أن الدكتور طه حسين لم يشك في شعر أمية وحده, إنما أمسك بمعول الشك يهدم به الشعر الجاهلي ولا سيما ذلك الذي ينسب إلى ربيعة، واليمن. وقد شك بخاصة في شعر شعراء سماهم بأسمائهم, وهم: امرؤ القيس، وعلقمة, وعبيد بن الأبرص، وعمرو بن قميئة, ومهلهل، وعمرو بن كلثوم، وطرفة، والحارث بن حلزة, والمتلمس، والأعشى ... أما شعراء مضر، فقد وقف منهم موقفا وسطا بين القبول والرفض. وقد قال في كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أحدث ضجة كبرى في الأوساط الأدبية والدينية بمصر وغير مصر: "ولنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة؛ لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته تقريبا، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون

أن تحول بيننا وبين ذلك عقبة لغوية عنيفة، وإذًا فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث في سفر آخر، وسترى أن الشعراء الجاهليين من مضر قد أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم، فليس غريبا أن يصح من شعرهم شيء كثير"1، وقد وفى بوعده فذكر في كتابه: "في الأدب الجاهلي" رأيه في الشعر المضري الذي يتلخص في قوله: "ونحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار؛ لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين، فقد بينا غير مرة أننا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام, وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب. وإذًا فليس يبعد -بوجه من الوجوه- أن يكون الشعراء الذين نجموا في هذه الناحية، قد قالوا الشعر في هذه اللغة القرشية الجديدة، بل نحن لا نشك في هذا ولا نتردد في القطع به ... 2". لسنا نشك في أنه قد كان لمضر شعر في الجاهلية، ولسنا نشك أيضا في أن هذا الشعر قديم العهد، بعيد السابقة، أقدم وأبعد مما يظن الرواة والمتقدمون من العلماء. ولكننا لا نشك أيضا في أن هذا الشعر قد ذهب، وضاعت كثرته، ولم يبق لنا منه إلا شيء قليل جدا لا يكاد يمثل شيئا، وهذا المقدار القليل الذي بقي لنا من شعر مضر قد اضطرب، وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدا -إن لم يكن من المستحيل- تلخيصه وتصفيته. ويلخص الدكتور طه حسين موقفه من الشعر الجاهلي بقوله: "إننا نرفض شعر اليمن في الجاهلية، ونكاد نرفض شعر ربيعة أيضا ... وأقل ما توجبه علينا الأمانة العلمية، أن نقف من الشعر المضري الجاهلي، لا نقول: موقف الرفض أو الإنكار، وإنما نقول: موقف الشك والاحتياط"3.

_ 1 في الشعر الجاهلي، ص181, 182, الطبعة الأولى 1926. 2 في الأدب الجاهلي، الطبعة الرابعة، ص275, 276. 3 في الأدب الجاهلي ص271، 275.

وقد كان الباحثون من الفرنجة يرون خطأ وإنما أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها. ولكنهم رأوا أن يضيفوا إلى هذه المصادر مصدرا عربيا خالصا، والتمسوا هذا المصدر من شعر العرب الجاهليين، ولا سيما الذين كانوا يتحنفون منهم. وزعم "كليمان هوار" -في فصل طويل, نشرته له المجلة الأسيوية سنة 1804- أنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم, واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت. وقد أطال "هوار" في هذا البحث, وقارن بين هذا الشعر الذي ينسب إلى أمية بن أبي الصلت وبين آيات القرآن، وانتهى من هذه المقارنة إلى نتيجتين: الأولى: أن هذا الشعر الذي ينسب إلى أمية بن أبي الصلت صحيح؛ لأن هناك فروقا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص، ولو كان منتحلا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن، وإذا كان هذا الشعر صحيحا فيجب في رأي الأستاد "هوار" أن يكون النبي قد استعان به قليلا أو كثيرا في نظم القرآن. الثانية: أن صحة هذا الشعر, واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين على محاربة شعر أمية بن أبي الصلت ومحوه؛ ليستأثر القرآن بالجدة، وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء. وعلى هذا النحو العجيب استطاع "هوار" أو خيل إليه أنه استطاع أن يثبت أن هناك شعرا جاهليا صحيحا, وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له -في رأيه الخاطئ- أثر في القرآن. ويعلق الدكتور طه حسين على ذلك بقوله: والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع أنهم يشكون في صحة السيرة نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا، وإنما هي عندهم طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها. هم يقفون هذا الموقف من السيرة ويغالون في هذا

الموقف، ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن, مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق, ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة. فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار, دون النحو الآخر؟! أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات؟! ويقف الدكتور طه حسين من شعر أمية نفس الموقف الذي وقفه من شعر الجاهليين جميعا، فيقول: "وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في صحة امرئ القيس والأعشى وزهير، وإن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت". ثم إن الموقف نفسه، يحملني على أن أرتاب في شعر أمية بن أبي الصلت، فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة، هجا أصحابه، وأيد مخالفيه، ورثى أهل بدر من المشركين، وكان هذا وحده يكفي لينهى عن رواية هذا الشعر، وليضيع هذا الشعر كما ضاع الكثير من الشعر الوثني الذي هجي فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم، وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود. وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهى عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي وأخبار الغيب؛ فما كان شعر أمية بن أبي الصلت إلا شعرا كغيره من الشعر، لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض القرآن. وما كان علم أمية بن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى، وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم، فأمر النبي مع أمية بن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوه وناهضوه وألبوا عليه. ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يروى من أن النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنف، فقال: "آمن لسانه وكفر قلبه". آمن لسانه لأنه كان يدعو إلى مثل ما كان يدعو إليه النبي، وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين على صاحب هذا الدين محمد الصادق الأمين، فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا النبي ووادعوه، حتى إذا

خافوه على سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش. ليس إذًا شعر أمية بن أبي الصلت بدعا في شعر المتحنفين من العرب أو المتنصرين أو المتهودين منهم، وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه إلا ما كان منه هجاء للنبي وأصحابه ونعيا على الإسلام، فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع. ولكن في شعر أمية أخبارا وردت في القرآن: كأخبار ثمود، وصالح، والناقة، والصيحة. ويرى "هوار" أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن, دليل على صحة هذا الشعر من جهة، وعلى أن النبي -كما يزعم كذبا هوار- قد استقى منه أخباره من جهة أخرى. ولكن من الذي زعم أن ما جاء في القرآن من الأخبار كان مجهولا من قبل؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم؟ ولم يكن من العسير إذًا أن يعرفه المتصلون بأهل الكتاب. ثم كان النبي وأمية متعاصرين، فلم يكون النبي هو الذي أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي؟ ثم من الذي يستطيع أن يقول: إن من يتحمل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن؟ أليس من المعقول أن يخالف بينهما ما استطاع؛ ليخفي الانتحال ويوهم أن شعره صحيح لا تكلف فيه, ولا تعمل؟ بلى. ثم يلخص طه رأيه في شعر أمية وغيره من المتحنفين، فيقول1: "ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية بن أبي الصلت, وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله، انتحل انتحالا، انتحله المسلمون ليثبتوا إن للإسلام قدما وسابقة في البلاد العربية. ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل".

_ 1 في الشعر الجاهلي 81-86.

ونحن مع الدكتور طه حسين في دفاعه القوي البليغ عن القرآن في هذا الموضع من كتابه، ضد بعض المستشرقين الذين اصطنعوا هذا الأسلوب المشين للتشكيك في القرآن، واتخذوا من البحث في شعر أمية بن أبي الصلت تكأة للنيل من الإسلام, ولكننا لسنا معه في الشك في شعر أمية بن أبي الصلت جملة وتفصيلا، وإن كنا نعتقد أن كثيرا من شعر أمية قد ضاع، فقد وقف الحجاج بن يوسف الثقفي -يوما- على المنبر، فقال: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام!! "، وبين الحجاج وأمية نحو من ثمانين سنة. كما أن طائفة منه قد تعرضت للنحل والوضع, وقد نص النقاد على بعض مواضع الانتحال؛ فالأصمعي ينفي عنه القصيدة المنسوبة إليه التي منها: من لم يمت غبطة يمت هرما ... الموت كأس فالمرء ذائقها وينسبها لرجل من الخوارج، ونقد قوله: "الموت كأس". أما من نسب هذه القصيدة لأمية فهو الزبير بن بكار عن شيوخه, وعن الحسن البصري أيضا. وقد سبق أن ذكرنا حديث النابغة الجعدي مع الحسن بن علي، حين أنشده قصيدته: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما فقال له الحسن: با أبا ليلى، ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت. قال: يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها. كما نلاحظ أن بعض شعر أمية مشكوك في نسبته إليه، وقد نص بعض المؤرخين على شعر له يروى لشعراء آخرين، كما فعل ابن هشام في تعقيباته على ابن إسحاق1. والقصيدة التي منها: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما

_ 1 راجع السيرة 1/ 60, 61, 67، 242، 247.

نسبها يونس للنابغة الجعدي، ونسبها أبو عبيدة لأمية، ثم سئل خلف الأحمر عنها فقال: للنابغة، وقد يقال: لأمية. واختلاف الرواة في نسبة الشعر الجاهلي لا يعني أن هذا الشعر منحول؛ لأن هذا الخلاف لا يخرجه عن نطاق الشعر الجاهلي. ومعنى هذا أن جاهلية هذا الشعر لا شك فيها عند الرواة، وإنما الخلاف في قائليها. ومن الممكن ترجيح نسبة القصيدة لشاعر بعينه, إذا كانت مشاكلة لشعره، وتبدو فيها شخصيته. وكان الجاحظ يقول إذا ما شك في نسبة الشعر: "وقال أمية, إن كان قالها". وما ذكره الدكتور طه من أن النبي -صلى الله عليه وسم- نهى عن رواية شعر أمية، وأن هذا وحده كافٍ لأن يضيع هذا الشعر، يرده ما جاء في الحديث الصحيح، من أن النبي استشهد رجلا شعر أمية، فظل ينشده حتى أنشد مائة بيت. ولو صح أن النبي نهى عن شعره لكان هذا النهي مقصورا على قصيدة أمية التي رثى بها قتلى قريش في وقعة بدر ... على أنا نجد هذه القصيدة التي يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن روايتها, واردة في بعض كتب السير والمغازي, وقد رواها ابن هشام في نحو ثلاثين بيتا. وينكر الدكتور طه حسين كل ما يروى من الشعر والأخبار الممهدة للبعثة النبوية, مع أن انتظار بعض علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى لبعثة نبي عربي من المسائل التي ذكرها القرآن. ثم ما الذي يمنع أن يسبق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- شعر أو خبر يتصل بها؟ ليس هناك ما يمنع من ذلك!! وإنما شأن هذه الأشعار والأخبار الممهدة لرسالة النبي الكريم شأن الأشعار الجاهلية كلها، أن توضع على محكّ النقد الصحيح، ويفحص ما يرد في هذا الصدد فحصا دقيقا حتى يتميز صحيحه من فاسده، ويتخذ مكانه من الوضع أو الضعف أو الصحة. وكذلك فعل العلماء الثقات؛ فحكموا على جانب من ذلك بالوضع والنحل، كالأخبار والأشعار المعزوَّة إلى قس بن ساعدة.

على أننا لا يمكن أن نتجاهل -كما يقول نيكلسون- أن قدرا كبيرا من المشاعر الدينية ممثل في الشعر الجاهلي، وإذا كان قد سبق قول بعض العلماء بأن بعض تلك القصائد منحول، فإن هذا القول لم يعد قائما، والفضل في تقويضه أولا إلى فون كريمر، وسير شارلس ليال، وفلهاوزن؛ لأنهم أثبتوا: أ- أن الشعور الديني الذي تمثله هذه القصائد ليس في كثير من الحالات إسلاميا في لهجته. ب- وأن الموضوعات التي ورد فيها ليست من الإسلام. جـ- وأنه نتيجة طبيعية لتأثير المسيحية واليهودية الذي عم انتشاره1. ولننتقل بعد هذا لدراسة الدواوين الشعرية، وهي على نوعين: دواوين القبائل, والدواوين المفردة.

_ 1 Niholson p.140.

دواوين القبائل الحجازية

دواوين القبائل الحجازية: فأما "دواوين القبائل" فتطلق على تلك المجموعات الشعرية التي تشتمل كل ضميمة منها على شعر شعراء القبيلة وما يتصل بذلك من أنساب وأخبار وقصص وأحاديث ... وهذه الدواوين تسمى مرة "كتبا" ومرة أخرى "أشعارا". وقد عد طائفة منها: "ابن النديم" في "الفهرست"، والآمدي في "المؤتلف والمختلف". أما ابن النديم فقد ذكر تسعة وعشرين ديوانا من دواوين القبائل العربية عامة، نسب ثمانية وعشرين منها إلى صانعها أبي سعيد السكري، وواحدا منها إلى ابن الكلبي. وأما الآمدي فقد ذكر منها ستين ديوانا لم ينسبها إلى جامع أو صانع من الرواة العلماء، ما عدا إشارة إلى ديوانين منها، وهما: "أشعار بني تغلب"، و"أشعار الرباب"، فقد قال عن الأول في معرض حديثه عن ابن جعيل التغلبي: "وله فيما تنخلته من أشعار بني تغلب مقطعات حسان"، كما قال عن الثاني: "ووجدت في أشعار الرباب

عن المفضل وحماد ... إلخ"، مما يشير إلى أن ديوان الرباب كله -أو جله- عن المفضل وحماد, وهذه الوفرة العددية في دواوين القبائل، ما هي إلا غيض من فيض. فالسكري لم يصنع من دواوين القبائل العربية إلا جزءا، إذ لم يتح له أن يستوعب القبائل كلها، وأبو عمرو الشيباني ذكر له البغدادي ديوان بني تغلب، وديوان بني محارب، ولم يذكر له ابن النديم شيئا, مع أنه -كما روى ابنه عمرو- جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، كل قبيلة وحدها في ديوان مستقل1. فكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها للناس كتب مصحفا وجعله في مسجد الكوفة، حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا بخطه. هذا فضلا عما صنعه الرواة الثقات الآخرون ممن لم نذكرهم، أمثال: معمر بن المثنى، وخالد بن كلثوم الكلبي، ومحمد بن حبيب. ومع هذا المجهود الضخم الذي بذله العلماء الثقات في جمع أشعار القبائل، وكثرة الأسماء التي ذكرتها المصادر، فإن ابن قتيبة يقول: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال، ولا أحسب أحدا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"2 وما أشد أسف الباحث، إذا ما علم أن هذا الكنز الثمين من دواوين القبائل العربية، لم تبق لنا منه أيدي الضياع إلا ديوانا واحدا هو: "ديوان هذيل" الذي سنتحدث عنه عما قليل. والذي يهمنا في هذا البحث هو دواوين القبائل الحجازية التي استطعنا تجريدها مما ذكره الآمدي وابن النديم؛ فقد ذكر الآمدي ثمانية عشر ديوانا حجازيا، كما ذكر ابن النديم تسعة دواوين حجازية انفرد بديوان واحد منها هو: "أشعار بني مخزوم" واشترك مع الآمدي في ثمانية منها، وهي: أشعار أشجع، وأشعار بجيلة، وأشعار بني عدوان، وأشعار بني فزارة، وأشعار فهم، وأشعار كنانة, وأشعار مزينة، وأشعار هذيل, كما انفرد الآمدي بذكر عشرة دواوين.

_ 1 الفهرست 101. 2 الشعر والشعراء 1/ 4.

وهذا ثبت بأسماء دواوين القبائل الحجازية: ثبت بأسماء دواوين القبائل الحجازية: 1- كتاب أشجع. 2- كتاب بجيلة. 3- كتاب جهينة. 4- كتاب بلي. 5- كتاب خثعم. 6- كتاب خزاعة. 7- كتاب بني سليم. 8- كتاب عدوان. 9- كتاب بني عذرة. 10- كتاب فزارة. 11- أشعار فهم. 12- كتاب بني فريظة. 13- أشعار بني مخزوم. 14- كتاب كنانة. 15- كتاب بني مرة بن عوف. 16- كتاب مزينة. 17- كتاب نهد. 18- كتاب بني هاشم. 19- شعر هذيل. ونحب أن نلاحظ أننا أغفلنا بعض الأسماء المشتركة بين القبائل الحجازية وغير الحجازية، كبني عدي, وبني سعد.

ديوان الهذليين

ديوان الهذليين: والديوان الوحيد الذي بقي لنا من دواوين القبائل الحجازية، بل من دواوين القبائل العربية كافة، هو ديوان الهذليين. قال أبو سعيد: "قيل لحسان بن ثابت الأنصاري, رضي الله عنه: أي الناس أشعر؟ فقال: رجل بأذنه، أم قبيل بأسره؟ قال: بل قبيل بأسره، قال: هذيل فيهم نيف وثلاثون شاعرا أو نحو ذلك، وبنو سنان مثلهم مرتين ليس فيهم شاعر واحد". وإذا فهمنا من هذا النص أن جميع من روي له شعر من هذيل "نيف وثلاثون شاعرا أو نحو ذلك"، يكون ديوان هذيل الذي بين أيدينا قد ضم بين دفتيه جميع

هؤلاء الشعراء، إذ إن ديوان الشعراء الهذليين فيه نحو من أربعين شاعرا. بيد أن أكثر من نصفهم قد روي لكل منهم أقل من خمسة وعشرين بيتا، بل إن بعض هؤلاء لم يرو له إلا بيتان أو ثلاثة أو أربعة. أما الشعراء الذين تجاوز شعرهم مائة بيت فسبعة فقط. وإذا كان غير محتمل أن يسمي حسان -في عبارته المتقدمة- من لم يقل إلا البيتين أو الثلاثة أو الأربعة شاعرا، فنحن إذًا بين اثنتين: إما أن يكون عدد الشعراء كاملا أو مقاربا، ولكن ما روي لهم من الشعر ناقص غير مستوفى، وإما أن يكون كثير من الشعراء لم يذكروا في الديوان الذي بين أيدينا. وكلا الأمرين ينتهيان بنا إلى نتيجة واحدة، هي: أن ما بين أيدينا من شعر هذيل غير كامل1. ويؤكد ذلك ما قيل عن الإمام الشافعي2 عن أنه "كان يحفظ عشرة آلاف بيت من شعر هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها". والذي بين أيدينا من هذا الشعر -في أطول رواياته- لا يكاد يبلغ ثلاثة آلاف بيت. والشعر الذي بين أيدينا للهذليين أقل من نصف ما كان يحفظه الشافعي، كما أن بعض العلماء قد استدركوا ما فات السكري ذكره من شعر هذيل، ومنهم ابن جني الذي ألف كتاب "التمام في تفسير أشعار هذيل" مما أغفله أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري -رحمه الله- وحجمه خمسمائة ورقة، بل يزيد على ذلك3. وقد طبع ديوان هذيل في مجموعتين: الأولى في أوروبا، والثانية في مصر. وهناك أربع مجموعات: 1- "شرح أشعار الهذليين، صنعة أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري" طبعت في لندن سنة 1854م، بتحقيق وتقديم المستشرق جودفري وزكوجارتن.

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي، للدكتور ناصر الدين الأسد، ص653. 2 ابن حجر: توالي التأسيس بمعاني ابن إدريس، المطبعة العامرة ببولاق سنة 1301, ص59. 3 ياقوت: إرشاد 12/ 109.

2- "أشعار الهذليين, ما بقي منها في النسخة اللندنية غير مطبوع"، طبعت في برلين سنة 1884م، وفيها تعليقات وترجمة للشعر باللغة الألمانية، للمستشرق فلهاوزن. 3- "ديوان أبي ذؤيب"، وهو الجزء الأول من "مجموع دواوين من أشعار الهذليين"، نشره المستشرق الألماني يوسف هل، وطبعه في هانوفر سنة 1926. 4- "أشعار ساعدة بن جؤية، وأبي خراش، والمتنخل، وأسامة بن الحارث", وهو الجزء الثاني من "مجموعة أشعار الهذليين" نشرها يوسف هل، في ليبزج سنة 1933. وقد طبعت المجموعتان الأولى والثانية عن نسخة مخطوطة مضبوطة قديمة محفوظة في ليدن، كتبت في سنة 529-539هـ، كتبها محمد بن علي بن إبراهيم بن زبرج العتابي 484-556هـ، وكان إماما في النحو وعلوم العربية، مشهورا بجودة الخط مع الصحة والضبط، وقد نقلها من نسخة بخط السمسمي المتوفى سنة 425هـ، والمعروف بإتقان الخط والتحقيق، والذي ذكر العتابي في آخر المخطوطة أنه قابلها أيضا بنسخ أخرى؛ منها نسخة شيخه الجواليقي، ونسخة بخط الحميدي1. وقد روى هذه النسخة أبو الحسن علي بن علي بن عبد الله الرماني 296-384هـ, عن أبي بكر أحمد بن محمد بن عاصم الحلواني "بينه وبين أبي سعيد السكري نسب قريب، فروى عنه كتبه وكانت كثيرا ما توجد بخطه"2، عن أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري "المتوفى سنة 275هـ". وهكذا تنتهي رواية هذه النسخة إلى السكري, غير أنها ناقصة، والموجود منها هو الجزء الثاني فقط، وهو المطبوع في لندن سنة 1854م، وفي برلين سنة 1884م, وهي تظهر لنا صدق الأقدمين في وصفهم السكري بأنه كان الغاية في الجمع.

_ 1 انظر وصف المخطوطة في مقدمة "شرح أشعار الهذليين" ص4. 2 ياقوت: إرشاد 4/ 187, 188، وإنباه الرواة: 18.

وقد اعتمد السكري في جمعه ديوان هذيل على ثلاث روايات، هي: أ- رواية بصرية: الرياشي، عن الأصمعي، عن عمارة بن أبي طرفة الهذلي. ب- ورواية كوفية: محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني. جـ- ورواية جمعت بين الروايتين: محمد بن الحسن الأحول، عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي1. وقد نص السكري على كل قصيدة انفرد بها بعض هؤلاء الرواة دون غيرهم، وترك القصائد التي أجمعوا جميعا عليها من غير أن ينص على روايتها، وحسبنا أمثلة قليلة توضح ذلك: أ- فقد أورد تسعة عشر بيتا لمالك بن الحارث، اتفق الرواة جميعا على نسبة الأبيات الستة الأولى منها له، ثم اختلفوا بعد ذلك؛ فمنهم من جعل بقيتها قصيدة منفصلة نسبوها لتأبط شرا, يرد بها على مالك بن الحارث، ومنهم من جعلها كلها قصيدة واحدة منسوبة إلى مالك؛ ولذلك قال السكري عند البيت التاسع منها: "هذا آخر ما في رواية الجمحي وأبي عبد الله، قالا: فأجابه تأبط شرا الفهمي ثم العدوي به، وأما أصحاب الأصمعي فيجعلونها قصيدة واحدة, ويروونها لمالك بن الحارث إلى آخرها". ب- وأورد قصيدة لحبيب الأعلم، وقال في مقدمتها: "لم يروها أبو نصر, ولا أبو عبد الله، ورواها الباهلي والجمحي". جـ- وأورد قصيدة لساعدة بن العجلان، وقال في مقدمتها: "رواها الأصمعي، ولم يروها ابن الأعرابي". د- وأورد عشرة أبيات لساعدة بن العجلان، قال عند البيت السادس منها: "هذا آخرها في رواية الأصمعي، والباقي عن الجمحي والباهلي وأبي نصر وأبي عمرو, قال أبو نصر: لم يرو الأصمعي من ههنا إلى آخرها". هـ- وأورد قصيدة لأبي جندب، قال عند البيت الرابع منها: "هذا أولها عند أبي عبيدة".

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي ص565.

و وأورد قصيدة لأبي جندب أيضا، قال في مقدمتها: "رواها الأصمعي، ولم يروها ابن الأعرابي ولا أبو عمرو ولا الجمحي". ز- وقصيدة أخرى لأبي جندب، قال في مقدمتها: "قال الأصمعي: وتروى لأبي ذؤيب". حـ- وقصيدة رابعة لأبي جندب، قال في مقدمتها: "لم يروها أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش، ورواها أبو نصر والجمحي"1. ولم يكتف السكري بهذا، وإنما زاد على ذلك أن نص على رواية الأبيات التي اختلفوا عليها، فكان يذكر البيت -في القصيدة- ثم ينص على أن فلانا لم يروه وأن فلانا رواه؛ فمن ذلك: أ- أنه أورد بيتا في قصيدة لصخر الغي، ثم قال: "لم يرو هذا البيت والبيتين بعده الأصمعي، ورواها الجمحي وابن الأعرابي". ب- وأورد بيتا في قصيدة أخرى لصخر أيضا، ثم قال: "رواه أبو عبد الله الجمحي". جـ- وأورد بيتا لأبي المثلم، ثم قال: "لم يرو هذا البيت والبيتين اللذين بعده أحد غير الباهلي عن الأصمعي، ولم يرو هذا أبو عمرو ولا أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش". د- وأورد بيتا لصخر الغي، وقال: "لم يرو هذا البيت والبيت الذي بعده الأصمعي وأبو عبد الله". هـ- وأورد بيتا في قصيدة لأبي المثلم، وقال: "رواه الجمحي وأبو عمرو وأبو عبد الله". و وذكر بيتا آخر من القصيدة نفسها، وقال: "لم يروه والبيت الذي بعده إلا أبو عمرو وأبو عبد الله والجمحي". ز- وأورد أرجوزة لصخر الغي، قال عنها: "وروى الأصمعي من هذه الأرجوزة ثلاثة أبيات عليها صح صح، وسائرها عن أبي عبد الله والجمحي"2.

_ 1 شرح أشعار الهذليين, ط. لندن ص4، 66، 70، 77, 80، 83، 94. 2 شرح أشعار الهذليين, ط. لندن، ص16، 19، 21، 25، 27، 30، 32.

ح- وقال عن بيت في قصيدة أخرى لصخر: "لم يروه الأصمعي، ورواه أبو عبد الله والجمحي". ط- وقال عن بيت آخر في القصيدة نفسها: "لم يروه إلا عبد الله وأبو عمرو والجمحي". ي- وأورد بيتا في قصيدة لعامر بن العجلان، ثم قال: "لم يروه والبيت الذي بعده الأصمعي، ورواهما أبو عمرو الجمحي وأبو عبد الله". ك- وأورد بيتا في قصيدة لأبي جندب، ثم قال: "لم يروه أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش، ورواه الجمحي وأبو عمرو والأصمعي"1. وقد ذهب السكري إلى أبعد من ذلك في تحريه ودقته؛ فقد نص -في داخل البيت نفسه- على روايات ألفاظه المختلفة، فذكر في كثير من الأبيات رواية الأصمعي أو أبي عمرو أو ابن الأعرابي أو ابن حبيب أو الجمحي أو الأخفش لهذه اللفظة أو لتلك. وقد قدم السكري بذكره رواية الديوان في مجموعه، ثم رواية القصيدة في جملتها، ثم رواية الأبيات المفردة في القصيدة الواحدة، ثم رواية الألفاظ في البيت الواحد، فقدم مادة خصبة للدرس، إذ يستطيع الدارس المتتبع أن يستخرج رواية الديوان البصرية, أي: رواية الأصمعي، ويفردها وحدها، ويستطيع كذلك أن يستخرج رواية الديوان الكوفية, أي: رواية ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، ويفردها وحدها، ثم يثبت ما بينهما من اختلاف واتفاق، وينتهي من كل ذلك إلى دراسة ممتعة لهذا الديوان. هذه هي النسخة الليدنية التي طبعت منها المجموعتان الأولى والثانية من الطبعة الأوروبية، وأما المجموعة الثالثة وهي "ديوان أبي ذؤيب" التي طبعها يوسف هل في هانوفر سنة 1926، فمع أنه طبعها عن نسخة في دار الكتب, رقمها 19 أدب ش, إلا أن هذه النسخة أيضا من رواية السكري.

_ 1 شرح أشعار الهذليين, ط. لندن، ص47، 48، 50، 87.

ويرجح الدكتور ناصر الدين الأسد1 أنها منقولة عن النسخة الليدنية أو عن نسخة منقولة عنها، فتكون بذلك جزءا من القسم الأول المفقود من النسخة الليدنية. وأما المجموعة الأخيرة من الطبعة الأوروبية، وهي: مجموعة أشعار الهذليين, "الجزء الثاني" المطبوعة في ليبزج سنة 1923، بتحقيق يوسف هل، وتشتمل على أشعار ساعدة بن جؤية, وأبي خراش، والمتنخل, وأسامة بن الحارث, فمتفقة في إيراد الشعر وترتيبه وشرحه، مع ما ورد من أشعار هؤلاء الشعراء الأربعة في طبعة دار الكتب؛ ولذلك نستغني عنها بما سنورده من حديث عن هذه الطبعة.

طبعة دار الكتب

طبعة دار الكتب: وأما طبعة دار الكتب، فمأخوذة من نسخة خطية محفوظة في الدار، برقم6 أدب ش، مكتوبة بخط مغربي، وكانت ملك الشيخ محمد الشنقيطي، وقد كتب عليها: "ملك هذا المجموع محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي المدني ثم المكي، وكتبه مالكه وواقفه محمد محمود سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف". وأصل هذه النسخة بخط يحيى بن المهدي الحسيني، كتبه سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة. وفي أول الأصل هذه المقدمة "كتاب ديوان الهذليين", وهو يشتمل على ثمانية أجزاء: خمسة منها من رواية أبي سعيد عن الأصمعي، وهي الثاني والثالث والرابع والخامس والسابع. ولم نظفر من نسخة رواية أبي سعيد إلا بهذه الخمسة، وضاع الثاني، وهي ثلاثة من نسخة الأصل، ثم وقفنا بعد ذلك على نسخة أخرى ليست من رواية أبي سعيد، وهي كتاب واحد غير مجزأ يخالف نسخة رواية أبي سعيد في الترتيب وفي رواية بعض الأشعار ونسبتها إلى قائليها، فأخذنا ما وجدناه فيها مما ليس رواية أبي سعيد، وقسمناه إلى ثلاثة أجزاء، وهي: الأول والسادس والثامن، وجعلناه تماما لهذه النسخة، وألحقنا كل شيء من ذلك بموضعه اللائق به حسبما أمكن, وبالله تعالى التوفيق".

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي 570.

والشرح في هذه النسخة مختصر موجز، والرواية فيها قليلة لا تكاد تسعف الدارس, وذكر أبي سعيد فيها فيه لبس وإبهام، فهو أحيانا أبو سعيد السكري، كما في قوله: "قال أبو سعيد: وحدثني الرياشي, قال: الأصمعي"، وأحيانا أخرى أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، ونستدل على ذلك ممن يروي عنهم، وذلك مثل قوله: "وأنشدنا أبو سعيد، قال: وأنشدنا أبو عمرو بن العلاء" وكثيرا ما يورد شروحا أو استشهادات شعرية يرويها عن أبي عمرو بن العلاء. ومثل قوله: "وسمعت عيسى بن عمر يقول" أو "حدثني عيسى بن عمر"، وقوله: "قال أبو سعيد: وحدثنا شعبة عن سماك بن حرب"، وقوله: "قال أبو سعيد: سألت ابن أبي طرفة عن هذا فلم يعرفه, ولم يكن عند أبي عمرو فيها إسناد"، وقوله: "قال أبو سعيد: وأنشدنا الهذلي"1.

_ 1 ديوان الهذليين, ط دار الكتب 2/ 236، 1/ 215، 1/ 187, 2/ 92, 1/ 149، 187، 1/ 213، 1/ 159، 3/ 17، ومصادر الشعر الجاهلي ص571, 572.

الداواوين المفردة

الداواوين المفردة ... الدواوين المفردة: وأما الدواوين المفردة فتعتبر أهم المصادر التي يجب أن يعتمد عليها الباحث في دراسة الشعر الجاهلي، بعد تصفيتها وتنقيتها واستخلاص ما أجمع عليه الرواة من ديوان كل شاعر. ولعل الطريقة المثلى لدراسة هذه الدواوين -كما يراها بعض الباحثين- هي: 1- أن ندرس الروايات المختلفة لديوان الشاعر دراسة مقارنة. 2- ثم نفرد القدر الذي اتفق عليه العلماء الرواة جميعهم واشتركوا في روايته؛ لنتخذه أصلا معتمدا لديوان الشاعر. 3- وبعد ذلك ندرس هذا القدر المشترك دراسة دقيقة، تكشف عن خصائص الشاعر الفنية التي تميز شخصيته الأدبية. 4- ثم نتخذ هذا المقياس الفني الذي نستخرجه محكا نعرض عليه القصائد المتفرقة التي انفرد كل عالم راوية بروايتها، فما استقام منها مع هذا المقياس ترجحت صحته وضممناه إلى الديوان، وما لم يستقم رجحنا أنه مما اختلطت نسبته على ذلك الراوية العالم. هذه الطريقة إن لم تنته بنا إلى يقين نقطع به، فستنتهي بنا إلى شبه يقين نطمئن إليه1. وما أجدر الباحث في الشعر الحجازي الجاهلي أن يتخذ له من هذا المنهج القويم نبراسا يضيء له السبيل لدراسة الدواوين والمجموعات الشعرية الحجازية؛ كديوان حسان, وقيس بن الخطيم، والنابغة، والخنساء، وأمية بن أبي الصلت، ودريد بن الصمة, وغيرهم، يستقصي مخطوطات كل ديوان ورواياته المختلفة، ثم يوازن بينها ويستخلص القدر المشترك, ثم يدرسه دراسة فنية تكشف عن شخصية الشاعر، ثم يضيف من الروايات المختلف عليها ما يشاكل روح هذه الشخصية. وكنا نود القيام بهذا لولا أن هذا العمل يحتاج إلى مجهود خاص ودراسة خاصة ليس هذا الكتاب مجالها. ومع هذا فسنطبق هذا المنهج إلى حد ما على بعض الشعراء الحجازيين -على سبيل المثال- مستعينين بمن سبقنا من الباحثين. ومن المجموعات الشعرية التي رويت في القرن الثاني الهجري، تلك المجموعة التي تضم شعر امرئ القيس، والنابغة، وزهير، وطرفة، وعلقمة، وعنترة؛ لأن هؤلاء الشعراء منذ عهد طويل، هم في المرتبة الأولى عند كثير من نقاد الأدب العربي, وقد أخملوا كثيرا من شعراء زمانهم، ولم يلحقهم من أتى بعدهم، وكان لهم تأثير قوي على الأدب العربي. وكان هؤلاء الشعراء الذين ضمت هذه المجموعة دواوينهم في الصدارة من ثبت

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي 514.

الشعراء الجاهليين، بل شعراء العربية قاطبة؛ وذلك لأنهم -فضلا عما تقدم- لم تكن حياتهم محدودة راكدة ليس فيها إلا حوادث البادية المألوفة كما كان حال غيرهم من الشعراء، بل شهدوا حوادث لها أثر في تاريخ الأمة العربية، وذات أثر فعال في مقومات شخصيتها، واتصلوا بأشخاص لهم وزنهم في التاريخ، وبذلك كان شعرهم موضع اهتمام منذ قيل، ووجد فيه علماء اللغة وطلاب الأدب والمعاني جل طلباتهم، فعكفوا على درس شعرهم منذ جمع قبيل منتصف القرن الثاني للهجرة، في كل صقع حل به العرب، وشرح شعرهم عشرات من العلماء، وليس بصحيح ما قيل من أن الاهتمام بشعرهم كان وقفا على أهل المغرب، وربما نجم هذا الظن من كثرة المخطوطات التي عثر عليها بخط مغربي، فإن ثمة نسخا أخرى وجدت بالخط النسخي، كما أن المشارقة عنوا جد العناية بشرح شعرهم1، وقد نشر هذه المجموعة وليم بن الورد البروسي W. Ahlwardt سنة 1870م بلندن، وكتب لها مقدمة قيمة بعد أن راجع عدة مخطوطات، وقد جاء في مقدمته: "إن هذه المجموعة رواها أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى، المعروف بالأعلم الشنتمري النحوي اللغوي 410-470هـ، وله عليها شرح كامل وقد قال في مقدمتها: إنه اعتمد القصائد التي رواها الأصمعي وعدها صحيحة، وأضاف إلى كل شاعر ما رآه بعض الرواة الثقات غير الأصمعي صحيحا، وقد كان الأصمعي يعرف هذه القصائد كذلك، بيد أنه شك فيها أو رآها منحولة. ويظهر أن الأصمعي كان له شرح على هذه المجموعة, يدل على ذلك أن الأعلم الشنتمري كثيرا ما يرجع إلى تفسير الأصمعي فيقول: "الأصمعي يفسر هذه الكلمة بكذا"، و"الأصمعي لا يعترف بهذا البيت"، وغير ذلك من التعليقات التي اعتمد فيها على الأصمعي.

_ 1 من مقدمة وليم بن الورد البروسي على هذه المجموعة، ترجمها نيكلسون إلى الإنجليزية عن الألمانية.

وثمة نسخ أخرى تضم دواوين بعض شعراء هذه المجموعة, مثال ذلك: شعر زهير بن أبي سلمى فقد رواه ثعلب، وقد روى أبو بكر محمد بن القاسم -المعروف بابن الأنباري- ديواني زهير والنابغة وشرحهما. وجمع السكري دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغة, وإن كان يلوح أن "الأعلم الشنتمري" لم ينتفع بمجهودات من سبقه، إذ لم يشر إليهم قط. أما القصائد التي شك فيها الأصمعي، فقد أثبتها "الأعلم" بناء على أدلة ظهرت له، وقد اعتمد في شعر النابغة ما رواه الطوسي عن ابن الأعرابي. وقد وجد "وليم بن الورد" كثيرا من الأبيات منسوبة إلى هؤلاء الشعراء في مختلف كتب الأدب، فاسترعى ذلك نظره، وأخذ يتساءل: هل كل هذه الأبيات مزورة، ولماذ؟ فصارت هذه الأسئلة تلح عليه ردحا طويلا من الزمن، وهو يرى هذه الأبيات تتردد في كتب أخرى منسوبة إلى هؤلاء الشعراء أنفسهم، مما قوي عنده أنها ليست مزورة، وأن الأعلم رفضها عن غير قصد؛ لأنها ليست مما رواه الأصمعي، وقد تكون من مرويات غيره. ورأى من جهة أخرى أن استشهادات ابن قتيبة في "الشعر والشعراء"، وأبي الفرج في "الأغاني"، والجوهري في "الصحاح" لا تقتصر على ما اعتمده الأعلم الشنتمري من رواية الأصمعي. ويستدرك ابن الورد، فيقول: "إن بعض هذه الأبيات مشكوك فيه لا ريب في ذلك، وبعضها جاء من اختلاط الأسماء"، ويضرب على ذلك مثلا كلمة "بجل"؛ فالجوهري يستشهد على تفسيرها ببيتين من الشعر وينسبهما إلى زهير، فيتبادر إلى الذهن أنه زهير بن أبي سلمى، ولكن ابن قتيبة ينسبها إلى زهير بن جناب، ويقع هذا التشابه في اسم النابغة، ففي نسخة باريس من هذه المجموعة تجد البيتين الآتيين منسوبين إلى النابغة الذبياني: فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا وهما للنابغة الجعدي.

وقد يكون التزوير ناجما عن خطأ في الرواية، فالبيت الآتي لا شك أنه من شعر الحطيئة، ولكنه منسوب للنابغة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد ولكن معظم الأبيات صحيحة، ونسبتها إلى قائليها نسبة لا ريب فيها. وقد اعتمد ابن الورد في إخراج هذه المجموعة على عشر مخطوطات. وقد بذل ابن الورد مجهودات في إخراج هذه المجموعة التي تضم ما رواه الأصمعي من أشعار هؤلاء الفحول الستة، ولكنه لم ينشر معها شرح الأعلم الشنتمري عليها, وبعد أن فرغ من تدوين ما رواه الأصمعي ألحق به ما عثر عليه في كتب الأدب، لكل شاعر من هؤلاء الشعراء، تحت عنوان "الشعر المنحول"، وقد لا يكون كل هذا الشعر منحولا كما مر بنا، ولكنها رواية غير الأصمعي، ثم أشار في ملحق آخر إلى اختلاف النسخ، وكذلك ترتيب الأبيات في القصائد مشيرا إلى كل مخطوطة، وفي ملحق ثالث أثبت ما رواه الأعلم الشنتمري وغيره من مقدمات القصائد التي تلقي ضوءا على مناسباتها، والأسباب التي دعت إلى قولها.

رواية ديوان النابغة

11- رواية ديوان النابغة: والذي يهمنا نحن هنا هو ما يتصل بشعر النابغة وزهير بوصفهما شاعرين حجازيين؛ فأما النابغة فقد روى له الأصمعي في هذه المجموعة أربعا وعشرين قصيدة فحسب، ولكن ابن الورد أضاف سبع قصائد أخرى من مرويات غير الأصمعي من مثل ما رواه أبو عمرو بن العلاء، والمفضل الضبي، وأبو سعيد السكري، والطوسي عن ابن الأعرابي, وغيرهم من الثقات. وبذلك صار ديوان النابغة 31 قطعة غير الملحق، ثم زاد في ملحقه للنابغة سبعا وخمسين قطعة شعرية وواحدة نثرية، وهذه القطع فيها البيت الواحد وفيها القصائد الطويلة، مثل قصيدته التي أولها: عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار؟ وقد نشر "ديرنبورج" Derenbourg في سنة 1868م، في المجلة الآسيوية ديوان النابغة الذبياني نقلا عن مجموعة الأعلم الشنتمري، وأضاف إليه القصائد السبع التي رواها الطوسي عن ابن الأعرابي، ثم أفرد هذا الديوان في كتاب خاص. وقد اعتمد على مخطوطتي باريس اللتين أشرنا إليهما آنفا, وعلى مخطوطة فينا رقم 456, وهي بخط مغربي وعليها شرح لأبي بكر البطليوسي، وقد قدم "ديرنبورج" لديوان النابغة بترجمة وافية منقولة عن كتب الأدب، كالشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني لأبي الفرج, وغيرهما، مع رجوعه إلى ما كتبه المستشرقون أمثال "دي برسفال" عن العرب في الجاهلية، وله فيها مجهود خاص يستحق الثناء. ثم أصدر "ديرنبورج" في سنة 1899 ملحقا لديوان النابغة بعد أن عثر على المخطوطة رقم 65 من مجموعة Schefer في مؤتمر المستشرقين بباريس سنة 1897، وقد كتبت هذه المخطوطة في ساوة1 ببلاد فارس, بخط أبي القاسم محمد بن أبي القاسم الخاستي في التاسع من جمادى الآخرة سنة 592هـ. ويقول ياقوت في معجم البلدان: "كان بساوة أكبر مكتبة في العالم، وقد بلغني أن التتار أحرقوها" وقد عثر أبو القاسم في هذه المكتبة على هذه النسخة القيمة فنقلها. وفي هذه النسخة ثمانٍ وخمسون قصيدة وقطعة للنابغة الذبياني، بما في ذلك القصائد السبع التي أضافها الطوسي عن ابن الأعرابي, كما وجدت في مخطوطة "بطرسبورج". وبهامش هذه النسخة كتاب مجمع الأمثال للميداني, وهي مكتوبة بخط جميل, وفي مخطوطة "ساوة" تجد مثلا القصيدة المشهورة: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب تسعة وعشرين بيتا، بينما هي فيما نشره ابن الورد عن الأعلم الشنتمري، وفيما نشره ديرنبورج في سنة 1868 لا تزيد عن اثني عشر بيتا، وتراها في مخطوطة بطرسبورج عشرين بيتا. وقد وجد "ديرنبورج" في مخطوطة ساوة زيادات ليست في مخطوطة بطرسبورج غير القصيدة السابقة، وليست في ملحق ابن الورد؛ ولذلك قام

_ 1 تقع ساوة بين همذان والري.

