قانون التأويل

ابن العربي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7].

قانون التأويل

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م دار القبلة للثقافة الإسلامية المملكة العربية السعودية - جَدّة - ص ب: 10933 - ت: 6710000 - تلكس: 21443 مؤسَسَة عُلوم القُرآن سورَيا - دمَشق - شَارع مسلم البَارُودي - بناء خولي وصَلَاحي - ص ب 4620 - ت 225877 - بَيروت - ص ب 5281/ 13

الإهدَاء إلى والدي الكريم فضيلة الشيخ الحسين السليماني أهدي هذه الثمرة. ابنكم محمد

مقدمة فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان دنيا

مقدّمة فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان دنيا الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين، أحمده على عظيم نعمائه، وجميل بلائه، وأستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان، وأرغب إليه في التوفيق والعصمة، وأبرأ إليه من الحول والقوة، واخلص القول بأن لا إله إلاَّ الله شهادة الموحد المستبصر، غير المتوقف المتحير، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده الأمين على وحيه، ورسوله الصادع بأمره ونهيه، المؤيد بِجَوَامِع الكَلِم، المبين للناس ما نزل إليهم بلسان عربي مبين، فيه واضح يعرفه السامعون، وغامض لا يعقله إلا العالمون، وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله المتبعين لسنته، وأصحابه المبينين لشريعته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن هذا الكتاب القيم باكورة عمل جليل يقوم به ابني وتلميذي الأستاذ محمد السليماني، لِإحياء تراث أكبر فقيه ومتكلم عرفته الأندلس، ومن المعلوم أن كنوز التراث الِإسلامي قد طمرتها حوادث الدهر وصروف الأيام وعوادي الزمن، فهي اليوم من مودعات خزائن الكتب العامة والخاصة في الشرق والغرب، وأصبحت في جملة الدفائن، اللهم إلا كتباً يسيرة حققت تحقيقاً علمياً جيداً، هي جلّ ما أخرج إلينا من رشح ذلك المعين المتدفق، وما أقلَّه ثَمَداً لا يقطع غُلَّة صادٍ، ولا يعيد بِلَّة منطِق.

وإننا اليوم بحاجة ماسّة إلى إحياء ما درس من معالم ثقافتنا، وتبيان ما طمس من آثارها. والكشف عن منابع الحق فيها، نستخرج منها ذكريات العزة، وصفحات المجد، وآيات الفخار. وقد كان لتلميذي محمد -وهو الخبير بنوادر الكتب والمخطوطات- في تَخَيُّر هذا الكتاب الذي أقدم على نشره وتحقيقه، منهج معين وقصد مرسوم، ولم يكن اختياراً جاء عفو الخاطر أو ولّدته اللّمحة الخاطفة. وإنما كان اختياراً أنتجته الأناة والتروي، وأملته مصلحة الأمة، وفرضته اعتبارات الصحوة الِإسلامية المباركة. وقد قدم لنا الأستاذ محمد بمقدمة لقانون التأويل فيها من صدق العرض واستواء القصد وبلوغ الهدف ما يكشف عن حقيقة الكتاب وضرورته للمكتبة الِإسلامية، وأشهد لهذه المقدمة بأنها استقصت من أخبار ابن العربي كثيراً، وتلك يد لمحمد على التراث الِإسلامي، وهي أخرى على التاريخ، ولو قد يسّر الله لكل عالم من علماء أمتنا الِإسلامية باحثاً ذا جلد وصبر ومعرفة وأمانة في الاطلاع ودقة في التحري كما يسر الله لابن العربي، لما أضلت الأمة الإِسلامية مسجد علمائها ومفكريها، فجزاه الله عن العلم كل خير. وكتاب "قانون التأويل" هو للقاضي أبي بكر بن العربي، ويعد هذا الإِمام في طليعة العلماء الذين أخذوا من كل فن بسهم وافر، ولم يقف بنفسه عند حد المعرفة والتعليم، بل اقتحم ميدان التأليف الموفّق، فكان من نخبة الكتّاب المجيدين، بل من أغزرهم مادة، وأطولهم باعاً، وأمضاهم سليقة، وأحضرهم بياناً، متبحر في الفقه وأصوله، بصير بعلم الكلام، خبير بمشكلاته، متصرف في دقائقه. وقد كَبُرَ ابن العربي في عيني، ووقع في نفسي موقعاً جليلاً، منذ أن قرأت كتابه النفيس "العواصم من القواصم" الذي رد فيه على الفلاسفة وغلاة الصوفية والجهلة من المؤرخين، فكان لكتابه هذا المزية الظاهرة والغرة

الواضحة في الفكر الإِسلامي، ولو كان لي من الأمر شيء لأمرت أن يطبع هذا الكتاب ويوزع مجاناً ليكون في يد كل مسلم يحب الله ورسوله. ومن حِكَمِ الله سبحانه وتعالى أن وهب لسلفنا -رضي الله عنهم- بعامة وابن العربي بخاصة قدرة نفسية عجيبة يجعلون بها العلم خفيفاً محمله، لا يعيا به معانيه ومزاوله، بل يتنقل بين فنونه في شوق ولهفة لا نجدها حين نزاول تصانيفنا الحديثة، وكتاب "قانون التأويل" من جملة هذه الكتابات اللطيفة التي تمتاز بالعلم الغزير، والبيان الأصيل، الذي يشوق القلوب، ويستولي على الأفئدة، ويملأ النفوس بالِإعجاب. فقد لجأ هذا الِإمام العظيم إلى إقامة ميزان عدل صحيح كما عرفه من دينه الحنيف، خدمة للعلم وطلابه، يتحصنون به -إذا ما حصلوه على وجهه- عن الخطأ في الفهم، كلما خاضوا في تفسير النصوص الشرعية، أو تعاطوا تأويلها. ولا شك أن طالب العلم إذا أغفل مثل هذه الموازين الحقة، والقوانين المضبوطة، لم يكد يسلم من هجنة التقصير وسوء التأويل. وهذا الكتاب قد يعتقد القارئ الكريم في أول الأمر وبادىء الظن أنه يكفي ويغني. حتى إذا نظر فيه الناظر، وجد الأمر على خلاف ما حسبه، والحق أن هذا الكتاب عبارة عن قوانين منهجية تفتح للقارىء الطريق ليسلكه، وتضع له القاعدة ليبني عليها، وتستحثه لإعمال النظر، والمبالغة في الفحص، والِإغراق في البحث، والِإمعان في التنقيب، وحقيق بمن يقرأ "قانون التأويل" أن يعود إلى كتب ابن العربي بعامة فيستنبئها التفصيل والشرح. وفي الختام أقول: طلب مني ابني محمد أن أكتب له هذه الكلمة، وقد تضاءلت القوة، أو زالت، وحل محلّها الضعف والعجز، وتلاشى الأمل، وحل محلّه الشعور بدنو الأجل وقرب الرحيل. والله يشهد -ولا أظن مؤمناً يُشْهِدُ الله على أمر هو كاذب فيه- أنني أترقب الموت في كل لحظة، وأرجو لقاءه في كل حين،