بنشر هذه المخطوطة فيما يتعلق بديوان النابغة فحسب، سالكا سبيل الاختصار. فالقصائد التي سبق له نشرها أو نشرها ابن الورد، أشار إليها دون أن يذكرها، ومعلقا على ترتيب الأبيات واختلافها في المخطوطات العديدة. أما القصائد التي لم تنشر من قبل, فقد أوردها بأكملها مع المقدمات التي تشرح ظروف القطعة وأسباب قولها، وكذلك الزيادات التي اختصت بها مخطوطة "ساوة" في القصائد التي رواها الأصمعي أو الطوسي، أو رواها ابن الورد في ملحقه. وقد نشر الأب لويس شيخو في شعراء النصرانية ديوان النابغة، كما رواه الأعلم الشنتمري، وأضاف إليه ملحق ابن الورد. ومن الجدير بالملاحظة أن ثمة أربعا وعشرين قصيدة قد أثبتتها جميع المخطوطات وتلك القصائد هي التي رواها الأصمعي، ثم سبع قصائد أخرى أثبتها مخطوطة "بطرسبورج" ومخطوطة "ساوة"، وهي ما رواه الطوسي عن ابن الأعرابي، وبذلك تكون القصائد التي يرى الرواة الثقات أنها للنابغة الذبياني -بغض النظر عن اختلاف الروايات في بعض الكلمات، وبعض الزيادات- إحدى وثلاثين قصيدة. وإذا عرفت أن الأصمعي كان متزمتا يضيق ولا يعتمد إلا أصح اللغات, ويلح في دفع ما سواه، ولا يفسر من القرآن ولا من اللغة شيئا له نظير واشتقاق في القرآن، وأنه كان يتحرج في الحديث، ولا ينشد من الشعر ما كان فيه ذكر الأنواء، ولا يفسره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا"، وأنه لم ينشد أو يفسر شعرا فيه هجاء، أدركت أي راوية كان الأصمعي في تثبته وتحقيقه وتحرجه. ولقد تعقب الأزهري في كتابه التهذيب رواة الشعر واللغة, فاحصا منقبا مدققا ملتمسا مواطن الثقة فيما يرويه عنهم منبها على الكلام المصحف، وبعد أن أنعم النظر والتثبت قال: إنه وجد معظم ما روى لابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني، وأبي زيد، وأبي عبيدة، والأصمعي, معروفا في الكتب التي رواها الثقات عنهم، والنوادر المخطوطة لهم ... فخص هؤلاء بالثقة دون سائر الرواة, ووصفهم بالإتقان والتبريز. وكان الأصمعي أعرف الرواة بالصحيح والمنحول من الشعر، ولم يكن شاعرا حتى يتزيد ويختلق كما فعل غيره؛ ولذا كان ما رواه عن النابغة أصح شعر يروى له1.

_ 1 النابغة الذبياني: ص104.

رواية ديوان زهير

رواية ديوان زهير: وأما زهير بن أبي سلمى فهو حجازي -وإن كان قد نشأ في بني عبد الله بن غطفان بنجد- لأنه من مزينة إحدى القبائل الحجازية، ولا تذكر لنا المصادر العربية -من العلماء الذين جمعوا ديوانه- غير ستة، وهم: 1- يعقوب بن إسحاق السكيت. 2- أبو الحسن علي بن عبد الله بن سنان الطوسي. 3- محمد بن هبيرة الأسدي، المعروف بصعوداء. 4- أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري. 5- أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري. 6- يوسف بن سليمان، الأعلم الشنتمري. وليس بين هذه الأسماء عالم واحد من رواة الطبقة الأولى ممن يعدون أصولا، إنما هم جميعا إما من تلاميذ هذه الطبقة مثل ابن السكيت -وهو كوفي المذهب، أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي- وإما من الجماع الذين جمعوا بين الروايات المختلفة، فرجحوا كفة الكوفيين حينا مثل: صعوداء، والطوسي، وابن الأنباري, أو رجحوا كفة البصريين حينا آخر مثل: السكري، والأعلم. فأين إذًا روايات ديوان زهير التي تعد أصولا؟ لقد أغفلت ذكرها المصادر العربية، ولكنها بقيت -مع ذلك- فيما وصل إلينا من نسخ هذا الديوان، أو فيما تضمنته هذه النسخ من إشارات للرواة والروايات. وهذه الأصول لديوان زهير قسمان: أصول بصرية، وأصول كوفية.

الأصول البصرية: وهي أصلان: رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، ورواية أبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي: 1- رواية أبي عبيدة: أما رواية أبي عبيدة فلم يبق لنا منها إلا قصائد متفرقة ذكر في مقدمتها أنها من رواية أبي عبيدة، أو ألفاظ في أبيات من قصائد أشير فيها إلى روايته, كما أشير فيها إلى رواية غيره من العلماء. فقد ذكر الأعلم عند حديثه عن قصيدة زهير: أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا ... مني الحفيظة لما جاءني الخبر أن أبا حاتم قال: "لم يعرفها الأصمعي، وعرفها أبو عبيدة". وكذلك ذكر عند حديثه عن قصيدته: أبلغ لديك بني الصيداء كلهم ... أن يسارا أتانا غير مغلول أن أبا حاتم قال: "لم يعرفها الأصمعي، وعرفها أبو عبيدة". وذكر ثعلب عند حديثه عن قصيدته: شطت أميمة بعدما صقبت ... ونأت وما فني الجناب فيذهب أنه "لم يروها أبو عمرو لزهير ولا لكعب، ورواها أبو عبيدة لزهير". وذكر عند حديثه عن قصيدته: فعد عما ترى إذ فات مطلبه ... أضحى بذاك غراب البين قد نعقا أن هذه الأبيات لم يملها أبو عمرو ولا أبو نصر، ولم يعرفها الأصمعي، ولكن "رواها أبو عبيدة وهي صحيحة عنده"، وأنكر أبو عبيدة قصيدة زهير: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت وقال: إنها لقراد بن حنش من شعراء غطفان، وإن زهيرا ادعى هذه الأبيات. أما روايات أبي عبيدة لبعض الألفاظ في أبيات من قصائد زهير فكثيرة جدا، وقد أشار إليها الأعلم وثعلب في مواطن كثيرة من شرحيهما.

3- رواية الأصمعي: أما رواية الأصمعي فقد حفظت لنا كاملة، حفظها الأعلم الشنتمري في مجموعته "دواوين الشعراء الستة"، وقد اعتمد الأعلم من هذه الأشعار على أصح روايتها، وأوضح طرقاتها، وهي رواية الأصمعي لتواطؤ الناس عليها، واعتيادهم لها، واتفاق الجمهور على تفضيلها، وأتبع ما صح من رواياته قصائد متخيرة من رواية غيره. وعلى هذا أورد الأعلم ثماني عشرة قصيدة ومقطعة لزهير في ختامها ما يلي: "كمل جميع شعر زهير مما رواه الأصمعي من شعر زهير، ونصل به بعض ما رواه غيره إن شاء الله". ثم يورد قصيدتين ذكر أنهما مما رواه أبو عمرو والمفضل، ويختم نسخته بقوله: "كمل جميع شعر زهير مما رواه الأصمعي وأبو عمرو والمفضل ... ". وقد أورد الأعلم ثلاث قصائد ليست من رواية الأصمعي، وقد نص في الأوليين منها -وقد مر ذكرهما- على أن أبا حاتم السجستاني قال: "لم يعرفها الأصمعي وعرفها أبو عبيدة". وذكر في حديثه عن القصيدة الثالثة، وهي: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا أن الأصمعي قال: "ليست لزهير، ويقال: هي لصرمة الأنصاري ولا تشبه كلام زهير". وسنعود إلى الحديث عن رواية الأصمعي بعد الحديث عن الأصول الكوفية: الأصول الكوفية: أما علماء الكوفة من الطبقة الأولى من الرواة الذين رووا ديوان زهير فهم: حماد الراوية، والمفضل بن محمد الضبي، وأبو عمرو الشيباني. غير أن روايات هؤلاء العلماء جاءتنا مختلطة متداخلة في مجموعة نسبت مع شرح أبياتها إلى ثعلب، وقد طبعت هذه المجموعة من الروايات بدار الكتب المصرية، وفي مقدمتها حديث مفصل عن ترجيح نسبتها إلى أبي العباس ثعلب, وقد اعتمدت هذه الطبعة على عدة نسخ خطية.

ودراسة هذه الطبعة تدلنا على أن ثعلبا قد جمع في مجموعته بين الروايات الكوفية والبصرية، فكثيرا ما يورد في شرحه شروحا للأصمعي وأبي عبيدة، وكثيرا ما يورد روايتهما المختلفة في الألفاظ والأبيات، وحسبنا أمثلة قليلة على ذلك؛ فقد أورد سبعة وثلاثين بيتا من قصيدة زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله ثم قال: "وهذه آخر رواية أبي عمرو، وروى أبو عبيدة والأصمعي ... " ثم يورد سبعة أبيات من روايتهما. أما في قصيدته: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا فهو يثبت في أصل أحد أبياتها، وهو قوله: وقابل يتغنى كلما قدرت ... على العراق يداه قائما دفقا رواية أبي عبيدة، ويقول: "روى أبو عبيدة قائما بالنصب، ورواه غيره بالرفع". ثم يذكر بيت زهير: وذاك أحزمهم رأيا إذا نبأ ... من الحوادث آب الناس أو طرقا وهو من غير رواية أبي عمرو، ثم ينص على أن البيت في رواية أبي عمرو هو: ومن يفوقهم أمرا إذا فرقوا ... من الحوادث أمرا آب أو طرقا ثم يورد ستة أبيات ينص على أنها من رواية أبي عمرو، وأربعة أبيات أخرى ينص على أنها مما روى أبو عمرو والأصمعي، ويورد في آخرها بيتين يذكر أنهما "من غير هذه الرواية" و"أن الأصمعي لم يروهما". وكذلك ذكر ستة عشر بيتا من قصيدة زهير: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر ثم يقول: "هذا آخر رواية أبي عمرو"، ويكمل القصيدة في اثنين وعشرين, وكثيرا ما يثبت في أصل البيت لفظة أو ألفاظا من غير رواية أبي عمرو، وينص على ذلك، ثم يذكر روايته في تلك الألفاظ. وأكثر من ذلك أنه يورد قصيدة لم يروها أبو عمرو لزهير ولا لكعب، ورواها أبو عبيدة لزهير.

ويتضح لنا من ذلك أن هذه النسخة قد جمعت من قصائد زهير ما رواه البصريون والكوفيون, غير أن هذا الجمع بين روايات المدرستين لا ينفي نسبة هذه النسخة إلى أبي العباس ثعلب. وذلك أن ثعلبا -مع أنه كان كوفي المذهب، بل إمام أهل الكوفة في زمنه- قد روى كتب علماء البصرة أيضا، فروى "عن ابن نجدة كتب أبي زيد، وعن الأثرم كتب أبي عبيدة، وعن أبي نصر كتب الأصمعي ... "، وقد ذكر أبا نصر والأثرم في مواطن كثيرة من نسخته هذه. وقد تضمنت هذه النسخة ثلاثا وخمسين قصيدة ومقطعة لزهير، روى خمسا منها عن حماد الراوية، ونص على واحدة منها بقوله: "وهي متهمة عند المفضل"، ومع ذلك رواها أبو عمرو. وذكر في أربع أخر منها أنها يشك في نسبتها إلى زهير، وأنها قد تروى لغيره. ويرى الدكتور ناصر الدين الأسد أن هذه النسخة -بالرغم من جمعها بين روايات مختلفة- ربما اتخذت من رواية أبي عمرو الشيباني أصلا، ثم أضاف جامع هذه النسخة عليها ما وجده عند غيره من تعليقات أو اختلاف في روايات الألفاظ. والذي حمله على هذا الافتراض أنه عثر على نسخة مصورة على ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية -وأصلها محفوظ في مكتبة نور عثمانية بتركيا- وقد نص في آخر هذه النسخة على ما يلي: "فهذا جميع ما رواه أبو عمرو، وأبو نصر، والأصمعي لزهير من الشعر ... وكتب محمد بن منصور بن مسلم -رحمه الله- بمنبج سنة خمسة "كذا" وسبعين وخمسمائة، والأصل الذي نقله منه كتب من أصل ابن كيسان النحوي -رحمه الله- في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وكان قد قرأ جميعه على أحمد بن يحيى ثعلب، وكان قد قرئ على أبي عمرو الشيباني ... ". وفي هذه النسخة سبع وخمسون قصيدة؛ خمس منها غير موجودة في النسخة المطبوعة، وتمتاز هذه النسخة -على النسخة المطبوعة- بكثرة ما فيها من إشارات إلى الشك في صحة نسبة بعض القصائد إلى زهير. فقد ذكر قصيدته: أثويت أم أجمعت أنك غاد ... وعداك عن لطف السؤال عوادي وقال: "أبو عمرو لم يرو هذه القصيدة، وقال: إنها لكعب ابنه" مع أن هذه التعليقة غير مذكورة في المطبوعة. وذكر كذلك قصيدته:

ألا أبلغ لديك بني سبيع ... وأيام النوائب قد تدور وقال: إن أبا عمرو قال: "هذه لرجل من بني عبد الله بن غطفان"، وليست هذه التعليقة في المطبوعة. وذكر قصيدته: وخالي الجبا أوردته القوم فاستقوا ... بسفرتهم من آجن الماء أصفرا وقال: "قال أبو عمرو الشيباني: هذه لكعب ابنه، وليست في المطبوعة أيضا وذكر مقطعته": أرادت جوازا بالرسيس فصدها ... رجال قعود في الدجى بالمعابل وقال: "ويروى أنها لكعب بن زهير، وهي في شعره طويلة"، وليست هذه التعليقة في المطبوعة. وذكر قصيدته: هل تبلغني إلى الأخيار ناجية ... تخدي كوخد ظليم خاضب زعر وقال: "ويقال: هي منحولة". وذكر قصيدته: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا وقال: "ولم يملها أبو نصر، ويقال: هي لأبي الجويرية العبدي، وهي في شعره طويلة". وذكر قوله: هاج الفؤاد معارف الرسم ... قفر بذي الهضبات كالوشم وقال: "ولم يملها أبو نصر, قال أبو عمرو الشيباني: هي لأوس بن أبي سلمى". وجميع هذه التعليقات، زيادة في هذه النسخة، غير مذكورة في النسخة المطبوعة. أما التعليقات المذكورة في المطبوعة فموجودة أيضا في هذه النسخة. فإذا أضفنا هذه القصائد التي نص على الشك في صحة نسبتها لزهير -وهي سبع- إلى القصائد الخمس التي نص في المطبوعة على هذا الشك فيها، كان مجموع هذه القصائد المشكوك فيها اثنتي عشرة قصيدة من ثلاث وخمسين. وبذلك تكون رواية الكوفيين -في مجموعها- لقصائد زهير إحدى وأربعين قصيدة ومقطعة،

وهي تتضمن القصائد التي أوردها الأعلم من رواية الأصمعي وأبي عبيدة, والقصيدتين اللتين اختارهما من رواية أبي عمرو والمفضل. فإذا عدنا إلى الحديث عن رواية الأصمعي وجدنا أنها خمس عشرة قصيدة ومقطعة فقط، وذلك أن الأعلم قد أورد ثماني عشرة قصيدة ذكر في ختامها أنها رواية الأصمعي، ولكن الأعلم ذكر -في معرض حديثه عن ثلاث من هذه القصائد- أن الأصمعي لم يكن يعرفها, وأنه أسقطها من روايته. وبذلك يكون ما صححه في روايته من شعر زهير, خمس عشرة قصيدة ومقطعة. وقد وجدنا أن هذه القصائد الخمس عشرة كلها مضمنة في القصائد التي رواها علماء الكوفة لزهير، وأن أحدا من العلماء لم يطعن عليها في صحة نسبتها بشيء، وإن كان ثمة خلاف في نسبة أبيات قليلة من بعض هذه القصائد. وبذلك نستطيع أن نطمئن إلى أن هذه القصائد الخمس عشرة هي التي أجمع الرواة، من البصريين والكوفين، على صحة نسبتها لزهير، فنتخذها أصلا صحيحا لديوانه؛ ندرسها دراسة فنية تكشف خصائصها، وتبين ما فيها من عناصر شخصية الشاعر؛ لنتخذ من ذلك مقياسا فنيا نحتكم إليه في القصائد الأخرى التي رواها الكوفيون، فما انطبق منها على هذا المقياس رجحنا صحة نسبته إلى زهير وضممناه إلى ديوانه, وما لم يستقم منها مع المقياس رجحنا أنه مما نسب خطأ إلى زهير أو وضع عليه. فإذا ما بحثنا عن الجذور الأولى لديوان زهير، وجدناها جذورا عميقة تضرب في القدم حتى لتكاد تتصل بزهير نفسه، ثم تمتد منه خلال القرون الأولى حتى تتصل -في مطلع القرن الثاني- بأبي عمرو بن العلاء، وبحماد الراوية، ثم من بعدهما بالأصمعي وسائر علماء البصرة والكوفة. فقد ذكر السكري أن ديواني زهير وكعب كانا عند بني غطفان، فكانوا يحفظون شعرهما؛ وذلك لأن زهيرا وابنه كعبا كانا مقيمين في بني عبد الله بن غطفان. وكان عمر بن الخطاب يقدم زهيرا ويفضله، وكذلك جريرا الذي قال عنه: إنه أشعر أهل الجاهلية.

وكان الحطيئة راوية زهير، وقد اتصل الشعر في ابنه كعب بن زهير، وابن كعب عقبة المضرب، وابن ابنه العوام بن عقبة، حتى لقد قرأ أبو عمرو الشيباني شعر زهير أو بعضه على بعض بني زهير. وكان ممن درس شعر زهير ودرسه منذ مطلع القرن الثاني: أبو عمرو بن العلاء، قال المازني: "قال لي أبو زيد: قرأت هذه القصيدة -يعني معلقة زهير- على أبي عمرو بن العلاء، فقال لي: قرأت هذه القصيدة منذ خمسين سنة، فلم أسمع هذا البيت إلا منك" يعني: بيته: ومن لا يزال يستحمل الناس نفسه ... ولم يغنها يوما من الناس يسأم وكذلك قرأ الأصمعي على أبي عمرو وروى عنه في مواطن متعددة، بعضها فيه نقد أدبي. ويبدو أن الأصمعي لم يكتف برواية شعر زهير عن أبي عمرو بن العلاء وحده, وإنما أضاف إلى روايته ما أخذه عن غيره من العلماء أو ما سمعه عن الأعراب الرواة، ثم قرأ ذلك كله وقرئ عليه، وآية ذلك أننا نجد للأصمعي روايات لبعض الألفاظ وشرحا لبعض الأبيات في القصائد التي أسقطها من روايته ونص على أنها ليست لزهير. ويرجح الدكتور ناصر الدين أن الأصمعي قد وجد أمامه ديوان زهير تراثا يتناقل ويروى ويتدارس، فكان لا بد له من أن يقرأه جميعه، ويقرئه تلامذته، ولكنه كان كلما مر بقصيدة نص على رأيه في صحة نسبتها إلى زهير، إثباتا أو نفيا، ثم يشرح القصيدة في الحالتين، ويذكر بعض روايات ألفاظها، غير أنه لم يثبت في نسخته من ديوان زهير إلا ما ثبت لديه أنه لزهير حقا، وهي تلك القصائد الخمس عشرة.

قصائد زهير ومقطعاته مرتبة كما جاءت في رواية الأصمعي, ومقارنتها بما في النسخ الأخرى: 1- أمن أم أو في دمته لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتئلم 1- القصيدة الأولى في ثعلب. 2- والأولى كذلك في مخطوطة نور عثمانية، وفيها بعد البيت الأول: "قال أبو عمرو: قرأت على بعض بني زهير: الدراج برفع الدال". 2- صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل 1- القصيدة الخامسة في ثعلب. 2- والسادسة عشرة في نور عثمانية، إلا أنها هنا شطرت شطرين، فجعلت قصيدتين لا قصيدة واحدة، وذلك بأن ذكرت بعض أبياتها الأخيرة في هذه المخطوطة، "ورقمها 54"، وقبلها قوله: "وهذه الأبيات زيادة لم يروها أبو نصر، وليست في روايته، أنشدها بعض العلماء! ". 3- صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله 1- آخرها في رواية الأصمعي: يهد له ما دون رملة عالج ... ومن أهله بالغور زالت زلازله قال الأعلم ص33: "وهذا البيت آخر القصيدة في رواية الأصمعي، ويلحق بالقصيدة البيتان اللذان بعده، وهما لخوات بن جبير الأنصاري ... ". 2- القصيدة السابعة في ثعلب، وقد قال في ص142: "وهذه آخر رواية أبي عمرو، وروى أبو عبيدة والأصمعي ... "، ثم ذكر سبعة أبيات. 3- القصيدة التاسعة في نور عثمانية. 4- إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعاق القلب من أسماء ما علقا

1- آخرها في رواية الأصمعي: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وذكر الأعلم ص41 بيتين بعده عن غير الأصمعي. 2- القصيدة الثانية في ثعلب، وقد أورد قبيل آخرها ستة أبيات نص على أنها من رواية أبي عمرو "ص49-52"، ثم أربعة أبيات نص على أنها مما روى أبو عمرو والأصمعي "ص53, 54"، ثم بيتين في آخرها نص على أنهما "من غير هذه الرواية, وأن الأصمعي لم يروهما ص55". 3- القصيدة الثانية كذلك في نور عثمانية، وقد ذكر أن أبا عمرو لم يرو آخرها بيتا. 5- بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزودوك اشتياقا أية سلكوا 1- القصيدة التاسعة في ثعلب. 2- والخامسة في نور عثمانية. 6- تعلم أن شر الناس حي ... ينادى في شعارهم يسار 1- القصيدة الخامسة والعشرون في ثعلب. 2- والثامنة والعشرون في نور عثمانية. 7- قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم 1- الثامنة في ثعلب، والسابعة عشرة في نور عثمانية. 8- لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر 1- ذكر الأعلم آخرها بيتا عن غير الأصمعي, ص64. 2- القصيدة الرابعة في ثعلب، وهو يورد منها ستة عشر بيتا ثم يقول: هذا آخر رواية أبي عمرو، ص94، ويكمل عدة القصيدة اثنين وعشرين بيتا. 3- القصيدة العشرون في نور عثمانية.

9- عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء 1- ذكر الأعلم البيت السابع منها عن غير الأصمعي، ص65. 2- القصيدة الثالثة في ثعلب. 3- والثالثة أيضا في نور عثمانية. 10- لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلاله حقب قديم 1- القصيدة الثانية عشرة في ثعلب، والتاسعة عشرة في نور عثمانية. 11- ألا أبلغ لديك بني تميم ... وقد يأتيك بالخبر الظنون 1- القصيدة العاشرة في ثعلب، ولم يرو أبو عمرو فيها الأبيات الثلاثة الأخيرة في رواية الأصمعي. 2- القصيدة الرابعة في نور عثمانية. 12- رأيت المنى آل امرئ القيس أصفقوا ... علينا وقالوا إننا نحن أكثر 1- القصيدة الثالثة عشرة في ثعلب، والثانية عشرة في نور عثمانية. 13- إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت 1- القصيدة الثامنة والثلاثون في ثعلب، والسادسة والعشرون في نور عثمانية. 2- رواها الأصمعي -في الأعلم- في ثلاثة أبيات، وجاءت في ثعلب ونور عثمانية في خمسة أبيات، ووردت في طبقات ابن سلام في أربعة أبيات "ص568, 569"، وقال ابن سلام: "حدثني أبو عبيدة قال: كان قراد بن حنش من شعراء غطفان، وكان جيد الشعر قليله، وكانت شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه، منهم زهير بن أبي سلمى ادعى هذه الأبيات". "ولما كان إجماع الرواة منعقدا على أن زهيرا قال هذا الشعر، فإننا نرجح أن الأبيات الثلاثة التي رواها الأصمعي صحيحة النسبة لزهير، أما البيتان الآخران فلعلهما من شعر قراد بن حنش الذي أدخل في شعر زهير".

14- لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي 1- الثالثة والأربعون في ثعلب، والخامسة والثلاثون في نور عثمانية. 15- وقالت أم كعب لا تزرني ... فلا والله ما لك من مزار 1- التاسعة والثلاثون في ثعلب. 2- والسابعة والعشرون في نور عثمانية1. وخاتمة المطاف بعد هذه الجولة السريعة في دراسة الشعر الحجازي الجاهلي على النحو السالف هي: 1- أ- أن الدواوين الشعرية بعد تمحيصها على النحو السالف، هي أصح ما يجب أن يعتمد عليه الباحث في الأدب الحجازي. ب- وكذلك ما أجمع الرواة على صحته من الأشعار الحجازية في غير الدواوين. 2- وأن ما نص الثقات على وضعه من الأشعار يعتبر موضوعا منحولا. 3- وأن ما اختلفت فيه الأخبار من الشعر، ثم أثبت التحقيق العلمي نسبته لشاعر حجازي، يكون أدنى إلى الصحة، كما في لاميتي الشنفرى وتأبط شرا. 4- وأن نسبة الشعر إلى غير واحد من الشعراء الجاهليين الحجازيين ليست دليلا على وضعه، فهو شعر جاهلي حجازي إلا أن الخلاف في تعيين قائله. 5- وأن طائفة كبيرة من الأشعار الحجازية لم يتناولها النقاد بالتجريح أو الشك، وهذه أدنى إلى الرجحان في ميزان التحقيق ما دام عليها طابع العصر الجاهلي. 6- أو ما كان مهلهل النسج لا يشاكل في صياغته وروحه البيئة الجاهلية، خليق أن يشك في صحته.

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي للدكتور ناصر الدين الأسد، صـ538-542.

الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي الفصل الأول: الشعر السياسي "أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية: 1- كان كثير من الحجازيين والعرب عامة في جاهليتهم بدوا؛ لا يخضعون لنظام، ولا يدينون لحكومة، ولا يربطهم إلا قانون القبيلة. وقد فرضت عليهم طبيعة أرضهم القاحلة أن يعيشوا على رعي الإبل والأغنام, يتتبعون بها مواقع الغيث ومواطن الكلأ، ينتقلون بينها، ويسيمون ماشيتهم فيها. فإذا أخلفت السماء وأمحلت الأرض، لجئوا إلى الإغارة والغزو، ودفعهم الجدب إلى الحرب. كذلك كان دأبهم النفرة من العار، والنهوض لحماية الجار، والحرص على الأخذ بالثأر والاغترار بالعصبية، والاعتزاز بالقرابة الواشجة، والمفاخرة والمنافرة، والإباء والشمم. كل ذلك كان يدفع العربي إلى الحرب، ويجعلها أثيرة عنده، يثيرها لأوهى سبب، ويشنها لأدنى حدث، صارت عادة مألوفة، وسنة معروفة، وحتى أنفوا أن يرتزقوا من عمل غير السيف، أو يكسبوا إلا من أسنة الرماح، فإذا لم يجدوا عدوا أغاروا على الأقرباء، كما يقول القطامي:

ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قنا سلبا وأفراسا حسانا1 وكن إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا2 أغرن من الضباب على حلول ... وضبة إنه من حان حانا3 وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا هذا قليل من كثير مما أثر عن العرب في حب الحرب، وخوض المعارك، ولهم أيام مشهورة4. فالعرب بطبيعتهم أمة مغالبة مجالدة، مساورة معاندة، لا ترضى بالضيم، ولا تقيم على الذل، ولا تغضي على الهوان، ولقد مردوا على المخاطرة، واعتادوا القتل والقتال, وألفوا الصولة والصيال، فانتزعت من نفوسهم غريزة الخوف، وغلبت عليهم الحرية الشخصية، وصارت الحرب عندهم تهيج لأوهى سبب، وتشعل لأقل حادث، وما تخبو إلا لتستعر. وقد تظل ملتهبة بين القبائل أعواما طوالا، لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها. وللعرب كثير من الوقائع العظيمة التي هاجت قبائلهم، وأثارت عصبياتهم، والتي تحدث عنها الشعراء في أشعارهم، وكانت مادة رائعة للسمار والمحدثين في حقب طويلة، وأعصار بعيدة. قال ابن عبد ربه: "إنها -أيام العرب-

_ 1 القنا: الرماح، سلبا: تسلب النفوس, جمع سلوب. 2 الجناب: الناحية. 3 الضباب: عدة قبائل منها: ضبة وحسل. الحلول: الذين يكونون في مكان واحد. حان حانا أي: من هلك بغزونا فقد هلك حقا، أو من حان أجله هلك. 4 الأيام أي: الوقائع التي حدثت في الأيام، وفي القرآن الكريم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} , قال الزمخشري: أي: أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها. قال عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا ومنا هنا كانوا يقولون: يوم لك ويوم عليك.

مآثر الجاهلية، ومكارم الأخلاق السنية، قيل لبعض أصحاب رسول الله: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا". وقد سميت هذه الوقائع بأيام العرب، وهي ينبوع ثجاج من ينابيع الأدب، وميدان فسيح من ميادين البيان، بما اشتملت عليه من روائع القصص، وبدائع القول، ومأثور الحكم، وبليغ الخطب والشعر، كما أنها صورة صحيحة للعرب وعاداتهم وتقاليدهم، وتصوير صادق لأسلوب حياتهم وشأنهم في الحرب والسلم والنجعة والاستقرار. 2- ولهذه الأيام أثر واضح في الأدب، بما تهيج من عاطفة، وتبعث من شعور، وتثير من شاعرية ... كان الشعراء والخطباء من وراء الفوارس يذكون حميتهم، ويلهبون شجاعتهم، ويصفون خيلهم وسلاحهم، ويشيدون ببطولتهم ومواقفهم، ويندبون بقوافيهم الباكية صرعى الأيام، ويحرضون على الثأر والانتقام، وقد ينفرون من الحرب وويلاتها، ويحملون لقبائلهم غصن الزيتون!! ومن أجل آثار هذه الأيام ما يلي: 1- أن الشعر الجاهلي عامة، والفخر والحماسة والرثاء والهجاء منه خاصة، ترتبط بهذه الأيام ارتباطا وثيقا، فأكثر القصائد وهذه الفنون الأدبية في الشعر الجاهلي قيلت في هذه الأيام وكانت صدى لها، ونظمها أصحابها فخرا بمآثر القبيلة، ودفاعا عن أحسابها، أو هجاء لخصومها وثلبا لأعدائها، أو تحميسا لأبناء القبيلة ليهبوا للدفاع عن كيانها وحفظ شرفها، أو رثاء للقتلى من أبنائها في حومة القتال وميادين النضال. 2- وفي الشعر الجاهلي قصائد كثيرة قيلت في وصف المعارك، وفي الدعوة إلى السلام وتصوير فظائع الحرب، أو الدعوة إلى الانتقام وطلب الأخذ بالثأر.

3- وأوصافهم في شعرهم للخيول والرماح والسيوف والدروع وغيرها من أدوات القتال، أثر من آثار هذه الأيام في الشعر الجاهلي. 4- ولا يقتصر أثر هذه الأيام على الشعر، بل إنها تشغل جزءا كبيرا من النثر الجاهلي أيضا، كما تجد في خطبة هانئ بن قبيصة في قومه يحرضهم على الحرب يوم ذي قار1, وفي سواها من الخطب، وفي الكثير من المفاخرات والمنافرات والمحاورات، التي تتصل بأيام العرب في جاهليتهم في قريب. 5- وفوق ذلك, فإن أثر هذه الأيام في تاريخنا الأدبي أثر جليل، فالأدب الذي خلفه لنا الشعراء والأدباء صورة مفصلة لحياة العرب الاجتماعية والسياسية ولصلاتهم بالأمم المجاورة لهم، وهو مرآة ناطقة بأخلاقهم وفضائلهم وعاداتهم وشمائلهم، وما تحدثت به الرواة عن هذه الأيام يشغل جانبا كبيرا في كتب الأدب العربي ومصادره، وهو يمثل ألوانا طريفة من فنون الأدب المتصلة بفن القصص والأساطير. 6- وقد ألفت في أيام العرب كتب أدبية كثيرة, ضاعت على مر الأجيال: أ- فلأبي عبيدة، الأديب الراوية, المتوفى عام 209هـ، كتاب صغير فيه حوى خمسة وسبعين يوما، وكتاب آخر كبير جمع فيه ألفا ومائتي يوم. ب- ولأبي الفرج الأصبهاني، المتوفى سنة 356هـ، كتاب في أيام العرب، جمع فيه ألفا وسبعمائة يوم. جـ- وقد ألف لفيف من الأساتذة المعاصرين كتابا في "أيام العرب في الجاهلية" وطبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي عام 1942م.

_ 1 راجعها في الأمالي 169 جـ1، وفي سواه من كتب الأدب.

3- أيام الأوس والخزرج 1: نشبت في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، حروب كثيرة، من أشهرها: حرب سمير: للأوس على الخزرج. حرب حاطب: للخزرج على الأوس. حرب كعب: للخزرج على الأوس. يوم بعاث: للأوس على الخزرج. 1- يوم بعاث 2 بين الأوس والخزرج: وسببه: أن الأوس طلبت إلى قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبعث الخزرج إلى اليهود يهددونهم إن حالفوهم، فلم يسع اليهود إلا أن ينزلوا على رغبة الخزرج، وأكدوا ذلك بتسليمهم أربعين غلاما, رهائن لديهم، وافتخر بذلك أحد شعراء الخزرج، قائلا: فذلوا لرهن عندنا في حبالنا ... مصانعة يخشون منا القوارعا وذاك بأنا -حين نلقى عدونا- ... نصول بضرب يترك العز خاشعا

_ 1 راجع: 402/ 1 ابن الأثير، الأغاني 18/ 3 طبعة دار الكتب المصرية، 247 و258 جمهرة أشعار العرب، المفضليات 135، رغبة الآمل من كتاب الكامل 212/ 2، مهذب الأغاني 122/ 1، الأغاني الجزء الثالث عشر ص118 طبعة الساسي، العرب قبل الإسلام ص250، تاريخ العرب القدامى ص250، ص63/ 1 أيام العرب في الجاهلية, طبعة عيسى البابي الحلبي, سنة 1953. 2 بعاث بالعين والغين, كغراب ويثلث. وقيل: هو بضم الباء مع العين المهملة: موضع بالمدينة أو بالقرب منها، وقعت به آخر حرب بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بنحو خمس سنين.

فأغضب ذلك الشعر قريظة والنضير، ونقضوا عهدهم، وحالفوا الأوس على الخزرج، فقتل بعض الخزرجيين رهائنه. فاجتمعت الأوس وقريظة والنضير وقبائل أخرى يهودية على حرب الخزرج، والتقوا ببعاث، وعلى الأوس حضير الكتائب، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي "نسبة إلى بياضة كسحابة: قبيلة"، ودارت رحى الحرب بشدة، فانهزم الأوس، فبرك حضير، وطعن قدمه بسنان رمحه، وصاح: وا عقراه!! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم أن تسلموني فافعلوا، فعطفوا عليه، وأصاب سهم عمرو بن النعمان البياضي فقتله، فانهزم الخزرج، وصاح صائح: يا معشر الأوس، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وإنما سلبهم اليهود، وحملت الأوس حضيرا مجروحا، فمات، ورثاه خفاف بن ندية بقوله: أتاني حديث فكذبته ... وقيل خليلك في المرمس1 فيا عين أبكي حضير الندى ... حضير الكتائب والمجلس وسمى ابن الأثير هذا اليوم: يوم الفجار الثاني؛ لقتل الغلمان فيه. وقيل: إن قتل الغلمان كان بسبب امتناع اليهود عن إخلاء دورهم الجيدة الهواء للخزرج, الذين كانوا يراودونهم على ذلك. وقد ألف الله بين قلوب الأوس والخزرج بعد ذلك بالإسلام، وأصبحوا لرسوله أنصارا2. 2- يوم سمير: سببه: أن رجلا يقال له كعب بن العجلان من بني ذبيان، نزل على مالك بن العجلان زعيم الخزرج محالفة، وأقام معه، فخرج كعب يوما إلى السوق، فرأى رجلا من غطفان ومعه فرس وهو يقول: "ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب"، فقال رجل: فلان الأوسي, وقال غيره: فلان الخزرجي.

_ 1 المرمس كملعب: القبر. 2 تاريخ ابن الأثير.

وقال ثالث: فلان اليهودي أفضل أهلها, وقال رابع: مالك بن العجلان. فدفع الغطفاني الفرس إليه، فقال كعب: ألم أقل لكم: إن حليفي مالكا أفضلكم؟ فغضب لذلك رجل من الأوس، فقام له سمير وشتمه وافترقا. ثم حدث بعد ذلك أن كعبا قصد سوقا لهم بقباء، فقصده سمير وانتظر حتى خلت السوق فقتل كعبا وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى آل سمير يطلب قاتله، فقالوا: لا ندري من قتله ... وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميرا وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، ولج الأمر بينهم حتى إلى المحاربة, فاجتمعوا، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، وافترقوا، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا، حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس، ثم أرسلت الأوس تطلب أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت الشاعر، وأجابهم إلى ذاك، وحكم المنذر بأن يعطوا كعبا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وفرحوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد تمكنت البغضاء والعداوة في نفوسهم. 3- يوم السرارة: وسببه: أن رجلا من بني عمرو من الأوس، قتله رجل من بني الحارث من الخزرج، فعدا أهل القتيل على القاتل وقتلوه غيلة، وعرف ذلك أهله، فكانت حرب بين الفريقين شديدة، حمل راية الخزرج فيها عبد الله بن سلول، وراية الأوس حضير بن سماك، وصبر القوم بعضهم لبعض أربعة أيام ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك. 4- يوم حاطب: توالت الحروب بعد يوم السرارة، حتى إذا مرت مائة سنة من يوم سمير، إذ بحرب تعرف بيوم حاطب وقعت بين الفريقين. وسببها: أن حاطبا الأوسي -وكان شريفا سيدا في قومه- أتاه ضيف من بني ثعلبة، ثم غدا يوما إلى سوق بني قينقاع, فرآه يزيد الخزرجي، فقال

لرجل من اليهود: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي؛ فأخذ الرداء وكسعه، فنادى الثعلبي: يا لحاطب, كسع ضيفك وفضح، وعرف حاطب الأمر، فجاء وضرب اليهودي بالسيف فقتله، وعلم يزيد الخزرجي فأسرع خلف حاطب فلم يدركه، فقتل رجلا من أهله, فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، وسعى بينهما جماعة من فزارة بالصلح، فلم تفلح مساعيها، واستمرت الحرب بينهما سجالا: يوما للأوس، ويوما للخزرج, حتى انتهت بظفر الخزرج. وتجددت الحرب بعد ذلك، وكان الفريقان يتصالحان على الديات، وطال أمر الحرب حتى سئمت الأوس، فصارت إلى قريش بمكة تطلب محالفتها، فأجابت قريش طلب الحلف، ثم تحللت منه، فطلبت الأوس إلى بني قريظة وبني النضير الحلف على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك، ثم عادوا فنقضوا. 4- أيام قريش: ولقريش أيام، من أهمها حروب "الفجار"، ولا سيما الفجار الرابع. وهذه هي: الفجار الأول: جلس بدر بن معشر الغفاري في مجلس له بعكاظ -وكان بدر رجلا حدثا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ- فجعل يقول، ورجل على رأسه قائم: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنهم لجة بحر مسدف وهو باسط رجله, يقول: "أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني, فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني". فوثب رجل من بني نصر بن معاوية، فضربه على ركبته فأندرها، ثم قال له: "خذها إليك أيها المخندف"، وأنشد وهو ماسك سيفه:

نحن بنو دهمان ذي التغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف نبني على الأحياء بالمعروف فتحير الحيان عند ذلك، وثارا حتى كادت تكون فتنة ودماء, ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير. وذكروا رواية أخرى في الفجار الأول، وهي ما سنذكره في الفجار الثالث، وهذا الذي هاج أول أيام الفجار بين كنانة وهوازن. الفجار الثاني: أما الفجار الثاني، فقد كان بين قريش وهوازن. وكان الذي هاجه، أن فتية من قريش جلسوا في سوق عكاظ إلى امرأة وضيئة من بني عامر بن صعصعة -وقيل: بل أطاف بها شباب من بني كنانة لا من قريش- وعليها برقع وهي في درع فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها، فسألوها أن تسفر عن وجهها، فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشد ذيلها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري. فلما قامت تقلص الدرع من خلفها فضحكوا، وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا خلفها. فنادت المرأة: "يا آل عامر! " فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم. الفجار الثالث: وهو بين كنانة وهوازن -وكنانة هم حلفاء قريش- وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية, وكان الكناني فقيرا، فرآه دائنه النصري بسوق عكاظ، ومع النصري قرد وأنحى به السوق. فوقف في السوق ونادى: "من يبيعني مثل هذا القرد بما لي على فلان الكناني؟ " وجعل يعيد النداء حتى أكثر؛ تعييرا للكناني ولقومه. فمر به رجل من بني كنانة فسمعه وضرب القرد بسيفه فقتله. فهتف النصري: يا آل هوازن؟ وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد يكون بينهم قتال. ثم رأوا أن الخطب أيسر مما تكلفوا له فتراجعوا, ولم يتفاقم الشر بينهم.

الفجار الرابع: وقعت هذه الحرب وكان بود قريش ألا تقع؛ لميلها إلى السلم الضروري لتجارتها، وكانت تجنح إلى السلم في كثير من أمورها وخاصة مع قبيلة هوازن, التي لها القوة والمنعة حول عكاظ، فإن قريشا ترهب جانبها وتجتنب ما يعكر الصفو بينها وبين هوازن؛ حرصا على سلامة الموسم وعلى تجارتها فيه. وقد سميت بالفجار؛ لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهي الشهور التي تعظمها العرب, وتحرم فيها القتل والقتال فيما بينها. فلما خرج المتحاربون فيها على شريعة العرب, كانوا فاجرين بذلك. وأيامها خمسة تفرقت على أربع سنين. سنتها: من الصعب تعيين سنة هذه الحروب؛ لما ورد فيها من تضارب الروايات، فقد أجمعت المصادر على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضرها بنفسه، ثم افترقت فرقتين: فابن هشام ومن تابعه يجعلون سن الرسول لما حضرها أربع عشرة سنة، ومنهم صاحب العقد الفريد الذي يروي في ذلك حديثا, هذا نصه: "كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار, وأنا ابن أربع عشرة سنة". وابن إسحاق ومن تابعه -ومنهم صاحب القاموس والأصفهاني وابن سعد- جعل سنه حينئذ عشرين سنة. وهناك غموض آخر اشترك فيه الفريقان معا، وهو أن أيام الفجار الآخر تفرقت على أربع سنين، ففي أيتهن كان عمره أربع عشرة؟ ونبله -صلى الله عليه وسلم- على أعمامه فسر بوجهين: أما صاحب العقد الفريد فقال: أنبل بمعنى: أناولهم النبل، وهو خلاف ما ذهب إليه ابن هشام في سيرته من أن معناه: أنه كان يرد عنهم نبل عدوهم. إلا أن تعدي الفعل بـ "على" يرجح التفسير الأول؛ فقد جاء في القاموس: نبل عليه: لقط له النبل. وروى الحديث "في مادة فجر"، وكذلك رواه ابن سعد على هذه الصيغة: "كنت أنبل على عمومتي يوم الفجار، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت".

فإن يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضر الأيام جميعها، وكانت سنه أول ما هاجت خمس عشرة سنة -على إحدى روايتي ابن هشام- أمكن التوفيق بين الروايات على وجه التقريب، فتكون الحرب قد وضعت أوزارها وقد أشرفت سنه على العشرين. فكان يلتقط السهام في أولها ويرمي بنفسه في آخرها، فعلى الرواية الأولى تكون الحرب قد وقعت قبل البعثة بخمسة وعشرين عاما، وتوافق سنة "585" للميلاد المسيحي. سبب الحرب: من عادة النعمان بن المنذر -ملك الحيرة- أنه يرسل كل عام إلى سوق عكاظ لطيمة "وهي الجمال تحمل المسك والطيب"، بحماية رجل شريف من أشراف العرب، يحميها له حتى تصل إلى السوق فتباع فيها, ويشترى له بثمنها أدم من أدم الطائف. ولا يقوم عادة بعبء حمايتها إلا رجل منيع، لقومه عدد وعزة، وكان الذي يجيرها في الغالب سيد مضر1. فلما جهز النعمان اللطيمة لهذا العام "585م"، قال: "من يجيرها؟ " وكان بحضرته أناس من أشراف القبائل، فانبرى له البراض بن قيس الضمري، وكان فتاكا يضرب بفتكه المثل، فقال، "أنا أجيرها على بني كنانة"، فقال النعمان: "ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة" فقام عروة الرجال -أحد أشراف هوازن وكبرائهم- فقال: "أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم" يريد عامة العرب, فحقدها عليه البراض، وقال: "أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ " قال: "نعم، وعلى الناس كلهم". فحمي البراض؛ إذ عدها استهانة به واستخفافا بقومه, وأضمرها في نفسه غدرة شنعاء.

_ 1 الأغاني 19/ 75.