لأدفن بجوار نبيه سيدنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إنني إن نظرت إلى ما مضى من عمري، وجدتُني قد غرقت في خضم الحياة، ولم أتنبه لِإدراك حقيقة المصير الذي أنا صائر إليه، فلم أعد نفسي له، ولم آخذ له أهبته. وإن نظرت إلى حاضري، وجدتُني أعجز من أن أنهض بعبء الحاضر، فضلاً عن أن أتدارك معه تقصير الماضي. اللهم إني أضرع إليك ضراعة من برىء إليك من كل حول وقوة، وأستهديك في زمان قد ضاعت فيه معالم الهدى، وعمي على الناس طريقهم في غمرة الضلالة. اللهم ثبت قدمي حيث تزلُّ الأقدام، وأنر بصيرتي حيث تعمى البصائر. اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لا أستشفع إليك إلا بك، ولا أخاف أحداً غيرك، ولا أرضى ربّاً سواك، فاغفر لي. اللهم تقبل عملي، واغفر زلتي، غير خال من عفوك، ولا محروم من إكرامك. إلهي: لقد دنا الأجل، وحقك إني ما أخاف لقاءك، بل أكاد أتعجله شوقاً إليك. اللهم شكراً شكراً: لقد كشفت لي عن حقيقة الدنيا، فرأيتها مشغلة الغافل، وسلوة الجاهل: الغافل عن مصيره، الجاهل بحقيقة نفسه، فاللهم زدني بها تبصرة، وعنها انصرافاً. أنت أنت الله. هذا الكون العظيم، الذي عَلِمْنَا منه ما علمنا، وجهلنا منه ما جهلنا، صنعك، عرفناك به، فكيف يا إلهي يعرف هذا الكون من يجهلك؟ إنه يكاد ينطق بأن له إلهاً خلقه، ويصيح بالجاحدين والمنكرين أن تدبروا واعتبروا، فإن البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير،

فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، حَوَتَا من المخلوقات ما يدهش العقول ويحير الألباب، ألا تدل على اللطيف الخبير؟. سبحانك، سبحانك، أنت الحق وكل ما عداك باطل، أنت الباقي وكل ما عداك زائل، أنت القوي المتين بيدك الأمر كله، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله من الصفح والإِحسان. اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وقوة، وأستعينك وأستهديك، وأعوذ برضاك من غضبك، فاغفر لي وارحمني وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إني قد رضيت بك رباً، وبسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً، وبكتابك هادياً وإماماً، وبسنة رسولك إيضاحاً وتبياناً. اللهم إني قد رضيت بذلك كلّ الرضى، ما أحسب أن الدنيا كلها تعدله. اللهم اجعلنا وذريتنا وجميع المؤمنين بك وبرسولك موضع رضاك وعطفك وإحسانك وفضلك. إنك أكرم مسؤول، وخير مأمول، وصلّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. مكة المكرمة في 14 رمضان 1405 هـ سليمان دنيا اللائذ بكنف القوي الذي لا يقهر

مقدمة فضيلة الشيخ العلامة سيد سابق

مقدمة فضيلة الشيخ العلامة سيد سابق الغاية من خلق الناس هي عبادة الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولن تتم هذه العبادة إلا بالعلم الذي تستنير به السبل وتتضح معالم الحق. وأرقى أنواع العلوم وأزكاها العلم بالكتاب والسنة، ولا يضل من تمسك بهما، يستوي في ذلك نص واضح الدلالة، أو اجتهاد في نص صادر عن أهل الاجتهاد. وعماد المجتهدين قوله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وأولوا الأمر هنا هم العلماء الذين بذلوا غاية جهدهم، فدرسوا وفهموا وحفظوا وقارنوا ورجحوا، وميزوا الصحيح من الضعيف وعرفوا كيف تستنبط الأحكام من مصادرها، حتى صاروا بجهودهم يأخذون ما شاؤوا لما شاؤوا من أحكام، وهدفهم الوصول إلى الحق. وقد أكد الِإمام البخاري في صحيحه أن المراد بالطائفة الظاهرة على الحق هم أهل العلم ... ، وهم المنتصرون على من خالفهم وأهل العلم أقوياء بعلمهم وعملهم، ويراد بهم هنا المفسرون والمحدثون والفقهاء والخبراء بشؤون الحرب، من المسلمين، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والِإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي، أحد هؤلاء العلماء، وهو

من القمم الشامخة، وبصماته واضحة في علوم الدين والدنيا، فقد صنف في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، كان أبوه من علماء الوزراء، تخرج بالِإمام الغزالي، وانتفع به كثيراً، وكان يعرف قدره، فهو الذي أطلق عليه عالم العلماء، كما أشار إلى ذلك في كتابه (قانون التأويل). ويكفي ابن العربي فخراً أنه أستاذ القاضي عياض، وأبو بكر بن خير. والقاضي عياض شيخ الإِسلام، حامل لواء العلوم الشرعية بيقظة وفهم، أبدع في كتابه (الشِّفَا في التعريف بحقوق المصطفى) إبداعاً فاق كل حدّ، وكتابه (مشارق الأنوار) الذي يقول عنه مؤلف (شجرة النور الزكية) "لو كتب بالذهب، ووزن بالجواهر لكان قليلاً". أما أبو بكر محمد بن خير: فهو العلامة المحدَّث التقيّ الثقة المأمون، قال ابن العماد في شذرات الذهب عندما ترجم لابن العربي: "رحل إلى الشام وبغداد والحجاز ثم عاد إلى بغداد، ثم ذهب إلى مصر والإسكندرية، ثم عاد إلى الأندلس بعلم كثير". وأضاف: "وابن العربي مفرط في الذكاء، عالم ناقد متبحر، قادر على نشر سائر علومه، مع الأدب وحسن المعاشرة، ولين الجانب". وقال السيوطي في طبقات الحفاظ: "برع في الأدب، وكان ثاقب الذهن، كريم الشمائل، كما كان شديداً في الحق، ينتصر للمظلوم، وقد بلغ رتبة الاجتهاد". أجل: والواصلون درجة الاجتهاد قِلَّة، وأقل منهم من أعد نفسه بحيث لو كان وحده لاستغنى به الناس عن غيره. وابن العربي واحد من هؤلاء الكبار، تبحّر في المذهب المالكي حتى صار فيه علماً، وبه تبحر في سائر العلوم، فوعى الأصول، وأحكم الفروع وحفظ قضايا الصحابة والتابعين، مع دقة النظر في تخريج المسائل.