ودفع النعمان اللطيمة إلى عروة فخرج بها, فتبعه البراض وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه شيئا؛ لأنه منيع بين قومه من غطفان، حتى إذا بلغوا "فدك" نزل عروة في أرض يقال لها "أوارة", فشرب الخمر وغنته قينة ثم قام فنام. اغتنم الفرصة البراض، وانسلَّ إليه في خبائه، فلما رآه عروة ناشده واعتذر إليه، وقال: "كانت مني زلة"، فلم يفد الاعتذار شيئا ولم يخفف مما يضطرم في صدر البراض من الحقد، فانقضَّ على عروة فقتله، وخرج يرتجز، ويقول: قد كانت الفعلة مني ضلة هلا على غيري جعلت الزلة فسوف أعلو بالحسام القلة ثم أنشد: وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع جمعت له يدي بنصل سيف ... فخر يميد كالجذع الصريع واستاق اللطيمة إلى خيبر، وبعث رسولا مستعجلا إلى حرب بن أمية، يخبره أنه قتل عروة فليحذر قيسا، فتبعه رجلان من غطفان يريدان قتله، فكان هو أول من لقيهما، فعرف ما قصدا إليه فنوى التعجيل بهما، فقال لهما: "ممن الرجلان؟ " قالا: "من غطفان وغني بهذه البلدة" قالا: "ومن أنت؟ " قال: "من أهل خيبر"، قالا: "ألك علم بالبراض؟ "، قال: "دخل طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا". قالا: "فأين يكون؟ "، قال: "فهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ "، قالا: "نعم"، قال: "فانزلا"، فنزلا فعقلا راحلتيهما. قال البراض: "فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحد سيفا؟ "، قال الغطفاني: "أنا", قال: "فانطلق أدلك عليه ويحفظ صاحبك راحلتيكما"، ففعل. وانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر، خارجة عن البيوت، فقال البراض: "هو في هذه الخربة وإليها يأوي

فأنظرني حتى أنظر أثم هو أم لا؟ "، فوقف له الرجل ودخل البراض ثم خرج إليه، وقال: "هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت, فهل عندك سيف فيه صرامة؟ "، قال: "نعم", قال: "أرني سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ "، فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به فقتله، ووضع السيف خلف الباب. وأقبل على الغنوي فقال: "ما وراءك؟ "، قال البراض: "لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل -والرجل نائم- لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه". قال الغنوي: "يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا". قال البراض: "هما عليَّ إن ذهبتا"، فانطلق الغنوي والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله، وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما ثم انطلق. 5- وفيما يلي تفصيل أيام الفجار الرابع: يوم نخلة: بلغ قريشا خبر البراض وقتله عروة، وفزعوا أن تعلم بذلك هوازن فتدهمهم وكانوا في عكاظ في الشهر الحرام فخلصوا نجيا "واتفق رأيهم أن يخاطبوا عامر بن مالك سيد قيس بذلك، فأتوه وأخبروه، فأجاز مالك بين الناس وأعلم قومه ما قيل له, وأوشكوا أن يصطلحوا" لكن فريقا منهم خافوا أن يكون قومهم بمكة في ضيق، فانسلوا من عكاظ وهوازن لا تشعر بهم, وتوجهوا نحو مكة رجاء أن ينصروا. وكان من عادة العرب إذا وفدت على عكاظ أن تدفع أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان -وكان هذا سيدا حكيما مثريا من المال- فتبقى عنده أسلحة الناس حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم, فيردها عليهم إذا ظعنوا. فلما كان من أمر البراض ما كان, قال حرب بن أمية لابن جدعان: "احتبس قبلك سلاح هوازن".

فقال عبد الله: "أبا الغدر, تأمرني يا حرب؟ فوالله لو أعلم أنه لا يبقى فيها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا. ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف تستعينون بها"، ثم صاح ابن جدعان في الناس: "من كان له قبلي سلاح, فليأت وليأخذه" فأخذ الناس أسلحتهم. وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد ابنا المغيرة إلى أبي براء سيد قريش: "إنه قد كان بعد خروجنا حرب, وقد خفنا تفاقم الأمر, فلا تنكروا خروجنا". وساروا راجعين إلى مكة "أغاني 19/ 76"، فلما كان آخر النهار بلغ أبا البراء قتل البراض عروة فقال: "خدعني حرب وابن جدعان"، وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في إثر القوم فأدركوهم في نخلة قبيل الحرم، فناوشوهم شيئا من القتال يسيرا حتى جاء الليل، ودخلت قريش الحرم فأمسكت هوازن عنهم ونادوهم: يا معشر قريش! إنا نعاهد الله ألا نبطل دم عروة الرحال أبدا أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل. ونادى رجل من بني عامر: لقد وعدنا قريشا وهي كارهة ... بأن تجيء إلى ضرب رعابيل فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: "إن موعدكم قابل في هذا اليوم". وتعرف هذه الوقعة بيوم نخلة1, وقد تعطلت السوق فلم تقم تلك السنة. فقال خداش بن زهير يذكر قريشا بها ويعيرهم، وكانت العرب تسمي قريشا "سخينة"؛ لأكلها السخينة وهي طعام رقيق يتخذ من دقيق: يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم إذ يتقينا هشام بالوليد ولو ... أنا ثقفنا هشاما شالت الجذم

_ 1 "يوم نخلة" هما نخلتان, والمقصود هنا نخلة اليمانية وهو الوادي الممتد من السيل الكبير إلى ما بعد الزيمة، وقرية الزيمة على جانبه. أما نخلة الشامية فتعرف باسم وادي المضيق ووادي الليمون, وتقع شمال نخلة اليمانية ويفصل بينهما سلسلة من الجبال, ثم يلتقيان أسفل قريتي الزيمة وسولة، فيكونان واديا واحدا يعرف في القديم باسم وادي مر، ومر الظهران، ويعرف حديثا باسم وادي فاطمة.

لما رأوا خيلنا تزجى أوائلها ... آساد غيل حمى أشبالها الأجم ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة ... كما تخب إلى أعطانها النعم بين الأراك وبين المرج تبطحهم ... زرق الأسنة في أطرافها السهم فإن سمعتم بجيش سالك سرفا ... وبطن مر فأخفوا الجرس واكتتموا وهذا غاية في التعبير, وفي وصف هذه الحرب حتى صار الأخ يفتدي نفسه بأخيه. يوم شمظة 1: شمظة: موضع في عكاظ نزلته كنانة بعد عام من يوم نخلة, حسبما اتعدوا لهم وهوازن، فاحتشدت كنانة: قريشها، وعبد منافها, والأحابيش ومن لحق بهم، وسلح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمي بأداة كاملة سوى من سلح من قومه, وعلى إحدى مجنبتي كنانة عبد الله بن جدعان، وعلى الثانية كريز بن ربيعة، وأمر الجميع إلى حرب بن أمية الذي كان في القلب, أما هوازن وأحلافها فأمرها إلى مسعود بن معتب الثقفي, واعتزل فريق من الحيين فلم يشهد الحرب. ثم تناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، فانقشعت كنانة واستمر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، وذلك قول خداش بن زهير: فأبلغ إن عرضت بنا هشاما ... وعبد الله أبلغ والوليد أولئك إن يكن في الناس خير ... فإن لديهم حسبا وجودا هم خير المعاشر من قريش ... وأوراهم إذا قدحت زنودا بأنا يوم "شمظة" قد أقمنا ... عمود المجد إن له عمودا

_ 1 شمظة: من عكاظ، هو الموضع الذي نزلت فيه قريش وحلفاؤها من بني كنانة بعد يوم نخلة. وهو أول يوم اقتتلوا به من أيام الفجار بحول على ما تواعدت عليه مع هوازن وحلفائها من ثقيف وغيرهم، فكان يوم شمظة لهوازن على كنانة وقريش، وهو من المواضع المجهولة اليوم. "معجم ما استعجم 3/ 961".

فجاءوا عارضا بردا وجئنا ... كما أضرمت في الغاب الوقودا فعانقنا الكماة وعانقونا ... عراك النمر واجهت الأسودا ونادوا يا لعمرو لا تفروا ... فقلنا لا فرار ولا صدودا فولوا نضرب الهامات منهم ... بما انتهكوا المحارم والحدودا1 فلم أر مثلهم هزموا وفلوا ... ولا كذيادنا عنقا مذودا يوم العبلاء 2: عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك، فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء, فاقتتلوا على التعبئة التي تقدمت. فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على قريش وكنانة, فأصيبت قريش وقتل أحد صناديدها: العوام بن خويلد، والد الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله مرة بن متعب الثقفي، فقال في ذلك رجل من ثقيف يفتخر بقتله؛ لما له من الخطر: منا الذي ترك العوام منجدلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن، خداش بن زهير: ألم يبلغكم أنا جدعنا ... لدى العبلاء خندف بالقياد ضربناهم ببطن عكاظ حتى ... تولوا طالعين من النجاد ويقول: ألم يبلغك ما لقيت قريش ... وحي بني كنانة إذ أبيروا دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زهير2

_ 1 راجع خزانة الأدب وابن سلام صـ121, 122، والأغاني 19/ 78. 2 العبلاء: قرية ذكر الهمداني أنها خربت, وتقع بقرب العبيلاء، قرية عدوان المعروفة، وتقع جنوب عكاظ مجاورة له. وفيها كان يوم العبلاء لهوازن على قريش وكنانة. "راجع موقع عكاظ صفحة 64, تعليق الأستاذ حمد الجاسر". 3 أبيروا: أهلكوا. العقوة: ما حول الدار، المحلة.

يوم شرب 1: ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من عكاظ أيضا بشرب، وشرب من عكاظ, ولم يكن بين الفريقين يوم أعظم منه، صدقوا فيه الحملة، وصبروا حفاظا وحمية، وقد أبلت فيه قريش بلاء حسنا. وكان الذي أحماهم أن لهوازن عليهم يومين ذهبوا بفخرهما, فحافظت قريش وكنانة وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، وقيد ثلاثة من شجعان قريش وأشرافها أنفسهم، وقالوا: "لا يبرح منا رجل من مكانه حتى يموت أو نظفر"، وهم: أبو سفيان وحرب ابنا أمية وأبو سفيان بن حرب والد معاوية. وكان على الفريقين رؤساؤهم السابقون، واستمر القتال بهذه الشدة حتى انهزمت هوازن وقيس كلها رغم عددها وعدتها، إلا بني نصر, فإنهم صبروا مع ثقيف؛ وذلك لأن عكاظ بلدهم، لهم فيها نخل وأموال، إلا أنهم لم يغنوا شيئا ثم انهزموا أيضا, وقتلت هوازن يومئذ قتلا ذريعا. وذهبت بفخر هذا اليوم كله كنانة وقريش، فارتفعت أصوات شعرائهم تخلِّد هذا النصر المؤزر، وما لها لا تفعل وقد لقيت خزيا كبيرا من شعراء هوازن؟! وما شأن شاعر تفقده أمته يوم الحاجة؟! وأي غناء لشاعر لا قوم له؟! فقال أمية بن أبي الأسكر الكناني:

_ 1 شرب: وهو وادٍ عظيم أعلاه وادي العقيق، الواقع غرب الطائف وشماله, ثم ينحدر مارا بمزارع القيم فأم الحمض، فالقديرة، يلتقي به وادي الحوية من الغرب، فيكونان واديا واحدا يدعى وادي "شرب" وعلى مسافة ميل واحد من الحوية تقع قرية شرب في الوادي نفسه، ثم يجوز السلسلة الجبلية، ويفضي إلى الأرض البراح ثم عكاظ حتى تنتهي إلى وادي الأخيضر الواقع شرقا عن وادي شرب, ويفضي الواديان في ركبة. وقد يطلق على سوق عكاظ اسم شرب, كما في قول الكميت الذي أورده البكري في معجمه "ص809": وفي الحنيفة فاسأل عن مكانهم ... بالموفقين، وملقى الرحل من شرب "موقع عكاظ, صفحة 64 تعليق الأستاذ حمد الجاسر". وشرب هو المكان الذي وقع فيه يوم شرب, وانتصرت فيه قريش وكنانة على هوازن.

ألا سائل هوازن يوم لاقوا ... فوارس من كنانة تعلمينا لذي شرب وقد جاشوا وجشنا ... فأوعب في النفير بنو أبينا1 وقال: قومي اللذو بعكاظ طيروا شررا ... من روس قومك ضربا بالمصاقيل2 وقال جذل الطعان: جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا فاستقبلوا بضراب فض جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عصفوا يوم الحريرة 3: وهو آخر أيامهم، ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعلى كل قوم رؤساؤهم السابقون. فاقتتلوا قتالا شديدا كان شؤما على قريش وأحلافها، قتل فيه من كنانة ثمانية نفر، وقتل أبو سفيان بن أمية أخو حرب جد معاوية. وكان يوما لهوازن فخره ونصره، فلعلع صوت شاعر هوازن بهذه الصاعقة المجلجلة: إني من النفر المحمر أعينهم ... أهل السواء وأهل الصخر واللوب4 الطاعنين نحور الخيل مقبلة ... من كل سمراء لم تغلب ومغلوب وقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهم ... يوم الحريرة ضربا غير مكذوب لاقتهم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بدارعة عوج العراقيب فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإني غير مغلوب

_ 1 أوعب: جمع. 2 المصاقيل: السيوف. 3 الحريرة: هي حرة إلى جنب عكاظ، مما يلي مهب جنوبها. وهي تصغير حرة وتعرف الآن بـ "ضلع الخلص" والضلع هو الجبيل، وهذا الخلص: جبيل أسود صغير يقع في الجنوب بميل قليل نحو الشرق من موقع عكاظ "موقع عكاظ صفحة 66, تعليق الأستاذ حمد الجاسر" "معجم ما استعجم 3/ 962". 4 اللوب جمع لابة، وهي الحرة.

وقال الحارث بن كلدة الثقفي: تركت الفارس البذاخ منهم ... تمج عروقه علقا عبيطا دعست بناته بالرمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا لقد أرديت قومك يابن صخر ... وقد جشمتهم أمرا شطيطا وكم أرسلت منكم من كمي ... جريحا قد سمعت له غطيطا1 ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل، والرجلان يلقيان الرجلين, فيقتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية بن عبد الله الدبلي زهير بن ربيعة أبا خداش، فقال زهير: "إني حرام" جئت معتمرا، فقال له: ما تُلْقَى طوال الدهر إلا قلت: أنا معتمر, ثم قتله. انقضت هذه الأيام الخمسة في أربع سنين, ثم تداعى الفريقان إلى السلم على أن يذروا الفضل في الدماء والأموال، ويتعاهدوا على الصلح. عقدوا على ذلك المواثيق, وبقيت هذه الأحداث للذكرى والفخر، يتمجد كل شاعر قوم بما فعل قومه، ويتغنى بما كان لهم من محامد. وانظر إن شئت أن ترى آثار ذكرها في مثل قول الشاعر: وإن قصيا أهل عز ونجدة ... وأهل فعال لا يرام قديمها هم منعوا يومي عكاظ نساءنا ... كما منع الشولَ الهجانَ قرومُها2 أو قول عاتكة بنت عبد المطلب, تخلد نصر قومها في هذه المقطوعة الرائعة: سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه قيسا وما جمعوا لنا ... في مجمع باق شناعه فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه

_ 1 البعير البذاخ: الهدار المخرج لشقشقته. العلق العبيط: الدم المتجمد. دعس: طعن. الأطيط: صوت الغطيط للبعير: هديره، وللنائم صوته. 2 الشول: النوق التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها، الواحدة: شائلة. والهجان: الإبل الكرام. والقروم: الفحول.

بعكاظ يعشي الناظريـ ... ـن إذا هم لمحوا شعاعه فيه قتلنا مالكا ... قسرا وأسلمه رعاعه ومجندلا غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه هذا, وكانت تجارة العراق في عكاظ وما يفيده من يجيرها من أرباح مادية ومعنوية هو وقبيلته, سببا مغريا في هذه الحروب. وأيام الحجازيين كثيرة لا نستطيع استيعابها في هذا المجال, وحسبنا ما ذكرنا منها، على أننا نشير إلى طائفة أخرى منها كالأيام التي اشتبكت فيها قبيلة ذبيان مع غيرها من القبائل، كعيس وبني عامر، وكيوم حوزة الأول لسليم على غطفان، ويوم حوزة الثاني، ويوم الكديد لسليم على كنانة، ويوم فزارة لكنانة على سليم، ويوم الفيفاء لسليم على كنانة ... إلخ1.

_ 1 راجع كتب "أيام العرب" قديما وحديثا، ومنها "نهاية الأرب" ج15.

ثانيا: صميم الشعر السياسي

ثانيا: صميم الشعر السياسي 1- يجمل بنا في صدر هذا الموضوع أن نلم بالمعاني اللغوية لكلمة "سياسة" والمادة التي اشتقت منها قبل أن نعرض لمعناها الاصطلاحي الذي يبنى عليه تعريف "الشعر السياسي". تقول كتب اللغة: السَّوْس: الرياسة, وإذا رأس القوم أحدا قيل: سوسوه، وأساسوه, وساس الأمر سياسة: قام به, ورجل ساس: من قوم ساسة، وسوَّاس. وأنشد ثعلب: سادة قادة لكل جميع ... ساسة للرجال يوم القتال وسست الرعية سياسة. وفي الحديث الشريف: "كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبياؤهم"، أي: تتولى أمورهم، كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية. فالسياسة إذًا -كما وردت في المعاجم العربية- تعني تدبير أمور الناس, والقيام بشئونهم، والرياسة عليهم، وتملك زمام الحكم فيهم. فما العلاقة بين هذا المعنى وهو تدبير أمور الرعية، والمعاني اللغوية الأخرى؟ ورد في هذه المادة: السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس. يقال: هو يسوس الدواب, إذا قام عليها وراضها1. ويقال: سوس له أمرا أي: روضه وذلَّله. ومن هذا نستنتج أن الأصل الملحوظ فيمن يسوس أمور الناس، أن يتوخى أسباب الإصلاح, وأن السياسة تقتضي تذليل الصعاب وحل المشكلات، وترويض الشمس من الأفراد، كما يروض السائس الأفراس. هذا في العربية، وأما في اللغات الإفرنجية، فكلمة سياسة هي: "policy" في الإنجليزية، وأصلها في الإغريقية: "politeia"، وفي اللاتينية: "politia". ومعاني هذه الكلمة في المعاجم الغربية تمضي على النحو الآتي: 1- فن أو طريقة تنظيم أو توجيه السلوك. 2- طريقة العمل. 3- المنهج أو الأشكال التي يستطيع بها حكومة الإقليم أو الإدارات أن تسير بها الأمور. 4- نظام للإدارة توجه المصالح أكثر مما توجهه المبادئ. 5- الحذق في الإدارة. 6- البراعة، الحذق، الفطنة. 7- الخداع2.

_ 1 راجع لسان العرب، مادة "سوس". 2 راجع: Twentieth Century dictionary مادة Policy.

ونلاحظ أن المعاني اللغوية الأخرى لمادة "سياسة" في اللغات الإفرنجية وثيقة الصلة بالمعنى الجوهري الذي يعنينا، وهو: الهيمنة على أمور الأمة وتنظيم شئونها. ذلك أن السياسة -في الواقع- تقتضي الحذق والبراعة والفطنة واللقانة ... ولم تذكر هذه المعاني في المادة "سياسة" العربية. إلا أن هذه المادة وردت كما سبق بمعنى الترويض, والترويض بطبيعته يقتضي الحذق والمهارة والقدرة الفائقة على تذليل الصعائب. ووردت السياسة بمعنى الخداع والمكر في الإنجليزية، ولم ترد كذلك في العربية. ولعل في هذا المعنى يكمن الفرق بين النفس العربية والنفس الإنجليزية. وإذا أنشدنا معنى السياسة عند المحدثين وجدناها تعني: حكم الأمم أو فن هذا الحكم، ووجدنا علم السياسة: هو ما يبحث في حكم الأمم من حيث أشكاله ونظمه ومقدار ملاءمته لأحوال الشعوب سواء أكان هذا البحث تاريخيا يتناول نظم الحكم في أطوارها المتعاقبة أم واقعيا يتناولها كما هي الآن. وإذا كان علم السياسة يتناول الحياة الداخلية للدولة أولا، ثم يتناول العلاقات بين الدول ثانيا, ومعنى ذلك أن يكون موضوع هذا العلم ذا شقين: النظم والأشكال التي تخضع لها الحكومات, كل في داخلها، والنظم والالتزامات التي تربط الدول كلا بالأخرى. وهناك الجانب الثاني وهو ما يدعى في القانون الدولي بالسياسة داخلية وخارجية كما هو معروف، والسياسة الخارجية تقوم بين الدول على قوانين السلم والحرب1. وإذا كانت هذه هي السياسة، فماذا عسى أن يكون الشعر السياسي؟! إنه بالطبع ذلك الشعر الذي يتصل بها سواء كانت داخلية أو خارجية. وبعبارة أخرى هو: ذلك الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدولة الداخلي، وعلاقتها الخارجية بالدول الأخرى.

_ 1 راجع كتاب "الشعر السياسي" ص3. وLeacock: Elements bf Political Science.

ويحسن بمؤرخي الأدب العربي أن يذهبوا في تفسير الشعر الجاهلي مذهبا أوسع أفقا، فيفسروه على اعتبار أن كثرته شعر قبلي أو سياسي قيل في سبيل القبيلة أو الإمارة أو الجمهورية، وكان خاضعا في إنشائه لهذه الغاية وهي مكانة القبيلة، وسيادتها، على الرغم من أنه كان مدحا وهجاء وفخرا ورثاء، فكل تلك, كانت في الغالب فنونا جزئية أو معاني فرعية لهذا الموضوع العام أو الهدف الرئيسي, وهو دولة القبيلة أو الإمارة أو الجمهورية كما سنرى. والشعر القبلي والسياسي في الجاهلية يمكن رده إلى الأبواب الآتية: أولا: شعر يقال في تأييد القبيلة, والتحفي بها، وبكاء موتاها، ووصف مرابعها، ونحو ذلك مما هو تاريخ لحياتها الخاصة. ثانيا: شعر يقال ثورة عليها وهجاء لها؛ إذ قصرت في رعاية الفرد أو في الاحتفاظ بمكانتها وشرفها. ثالثا: شعر هو فخر بالقبيلة على أعدائها, وهجاء لهم, ووعيد لهم بالويل والثبور، ثم تأييد لمكانة القبيلة عند احتكام أو مفاخرة. رابعا: شعر هو ثورة على النظام القبلي أو الاجتماعي كله، ولا سيما ذلك النظام الاقتصادي الذي كون في نفوس الفقراء تبرما, فكان منهم الصعاليك1. 3- أول ما يلقانا من هذا الشعر القبلي ما كان تحفيا بالقبيلة واعتزازا بمكانتها؛ لأنها موئل الشاعر ومعقد رجائه، ودولته التي يعيش في كنفها ويرتبط معها بهذا العقد الاجتماعي الذي أصلته التقاليد ووثقته العادات والنظم، فصار كلا الطرفين مكملا للآخر لا يستغنى عنه؛ هذا الاعتزاز بالقبيلة يدفع الشاعر إلى التغني بمآثرها وذكر قديمها, وما تمتاز به بين القبائل, دون أن يكون ذلك تعاليا على قبيلة بعينها, أو ردا على

_ 1 الشعر السياسي: صـ31.

شاعر خاص, وإن كان روحه مشعرا بفضل قومه على من سواهم؛ هو شعر قبلي يصور العشيرة كما هي أو كما يتصورها شاعرها الممتاز ... ومن أمثلة ذلك في شعر الحجازيين قول حسان بن ثابت من قصيدة في مدح عمرو بن الحارث الغساني: ولقد تقلدنا العشيرة أمرها ... ونسود يوم النائبات ونعتلي ويسود سيدنا جحاجح سادة ... ويصيب قائلنا سواء المفصل وتحاول الأمر المهم خطابة ... فيهم ونفصل كل أمر معضل وتزور أبواب الملوك ركابنا ... ومتى نحكم في البرية نعدل فقومه زعماء مقدمون في الشدائد, سديدو الرأي, أمجاد عدول, تحترمهم الملوك, وحسان هنا يصور مجد عشيرته الخزرج اليمنيين الذين يتصلون بالغساسنة ملوك الشام, وهو شعر في سبيل قومه، ومن ذلك قوله من قصيدة: لنا حاضر فعم وباد كأنه ... شماريخ رضوى عزة وتكرما متى ما تزنا من معد بعصبة ... وغسان نمنع حوضنا أن يهدما بكل فتى عاري الأشاجع لاحه ... قراع الكماة يرشح المسك والدما ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما نسود ذا المال القليل إذا بدت ... مروءته فينا وإن كان مقدما ... إلخ وكلها صور تقوم على الفضائل الجاهلية المتصلة بالسيادة والمجد وشرف النسب وسعة السلطان، وقد بقيت نزعة السيادة هذه في شعر حسان سمة لقومه حتى بعد إسلامه، ولعلها كانت صدى لهذه المنافسة بين المهاجرين والأنصار، وقد دل على ذلك بقوله: وكنا ملوك الناس قبل محمد ... فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل أولئك قومي خير قوم بأسرهم ... فما عد من خير قومي له أهل ومن أمثلة هذا النوع من الشعر القبلي, هذه القصيدة المنسوبة للسموءل بن عادياء اليهودي: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل

هذه الصورة الأولى من الشعر القبلي يغلب فيها عكوف الشاعر على قبيلته أو دولته الصغرى محتفيا بها، معجبا بمآثرها، لا يتحدى فيها شخصا ولا قبيلة، يمدحها به إيثارا لها على سائر القبائل. هو شعر قبلي داخل في سبيل كيان القبيلة وعزتها، أو هو شعر متصل بالنظام الأساسي للعشيرة وتدبير شئونها وسياستها1. 4- وهناك صورة أخرى لهذا الشعر القبلي هي من حيث النزعة عكس سابقتها، فهي ثورة على القبيلة وتهوين شأنها, وهجاؤها؛ لأنها قصرت في الواجب عليها نحو الشاعر أو غيره، وكأنها بذلك نقضت هذا العهد الاجتماعي القاضي بحمايته والانتصار له، فكانت بذلك دون القبائل الأخرى، وتعرض كيانها للهوان، فكان على الشاعر أن يقومها ويلزمها القانون. 5- ويلي ذلك نوع آخر من الثورة على النظام القبلي أو على النظام الاقتصادي والاجتماعي كله، ثورة الصعاليك, وهم جماعة فقراء من قبائل شتى، جمعت بينهم الخصاصة والحاجة وإعوازهم من مال هو عند غيرهم، فخرجوا على قبائلهم وتحللوا من نظمها، وأنكرهم قومهم، وأخذوا هم أنفسهم بالإغارة والنهب وسلب القبائل والأفراد ما لهم ثم توزيعها فيما بينهم، وكانوا رجالا أشداء عدائين، يسبقون الخيل، خبيرين بدروب الصحراء ومجاهلها، كراما، حديدي الإرادة، حسني الحيلة للخلاص إذا أسروا ... نذكر منهم ممن كان يعيش في منطقة الحجاز: الشنفرى وتأبط شرا، فهؤلاء وزملاؤهم مثلوا الخروج على النظام القبلي، وجعلوا وكدهم الحصول على المال ولو قتلوا أصحابه، لا يبالون في هذا قرابة. وقد طرحوا عن كواهلهم تقاليد العرب إلا ما ارتضوه لأنفسهم؛ يعطفون على الفقراء والمرضى والضعاف, ويبذلون ما عندهم

_ 1 تاريخ الشعر السياسي: صـ31، 33.

في سخاء, ويجمعون بين صفتي الكرم والسلب، فهم لصوص كرام شجعان, يعفون عن المحارم. هذا التحلل من النظام القبلي تبعه تحلل من شخصية القبيلة في الشعر، فلم يعن هؤلاء الصعاليك بتمثلها والتعبير عنها، هم انفردوا بأنفسهم في الحياة وانفردوا بها في الشعر، فكان قصيدهم مثالا قويا لشخصياتهم وسلوكهم, لا يكتمون منه شيئا ولا يقصرون في التعبير عنه، فامتازوا بالصدق والصراحة والقوة، وظهرت هذه الصفات في فنهم، فكان طريفا مقبولا, هو من الشعر الغنائي الصحيح الذي يعتز بالشخصية الفردية, وبهذا المذهب الثوري أو الاشتراكي. والذي يعنينا هنا أن شعر هؤلاء كان مثالا لشعر سياسي طريف، هو شعر الثورة والكفر بأوضاع فرضت عليهم الحرمان والفقر المدقع، بجانب هذا الفقر العام في البلاد كلها، حتى كانت حياة العرب خشنة مضطربة المناهج1. وفي شعر الشنفرى وتأبط شرا من صعاليك الحجاز، وغيرهم من صعاليك العرب عامة، نرى مثالا واضحا لشعر المعارضة الثائر، الذي يصور تصويرا دقيقا حياة الصعاليك وفتكهم وجراءتهم، وقدرتهم الفائقة على العدو، وصبرهم على الجوع والمكاره، وخروجهم على نظام القبيلة العام، ونقدهم لهذا النظام، وثورتهم على الأغنياء البخلاء الذين يختصون بالأموال دون الفقراء. والصعلوك يفارق قومه، ويقلي عشيرته؛ لأنها تقيم على ضيم، وهو يأبى الضيم، ولأنها تذيع السر، وهو يحفظ السر، ولأنها تخذل الجاني بما ارتكب من جنايات، وهو ينفر من هذا الخذلان. ولذا فهو يلتمس له مضطربا في الأرض ينأى به عن الأذى، ومنعزلا فيها يشعره بالحرية والكرامة، ويقيه أسباب القلى والبغض، وهو يستبدل بأهله وعشيرته أهلا وعشيرة من الحيوان والوحش، من كل ذئب قوي سريع ونمر أرقط ناعم الأديم، وضبع عرفاء "كثيفة شعر الرقبة"، من كل أبي باسل من هذه المخلوقات التي لا تذيع سرا ولا تخذل صديقا أيا كانت جريرته.

_ 1 الشعر السياسي: صـ34, 35.

والصعلوك يأنس بالوحش كما تأنس به الوحش، فهذه الوعول الحمر تروح وتجيء حوله، بياض النهار, كأنها العذارى تجرر أذيالها، حتى إذا ما أقبل الأصيل ركدت حوله العصم من الوعول، وقد بدا في ذراعيها البياض، وهو بينها كالأدفى الذي طال قرنه جدا حتى ذهب قبل أذنيه، لا تنكره ولا ينكرها, كأنه واحد منها لطول ما خالطها وعاشرها. ولنستمع إلى الشنفرى وهو يصور ذلك، فيقول: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم وسواكم لأميل فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل1 وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ ... سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل ولي دونكم أهلون سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيئل2 هم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل وكل أبي باسل غير أنني ... إذا عارضت أولى الطرائد أبسل .......................... ... .......................... إلى أن يقول: ترود الأراوى الصحم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملاء المذيل ويركضن بالآصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل3

_ 1 أقام صدر مطيته: جدّ في السير أو الأمر، والمعنى: استيقظوا وجدوا في أمركم, فإني راحل عنكم لغفلتكم وتراخيكم وإقراركم بالضيم. وحم الشيء: قدر وهيأ. والطية: النية والمنزل. يقول: تنبهوا من رقدتكم، فهذا وقت الحاجات، ولا عذر لكم, فإن الليل كالنهار في الضوء. 2 القلى: البغض. والسيد: الذئب. والعملس بثلاث فتحات وشد اللام: القوي على السير السريع. والأرقط: النمر. والزهلول: الأملس. جيئل: اسم للضبع. والعرفاء: الكثيرة شعر الرقبة. 3 ترود: تذهب وتجيء. الأراوى جمع: أروية، وهي أنثى الوعل الجبلي. الصحم: الحمر. المذيل: طويل الذيل. العصم من الوعل جمع: أعصم، وهو الذي في ذراعيه بياض. الأدفى: الذي طال قرنه جدا. ينتحي: يقصد. الكيح: عرض الجبل. الأعقل: الممتنع في الجبل العالي.

وتأبط شرا في القصيدة الآتية يصور سرعة عدو الصعلوك, وحسن حيلته للخلاص من الأعداء: يا عيد ما لك من شوق وإيراق ... ومر طيف على الأهوال طراق1 يسري على الأين والحيات محتفيا ... نفسي فداؤك من سار على ساق2 إني إذا خلة ضنت بنائلها ... وأمسكت بضعيف الوصل أحذاق3 نجوت منها نجائي من بجيلة إذ ... ألقيت ليلة خبت الريط أرواقي4 ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم ... بالعيكتين لدى معدى بن براق5 كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شث وطباق6

_ 1 العيد: ما اعتاد من حزن وشوق. ما لك: ما أعظمك. الإيراق: مصدر الأرق والأسلوب للتعجب، كقولك من فارس وأنت تتعجب من فروسيته وتمدحه. طرق: يقول: يطرقنا ليلا في موضع البعد والمخافة. 2 يسري الطيف: يسير ليلا. الأين: نوع من الحيات, أو الإعياء. محتفيا: حافيا. 3 الخلة: الصداقة. النائل: ما ينال. بضعيف الوصل: بحبل ضعيف. الأحذاق: المتقطع. 4 بجيلة: القبيلة التي أسرته. الخبت: اللين من الأرض. ألقيت أرواقي: استفرغت مجهودي في العدو. يقول: إذا ضن عني صديقي بنائلة، وكان وصاله ضعيفا أحذاقا، خليته ونجوت منه كنجائي من بجيلة. 5 العيكتان: موضع. معدى: مصدر ميمي، أو اسم مكان من عدا يعدو. ابن براق: هو عمرو وهو والشنفرى صديقا تأبط شرا, وكانا معه ليلة انفلاته من بجيلة. 6 حثحثوا: حركوا, من الحث. القوادم: ما ولي الرأس من ريش الجناح. والحص جمع: أحص, وهو ما تناثر ريشه وتكسر, يشير بذلك إلى الظليم وهو ذكر النعام. الخشف: ولد الظبية. الشث والطباق: نبتان طيبا المرعى، يغمران راعيهما ويشدان لحمهما، أي: كأنما حركوا بحركتهم إياي ظليما أو ظبية، والنعام والظباء مضرب المثل في سرعة العدو.

لا شيء أسرع مني ليس ذا عذر ... وذا جناح بجنب الريد خفاق1 حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي ... بواله من قبيض الشد غيداق2 ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... يا ويح نفسي من شوق وإشفاق3 لكنما عولي إن كنت ذا عول ... على بصير بكسب الحمد سباق4 سباق غايات مجد في عشيرته ... مرجع الصوت هدا بين أرفاق5 عاري الظنابيب، ممتد نواشره ... مدلاج أدهم واهي الماء غساق6 حمال ألوية شهاد أندية ... قوال محكمة جواب آفاق7 فداك همي وغزوي أستغيث به ... إذا استغثت بضافي الرأس نفاق8

_ 1 العذر جمع: عذرة، وهي ما أقبل من شعر الناصية على وجه الفرس. الريد: الشمراخ الأعلى من الجبل. 2 السلب: ما يسلب في الحرب. الواله: الذاهب العقل. الشد القبيض: الجري السريع. الغيداق: الكبير الواسع، يريد أنه نجا من بجيلة مسرعا كالواله, فيكون قد جرد من نفسه شخصا كاد يذهب عقله من سرعة الهرب والطلب. 3 صرمت: قطعت. 4 العول، بفتح الواو مع فتح العين وكسرها: مصدر بمعنى العويل، وهو رفع الصوت بالبكاء والاستغاثة، وبالكسر فقط جمع: عولة بفتح فسكون, أو بمعنى المعول عليه المستغاث به. بدأ في وصف الرجل الكامل يبكي فقد صداقته, أو الذي يعول عليه. 5 مرجع الصوت: يصبح آمرا ناهيا. هدا: رافعا صوته. الأرفاق: الرفاق، يصفه بأنه رئيسهم، يصدرون عن رأيه فيما يأمر وينهى. 6 الظنابيب جمع: ظنبوب، وهو حرف عظم الساق, جعلها عارية لهزالها. النواشر: عروق ظاهر الذراع. مدلاج: كثير سفر الليالي بطولها. الأدهم: الليل. واهي الماء: مطره شديد أي: إن سحابه لا يمسك الماء, الغساق: الشديد الظلمة وهما نعتان للأدهم. يقول: يدلج في الليل الممطر المظلم, فهو ذو عزم وجرأة. 7 المحكمة: الكلمة الفاصلة. جواب آفاق: صاحب أسفار وغزو. 8 غزوي: مقصدي، من الغزو وهو القصد. ضافي الرأس: كثير الشعر. نفاق ونغاق بمعنى.

كالحقف حدأه النامون قلت له ... ذو ثلثين وذو بهم وأرباق1 وقلة كنان الرمح بارزة ... ضحيانة في شهور الصيف محراق2 بادرت قنتها صحبي وما كسلوا ... حتى نميت إليها بعد إشراق3 لا شيء في ريدها إلا نعامتها ... منها هزيم ومنها قائم باق4 بشرثه خلق يوقي البنان بها ... شددت فيها سريحا بعد إطراق5 بل من لعذالة خذالة أشب ... حرق باللوم جلدي أي تحراق6 يقول أهلكت مالا لو قنعت به ... من ثوب صدق ومن بز وأعلاق7 عاذلتي إن بعض اللوم معنفة وهل متاع وإن أبقيته باق إني زعيم لئن لم تتركوا عذلي ... أن يسأل الحي عني أهل آفاق

_ 1 الحلقب: ما أعوج من الرمل: وحدأة النامون: أي صلبوه بدوسهم إياه وصعودهم عليه والناموس من نما بمعنى صمد وارتفع: والثلة القطعة من الغنم. وإليهم أولاد الشاة: والأرباق جمع ربق بكسر فسكون. وهو حبل يجعل كالحلقة يشد به صغار الغنم لئلا ترضع، شبه تلبد شعر الاعي النفاق بالحفف الذي لبده النامون عليه. ثم يقول له: أنت ذو ثلتين مالك وللحرب، يحقرة بذلك. 2 القلة: أعلى الجبل. ضحيانة: بارزة الشمس. محراق: يحرق من فيها. 3 القنة والقلة بمعنى: أراد أعلى جزء فيها. نميت: ارتفعت، يريد أنه سبقهم وهم على جد. 4 الريد: أعلى الجبل. النعامة: خشبات تكون في أعلى الجبل يأوي إليها الربيئة وهو العين والطليعة في القتال، هزيم: منكسر. 5 بشرثة خلق: يقول: صعدت إلى هذه القنة بنعل مزق. السريح: السيور تشد بها النعل. الإطراق: أن يجعل تحت النعل مثلها. 6 العذالة: الكثير العذل. الخذالة: الذي يكثر خذلان صاحبه. والأشب: المخلط المعترض، يريد من يعينني على هذا العدالة. 7 ثوب صدق: مقابل ثوب سءو. عني به الجيد. والبز: الثياب أو السلاح الأعلاق: كراثم الأموال يريد أنه يأمره، بالبخل وإمساك ماله.

أن يسأل القوم عني أهل معرفة ... فلا يخبرهم عن ثابت لاق1 سدد خلالك من مال نجمعه ... حتى تلاقى الذي كل امرئ لاق2 لتقرعن علي السن من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي والصعلوك أنوف يسلب ولا يطلب، وهو يفضل أن يستف تراب الأرض على أن تكون لأي إنسان يد في عنقه. وهو يجوع، ولكنه يقتل الجوع بالصبر عليه.. وإنها لتجربة شعورية عجيبة أن يميت الإنسان الجوع بإطالة مدى الجوع!! ولولا أنفة الصعلوك لعاش في بحبوحة من العيش، ولكنها نفسه الحرة التي لا تقبل الضيم ولا ترضى المذلة. ولنستمع إلى الشنفرى وهو يصور كل ذلك، فيقول: أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل وأستف ترب الأرض كيلا يرى له ... علي من الطول امرؤ متطول ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل ولكن نفسا حرة لا تقيم بي ... على الضم إلا ريثما أتحول وقد كانت الصلات بين القبائل العربية قائمة على التنافس والتربص وانتهاز الفرص للظفر بمال أو شرف، وهذا هو ما نراه بين الدول في كل العصور ... فهو تنافس في السيادة والاستعمار وكسب الأسواق التجارية ومناطق المواد الأولية، وليس الصراع بين الدول الحديثة إلا صورة لما كان بين القبائل البدوية القديمة، فالأسباب واحدة وإن اختلفت الوسائل واتسعت الميادين. هذا التنافس يرجع بين القبائل الجاهلية إلى عاملين رئيسين: مادي، وأدبي, فهو إما طمع في إبل أو مرعى أو بئر أو حمى أو فرس أو متاع ما، وإما رغبة

_ 1 معنفة: عنف. زعيم: كفيل وضمين. ثابت: هو تأبط شرا. 2 الخلال جمع: خلة، وهي الحاجة والفقر، يقول: سد بمالك فقرك حتى تلاقي الموت، والخلال: الخصال.

في رياسة أو أخذ بثأر أو اعتزاز بنفس أو مفاخرة بقوة أو غضب لجار أُهِين أو عهد نُقِض أو مجاراة لسفيه. تلك الأسباب تركت الجزيرة العربية دائمة الغارات أو الحروب, لا تعدم في ناحية من نواحيها غارة مشنونة، أو صراعا بشعا يستمر أياما بل شهورا، وصارت حياة الناس رخيصة تذهب بسبب كلمة أو هفوة أو بلا سبب سوى السفاهة والعبث1. وأيام العرب الكبيرة كثيرة تجاوزت الألف بكثير سوى المغاورات الصغيرة. ويجب أن نشير إلى أن أشعار الأيام وحوادثها قد دخلها التزيد والمبالغة؛ استجابة لدواعي العصبية وما تقتضيه طبيعة القصص من تهويل وتجميل، ومع ذلك فثمة قسط يمكن أن يوصف بالصحة استنادا إلى الطابع الفني الجاهلي، أو صحة روايته أو اتصاله بما يؤيده من أخبار وشواهد وثيقة. وشعر الأيام فنون شتى تشمل الفخر والحماسة والمديح والرثاء ووصف المعارك الحربية والإشادة بشجاعة الشجعان وصبرهم وثباتهم, سواء كانوا من قوم الشاعر أو من أعدائهم وغير ذلك من المعاني، إلا أن هذه الألوان جميعها تخضع لهدف رئيسي واحد وهو مكانة القبيلة وقوتها ونفوذها وسلطانها بين القبائل الأخرى, فهو إذًا -مع بعض التجاوز- شعر السياسة الخارجية للقبيلة. وقد ذكرنا في صدر هذا الفصل أطرافا من أيام الحجازيين في الجاهلية، مستشهدين بشيء مما قيل فيها من شعر في بعض الأحيان, وسنشير هنا إلى طائفة من الأشعار التي صبغتها الأيام بصبغة خاصة؛ ففي يوم بعثات قال قيس بن الخطيم قصيدته الحماسية التي مطلعها: أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب وفيها يفتخر قيس أنه من دعاة السلام, وأنه لا يبعث الحرب ظالما، ولكن إذا ما أبى الأعداء إلا الحرب أشعل نيرانها في كل جانب:

_ 1 الشعر السياسي ص38.

دعوت بني عوف لحقن دمائهم ... فلما أبوا سامحت في حرب حاطب وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالما ... فلما أبوا أشعلتها من كل جانب ويمضي في وصف معركة بعاث، وكيف هرب أعداؤهم رجالا ونساء, وكيف ردوا بني عوف على أعقابهم إلى ذرا الآطام، وظهور المشارب، وكيف رجع المنتصرون إلى أبنائهم ونسائهم تاركين القتلى والجرحى, ومن يعاني ذل الإسار من خصومهم المنهزمين: ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسب في جذم غسان ثاقب يعرين بيضا حين نلقى عدونا ... ويغمدن حمرا ناحلات المضارب أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب أويت لعوف إذ تقول نساؤهم ... ويرمين دفعا ليتنا لم نحارب صبحناهم شهباء يبرق بيضها ... تبين خلاخيل النساء الهوارب أصابت سراة ملأ غر سيوفنا ... وغودر أولاد الإماء الحواطب فلولا ذرا الآطام قد تعلمونه ... وترك الفضا شوركتم في الكواعب فلم تمنعوا منا مكانا نريده ... لكم محرزا إلى ظهور المشارب فهلا لدى الحرب العوان صبرتم ... لوقعتنا واليأس صعب المراكب ظأرناكم بالبيض حتى لأنتم ... أذل من السقبان بين الحلائب فليت سويدا راء من جر منكم ... ومن فر إذ يحدونهم كالجلائب فأبنا إلى أبنائنا ونسائنا ... وما من تركنا في بعاث بآئب1 وقد أجابه عبد الله بن رواحة بقوله: إذا عيرت أحساب قوم وجدتنا ... ذوي نائل فيها كرام المضارب نحامي على أحسابنا بتلادنا ... لمفتقر أو سائل الحق راغب بخرس ترى الماذي فوق جلودهم ... وبيضا نقاء مثل لون الكواكب

_ 1 واجب: ميت. المشارب: الغرف. ظأرناكم: عطفناكم على ما نريد. السقبان جمع: سقب, وهو الذكر من أولاد الإبل.

وفي يوم "الربيع" من أيام الأوس والخزرج, قال حسان بن ثابت قصيدته الرائعة التي مطلعها: لقد هاج نفسك أشجانها ... وعاودها اليوم أديانها وفيها يقول: ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها ويثرب تعلم أنا بها ... إذا قحط القطر نوآنها ويثرب تعلم أنا بها ... إذا خافت الأوس جيرانها ويثرب تعلم أن النبيت ... عند الهزاهز ذلانها متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهز القنا تخب نيرانها وتعط القياد على رغمها ... وينزل من الهام عصيانها1 ويمكننا أن نعتبر قصيدة حسان لخفتها وعذوبة بحرها وروحها الحماسية الدافقة "نشيد الخزرج" الوطني، كما تعتبر قصيدة قيس بن الخطيم التي يرد بها على حسان للأسباب ذاتها "نشيد الأوس" القومي، ونحن لا نستبعد أن شبان الأوس كانوا ينشدونها جماعات في نواديهم وسوامرهم كما ينشد الشبان وطلاب المدارس اليوم الأناشيد الحماسية. وكذلك كان يهزج شبان الخزرج بنشيد حسان ومطلع قصيدة قيس: أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها وفيها يقول: ونحن الفوارس يوم الربيع ... قد علموا كيف فرسانها رددنا الكتيبة مغلولة ... بها أفنها وبها ذانها وقد علموا أن متى ننبعث ... على مثلها تذك نيرانها

_ 1 ديوان حسان ص416. ميزانها: قوامها. نوآنها جمع: نوء أي: كنا مطرها. النبيت: هو عمرو بن مالك بن الأوس. الهزاهز: الحروب والشدائد. ذلانها أي: أذلاؤها. البيض: السلاح. تخب: تسكن. يقول: متى رأتنا الأوس محفزين, استخذت وزال الجموح من رءوسها.

ولولا كراهة سفك الدماء ... لعاد ليثرب أديانها ويثرب تعلم أن النبيت ... رأس بيثرب ميزانها حسان الوجوه حداد السيو ... ف يبتدر المجد شبابها1 7- ومن المعروف في التاريخ أنه نشأت بالشام دولة الغساسنة وبالحيرة دولة المناذرة, ونحن لا يعنينا من أمر هاتين الدولتين أو الإمارتين إلا ما كان من اتصال النابغة الشاعر الحجازي بهما, وما لابس ذلك من شعر سياسي. فقد اتصل النابغة بملوك الحيرة ومدحهم وطالت صحبته للنعمان بن المنذر فقربه، واتخذه نديما له وصديقا حتى وشى به عند النعمان أحد بطانته فهمّ بقتله، ولكن عصاما حاجب النعمان أسرّ إلى النابغة بالأمر فهرب النابغة إلى الغساسنة المنافسين المناذرة، ومدح عمرو بن الحارث الأصغر وأخاه النعمان؛ ولذلك اشتد سخط النعمان بن المنذر على النابغة؛ فأخذ هذا يعتذر إليه حتى رضي عنه وأعاده إلى منزلته عنده. ربما صحت الرواية القائلة بغضب النعمان بن المنذر على شاعره بسبب الوشايات, وربما كانت المسألة أن مر النابغة بالغساسنة فمدحهم -وكان ذلك بتدبير الغساسنة؛ لحسدهم المناذرة على هذا الشاعر العظيم- فغضب النعمان لذلك, واستغلها الوشاة عنده حسدا للنابغة فعاد هذا يعتذر، وسواء كان هذا أم ذلك، فالأمر لا يخلو من استغلال النابغة لما بين الإمارتين من تنافس، أو استغلال الإمارتين شعر النابغة, فأضفى ذلك عليه صفة السياسة وجعل له قيمة ممتازة في سبيل هاتين الدولتين, أو في سبيل ملوكهما على أقل تقدير. ويظهر لنا أن هناك أمورا أخرى لابست هذه المسألة فعقدتها؛ كتفوق النابغة شاعر المناذرة على حسان شاعر الغساسنة، وكجودة الشعر الذي قاله النابغة في آل حسان،

_ 1 أجد: استمر. غنيانها: استغناؤها. الربيع: الجدول الصغير. الأفن: نقص العقل. الذان: العيب. الأديان جمع: دين أي: الأمور التي تعرفها. راجع ديوان قيس صـ7 وهو مخطوط.

وكذكره يوم حليمة, وهو للحارث بن جبلة الغساني ملك الشام على المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة. ثم تعددت قصائد النابغة في ملوك الشام مما يجعل المسألة -فيما يظهر- أن شعر النابغة قسّم نفسه بين الإمارتين وإن حنّ إلى الحيرة، ولا شك أن شعر النابغة يؤرخ إلى حد كبير موقف الإمارتين معا، وصلة النابغة منهما، وقيمة شعره ومكانته في هذه البيئة العربية القديمة. يقول في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني من قصيدة: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب تُوُورثن من أيام يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب ويعتذر إلى النعمان بقوله: أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال من ولد وقد قلنا فيما مضى باختلاف النعمان بن المنذر والنابغة الذبياني في تفسير مدائح النابغة في ملوك الشام؛ فالنعمان فسره تفسيرا سياسيا عاما, إذ هو التجاء إلى خصم منافس وتقوية لشأنه وبخاصة عقب انتصار الشام على الحيرة, ولكن النابغة فسره تفسيرا شخصيا قريبا بأنه شكر على صنيع ينهض به جميع الشعراء, ولا شك أن النابغة لم يخل سلوكه مطلقا من السياسة الشامية الحيرية, فكان شعره سياسيا لذلك1. فإذا نظرنا إلى علاقة الغساسنة بالقبائل, وجدنا في ديوان النابغة وغيره صورا شعرية لهذا العلاقة السياسية، وحين غزا النعمان بن الحارث الغساني بني جن من عذرة -على غير رأي النابغة الذبياني- التحم قوم النابغة ببني جن والتقوا مع آل غسان, فهزموهم وحازوا على ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك: لقد قلت للنعمان يوم لقيته ... يريد بني جن ببرقة صادر

_ 1 راجع تاريخ الشعر السياسي ص49, 50.

تجنب بني جن فإن لقاءهم ... كريه وإن لم تلق إلا بصابر عظام اللهى أولاد عذرة إنهم ... لهاميم يستلهونها بالحناجر هم منعوا وادي القرى عن عدوهم ... بجمع مبير للعدو المكاثر وسائر القصيدة تصوير لقوة هذه القبيلة وسلطانها وآثارها الحماسية, مما يدل على أن قلب النابغة كان معها على الغسانيين؛ ولا غرو فقد كان النابغة من مادحي العذريين1. وسنتحدث بتفصيل ما عن شعر النابغة السياسي عندما نعرض لترجمته إن شاء الله. 8- وقد آن لنا بعد ذلك أن نتحدث عن الشعر السياسي بمكة حيث قامت حكومة قريش. ولسنا بحاجة هنالك إلى أن نعيد القول في الظروف السياسية التي أحاطت بنشأة "الحكومة المكية" ولا في العوامل المختلفة التي ساعدت على نموها وتطورها حتى تسامق ذلك الكيان السياسي لقبيلة قريس, التي اجتمعت لها خصائص دينية وأدبية واقتصادية واجتماعية لم تتوافر لغيرها من القبائل. فقد استوعبنا ذلك في باب الحياة السياسية، ولا سيما الفصل الخاص "بطبيعة الحكم في الحجاز"، وإنما نريد هنا أن نلقي ضوءا يسيرا على هذا الشعر الذي قيل في سبيل هذه الدولة الفنية، وتثبيت كيانها والدفاع عن حوزتها أو في نقدها وتجريحها وتهديدها. وقد علمنا -فيما مضى- أن قصيا احتال على أبي غبشان الذي كانت بيده مفاتيح الكعبة، فاستاءت خزاعة لذلك فقامت الحرب بينها وبين قريش، واستنجد قصي بأخيه رزاح بن كلاب فنصره على خزاعة وحلفائها, وآزره حتى كسب المعركة واستقام له الأمر، وينسب لرزاح في تصوير هذه الحادثة قوله: لما أتاني من قصي رسول ... فقال الرسول أجيبوا الخليلا نهضنا إليه نقود الجياد ... ونطرح عنا الملول الثقيلا

_ 1 المرجع السابق ص52, 53.

فهن سراع كورد القطا ... يجبن بنا من قصي رسولا فلما انتهينا إلى مكة ... أبحنا الرجال قبيلا قبيلا قتلنا خزاعة في دارها ... وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا كما ينسب إلى قصي بن كلاب قوله: أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة منزلي وبها ربيت إلى البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت فلست لغالب إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت وقد أسلفنا الحديث فيما سبق عن حلف الفضول1، ذلك الحلف الذي عقدته قريش بدار ابن جدعان على ألا يظلم بمكة قريب ولا غريب، وأن يكونوا على المظلوم حتى ينتصفوا ولو من أنفسهم ... وفي هذا الحلف العظيم الذي يعتبر قوة لها خطرها في سبيل الأمن الداخلي، يقول الزبير بن عبد المطلب الذي يقال: إنه أول من دعا إليه: حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعز به الغريب لدى الجوار ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نهجر كل عار وقد ذكرنا فيما سبق بعض الأشعار التي قيلت في أيام قريش كيوم شرب أو يوم عكاظ وهو لكنانة وقريش على هوازن وحلفائها ... ومن طريف ما حدث في هذا اليوم أن مسعودا الثقفي ضرب على امرأته سبيعة بنت عبد شمس أم بنيه خباء، ثم رآها تبكي حين تدانى الناس. فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: لما يصاب غدا من قومي، فقال لها: من دخل خباءك فهو آمن. فجعلت توصل فيه القطعة بعد القطعة، والخرقة والشيء ليتسع فخرج وهب بن متعب حتى وقف عليها, وقال لها: لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلا من بني كنانة، فنادت بأعلى صوتها: إن وهبا يأتلي ويحلف ألا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من كنانة, فالجد الجد. فلما هزمت

_ 1 راجع ما سبق من هذا الكتاب.

قيس لجأ نفر منهم إلى خباء سبيعة بنت عبد شمس حتى أخرجوها منه فخرجت فنادت: من تعلق بطنب من أطناب بيتي فهو آمن في ذمتي ... فداروا بخبائها حتى صاروا حلقة, فأمضى ذلك كله حرب بن أمية لعمته، فكان يضرب في الجاهلية بمدار قيس المثل، ويعيرون بمدارهم يومئذ بخباء سبيعة بنت عبد شمس. وفي هذا اليوم يرتفع صوت الشاعر القرشي ضرار بن الخطاب الفهري فيقول: ألم تسأل الناس عن شأننا ... ولم يثبت الأمر كالخابر غداة عكاظ إذا استكمل ... هوازن في لفها الحاضر وجاءت سليم تهز القنا ... على كل سلهبة ضامر وجئنا إليهم على المضمرات ... بأرعن ذي لجب زاخر فلما التقينا أذقناهم ... طعانا بسمر القنا العاثر ففرت سليم ولم يصبروا ... وطارت شعاعا بنو عامر وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر وقاتلت العنس شطر النها ... ر ثم تولت مع الصادر على أن دهمانها حافظت ... أخيرا لدى دارة الدائر وفي هذا اليوم يعترف شاعر هوازن خداش بن زهير بالهزيمة, ويشير بصولة قريش التي كان حدها يفلق الصخر فيقول: أتتنا قريش حافلين بجمعهم ... عليهم من الرحمن واق وناصر فلما دنونا للقباب وأهلها ... أتيح لنا ريب مع الليل فاجر أتيحت لنا بكر وحول لوائها ... كتائب يخشاها العزيز المكاثر جثت دونهم بكر فلم تستطعهم ... كأنهم بالمشرفية سامر وما برحت خيل تثور وتدعي ... ويلحق منهم أولون وآخر لدن غدوة حتى أتى وانجلى لنا ... عماية يوم شره متظاهر وما زال الدأب حتى تخاذلت ... هوازن وارفضت سليم وعامر وكانت قريش يفلق الصخر حدها ... إذا أوهن الناس الجدود العواثر1

_ 1 الأغاني 19/ 79, 80 ساسي.

وفي أعقاب يوم الحريرة الذي كان لقيس على كنانة وقريش, بكت الشاعرة الحجازية أميمة بنت أمية بن عبد شمس عشيرتها, ومن قتل من قومها بشعر نسب إليها, تقول فيه: أبى ليلك لا يذهب ... ونيط الطرف بالكوكب ونجم دونه الأهوال ... بين الدلو والعقرب وهذا الصبح لا يأتي ... ولا يدنو ولا يقرب بعقر عشيرة منا ... كرام الخيم والمنصب أحال عليهم دهر ... حديد الناب والمخلب فحل بهم وقد أمنوا ... ولم يقصر ولم يشطب وما عنه إذا ما حل ... من منجى ولا مهرب ألا يا عين فابكيهم ... بدمع منك مستغرب فإن أبك فهم عزي ... وهم ركني وهم منكب وهم أصلي وهم فزعي ... وهم نسبي إذا أنسب وهم مجدي وهم شرفي ... وهم حصني إذا أرهب وهم رمحي وهم ترسي ... وهم سيفي إذا أغضب فكم من قائل منهم ... إذا ما قال لم يكذب وكم من ناطق فيهم ... خطيب مصقع معرب وكم من فارس فيهم ... كمي معلم محرب وكم من مدره فيهم ... أريب حوله مغلب وكم من جحفل فيهم ... عظيم النار والموكب وكم من خضرم فيهم ... نجيب ماجد منجب1

_ 1 الأغاني 19/ 82 ساسي.

9- وقد سجل الحجازيون في أشعارهم بعض الحوادث الجلى التي انتابتهم, ومن ذلك حادثة الفيل التي ذكرها القرآن الكريم؛ فقد أراد أبرهة ملك الحبشة غزو مكة وهدم البيت الحرام، وسار بجيشه وكتائبه العظيمة حتى وصلوا المغمس، وبعث القائد الحبشي رسولا إلى مكة يطلب زعيمها، وكان إذ ذاك عبد المطلب بن هاشم، فانطلق حتى أتى معسكر الأحباش، وهناك سأله أبرهة حاجته، فقال للترجمان: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة للترجمان: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! فأجابه عبد المطلب: "إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه ويحميه". ورجع عبد المطلب إلى قريش، وأنبأهم بعزم الطاغية على هدم بيت الله الحرام، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب, ثم أخذ بحلقة باب الكعبة يدعو الله أن ينصرهم ومعه نفر من قريش، وكان يهتف بالأبيات المشهورة: لاهم إن العبد ... إلخ. وطلع الصباح، وتحرك جيش الأحباش تتقدمه الفيلة متجهة نحو الكعبة ما عدا كبيرهم، فقد ظل جامدا في مكانه وأبى أن يتحرك في الطريق إلى مكة, فإذا وجهوه إلى اليمن أسرع وهرول. وحلت عليهم نقمة الله الذي صرفهم عن بيته بالطير الأبابيل, ترميهم بحجارة من سجيل، حتى جعلهم كعصف مأكول. ولعل تلك الطير أول قاذفات قنابل جاءت إلى العالم لم يصنعها إنسان ليفتك بأخيه الإنسان، ولكن صنعها العزيز القهار ليحطم بها قوى الظلم والعدوان. وحادثة الفيل حادثة لها خطرها في تاريخ الحجازيين خاصة, والعرب عامة. وقد هزت الكيان القومي، لا للمكيين وحدهم، وإنما للعرب أجمع، فإن البيت الحرام

يعتبر رمزا للوحدة العربية، وشعارا لحرية العرب، وما غزو أبرهة له إلا محاولة للقضاء على هذه الحرية وتلك الوحدة. ولا غرو إذا ما هتف شعراء الحجاز بالقصيد, يصبون جام غضبهم على المعتدي الأثيم، ويهزجون بأهازيج النصر. وفي هذه الحادثة يقول أبو قيس بن الأسلت من شعراء يثرب: ومن صنعه يوم فيل الحبو ... ش إذ كلما بعثوه رزم محاجنهم تحت أقرابه ... وقد كلموا أنفه فانخرم وقد جعلوا سوطه معولا ... إذا يمموه قفاه كلم فولى وأدبر أدراجه ... وقد باء بالظلم من كان لمم فأرسل من فوقهم حاصبا ... يلفهم مثل لف القزم1 تحض على الصبر أحبارهم2 ... وقد ثأجوا كثؤاج الغنم3 ويقول أيضا: قوموا فصلوا ربكم وتعوذوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكمو منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكثائب فلما أجازوا بطن نعمان ردهم ... جنود الإله بين ساف وحاصب فولوا سراعا نادمين ولم يؤب ... إلى أهله م الحبش غير مصائب4 وقد روى المؤرخون أن أبرهة حينما حل بأرض خثعم وهو في طريقه إلى مكة، عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران، وناهس

_ 1 رزم: ثبت ولزم موضعه. والقزم، بالتحريك: صغار الغنم. 2 ورواية الأزرقي: يحث على الطير أجنادهم. 3 ثؤاج الغنم: صوتها. راجع بلوغ الأرب 1/ 158-259، والحيوان 7/ 196, وأخبار مكة 1/ 97. 4 الحيوان 7/ 197.

ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله ليصرفه عن هدم الكعبة، فقد رأى نفيل -كما رأى ذو نفر من قبل- أن جهاده هذا الطاغية حق مقدس في عنقه، إلا أن أبرهة هزمه وأسره، فلما همّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني؛ فإني دليلك بأرض العرب، فخلى سبيله وصحبه معه يدله على الطريق. ورووا عن نفيل هذا شيئا عجيبا، وهو أن الأحباش لما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل عليه نفيل ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود -وهذا اسم الفيل- وارجع راشدا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل ... وأصعد نفيل في الجبل، وكان ما كان من أمر هلاكهم، ولما فاجأتهم تلك الغارات الجوية الإلهية خرجوا هاربين فزعين, يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، وفي ذلك يقول نفيل: ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا ردينة لو رأيت فلا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا إذن لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسي على ما فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا وكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا1 10- وقد كان زعماء الحجاز وأدباؤه يتفاعلون مع الأحداث العظيمة التي تنتاب البلاد العربية. ولما جلا الأحباش عن اليمن أقبلت وفود قريش على سيف بن ذي يزن تهنئه بالنصر العظيم, مما يشعرنا بوثاقة الروابط بين أجزاء الجزيرة العربية. كما أن أمية بن أبي الصلت الشاعر الحجازي يشيد بما أحرزه سيف من انتصار, موثقا أواصر الوحدة العربية. ولنستمع إليه وهو يقول:

_ 1 بلوغ الأرب 1/ 252، 255-257. المحصب: موضع بمكة. بينا: مصدر بان, يبين.

لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا1 بيضا مرازبة غرا جحاجحة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا2 لا يرمضون إذا حرت مغافرهم ... ولا ترى منهم في الطعن ميالا3 أمن مثل كسرى وسابور الجنود له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا4

_ 1 رواه ابن هشام في السيرة 1/ 67، وفي التيجان 305-307, والأزرقي 1/ 93, والعقد 2/ 23 وغيرهم كثير, والاختلاف في روايتها وفي ترتيبها شديد. 2 بيض: لم يعنِ بياض الألوان، إنما عنى نقاء الأعراض والشيم مما يعيبها. ومرازبة جمع مرزبان "بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي": معرب من الفارسية, وهو عندهم رئيس القوم الفارس الشجاع المقدم عليهم دون الملك. غر: جمع أغر, وهو الأبيض الوجه المتلألئ المضيء. وجحاجحة جمع جحجاح، وهو السيد الكريم. تربب: تربى وترعى وتحفظ. والغيضات جمع غيضة وهي الأجمة. والأشبال جمع شبل, وهو ولد الأسد إذا شب وبلغ الصيد. 3 رمض الرجل "بكسر الميم" يرمض: إذا اشتد عليه الحر أو الوجع, فقلق وتململ. وحر الشيء يحر: سخن واشتدت حرارته. والمغافر جمع مغفر: زرد ينسج من حلق حديد على قدر الرأس, يلبسه المحارب تحت القلنسوة, ويسبغ على العنق فيقيه, وينزل إلى العاتقين. فإذا اشتد الحر وحميت الشمس آذى المحارب بحره. يقول: هم صبر في الحرب, فلا يضجرهم حر القتال, ولا حر الحديد من طول اعتيادهم. ميال: يميل عن سرج فرسه في شدة الحرب، جبنا أو فزعا. 4 يعني: من له من الناس ملوك وأبطال مثل هؤلاء. وكسرى ملك الفرس يومئذ أنوشروان، وسابور الجنود هو كسرى سابور ذو الأكتاف. وهرز: وهو الذي أرسله كسرى أنوشروان مع سيف بن ذي يزن، وملكه على اليمن لقتال الحبشة وإخراجهم.

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا1 واضطم بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا2 تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيئا بماء فعادا بعد أبوالا3 11- وقد ألف الناس في العصور الحديثة، بين حين وآخر، أن يطلع عليهم الصباح، فإذا دور الحكومات والبرلمانات وغيرها، قد ألصق بجدرانها عدد من المنشورات السياسية ضد السلطان القائم والحزب الحاكم ... وكثيرا ما تصافح وجوه المواطنين كتابات معادية على القصور ... التي بنيت من دماء الشعب، تعلن السخط والحقد

_ 1 مرتفق: متكئ على وسادة وكذلك كانوا يفعلون في مجالس الملوك. وغمدان: قصر عظيم كان بصنعاء اليمن, كانت ملوكهم تنزله. ويقال: أرض محلال, إذا كانت سهلة لينة ممرعة خصيبة جيدة النبات، مختارة لنزول الناس، يكثرون الحلول بها لطيبها؛ يدعو له بالنعمة وطيب المنزل والرفاهية. 2 هكذا رواية ابن سلام: واضطم، وهي في حماسة البحتري صـ16: واضطم وكأنها خطأ وتحريف. وروى الأزرقي: والنط، وهذه روايات مشكلة, وسائر الروايات: واطل بالمسك ثم اطل. اضطمخ بالمسك وتضمخ: تلطخ به وتطيب. وقوله: إذ شالت نعامتهم أي: ارتحلوا من منازلهم وتفرقوا أو ذهب عزهم ودرست طريقتهم. وأسبل ثوبه: طوله طولا وأرخاه وأرسله إلى الأرض إذا مشى، يفعل المرء كذلك كبرا واختيالا, وضمن أسبل معنى اختال؛ ولذلك عداه بحرف الجر في، كأنه قال له: سر مختالا في برديك, مرخيا من أذيالك بعد الذي فعلت وبلغت من النصر. 3 القعب: القدح الغليظ الجافي، من خشب مفعر، يرى الرجل. وشاب اللبن بالماء: خلطه ومزجه. يقول له: الذي فعلت هو المكارم والمآثر؛ إذ بلغت ما بلغت من عدوك، أما ما يتمدح به المتمدح من بذل شربة لبن إلى ضيف، فليس بمكرمة تذكر، راجع طبقات فحول الشعراء 218-220.

والنقمة عليها ... وقد عرف الحجازيون في العصر الجاهلي هذا اللون من نقد السلطة الحاكمة والتشهير بها على الحيطان في شكل مصغر للمنشورات السرية أو السياسية، لنقد الحكومات في العصور الحديثة ... ومن ذلك ما ذكروه من أن الناس في مكة قد أصبحوا ذات يوم, فإذا مكتوب على دار الندوة: ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشى السفاسير وأكلها اللحم بحتا لا خليط له ... وقولها رحلت عير، أتت عير1 فأنكر الناس ذلك، وقالوا: ما قالها إلا ابن الزبعرى! وأجمع على ذلك رأيهم، فمشوا إلى بني سهم -وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضا- فقالوا لبني سهم: ادفعوه إلينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه؟ قالوا: قطع لسانه. قالوا: فشأنكم، واعلموا والله أنه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك, والزبير بن عبد المطلب يومئذ غائب نحو اليمن. فانتحت بنو قصي بينهم، فقالوا: لا نأمن الزبير إن بلغه ما قال هذا، أن يقول شيئا، فيؤتى إليه مثل ما نأتي إلى هذا وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته، فخلوه. فقال له الناس، وحملوه على قومه: أسلمك قومك ولم يمنعوك، ولو شاءوا منعوك! فقال: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها يود جناة الغي أن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها2

_ 1 قصي: أراد بني عبد مناف بن قصي، وفيهم كان الحكم والسلطان. والأساطير: أباطيل الأحاديث, ولعله أراد بها إخراج قصي خزاعة، وولايته البيت، وتجميعه لقبائل فهر، واتخاذه دار الندوة، ورياسته لها ... إلخ. السفاسير: جمع سفسير، وهو السمسار الذي يدخل بين البائع والمشتري لإمضاء البيع. وقوله: "رحلت عير أتت عير" ينتقد به انغماسهم في الحياة التجارية. 2 النكر: الأمر المنكر القبيح. شام السيف: طله وأغمده, ضد, والمقصود هنا نغمدها. راجع طبقات فحول الشعراء 196-198.

وفي رواية أخرى لهذه الحادثة عن يونس عن ابن إسحاق أنهم "استعدوا عليه بني سهم، فأسلموه إليهم فضربوه، وحلقوا شعره، وربطوه إلى صخرة بالحجون، فاستغاث قومه فلم يغيثوه, فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه؛ فمدحهم بأشعار كثيرة"1. وسواء صحت هذه الرواية أو تلك, فإن الذي يعنينا هنا هو الإشارة إلى أن هناك نوعا من النقد السياسي اصطبغ بصبغة أدبية أو شعرية, وهو الشعر الذي يمثل وجهة نظر المعارضة في الحكومة القائمة. 12- وأقوى ما يكون الشعر السياسي، حين يتجه إلى الملوك والحكام المستبدين بالنقد والسخط، والغضب والحقد، والتهديد والوعيد، فيعلنها الشاعر الحر ثورة عارمة في وجوه الطغاة، ويشنّها عليهم حربا كلامية حامية الوطيس، مشتعلة الأوار. وهذا اللون من الشعر ديدنه الحرية، والوقوف في وجه الطغيان، ولا غرو إذا ما تجاوبت معه النفوس في كل زمان ومكان؛ ذلك لأنه مبني على إنكار الذات، ويستند إلى عاطفة إنسانية عميقة الجذور في النفس البشرية. وقد عرف الحجازيون في العصر الجاهلي هذا اللون من الشعر الثائر، والسخط على الطغاة المستبدين؛ لإبائهم وشممهم، ونفورهم من التحكم والاستبداد، بل إن منهم من بلغت به الجرأة أن يركب الهول، ويقتحم على الملك مخدعه غير عابئ بأسلحة الحراس التي يكمن فيها الموت الزؤام، فيعلو الظالم الغشوم بسيفه ويطعنه طعنة نجلاء تودي بحياته وتتركه مثلة للحاكمين الظالمين ... ذلك هو مالك بن العجلان الخزرجي الذي فتك بالفطيون حاكم يثرب؛ لأنه اعتزم أن يرتكب الفحشاء مع أخته قبل أن تزف إلى زوجها.

_ 1 الروض الأنف 1/ 94.

وقد سلفت هذه القصة أثناء حديثنا عن "الحكم في يثرب". وفي هذه الحادثة يقول بعض الشعراء الحجازيين: هل كان للفطيون عقر نسائكم ... حكم النصيب فبئس حكم الحاكم حتى حباه مالك بمرشة ... حمراء تضحك عن نجيع قاتم1 وهذا الشداخ بن عوف الكناني يشرع سيفه في وجه الملوك، ويصور إباء قومه وأنفتهم، فهم لا يسمحون لأي إنسان أن يستبد بمظلمة لهم سواء كان ملكا كبيرا أو صعلوكا صغيرا. وإذا ما ساورت أي مستبد نفسه أن يظلمهم فلن يرى إلا الرماح المشرعة، والسيوف الصارمة التي يأخذ العين لمحها كما يأخذها برق الصواعق. ولنستمع إليه وهو يقول: أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة ... ولا سوقة إلا الوشيج المقوما وإلا حساما يبرق العين لمحه ... كصاعقة في غيث مزن تركما وكان الشاعر الحجازي الحارث بن ظالم الذبياني أحد سراة بني مرة وأشرافهم, جريئا, فاتكا، فتك بخالد بن جعفر الكلابي وهو نازل على النعمان، بل فتك بابن النعمان نفسه، وكان في حجر أخته سلمى بنت ظالم المري. وما أروع موقفه في قصيد ثائر، وهو يخاطب النعمان ويتهدده ويتوعده بالقتل، كما قتل خالد بن جعفر من قبل ... وإن الشاعر هنا ليثور لجيران له أصابهم شر المليك، في إبلهم وأموالهم وأنفسهم ... ويقسم أنه لولا ما يتحجب به الملك من الحجاب والحراس، لمزقه بسيفه الصارم. ولنستمع إليه وهو يقول: قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما ... محارب مولاه وثكلان نادم2

_ 1 طعنة مرشة: واسعة, ذات رشاش من الدم. وراجع في هذه الحادثة ص152 من هذا الكتاب. واسم الفطيون مختلف فيه؛ أهو الفطيون أم الفيطون أم القيطون أم القيطور. 2 محارب مولاه، يقصد نفسه لأنه فيك بابن الملك. وثكلان نادم، يعني الملك لأنه فقد ولده.

فأقسم لولا من تعرض دونه ... لخالطه صافي الحديدة صارم1 حسبت أبا قابوس أنك سالم ... ولما تصب ذلا وأنفك راغم فإن تك أذواد أصبن وصبية ... فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم2 علوت بذي الحيات مفرق رأسه ... وهل يركب المكروه إلا الأكارم فتكت به كما فتكت بخالد ... وكان سلاحي تحتويه الجماجم أخصيي حمار بات يكدم نجمة ... أنأكل جيراني وجارك سالم؟ 3 بدأت بهذي ثم أثني بهذه ... وثالثة تبيض منها المقادم بل إن من الشعراء الحجازيين من يفخر بأنه جندل بسيفه الصارم كثيرا من الملوك، كما فعل فارس خزاعة في زمنه معاذ بن صرم الخزاعي، إذ يقول: ولست برعديد إذا راع معضل ... ولا في نوادي القوم بالضيق المسك وكم ملك جدلته بمهند ... وسابغة بيضاء محكمة المسك4

_ 1 أي: لولا الحجاب والحراس الذين يحتمي بهم الملك, لقتله بسيفه. 2 الذود: الجماعة من الإبل, وهو يشير إلى ما كان من انتهاب إبل جار له. متفاقم: غير ملتئم. ويعني بابن سلمى، ابن الملك؛ لأنه كان في حجر سنان بن أبي حارثة, وسلمى زوجة سنان. 3 يكدم: يعض. نجمة: واحدة النجم, وهي النبت لا ساق له. يسب النعمان ويهدده ويقول له: يا خصيي حمار! أمن المعقول أن تأكل مال جيراني, ثم أترك جارك سالما؟ 4 الرعديد: الجبان. المسك بضم الميم: العقل. جدله: رماه وصرعه على الجدالة أي: الأرض. السابغة: الدرع التامة الطويلة الوافرة. محكمة المسك: ضيقة الحلق.

الفصل الثاني: الشعر الحماسي

الفصل الثاني: الشعر الحماسي 1- تحتل الحماسة مكانا بارزا في الشعر العربي عامة والشعر الجاهلي خاصة, حتى إن أبا تمام حين جمع مختاراته المشهورة وضمنها الأبواب العشرة الآتية: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب والهجاء، والأضياف والمديح، والصفات، والسير والنعاس، والملح، ومذمة النساء، أطلق عليها اسم "ديوان الحماسة" باسم أول باب فيها, وهو "الحماسة" الذي يستغرق نحوا من نصف الكتاب تقريبا, وليس ذلك محض مصادفة بل لأهمية الحماسة التي تشير إلى الفضائل التي يفخر بها العرب؛ كالشجاعة في المعركة، والصبر عند المصيبة، وصد القوي، والسعي الكادح لنيل المراد، وعدم الاستسلام أو الخضوع لما يوجب الذلة والامتهان. وقد قال معاوية بن أبي سفيان: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر أدبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض, أريد الهرب من شدة البلوى, فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة "وهو شاعر حجازي من شعراء الخزرج الجاهليين": أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح والشعر الحماسي هو الذي يصور تلك المعاني السالفة من شجاعة، ونجدة, وبأس، وقوة، وصبر عند اللقاء، وإقدام على الموت، وحماية للجار، ومنع

للحريم، وما إلى ذلك من الصفات التي يعتزّ بها العربي, وقد ذكرنا في فصل الشعر السياسي طائفة من هذا الشعر, إلا أن مكانة الحماسة في الشعر الحجازي تجعلنا نفرد لها هذا الفصل. وقد عرف الأدب الحجازي الجاهلي طائفة من الشعراء الأشراف, وأخرى من الشعراء الفرسان الذين جمعوا بين الشجاعة والبطولة وبين الموهبة الشعرية الفائقة, وثالثة من الصعاليك الفاتكين؛ فمن السادة: الحصين بن الحمام المري، وأبو قيس بن الأسلت الأوسي، وعمرو بن الإطنابة الخزرجي، ومن الفرسان: قيس بن الخطيم, وأبو محجن الثقفي الذي أدرك الإسلام، ومن الصعاليك: الشنفرى، وتأبط شرا. 2- وكان للحجازيين في هذا اللون من الشعر باع طويل, حتى إنهم كانوا يرون الموت على الفراش سبة وعارا، أما في ميادين الحرب وتحت ظلال القنا والسيوف فشرف, أي شرف. قال السموءل بن عادياء: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل1 وأيقن بعض الشعراء الحجازيين أن الإقدام على الردى هو الحياة, والفرار من المعركة هو الموت. قال الحصين بن الحمام المري: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما فلسنا على الأقدام تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما2

_ 1 الحماسة 1/ 38. 2 الحماسة 1/ 97.

وكان الحجازيون يخوضون غمار الحرب، ولا يبالون بالموت، يقول العباس بن مرداس: أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها بل إن منهم من يطلب الموت، ولا يريد بقاء النفس، يقول قيس بن الخطيم: وإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها وهم يأبون الموت إلا في ساحة الوغى، فكأنهم في معركة مع الثأر لا تنتهي؛ إما أن يقتصوا لأنفسهم أو يثأر منهم. وهذه عندهم هي الشجاعة وأولئك هم الشجعان ... والأبيات اللاحقة التي هتف بها الشاعر دريد بن الصمة تصور ذلك وتشيد بثباتهم وشجاعتهم، فهم يهجمون حين يتهيب الأبطال أن يهجموا، ويتنافسون على الإقدام في حلبة الموت الزؤام، ويفخرون بكثرة من قتلوا من الأعداء: أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر فإما ترينا لا تزال دماؤنا ... لدى واتر يسعى بها آخر الدهر فإنا نلحم السيف غير نكيرة ... ونلحمه حينا وليس بذي نكر يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا، أو نغير على وتر قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر1 3- وكانوا لا يتجاوزون الحق والإنصاف إذا دارت دائرة الحرب بينهم وبين أعدائهم؛ فهم يذكرون لهم صدق بلائهم وشجاعة أبطالهم, كما أنهم لا يفتئون يذكون نار الحماسة في قومهم، حتى ينالوا النصر. فكلا الفريقين قد عاد مثخنا بجراحه, مكسرة رماحه، منحنية سيوفه، كما أسفرت المعركة بينهما عن جرحى مصابين وعاجزين عن المسير.

_ 1 الحماسة 1/ 347, قصد بقوله القدر يجري إلى القدر: أنهم مقدرون للقتل وهو مقدر لهم. النكيرة: العيب والمنكر.

ويصور كل ذلك عبد الشارق بن عبد العزى الجهني, فيقول: ألا حييت عنا يا ردينا ... فحييها وإن كرمت علينا1 ردينة لو رأيت غداة جئنا ... على أضماننا وقد احتوينا2 فأرسلنا أبا عمرو ربيئا ... فقال ألا انعموا بالقوم عينا ودسوا فارسا منهم عشاء ... فلم نغدر بفارسهم لدينا فجاءوا عارضا بردا وجئنا ... كمثل السيل نركب وازعينا تنادوا بالبهثة إذا رأونا ... فقلنا أحسني ضربا جهينا سمعنا دعوة عن ظهر غيب ... فجلنا جولة ثم ارعوينا فلما أن توافقنا قليلا ... أنخنا للكلاكل فارتمينا فلما لم ندع قوسا وسهما ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا تلألؤ مزنة برقت لأخرى ... إذا حجلوا بأسياف ردينا شددنا شدة فقتلت منهم ... ثلاثة فتية وقتلت قينا وشدو شدة أخرى فجروا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا وكان أخي جوين ذا حفاظ ... وكان القتل للفتيان زينا فآبوا بالرماح مكسرات ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا وباتوا بالصعيد لهم أحاح ... ولو خفت لنا الكلمى سرينا3

_ 1 القصيدة في الحماسة لأبي تمام رقم 152 "راجع شرح المرزوقي 1/ 442, وعيار الشعر لابن طباطبا 62, 63". 2 الأضم: الغضب. ويروى البيت: وقد "اجتوينا" و"اختوينا" واحتوينا معناه: احتوينا الأموال والغنائم والحريم. ويرى المرزوقي أن اجتوينا "بالجيم" مع ذكر الأضم أشبه "1/ 442". 3 وفي رواية ابن طباطبا: سلينا. ردينا: أسرعنا. قين: اسم فارسهم. وقد شبه لمعان السلاح الكثيف بالمزنة البارقة في قوله: تلألؤ مزنة.

وقد عد ابن طباطبا هذه الأبيات من الأشعار المحكمة المتقنة المستوفاة المعاني، الحسنة الرصف، السلسة الألفاظ التي قد خرجت خروج النثر سهولة وانتظاما، فلا استكراه في قوافيها، ولا تكلف في معانيها1. ومن المنصفات قول العباس بن مرداس السلمي ينصف أعداءه: فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرماح المداعسا إذا الخيل جالت عن صريع نكرها ... عليهم فما يرجعن إلا عوابسا2 4- ومع هذه الروح الحربية, فقد كان في العرب الجاهليين دعاة للسلام, يحتملون المغارم في سبيل إيقاف نار الحرب, كما فعل الحارث بن عوف وهرم بن سنان اللذان توسطا بين عبس وذبيان واحتملا ديات قتلاهما. وقد أشاد بهما زهير بن أبي سلمى في معلقته, إذ يقول: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم فأدركتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا، ودقوا بينهم عطر منشم ثم يمضي زهير في وصف شرور الحرب التي تشتعل, فتحرق وتستشري فتفترس, ولا تنتج إلا غلمان شؤم موتورين حاقدين.

_ 1 عيار الشعر ص48, 49 تحقيق الدكتورين طه الحاجري، ومحمد زغلول سلام. القاهرة 1956م. 2 المذاكي: الخيل التامة السن, والكاملة القوة. المداعس: الطعانة, والدعس: الطعن. ومعنى البيت الثالث: أن تلك الخيول التي يكرون بها على الأعداء ترجع عابسة الوجوه؛ لما تلاقي من شدة الخصوم.

وما الحرب إلا ما علمتم ودقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم وللشاعر الحجازي حلحلة بن قيس الكناني قصيدة رائعة يصور فيها شرور الحرب وآثارها المدمرة حتى على المنتصرين أنفسهم، وقد نهى فيها أبا عمرو عن الحرب ودعاه إلى السلم, ولما لم ينته وأمعن في شره اضطر إلى أن يقابل الشر بالشر والرمي بالرمي, حتى نكبوا جميعا وأصبح الفريقان يندبون قتلاهم في المعركة التي أوقد لظاها ذلك السفيه الجهول: نهيت أبا عمرو عن الحرب لو يرى ... برأي رشيد أو يئول إلى عزم وقلت له: دع عنك بكرا وحربها ... ولا تركبن منها على مركب وخم ومهلا عن الحرب التي لا أديمها ... صحيح ولا تنفك تأتي على سقم فإن يظفر الحزب الذي أنت فيهم ... وآبوا يدهم من سباء ومن غنم فلا بد من قتلى، وعلك فيهم ... وإلا فجرح ليس يكفي عن العظم دعاني يشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له: لا، بل هلم إلى السلم فلما أبى أرسلت فضلة ثوبه ... إليه فلم يرجع بعزم ولا حزم وأمهلته حتى رماني بحرهما ... تغلغل من غي غوي ومن إثم فلما رمانيها رميت سواده ... ولا بد أن ترمي سواد الذي يرمي فبتنا على لحم من القوم غُودرت ... أسنتنا فيه، وباتوا على لحم وأصبح يبكي من بنين وإخوة ... حسان الوجوه طيبي الجسم والنسم ونحن نبكي إخوة وبنيهم ... وليس سواء قتل حق على ظلم1 وفي هذا المعنى, يقول معن بن أوس: دعاني أشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له لا بل هلم إلى السلم وإياك والحرب التي لا أديمها ... صحيح ولا تنفك تأتي على رغم

_ 1 حماسة البحتري 73, 74.

فلما أبى خليت فضل عنانه ... إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم فكان صريع الخيل أول وهلة ... فبعدا له مختار جهل على علم1 وكان من عادة بعضهم بذل الود واللجوء إلى السلم ورعاية صداقات الرجال, حتى إذا لم يجدوا ذلك عمدوا إلى الحزم والعزم, ففلقوا هامات الأعداء وقطعوا منهم الأكف والمعاصم؛ لأنهم لا يبتاعون الحياة بالذلة ولا يفرقون من الموت فيرتقوا سلم النجاة خشية منه، وفي هذا يقول حصين بن الحمام المري من قصيدة: ولما رأينا الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوما ذا كواكب مظلما صبرنا وكان الصبر منا سجية ... بأسيافنا يقطعن كفا ومعصما تفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ولما رأيت الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما فلست بمبتاع الحياة بذلة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما 5- وكانت المرأة الحجازية تشارك مشاركة فعلية في الحرب، وإلى ذلك أشار قيس بن الخطيم بقوله: أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول راجب رأيت لعوف أن تقول نساؤهم ... ويرمين دفعا: ليتنا لم نحارب2 وإذًا, فقد كان النساء الخزرجيات يقذفن الحجارة على رءوس الأوس من الحصون والآطام, وكان ذلك في حرب حاطب. بل لقد كانت المرأة الحجازية تقدم حيث يحجم الرجل، وتشجع حين يجبن، ففي يوم أحد سقط لواء قريش فلم يتقدم لرفعه أحد، وشمرت هند بنت عتبة وصواحبها ليهربن، فتقدمت عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعته، فتراجع

_ 1 جمهرة الأمثال لأبي هلال 93. 2 ديوان قيس بن الخطيم. راجب: ميت. يرمين دفعا: يرميننا من فوق الآطام؛ دفاعا عن أنفسهن.

المشركون واجتمعوا حولها، وأتنفوا القتال1, وفيها يقول حسان بن ثابت: إذا عضل سيقت إلينا كأنهم ... جداية شرك معلمات الحواجب أقمنا لكم طعنا مبيرا منكلا ... وحزناكم بالضرب من كل جانب ولولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب2 وقد شهدت هذه الموقعة نسيبة بنت كعب المازنية أم عمارة هي وزوجها وابناها, فقاتلت يومئذ قتالا شديدا وأبلت بلاء حسنا، حتى قيل: إنها جرحت اثني عشر جرحا بين طعنة رمح وضربة سيف، ولما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله وجعلت تقاتل عنه وتذب بسيفها، وترمي دونه بقوسها حتى كثرت جراحها، وأصابها عمرو بن قميئة بجرح غائر في عاتقها، وأصابته هي إصابات, ولم يقه منها إلا درعان كانتا عليه. ورأى النبي بلاءها, فأعجب بها، وقال: "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ ". وفي حديثها عن هذا اليوم: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني, فقال رسول الله: "هذا ضارب ابنك" فاعترضت له فضربت ساقه فبرك, فرأيت الرسول تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "استقدت يا أم عمارة". ثم أقبلنا على الرجل نعلوه بالسلاح حتى أتينا عليه، فقال النبي: "الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك, وأراك ثأرك بعينك" 3. ولما انهزم المسلمون في يوم أحد وولى بعضهم ولقيتهم أم أيمن ناكصين حثت في وجوههم التراب، وقالت لبعضهم: هاك المغزل اغزل به، وهات سيفك، وقصدت إلى أحد مع بعض النساء4. وقد حاربت نسوة كثيرات بالسيوف والرماح، منهن: الربيع بنت معوذ بن عقبة الأنصارية، وصفية بنت عبد المطلب، وخولة بنت الأزور، وهؤلاء اللائي حاربن

_ 1 سيرة ابن هشام، المرأة في الشعر الجاهلي 347, 348. 2 ديوان حسان 25, 26. الجلائب: العبيد. 3 المرأة في الشعر الجاهلي ص348. 4 المغازي ص273.