وقد اجتهد في نشر المذهب، وقرّبه إلى الناس تخريجاً واستدلالاً واستنباطاً. وكأنَّي به قد وضع نصب عينيه جواب الِإمام أحمد رحمه الله حيث سئل يكفي الرجل مائة ألف حديث حتى يفتي؟ قال: لا. ولما قيل له خمسمائة ألف حديث؟ قال: أرجو. أدرك ابن العربي في حياته المبكرة أن العلم أساس الدين، وأن الدين يؤسس علي العقيدة والفقه، وعاش لذلك يفتي، وينشر علمه بين الناس أربعين عاماً. وقد دفعه إلى ذلك، ما يتميز به من ذكاء القلب، وصدق الرأي والتمكن من الجواب، والثقة بالنفس، وكثرة الفضل. من بديع ما قال: ما من رجل يطلب الحديث، إلا كان على وجهه نضرة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا" ودعاء الرسول مستجاب. من مؤلفاته: "الإِنصاف في مسائل الخلاف" عشرون جزءاً، و"عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي"، ومعنى العارضة: القدرة على الكلام، والأحوذي: الجاد في الأمور المنتصر، الذي لا يفوته مطلب، وهكذا كان ابن العربي، وله كتاب "العواصم من القواصم" الذي سد فراغاً كبيراً في المكتبة الِإسلامية، ومن أهم ما أنتج كتابه "أحكام القرآن"، والِإمام القرطبي نفسه مع إمامته يرجع إليه ويعتمد عليه، ولو لم يكن لابن العربي من جهد ومن ثمار إلاَّ تأليف كتاب تفسير القرآن الذي بلغ ثمانين مجلداً لكفاه فخراً، ولكن للأسف لم يُعْثَر له على أثر. ومن أهم مؤلفاته "قانون التأويل" وهو يتناول القواعد المنهجية لطلاب العلوم الشرعية، وكان هذا الكتاب دفيناً في خزائن المخطوطات حتى قيض

الله له ابننا الأستاذ الشيخ محمد السليماني فبعث الله هذا الكتاب على يديه، فتقدم به إلى جامعة أم القرى فحققه، وعلّق عليه وأضاف إليه إضافات، تظهر غامضه، وتجلِّي دقائقه، وخرج أحاديثه وقارن بين الروايات، فجاء الكتاب درّة فريدة، فجزاه الله عن دينه خير الجزاء، ونفع به الإِسلام والمسلمين. سيد سابق مكة المكرمة: 28/ 8/ 1405 هـ. انظر: 1 - تذكرة الحفاظ 4/ 1294. 2 - فتح الباري 13/ 293. 3 - طبقات الحفاظ 468. 4 - شذرات الذهب 4/ 141. 5 - الأعلام 1/ 230. 6 - شجرة النور الذكية 136، 140، 152.

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله المقدسة أسماؤه، السابغة آلاؤه، الواسعة رحمته، المنجِّية مغفرته. وصلّى الله على سيّدنا محمد النبي الأمِّيِّ الذي بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، وترك في الناس ما لو تمسكوا به لم يضلوا بعده: كتاب الله، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاَّ الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أولو الألباب. أما بعد: يعتبر أبو بكر بن العربي من أعلام العلماء الذين تعددت مواهبهم، وتنوعت شخصيتهم، على نسق يكاد يكون متّسقاً. فهو الفقيه البصير الذي جانب التقليد والتزمّت والعكوف على ترديد كلمات بأعيانها. وهو المحدَّث المستنير يُعْمِلُ عقلَهُ وفكره فيما يقرأ أو يسمع، ويغوص على المعاني الدِّقَاق المُسْتَكِنَّةِ في أطواء النص الحديثيّ. وهو المفسِّر المقتدر الذي أعدّ العدّة لعمله في التفسير، من تضلُّع من لغة العرب وأشعارها وروائع نثرها الذي يمتاز بإيجاز اللفظ وثراء المعنى. وهو الأديب الذي يغوص على المعنى، ويفتنّ في التعبير عنه، واستخراج العبرة من مطاويه.

وهو المؤرخ الذي يقارن بين الروايات، وَيمِيزُ حقَّهَا من باطلها، ولا يكتفي بإيرادها كما هو شأن الكثيرين. وهو المثقف الواسعُ الثقافة الذي لا يَقْصرُ نَفْسَهُ على فن أو فنون معدودة، وإنما يطوف بأرجائها، ويقطِفُ من ثمارها، ما طاب له التَّطْواف والقِطاف. وهو المتكلم الذي درس عيون كتب الكلام، ونظر فيها نظراتٍ فاحصةً مستقلةً، لا يعنيها إلاَّ كشف الحق، ودحضُ الباطل الذي ران على كثيرٍ من أبحاث السابقين، واختيارُ الرأي الناضج الذي لا يتعارض مع حقائق الِإسلام. ولست أقول ذلك مسلماً له جميع آرائه ومعتقداته، فهو مجتهد مكثر، ومن شأن الِإكثار أن يكون فيه عِثَار، ولكنه العِثَارُ الذي لا يكبُّهُ في الخطأ على وجهه، بل يقوم من عثرته سليماً معافىً، غير متجانف لخطأٍ، وإنما يشدُّ أزْرَهُ ويقوي صُلْبَهُ حبُّه للحق وبغضه للزيف والباطل. وغنيٌّ عن البيان أن المكثرين من التأليف تقع في مؤلفاتهم الهنات والهنات. وقد تعلقت ببعض تلك الهنات، وكشفت عن منبع الحق، فيها بأسلوب لا يديل من جلالة صاحبها، وقديماً قيل: "العظيم من عدت سقطاته" فلا بد والحالة هذه من هنة تغتفر، ومن تقصير يحتمل. ومن عجيب الأمر أن ابن العربي هذا، لم يظفر بعناية الباحثين المحدثين، ولم يقم على نشر تراثه طائفة من ذوي الأقدار والأفهام الذين يحسنون قراءة نصوصه، ويدركون مرمى إشاراته، فكان انتفاع الناس بتراثه المطبوع انتفاعاً قاصراً، لما امتلأ به من غلط وتصحيف وتحريف ومسخ. وقد اطلعت -بفضل الله- على جلّ ما وصلنا من كتبه المخطوطة، وبعد طول تردّد وعمق تفكير، واستشارة كثير من أساتذتي العارفين الخلصاء

الأمناء على العلم والدين، وجدت في نفسي رغبة في تحقيق كتاب "قانون التأويل" بغية إخراجه للباحثين، والكشف عن شخصية أبي بكر بن العربي الكلامية التي ينبغي إبرازها والِإحاطة بها. كما أن ثمة عوامل كثيرة شجعتني أن أمضي قُدُماً في هذا العمل بعد أن كدت أحجم عما انتويت، خشية المزالق والعثرات التي لا أبرىء نفسي -مهما حذرت- أن أقع فيها، ومن هذه العوامل: أولاً: أن ابن العربي يعتبر من أكبر علماء العقيدة بالأندلس، والدليل على صحة هذا الحكم، أن كتبه في هذا المجال، ظلت نافقة عند العلماء على اختلاف الأجيال والأعصار إلى يوم الناس هذا. ثانياً: أنه من الأوائل الذين تكلموا في علم الكلام على الطريقة الأشعرية، فنشر تراثه الكلامي، ودراسةُ أفكاره وآرائه، بما يفيد الباحثين جديداً في معرفة التطور الفكري بالأندلس. ثالثاً: أنه أسهم إسهاماً فعالاً في نقد آراء غلاة المتصوفة والباطنية، بأسلوب علميّ سديد، دلّ به على سَعَةِ علمه، وحصافة رأيه، ودقّة نظره، وعمق فكره. إضافة إلى أن كتابه "قانون التأويل" هذا، يعتبر من الكتب النفيسة اللطيفة التي تمتاز بغزارة المادّة، وسداد المنهج، وحسن المنحى، وجزالة الأسلوب. فباستطاعة الباحث أن يدرك فوائدَهُ في يسر لا يَشُوبُهُ عسر، إذ بذل فيه مؤلفه -رحمة الله عليه- أقصى جُهْدَهُ من أجل تقريبه إلى الأفهام، فجاء -ولله الحمد- كما أراد، حَسَنَ الديباجة، مُحْكَمَ الوضع، متناسقَ التبويب، مُطَّرِدَ الفصول، لا انقطاع في سلسلة أغراضه، ولا تباين في لُحْمَةِ معانيه. وقد جعلت هذه الدراسة في مقدمة وقسمين: أما المقدمة، فقد تناولت فيها الأسباب التي حملتني على اختيار هذا الموضوع والخطة التي سرت عليها.

فأما القسم الأول: فيقع في خمسة فصول، تكلمت في الفصل الأول عن الحياة الفكرية في الأندلس، فبينت مراحلَ التطور الكلاميّ والفقهيّ والفلسفي، وما كانت عليه من أوضاع، وأهملت الكلام عن الناحية الاقتصادية والسياسية لعدم أهميتها في مثل دراستنا هذه. وتكلمت في الفصل الثاني عن سيرة ابن العربي، فدرست نَشْأتَهُ وبدءَ عنايته بطلب العلم، ورحلتَهُ العلميةَ ونوعيةَ دراسته، وصلاتِهِ الشخصيةَ وأثرَهَا في تكوينه الفكري، ونشاطَهُ العلمي، ومناصبَهُ في القضاء والدولة. وَعُنِيتُ في الفصل الثالث باستقصاء آثار ابنِ العربي المطبوعة والمخطوطة، وتكلمت عنها بإيجاز. واقتصرت في الفصل الرابع على ذكر أهم شيوخه الذين أثروا في تكوين شخصيته العلمية، كما صنعت معجماً لتلاميذه، ومعجماً لما رواه عن شيوخه، وختمت هذا الفصل بذكر وفاته وأولاده. وأما الفصل الخامس فكان موضوعه كتاب "قانون التأويل" نفسه، حيث درست أهم المسائل العقدية التي وردت به، لِإيماني بان مثل هذه الدراسة سوف توضح قيمة الكتاب، وتيسِّر لطلبة العلم الإِفادة منه إن شاء الله تعالى. وأما القسم الثاني فأخلصته لتحقيق نص "قانون التأويل" وصدرته بمدخل للكتاب ذكرت فيه توثيق نسبته لمؤلفه، وبواعث تأليفه، وتحليل مختصر لمضمونه، ومصادره، ووصف مجمل للنسخ الخطية المعتمدة في التحقيق. ثم المنهج الذي اتبعته في التحقيق والتعليق. هذا مجمل ما انتهيت إليه في هذه الدراسة، وأرجو أن أكون قد وفِّقت إلى ما ابتغيت، وتهديت إلى ما قصدت من إخراج هذا السفر القيم على النحو الذي يعمّ النفع به، وتلحقني به دعوة صالحة، ولا أماري أن بين هذا العمل وما ينبغي له بوناً بعيداً، ولكن هذا ما اتسع له الوقت وأعان عليه

الجهد، وأرجو أن تكون الطبعة القادمة -إن قدّر ذلك- أوفى وأتم، وأقرب ما ينبغي في مثل هذا الصنيع. ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلاَّ أن أذكر باعتزاز كبير أستاذي الجليل الدكتور سليمان دنيا -المشرف على هذا البحث والذي قوّم الكثير من أوده، وأتحفه بكلمة شائقة مؤثرة، أدرجتها في صدر هذا السفر، فشكراً له على عطفه ولطفه، وجزاه الله عني خير الجزاء. وأتوجه بالشكر الجزيل والثناء الحسن للأساتذة الأجلاء: شيخي العلامة السيد سابق الذي تفضل بالِإشراف على هذه الرسالة حتى اكتملت، بعد أن تعذّر على أستاذي الدكتور سليمان دنيا الِإشراف من أجل مرضه -شفاه الله تعالى-. والمحدث الناقد السيد أحمد صقر الذي كان يفيض علي من كنوز معلوماته، ومن نوادر كتبه ومخطوطاته، مما فتح لي آفاق البحث، وارتاد بي منازل العلم والتحقيق. وصاحبنا إسحاق إدريس سكوته كان الله له. والدكتور الشريف منصور العبدلي الذي أفادني كثيراً بملاحظاته وتوجيهاته القيمة. والدكتور الداعية الإِسلامي عبد السلام الهراس الذي أعارني نسخة "القانون" التي تقدم بها الأخ الأستاذ المصطفى بن عبد الله صغيري لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية بالمغرب. ومعالي الدكتور مولاي أحمد العراقي الذي يسّر لي دخول المغرب الشقيق، والاستفادة من مكاتبه الخاصة والعامة. ومعالي الدكتور محمد عبده يماني والأخ الأستاذ محمد أديب كاتبة

اللذان ساهما في إحياء هذا الأثر النفيس، غير ضنينين عليه بما يكفل له دقّة التحقيق وأناقة الإِخراج. وأخيراً أتقدم بأعمق الشكر وفائق الاحترام إلى أمناء مكتبات مكة المكرمة واسطنبول ومدريد والمغرب وإلى جميع الإِخوة والزملاء، وأخص منهم الأخ الكريم مولود التايهي، والله أسأل أن يجعل كلّ ما نأتيه ونقصده وننتحيه لوجهه خالصاً، وإلى رضاه عَزَّ وَجَلَّ مؤدياً، ولثوابه مقتضياً، وللزلفى عنده مواجباً، بمنه وفضله ورحمته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. محمد السليماني مكة المكرمة في 26 رمضان 1405 هـ.

الرموز م: ن: المصدر نفسه. ت: توفي أو المتوفى. ص: صفحة. ط: طبع أو طبعة.