في مشرق الإسلام كأخواتهن اللائي حاربن في الجاهلية، دليل على بطولة المرأة العربية وقدرتها على أن تصطلي نار الحرب، وتمارس أحيانا ما يمارس الرجال1. وكانت المرأة الحجازية ما تفتأ تحرّض قومها على القتال, وتبث فيهم روح الشجاعة والإقدام، وتثير حفيظتهم للثأر والانتقام, وكان لسانها ينطلق بذلك شعرا كما تنطلق ألسنة الرجال الشعراء. وهذه الخنساء, ما أكثر ما حرضت على الثأر انتقاما لأخيها صخر. فلنستمع إليها وهي تقول: ولن أسالم قوما كنت حربهم ... حتى تعود بياضا جؤنة القار لا نوم حتى تعود الخيل عابسة ... ينبذن طرحا بمهرات وأمهار أو تحفزوا حفزة والموت مكتنع ... عند البيوت حصينا وابن سيار فتغسلوا عنكم عارا يجللكم ... غسل العوارك حيضا بعد أطهار2 وكان دعاء المرأة للحرب يصادف هوى من نفوس المكافحين الثائرين، فيستجيبون لندائها؛ لأنهم يأملون أن يحققوا أملها في شجاعتهم ونجدتهم، وإذا ما هزم قومها وولوا الأدبار صبت عليهم جام غضبها وقرعتهم أعنف تقريع كما فعلت, إذ تقول: ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد فليت لنا بارتباط ... الخيول ضأنا لها حالب قاعد3 وربما شادت بمن يثأر لها, فيشفي نفسها ويثلج صدرها حين انتقم لها قيس بن عامر الجشمي فقتل هاشم بن حرملة الذي قتل أخاها معاوية, إذ مدحته وفدته بنفسها وقومها، ظاعنهم ومقيمهم، وبكل حميم لديها؛ لأنه أثلج صدرها وأقر عينها، وكانت قبل ذلك لا تنام ولا تنيم:

_ 1 المرأة في الشعر الجاهلي. 2 ديوان الخنساء 112. جؤنة: سواد. تحفزوا: تطعنوا. مكتنع: دان, تريد حصين بن ضمضم ومنصور بن سيار المريين. العوارك: الحوائض. 3 البيان والتبيين 1/ 208.

فدى للفارس الجشمي نفسي ... أفديه بمن لي من حميم أفديه بكل بني سليم ... بظاعنهم وبالإنس المقيم كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم خصصت بها أخا الأمراء قيسا ... فتى في بيت مكرمة كريم1 6- ولقد تحدث "نيكلسون" عن الشنفرى وتأبط شرا بوصفهما طرازين يصوران المثل الأعلى للبطل العربي, فقال ما فحواه: "نستطيع أن نتخذ الشنفرى الأزدي وزميله تأبط شرا نموذجا للبطل العربي المثالي، فكلاهما خليع خارج عن النظام، سريع العدو، وشاعر ممتاز، ولا سيما الأول منهما"2. حقا, إنه يتجلى في هذين البطلين كثير من السمات العربية الأصيلة؛ كالشجاعة والكرم, والشاعرية الجيدة، والاشتراكية، إلا أنهما يعتبران من صعاليك العرب الخارجين على القانون والنظام العام المتعارف عليه لدى القبائل، ومن اللصوص المغيرين -وإن كانا في الواقع أشرف ألف مرة من المستعمرين الغربيين في القرن العشرين- ونحن لا نعترض على "نيكلسون" في اعتبارهما بطلين، وإنما اعتراضنا على ضربهما مثلا أعلى للبطولة العربية؛ لأن في هذا جرحا لهذه البطولة, ومن ذا الذي يقدر هذا المثل، إذا عددنا من مميزاته الأصلية, اللصوصية والنهب والسلب والتشرد في متاهات الصحراء وأقنان الجبال مع الذئاب والنمور والضباع؟! لقد كانت قريش تعف عن السلب والنهب؛ ولهذا اتخذت لها من التجارة رحلة في الشتاء والصيف كوسيلة شريفة للكسب الحلال. فإذا أردنا أن نلتمس المثل الأعلى للبطولة العربية، فإنه يجدر بنا أن نبحث عن شخصية أكثر تكاملا، شخصية تدنو من معنى "الفتوة" عند العرب.

_ 1 ديوان الخنساء 231, وبلاغات النساء 167, والأغاني 13/ 140, ولسان العرب 16/ 78. 2 Aliterary History of the Arabs p. 79.

والبطل العربي المثالي في رأينا هو الذي جمع من الفضائل ما يجعله مرموق المنزلة في قومه ومجتمعه العربي, فهو لين الجانب لقومه, يستشير كبارهم، ويكرم صغارهم, ويسمح بماله, ويحمي حريمه، ويعز جاره, ويعين من استعان به، ويسرع إذا ناداه الصريخ, ويبسط حمايته على الضعيف، ويقف في وجه القوي. وقد جمع شيئا من هذه الخصال ذو الإصبع العدواني في وصيته إلى ابنه "أسيد", إذ يقول: "ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم، وينشأ على مودتك صغارهم، واسمح بمالك واحم حريمك، وأعزز جارك وأعن من استعان بك وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا؛ فبذلك يتم سؤددك". وفي كتب الأدب العربي شخصية رائعة، وهي خليقة بأن تضرب مثلا للفروسية العربية في أروع مظاهرها. وتلك هي شخصية "ربيعة بن مكدم الكناني" أحاط بها شيء يشبه الأساطير؛ فقد ذكروا عنه أنه حمى الظعينة وهو ميت، وضرب به المثل فقيل: "أحمى من مجير الظعن" حتى قال أبو عمرو بن العلاء: ما نعلم قتيلا حمى ظعائن غير ربيعة بن مكدم، وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، وكان الرجل منهم يعدل عشرة من غيرهم1. وربيعة هو الذي كاد يقتل الفارس الشهير عمرو بن معديكرب, وقد أكبر عمرو شجاعته وأشاد بها. وهو كذلك الذي صرع ثلاثة من خيرة الفرسان واحدا بعد الآخر. وذلك أن دريد بن الصمة الفارس المشهور خرج ذات يوم في فوارس من بني جشم, حتى إذا كان بوادٍ لبني كنانة وقع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة، فقال لأحد فرسانه: صح به: أن خل الظعينة وانج بنفسك، وهو لا يعرفه, ولما صاح به

_ 1 نهاية الأرب 15/ 372.

الفارس لم يكترث به ربيعة, بل ألقى زمام الراحلة للظعينة وقال: سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن إن انثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي وأخبرني وعابني ثم حمل على الفارس فصرعه. فبعث إليه دريد فارسا ثانيا وثالثا، وكان مصيرهما مصير أولهم، وفي كل مرة يتمثل بأبيات من الشعر. إلا أن رمحه انكسر حينما طعن الفارس الثالث فصرعه، وارتاب دريد ولحق بهم فوجد ربيعة لا رمح له، ووجد القوم قد صرعوا، فقدر دريد شجاعته وقال: إن مثلك لا يقتل وإن الخيل ثائرة بأصحابها, ولا أرى معك رمحا وأراك حديث السن, فدونك هذا الرمح, فإني راجع إلى أصحابي فمشط عنك, فأتى دريد أصحابه فقال: "إن فارس الظعينة قد حماها وقتل فوارسكم, وانتزع رمحي ولا طمع لكم فيه"، فانصرف القوم. وفي تصوير قتله أولئك الفرسان, ينسب الرواة إليه أنه قال: إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... على الظعينة يوم وادي الأخرم إذ هي لأول من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدم إذ قال من أدنى الفوارس ميتة: ... خل الظعينة طائعا لا تندم فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم وهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم1 ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار الغداة تكرمي

_ 1 نهاية الأرب 15/ 370-372.

الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

الفصل الثالث: الشعر اجتماعي ... الفصل الثالث: الشعر الاجتماعي أما الشعر الاجتماعي، فباب واسع يمكن أن يندرج تحته كثير من الموضوعات. وسنتناول هنا بالدرس بعض ما لم نتحدث عنه في فصول خاصة، ويمكن تقسيم البحث إلى ثلاث نقاط جوهرية: أ- شئون الأسرة. ب- الحياة الخلقية. جـ- العادات الاجتماعية. وقد أدمجنا الأخلاق في هذا الفصل؛ لما بينها وبين الحياة الاجتماعية من تفاعل وتجاوب، فكلاهما مؤثر بالآخر. أ- علاقات الأسرة في شعر الحجاز الجاهلي: 1- المرأة: من الطبيعي أن يكون شأن المرأة عند الشاعر الحجازي عظيما كما هو كذلك عند شعراء العرب عامة؛ فالشاعر حتى في وحدته وعزلته يرى طيف المرأة ويخاطبه، وهو يهتم بها لأنه يحبها, ولأنها تشاركه حياته وتقاسمه مسئولياته؛ فهي التي تعد الطعام للضيوف، وهي التي تبارك طموحه وتشجعه، وتسأل عن أخباره، وتشير عليه بما ينبغي أن ينهجه حتى في أهم مشاكله، مثل المعارك الحربية.

لهذا, فليس من الغريب أن يكون للمرأة جزء كبير من نتاج الشاعر؛ فقد تسلطت على مقدمة القصيدة واستحوذت عليها في كل الأغراض تقريبا. فالشاعر يتوجع من رحيلها ومن هجرها, وغير ذلك مما صار تقليدا سلكه حتى الشعراء المتأخرون. فالشاعر الحجازي لا يكفيه أن يعلم الناس أنه شجاع وأنه كريم ومرح، ولكنه يريد أن ينتزع الاعتراف بذلك من زوجته؛ لأنها هي المرجع والحَكَم في كل ذلك. ومهما استفاضت شجاعته، وطابت سمعته عند مجتمعه، فإن الكلمة الأخيرة في ذلك تبقى لزوجته التي يغار عليها أن تفضل عليه أحدا. والحجازي يفخر بأنه شجاع وبأن زوجته تعلم أنه شجاع في حالتي الكر والفر ويتجثّم المتاعب في سبيل أمانيه، وأنه كريم للضيوف، ويضحي بناقته في سبيل إكرام ندمائه، ويضحي بردائه ليعلن عن سروره. ومن بواعث الشجاعة عند العرب في قتالهم أن يحموا نساءهم من السبي والعار، فلو هربوا عنهن لكان معنى ذلك أن يستبيحهن الأعداء؛ والشاعر والمرأة كلاهما ينفر من ذلك, وهي تحرضه ليستميت دفاعا عنها، مما يدل على خطرها ورفيع منزلتها عند مجتمعها. وإذا وصلت المرأة إلى درجة أن تحمي قومها، وتحول سير المعركة إلى صالحهم, فينتصرون بعد أن كادوا يهزمون، فقد ساوت الرجال ذوي المكانة السامية في المجتمع الحجازي. فإن صاحب اللواء في الحرب ذو رتبة علية، قد ارتقت إليها ببسالة وإعجاب عمرة بنت علقمة الحارثية, لما أنقذت لواء قريش في غزوة أحد, وحولت النصر إلى جانبهم بعد أن سقط لواؤهم، وفي ذلك يقول حسان: فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب1 والنساء مشاركات حتى في الحروب؛ فهن يسرن مع الجيش يعالجن الجرحى ويحملن الماء، ويحرضن المقاتلين. وفي حروب الرسول نرى منهن أم عمارة بنت كعب, وأم حكيم بنت الحارث2.

_ 1 سيرة ابن هشام 3/ 26. 2 زاد المعاد 3/ 131.

وهذه هند بنت عتبة، تكاد تتزعم جيش قريش يوم أحد، فهي تحرض قومها وتتمثل: نحن بنات طارق ... تمشي على النمارق الدر في المخانق ... والمسك في المفارق إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق فراق غير وامق1 وللمرأة تأثير كبير؛ فهي تستشار قبل البتّ في أمر زواجها. وطبيعي أنه ليس كل الحجازيين يعمل هذا، ولكن هناك طبقات تسير على هذا النهج، ولا سيما إذا أثبتت المرأة كفاءة تمكنها من الاختيار الصائب, كما رأينا في اختيار هند بنت عتبة لأبي سفيان2, وكذلك اختارت الخنساء زوجها ورفضت أمية بن أبي الصلت3. ومن كل ما تقدم نستبين مكانة المرأة في الحجاز, وأنها مكانة سامية تعارف عليها الناس, ولم ينكروا على المرأة أن تبلغ هذه المنزلة الرفيعة، واعترف بها الشعر فأصبحت حقيقة ملموسة، تدعو إلى الإعجاب الشديد إذا قارنا حالة المرأة في هذا المجتمع بحالتها عند الأمم السابقة التي كانت ترى في المرأة مجرد متاع يباع ويشترى ويورث. وسنتحدث بتفصيل ما عن المرأة الحجازية بوصفها أما وبنتا وزوجة، ومدى تأثيرها في الشعر الحجازي الجاهلي.

_ 1 الأغاني 11/ 121 ساسي. 2 الأمالي 2/ 140. 3 ديوان الخنساء, المقدمة.

2- الأم: أما الأم فهي ينبوع الحنان الذي لا ينضب, وهي المصدر الذي يغذي الكون بالأفراد, فتتكون الأسر وتنشأ المجتمعات. وقد أغرم الحجازيون بأن يباهوا بنسبهم ويفخروا بآبائهم وأمهاتهم, ولا سيما إذا كانت الأم حرة, فحينئذ يستكمل الحجازي الشرف من جهتيه. قال الشنفرى: أنا ابن خيار الحجر بيتا ومنصبا ... وأمي ابنة الأحرار لو تعرفينها1 والحرة هي وحدها التي يدفع لها المهر بالزواج, ومن هنا جاء الفخر بالمهيرات أي: ذوات المهر. فهذه الخنساء ترثي صخرا أخاها, فتذكر إلى شرف أبيه وأجداده أن أمه وجداته مهائر ذوات شيم ماجدة: يابن القروم ذوي الحجا ... وابن الخضارمة المرافد وابن المهائر للمهائر ... زانها الشيم المواجد2 وذو الإصبع العدواني يفتخر, ويعير ابن عمه بأن أمه أمة ترعى الإبل: عني إليك فما أمي براعية ... ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون ولما كانت الكثرة عند الحجازيين هي التي ترجح الكفة عند النزال، فمن الطبيعي أن يفتخروا بالأمهات المنجبات, ونعرف من الحجازيات المنجبات عاتكة بنت هلال بن مرة, وقد ولدت هاشما وعبد شمس والمطلب أبناء عبد مناف, وفيها يضرب المثل فيقال: أنجب من عاتكة3. ولا ينسى الحجازي الفخر بأمه حتى في المعركة، فهذا سلمة بن دريد بن الصمة يفخر بأمه سمادير حين قتل أبا عامر الأشعري: إن تسألوا عني فإني سلمه ... ابن سمادير لمن توسمه أضرب بالسيف رءوس المسلمه

_ 1 الأغاني 21/ 88. 2 ديوان الخنساء 62. 3 مجمع الأمثال 2/ 276.

ومن مظاهر فخرهم بالأم وإجلالهم لها أن يفدوا بها، وهم لا يفدون إلا بما يحبونه أعظم الحب، فهذا العباس بن مرداس يمدح حليا النصري الذي أخذ الثأر لأخيه: فدى لك أمي إذ ظفرت بقتله ... وأقسم أبغي عنك أما ولا أبا1 وهذا حسان بن ثابت يفدي بأمه وخالته أولئك الذين انتقموا من أعدائه: فدى لبني النجار أمي وخالتي ... غداة لقوهم بالمثقفة السمر2 والأم أعظم رباط بين الإخوة, ولا سيما في وقت الشدائد كما ترى عند الشنفرى: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل ولذلك فهم ينكرون أشد الإنكار هرب الأخ من أخيه في المعركة. قال حسان معيرا الحارث بن هشام فراره عن أخيه الحكم, وتركه في أرض المعركة يوم بدر: هلا عطفت على ابن أمك إذ ثوى ... قعص الأسنة3 ضائع الأسلاب ويتضح ذلك أكثر من تلك المراثي الحارة, والدموع السخينة التي يذرفها الحجازي على أخيه الشقيق أو أخيه لأمه؛ لأن رابطة الأمومة هي التي توحد بينهما ولا تجعل النسيان يتطرق إلى قلب الحي منهما. فهذا أبو العيال الهذلي يرثي أخاه لأمه عبد بن زهرة, فيذكر شجاعته وصبره في الحرب ويذكر حاله هو إذا عاودته ذكرى أخيه, فدمعه ينسكب والليل يأتيه بهمّ جديد: ألا لله درك من ... فتى قوم إذا رهبوا وقالوا: من فتى للحر ... ب يرقبنا ويرتقب فكنت فتاهم فيها ... إذا يرعى لها يثب ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب

_ 1 الأغاني 13/ 66. 2 معجم البلدان 4/ 96. 3 سيرة ابن هشام 62/ 386, قعص الأسنة: القتل بها في سرعة.

فدمع العين من برحا ... ء ما في الصدر ينسكب كما أودى بماء الشنـ ... ـة المخروزة السرب على عبد بن زهرة طو ... ل هذا الليل أكتئب1 وكان إعزازهم للأم يتبعه فخرهم بالخال واعتزازهم به، والأخوال يشعرون بميل نحو ابن أختهم وينصرونه إن ظلم، فعبد المطلب شكا عمه نوفلا إلى رجال قريش فلم يعينوه، فبعث إلى أخواله بني النجار في المدينة يخبرهم أنه ابنهم, وأنه منهم, وأن عمه نوفلا أراد إذلاله: أني منهم وابنهم والخميس ... وأني منهم وابنهم والخميس وأن عمي نوفلا قد أبى ... إلا للتي يغضي عليها الخسيس2 فأنقذه أخواله, وهددوا عمه حتى أرجع ما اغتصبه, فقال عبد المطلب: بهم رد الإله على رُكحي ... وكانوا في التنسب دون قومي وفي ذلك يقول سمرة بن عمير الكناني, مثنيا على بني النجار إغاثة ابن أختهم: لعمري لأخوال لشيبة قصرة ... من أعمامه أبر وأوصل جزى الله خيرا عصبة خزرجية ... تواصوا على بر وذو البر أفضل أجابوا على بعد دعاء ابن أختهم ... ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل ومنزلة الخال عند الحجازيين رفيعة، ومكانته سامية؛ ولهذا فلا يجرؤ أحد على تحقير خال فرد إلا تعرض لعداوته وحربه. وقد تتعرض السعادة الزوجية للتقويض بسبب الخال, فحسان بن ثابت يحب زوجته وهي تحبه, ولكن لسانها زلق مرة فحقرت أخواله، فكان جزاؤها الطلاق: سألت حسان من أخواله ... إنما يسأل بالشيء الغمر3

_ 1 شرح أشعار الهذليين 137. 2 تاريخ الطبري 2/ 178. 3 ديوان حسان 52, الغمر: قليل التجربة.

3- البنت: ليس كل الحجازيين يبغضون البنات, والحجازي يحب البنت لأنها صديقة وفية لا تنسى أباها في حالتي الرخاء والشدة، وهي تؤدي حقه بالنوح والبكاء بعد موته, كما يقول معن بن أوس: رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح1 وهذا الزبير بن عبد المطلب يبتهج لمرأى بنته أم الحكم, ويغيظ زوجها: يا حبذا أم الحكم ... كأنها ريم أجم يا بعلها ماذا يشم ... ساهم فيها فسهم2 وكثيرا ما تكون البنت ميمونة النقيبة، وسببا من أسباب المفاخر؛ فهذا النعمان بن وائل الكلبي -قائد الحارث بن أبي شمر الغساني- يغير على بني ذبيان ويسبي منهم، وحين وجد من بينهم ابنة النابغة أطلقها وحدها أولا ثم أطلق الجميع؛ رجاء مدح من أبيها وهكذا فعل النابغة، فقد قال يمدح النعمان، ويذكر الجميل الذي أسداه إلى بني ذبيان: يقودهم النعمان منه بمحصف ... وكيد يغم الخارجي مناجد فآب بأبكار وعون عقائل ... أوانس يحميها امرؤ غير زائد غرائر لم يلقين بأساء قبلها ... لدى ابن الجلاح ما يثقن بوافد أصاب بني غيظ فأضحوا عباده ... وجللها نعمى على غير واحد فسكنت نفسي بعدما طار روحها ... وألبستني نعمى ولست بشاهد3

_ 1 الأغاني 10/ 157. 2 الأغاني 2/ 117. 3 شعراء النصرانية 668.

وابنتا ربع الهذلي تعولان على أبيهما لا ترقدان الليل, كأن في أحشاء الواحدة منهن مزمارا ينبعث منه الأنين, وهما تلطمان بالنعال, كما يقول أخوهما عبد مناف: ماذا يفيد ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبا ... من بطن حلية لا رطبا ولا نقدا إذا تأوب نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا1 ومن التصوير الخالد تلك الدموع التي صاغتها قتيلة بنت النضر بن الحارث في رثاء أخيها, ومعاتبة الرسول على قتله له: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من بطن خامسة وأنت موفق إلى آخر الأبيات التي ذكرناها في النماذج الشعرية. 4- الزوجة: كانت المرأة الزوجة ذات تأثير فعال لا على شخص زوجها فقط، ولا على أسرتها وأسرته، وإنما على العلاقات بين قبيلتيهما إذا كانتا متباعدتين، فإن الإصهار يربط بينهما برباط وثيق، ويضيق سبل العداوة، ولا سيما إذا كان الزوج زعيما وأسرة زوجته مرموقة المكانة. وكانوا يختارون للزواج المرأة الحسيبة العاقلة, ويفضلون الشابة البكر على الثيب، فهذا حكيمهم الحارث بن كلدة الثقفي يقول: لا تتزوجوا من النساء إلا الشباب2. وتهمهم طبعا الزوجة الولود؛ لأن همهم كان الكثرة ليغلبوا أعداءهم. ولا يقربون المرأة الحمقى وحديثة النعمة، ويكرهون أن تكون الزوجة عبوسا صخابة، قال عبد الله بن أوفى الخزاعي في زوجته:

_ 1 سمط اللآلئ 1/ 221. 2 مطالع البدور 2/ 27.

نكحت ابنة المنتضي نكحة ... على الكره ضرت ولم تنفع ولم تغن من فاقة معدما ... ولم تجد خيرا ولم تجمع منجذة مثل كلب الهراش إذا ... هجع الناس لم تهجع1 مفرقة بين جيرانها ... وما تستطع بينهم تقطع فهو يندب حظه ويبكي آماله التي كان يعلقها على هذا الزواج فخابت، فزوجته لم تغنه من الفاقة ولم تجلب له الخير، بل على العكس من ذلك وجدها سليطة اللسان بذيئة, تضمر السوء لجيرانها. وكما كان للرجل أن يتطلب الخصال الحميدة من زوجته، كان للزوجة نفس الحق أيضا فهي تريده شابا؛ ولهذا نرى الخنساء تعتب على أبيها أن يطلب الزواج من دريد بن الصمة الهرم, وقالت لأخيها معاوية شقيقها وكان يميل إلى هذا الزواج غير المتكافئ: أتكرهني -هبلت- على دريد ... وقد أصفحت سيد آل بدر معاذ الله يرضعني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر2 وهكذا تراها ترفض الزواج من دريد لهرمه, ولأن جشم بن بكر -قبيلته- لا تتناسب مع قبيلتها هي. وربما أرادت المرأة فوق الشباب أن يكون زوجها غنيا, ينفق ماله على لذاته وكرمه والعطر الطيب. قالت بنت ذي الإصبع العدواني: ألا ليت قومي من أناس ذوي غنى ... حديث الشباب طيب الريح والعطر3 والخنساء حين ترثي أخاها صخرا, تذكر فيه صفات الزوج المثالي في نظر المرأة آنذاك, فهو جميل المحيا شجاع صبور:

_ 1 شرح الحماسة للتبريزي 4/ 42، منجذة: مجرب ما عندها. الهراش: تحريش كلب بكلب. 2 ديوان الخنساء ص120. 3 الأغاني 3/ 49 الدار.

جلد جميل المحيا كامل ورع ... وللحروب غداة الروع مسعار مثل الرديني لم تنفد شبيبته ... كأنه تحت طي البرد أسوار1 عبل الذراعين قد تخشى بديهته ... له سلاحان أنياب وأظفار والمرأة تسأل الرجل عن أصله وأجداده, وهذا أمية بن الصلت يسارع بالإجابة: فأما تسألي عني لبيني ... وعن نسبي أخبرك اليقينا ثقي أنى النبيه أبا وأما ... وأجدادا سموا في الأقدمينا2 والمرأة كما قلنا هي التي تختار، فحينما خطب سهيل بن عمرو, وأبو سفيان هند بنت عتبة استشارها أبوها, فسألته أن يصف لها أخلاق كل منهما، وبعد ذلك اختارت أبا سفيان فغضب سهيل, وقال: نبئت هندا تبر الله سعيها ... ثابت وقالت وصف أهوج مائق فلم تنكحي يا هند مثلي وإنني ... لمن لم يمق فاعلمي غير وامق3 وكان مقدار مهر المرأة يرتفع تبعا لمكانتها, وكانوا يميلون إلى التغالي في المهور، فهذا عبد المطلب يمهر فاطمة بنت عمرو مائة ناقة ومائة ومائة رطل من الذهب4, وهم يرون في ضخامة المهر دليلا على قوتهم وتمكنهم من السيادة، فهذا الأبيرد بن هرثمة العذري يقول: إنه كريم وسمح؛ والدليل على ذلك أنه يفني الأعداد الكثيرة من إبله إذ يقدمها مهورا لزوجاته: إني لسمح إذا فرج بينها ... بأكثبة البقار يا أم هاشم فأفنى صداق المحصنات إفالها ... فلم يبق إلا جلة كالبراعم5 وخالد بن جعفر يرى أنه أحسن صنعا بقتل زهير بن جذيمة, ورفع بذلك مهر بنات هوازن: وجعلت مهر بناتهم ودماءهم ... عقل الملوك هجائنا أبكارا6

_ 1 ديوان الخنساء ص80. 2 جمهرة أشعار العرب ص187. 3 العقد الفريد 3/ 212. 4 إنسان العيون 1/ 50. 5 معجم الشعراء ص25. 6 الأغاني 10/ 14.

5- الحب والزواج: ولقد احتلت الزوجة الحجازية من قلب خطيبها أو زوجها مكانا ممتازا؛ فقد يسبق الزواج بالحب وقد يأتي الحب بعد الزواج ويكون حارا فعالا, كما نرى عند زهير: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم1 والزوجة تجد من زوجها صدرا رحيما؛ يحسن عشرتها ويكلف بها ولا يقحمها في مشكلاته العويصة لئلا يفجعها, كما قال ذو الإصبع العدواني: ثم سلا جلدتي وكنتها ... هل كنت فمن أراب أو فزعا أو دعتاني فلم أجب ولقد ... تأمن مني خليلتي الفجعا2 ولكن الزوجة قد تقحم نفسها في تلك المشكلات؛ فهذه زوجة حماس بن قيس يوم فتح مكة تسأله: لماذا يسن حربته, ولما أخبرها بأنه يعدها لجيش محمد قالت: إنه لا شيء يصد محمدا وجيشه، وفعلا حدث ذلك بعد قليل إذ رجع إليها وقال: "أغلقي علي الباب". ولما أنّبته على فراره اعتذر بفرار السادة من قريش, وصور لنا فزعهم من سيوف المسلمين: إنك لو شهدت الخيل يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤمنة ... ولحقتنا بالسيوف المسلمة يفلقن كل ساعد وجمجمة ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وغمغمة ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمة3 ومع هذا, فالرجل يعلم في سريرته أنه هو السيد المطاع من زوجته ويريد من زوجته أن تنفذ رغباته, فالشنفرى يقول: إن زوجته إذا خالفته تكون هي البعل, إن لم ينكر عليها عملها: إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلقيني فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك لا أبالي فاضربيني4

_ 1 شرح القصائد العشر ص103. 2 الأغاني 3/ 93. 3 السيرة 4/ 26. 4 محاضرات الأدباء 3/ 127.

ودريد بن الصمة ينكر على زوجته أن تشتم أخاه, ويرى في هذا تطاولا لا يسوغ منها: أعبد الله لو شتمتك عرسي ... تساقط لحم بعضي فوق بعضي معاذ الله أن يشتمن عرضي ... وأن يملكن إمراري ونقضي إذا عرس الفتى شتمت أخاه ... فليس بحامض الرئتين محضي ومن صور الحب المتبادل بين الزوجين حرص الزوجة على حياة زوجها, وتخوفها عليه ونصحها له بأن يرتاد طرق السلامة لئلا يقتل. ولكنه غالبا ما يعصيها ويرجع سالما, فيذكرها نصيحتها ويطلب منها أن تكف عن مثل ذلك: قال عمرو بن براقة الهمداني: تقول سليمى: لا تعرض لتلفة ... وليلك عن ليل الصعاليك نائم وفي هذا المجتمع المضطرب يقتل الزوج وتحل النكبة بزوجته أو حبيبته, والمرأة الحجازية تعبر عن جزعها لموت زوجها بخمش وجهها وجذ شعرها, وقد يصفقن وجوههن وشعورهن بالنعال كما فعلن ذلك على قتلى بدر؛ إذ كانت المصيبة كبيرة. يقول عبد مناف بن ربع الهذلي: يريع قلب ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا إلى آخر الأبيات السالفة، ولكن الخنساء تتصبّر ولا تحلق رأسها فضلا عن ضربه بالنعال رغم حزنها الشديد: ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين والرأس الحليق1 وترثي الزوجة زوجها كما نرى عند فاطمة بنت الأحجم الخزاعية؛ فهي تبكي وتستبكي لأن زوجها كان يحميها فذهب، وكان جناحا يظلها فانكسر، وأصبحت بعده خاضعة حسيرة الطرف, لا تجسر على دفع ظلامها: يا عين بكي عند كل صباح ... جودي بأربعة على الجراح قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي

_ 1 لسان العرب 11/ 345.

فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي وإذا دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فتن دعوت: صباحي1 وإذا كنا قد رأينا فيما تقدم الحب المتبادل بين الزوجين وأثره في الحياة وبعد الموت، فإن هناك من الأزواج من كره الحياة مع زوجته، ورأى أنها ورطة وقع فيها، وينبغي أن يخرج منها بأقصى سرعة. وقد تنفر الزوجة من زوجها وهو لها وامق، فيمنيها ويعدها ويتوسل إليها كما نرى سعيد بن عمرو بن نفيل يتوسل إلى زوجته: تلك عرساي تنطقان على عمد ... لي اليوم قول زوز وهتر سألتاني الطلاق إن رأتا ... مالي قليلا قد جئتماني بنكر فلعلي أن يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري وترى أعبدا لنا وإماء ... ومناصيف من خوادم عشر وتجرا الأذيال في نعمة زو ... ل تقولان ضع عصاك لدهر2 والرجل يؤدب زوجته بالضرة مما يثير غيرتها وخوفها وحرصها على إرضاء زوجها؛ فهذا شاعر يخشى أن يموت من غير أن ينغص على زوجته بضرة تؤذيها وتشاكسها: لقد خشيت أن يقوم قابري ... ولم تمارسك من الضرائر ذات شذاة جمة الصراصر ... حتى إذا جرس كل طائر قامت تغطي بك سمع الحاضر ... تصر إصرار العقاب الكاسر وفي الحجاز نرى كثيرا من هذا, حتى في زوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام- مما يدل على أن الغيرة شيء كامن في نفوس النساء عامة.

_ 1 الأمالي 2/ 1. 2 البيان والتبيين 1/ 199.

الطلاق: وقد عرف الحجازيون -كما عرف العرب- الطلاق الذي يقوض بنيان الزوجية، وقد يحدث لعدة أسباب؛ فمنها: الفقر حيث تسأل الزوجة زوجها أن يطلقها, كما رأينا عند سعيد بن عمرو بن نفيل حيث قال: سألتاني الطلاق إن رأتا ... مالي قليلا قد جئتماني بنكر وقد يطلق الزوج زوجته لنوازع قبلية, حيث تحتقر الزوجة قبيلة زوجها أو أسرته كما نرى عند حسان بن ثابت, إذ طلق زوجته عمرة بنت الصامت الأوسية؛ إذ عيرته بأخواله1. وكذلك رأينا ما كان من طلاق دريد بن الصمة زوجته حينما حقرت أخاه عبد الله. وقد يطلقها؛ لأنها رغبت عنه بعد أن أدركه الكبر, إلى غير ذلك. وكان أهل مكة يطلقون مرة واحدة ثم يرجعون ويطلقون الثانية فيرجعون, أما الثالثة فلا رجعة فيها2. ويجمعون الثلاث دفعة واحدة أحيانا، فهذا شاعر يهدد زوجته بأن تحسن عشرته وإلا طلقها ثلاثا لا رجعة بعدها: فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم فأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها إن كنت غير رفيقة ... وما لأمري بعد الثلاث مقدم وقد يكون الطلاق خلعا بأن تفتدي الزوجة نفسها من زوجها, فتدفع كل ما تسلمته من مهر كما فعل عامر بن الظرب مع ابن أخيه زوج بنته, فقد رد عليه صداقها وخلعها منه3. وقد تميزت المرأة العربية بأن لها الحق بأن تكون العصمة بيدها فتطلق الرجل, وبأن لها أن تطالب الرجل بالطلاق سواء أكان على بدل أم لم يكن. وهذا حق لم تظفر به امرأة من الأمم التي عاصرت العرب, فكان النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في

_ 1 الأغاني 3/ 14 الدار. 2 معجم البلدان 8/ 138. 3 فتح الباري 9/ 346.

الجاهلية وكان طلاقهن أنهن إن كنّ في بيت شعر حولن الخباء؛ فإن كان بابه قبل المشرق حولته قبل المغرب, وإن كان بابه قبل اليمن حولته قبل الشام, فإذا رأى الرجل ذلك علم أنها طلقته فلم يأتها. ولعل السبب في هذا المظهر أن الخباء كان عند الساميين ملكا للمرأة وهو عند أهل المدر كالبيت عند أهل الحضر, فإذا جاء الرجل ووجد المرأة قد حولت باب خبائها علم أنها قد أعرضت عنه وطلقته. أما الحضريات فكان لهن طريقة أخرى في الإعلام بالتطليق؛ وذلك أنهن لا يعالجن للرجل طعامه إذا أصبح كما نقل ذلك بعض الباحثين1، وهو يذكر من هؤلاء النسوة سلمى بنت عمرو بن زيد أم عبد المطلب، كانت لا تتزوج إلا وأمرها بيدها فإذا كرهت من زوجها شيئا تركته، وأم خارجة عمرة بنت سعد البجلية وعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح السلمية. ويستشهد بقول الشنفرى: إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلقيني وكما رأينا زوجتي عمرو بن سعيد بن نفيل تطلبانه الطلاق, وزوجة عبد الله بن جدعان ضباعة بنت عامر بن قرظ تسأله الطلاق لكبر سنه، ولأن هشام بن المغيرة المخزومي أغراها بشبابه وماله. فإذا حدث الطلاق فقد تهيج بالزوجين الذكرى ويندمان أو أحدهما على التسرع. طلق زهير بن أبي سلمى زوجته أم أوفى بسبب الغيرة، وتأسّف بعد ذلك، فهو يذكر عهدها ويدعي أنها نسيت عهده، وهو يطلب إليها أن تحسن القول فيه وألا تتقول عليه ما لم يحدث، وهو يذكرها بما كان بينهما وما نالت منه: لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي لقد باليت مظعن أم أوفى ... ولكن أم أوفى لا تبالي فأما إذا ظعنت فلا تقولي ... لذي صهر أذلت ولم تذالي أصبت بني منك ونلت متى ... من اللذات والخلل الغوالي2

_ 1 المرأة في الشعر الجاهلي, للدكتور الحوفي ص213. 2 ديوان زهير 342.

وقد يكون الطلاق بالإكراه كما نرى عند عبد الله بن العجلان؛ فإن والده أرغمه على طلاق هند زوجته، فقال: فارقت هندا طائعا ... فندمت عند فراقها فالعين تذري دمعها ... كالدر من آماقها متحلبا فوق الرداء ... يجول من رقراقها وقال: فما معول تبكي لعقد أليفها ... إذا ذكرته لا يكف زفيرها بأغزر مني عبرة إذ رأيتها ... يحث بها قبل الصباح بعيرها1 وما زال هذا الشاعر البائس يندفع في تيار الحزن والأسى, حتى قضى نحبه شوقا إلى زوجته التي فارقها كرها. 6- الحياة الخلقية: لا جرم أن بين الأخلاق والمجتمع علاقة وثيقة، فكل منهما مرآة تنعكس عليه صورة الآخر. فبين الأخلاق والمجتمع إذًا تجاوب وتفاعل وكلاهما مؤثر ومتأثر في وقت واحد، والأخلاق لا يمكن أن تنشأ وتتكون وتنمو وتتطور إلا في مجتمع، والمجتمع بدوره رهين في سيره وتقدمه، واتجاهه وتحوله بأخلاق الأفراد التي تكيفه بكيفية خاصة، وتوجهه وجهة معينة. وربما كانت العلاقة بينهما في بعض الأحيان التنافس الذي لا معدى عنه، والصراع الذي يدفع الحياة دفعا قويا. ولهذا الارتباط الوثيق بينهما آثرنا ألا نتحدث عن الشعر الذي يمثل الحياة الخلقية في فصل مستقل, بل أدمجناه في فصل الشعر الاجتماعي. وبذلك تبرز حياتهم الاجتماعية واضحة المعالم, بارزة السمات.

_ 1 الأغاني 19/ 104.

وقد سجل الشعر الحجازي حياة الحجازيين الخلقية تسجيلا رائعا؛ رسم شجاعتهم وبأسهم، وصور عفتهم وطهرهم وكرمهم ووفاءهم, وغير ذلك من خلالهم الحميدة، وقد تحدثنا عن شجاعتهم وأثرها في شعرهم في فصل "الشعر الحماسي" كما ضربنا مثلا لعفة نسائهم في قصة الفيطون، وممن سجل افتخاره بعفة قومه وطهرهم عمرو بن الأطنابة الشاعر الخزرجي, وذلك إذ يقول: المانعين من الخنا جاراتهم ... والحاشدين على طعام النازل كما أن النابغة الذبياني وصف ممدوحيه بطيب الحجزات وهي ما تشد على الوسط، يكني بذلك عن عفتهم ونقاء سريرتهم, وذلك حين يقول: رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب وسنتحدث فيما يلي عن ثلاث من أبرز خلالهم, وأعظمها أثرا في حياتهم ومجتمعهم, وهي: الكرم، والوفاء، والحلم. الكرم: كان الثراء عند الحجازيين -شأنهم شأن العرب جميعا- وسيلة لا غاية، والمال -في نظرهم- غادٍ ورائح، ولكن طيب الذكر وحسن الأحدوثة هو الباقي على الدهر. وكان من بواعث الكرم لدى أجوادهم وأغنيائهم إقبالهم على الميسر زمن الجدب والقحط لينحروا الجزر للمحتاجين والجائعين. وأحاديث كرمهم وقراهم للضيوف معروفة مشهورة، فكرم عبد المطلب الذي كان يقري الإنس والجن والوحش والطير من الصفحات الخالدة. وكذلك الشأن في سماحة أزواد الركب ومطاعيم الريح، وعبد الله بن جدعان الذي كان له منادٍ ينادي بمكة وآخر من فوق دارته المسماح, يدعوان الناس ليقبلوا على تناول الفالوذج وغيره من جفانه الواسعة التي كان يأكل منها القائم والراكب لعظمها, وقد أشاد أمية بن أبي الصلت بكرمه فيما أسلفنا له من شعر. وإذا ضنّت السماء بالغيث، وشحّت النفوس بما عندها، فإن الحجازي ينحر جزره ويطعمها لجميع الناس. تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر الذي تسميه بصخر الندى:

وإن صخرا لكافينا وسيدنا ... وإن صخرا إذا نشتو النحار كذلك كان هاشم بن عبد مناف يهشم الخبز لقومه في السنين الجدباء، وفيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ولما رثى معية بن الحمام أخاه الحصين أشاد بسماحته وكرمه؛ وذلك إذ يقول: نعيت حيا الأضياف في كل شتوة ... ومدره حرب إذ تخاف الزلازل ومن لا ينادي بالهضيمة جاره ... إذا أسلم الجار الألف المواكل1 ورثى أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا أمية بن المغيرة أحد أزواد الركب؛ فوصفه بأن داره كانت تجتمع في ساحتها السمان من النوق والبقر, وأنها إذا أكلها الضيوف والمعتفون حل محلها غيرها، ثم يخاطبه مادحا بقوله: ضرب بنصل السيف سوق سمانها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر وإلا يكن لحم غريض فإنه ... تكب على أفواههن الغرائر2 أما افتخارهم بالكرم فكثير، وحسبنا أن نشير إلى قول الشمخي الفزاري: ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل وأني لا أخزي إذا قيل: مقتر ... جواد وأخزي أن يقال بخيل وقول عمرو بن الأطنابة الخزرجي في الفخر بقومه الذين يخلطون الفقراء بالأغنياء، ويبذلون العطاء لكل سائل: الخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل

_ 1 الأمالي 1-62. الألف: العاجز العيي بالأمور. 2 كان من عادتهم إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فجرت ثم نحروها. والمعنى أنه كان ينحر النوق وقت العدم والمحل. وإذا لم يكن هناك غريض -أي طري- من اللحم، أمر بعدول أو أكياس الدقيق والحنطة وغيرها أن تكب على أفواهها؛ ليصنع منها الطعام الوفير. راجع بلوغ الأرب 1/ 93.

الوفاء: وخلة الوفاء من السجايا العربية الأصيلة في العربي عامة, والحجازي خاصة. وقد كان الرجل ينطق الكلمة, فإذا هي عهد مبرم يجب أن يفي به, وإلا تعرض شرفه للتجريح والثلم. وقد كان الحجازيون يوثقون عهودهم الجماعية بالله وبالدم، وبالماء والطيب، وكانوا يتمسحون بالكعبة لتثبيتها وتوكيدها, وكان الغدر بالعهد والميثاق مخزاة تثلم الشرف، ومعرة يجب اجتنابها. وكانت العرب ترفع لواء في سوق عكاظ تشهيرا بالغادر الناكث للعهد. ولما أحست قريش بخطر حرب الفجار -وكانت العرب, كعادتها في المواسم، قد أودعت أسلحتها لدى عبد الله بن جدعان- طلبت إليه أن يسلمها الأسلحة المودعة لتدافع بها عن كيانها، ولكنه أبى أن يفرط في الأمانة حتى ولو كان السبب الذياد عن حياض الوطن ... وكفاهم مئونة الأمر بأن أسهم مع المسهمين في تزويدهم بأكبر قسط من العتاد والأسلحة. وكان الحجازيون يفون بالعهد حتى لو طرأ ما يوجب النقض؛ فقد كان البراض بن قيس الكناني سكيرا فاسقا تبرأ منه قومه وخلعوه, ثم شرب في بني الدئل فخلعوه أيضا، فاستجار بحرب بن أمية فأجاره وأحسن جواره، ولكنه شرب بمكة وأتى ما يستوجب التبرؤ منه، وأحس هو بأن ما ارتكبه خليق أن يخلعه، فقال لحرب: "إنك إن خلعتني لم ينظر إلى أحد بعدك، فدعني على حلفك, فأنا خارج عنك" ثم تركه وخرج ولحق بالنعمان بن المنذر بالحيرة. ولقد ضرب العرب المثل في الوفاء بالسموءل, وهو من أصل يهودي, ولكنه نبت في بيئة عربية حجازية، فاستقى هو وأبوه هذه الخلة الحميدة من أخلاق العرب والحجازيين. وكان الشاعر امرؤ القيس قد أودعه مائة درع، فأتاه الحارث بن ظالم أو الحارث الغساني ليأخذها منه, فتحصن منه, فأخذ الحارث ابنا له غلاما وكان في الصيد فقال: "إما أن سلمت الأدراع إلي, وإما أن قتلت ابنك" فأبى السموءل أن يسلم إليه الأدراع، فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه قطعتين. وفي ذلك يقول السموءل:

وفيت بذمة الكندي إني ... إذ ما ذم أقوام وفيت وأوصى عاديا يوما بألا ... تهدم يا سموءل ما بنيت بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت وما أروع وفاءهم لذلك العهد الذي ضربته بنو قصي على نفسها، وهو ألا يظلم بمكة قريب ولا غريب في الحلف الذي سمي بحلف الفضول, وقد أوردنا في باب الحياة السياسية، والشعر السياسي طرفا من أنبائه. ويروى في سبب هذا الحلف أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية ومعه تجارة له فاشتراها منه العاصي بن وائل السلمي، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه, ثم تغيب فابتغى الزبيدي متاعه فلم يقدر عليه, فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم فتخاذلت القبائل عنه، وانتهره الأحلاف: عبد الدار, ومخزوم، وجمح، وسهم، وعدي، وكعب. فلما رأى الزبيدي الشر، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقد أخذت قريش مجالسها حول الكعبة, فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبين الحجر والحجر أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش, يمنعون القوي من ظلم الضعيف والقاطن من ظلم الغريب, وقال: حلفت: لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار وعقد الحلف كما سبق أن وصفنا في دار ابن جدعان، وفيه يقول الزبير بن عبد المطلب: إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم1

_ 1 ذكرنا هذه الأبيات في فصل الشعر السياسي ص444, فلتراجع هناك.