(الدراسة)

القسم الأول (الدّراسَة)

الفصل الأول الحياة الفكرية في الأندلس

الفصل الأول الحياة الفِكريّة في الأندَلس

1 - مدخل

الفصل الأول الحياة الفكرية في الأندلس 1 - مدخل: مضى النصف الأول من القرن الخامس الهجري موسوماً في تاريخ المغرب الِإسلامي بسمة التصدع والتداعي والانحراف عن جادة الطريق، إذ ضعف ملك بني عباد وأفل نجمهم، ومال عزّ ملوك الطوائف وتهاوت كواكب سعدهم، وتقوّض سرادق مجدهم، فأقروا بالذلّ، واعترفوا بالضيم وانقادوا للهوان، فلم يعد الِإيمان يحرك أفئدتهم، ولا الإِسلام يرسم منهج حياتهم، فعميت عليهم وجوه الرشد، واستبهمت معالم القصد فتهاووا في شعاب الباطل، وهاموا في أودية الضلال، وتساقطت الثغور الإِسلامية نهباً بين أيدي المغيرين من أعداء الله ورسوله، فأظلمت الأجواء، وانطمست المسالك وتلاشت الآمال ووهنت العزائم واستحكم اليأس والفتور، وأخلد الناس إلى العجز ورضوا بالحرمان، وتحت ظل هذا الجو القاتم لمحت بارقة من صحراء المغرب الأقصى، أحيت الآمال وبعثت الهمم؛ قوة فتية أربأت بنفسها عن مواطن الذل، وتجافت عن مطارح الهوان، وصانت كرامتها عن معرة الامتهان، يلين الحديد ولا تلين وتخبو النار ولا تنطفىء حرارة تلك النظرات المتقدة بين أطباق اللثام (¬1)، أولئك هم المرابطون الذين رفع الله ¬

_ (¬1) كان رجال القبائل الصحراوية الجنوبية بالمغرب الِإسلامي يستعملون اللثام، وقد مدحهم في ذلك الشاعر: أبو محمد بن حامد بقوله: لما حووا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا =

بهم عاثر الآمال، وأحيا بهم ميت الأماني، فانبعثوا ينشئون عاصمة المغرب الجديدة: مراكش ويمدّون رواق سلطانها على طول العدوة الِإفريقية ببلاد المغرب، ثم يرمون بحبل النجاة إلى العدوة الأندلسية في يوم الزلافة العظيم (¬1)، لتقوم الشوكة، وتحيا الدولة، تحت إمْرة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين (¬2)، (ت: 500). وهكذا انكشف ضباب اليأس، ونسج صبح الرجاء ظلمات القنوط، فانطلقت هذه الحركة المباركة تقوِّم المعوج، وترشد الناس إلى سواء السبيل، وتنقذ الإِسلام من الخطر الذي داهمه في بلاد الأندلس، فكانت سلطة قوية عادلة ذات إيمان راسخ، وفهم للدين واضح لا تخالطه شبهة ولا تلابسه غمة. ومن المعلوم لدى المطلع على التاريخ السياسي للمغرب الِإسلامي أن عدة من الدول التي قامت به نهضت على أساس إصلاح ديني زرع علماء الدين بذوره وتولد في أذهانهم محتواه ومنهجه، ثم سعوا في تحقيق السلطة التي تنفذه وتجعله حياة للناس، والدولة المرابطية التي عاشت فيما بين سنة: 448 وسنة: 541 هي واحدة من الدول التي يصدق عليها ذلك القول (¬3). ¬

_ = انظر: المقري: نفح الطيب: 4/ 193 (ط: محيي الدين عبد الحميد) وما زالت قبائل الطوارق في صحراء الجزائر يستعمل رجالها اللثام إلى يومنا هذا. (¬1) في معركة الزلافة (والزلافة بطحاء من إقليم بَطَلْيَوْس في غريب الأندلس) انهزم جيش الكفرة الزاحف من طليطلة سنة: 479، وللتوسع في معرفة أخبار هذه المعركة العظيمة، انظر: الحميري: الروض المعطار: 287، ابن الأثير: الكامل: 10/ 151، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 7/ 115، المقري: نفح الطيب: 4/ 354. (¬2) هو السلطان أبو يعقوب اللمتوني البربري الملثم، ويعرف بصاحب المغرب وبأمير المرابطين، انظر ترجمته عند: المراكشي: المعجب: 162، الذهبي: العبر: 1/ 356، وسير أعلام النبلاء: 29/ 251، القلقشندي: صبح الأعشى: 1/ 363، ابن عماد: شذرات الذهب: 3/ 412، الناصري: الاستقصاء: 1/ 224. (¬3) عبد المجيد النجار: المهدي بن تومرت حياته وآراؤه: 39 (ط: دار المغرب الإِسلامي بيروت: 1983).

لقد كانت هذه الدولة نتيجة لتخطيط محكم قام به علماء الإِسلام المغاربة مبتدئاً بعلامة القيروان أبي عمران الفاسي (¬1) حين أعلن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أعماق فاس، ثم الاتصال والتأثير في الأمير يحيى بن إبراهيم الكدالي (ت: 430) (¬2). وقد كان هذا الأمير متشوقاً لنفس الأمر، فتكافت الأيدي، وبدأت الدعوة، فكانت الدولة. ومن خصائص هذه الدولة الفتية أنهم أقاموا نظاماً اقتصادياً منبثقاً من صميم التعاليم الِإسلامية، وكانت العدالة الاقتصادية من أهم الأمور التي يطلبها المسلمون، إذ أنهم لقوا في عهد بني عباد وغيره من ملوك الطوائف عنتاً شاقاً، وتحملوا منهم رهقاً شديداً، فقد أثقلت الضرائب والمكوس كاهلهم، وصودرت منهم الأموال والأملاك لتصرف في أمور الترف واللهو، وجاء المرابطون فرفعوا هذا الظلم، والتزموا بالنظام الضريبي للفقه الإِسلامي مثل الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم (¬3). وينبغي التنبيه على أن يوسف بن تاشفين قد اشْتد إيثاره لأهل الفقه ¬

_ (¬1) هو الإِمام الكبير موسى بن عيسى بن أبي حاجّ يحجّ، البربري، الغَفَجُومِي الزناتي، رحل إلى الأندلس، وحج غير مرة، وأخذ علم العقليات عن القاضي أبي بكر الباقلاني توفي سنة 430، انظر: ابن ماكولا: الإكمال: 7/ 80، 81، 189، ابن بشكوال: الصله: 2/ 611، ابن فرحون: الديباج: 2/ 337 (تحقيق: د. الأحمدي أبو النور - دار التراث القاهرة) ابن عماد: شذرات الذهب: 3/ 247، مخلوف: شجرة النور الذكية: 106. (¬2) هو أمير كدالة ولمتونة، كان من رجال الملك الأتقياء، رحل إلى المشرق للحج، وفي أثناء عودته توقف في القيروان لزيارة أبي عمران الفاسي فسمع منه ولازمه، ولحظه أبو عمران بعينيه الوقادتين وترسم ما في أعماقه من طيبة وخير، فسدده إلى سواء السبيل، وأرشده إلى الاتصال بالشيخ المصلح وجاج بن زلو اللمطي فبعث وجاج مع الأمير يحيى الإِمام العالم العامل عبد الله بن ياسين الجزولي: انظر: ابن أبي زرع: الأنيس المطرب: 2/ 9 (تحقيق: محمد الفيلالي: المغرب: 1355). (¬3) محمد عبد الله عنان: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس: 1/ 51.

2 - المذاهب الفقهية السنية

والدين حتى كان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء (¬1) الذين أخلصوا لهذه الدولة فارتادوا لها نواحي الظفر، وتوخوا لها وجوه النجاح وبذلوا أقصى مجهودهم من أجل استقرارها، واستقصوا في سبيل ذلك الذرائع، واستنفذوا الوسائل، وركبوا كل صعب وذلول، ولا شك أن إقامة دولة إسلامية قوية على إثر إمارات ضعيفة أمر صعب، شديد المطلب، وعر الملتمس، عزيز المنال، ولكن بالإِخلاص والتفاني في حب الله ورسوله، وبالرغبة الصادقة في إعلاء كلمة الله عَزَّ وَجَلَّ تلين أعطاف الأمور، وتعن الرقاب، وتسهل الصعاب. 2 - المذاهب الفقهية السنية: يبدو -والله أعلم- أن أول المذاهب الفقهية دخولاً إلى الأندلس والمغرب هو مذهب الِإمام الأوزاعي (ت: 157)، وهو ما أشار إليه الحميدي في "جذوة المقتبس" (¬2) وأكده المِقَّري التلمساني بقوله: "واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح ... " (¬3) قلت: وهذا لا يمنع من وجود مذهب أبي حنيفة النعمان (ت: 150) فقد صرح بذلك الفقيه العظيم والمؤرخ الثبت القاضي عياض اليَحْصُبِيّ (ت: 544) الذي قال: "وأما إفريقية (أي تونس) وما وراءها (أي الجزائر والمغرب والأندلس) فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين إلى أن دخل علي بن زياد (ت: 183) وابن الأشرس (ت: 170) والبهلول بن راشد (ت: 183) وبعدهم أسد بن الفرات (ت: 213) وغيرهم بمذهب مالك ... " (¬4) قلت: ويبدو أن الغلبة كانت في النهاية لمذهب ¬

_ (¬1) المراكشي: المعجب: 235. (¬2) صفحة: 203. (¬3) نفح الطيب: 3/ 230 (ط: إحسان عباس)، وانظر أحمد بابا التنبكتي: نيل الابتهاج: 191. (¬4) ترتيب المدارك وتقريب المسالك: 1/ 25 (ط: الرباط)، وانظر المقدسي: أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم: 237 (ط: ليدن).

مالك، يقول القاضي عياض في هذا الصدد: "ولم يزل (المذهب المالكي) يفشو إلى أن جاء سحنون (ت: 240) فغلب في أيامه، وفضّ حلق المخالفين، واستقر المذهب بعده في أصحابه فشاع في تلك الأقطار إلى وقتنا هذا" (¬1). قلت: إن هذا الانفراد لمذهب مالك في الفقه جعل الناس يؤثرونه ويتشبثون به، وتكونت له في نفوسهم منزلة جعلتهم يطرحون كل المذاهب الأخرى سواه، وقد يعمدون إلى مضايقة من يعتنقها، وفي هذا يقول المقدسي: "أما في الأندلس فمذهب مالك وقراءة نافع وهم يقولون لا نعرف إلاَّ كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفيّ أو شافعيّ نفوه ... " (¬2) وربما ضاق التمسك بالمذهب المالكي إلى حد الأخذ برواية من رواياته والاكتفاء بها دون غيرها، وهو ما ذكره أحمد بابا التنبكتي نقلاً عن أبي موسى بن الِإمام (ت: 749) من أن أهل الأندلس في قرطبة شرطوا أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم (ت: 191) ما وجدوه، احتياطاً ورغبة في صحة الطريق الموصل لمذهب مالك (¬3). ويبدو أن التمسك بمذهب مالك بلغ درجة استحال معها في بعض الأحيان إلى نوع من التعصب الممقوت، وهو ما صوّره ابن حزم الظاهري في قوله: "قد وصل أهل الأندلس في تقليد مالك حتى يعرضوا كلامه تعالى وكلام رسوله على مذاهب إمامهم، فإن وافقاه قبلوهما وإلّا طرحوهما، وأخذوا بقول صاحبهم، مع أنه غير معصوم، ولا نعلم بعد الكفر بالله معصية أعظم من هذا" (¬4). ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك: 1/ 54 (ط: بيروت)، 1/ 25، (ط: الرباط)، قلت وهذا لا يمنع من وجود بعض الأفراد الذين تمذهبوا بمذهب سفيان الثوري والشافعي وغيرهم من الأئمة المجتهدين: انظر المصادر السابقة. (¬2) أحسن التقاسيم: 236 (ط: ليدن). (¬3) نيل الابتهاج: 191. (¬4) ن، م: 191، وقد وصل الحد بفقهاء!! الأندلس المتعصبين للمالكية إلى المغالاة حيث قال أصبغ بن خليل القرطبي (ت: 273): "لأن يكون في تابوتي رأس خنزير أحب إليّ من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة" ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، الترجمة رقم: 247.

قلت: صدق ابن حزم الأندلسي فإن العصمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد صرح كل إمام من أئمة المذاهب بأنه "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" (¬1) وقالوا أيضاً: "إذا قلت قولًا فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقهما فاقبلوه، وما خالفهما فردوه واضربوا بقولي عرض الحائط" (¬2). ويا ليت مالكية الأندلس والمغرب الِإسلامي اقتصروا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - متمثلة في الموطأ، ولكنهم منذ أواسط القرن الثالث إلى عصر أبي بكر بن العربي بعدوا عن المعاني الشافعية المتمثلة في الكتاب والسنة، وتركوا حتى أقوال إمامهم في المدونة وعوّضوها بالمختصرات وبكتب الفروع الأخرى، مع أن المدونة مفهومة بنفسها لا تحتاج إلى شرح في غالب مواضعها. وهكذا نرى فقهاء المالكية يذهبون من الأسهل إلى الصعب، ومن المبسط إلى المعقد، ظنّاً منهم أنهم يختصرون الفقه، ويوفرون الوقت على طلاب العلم، مع أنه العكس من ذلك، فقد زادوا الفقه تعقيداً على تعقيد، وأبعدوه عن منبعه الصافي الأصيل بسبب هاته المختصرات المجحفة (¬3)، وعن هذه الاختصارات يقول ابن خلدون: "وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، ثم فيه -مع ذلك- شغل كبير عن التعلم، بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها ... فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت، فقصدوا إلى ¬

_ (¬1) صرح بذلك الإِمامان أبو حنيفة والشافعي -رضي الله عنهما- انظر: مجموع رسائل ابن عابدين: 1/ 24، إيقاظ الهمم للفلاني: 62، 107. (¬2) من أقوال الإِمام الشافعي رضي الله عنه، انظر المجموع للنووي 1/ 63، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 1/ 361. (¬3) ولا تسل عن القرون المتأخرة إلى يومنا هذا، فقد بلغ التعقيد مداه مثلاً ابن الحاجب (ت: 646) اختصر كتاب التهذيب للبراذعي (ت: 400) في مختصره الفرعي الشهير، فجاء كالبرنامج للمذهب، وبعد ابن الحاجب جاء (سيدي) خليل (ت: 776) فاختصر مختصر ابن الحاجب، وهنا بلغ الاختصار غايته لأن مختصر خليل، مختصر مختصر المختصر بتكرار الإِضافات ثلاث مرات، مع العلم أن كتاب البراذعي هو مختصر النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (ت: 38

تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة ... " (¬1). قلت: وهكذا فقد حجر الفقهاء على الناس ألاَّ يأخذوا بكتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حسبهم أقوال الفقهاء المتقدمين، بل المتأخرين من أصحاب مذهب مالك، فنصوص المذهب قامت مقام نصوص الشارع، بما لم يبق للاجتهاد معه مجال، ولا للاستنباط عمل يعمل به. وقد تنبه إلى هاته الظاهرة، أعني الابتعاد عن مصادر التشريع: الكتاب والسنة، علماء أجلاء في مختلف العصور بالمغرب الإِسلامي أمثال القاسم بن سيار الأندلسي (ت: 276) الذي ألف كتاباً يرد فيه على المقلدين الأندلسيين كالعتبي (ت: 255) وغيره، سماه: "الرد على المقلدين" (¬2)، وكذلك العباس القيرواني الفارسي المحدث الذي أحرق بنفسه المدونة وكتب الرأي على مرأى ومسمع من الناس في وسط القيروان أوائل القرن الثالث الهجري حتى أدّبه أسد بن الفرات (ت: 213) على صنيعه وكان يقع في ابن القاسم وأضرابه من فقهاء الفروع (¬3). وكذلك الفقيه ابن الحداد (ت: 330) الذي يقول: "إن الذي أدخل كثيراً من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم" (¬4). أما الحافظ ابن عبد البر القرطبي (ت: 368) فقد كان ينعي -دوماً- على أهل بلده، ما صاروا إليه من ابتعادهم عن كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بعلم الفروع التي لَا حَدّ لها ولا نهاية، يقول رحمه الله: "إن طلب العلم في زماننا هذا، وفي بلدنا الأندلس، قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لا يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما جاء به جهلهم ¬

_ (¬1) المقدمة: 522 (ط: التجارية). (¬2) القاضي عياض: ترتيب المدارك: 4/ 448 (ط: الرباط). (¬3) عياض: ترتب المدارك: 3/ 300 (ط: الرباط). (¬4) الحجوي الثعالبي: الفكر السامي: 4/ 2 (ط: المغرب).

وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم، ... فلم يعتنوا بحفظ سنة، ولا الوقوف على معانيها ... ، ولا اعتنوا بكتاب الله جل وعزّ فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله (أي تفسيره)، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، قد اطرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها، بل عَوَّلُوا على حفظ ما دُوِّن لهم من الرأي والاستحسان، الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ... وإن الفروع لا حد لها تنتهي إليه، ولذلك تشعبت، فمن رام أن يحيط بآراء الرجال، فقد رام ما لا سبيل له ... " (¬1). قلت: وقد أدّى ابن عبد البر -رحمة الله عليه- دوره على أحسن وجه وأكمله بردّ الناس إلى فقه الكتاب والسنة، فشرح لهم الموطأ على طريقة أهل الأثر، وكتب لهم التآليف النافعة في الفقه والتاريخ، فنفع الله بها العباد والبلاد، وتكوَّن بطريقته هذه فقهاء عظام أمثال أبي الوليد الباجي (ت: 474) صاحب التآليف المشهورة، وابن السِّيدِ البَطَلْيَوسي (ت: 521) شارح الموطأ، وأبي بكر بن العربي الذي رجع في كتبه بالفقه إلى صفائه العلمي يفكه من قيود الجدليات والعصبيات، فسلك في خدمة المذهب المالكي مسلكاً فريداً، يضبط ما تناثر في مصادره من الأقوال، بما قاله مالك وخالفه فيه أصحابه أو ما وافقوه فيه، أو ما انفرد أصحاب مالك ومن بعدهم بتقريره من الأحكام، فدرس الأقوال الفقهية وحقق الصور التي تتعلق بها، حيث كانت صورة واحدة واختلفت فيها الأنظار، أو صور مختلفة يرجع كلّ قول إلى واحد منها، واهتم بوضع كل حكم في نصابه وذلك بضبط الأركان والشروط التي تتحقق بها ماهية كل موضوع من مواضيع الأحكام الفقهية (¬2)، فكان بذلك عماداً متيناً لدور الانتعاش في المذهب المالكي يوازي عمل ابن زمنين (ت: 339) وابن عبد البر رحمهم الله جميعاً وجزاهم عنا وعن الإِسلام كل خير. ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 207 (ط: السلفية بالمدينة). (¬2) على الوجه المعلوم في كتبه، انظر دراستنا لمؤلفات ابن العربي وبخاصة الفقهة والحديثية منها.

3 - المذاهب العقدية

3 - المذاهب العقدية: الجدير بالذكر أن بلاد المغرب الإِسلامي قد وضعها الله تعالى -على الصعيد التاريخي العام- في إطار سنيّ ولله الحمد، إذا ما استثنينا الثورات الخارجية (نسبة إلى الخوارج) التي اندلعت خاصة في القرن الثاني للهجرة (¬1)، والحركة الاعتزالية (¬2)، والدعوة الشيعية (¬3)، وهذه الحركات مرتبطة بأوضاع سياسية يعسر شرحها هنا، لكن الرأي السائد عند الباحثين والمؤرخين أنها -رغم التباين الموجود بينها- لم تكن لها جذور عميقة وممتدة في المجتمع المغربي المسلم (¬4). ومن الملاحظ أن الفكر بالمغرب الِإسلامي طبع بصفة عامة -نتيجة تأثره بالمالكية- بطابع الاتباع وعدم الابتداع (¬5)، فهذا البهلول بن راشد مثلًا يقاطع أحد أصدقائه لأنه استمع إلى مناقشات بين معتزلة، بل كاد يقطع صلاته بتلميذه المفضل سحنون لأنه ظنّ أنه أجاب رجلاً من أهل الأهواء سأله عنه (¬6)، وستبقى هذه النفسية المحافظة على أصول الدين هي المهيمنة ¬

_ (¬1) عن ظروف هذه الثورات انظر الفصل الأول من أطروحة الدكتور محمد الطالبي: LAMIRAT AGHLABIT (PARIS:1966) . وانظر حسين مؤنس: ثورات البربر في إفريقية والأندلس بين سنتي 102 - 136 هـ. بمجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول: 1948، المجلد 10 صفحة 143 - 205، وانظر الدكتور علي الشابي: نشوء المذهب الخارجي بإفريقية والمغرب: مجلة الفكر: جوان: 1967 صفحة 828 - 834 - تونس (عن الأستاذ سعد غراب في مقالة: المذهب المالكي عنصر ائتلاف في المغرب الإِسلامي: 236). (¬2) انظر الدكتور الطالبي: المصدر السابق: 231 - 236: LAMIRAT:P. ولنفس المؤلف: DU NOUVEAU SUR I'TIZAL EN IFRIQIYA AU III/IXS. PARIS 1975 P: 45-85. (¬3) انظر مقدمة الدكتور حسين مؤنس لكتاب (رياض النفوس): (ط: القاهرة 1951). (¬4) سعد غراب: المذهب المالكي عنصر ائتلاف في المغرب الِإسلامي: 236. (¬5) انظر ترتيب المدارك لعياض: باب: اتباعه (أي الِإمام مالك) السنن وكراهيته المحدثات: 1/ 169 - 177 (ط: بيروت)، 1/ 38 - 49، (ط: الرباط). (¬6) المالكي: رياض النفوس: 1/ 134 (ط: القاهرة).