الحلم: إن طبيعة الصحراء الملتهبة قد جعلت العرب أدنى إلى الطيش وسرعة الانفعال، ولكن بعض المجربين منهم والطاعنين في السن اتصفوا بالحلم وطول الأناة. ومن الشعراء الحجازيين الذين صوروا الحلم تصويرا رائعا ذو الإصبع العدواني, وذلك في مثل قوله: ولي ابن عم على ما كان من خلق ... مختلفان فأقليه ويقليني فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ... فإن ذلك مما ليس يشجيني ولا ترى في غير الصبر منقصة ... وما سواه فإن الله يكفيني على أنه سرعان ما يبدو التناقض بين هذا التحلم، وبين الوعيد والتهديد بالقتل في القصيدة ذاتها: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني ولمعن بن أوس قصيدة في الحلم تحكي فلسفته في الصداقة والحياة، فهو يصور حال صديقه الذي بادره بالإساءة وأصر على قطيعته، وأمعن في سوء معاملته ولم يجد معه أناته وحلمه وصفحه، حتى لكأن في نفسه داء قديما لا يشفيه إلا الإساءة إلى صديقه. عجبا لهذه الحياة, صديق صدوق ثابت على الود يبذل ماله في سبيل أخيه, ويحارب من حاربوه، ويصفح عما رأى منه ويغفر الزلة إثر الزلة، ومع ذلك يصر هذا الأخ على الجفوة، والثلب، والقطيعة، والحقد, وإنزال الضر بصاحبه. إن حال هذا الرجل حال إنسان يمشي في الدنيا بلا يمين: لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول وإني أخوك الدائم العهد لم أخن ... إن أبزاك خصم أو نبا بك منزل أحارب من حاربت من ذي عداوة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل وإن سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل كأنك تشفي منك داء مساءتي ... وسخطي، وما في ريبتي ما تعجل وإني على أشياء منك تربيني ... قديما لذو صفح على ذلك مجمل ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل؟ وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول1

_ 1 الحماسة 2/ 2. أبزاه: بطش به وغلبه.

7- العادات الاجتماعية: أما العادات الاجتماعية فكثيرة، ولا يمكننا الإحاطة بها. وقد أثبتت في1 تضاعيف هذا الكتاب صور منها, وحسبنا أن نشير هنا إلى بعضها كالخمر والميسر. الخمر: كان الحجازيون في الجاهلية -كالعرب عامة- مولعين بشرب الخمر؛ لتزيدهم شجاعة وجرأة، وحماسة وحمية في الحرب، ولينتقلوا بها إلى عالم خيالي مليء بالصور المبهجة والأحلام الجميلة فرارا من الواقع المر. وقد عبر حسان بن ثابت عن هذين الباعثين تعبيرا جميلا واضحا, وذلك إذ يقول: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء وقد أولع بشربها الحضر والبدو على السواء, واشتهرت الطائف منذ عهد بعيد بكرومها حتى إن بيادر الزبيب بها كانت تبدو كأنها الجرار, وكان بها حانات كثيرة، وقد تمادى الثقفيون في شرب الخمر حتى بعد أن حرمها الإسلام, ومنهم أبو محجن الثقفي الذي اشتهر بها اشتهارا, جعله يتطلب إلى صاحبه أن يدفنه في أصل كرمة تُرَوِّي جدورها عظامه، حتى يستمتع بها حيا وميتا: إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي في التراب عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها كذلك كان أهل يثرب يستخرجون الخمر من التمر والبسر، وكان اليهود يحملون إليها خمور الشام والطائف للتجارة، وكثرت الخمر بها, قال أنس: "إنها جرت في سكك المدينة حين حُرّمت". ويبدو أن مجالس الخمر كانت كثيرا ما يُهزج فيها بالغناء، فهذا عمرو بن الأطنابة يفتخر باحتساء الخمر، والاستمتاع بسماع القيان العازفات على

_ 1 الأغاني 9/ 87 ط دار الكتب.

الدفوف، ذكر صاحب الأغاني أنه دعا بشرا به وقيانه, فغنين له قوله في رثاء خالد بن جعفر لما قتله الحارث بن ظالم: عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المروق ريا إن فينا القيان يعزفن بالدفـ ... ـف لفتياننا وعيشا رخيا وربما امتدت مجالس الغناء والشراب حتى أعقاب الليل، قال كعب بن الأشرف: ولنا بئر رواء جمة ... من يردها بإناء يغترف ونخيل في قلاع جمة ... تخرج التمر كأمثال الأكف وصرير في مجال خلة ... آخر الليل أهازيج بدف1 على أن طائفة من عقلاء العرب قد حرموا2 الخمر في الجاهلية؛ تكرما وصيانة لأنفسهم. ومن الحجازيين من آلوا على أنفسهم ألا يشربوها, ومنهم عامر بن الظرب الذي يقول في وصفها: سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهابة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي تورث القوم أضغانا بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي ومنهم صفوان بن أمية الكناني, الذي أقسم على نفسه ألا يشربها طيلة حياته، ولا يشفي بها سقيما أبدا, وذلك حيث يقول: رأيت الخمر صالحة وفيها ... مناقب تفسد الرجل الكريما فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبدا سقيما

_ 1 طبقات الشعراء، لابن سلام. الصرير: الصياح. والخلة: الخمر. 2 الأمالي "1/ 204".

وقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه ما من أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر؛ استحياء مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته, فقال: شربت الخمر حتى قال قومي ... ألست عن السفاه بمستفيق وحتى ما أوسد في مبيت ... أنام به سوى الترب السحيق وحتى أغلق الحانوت رهني ... وآنست الهوان من الصديق وكان سبب تركه الخمر أن أمية بن أبي الصلت شرب معه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب، فقال له: ما بال عينك؟ فسكت. فلما ألح عليه قال له: أنت صاحبها أصبتها البارحة, فقال: أوبلغ مني الشراب الحد الذي أبلغ معه من جليسي هذا؟ لا جرم لأدينها لك ديتين، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: "الخمر علي حرام أن أذوقها أبدا"، وترك من يومئذ1. وذكر ابن قتيبة أن كثيرا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية؛ لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها. وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما شرب أبو بكر خمرا في جاهلية ولا إسلام". وقال عثمان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت ولا شربت خمرا في جاهلية ولا إسلام"2. وربما حرموا الخمر تحريما مؤقتا فتجافوا عنها وعن النساء والطيب, وذلك حين يملأ قلوبهم الموتورة الحقد على الأعداء، وطلب الثأر والانتقام. قال قيس بن الخطيم: ومنا الذي آلى ثلاثين ليلة ... عن الخمر حتى زاركم بالكتائب ولما هبطنا الحرث قال أميرنا ... حرام علينا الخمر ما لم نحارب فسامحه منا رجال أعزة ... فما برحوا حتى أحلت لشارب ويبدو أن الخمر أهم اللذائذ التي كانوا يصدون أنفسهم عنها حتى يثأروا.

_ 1 الأغاني "8/ 332 دار الكتب". 2 الأشربة 27.

قال دريد بن الصمة: شلت يميني ولم أشرب معتقة ... إن أخطأ الموت أسماء بن زنباع وقال تأبط شرا: حلت الخمر وكانت حراما ... وبلأي ما ألمت تحل فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل1 الميسر: وكان من عادة الحجازيين لعب الميسر، ولا سيما وقت الشدة والجدب، ومن طرقهم في المياسرة أن يجتمع عشرة من اللاعبين ويحضروا جزورا يضمنون ثمنا لصاحبها، ويدفع الثمن بعد المياسرة الغارمون وحدهم، وتجعل القداح العشرة في خريطة وتجال وتحرك فيها، ثم يخرج الحرضة أول قدح باسم أحدهم على ترتيب لا نعلمه -فربما كان بحسب جلوسهم أو أسنانهم أو تراضيهم- ويكون هذا القدح هو نصيبه، فإن كان رابحا عرف مقدار ربحه وبقي القدح خارج الخريطة لا يعاد إليها. ثم يخرج قدحا باسم الثاني ويعرف مقدار ربحه وهكذا العشرة. وكل رابح يأخذ ما خرج له، والثلاثة الذين تخرج لهم القداح التي لا نصيب لها هم الذين يغرمون ثمن الجزور, فيقسم عليهم أثلاثا2. وكان بعض اللاعبين يأخذ ما بقي من القداح ويقول للأيسار: قد تممتكم إن لم يحضر من يتمم الأيسار, وبذلك يفتخر النابغة فيقول: إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما3

_ 1 شرح الحماسة للتبريزي 2/ 160. خل: ضعيف هزيل. 2 بلوغ الأرب 3/ 65. 3 مثنى الأيادي: أن يأخذ القسم مرة بعد مرة, أو هي الأنصباء التي كانت تبقى من الجزور في الميسر, فيشتريها ويعطيها.

النسيء: ومن عاداتهم النسيء, وقد مر الحديث عنه في "الحياة الاجتماعية". ويروى أن أول من نسأ الشهور على العرب هو سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم من بعده ابن أخيه القلمس وهو عدي بن عامر بن ثعلبة, ثم صار النسيء في ولده إلى آخرهم وهو أبو ثمامة جنادة بن عوف. ويروي ابن هشام أن القلمس هو أول ناسئ, وفي صبح الأعشى: أول من نسأ النسيء عمرو بن لحي وهو أبو خزاعة، ولقد أكثر الشعراء من بني كنانة الافتخار بالنسأة؛ من ذلك قول بعضهم: ومنا ناسئ الشهر القلمس وقال غيره: نسئوا الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول وقال عمير بن قيس جذل الطعان الكناني: لقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس إن لهم كراما فأي الناس فاتونا بوتر ... وأي الناس لم تعلك لجاما ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما؟!

الفصل الرابع: الشعر الديني

الفصل الرابع: الشعر الديني تمهيد: يرى الدكتور طه حسين أن الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي، والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس، والمسيطرة على الحياة العملية, وإنه من العجيب حقا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين1، على حين يرى نيكلسون أن قدرا كبيرا من الأحاسيس الدينية قد تمثل في الشعر الجاهلي, فماذا عسى أن تكون الحقيقة بين هذين الرأيين المتناقضين أشد التناقض؟ الواقع أن كثيرا من الشعر الجاهلي قد ضاع في تلافيف الزمن واختفى في مجاهله ولم يسلم لنا منه إلا القليل. قال أبو عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير"2. ومع ذلك, فإن الباحث يجد أن هذا القليل قد تحدث فيما تحدث عنه، عن ديانات العرب ومعتقداتهم ومشاعرهم الدينية. وإذًا, فأحد الأسباب لقلة المأثور من الشعر الديني هو ضياع كثير من الشعر الجاهلي. أما ثاني الأسباب فهو إغضاؤهم عن رواية هذا الشعر الذي يتصل بالوثنية؛ ورعا وتقية بعد أن دخل الإسلام في قلوبهم، وحرصا على عدم نبش الماضي الذي يصور أفن الفكر وضعف العقل ويثير الضغائن في النفوس. ثم إن الذين اعتنقوا اليهودية والنصرانية في الجاهلية قد ترفعوا وتجافوا عن شعرهم الوثني، على أن هذا التحرج ذو أهمية نسبية لأنه لم يكن عاما، ثم هو موقوت بظروف

_ 1 في الأدب الجاهلي ص80 بتصرف. 2 طبقات الشعراء, لابن سلام ص17.

الإسلام الأولى إبان معركته ضد الشرك, بدليل أن الرواة قد نقلوا لنا جملة صالحة من هذا الشعر وحفظوها. وثمت سبب ثالث وهو أن كثيرا من الجاهليين وبخاصة الشعراء، لم يكونوا يحفلون بالنزعة الدينية، بل كانوا متحللين منها في كثير من الأحيان. يقول بروكلمان: "ولم تكن الصلة بين القبيلة عند العرب وبين آلهتها وثيقة جدا, كما كانت الصلة عند بني إسرائيل مثلا بين يهود وشعبه"1. ويتفق نيكلسون مع بروكلمان في هذا الرأي، فيقول: "كان تأثير الدين على حياة العرب قبل الإسلام ضئيلا، حتى لا نتوقع تأثيرا كبيرا له في شعرهم. والعربي لم يكن يولي الدين اهتماما كبيرا، كان تقديره لدينه يقتصر على مزاياه العملية، وإذا غضضنا النظر عن الشهوات، فقد كان العربي البدوي يجد في الدين راحة وأمنا خلال الأشهر الأربعة المقدسة التي يمنع فيها الحرب، في حين كان موسم الحج في مكة يمكنه من الاشتراك في احتفال وطني"2. هذا إلى ضعف الوثنية ذاتها في أخريات العصر الجاهلي، إذ صارت عبادة الأوثان عادة أكثر منها عقيدة. قال أبو رجاء العطاردي: "كنا نعبد الحجر في الجاهلية, فإذا وجدنا حجرا أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا فحلبنا عليه، ثم طفنا به"3. هذه طائفة من الأسباب الجوهرية التي تضافرت على قلة الشعر الديني، ومع ذلك فإن ما سلم من أيدي الضياع من هذا الشعر يمثل إلى حد ما حياة العرب الدينية, سواء كانت وثنية أو غير وثنية. أما مسألة الشك في الشعر الديني, فقد تعرضنا لمناقشتها في باب سابق، وخاصة شعر أمية بن أبي الصلت الذي سنتحدث بعد قليل عن بعض دلائل الوضع والاختلاق في قصصه الديني وقصائده في الكونيات، وسنتناول بالدرس في هذا شعر الوثنية، والتوحيد.

_ 1 العرب والإمبراطورية العربية ص26. 2 A Literoyra History of The Arabs p, 135. 3 بلوغ الأرب 2/ 227.

1- الأصنام والشعر: كان الحجازيون -كالعرب عامة- يقسمون بأصنامهم, وقد جرى ذلك على ألسنة شعرائهم؛ فأقسم عبد العزى بن وديعة المزني بمناة: إني حلفت يمين صدق برة ... بمناة عند محل آل الخزرج وكانت قريش قد حمت لها شعبا من وادي حراض يقال له: سقام, يضاهون به حرم الكعبة، فذاك قول أبي جندب الهذلي في امرأة كان يهواها: لقد حلفت جهدا يمينا غليظة ... بفرع التي أحمت فروع سقام لئن أنت لم ترسل ثيابي فانطلق ... أباديك أخرى عيشنا بكلام يعز عليه صرم أم حويرث ... فأمسى يروم الأمر كل مرام وحلف الشنفرى الأزدي بأثواب الأقيصر وهو صنم كان يعبد في الجاهلية: وإن امرأ أجار عمرا ورهطه ... علي -وأثواب الأقيصر- يعنف1 كما كان الحجازيون يطوفون بالأنصاب، ويسمون الذبائح لها عثائر والمذبح الذي تذبح فيه العتر. قال زهير بن أبي سلمى: فزل عنها وأوفى رأس مرقبة ... كمنصب العتر دمّى رأسه النسك ونافح بعض الحجازيين عن أصنامهم؛ حماية لها من التدمير, وكافحوا دونها حتى قتلوا، كما حدث لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وأسلمت العرب, وكان في القادمين جرير بن عبد الله الذي جاء مسلما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جرير, ألا تكفيني ذا الخلصة؟ " فقال: بلى فوجهه إليه، فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة، فسار بهم إليه فقاتلت خثعم وباهلة دونه، فقتل من سدنته من باهلة

_ 1 كان الأقيصر صنم قضاعة ولخم وجذام وغطفان, وكانوا يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده, ويلقون مع الشعر قرة من دقيق. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى ولربيع بن ضبع الفزاري وللشنفرى كما رأيت.

يومئذ مائة رجل، وأكثر القتل في خثعم، وقتل مائتين من بني قحافة بن عامر بن خثعم، فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق، فقالت امرأة من خثعم: وبنو أمامة بالولية صرعوا ... ثملا يعالج كلهم أنبوبا جاءوا لبيضتهم فلاقوا دونها ... أسدا تقب لدى السيوف قبوبا قسم المذلة بين نسوة خثعم ... فتيان أحمس قسمة تشعيبا1 وربما طلبوا إلى الأصنام أن تدرأ عن نفسها الشر والضر في شك مرير, كما حدث حينما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى العزى لهدمها، فلما سمع صاحبها السلمي بمسيرة خالد إليها علق عليها سيفه وهرب في الجبل الذي هي فيه، وهو يقول: أيا عز شدي شدة لا شوى لها ... على خالد، ألقي القناع وشمري أيا عز إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري وقد ذكرنا فيما سبق أن قريشا كانت تتعبد لصنم اسمه ود، ونزيد هنا أن اسم "ود" ورد في النصوص المعينية، وفي النصوص الثمودية. وفي أحد هذه النصوص الثمودية كتابة معناها: "أموت على دين ود" وفي هذا دليل على مدى انتشار عبادته في جزيرة العرب2 ... ووردت كلمة "ود" تحية في الكتابات الثمودية في الغالب، والتحية صلة بفكرة ود إلها ولا شك. وقد وردت اسما للإله في النصوص اللحيانية, وبمعنى التحية وردت كلمة "ود" في هذا البيت, الذي ينسب لنابغة بني ذبيان: حياك ود فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما وكان الحجازيون -كالعرب- يستقسمون عند الأصنام بالأزلام، وهي القداح يستشيرونها للسفر أو الغزو أو التجارة أو أي أمر يهمهم, وهي ثلاث

_ 1 الولية: اسم موضع. ثملا: جمع ثملة وهي الحب والسويق. الأنبوب: الرمح. تقب: تصخب وتقعقع أنيابها. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام ج5 ص126.

قطع مكتوب على أحدها: نهاني ربي، وعلى الثاني: أمرني ربي، وأما الثالث فغفل، فإن خرج الآمر مضى لطيته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الثالث أجالها. وكان لهبل فيما يرى المؤرخون سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح, وكان قربانه مائة بعير، وكان له حاجب. وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقداح, وقالوا: إنا اختلفنا فهب السراحا ... ثلاثة يا هبل فصاحا الميت والعذرة والنكاحا ... والمبرئ المريض والصحاحا إن لم تقله فمر القداحا أما الثورة على الأصنام والأوثان فنجدها لدى الحنفاء, الذين وصلوا بعد طول التأمل والتدبر إلى اعتبارها أوهاما باطلة، وخزعبلات فاسدة لا تليق بالعقل الحصيف. وقد أسلفنا الحديث عن بعض هؤلاء الحنفاء، وسنورد أطرافا من الأشعار التي تكشف عن عقيدتهم, وسماتها حين نتحدث عن شعر "التوحيد" في الجاهلية. ونكتفي هنا بتسجيل بعض الأخبار التي تدل على الانفعال العنيف، والغضب الشديد، والتحرر الثائر، مما اتسمت به ثورة بعض الحجازيين ضد تلك الآلهة الفارغة والأباطيل الشاخصة. فقد كان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدة صنم يقال له "سعد"، وكان صخرة طويلة؛ فأقبل رجل من بني ملكان بإبل مؤبلة، ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما أدناها منه ورأته وكان يراق عليه الدماء نفرت منه، فذهب في كل وجه فغضب ربها, فتناول حجرا فرماه به، وقال: "لا بارك الله فيك إلها, أنفرت علي إبلي" ثم خرج في طلبها حتى جمعها, ثم انصرف وهو يقول:

أتينا إلى "سعد" ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد1 ومما يدل على عدم اكتراثهم بعقيدتهم الوثنية، ذلك التناقض الذي يشعرون به حين يعبدون الأصنام التي يلتمسون بعبادتها أن تقربهم زلفى إلى الله, في الوقت الذي يرون فيه تلك الأصنام لا تدفع عن نفسها الضر والأذى, فقد كان عادي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم, فبينا هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان فبالا على الصنم، فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه؟ ... قد ذل من بالت عليه الثعالب2 بل, لقد روي أن عمرو بن حبيب من محارب بن فهر قد أكل إله بكر، وذلك أن "بكرا" كان لهم سقب يعبد، يعبدونه من دون الله تعالى، فأغار عليهم عمرو فأخذه وأكله، وسمي لذلك آكل السقب3. 2- التوحيد والشعر: الله: ورد لفظ الجلالة في الأشعار المنسوبة إلى الجاهليين، وهو اسم الإله في الإسلام, فهل عرف الجاهليون هذا الاسم ونطقوا به حقا؟ أم هو لم يكن معروفا لديهم، وإنما شاع وعرف لنزول الوحي به؟ لقد ذهب "نولدكه" إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام وأحلوا محلها اسم الله؛ فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله". ولكن ليس في أيدينا دليل محسوس ينص

_ 1 بلوغ الأرب للألوسي 2/ 208. 2 يراد بالرب هنا الصنم, وهو مثل يضرب للشيء يستذل. 3 جمهرة الأنساب 169، وابن سعد 5/ 236، السقب: ولد الناقة.

على وجود مثل هذا التغيير والتبديل. ثم إن "اللات" لم يكن صنم جميع العرب، فلم خص "اللات" بالقسم في الشعر مثلا دون سائر الأصنام؟ ثم إن إدخال لفظ "الله" في مواضع أسماء الأصنام الأخرى لا يمكن أن يستقيم دائما، فلا بد أن يؤثر إدخاله على وزن الشعر, فيكف عولج الميزان؟ وكيف صحح الشعر؟ أما "ولهوزن" فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر الآلهة خاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلها معينا، وإنما تعني ما تعنيه كلمة رب وإله. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات. فمن المستشرقين من يرى أن الكلمة عربية أصيلة، ومنهم من يرى أنها من إلاها Aiaha ومعناها "الإله" بلغة بني إرم. أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون أنها من "اللات", واللات اسم صنم، تحرف وتولد منه هذا الاسم. بيد أن ورود هذا الاسم في الشعر الجاهلي يفيد أن الجاهليين كانوا يعتقدون بوجود إله واحد أعلى، خلق هذا الكون، وبيده تدبيره, وهو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها؛ ولذلك توجهوا إليه وأقسموا به. ولهذا الرأي سند في القرآن الكريم؛ ففيه أن قريشا كانت تعترف بأن الله هو رب السموات والأرض: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1.

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 418-422.

أما جوهر الخلاف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين العرب، فهو أنهم يشوبون إيمانهم وتوحيدهم بالشرك؛ لاعتقادهم أن تلك الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . واستعمال الجاهليين لاسم الجلالة، يشير إلى أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة المسلمين، أي: إنه كان اسم علم خاص بالجلالة، فهو مقابل "يهوه" عند العبرانيين, ومنا هنا عبر عنه بإله واحد، وهو اسم مفرد ليس له جمع؛ لأنه إله واحد. أما لفظة "إله" فإنها تعبر عن مفرد له جمع، هو "آلهة", والإله في مقابل "إيلوهيم Elohim" عند العبرانيين. وسنعرض فيما يلي لبعض مظاهر التوحيد في شعر الحجازيين: القسم بالله: كان الحجازيون -كالعرب- يقسمون بالله. قال ذو الإصبع العدواني: والله لو كرهت كفي مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني وقال زهير: فوالله إنا والأحاليف هؤلا ... لفي حقبة أظفارها لم تقلم وقالوا في قسمهم: تالله ولعمر الله. قال الشاعر: تالله ذا قسما لقد علمت ... ذبيان عام الحبس والأصر وقال: تعلماها لعمر الله ذا قسما ... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك؟ ويرى النابغة أن القسم بالله ما بعده قسم: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب وحلفوا برب الكعبة. قال النابغة أيضا: فلا، لعمر الذي مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد ما قلت من سيء مما أتيت به ... إذن، فلا رفعت سوطي إلى يدي

وحلفوا بالكعبة ذاتها لصلتها بالله. قال زهير: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم قدرة الله: وأسندوا إلى الله تعالى النفع والضرر والثواب والعقاب، واعتقدوا أنه هو المعطي وهو المانع, وعنده جزاء الصالحات. قال أبو قيس بن الأسلت, حين أجارت الأوس مخلد بن الصامت الساعدي: أجرت مخلدا ودفعت عنه ... وعند الله صالح ما أتيت والله هو المعين على إحراز النصر. قال أبو قيس بن الأسلت أيضا: وأحرزنا المغانم واستبحنا ... حمى الأعداء والله المعين وهو القابض الباسط الذي يعلم السر والجهر. قال ذو الإصبع العدواني يشكو من ابن عمه: إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ... إن كان أغناك عني سوف يغنيني الله يعلمكم والله يعلمني ... والله يجزيكم عني ويجزيني وهو الذي يبدع الجمال ويمنحه لمن يشاء. قال قيس بن الخطيم متغزلا: قضى لها الله حين صورها الـ ... ـخالق ألا يكنها سدف وهو الذي يجزي على البر والإحسان. قالت هند بنت الخس تمدح القلمس, وكان سيدا حكيما ينسئ الشهور, فيحل حرامها ويحرم حلالها: إذا الله جازى منعما بوفائه ... فجازاك عني يا قلمس بالكرم وقال زهير: رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو علام الغيوب: واستأثر الله بعلم الغيب، وهم بشر لا حيلة لهم في هتك الحجب واستشفاف ما وراء الواقع المحسوس، قال أحيحة بن الجلاح:

وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل؟ وما تدري وإن ألقحت شولا ... أتلقح بعد ذلك أم تحيل؟ وما تدري إذا ذمرت سقيا ... لغيرك أم يكون لك الفصيل؟ وما تدري وإن جمعت أمرا ... بأي الأرض يدركك المقيل1؟ والله هو الذي يعلم السر وما تكنه الصدور. قال زهير: ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان هل أقسمتم كل مقسم فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم الإيمان بالبعث: وآمن بعض الحجازيين بالبعث ويوم القيامة, حيث تجزى كل نفس بما عملت؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر. قال زهير بعد البيتين السابقين: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم وقال أمية بن أبي الصلت يذكر البعث والحشر والحساب والميزان: ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا ... يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر وأبرزوا بصعيد مستو جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر 3- حادثة الفيل: ومن الحوادث التي أثرت تأثيرا عميقا في نفوس الحجازيين حادثة الفيل، ولهذه الحادثة سمة سياسية وأخرى دينية. وقد تحدثنا عن الأولى في فصل "الشعر السياسي", وسنتناول هنا السمة الثانية.

_ 1 يعيل: يفتقر. الشول: الناقة التي تطلب اللقاح. ذمر: حبس. السقب: ولد الناقة.

يؤكد الجاحظ حادثة الفيل كما ذكرها القرآن الكريم، ويسوق الحجج في صرف الله الفيل, بالطير الأبابيل، وصد أبي يكسوم عن البيت الحرام، فقد أنزل الله سورة الفيل، وقريش يومئذ مجلبون في الرد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وما شيء أحب إليهم من أن يروا له سقطة أو عثرة أو كذبة، أو بعض ما يتعلق به مثلهم، فلولا أنه أذكرهم أمرا لا يتدافعونه، ولا يستطيع العدو إنكاره، للذي يرى من إطباق الجميع عليه؛ لوجدوا أكبر المقال في تكذيبه والتشنيع عليه. وقد كان بين ثقيف وقريش لقرب الدار والمصاهرة، والتشابه في الثروة، والمشاكلة في المجاورة تحاسد وتنافر. وقد كان هنالك فيهم الموالي والحلفاء والقطان والنازلة ومن يحج في كل عام. وكان البيت مزورا على وجه الدهر يأتونه رجالا وركبانا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، وبشق الأنفس, كما قال الله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} . وكانوا بقرب سوق عكاظ وذي المجاز وهما سوقان معروفان, وما زالتا قائمتين حتى جاء الإسلام, فلا يجوز أن يكون السالب والمسلوب والمفتخر به والمفتخر عليه والحاسد والمحسود والمتدين به والمنكر له، مع اختلاف الطبائع وكثرة العلل يجمعون كلهم على قبول هذه الآية وتصديق هذه السورة, وكلهم مطبق على عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والكفر به. والمحلون من العرب ممن كان لا يرى للحرم, ولا للشهر الحرام حرمة: طيء كلها وخثعم كلها وكثير من أحياء قضاعة ويشكر والحارث بن كعب, وهؤلاء كلهم أعداء في الدين والنسب. هذا مع ما كان في العرب من النصارى الذين يخالفون دين مشركي العرب كل الخلاف؛ كتغلب, وشيبان, وعبد القيس, وغيرهم خلطاء وأعداء, ممن يغارون ويسبون ويسبى منهم، وفيهم الثئور والأوتار والطوائل. وهي العرب وألسنتها الحداد وأشعارها التي إنما هي مياسم، وهممها البعيدة وطلبها للطوائل, وذمها لكل دقيق وجليل من الحسن والقبيح في الأشعار والأرجاز والأسجاع والمزدوج والمنثور. فهل سمعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرنا أنكر شأن الفيل، أو عرض فيه بحرف واحد؟!

ويستشهد الجاحظ على إثبات حادثة الفيل بأشعار شعراء من غير قريش أو حلفائها كربيعة بن أبي الصلت. وهو ثقفي طائفي وهو جاهلي, وثقيف يومئذ أضداد بالبلدة والمال والحدائق والجنان، وبهم اللات والغبغب، وبيت له سدنة يضاهون بذلك قريشا، وهو مع اجتماع هذه الأسباب التي توجب الحسد والمنافسة: إن آيات ربنا بينات ... ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور واضعا حلقة الجران كما قطـ ... ـر صخر من كبكب محدور1 وقد فسر الإمام محمد عبده الطير الأبابيل بأنها الرياح المتجمعة حملت إليهم ميكروب الجدري ففتك بهم, وأن الحجارة من السجيل هي ذرات التراب التي حملت الميكروب, وقد رد على ذلك الأستاذ محمد الطيب النجار ونقضه بقوله: إنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل أي: جماعات من الطير, ولا ينبغي أن يقال ذلك إلا بطريق مجازي بعيد، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله, ولا يقبل أيضا أن يقال عن ذرات التراب: إنها حجارة من سجيل, أي: من طين مطبوخ وهو الآجر. وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري, فلماذا هلك الأحباش وحدهم, ولم يهلك معهم العرب؟ وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فمن المعقول أن سورة الفيل قد نزلت على الرسول في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم, وبعضهم من أعداء الرسول, فلو لم تكن الطيور طيورا حقيقة والحجارة حجارة حقيقة؛ لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب هذه السورة ويعلن ذلك على

_ 1 وتنسب الأبيات كذلك إلى أمية بن أبي الصلت. الجران: باطن عنق البعير. قطر: ألقي على جانبه. وكبكب: جبل خلف عرفات. راجع الحيوان 7/ 198, 215-217.

رءوس الأشهاد, وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد والطعن عليه, ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت فتلقاها العرب بالقبول؛ لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها, ولا يجرؤ أحد على إنكارها. وقد هز ذلك الخطر الداهم الذي كان موشكا أن يجتاح مكة وأحلها نفوس الشعراء والزعماء، وعلى رأس هؤلاء عبد المطلب بن هاشم الذي توجه إلى الله مع نفر من قريش, وراح يهتف بهذا الشعر وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لاهم إن المرء يمنـ ... ـع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك إن كنت تاركهم وكعـ ... ـبتنا فأمر ما بدا لك فلئن فعلت فإنه ... أمر يتم به فعالك اسمع بأرجس ما أرا ... دوا العدو وانتهكوا حلالك جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك وممن هزتهم حادثة الفيل ففتقت قرائحهم بالشعر، عبد الله بن الزبعرى الذي يقول: تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يرام حريمها لا تخلق الشعر ليالي حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها سائل أمير الجيش عنها ما رأى ... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها ستون ألفا لم يئوبوا أرضهم ... بل لم يعش بين الإياب سقيمها كانت بها عاد وجرهم قبلهم ... والله من فوق العباد يقيمها

_ 1 من وحي البلد الأمين ص14, 15.

4- مكانة الحرم والشعائر الدينية: كان للحرم مكانة قدسية لدى العرب منذ عهد بعيد؛ فكانوا لا ينفرون صيد الحرم ولا يؤذونه, وينسبون لعمرو بن مضاض الجرهمي أنه قال: فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه ... تظل به أمنا وفيه العصافر وفيه وحوش لا تزال أبية ... إذا خرجت منه فليست تغادر وقال النابغة الذبياني: والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند وكانوا يحرمون غزو الحرم والقتال فيه؛ وشاهد ذلك قول حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي, يدعوه إلى حلفه ونزول مكة: أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكنف كالندامى من قريش وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش وتسكن بلدة عزت قديما ... وتأمن أن يزورك رب جيش وكانوا يكرهون الظلم في الحرم, ونسبوا لرجل من جرهم أنه قال لعمرو بن لحي لما ظلم بمكة: يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام ونسبوا لسبيعة بنت الأجب بن زبينة، وهي تنهى ابنها خالد بن عبد مناف عن الظلم في الحرم، وتعظم حرمة مكة, قولها: أبني لا تظلم بمكة ... لا الكبير ولا الصغير واحفظ محارمها ولا ... يغررك بالله الغرور أبني من يظلم بمكة ... يلق أطراف الشرور أبني يضرب وجهه ... ويلح بخديه السعير أبني قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور

والله أمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور والله أمن طيرها ... والعصم تأمن في ثبير ولقد كان اجتناب الظلم في الحرم شريعة عامة، وقاعدة مرسومة لا يحيدون عنها. ومن النادر حدوث اعتداء على النفس أو المال فيه, كما آذى مشركو قريش زيد بن عمرو بن نفيل في مكة لما اطّرح عبادة الأصنام؛ كراهة أن يفسد عليهم دينهم, فقال وهو يعظم حرمته على من استحل منه ما استحل من قومه: لاهم إني لا حله ... وإن بيتي أوسط المحله عند الصفا ليس بذي مضله وكانوا إذا أحرموا كرهوا تسريح الشعر وقتل القمل. قال أمية بن أبي الصلت: مساجي أياطلهم ينزعوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا1 وكانوا يهللون ويلبون في الحج؛ يدل على ذلك قول نبيه بن الحجاج: إنني والذي يحج له شمـ ... ـط إياد وهللوا تهليلا ومبيتا بذي المجاز ثلاثا ... ومتى كان حجنا تحليلا وبعض تلبيات العرب في الجاهلية مسجوع؛ كقولهم: لبيك ربنا لبيك، والخير كله بيديك. وبعضها موزون كقولهم, وهو من منهوك الرجز: لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك أخو بنات بفدك وفدك: قرية حجازية قديمة, وكان بها في الجاهلية أصنام. وإذا أرادت بجيلة التلبية "وهي قبيلة حجازية" قالت: لبيك عن بجيلة ... الفخمة الرجيلة ونعمت القبيلة ... جاءتك بالوسيلة تؤمل الفضيلة

_ 1 التفث: الوسخ.

وكانوا في الجاهلية يطوفون في الحج بالبيت الحرام، قال مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي: ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير حاضر وكان بعض العرب يطوف بالبيت مكشوف السوءة غير الحج لغرض يقصده, فقد مرض أبو جندب -وهو شاعر جاهلي- وكان له جار من خزاعة اسمه خاطم, فقتله زهير اللحياني وقتلوا امرأته، فلما برئ أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة, فاستلم الركن وكشف عن استه وطاف, فعرف الناس أنه يريد شرا, فقال: إني امرؤ أبكي على جاريه ... أبكي على الكعبي والكعبية ولو هلكت بكيا عليه ... كانا مكان الثوب من حقويه فلما فرغ من طوافه وقضى من مكة حاجته, خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني لحيان, فخرجوا معه حتى صبح بهم بني لحيان في العرج, فقتل فيهم وسبى من نسائهم وذراريهم1. اللقا: وكان من عادة العرب ألا يطوف أحد بالبيت إلا عريانا ما عدا الحمس, فإنهم كانوا يطوفون وعليهم الثياب, وكان إذا حدث أن طاف الرجل أو المرأة من غير الحمس في ثيابه فإنه يجيء بتلك الثياب التي طاف بها وبطرحها "لقى" حول البيت, فلا يمسها أحد ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح والمطر. وقد ذكر ورقة بن نوفل "اللقاء" في بعض ما أثر عنه، وذلك إذ يقول: كفى حزنا كرى عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم نذر الأبناء للكعبة: وربما نذروا أبناءهم لخدمة الكعبة. ومن ذلك ما روي أن امرأة من جرهم تزوجها أخزم بن العاص وكانت عاقرا, فنذرت أن رزقت غلاما أن تتصدق به على الكعبة يخدمها ويقوم عليها, فولدت من أخزم "الغوث" وتصدقت

_ 1 أخبار مكة ج1 ص112, طبعة مكة.

به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، وولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وقالت أمه حين أتمت نذرها: إني جعلت رب من بنيه ... ربيطة بمكة العليا1 فباركن لي بها إليه ... واجعله لي من صالح البريه 5- وكما تحدث الشعر الحجازي عن الوثنية والتوحيد، أشار كذلك إلى اليهودية والنصرانية وعبادة الجن والشجر وغيرها. شعائر اليهود والنصارى: وترددت في أشعار بعض الحجازيين شعائر اليهود والنصارى؛ فقد وصف مزرد بن ضرار الذبياني البيضة والحلق المتصل بها الذي يطرح على الظهر لستر العنق، فقال: إن بيضة يمنية سلسلة ملساء لينة تنزلق الحجارة عنها، وشبه لمعانها في شعاع الشمس بمصابيح الرهبان تلمع: وتسبغة في تركة حميرية ... دلامصة ترفض عنها الجنادل كأن شعاع الشمس في حجراتها ... مصابيح رهبان زهتها القنادل2 كما أن النابغة الذبياني ذكر في شعره يوم الشعانين, وأشار إلى الصليب والمجلة, وذلك في قوله: ظلت أقاطيع أنعام مؤبلة ... لدى صليب على الزوراء منصوب3 وقوله: مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم ... فما يرجون غير العواقب

_ 1 أخبار مكة ج1 ص221. 2 تسبغة: زرد مشتبك الحلقات متصل بالبيضة, يطرح على الظهر لستر العنق. تركة: بيضاء مستديرة. دلامصة: سلسلة لينة. حجرات: جوانب. 3 الأقاطيع: جمع قطيع, وهو الطائفة من الغنم. المؤبلة: التي تتخذ للقنية, فلا تركب.

وفي شعر أمية تعبير من صميم المسيحية, لا يزال حيا يتردد صداه حتى الآن, وهو قوله: مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا عبادة الجن والشجر: وبعض العرب عبد الجن، وهذا أمية بن أبي الصلت يسجل هذه العبادة ويتبرأ منها، ويتوجه برجائه خالصا لله ربه: حنانيك إن الجن كان رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا ومنهم من عبد الشجر؛ فقد اعتقدوا أن العزى شيطانة كانت "تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة". وفي فتح مكة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد أن يعضدها، فعضد الأولى والثانية فلم ير شيئا، فأمره النبي أن يعضد الثالثة فأتاها، فإذا بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني -وكان سادنها- فلما نظر إلى خالد قال بيتين ذكرناهما سابقا. فقال خالد: يا عز كفرانك لا سبحانك, إني رأيت الله قد أهانك. ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة, ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن. وبعض الحجازيين كان دهريا لا يؤمن بالبعث والجزاء. قال شداد بن الأسود بن عبد شمس يرثي كفار قريش يوم بدر: يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟

6- القصص الديني: ويتميز الشعر الحجازي الجاهلي بالقصص الديني، ورائد هذا اللون الذي كاد يختص به هو أمية بن أبي الصلت، ويمكن أن نقسم قصص أمية الديني من حيث قيمته الفنية, وتأثره بالقرآن أو عدم تأثره إلى الألوان الآتية: أ- لون يبدو أنه لم يتأثر فيه بالقرآن الكريم، والراجح أنه نظمه قبل الإسلام. وتظهر فيه قوة الأداء كخرافة تطويق الحمامة التي كانت سببا في نجاة سفينة نوح, أو دلت من بها على اليابسة وهي التي يقول فيها: وأرسلت الحمامة بعد سبع ... تزل على المهالك لا تهاب فجاءت بعد ما ركدت بقطف ... على الثأط والطين الكثاب1 فلما فتشوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السخاب2 إذا ماتت تورثه بنيها ... وإن تقتل فليس له استلاب جزى الله الأجل المرء نوحا ... جزاء البر ليس له كذاب بما حملت سفينته وأنجت ... غداة أتاهم الموت القلاب3 وفيها من أرومته عيال ... لديه لا الظماء ولا السغاب ومثلها في القوة وعدم الاستعانة بالقرآن قصيدته في "قنزعة الهدهد" وستقرؤها في ترجمته. ب- ولون آخر يبدو فيه الحشو والتفكك والابتذال وسوء المحاكاة, كقصته في الذبيح حين همّ إبراهيم بذبح ولده, ففداه الله بذبح عظيم. وفيها يقول: أبني إني نذرتك لله ... شحيطا فاصبر فدى لك خالي

_ 1 الثأط: الحمأ. والكثاب: الأسود. 2 السخاب ككتاب: عقد من قرنفل, أو غيره لا جوهر فيه. 3 الموت القلاب: الناشئ من داء في القلب.

فأجاب الغلام أن قال فيه ... كل شيء لله غير انتحال أبني إني جزيتك بالله ... تقيا به على كل حال وستأتي في ترجمته، وكذلك تصويره لقصة مريم، فمحاكاته فيها للقرآن بينة, وفيها حشو وفضول كثير. جـ- ولون وسط، لا تبدو فيه كلفة المحاكاة للقرآن, كقوله في خراب "سدوم" مدينة قوم لوط: ثم لوط أخو سدوم أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها راودوه عن ضيفه ثم قالوا ... قد نهيناك أن تقيم قراها إلى آخر القصيدة التي ستأتي فيما بعد. ويتجلى في قصصه الديني عامة: وحدة الموضوع، وانسياق المعاني في الغالب، مع الضعف الفني في بعض الأحيان؛ وذلك لصعوبة النظم في الموضوعات الدينية. ونحب أن نشير إلى أن كثيرا من القصص الديني الوارد عن شاعرنا أمية هو من القصص الموضوع ألفه الوضاعون، ولا يستبعد الدكتور جواد علي أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج؛ عصبية وتقربا إليه1, فكلاهما ثقفي. وقصيدة أمية في عيسى ابن مريم وحمل أمه به، وكثير من قصائده الأخرى، تجد عليها المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة. ولكن هذا لا يمنع -مع ذلك- من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقا، في هذا المنظوم الديني, غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره, من الهجين2. وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها: لك الحمد والمن رب العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 380. 2 المرجع نفسه 5/ 393.

هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا: محمد أرسله بالهدى ... فعاش غنيا ولم يهتضم ثم الأبيات الآتية فيها: أطيعوا الرسول عباد الإلـ ... ـه تنجون من شر يوم ألم تنجون من ظلمات العذاب ... ومن حر نار على من ظلم دعانا النبي به خاتم ... فمن لم يجبه أسر الندم نبي هدي صادق طيب ... رحيم رءوف بوصل الرحم يموت كما مات من قد مضى ... يرد إلى الله باري النسم اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول: إنه كان شاعرا مغاضبا للرسول، وإن صاحبه رثى كفار قريش، وإنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا. فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، وهو واعظ ومبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: "آمن شعره وكفر قلبه" , وأنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول. ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول1.

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 390-392.

7- معتقدات الحجازيين: ولم يبق بعد ذلك إلا أن نتحدث عن معتقداتهم الخرافية أو أوهامهم, وهي في جوهرها معتقدات العرب عامة وأوهامها. وسنشير إلى أمثلة منها دون محاولة الاستقصاء: الغول: في الميثولوجيا العربية يبدو للباحث كثرة الحديث عن الجن، ومن أصناف الجن عندهم السعالي والغيلان، ويطلق القول على "كل شيء من الجن يعرض للسفار ويتلوّن في ضروب الصور والثياب ذكرا كان أو أنثى، إلا أن الأكثر على أنه أنثى, والسعلاة اسم الواحدة من نساء الجن تتغول لتفتن السفار. قالوا: وإنما هذا منها على العبث، أو لعلها تفزع إنسانا فيتغير عقله". وزعموا أن خلق الغول كالإنسان، ولكن رجليها رجلا حمار. ولا يزال أهل مكة يتحدثون عن "الدجيرة" وهي في سماتها كالغول؛ فرجلاها رجلا حمار إلا أن وجهها وجه امرأة. وهي لا تسير إلا ليلا، وإذا سارت تنطلق من خطواتها وسوسة الخلاخيل، وربما حملت على ذراعيها طفلا ملفوفا, فإذا ما قابلها رجل في الطريق أظهرت أنها تنوء بحمل ذلك الطفل, ثم تستنجد بالرجل فيحمله عنها ويسيران، ورويدا رويدا يشعر الرجل أن الطفل يكبر حجمه ويطول ... ويطول ... فيخاف ... ويرتعد ... وربما أغمي عليه أو عراه الجنون، وربما قذف بالطفل وفر هاربا بين قهقهات "الدجيرة" وسخريتها. وكان الحجازيون -كالعرب- يزعمون أن الغول تموت بضربة واحدة، وإذا ضربت ضربة أخرى قبل أن تموت فلا تموت. وفي هذا يصف تأبط شرا معركة بينه وبين الغول: ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها: كلانا نضو أرض ... أخو سفر، فخلي لي مكاني فشدت شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمصقول يماني فأضربها بلا دهش، فخرت ... صريعا لليدين وللجران فقالت ثن قلت لها: رويدا ... مكانك إنني ثبت الجنان ولم أنفك مضطجعا لديها ... لأنظر مصبحا ماذا دهاني إذا عينان في رأس دقيق ... كرأس الهر مشقوق اللسان وساق مخدج ولسان كلب ... وثوب من عباء أو شنان1 وتنسب إلى تأبط شرا أبيات أخر وصف فيها لقاءه بالغول وأنه عن نفسها وطلبها بضعها، فلما أبت جللها بسيفه الصارم: فأصبحت الغول لي جارة ... فيا جارتا لك ما أهولا فطالبتها بضعها فالتوت ... فكان من الرأي أن تقتلا فجللتها مرهفا صارما ... أبان المرافق والمفصلا التطير: شاع في العرب زجر الطير والوحش وإثارتها. قال ابن دريد: أهل نجد كانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح, وأهل العالية على عكسهم. وقال أبو جعفر النحاس: السانح عند أهل الحجاز ما أتى من اليمين إلى اليسار، والبارح عندهم ما أتى من اليسار إلى اليمين, وهم يتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح، وأهل نجد بالضد من ذلك، والسانح عند أهل نجد هو البارح عند أهل الحجاز2.

_ 1 بلوغ الأرب 2/ 342. الصحصحان: المكان المستوي. وجران البعير: مقدمة عنقه. المخدج: الناقص. الشنان: جمع شن وهو القربة الخلقة. 2 العمدة 2/ 203، والأغاني 9/ 157 ساسي.

وليس في الأرض شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، ولعل ذلك راجع إلى لونه وإلى عمله أو اسمه الذي اشتقت منه الغرابة والاغتراب والغريب. ومن الشعراء الحجازيين الذين تشاءموا بنعيق الغراب زهير بن أبي سلمى, حيث توجّس أن يرتحل عنه الأحبة: ألقى فراقهم في المقلتين قذى أمسى بذاك غراب البين قد نعقا وكذلك فعل النابغة: زعم العواذل أن رحلتنا غدا وبذاك تنعاب الغراب الأسود1 على أن بعض الشعراء اطرحوا التطير جانبا ومضوا لسبيلهم فظفروا وغنموا. روي أن النابغة خرج هو وزبان بن منظور الفزاري للغزو، فسقطت جرادة على النابغة فتطير وعاد، وأما زبان فمضى فظفر وغنم، فقال: تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهي الثبور بلى! شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير شيطان الشعر: وكانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا يلهمه الشعر، قال حسان في جاهليته يعزو إلى شيطانه أنه قائل بعض شعره: إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما إن يقال له: من هوه إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه ولي صاحب من بني الشيصبان ... فطورا أقول، وطورا هوه العقر على القبور: وكانوا يعقرون على قبر الميت؛ إعظاما له، وتكريما وإعلانا عن فضله، وقيل: لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت، فكأنهم يثأرون لهم منها، أو لأن الإبل أنفس أموالهم، فكانوا يريدون بعقرها أنها قد هانت عليهم لعظم المصيبة.

_ 1 الأغاني 9/ 157 ساسي.

وقد مر حسان بن ثابت, أو غيره على قبر ربيعة بن مكدم الفارس الحجازي الجهير, فقال: نفرت قلوصي عن حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه، فإنه ... شريب خمر، مسعر لحروب لولا السفار وبعد خرق مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب الهامة والصدى: وهذه خرافة مبعثها ولوعهم بالثأر، وأي تحريض على الثأر أقوى من زعمهم أن القتيل الذي لم يؤخذ بثأره يخرج من هامته طائر يسمى الهامة، فلا يزال يقول: اسقوني اسقوني، حتى يقتل قاتله فيسكن! يقول المسعودي: "إن من العرب من يزعم أن النفس طائر ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشا يصدح على قبره، ويزعمون أن هذا الطائر يكون صغيرا، ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم، وهو أبدا مستوحش، ويسكن في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وأنها لم تزل عند ولد الميت لتعلم ما يكون بعده، فتخبره به"1. قال شداد بن الأسود بن عبد شمس في رثاء كفار قريش يوم بدر: يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام وقال ذو الإصبع العدواني, مهددا ابن عمه المبغض له: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني أما الصدى فمن معانيه أنه طائر يخرج من رأس القتيل إذا بلي، كما يزعم العرب، ويظهر أنهم أطلقوه على غير القتيل فيما بعد.

_ 1 الأمالي 1/ 129، ومروج الذهب 1/ 251, والحياة العربية من الشعر الجاهلي 339, 400.

تعليق الحلي على اللديغ: وكانوا يجعلون الحلي في يد الملدوغ, ويحركونها لئلا ينام فيدب فيه السم، وقيل لبعض الأعراب: أتريدون أن يسهر؟ فقال: إن الحلي لا تسهر، ولكنها سنة وثناها. أو لأنهم زعموا أن حلي الذهب تبرئه، وحلى الرصاص أو الرصاص يميته. وقال بعض بني عذرة, يشبه أثر اللوعة في نفسه بالسليم المحلى: كأني سليم ناله كلم حية ... ترى حوله حلي النساء موضعا وقال النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع تسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع كي السليم ليصح الأجرب: ومن عجيب أوهامهم كي السليم ليصح الأجرب؛ فقد كانوا كما قال الجاحظ: إذا أصاب إبلهم العر كووا السليم ليدفعه عن السقيم, فأسقموا الصحيح من غير أن يبرئوا السقيم1. قال النابغة يشبه ما وقع عليه من ظلم بهذا الفعل الجائر: وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع والراجح أن هذا مثل لا حقيقة، أو أنهم كانوا يكوون الصحيح لئلا يتعلق به الداء. ضرب الثور لتشرب البقر: وكانوا إذا عافت البقر الشرب لعدم العطش أو كدر الماء, يضربون الثور حتى يرد الماء, فتتبعه البقر فتشرب. وعجب النابغة من أن يعاقب على ذنب لم يرتكبه,

_ 1 الحيوان للجاحظ 1/ 17 طبعة هارون.

مشبها حاله بحال الثور المجني عليه، يضرب لأن البقر لا ترد الماء: أتترك معشرا قتلوا هذيلا ... وتعقبني بما فعلت جذام كذلك يضرب الثور المعنى ... إذا ما عافت البقر الحيام الاستمطار بالأبقار المحروقة: كان الحجازيون -كالعرب- إذا أصابهم الجدب طلبوا السقيا واستمطروا بالأبقار, يصعدون بها في جبل وعر ثم يربطون السلع والعشر بأذنابها، ثم يضرمون فيها النار ويضجون بالدعاء. وقد سجل أمية بن أبي الصلت خرافة السقيا بالأبقار المحروقة, فقال: سنة أزمة تخيل بالناس ... ترى العضاه فيها صريرا إذ يسقون بالدقيق وكانوا ... قبل لا يأكل شيئا فطيرا ويسوقون باقر السهل للطود ... مهازيل خشية أن يبورا عاقدين النيران في شكر الأذناب ... عهدا كيما تهيج البحورا فاشتوت كلها فهاج عليهم ... ثم هاجت إلى صبير صبيرا فرآها الإله ترشم بالقطر ... وأمسى جنابهم ممطورا فسقاها نشاطه واكف النبت ... منه إذا وادعوه الكبيرا سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا1 وقيل في تعليل ذلك: "إنهم كانوا يتفاءلون بالنار طلبا للبرق، أو إنهم كانوا يحاكون عبادة قديمة تقرب الأبقار قربانا للآلهة".

_ 1 تخيل بالناس: تفزعهم. العضاه: جمع عضاهة, أعظم الشجر أو الخمط أو كل ذي شوك. باقر وبيقور: البقر. شكر الأذناب: جمع شكير, الشعر في الذيل. الصبير: السحابة البيضاء أو الكثيفة. منه، بالغ الغاية. عائل: مثقل أو كافٍ ونافع, عال: أثقل. ويروى غال بمعنى أهلك.

الفصل الخامس: الشعر الغزلي

الفصل الخامس: الشعر الغزلي معنى الغزل: إذا رجعنا إلى أمهات كتب اللغة وجدنا أن الغزل والنسيب والتشبيب كلمات مترادفات. فابن سيده يقول: إن الغزل تحديث الفتيان الجواري، والتغزل: تكلف ذلك, والنسيب: التغزل بهن في الشعر، والتشبيب مثله. وابن منظور يقول: إن الغزل حديث الفتيان والفتيات واللهو مع النساء. ومغازلتهن: محادثتهن ومراودتهن. والتغزل: التكلف لذلك. ونسب النساء ينسب نسبا ونسيبا ومنسبة: شبب بهن في الشعر وتغزل. وشبب بالمرأة: قال فيها الغزل والنسيب. وهو يشبب بها أي: ينسب بها. ويقول الزبيدي مثل ذلك1. هذا هو رأي طائفة من أكبر علماء اللغة, فما رأي الأدباء ومؤرخي الأدب قديما وحديثا؟ يرى ابن سلام -وهو في طليعة الباحثين في الأدب- أن الكلمات الثلاث متحدة المعنى, فهو يقول: "كان لكثير في التشبيب نصيب وافر وجميل مقدم عليه في النسيب". فالنسيب والتشبيب في هذه العبارة مترادفان. ومرة أخرى يقول: "وكان عمر يصرح بالغزل ولا يهجو ولا يمدح, وكان عبيد الله يشبب ولا يصرح، ولم يكن له معقود شعر وغزل كغزل عمر"2. فالغزل والتشبيب هنا بمعنى واحد، ويستخلص من ذلك أن الغزل والنسيب والتشبيب في رأي ابن سلام كلمات مترادفات

_ 1 المخصص 4/ 54, 55، ولسان العرب وتاج العروس, مادة شبب ونسب وغزل. 2 طبقات فحول الشعراء، تحقيق شاكر ص461، 530.

واستعمل صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الغزل دالا على النسيب في مواضع شتى من كتابه، وكذلك استعمل الجاحظ الغزل والتشبيب بمعنى واحد. ويرى ابن رشيق أن التغزل والنسيب والتشبيب كلها بمعنى واحد, وأن الغزل إلف النساء والتخلق بما يوافقهن، وقد اقتفى أثر قدامة في أن الغزل غير التغزل. إلا أن الدكتور الحوفي لا يميل إلى التفرقة بين الغزل والتغزل؛ لأن التغزل ليس تكلف الغزل كما قد يتبادر، ذلك أن التاء هنا كالتاء في مصادر أخرى مثل: التقدم والترقي والتعلم. وقد حاول بعض القدماء أن يفرقوا بين هذه الكلمات, ومن هؤلاء التبريزي الذي يرى "أن النسيب ذكر الشاعر المرأة بالحسن والإخبار عن تصرف هواها به، وليس هو الغزل. وإنما الغزل الاشتهار بمودات النساء والصبوة إليهن, والنسيب ذكر ذلك"1. وهذا الرأي مخالف لآراء الأدباء واللغويين من قبل. أما في العصر الحاضر, فقد حاول المرحوم محمد هاشم عطية أن يصنع شيئا يشبه أن يكون تحديدا لهذه الكلمات, فقال: "ويترجح عندنا أن الغزل هو الاشتهار بمودات النساء وتتبعهن والحديث إليهن والعبث بذلك في الكلام, وإن لم يتعلق القائل منهن بهوى أو صبابة. وأما التشبيب فهو ما يقصد إليه الشاعر من ذكر المرأة في مطالع الكلام وما يضاف إلى ذلك من ذكر الرسوم ومساءلة الأطلال؛ توخيا لتعليق القلوب وتعقيدا لأسماع قبل المفاجأة بالعرض من الكلام. وأما النسيب فهو أثر الحب وتبريح الصبابة فيما يبثه الشاعر من الشكوى وما يصفه من التجني, وما يعرض له من ذكر محاسن النساء"2. ويتفق معه الأستاذ السباعي بيومي في أن التشبيب هو الغزل التمهيدي, ويختلف معه في غير ذلك. فوصف جمال المرأة ومحاسنها وجاذبيتها نسيب عند الأستاذ هاشم وغزل عند الأستاذ السباعي.

_ 1 شرح ديوان الحماسة 3/ 112. 2 الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي ص107.

واستعمل طه حسين كلمة الغزل دالة على الأنواع كلها. وكذلك فعل الدكتور الحوفي في رسالته للماجستير عن "الغزل في الشعر الجاهلي"، وهي في رأيه أخف نطقا وأكثر شيوعا، كما أن عدم التفرقة هو رأي اللغويين والأدباء من القدماء. فينوس الحجازيين: يغرم الحجازيون بالمرأة الجميلة، ومقياس الجمال عندهم يتوفر في المرأة: الكحلاء، العيناء، الزجاء، البلجاء، مع بياض في البشرة, واستقامة في الأنف، وأشر في الأسنان, وسمرة في الشفتين, وطول في العنق, وغيد في الأعطاف. وتكون سوداء الشعر, بيضاء النحر، دقيقة الخصر، طويلة, ملتفة الساقين والساعدين، تهتم بما يكمل هذه الأوصاف الجسدية من طيب وخضاب وملبس ملائم دون تكلف. وكما نرى معاهد التجميل تنتشر في أنحاء العالم، كذلك كانت عند الحجازيين -مثل غيرهم من العرب- صانعات الجمال، وهن النساء اللواتي يتعاهدن العرائس ويجملنهن، وقد تنجح صانعة الجمال إلى درجة أن تجعل القبيحة جميلة مؤقتا؛ ولذلك أبطل الإسلام هذه العادة وحظر العمل بها لأنها خديعة. ومن أنواع الجمال المصنوع التنميص والتزجيج والتفليج والتلمية والوشر والوشم والوصل ... فأما التنميص فنزع ما بين الحاجبين من شعر حتى يصيرا كأنهما أبلجان، والتزجيج حف الحاجبين وإطالتهما بالأثمد, والتفليج تفريق ما بين الثنايا والرباعيات، والتلمية خضاب الشفة واللثة بأثمد, والوشر تحزيز الأسنان وتحديدها لتحكي الأشر؛ لأنها من صفات الشابات، والوشم معروف وأكثر ما يكون بالذراع والشفة واللثة، والوصل إطالة الشعر بشعر معار1. ولدينا قصيدة لقيس بن الخطيم, يصور فيها جمال المرأة الحجازية كما يريدها

_ 1 الغزل في العصر الجاهلي 114.

هو؛ فهي مزيج من الفضائل المادية والمعنوية. فهي مرحة مدلّلة, لا هي بالطويلة ولا بالقصيرة, لا سمنة فيها ولا نحافة إلا خصرها فهو نحيف يكاد ينقصف, ووجهها مشرق كالدرة التي أخرجت من الصدفة, فيها حور العين وجيد العنق, تكاد تضيء, نئوم الضحى تنام عن شئونها, فإذا قامت إليها, فإنما تقوم رويدا كأنما تخشى أن تقع: رد الخليط الجمال فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وقفوا فيهم لعوب العشاء آنسة الد ... ل عروب يسوءها الخلف بين شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جبلة ولا قضف تفوق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف قضى الإله حين صورها الـ ... ـخالق ألا يكنها سدف تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف حوراء جيداء يستضاء بها ... كأنها خطوط بانة قصف تمشي كمشي الزهراء في دمث الر ... مل إلى السهل دونه الجرف كأن لباتها تضمنها ... هزلى جراد أجوازه خلف كأنها درة أحاط بها الـ ... ـغواص يجلو عن وجهها صدف1 وهذا سلامة بن جندل يجمع عدة أوصاف لحبيبته في بيت واحد؛ فهو يذكر امتلاء أردافها وطولها وبياض بشرتها, مما تتميز به المرأة الحرة عن الأمة: ليست من الزول أردافا إذا انصرفت ... ولا القصار ولا السود العناكيب2

_ 1 الأصمعيات 1/ 45، الأغاني 3/ 22. جبلة: غليظة. قضف: نحافة. تنغرف: تنقطف من خصرها. قصف: لين. الزهراء: البقرة الوحشية. دمث: لين. جرف: جمع جرف وهو ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض. خلف: جمع خليف وهو السهم الحديد، الطرير. أجوازه: أواسطه. يجلو: يعلو. 2 ديوان سلامة بن جندل 26.

والنابغة ينسب إلى حبيبته صفات المرأة الحرة بنفي صفات الإماء عنها؛ فهي ليست من السود ولا تبيع قدور النحاس في المجتمعات: ليست من السود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما1 والمزرد بن ضرار يقول عن المرأة الجميلة في نظره: إنها بيضاء، تميل إلى اللهو وإلى الغزل: وبيضاء فيها للمحالم صبوة ... وفيها لمن يرنو إلى اللهو شاغل2 وكما وصفوا بالبياض, نجدهم أحيانا يصفون بالصفرة كما نجد عند قيس بن الخطيم: صفراء أعجلها الشباب لداتها ... موسومة بالحسن غير قطوب3 والنابغة يرى من جمال حبيبته أن تكون صفراء, كثوب من حرير: صفراء كالسيراء أكمل خلقها ... كالغصن في غلوائه المتأود4 ومفهوم أن مرادهم من وصف المرأة بالصفرة الغزل والتشبيب والابتهاج لمرأى هذه الصفرة, وإذًا فلا بد أن تكون الصفرة المحمودة هي التي تنشأ عن كسل المرأة وحسن التغذية. وهذا هو فهم من التغزل بالبياض أيضا، فليسوا يحمدون البياض الناشئ عن مرض وإنما هو بياض الصحة والشباب, كما نرى عند حسان إذ يصف بياض المرأة بالبرد: يحملن حوا حور المدامع في الريـ ... ـط وبيض الوجوه كالبرد5 وقيس بن الخطيم يصف حبيبته ببياض الأسنان, وقلة لحم اللثة: تنكل عن حمش اللثات كأنه ... برد جلته الشمس في شؤبوب6 ويصفون النهد بالبروز وطغيانه على الصدر, كما نرى عند النابغة: والبطن ذو عكن لطيف طيه ... والنحر تنفجه بثدي مقعد7

_ 1 ديوان النابغة 65. 2 المفضليات 1/ 92. 3 ديوانه. 4 ديوان النابغة 28. 5 ديوان حسان 13. 6 ديوانه 6. 7 ديوانه 28.

وإذا وصفوا الشعر فتنوا بسواده وغزارته، والنابغة يشبهه فوق ذلك بعناقيد العنب الثقيلة: وبفاحم رجل أثيث نبته ... كالكرم مال مع الدعام المسند1 وإذا وصفوا الساق شبهوه في التفافه واندماجه بالبردي، وقد وصفه بذلك شاعران واتفقا في التعبير. قال قيس بن الخطيم: تخطو على ديتين غذاهما ... غدق بساحة حائر يعبوب2 وقال المزرد بن ضرار: وتخطو على ديتين غذاهما ... نمير المياه والعيون الغلاغل3 ولصوت الحبيبة على الشاعر الحجازي تأثير كبير؛ ولهذا فإن قيس بن الخطيم لا يمل حديثها ويفزع إذا سكنت؛ لأن حديثها عذب شهي لا ينبغي أن ينقطع: ولا يغث الحديث ما نطقت ... وهو بفيها ذو لذة طرف تخزنه وهو مشتهى حسن ... وهو إذا ما تكلمت أنف4 ومما يفتن الشاعر الحجازي ويخلب لبه ابتسامة الحبيبة, فالنابغة يرى في ضحكتها قوة فعالة ستنزل العصم من الجبال والغيث من المزن: وإن ضحكت للعصم ظلت دوانيا ... إليها وإن تبتسم إلى المزن يبرق5 والشاعر الحجازي تعجبه المرأة العفيفة التي تضنّ بوصلها, وتحافظ على شرف أسرتها وسمعة أقاربها، فقيس بن الحدادية يشهد الله أن نعمى حبيبته ضلت بوصله, على أنهما تجاورا شهورا عديدة: أجدك أن نعم نأت أنت جازع ... قد اقتربت لو أن ذلك نافع قد اقتربت لو أن في قرب دارها ... نوالا ولكن كل من ضن مانع وقد جاورتنا في شهور كثيرة ... فما نولت والله راءٍ وسامع6 والمرأة العفيفة حيية, وهذا الحياء يعجب الشاعر الحجازي، فهو يريد المرأة

_ 1 ديوان النابغة 31. 2 ديوانه. 3 المفضليات 1/ 92. 4 ديوانه 17. 5 ديوان النابغة 29. 6 الأغاني 13/ 6.

التي تحافظ على قناعها, ولا تتلفت ولا ترفع بصرها كما يقول الشنفرى: لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت كأن لها في الأرض نسيا تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت1 وقيس بن الأسلت يشيد بالمرأة التي تستحوذ على تقدير جاراتها, فيمنعها حياؤها من زيارتهن ويجئن لزيارتها: وتكرما جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر وليس بها أن تستهين بجارة ... ولكنها منهن تحيا وتخفر2 ويشيد النابغة بأنها لا تذيع أسرارها الداخلية بين صديقاتها, فهي لا تنشر أخبار غضبها إن غضبت, ولا أسباب سرورها إن رضيت: إذا غضبت لم يشعر الحي أنها ... أرببت وإن نالت رضا لم تدهدق2 والشاعر يعذر المرأة إذا انصرفت عنه لكبر سنه، بل ويعتب على نفسه أن يستميل النساء بعدما شاخ، فالنابغة يستنكر على نفسه الحب بعد شيب قذاله ومفرقه: علقت بذكر المالكية بعدما ... علاك مشيب في قذال ومفرق4 وفي موضع آخر يكرر هذا العتاب: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع5 وحسان بن ثابت يعجب من تطلعه إلى التصابي بعد التجربة, وبعد الشيب الذي كسا مفرقه: وكيف لا ينسى التصابي بعدما ... تجاوز رأس الأربعين وجربا وقد بان ما يأتي من الأمر واكتست ... مفارقه لونا من الشيب مغربا6

_ 1 الأغاني 21/ 91. 2 الأغاني 15/ 195. 3 ديوان النابغة 39. الدهدقة: الضحك الشديد. 4 ديوانه 39. 5 ديوان النابغة 49. 6 ديوان حسان 12.

أنواع الغزل: نعرف أن الشعر الغزلي يصدر إما عن عاطفة الحب والغرام، وإما أن ينبعث بدافع الشهوة والسعي وراء الغريزة، وإما أن يكون غزلا عفويا كالذي يجيء في أوائل القصائد العربية في الجاهلية والإسلام نوعا ما، وهذا الغزل لا يصدر في أغلب أحواله عن عاطفة وإنما سبيله سبيل ما سنراه عند الشعراء الحجازيين من الغزل الكيدي الذي يتخذه الشاعر وسيلة للنيل من خصمه بذكر محارمه في شعره، فالغزل هنا وسيلة لا غاية, والشعر الذي ينبثق غزله من العاطفة هو الغزل العذري والغزل المادي. الغزل العذري: أما الحب العذري فهو الحب الذي لا يدنسه الحبيبان بالشهوة ولا تحوم فوقهما طيور المادية، وقد نسب هذا الحب إلى بني عذرة؛ لأن الحب كان يفتك بهم, وكانوا يستعذبون آلام الحب ويستزيدون أحباءهم منها. وهناك اختلاف في نشأة هذا النوع من الغزل؛ فالدكتور طه حسين يراه وليد السياسة الأموية والمستشرق ماسينيون يراه أثرا من آثار أفلاطون في الشعر العربي، ولكن الدكتور الحوفي يؤكد أنه نشأ في العصر الجاهلي1, وأورد على ذلك شواهد هي قصائد مستقلة للحب الخالص لا شيء فيها سوى الغزل؛ منها لقيس بن الحدادية قصيدة غزلية في أربعة وأربعين بيتا, وأخرى لحسان في سبعة عشر بيتا, وهذه القصائد أثر الغزل المادي فيها ضئيل، فنحن نرى للنابغة قصيدة من هذا النوع يتغزل بحبيبته نعم، ويتشوق إلى عهدهما الماضي يوم كانا معا يتناجيان والزمان غافل عنهما, فيتبادلان الأسرار المكتومة والحب الصافي ... وينتقل إلى المرحلة التالية حيث هجرته نعم, فإذا هو يدعو قلبه للإفاقة من سكرة الحب ولكن أنى له ذلك, فقد عذر حبيبته وبكى رحيلها:

_ 1 الغزل في العصر الجاهلي 159.

وقد أراني ونعما لابثين معا ... والدهر والعيش لم يهمم بإمرار أيام تخبرني نعم وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري لولا حبائل من نعم علقت بها ... لأقصر القلب عنها أي إقصار فإن أفاق فقد طالت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار نبئت نعما على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري رأيت نعما وأصحابي على عجل ... والعيس للبين قد شدت بأكوار فريع قلبي وكانت نظرة عرضت ... حينا وتوفيق أقدار لأقدار1 والعذريون الحجازيون يصورون عواطفهم وعواطف أحبائهم في أسلوب شبه قصصي كما يفعل شعراء الغزل المادي، فقيس بن الحدادية يورد ما يجيش به خاطره وما تبثه حبيبته في حوار؛ فهو يسألها: متى ترجع؟ فتجيبه بأن البعد لن يقطع ما بينهما من عهد ومودة, وراحت تشكو إليه ما تلقاه من الوشاة الذين يبثون عن حبهما الإشاعات المؤلمة؛ فيعزيها عن ذلك وينصحها بالصبر والكتمان. فتقول: إن السر لن يتسرب منها؛ لأنه دون حجاب ودون الحجاب الأضالع أيضا ... وحين يأتي المنادي بالرحيل يهرع إليها ويخاطر بحياته ليراها ويودعها، فتبثه خوفها عليه وتتعجب من جرأته: وقلت لها في السر بيني وبينها ... على عجل أيان من سار راجع فقالت لقاء بعد حول وحجة ... وشحط النوى لا لذي العهد قاطع وقد يلتقي بعد الشتات أولو النوى ... ويسترجع الحي السحاب اللوامع سعى بينهم واشٍ بأفلاق برمة ... ليفجع بالإظعان من هو جازع بكت من حديث بثّه وأشاعه ... ورصعه واشٍ من القوم راصع بكت عين من أبكاك لايعرف البكا ... ولا تتخالجك الأمور النوازع فلا يسمعن سري وسرك ثالث ... ألا كل سر جاوز اثنين شائع وكيف يشيع السر مني ودونه ... حجاب ومن دون الحجاب الأضالع وما راعني إلا المنادي: ألا اظعنوا ... ولا الرواعي غدوة والقعاقع

_ 1 ديوان النابغة 38.

فجئت كأني مستضيف وسائل ... لأخبرها كل الذي أنا صانع فقالت تزحزح ما بنا كبر حاجة ... إليك ولا منا لفقرك راقع فما زلت تحت الستر حتى كأنني ... من الحر ذو طمرين في البحر كارع فهزت إلي الراس مني تعجبا ... وعضض مما قد فعلت الأصابع ومن العذريين الحجازيين الذين قضوا حياتهم يترنمون بحبيبة واحدة, مسافر بن عمرو الذي قضى عليه الحب, فإنه كان يحب هندا بنت عتبة وهي تبادله الحب أيضا, ولكن أبا سفيان تزوجها وأخبر المسافر بذلك وهما في الحيرة عند النعمان؛ فاعتلّ علة شديدة وقال: ألا إن هندا أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوسا وأسهما وحاول أطباء الملك علاجه ولكنهم عجزوا، ومات مسافر في طريقه إلى مكة2. الغزل المادي: وهو الغزل الحسي الذي أساسه حب تمتزج به ميول شهوانية وعواطف خالية من التحرج وأوصاف ربما لا يرضى عنها إلا أنصار الأدب المكشوف3. والظاهر أنه نشأ في البيئة الحجازية من تأثير الإماء اللواتي كن لا يتحرزن ولا يبالغن في العفة, وكن يأتين إلى الحجاز من طرق شتى، ويكفي أن نعرف أن جوائز الملوك للشعراء تكون من الإماء بعض الأحيان. قال النابغة يمدح النعمان بأنه يبذل الإماء المنعمات في هباته جنبا إلى جنب مع الإبل الغلاظ الشداد: الواهب المائة المعكاء زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد والراكضات ذيول الريط فانقها ... برد الهواجر كالغزلان بالجرد4

_ 1 الأغاني 13/ 6. 2 الأغاني 8/ 46. 3 الأصول الفنية للأدب, عبد الحميد حسن 74. 4 ديوان النابغة 21.

وكان بعضهن يكرهن على البغاء في الحجاز, فلما شكت جارية عبد الله بن أبي إلى الرسول أنه يجبرها على البغاء, نزل تحريم ذلك في القرآن1، ولا ينبغي أن نفهم أن تردد الرجال على بيوت البغاء يعطي النساء نفس الحق في الحجاز, فإن ذلك كان مما تأباه نفس الحرة الأبية, وقد رأينا شيئا من هذا عند هند بنت عتبة حينما استنكرت أن يعاهد نساء قريش ألا يزنين, وقالت: "وهل تزني الحرة يا رسول الله؟ "2 والقرآن عبر بالفتيات وهن الإماء في النهي عن إكراه الإماء على البغي: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} . والمرأة الحجازية تنفر من هذا النوع من الإماء ولا تقبل حتى مجرد المشاركة في الاسم, فقد غضبت زوجة عمر بن الخطاب حينما حول اسمها من عاصية إلى جميلة؛ لأنه اسم أمة3. وسحيم عند بني الحسحاس -الذي فتح باب الغزل المادي على مصراعيه- لم يكن عربيا, مما يدل على أن نشأة هذا الغزل المادي كانت أجنبية عن العرب, فهو عبد أسود نوبي اشتراه عبد الله بن أبي ربيعة وعرضه على عثمان, فرده واشتراه بنو الحسحاس ... وتأثر خطاه عمر بن أبي ربيعة وإن لم يفحش مثله ... فسحيم يتمادى في التصوير ويبرز التجربة كما هي دون تحوير، فهي توسده كفها وتدغدغه بالآخر, وتثني رجلها من ورائه وسوف يشهد أنه رآها ويديها ورجليها كلها من ورائه: توسدني كفا وتثني بمعصم ... علي وتحوي رجلها من ورائيا فما زال بردي طيبا من ردائها ... إلى الحول حتى أنهج البرد باليا4 وأشهد عند الله أن قد رأيتها ... وعشرين منها إصبعا من ورائيا ولم يتركه فحشه وبذاؤه حتى ساعة قتله، ففي طريقه إلى الموت شمتت به إحدى صويحباته, فذكرها بماضيها معه:

_ 1 تفسير الطبري 18/ 103. 2 الإصابة 8/ 295. 3 الإصابة 8/ 40. 4 ديوان سحيم 19.

فإن تضحكي مني فيا رب ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرج1 ولما حان قتله, لم ينس أن يعيد إلى ذكراه الحي أفاعيله مع بنتهم: شدوا وثاق العبد لا يفلتكم ... إن الحياة من الممات قريب فلقد تحدر من جبين فتاتكم ... عرق على متن الفراش رطيب2 وشعر الغزل المادي يصف جرأة الشاعر في وصوله إلى حبيبته رغم حذر أهلها ورقابتهم, ويسكن من روع المرأة إن شعرت بالخوف. فهذا سحيم يخرجها من خدر أمها ويلاعبها في الخلاء, بدليل أن المسك يتفتت من عليها فيلتقطه: ومثلك قد أبرزت من خدر أمها ... إلى مجلس تجر بردا مسهما فنفضت ثوبيها ونظرت حولها ... ولم أخش هذا الليل أن يتصرما أعفي بآثار الثياب مبيتها ... وألقط رضا من وقوف تحطما3 وقد يحدث العكس؛ فتسعى المرأة إلى الرجل وتجتهد في رؤيته، فسحيم نفسه يذكر أنه اجتمع عنده ثماني نسوة يعدنه وهن سبب دائه: تجمعن من شتى ثلاثا وأربعا ... وواحدة حتى كملن ثمانيا وأقبلن من أقصى الخيام يعدنني ... بقية ما أبقين نصلا يمانيا يعدن مريضا هن قد هجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا4 الغزل التمهيدي: ونأتي أخيرا إلى الشعر التمهيدي الذي قلنا: إنه لا يصدر عن عاطفة الحب ولا يدفع الشهوة, وإنما هو وسيلة لجذب الانتباه وتهيئة الجو للشاعر كي ينفذ إلى القلوب لينال ما يريد. ومن الغريب أن هذا الغزل فرض سلطانه على جميع أغراض الشعر, فالشاعر الحجازي قدم الغزل حتى في قصائد الرثاء, فهذا دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله فيمهد لذلك بالتساؤل عن عهد حبيبته, وهل لا تزال هي متمسكة بهذا العهد أم أنها قد تحولت إلى سواه؟ فقد افترقا دون أن تنوله شيئا. وبعد ذلك ينتقل إلى موضوع الرثاء:

_ 1 ديوان سحيم 60. 2 المفضليات 1/ 81. 3 ديوان سحيم 35. 4 ديوان سحيم 23.

أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعاقبة أم أخلفت كل موعد وبانت ولم أحمد إليها نوالها ... ولم ترج فينا ردة اليوم أو غد أعاذل إن الرزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد1 وحسان بن ثابت حين رثى حمزة, قدم لهذا الرثاء بأبيات من الغزل يبكي فيها الأطلال ويسائلها عن سكانها، فلم تحر الأطلال جوابا فتركها واتجه إلى موضوعه وهو الرثاء: أتعرف الدار عفا رسمها ... بعدك صواب المسبل الهاطل سألتها عن ذاك فاستعجمت ... لم تدر ما مرجوعة السائل دع عنك دارا قد عفا رسمها ... وابك على حمزة ذي النائل2 ولدينا غير هاتين القصيدتين أيضا رثاء النابغة للنعمان بن الحارث، ومراثي المهلهل في أخيه والحارث بن عباد في ابنه وعريقة بن مسامع العبسي في أخيه مما يناقض ما قاله ابن الكلبي من أنه لا يعلم إلا قصيدة واحدة في الرثاء قدم لها بغزل, هي قصيدة دريد في رثاء أخيه3. وما دام الغزل التمهيدي قد تسرب إلى الرثاء فليس بغريب بعد ذلك أن نجده في كافة أغراض الشعر, ومن بينها الفخر الذي ينبغي أن يعمد إليه الشاعر قبل كل شيء, ولكنها التقاليد الشعرية اضطرت شعراءنا إلى غير ذلك, ونجدها متحكمة في الهجاء أيضا, وبعد أن يقضي الشاعر أربه من الغزل ينتقل إلى موضوعه مباشرة وقد يعرج على موضوع آخر غير ذلك مثل وصف الناقة, ويعلل الأستاذ جب ذلك "بأن الخلق الفني لدى العرب سلسلة من بواعث منفصلة, وكل منها تام ومستقل بنفسه, لا تربط بينها غاية أو انسجام أو اتفاق، اللهم إلا وحدة العقل الفردي الذي أبدعها". وهو يقول: "إن القصيدة العربية تتألف من سلسلة من الصور تعرض جوانب متعددة من الحياة العربية جرت العادة بترتيبها وترابطها، فالشاعر في أول قصيدته

_ 1 الأصمعيات 1/ 23. 2 سيرة ابن هشام 3/ 132. 3 العمدة 2/ 121.

يتحدث على ظهر جمله مع صاحب أو اثنين, وينطلق إلى منزل الحي الذي رحلوا عنه, فيقف على الطلل ويتذكر ماضيه فيه ويصف ما كان بينه وبين حبيبته ... وبعد ذلك يصف بدقة جمله أو حصانه الذي يشبه الحمار الوحشي في سرعته، وحينئذ يصف هذا الحيوان وطريقة صيده ثم يدخل إلى الموضوع, وهكذا سهل الأمر على المصنفين بعد ذلك, فجعلوا كل جزء وحدة قائمة بذاتها1 ... ومن هذا النص للعلامة جب نرى كيف يفهم المستشرقون ترابط أجزاء القصيدة العربية. الغزل الكيدي: وإذا قد انتهينا من أنواع الغزل الثلاثة نصل إلى موضوع هام بالنسبة إلى الشعراء الحجازيين؛ ذلك هو الغزل الكيدي الذي يخالف كل ما سبق من الأنواع الغزلية, فليس بالعذري ولا المادي ولا التمهيدي، وإنما هو نوع آخر غير ذلك يراد به تحقير الخصم وامتهان كرامته وتجريحه. وأكثر ما يحدث ذلك بين الشعراء أنفسهم؛ إذ يحاول كل منهم أن يكسب المعركة بأي سلاح, حتى ولو كان التشهير بالخصم في التغزل بقريباته وتدوين أسمائهن لتلوكها الألسن بعد ذلك. وقد لَجَّ الهجاء بين قيس بن الخطيم وعبد الله بن رواحة؛ فتغزل الأول بعمرة أخت عبد الله ولكن غزله كان عفيفا، فعمرة محجبة محتشمة لا تُرَى إلا وقت الحج: أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب ديار التي كانت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب تراءت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب ولم أرها إلا ثلاثا على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب ومثلك قد أحببت ليست بكنة ... ولا جارة ولا حليلة صاحب2

_ 1 Arapic Literature q 20. 2 طبقات الشعراء 81.

ورد عليه عبد الله يتغزل بليلى أخت قيس: أشافتك ليلى في الخليط المجانب ... نعم فرشاش الدمع في الصدر غالبي وبين حسان وقيس بن الخطيم حدث شيء من هذا؛ فإن حسانا في معرض فخره على الأوس تغزل بليلى أخت قيس: لقد هاج نفسك أشجانها ... وعاودها اليوم أديانها تذكرت ليلى وإني بها ... إذا قطعت منك أقرانها وحجل في الدار غربانها ... وخف من الدار سكانها وغيرها معصرات الرياح ... وسح الجنوب وتهتانها مهاة من العين تمشي بها ... وتتبعها ثم غزلانها وقفت عليها فساءلتها ... وقد ظعن الحي ما شانها فعيت وجاوبني دونها ... بما راع قلبي أعوانها فلم يسكت قيس على هذا النيل الجارح، ورد على خصمه يتغزل بزوجته عمرة: أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها وإن تمس شطت بها دارها ... وباح لك اليوم هجرانها1 ولهذا النوع من الغزل خطره الشديد على نفوس الحجازيين, ويرون فيه إهانة بالغة قد يحتاجون في غسلها إلى الدم، فإن كعب بن الأشرف اتخذ من الغزل الكيدي وسيلة إلى تجريح المسلمين والتندر عليهم والتعريض بهم، فها هو ذا يتغزل بأم الفضل بنت الحارث, فيعجب كيف يرحل ويتركها في المدينة رغم أنها منعمة مرفهة ممتلئة, وهي شريفة في قومها وأبوها رأس العشيرة, وهي جميلة تشرق كالشمس: أراحل أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي القوارير والحناء والكتم يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ... إذا تأتت قياما ثم لم تقم

_ 1 الأغاني 3/ 12.

وأشباه أم حكيم إذ تواصلنا ... والحبل منها متين غير منجذم إحدى بني عامر جن الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبا من السقم فرع النساء وفرع القوم والدها ... أهل المحلة والإيفاء بالذمم لم أر شمسا بليل قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ليلة الظلم1 واستمر كعب يتغزل بنساء المسلمين على هذا المنوال حتى دفع حياته ثمنا لهذه الحماقات التي رددها لسانه. وحقا, إن كعبا لم يكن عفيف الغزل حين شبّب بنساء المسلمين؛ لأن عداوة الدين هي التي تدفعه إلى هذا الكيد. أما إذا كان الغزل الكيدي بدافع المفاخرة القبلية أو الهجاء الشخصي فإنه يلتزم الاحتشام والعفة غالبا، حتى لنرى النعمان بن بشير يسمع بسرور غناء عزة الميلاء بشعر قيس بن الخطيم في أمه عمرة بنت رواحة قائلا: "إنه لم يذكر إلا كرما وطيبا"2.

_ 1 تاريخ الطبري 3/ 3. 2 الأغاني 3/ 12.

الفصل السادس: الشعر الهجائي

الفصل السادس: الشعر الهجائي 1- اشتقاق الهجاء في العربية والإفرنجية: يرى الزمخشري أن الهجاء مأخوذ من هجاء الحروف فهو تعديد للمعايب. فالمرأة تهجو زوجها هجاء قبيحا إذا ذمت صحبته وعددت عيوبه، وهو تفريع غريب. فالكلمة جاهلية قديمة، وهي بأن تكون سابقة للهجاء بمعنى تعديد حروف الكلمة أشبه. على أنه إن كان كل ما لحظ في نقلها هو التعديد, فلم يكون تعديد المفاخر والفضائل هجاء أيضا؟ الواقع أن في المادة معاني أخرى هي أقرب لأن تكون أصلا للمعنى الأدبي. ففي اللغة الهجا والهاجة: الضفدع, وهجو يومنا: اشتد حره. وفي اليائي من المادة: هجى البيت هجيا: انكشف، وهجيت عين البعير: غارت. ومما هو قريب من المادة: الهياج بمعنى الغضب والقتال والحرب، والتهوج بمعنى الحمق والطيش والتسرع، والهوجاء: الريح التي تقلع البيوت. وقد يكون الهجاء بمعناه الأدبي مأخوذا من الضفدع, فهو قبيح الشكل بشع الصوت. وقد يكون مأخوذا من اشتداد الحر, ففيه معنى التنكيل والتعذيب. وقد يكون مأخوذا من الأصل اليائي, فهو يكشف عن سيئات المهجو1. أما اشتقاق كلمة "الهجاء" في الإفرنجية، فإن أصل المادة "Satire" في اللاتينية، هو Satura Satira ويقصد بها حشو المشوي، ثم انتقل الاشتقاق إلى Satura المجازية وهي "الصحفة الممتلئة" التي تحوي مجموعة من الفواكه المختلطة, تقدم لواحد من الآلهة الريفية أو الجبلية.

_ 1 أساس البلاغة, مادة "هجاء" و"الهجاء والهجاءون في الجاهلية" ص14.

وفي الاستعمال الأخير اتحدت كلمة Satlre بالحيل والخدع أو الزخارف التي تنسب إلى الساطير Satyr وهي "جنية الحرجات" "الأساطير". أما في الإنجليزية، فقد عزز هذا الاتحاد بين المعنيين ما نراه ملحوظا من الفوضى في تهجي الكلمتين1. وفي دائرة معارف "كاسل": "أن أول استعمال أدبي لهذه الكلمة يدل على نوع من النكتة والتشهير". 2- تعريف الهجاء وخصائصه: يعرف بعض الباحثين الهجاء بأنه أدب غنائي يصور عاطفة الغضب أو الاحتقار والاستهزاء, وسواء في ذلك أن يكون موضوع العاطفة هو الفرد أو الجماعة أو الأخلاق والمذاهب، فالهجاء لا يصطنعه -كما يقول برونونبير- إلا وسيلة للتعبير عن طريقته في الحس والتفكير، معارضا طرق الآخرين في حسهم وتفكيرهم، تلك الطرق التي تثير بالمعارضة ذاتها غضبه أو سخطه واستشناعه أو خوفه واحتقاره أو استهزاءه. وهذا التعريف يخالف المشهور عند نقاد العرب من وجهين: الوجه الأول: شموله للشعر والنثر، والمشهور لا يكون إلا شعرا. والوجه الثاني: أن موضوعه شامل الفرد والجماعة والأخلاق والمذاهب, والمشهور عندهم أنه مقصور على الأفراد2. ومما يؤيد هذا أن الجاحظ يسمي بعض رسائله النثرية هجاء, فيقول في مقدمة كتاب الحيوان3: وعبتني بكل ما كتبت إلى إخواني وخلطائي من مزح وجد، ومن هجاء لا يزال ميسمه باقيا، ومديح لا يزال ناميا ... إلخ.

_ 1 مادة "Dictionary of world Literature p. 502 "Satire". 2 دائرة المعارف الفرنسية, والهجاء والهجاءون في الجاهلية ص14. 3 جـ1 ص3.

وصاحب العقد الفريد يجعل في القرآن هجاء فيقول1: قال الله تبارك في هجو المشركين: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الآية. وأبو هلال العسكري يروي في باب الهجاء شعرا أخلاقيا لا يدخل في الهجاء بمعناه الضيق عند قدامة وأشياعه, ويذكر في هذا الباب نثرا مسجوعا في أغلب الأحيان، ولكنه يسميه ذما. والنويري في نهاية الأرب يجعل النثر والهجاء الأخلاقي في باب الهجاء, فيقول2: "وإن للشعراء والبلغاء في الذم والهجاء نظما ونثرا سنورد منهما طرقا" ويجعل من الهجاء قسما هو هجاء أخلاقي، كهجاء الحسد والسعاية بالبغي والغيبة والنميمة. والذي يعنينا في بحثنا هذا هو: ذلك الشعر الغنائي الذي يوجه فيه صاحبه الملامة والنقد والامتهان والاحتقار والكره والبغض لكل ما هو معيب مرذول، أو هزأة ضحكة من الأفراد أو الجماعات أو المذاهب أو الأخلاق. "والهجاء ساخط على المجتمع ثائر على ما فيه ضيق به. والهجاء نتيجة عقدة نفسية وربما في كثير من الأحيان نتيجة لمركب نقص". "ومن مميزات الهجاء دقة الملاحظة، فالهجاء طلعة بصير يفطن إلى أدق التوافه وألطفها مما يحيط به". والهجاء يعتمد على التأثير السريع والوضوح الخلاب، فأسلوبه يمتاز بالبساطة التي لا أثر فيها للتكلف. وقد يصل فيه الإسفاف والهبوط إلى مستوى النكتة العامية والحديث الشائع المتداول بين العامة. "وأصحاب المطبوع أقدر على الهجاء من أهل المصقوع"؛ ذلك لأن "الهجاء نقد للحياة، فهو يأخذ مادته من الواقع، ولا يستمدها من الخيال أو التفكير، ولذلك كانت أبرز صفاته الواقعية البعيدة عن الإسراف في الصناعة، والتي تقوم على تجارب الحياة ودقة الملاحظة لما يجري فيها من أحداث"3.

_ 1 جـ6 ص145. 2 جـ3 ص269. 3 الهجاء والهجاءون في الجاهلية 27-32.

3- الفرق بين الهجاء والشعر التهذيبي: والواقع أن الجاهليين حين قصروا الهجاء بمعناه الأدبي على شكله الشخصي كانوا محقين. فقد نشأ الهجاء عندهم كما نشأ الهجاء عند غيرهم من الأمم تنديدا بالمعايب الشخصية أول الأمر، ثم تقدم الهجاء عندهم كما تقدم عند غيرهم، وارتفع عن الأحقاد الخاصة إلى عنصر الحياة العامة؛ فكان منه السياسي، وكان منه الأخلاقي، وكان منه الديني. وهنا يجب أن نشير إلى فرق دقيق بين نوعين من الأدب لا ينبغي أن نخلط بينهما, هما: شعر الهجاء والشعر التهذيبي "أو الأدب" كما كان يسميه بعض نقادنا القدماء. فالشعر التهذيبي يقصد به الوعظ والإرشاد، أما الهجاء فيرمي به صاحبه إلى العقوبة والانتقام. فالأول يقدم درسا في الأخلاق أو الدين والفلسفة. أما الهجاء فهو شريعة القصاص -كما يقول أرنولد- من المجرمين الذين لا تنالهم يد القانون القصيرة، فالهجاء يرى أن هناك طائفة من المجرمين قد غلظت طبائعهم بما أشربوا في قلوبهم الباطل والإثم والغرور حتى ما يؤثر فيهم نصح أو تحذير, فهو ينشر على الناس مخازيهم، ويجعلهم أضحوكة ومثلة، وقد لا يرجو من وراء عمله هذا أن يصلحهم أو يطهرهم. فالعلاقة بين الشعر التهذيبي والشعر الهجائي هي كالصلة بين المدرسة والمحكمة؛ أحدهما يسعى لتكوين الفضيلة ونشر الحكمة, والآخر ينزل عقابه بالرذيلة ويهتك الستر عن الحماقة والسفه ... دافع الشعر التهذيبي رغبة صادقة في الإصلاح، ودافع الهجاء شهوة الغضب والانتقام1.

_ 1 الهجاء والهجاءون 16، 17.

4- علاقة الهجاء بالسحر: وقد كان فن الهجاء من أكثر الفنون الشعرية ارتباطا بالسحر في أوهام العرب؛ ذلك لأن الخفاء والغموض اللذين لازما فن الشعر كانا أليق بالشر، وأدنى أن يبعثا الرهبة والخوف في قلوب الناس. فقد كانت العرب تزعم أن لكل شاعر رئيا من الجن يسمونه تابعا أو هاجسا, وذلك واضح في قصصهم وفي شعرهم1. ووجه الشبه بين السحر والهجاء واضح؛ فالسحر كلمات تقال فيصيب شرها المسحور، وينصب ما تضمنت من لعنة على المقصود بالإيذاء، والهجاء كذلك كلمات تقال فيها معنى الشر واستمطار اللعنة. والساحر يتوسل إلى شياطينه وأرواحه الشريرة أن تعينه على إلحاق الأذى بالمسحور، والهجاء يستلهم شياطينه الهجاء ويستعينها على المهجو. ولذلك غلب ذكر شياطين الشعر في الهجاء بنوع خاص ولأمر ما نسب الناس هذه القوة الخفية التي تمد الشاعر بالشعر للشر ولم ينسبوها للخير، فقالوا: "شياطين الشعر"، ولم يقولوا: "ربة الشعر" كما تعود اليونان أن يقولوا. وقد كان الشاعر إذا هجا ربما خرج على الناس في زي غريب غير مألوف, وبالغ في مسخ شكله وتشويه خلقته. وكان حسان بن ثابت يلوث شاربه وعنقفته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم، وروى الألوسي في بلوغ الأرب: "أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء, دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة"2. لذلك كان العرب شديدي الخوف من الهجاء, وكانوا يرون بيت الهجاء متضمنا قوى خفية, ولعنة تصيب من تحل به. ويقول مزرد بن ضرار الذبياني "أخو الشماخ بن ضرار"

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص80، 416. 2 بلوغ الأرب 3/ 407.

في رجل من بني عبد الله بن غطفان خدع غلاما من قومه, فاشترى إبله بغنم ... وهو هنا يندد بخدعة الرجل، طالبا إليه أن يرد الإبل، وقد صورها مصابة بالجرب وبمختلف الأدواء، وكأنه يريد أن يشأمها وينزل بها اللعنة والبوار: فيا آل ثوب إنما ذود خالد ... كنار اللظى لا خير في ذود خالد1 بهن دروء من نحاز وغدة ... لها ذربات كالثدي النواهد2 جربن فما يهنأن إلا بغلقة ... عطين وأبوال النساء القواعد3 فلم أر رزءا مثله إذ أتاكم ... ولا مثل ما يهدي هدية شاكد4 ويؤيد ذلك ما روى صاحب السيرة, من أن أبا سفيان بن حرب ألقى ابنه معاوية أرضا؛ فرقا من دعوة خبيب حين قال وقد أخذوه ليصلبوه: "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا". وقد كانت العرب تزعم أن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه, زالت عنه5. وكان الشاعر ربما عجز عن دفع مظلمة، أو رد حق غصب منه، فلا يستعين على ذلك إلا بلسانه؛ فيهاب الناس هجاءه أكثر مما يخافون سيف الفاتك الجبار.

_ 1 الذود: الجماعة القليلة من الإبل. 2 الدروء: جمع درء بفتح فسكون وهو التنوء. النحاز: داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها فتسعل سعالا شديدا. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة بفتح فكسر وهو رأس الخراج. 3 جربن: أصابهن الجرب. يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به. عطين: معطون؛ لأنها لا يدبغ بها إلا بعد عطنها. 4 الشاكد: المهدي, والشكد: الإهداء. 5 السيرة 3/ 182.

5- أقسام الهجاء: ينقسم الهجاء إلى ثلاثة أقسام: هجاء شخصي, وهجاء أخلاقي, وهجاء سياسي. فالهجاء الشخصي يعتمد على مهاجمة الأفراد, وهو أقدم أنواع الشعر الهجائي, وهو في معظم الأحيان متأثر بالأهواء الشخصية، بعيد عن العدل والإنصاف؛ لأنه لا يرتقي إلى عناصر الحياة العامة إلا في القليل من نواحيه، فهو أقرب للسباب، وأدنى إلى أن يتورط في الفحش. ومثل هذا الشعر قد يعجب المعاصرين ويسترعي انتباههم، فيرددونه شامتين أو ساخطين، ولكن يفقد جزءا كبيرا من قيمته بتداول العصور، فلا يتحمس له الناس ولا يجدون فيه المتعة إلا بمقدار ما يشتمل عليه من نادرة طريفة، أو سخرية مسلية, أو نكتة مضحكة. أما الهجاء الأخلاقي، فموضوعه الجرائم الأخلاقية أو الدينية والمفاسد الاجتماعية، والعادات القبيحة والعيوب الإنسانية على وجه العموم. وقد يعم بالهجاء جنسا من الأجناس لا يعين منه أفرادا؛ كالذي نجده في شعر المعري من السخط على المرأة أو رجال الدين. ومن أمثلته في الأدب الحجازي وصف العقوق لأمية بن أبي الصلت. والنوع الثالث من الهجاء هو الهجاء السياسي. وهو يتميز عن سالفيه بأن صاحبه يرى مثله الأعلى في حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف أو مذهب من المذاهب، فهو يهاجم كل ما يتعارض مع هذا المثل من نقائص ومعايب تتمثل في أنصار حزب, وهو يزعم في كل هذا -صادقا أو متصنعا- أنه يهاجم في سبيل الفضيلة والحق. ونستطيع أن نلحق بهذا القسم الهجاء الديني والهجاء القبلي. أما الهجاء الديني فنجد له أمثلة فيما كان بين شعراء المسلمين وشعراء قريش أول ظهور الإسلام. وأما الهجاء القبلي فيصور الشعر السياسي في طوره البدائي عند العرب؛ فقد كان العربي يحمل لقبيلته من القداسة والإجلال مثل ما يحمل المواطن لوطنه

بل أشد. وكان للفرد على قبيلته من الحقوق ما يشبه حق المواطن على وطنه؛ فهي مكلفة بحمايته من كل اعتداء وهو بعد هذا مسئول أمامها، مرتبط بها، لا رأي له إلا ما رأت، وهو يضع سيفه ولسانه في خدمتها, ولها أن تحرمه من جنسيته بأن تتبرأ منه وتعلنه طريدا1 ... وقد ذكرنا أمثلة لذلك في الشعر السياسي, وسنتناول بالتفصيل هذه الأقسام. 6- أما الهجاء الشخصي فمبعثه تلك المنازعات الفردية، والخلافات الشخصية التي تنشأ بين الأفراد في كل زمان ومكان, بحكم أن الحياة كلها صراع على العيش، ونزاع على المال والجاه والسلطان. وقد كان هذا اللون صورة سريعة حادة لانفعال الغضب لدى الجاهليين، فلم يتح له الصقل، ولا الأناة التي هي سبيل التجويد، فهو فقير في الصور والمعاني، ضئيل الحظ من الخيال ... وهو بعد, معركة كلامية هائجة تستعر بين فردين يتقاذفان بالشتائم. ويتميز الهجاء الشخصي بما يأتي: 1- بسط اللسان، وكيل الشتائم, واختلاق المثالب والمعايب. وكثيرا ما يكون السباب مفحشا مقذعا يفضح العورات, دون مراعاة لأدب اللياقة أو الاحتشام. 2- الفخر بالأحساب والأنساب، والأهل والمال والوالد, وكريم السجايا والتعالي بها على الخصوم والأعداء، وتعييرهم بنقائصهم في هذه المفاخر. 3- تهديد الخصم بالقتل، وبالشعر الذي يسمه بميسم الذل ويظل لعنة تلاحقه في كل سامر ونادٍ، ويبقى على الأيام ذل الدهر وعار الأبد ووصمة الحياة! هذه هي المعاني التي لا يكاد يخرج عنها الهجاء الفردي.

_ 1 الهجاء والهجاءون في الجاهلية 19، 20، 21.

وقد كان للشعراء الحجازيين نصيب في هذا اللون من الهجاء؛ يقول المزرد بن ضرار الذبياني "أخو الشماخ": يهزون عرضي بالمغيب ودونه ... لقرمهم مندوحة ومآكل على حين أن جربت واشتد جانبي ... وأنبح مني رهبة من أناضل وجاوزت رأس الأربعين فأصبحت ... قناتي لا يلفى لها الدهر عادل فقد علموا من سالف الدهر أنني ... معن إذا جد الجراء ونابل زعيم لمن قاذفته بأوابد ... يغني بها الساري وتحدى الرواحل مذكرة تلقى كثيرا رواتها ... ضواح لها في كل أرض أزامل تكر فلا تزداد إلا استنارة ... إذا رازت الشعر الشفاه العوامل فمن أرمه منها ببيت يلح به ... كشامة وجه ليس للشام غاسل كذاك جزائي في الهدي وإن أقل ... فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل1 كان المزرد فارسا مشهورا، وكان هجاء خبيث اللسان، حلف: لا ينزل به ضيف إلا هجاه، ولا يتنكب بيته إلا هجاه، إلا أنه أدرك الإسلام فأسلم. ويبدو أنه أقلع عن الهجاء أخيرا؛ لقوله فيما نقل صاحب اللسان "4/ 484" عن ابن السكيت: تبرأت من شتم الرجال بتوبة ... إلى الله مني لا ينادى وليدها

_ 1 القرم: الأكل بمقدم الفم. يقول: قد كان لهم مندوحة ومنصرف عن أكل عرضي في غيابي. أنبح مني: صار من أناضلهم يذبحون كالكلاب. المعن: المعترض في كل شيء. الجراء: الجريء. النابل: الحاذق في النبل. الأوابد: الوحوش أو غرائب الشعر. أزامل: جمع أزمل, وهو كل صوت مختلط. رازت الشفاه الشعر: جربته. العوامل: النواطق بالشعر. الهدي: التهادي بالشعر، يقصد المهاجاة. الصحل: بحة الصوت. يقول: إنه لا يكل, ولا ينضب معينه.

على أننا نجد حظا وافرا من الجمال الفني في قصيدة ذي الإصبع العدواني, التي يهجو بها ابن عم له: ولي ابن عم على ما كان من خلق ... مختلفان فأقليه ويقليني أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... بالفاحشات ولا فتكن بمأمون عف ندود إذا ما خفت من بلد ... هونا فلست بوقاف على الهون عني إليك فما أمري براعية ... ترعى المخاض وما رأيي بمغبون كل امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخالق أخلاقا إلى حين إني أبي أبي ذو محافظة ... وابن أبي أبي من أبيين لا يخرج القسر مني غير مأبية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم كلا فكيدوني فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقوا ... وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني ماذا علي وإن كنتم ذوي كرم ... أن لا أحبكم إن لم تحبوني لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ... ولا دماؤكم جمعا ترويني الله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عني ويجزيني قد كنت أوتيكمو نصحي وأمنحكم ... ودي على مثبت في الصدر مكنون يا عمرو لو لنت لي ألفيتني بشرا ... سمحا كريما أجازي من يجازيني والله لو كرهت كفي مصافحتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني

ويصادف الباحث في الأدب الحجازي بعض الهجاء المفحش؛ كالأشعار التي تنسب لحسان بن ثابت حتى بعد أن خالط الإسلام روحه، فها هو ذا في المعركة الناشبة بين الإسلام والشرك في يوم أحد يهجو هند أم معاوية, فيقول: أشرت لكاع وكان عادتها ... لؤم إذا أشرت مع الكفر لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود طويلة البظر أخرجت مرقصة إلى أحد ... في القوم معنقة على بكر1 ثم يقول: أقبلت زائرة مبادرة ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر ونسبت فاحشة أتيت بها ... يا هند ويحك سبة الدهر فرجعت صاغرة بلا ترة ... مما ظفرت به ولا وتر زعم الولائد أنها ولدت ... ولدا صغيرا كان من عهر بل إنه ليتهمها بأنها كانت تسقط أولادها من السفاح وتدفنهم سرا في بطحاء أجياد؛ سترا للفضيحة والعار, فيقول: لمن سواقط صبيان منبذة ... باتت تفحص في بطحاء أجياد باتت تمخض ما كانت قوابلها ... إلا الوحوش وإلا ضبة الوادي ويهجو بني سهم وعمرو بن العاص بن وائل "وأمه النابغة امرأة من عنزة", فيقول: أما ابن نابغة العبد الهجين فقد ... أنحى عليه لسانا صارما ذكرا ما بال أمك راغت عند ذي شرف ... إلى جذيمة لما عفت الأثرا ظلت ثلاثا وملحان معانقها ... عند الحجون فما ملا ولا فترا يا آل سهم فإني قد نصحت لكم ... لا أبعثن على الأحياء من قبرا

_ 1 مرقصة: ترقص البعير, وذلك حين تسرع في السير. معنقة: مسرعة كذلك.

أما هشام فرجلا قينة مجنت ... باتت تغمز وسط السامر الكمرا1 لولا النبي وقول الحق مغضبة ... لما تركت لكم أنثى ولا ذكرا ويقول في هجاء بني المغيرة: هلا منعتم من المخزاة أمكم ... عند الثنية من عمرو بن يحموم أسلمتموها فباتت غير طاهرة ... ماء الرجال على الفخذين كالموم ولا نريد المضي في هذا الشعر الفاحش بل الممعن في الفحش الذي لا نكاد نجد له نظيرا في الشعر الجاهلي، ولعل كثيرا منه مشكوك فيه لا تصح نسبته لحسان. ويمتاز حسان "ببراعته في خلق الصور الفنية وابتكارها, وهذه الموهبة تتيح للهجائين بنوع خاص كثيرا من الشهرة والذيوع، فهي تصور إلى جانب الذكاء بصيرة هجائية، وروحا فكهة، لا تنظر إلى الأشياء إلا لتسخر منها، وترى فيها شبها قريبا بألوان مضحكة من الصور". يقول في هجاء رجل من بني عابد بن عبد الله المخزومي: فإن تصلح فإنك عابدي ... وصلح العابدي إلى فساد وإن تفسد فما ألفيت إلا ... بعيدا ما علمت من السداد على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد ويقول في هجاء الحارث بن كعب "رهط النجاشي" الشاعر: حار بن كعب ألا الأحلام تزجركم ... عنا وأنتم من الجوف الجماخير

_ 1 راغت: مالت عن القصد. ذو شرف: موضع. جذيمة: اسم رجل. يقول له: هلا خبرتني خبر أمك, انحرفت عن الطريق إلى ذلك الرجل معفية آثار أقدامها على الرمال؛ خشية أن تتبع. ملحان: عبد لخزاعة. الحجون: جبل بمكة. الماجن: الذي يرتكب المقابح المخزية ولا يبالي العذل والتقريع. الكمر: جمع كمرة وهو رأس الذكر. الغمز: العصر والكبس باليد.

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إن الرجال ذوو عصب وتذكير كأنكم خشب جوف أسافله ... مثقب فيه أرواح الأعاصير ألا طعان ألا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم حول التنانير1 7- الهجاء السياسي: وأما الهجاء السياسي في الحجاز فألوان شتى, منها: أ- هجاء الفرد قبيلته. ب- هجاء الفرد قبيلة أخرى, يصور فيه مثالبها وما بينها وبين قبيلته من منازعات ومنافسات. جـ- هجاء يتجه إلى الملوك الطغاة الذين يذلون القبائل, ويفرضون عليها الإتاوات الفادحة. د- هجاء يصور الملاحاة التي كانت بين الإسلام وبين أعدائه. وقد تحدثنا عن الألوان الثلاثة الأولى في "الشعر السياسي", كما أسلفنا طائفة من الشعر الذي قيل في نقد الملوك الطغاة وتهديدهم، وذكرنا نبأ الحارث بن ظالم المري الذي فتك بخالد بن جعفر وقتل ابنا للنعمان كان في حجر أخته سلمى بنت ظالم, وأوردنا قصيدته التي مطلعها: قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما ... محارب مولاه وثكلان نادم ونزيد هنا أن سنان بن أبي حارثة المري -وهو يومئذ رأس غطفان- قال للنعمان بعد هذه الحادثة: "أبيت اللعن, والله ما ذمة الحارث لنا بذمة ولا جاره لنا

_ 1 الجوف: جمع أجوف. الجمخور: الواسع الجوف, والمراد الضعفاء المستريحون. التخاجؤ: التباطؤ في المشي. العصب: شدة الخلق. المشية السجح: السهلة. التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. التنانير: جمع تنور وهو ما يخبز فيه. ديوان حسان ص213 و"الهجاء والهجاءون ص222".

بجار، ولو أمنته ما أمناه". فقال الحارث يندد بالنعمان وسنان ويتوعدهما ويسخر منهما: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فكيف بخطاب الخطوب الأعاظم وأنت طويل البغي أبلج معور ... فزوع إذا ما خيف إحدى العظائم فما غرة والمرء يدرك وتره ... بأروع ماض الهم من آل ظالم أخي ثقة ماضي الجنان مشيع ... كميش التوالي عند صدق العزائم فأقسم لولا من تعرض دونه ... لعولي بهندي الحديدة صارم فأقتل أقواما لئاما أذلة ... يعضون من غيظ أصول الأباهم تمنى سنان ضلة أن يخفيني ... ويأمن، ما هذا بفعل المسالم تمنيت جهدا أن تضيع ظلامتي ... كذبت ورب الراقصات الرواسم يمين امرئ لم يرضع اللؤم ثديه ... ولم تتكنفه عروق الألائم أما اللون الرابع الذي يصور الصراع بين الشرك والإسلام، فيمكن أن نسميه "الهجاء الديني". 8- الهجاء الديني: وقد أدرك النبي -صلوات الله عليه- قيمة الحرب الكلامية وأثرها الفعال في تعزيز الحرب الفكرية والمعارك الحربية بينه وبين قريش الوثنية، فانتدب حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة؛ للذود عن الإسلام ومنافحة المشركين، وكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر. فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة1.

_ 1 الأغاني 15/ 28.

وكان النبي -صلوات الله عليه- يصلح بعض هذا الشعر ويوجهه، ويطلب إلى حسان أن يستفيد من علم أبي بكر في الأنساب؛ ليعرف مخازي قريش وعوراتها. وقد كان أثر هذه العناية بالدعاية للدين واضحا في نمو فن الهجاء وعنفه، ولكنه لم يترك أثرا واضحا في أسلوب هذا الفن، فقد ظل كما كان جاهليا في صميمه، معتمدا على الأنساب، والتعبير بضعف العصبية، وخمول الذكر، والعجز عن حماية الجار، والاستسلام للمهاجمين من الأعداء، والقعود عن الثأر، إلى أمثال هذه الخصال التي تصور المثل الجاهلية، ولم يتأثر بالقيم الجديدة إلا قليلا. والنبي -صلوات الله عليه- يقول لشعراء المسلمين: "قولوا لهم مثل ما يقولون لكم"؛ ذلك لأنه قصد إلى التأثير في الجماهير، ولم يكن التعبير بالشرك، وعبادة ما لا يعقل، ومخالفة الخلق القويم، ليصنع في هذا المقام شيئا، فالهجاء فن يعتمد على الواقع وعلى القيم الأخلاقية الاجتماعية كما يتصورها العصر1. ومن أمثلة هذا الشعر قول عبد الله بن الزبعرى في غزوة أحد قبل أن يسلم: يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل أبلغا حسان عني آية ... فقريض الشعر يشفي ذا الغلل كم قتلنا من كريم سيد ... ماجد الجدين مقدام بطل صادق النجدة قرم بارع ... غير ملتاث لدى وقع الأسل ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل حين حكت بقباء كيها ... واستحر القتل في عبد الأشل ثم خفوا عند ذاكم رقصا ... رقص الحفان يعلو في الجبل فقتلنا الضعف من أشرافهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا أننا ... لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند نعلو هامهم ... عللا نعلوهم بعد نهل

_ 1 الهجاء والهجاءون في الجاهلية ص177 و178.

وقول حسان بن ثابت في غزوة بدر: لقد علمت قريش يوم بدر ... غداة الأسر والقتل الشديد بأنا حين تشتجر العوالي ... حماة الروع يوم أبي الوليد قتلنا ابني ربيعة يوم ساروا ... إلينا في مضاعفة الحديد وفر بها حكيم يوم جالت ... بنو النجار تخطر كالأسود وولت عند ذاك جموع فهر ... وأسلمها الحويرث من بعيد لقد لاقيتم خزيا وذلا ... جهيزا باقيا تحت الوريد وكان القوم قد ولوا جميعا ... ولم يلووا على الحسب التليد1

_ 1 ديوان حسان 140 و141.

الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل السابع: فنون شعرية أخرى تحدثنا في الفصول السابقة بتفصيل ما عن طائفة من أغراض الشعر وفنونه، وسنتناول بالإجمال في هذا الفصل أغراضا أخرى هي: الوصف والمديح والرثاء. الوصف: كان للشعراء الحجازيين في الجاهلية مجال واسع في ميدان الوصف؛ فقد وصفوا بيئتهم وما يتصل بحياتهم من مظاهر الطبيعة أو مظاهر الحضارة وغيرها، وصفوا الأرض والسماء والليل والكواكب والنجوم، والرياح والأمطار والبرق والسحاب، كما وصفوا النبات والأزهار والأشجار والصحراء, وما بها من نجاد ووهاد وشعاب وجبال وبطاح وكثبان، وما يدور في فلك حياتهم من حل وترحال وكر وفر وغارات وحروب، كما وصفوا الإبل والخيل والطير والنعام والآرام والظباء وغيرها. كما اهتموا بوصف المطاعم الرقيقة كالفالوذج والملابس الناعمة, وألوان الحلي وسائر مظاهر الترف، والكتابة وأدواتها، والحروب وأسلحتها. وكان الحجازيون إذا تناولوا بالوصف مكانا أو حيوانا أو امرأة أو أي شيء في الحياة، توخوا الدقة والصدق في رسم الواقع، فهم بذلك واقعيون يمثلون الطبيعة كما هي، ولا يتحرجون في ذكر الأعضاء التي يعد ذكرها خروجا على أدب اللياقة, وكانوا لا يبالغون في وصفهم. ومن النادر أن نجد مثل قول النابغة في وصف السيوف الصارمة:

تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد في الصحصاح نار الحباحب1 وهو في هذا البيت يذهب إلى أن سيوف الممدوحين تقطع الدرع المضاعف، ثم تقد الفارس والفرس، ثم تنقد منهما إلى الحجارة حيث تقدح فيها الشرر. وهي مبالغة قلّ أن تجد لها نظيرا في الشعر الحجازي الجاهلي. وكانوا إذا صوروا حادثة مثّلوها دون إيغال في استعمال الكناية أو المجاز, كما فعل أبو ذؤيب الهذلي في وصف حمر الوحش وصيدها1. وليس معنى هذا خلو أوصافهم من الجمال الفني, كلا، فإننا نجد لهم تشبيهات رائعة واستعارات جميلة كما يتضح ذلك من القصيدة التي يصف فيها تأبط شرا تحياله للخلاص من بجيلة في إحدى مغامراته الظافرة. وقصة هذه المغامرة أن بني لحيان أخذت عليه طريق جبل ألقوه به يجني عسلا, ولم يكن له درب سواه. فقالوا له: استأسر أو نقتلك، فأبى أن يستأسر، وهداه فكره اللماح إلى حيلة تخلصه من موقفه الحرج فصب ما معه من العسل على الصخر، وترك جسمه ينزلق عليه حتى وصل إلى الأرض من غير طريقهم، ونجا منهم دون أن يمسه أذى من الصخر، والموت المحقق ينظر إليه خزيان لنجاته منه: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويوم ضيق الجحر معور هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والقتل بالحر أجدر وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر

_ 1 السلوقي: درع منسوب إلى بلدة "سلوقة" من ساحل أنطاكية بالشام, أو هي قرية باليمن. الصفاح: الحجارة العراض. نار الحباحب: شعاع يضيء بالليل من ذباب يسمى "الحباحب". 2 راجع ديوان الهذليين 1/ 6 وما بعدها.

فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... به جؤجؤ عبل ومتن مخصر فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر فأبت إلى فهم ولم أك آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ونحن لا نستطيع استيعاب الكلام في هذا الباب الواسع، وحسبنا أن نذكر لونين من ألوان الوصف, وهما أدوات القتال، وأدوات الكتابة: أدوات القتال: تعتبر السيوف أشهر آلات القتال ذكرا وأكثرها أسماء ونعوتا, وأجود الأسلحة التي يستعملها العربي. وكانت السيوف تصنع أحيانا بالمدينة على يد بعض القيون كما اشتهر بصناعتها اليهود. ومن أجود سيوف الحجازيين، بل سيوف العرب عامة: المشرفية, وهي منسوبة إلى المشارف وهي القرى التي تدنو من الريف مثل خيبر ودومة الجندل. وقيل: تنسب إلى "مشرف" وهو رجل من ثقيف. ومن أشهرها "الهندية" المستوردة من الهند. وقد برع الحجازيون في وصف السيوف والفخار بها ومرونتهم في استعمالها, فقال قيس بن الخطيم: كأن سيوفنا منا ومنهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا كما برعوا في وصف القسي والدروع والرماح، وهذا المزرد بن ضرار يصف رمحه بأنه لين مهتز كأنما سقي بالزيت، وبأنه مصمت يهتز أعلاه إذا ما هز مقبضه حتى لكأنه ثعبان حذر، أما سنانه فحاد لامع كأنه هلال ناحل يضيء في ظلمة الليل: ومطرد لدن الكعوب كأنما ... تغشاه منباع من الزيت سائل أصم إذا ما هز مارت سراته ... كما مار ثعبان الرمال الموائل له فارط ماضي الغرار كأنه ... هلال بدا في ظلمة الليل ناحل1

_ 1 مطرد: لين مهتز. منباع: سائل. سراته: أعلاه. موائل: محاذر. فارط: سنان. غرار: حد.

ومزرد نفسه هو الذي قدم لنا صورة دقيقة بارعة لقوسه، منذ أن كانت فرع ضالة مخبوءة في مكان بعيد تصونها الفروع والأشجار الملتفة حتى وصل إليها القواس بعد أن نحى من طريقه كل رطب ويابس وأنفل تحت الشجر حتى نالها فاقتطفها ... إلى أن هيأها للرمي بعد عامين يلتمس فيهما اعوجاجها، فإذا هي صفراء يغلي ثمنها المشتري الحاذق، وإذا ما حرك الرامي وترها كان لها عويل ثكلى حزينة، ثم يصف حرصه عليها إذا سقط الندى حيث يلفها بالحبير وهو الجديد المحبر، لا بالمعاوز وهي الثياب الخلقة: تخيرها القواس من فرع ضالة ... لها شذب من دونها وحزائز فأمسكها عامين يطلب درأها ... وينظر منها ما الذي هو غامز أقام الثقاف والطريدة متنها ... كما أفرجت ضغن الشموس المهامز إذا أنبض الرامون فيها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز كأن عليها زعفرانا تميره ... خوازن عطار يمان كوانز إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيرا ولم تدرج عليها المعاوز1 ويصف الشنفرى قوسه بأنها ملساء صلبة ذات صوت كأنها تهتف، وقد زانتها الرصائع، وإذا ما انطلق عنها السهم سُمِع لها حنين وإعوال كأنها امرأة منكوبة اصطلحت عليها الأرزاء: هتوف من الملس المتون يزينها ... رصائع قد نيطت إليها ومحمل إذا زل عنها السهم حنت كأنها ... مرزأة عجلى ترن وتعول2

_ 1 لها شذب وحزائز: أي دون الوصول إليها عيدان مشذبة، وجزائز أو حزائز: فروع أو أصول مقطوعة. الدرء: الاعوجاج. الغامز: الشق في القوس. الثقاف: خشبة تقوم بها الرماح. الطريدة: القصبة يعرف بها اعتدالها. تميره: تحركه. الحبير: المحبر المنقوش. 2 المتون: الصلبة. الرصائع: ما يرصع به من جوهر أو غيره. المحمل: علاقة السيف. عجلى: مسرعة.

ووصف الحجازيون الدروع ونسبوها إلى سلوق كما سبق في قول النابغة، وإلى الفرس كما في قول دريد بن الصمة في رثاء أخيه: نصحت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدي فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد كما وصفوا المغفر أو القونس أو البيضة وهي التي يقون بها رءوسهم من السيوف في الحرب. قال العباس بن مرداس: فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا ووصفوا المجن أو الترس أو الدرقة، وهي جنة من جلد يتقون بها ضرب السيوف على الأبدان، ووصف المزرد بن ضرار ترسه وهو يلمع كأنه الشمس بين طيات السحاب, فقال: وجوب يرى كالشمس في طخية الدجى ... وأبيض ماض في الضريبة قاصل1 وذكر أبو قيس بن الأسلت عدده الحربية ومنها الترس, فقال: أحفزها عني بذي رونق ... مهند كالملح قطاع صدق حسام وادق حده ... ومجنأ أسمر قراع2 ووصفوا اللواء الذي لا يحمله عادة إلا كل بطل شجاع. وقد كان عثمان بن أبي طلحة في يوم أحد يحمل لواء المشركين ويقول: إن على أهل اللواء حقا ... أن يخضبوا الصعدة أو تندقا3 أدوات الكتابة: أما الكتابة فسيتناول حديثنا عنها المواد التي كانوا يكتبون عليها, والأدوات التي كانوا يكتبون بها، وألوان كتابتهم ذاتها.

_ 1 جوب: ترس, المفضليات 1/ 97. 2 المفضليات 2/ 84. مجنأ: منحنٍ, ويقصد به الترس. قراع: صلب. 3 الصعدة: الأرض أو القناة المستوية.

والحجازيون -كالعرب الجاهليين- كانوا يكتبون على الجلد والقماش والنبات والخشب والحجارة والعظام والورق. وكانوا يسمون الجلد: "الرق" و"الأديم" و"القضيم" والفرق بينها غير واضح من النصوص والروايات. بيد أن المعاجم تجعل "الرق": الجلد الرقيق الذي يسوّى ويرقق ويكتب عليه، وتجعل "الأديم": الجلد الأحمر أو المدبوغ، وتجعل "القضيم": الجلد الأبيض يكتب فيه, وقد ورد ذكرها في الشعر الحجازي الجاهلي. ففي الرق يقول معقل بن خويلد الهزلي: وإني كما قال يملى الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب1 وفي القضيم يقول النابغة الذبياني: كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمته الصوانع2 وكانوا يطلقون على الصحف إذا كانت من القماش: المهارق -ومفردها: "المهرق" فارسي معرب وأصله مهر كود- وهي خرق حرير أو قطن تصقل ويكتب فيها، ويبدو أن المهارق كانت لارتفاع ثمنها لا يكتب فيها إلا القليل من شئونهم, ككتب الدين أو العهود والمواثيق والأمان. وفي المهرق يقول شتيم بن خويلد الفزاري: تسمع أصوات كدري الفراخ به ... مثل الأعاجم تغشي المهرق القلما3 وأشهر ما كتبوا عليه من النبات العُسب جمع عسيب، وهو السعفة أو جريدة النخل إذ يبست وكشط خوصها. قال لبيد يصف كاتبا: متعود لحن يعيد بكفه ... قلما على عسب ذبلن وبان

_ 1 ديوان الهذليين 3/ 70. 2 ديوانه "خمسة دواوين" ص50. الرامسات: الرياح. 3 النقائض 106.

وكانوا يسمون الكتابة والنقش على الحجر: الوحي. قال زهير: لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد وذكروا في أشعارهم الورق، فهل كان الورق هو الجلد الرقيق الذي يشبه في رقته ورق الشجر، أم هو الورق المعروف بالورق الصيني جلبوه من البلاد المجاورة للصين كالهند وفارس، وإذًا فقد عرفنا الورق الصيني كما يرجع بعض الباحثين؟ وأيا كان الأمر, فإننا نجد ذكر الورق في مثل قول حسان بن ثابت: عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب وكان للمواد المكتوبة أسماء عامة من أشهرها الصحيفة والكتاب والزبور، وقد وردت الصحيفة بصيغة الجمع في شعر قيس بن الخطيم حيث يقول: لما بدت غدوة جباههم ... حنت إلينا الأرحام والصحف ويعني بالصحف: العهود والمواثيق المسجلة في الصحائف، كما وردت في قول درهم بن زيد الأوسي، وهو يذكر الخزرج ما بينهم من أحلاف وعهود مكتوبة: وإن ما بيننا وبينكم ... حين يقال: الأرحام والصحف وربما كانت لفظة الكتاب أعم من الصحيفة، إلا أنها أطلقت على الشيء المكتوب حتى لا تكاد تنصرف إلا إليه. وقد وردت في شعر زهير حيث يقول: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم أما الزبور -وجمعها زبر- فيطلق على الكتاب الديني وغير الديني. قال أمية بن أبي الصلت على المعنى الأول: وأبرزوا بصعيد مستو جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر واشتقوا من الزبور الفعل: يزبر بمعنى يكتب. قال أبو ذؤيب: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري

ووصف الحجازيون الكتابة وصفا جميلا بارعا، فهذا أبو ذؤيب الهذلي يشير إلى كاتب يكتب دينا له، ويصف كتابته بأنها كانت كتابة دقيقة يتأنف فيها، حتى يجعلها مزخرفة مزينة كالعروس ليلة تهدى إلى زوجها. فوصف أبو ذؤيب هذه الكتابة بأنها "رقم" و"وشي" و"نمنمة". ثم يصف لنا الصحف التي كان يكتب عليها, ويذكر أنها ناعمة رقيقة "كالرباط". ولا يكتفي بذلك, بل إنه ليعرف أن هذه الصحف لا يكتب عليها الكاتب أول مرة، وإنما يستخدمها بعد أن استخدمها غيره من قبله، فجاء صاحبنا الدائن فمحا الكتابة السابقة وكتب عليها دينه، ولكن آثار الكتابة السابقة ما زالت باقية يشاهدها أبو ذؤيب فيعرفها ويصفها، وذلك قوله: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري برقم ووشي كما زخرفت ... بميشمها المزدهاة الهدي أدان وأنبأه الأولو ... ن أن المدان الملي الوفي فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتاب محي1 ويشبه معاوية بن جعفر منازل حبيبته بالكتابة المجودة المنمقة, فيقول: فإن لها منازل خاويات ... على نملى وقفت بها الركابا من الأجزاع أسفل من نميل ... كما رجعت بالقلم الكتابا كتاب محبر هاج بصير ... ينمقه وحاذر أن يعابا وكما وصفوا الكتابة المجودة المتقنة، وصفوا كذلك الخط السريع المعمي الفعل الذي لا إتقان فيه. قال الشماخ يصف تعريض الخط: كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا وتعريض الخط هو تعميته وعدم تقويمه, وترك تبيين حروفه.

_ 1 الميشم: الإبرة تشم بها المرأة على كفها، زخرفت: زينت. المزدهاة: التي استخفها الحسن والعجب. الهدي: العروس. أدان: باع مبيعا إلى أجل. الملي: الميسر. الرياط: الملاء, جمع ملاءة. راجع مصادر الشعر الجاهلي ص122, وديوان الهذليين ج1 ص64, 65.

وذكر الحجازيون الأدوات الكتابية كالقلم والدواة والحبر. والقلم في الجاهلية مصنوع من القصب، يقط ويقلم أو يبرى, ثم يغمس في مداد الدواة ويكتب به. وقد مر ذكر القلم في بيتي شتيم بن خويلد، كما ورد في شعر لأمية بن أبي الصلت وهو يمدح بني إياد فيقول: قوم لهم ساح العرق إذا ... ساروا جميعا والقط والقلم أما الدواة, فقد ذكرت في قول أبي ذؤيب: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري1 المديح: والمديح لون من الشعر يزري بصاحبه إذا كان غرضه الزلفى، والتماس العطايا والهبات ... ولا غبار عليه إذا كان صادرا عن إحساس صادق، وشعور لا زيف فيه تجاه الممدوح, شعور بريء من غرض التكسب، أو النفاق. ومن شعراء الحجاز الذين أسهموا بنصيب في هذا الفن: النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى. وكان الحجازيون إذا مدحوا يشيدون بفضائل الممدوح، وكريم خلاله؛ كالشجاعة والكرم، والعفة والنجدة، والشهامة والمروءة، والصدق والوفاء, وغيرها من الخلال. ونظرة في نماذج هذا الشعر التي سقناها، كقصيدة أبي طالب في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقصيدة النابغة في مدح عمرو بن الحارث الغساني، وشعر أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان، ترينا حسن تلطفهم في الكشف عن محاسن ممدوحيهم، وصدق إحساسهم فيما يسبغون عليهم من نعوت.

_ 1 راجع ابن هشام 1/ 48. 2 ص231 و238 و239 من هذا الكتاب.

وقد رووا أن أمدح بيت قالته العرب قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب بأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وكان النابغة يتمتع بمكانة سامية لدى الغساسنة ... كان يتشفع لديهم فتقبل شفاعته، وتطلق بوساطته الأسرى، فيئوبون مزودين بالهدايا والهبات الوافرة. ولا غرو, إذا ما قال في مدحهم: ولله عينا من رأى أهل قبة أضر لمن عادوا وأكثر نافعا وأعظم أحلاما، وأكثر سيدا وأفضل مشفوعا إليه وشافعا متى تلقهم لا تلق للبيت عورة ولا الضيف ممنوعا ولا الجار ضائعا وكان النابغة يعتبر الملوك إخوانا له, يحكم في أموالهم: ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم أحكم في أموالهم وأقرب وفي الإشادة بشخصية حصن بن حذيفة الفزاري يقول زهير: بكرت عليه غدوة فرأيته قعودا لديه بالصريم عواذله يفدينه طورا، وطورا يلمنه وأعيا فما يدرين أين مخاتله فأقصرن منه عن كريم مرزء عزوم على الأمر الذي هو فاعله أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله وكان الحجازيون في مدحهم يتوخون غالبا جانب البساطة والصدق في التعبير عن الفضائل الحقيقية للممدوح، ولا يعرفون المبالغة ولا الملق ولا النفاق مما نراه سائرا في عصرنا الحاضر. أما القول الزائف الذي يغشى نفوسنا في أيامنا الراهنة، حيث تقلب الحقائق رأسا على عقب، فإذا الظالم المستبد عادل، بل لا أعدل منه، وإذا

§1/1