-نوعاً ما- على المجتمع المغربي تندد بكل زيغ أو انحراف مهما كان، فإذا البرزلي (ت: 418) يخبرنا عن بعض أحداث القرن السابع الهجري فيقول: "وحكى لي شيخنا الصالح أبو الحسن محمد البطرني (ت: 793) قال: لما ورد بلادنا عبد الحق بن سبعين (ت: 669) أخرجه الشيوخ منها، حتى أنه اجتمع به (أي بعبد الحق بن سبعين) رجل من تلامذة سيدي أبي علي السماط (توفي في أواخر القرن السابع الهجري) بمكة شرفها الله، قال: فسألني عن بلدي، فذكرت ذلك" فقال: "ما زالت سهام أصحابك تلحقني ها هنا"، فلما ورد على سيدي أبي علي أخبره بذلك، فقال له: جالسته؟ فقال: نعم، فقال: اخرج عني ولا تعرفني من هذه الساعة، وكانوا يقولون فيه وفي الغزالي أنه كافر ... " (¬1). قلت: فأهل المغرب الِإسلامي كان أغلبهم يدين الله على مذهب السلف (*) في الاعتقاد بظواهر النصوص، والصفات الواردة فيها من غير تأويل ولا صرف لها عن مدلولها اللغوي، مع التنزيه للخالق عزّ وجل وذاته العلية عن أن تشبه الذوات وتتصف بصفات المخلوقين، وذلك هو المذهب الذي عَبَّرَ عنه الِإمام مالك متبوعهم في الفقه والأحكام الشرعية بقوله للذي سأله عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] "الاستواء معلوم والكيف مجهول ... " (¬2). فهذا هو الموقف الذي كان المغاربة يلتزمونه في العقائد إبان ذاك، وهو كما علمت مذهب السلف الصالح من أئمة المسلمين، وقد وقف ¬

_ (¬1) مخطوطة "نوازل البرزلي" محفوظ بالمكتبة الوطنية بتونس رقم: 4851، الجزء: 4، ورقة 308 وفي مكتبة الوالد -حفظه الله- مصورة منها. (*) ويروي المقدسي في أحسن التقاسيم: 236 (ط: ليدن) عن أهل الأندلس أنهم إذا عثروا على شيعي أو معتزلي ونحوهما ربما قتلوه. (¬2) انظر تخريج هذه الأقوال في تعليقاتنا على "قانون التأويل" وانظر أقوال الأئمة في الإِيمان بالصفات الخبرية في دراستنا لقانون التأويل ص 666 ت 3.

علماؤهم موقفاً حازماً ضد الكلام وأهله، فهذا ابن عبد البر القرطبي يُرْوَى عنه أنه قال: "أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يُعدّون عند الجميع في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون في "الِإتقان والميز والفهم" وقال أيضاً: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكلّ متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإِسلام، ويفجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها ... وليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلاَّ ما جاء نصوصاً في كتاب الله أو صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمعت عليه الأمة" (¬1). وهنا ربما تساءل البعض: إذا كان هذا هو مذهب أهل المغرب الِإسلامي منذ دخول الإِسلام إلى أواسط القرن السادس، فما بالنا نرى مؤلفات بعض الأندلسيين يؤولون فيها النصوص، وينزعون إلى مذهب الأشاعرة، كما هو واضح بَيِّنٌ في كتب الباجي (¬2) وابن العربي (¬3) وابن السيدِ البَطَلْيَوْسِيّ (¬4) وغيرهم؟. فجوابنا هو كالتالي (¬5): مما لا شك فيه أن أهل المغرب الإِسلامي عرفوا المذهب الأشعري ¬

_ (¬1) الحميدي: جذوة المقتبس: 101 - 102، الضبي: بغية الملتمس 155 - 157. (¬2) انظر تعريف التأويل عند الباجي في كتابه "الحدود": 48. (¬3) على الوجه المعلوم في كتبه. (¬4) في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين" 65 - 74 (ط: دار الاعتصام) ولابن السيد آراء فلسفية خطيرة سنتعرض لها باختصار فيما بعد. (¬5) لقد تجمع لي في هذا الموضوع مئات البطاقات التى سجلت فيها معلومات قيمة استخرجتها من مختلف كتب التراجم والأدب والفقه والتي تشير إلى الأشاعرة وكل ما يتصل بهم من قريب أو بعيد، بشرط أن تكون لهذه الإشارة علاقة بالمغرب الِإسلامي، فعسى الله أن ييسر لنا الكتابة في هذا الموضوع الذي يؤرخ للفكر العقدي في المغرب الِإسلامي، هذا التاريخ الذي =

منذ وقت مبكر جدّاً، ولكن هذه المعرفة اقتصرت على بعض العلماء الأفراد، أما اعتناق الطريقة الأشعرية في التصور العقدي لدى جماهير الناس فلم يكن له وجود بالمرة. أما عن أسباب انتشار المذهب الأشعري عند بعض العلماء فيرجع لعدة أسباب منها ظهور الباقلاني (ت: 403) رائداً للمذهب الأشعري، فقد كان لبروزه دور مهم في إقبال أهل المغرب الِإسلامي على تعلم الأشعرية ونقلها إلى بلدانهم، وذلك لأن الباقلاني كما كان رأس الأشعرية، كان أيضاً رأس المالكية بالمشرق، وكان هذا حافزاً للمتعلمين المغاربة كي يشدّوا الرحال لطلب فقهه، وكانوا يأخذون مع ذلك منهجه الأشعري في العقيدة، وإلى هذا أشار شيخ الإِسلام ابن تيمية حيث قال: "وأهل المغرب كانوا يحجّون فيجتمعون به (أي بالباقلاني في مكة أثناء وجوده بها) ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة (أي الأشعرية) ويدلّهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق كما رحل أبو الوليد الباجي فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني (ت: 444) ورحل من بعده أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي الجويني (ت: 478) في الِإرشاد". قلت: ومن الذِينَ أخذوا عن الباقلاني (¬1) عبد الجليل بن أبي بكر الربعي المعروف بالديباجي وبابن الصابوني، فقد صحب الباقلاني مدة وقفل إلى الأندلس، وألّف رسالة في الاعتقادات، وبالرغم من أننا لم نقف على هذه الرسالة فأغلب الظن أنها محررة على الطريقة الأشعرية (¬2). كما أن كتب الباقلاني رواها بعض علماء الأندلس منهم أحمد بن ¬

_ = يثبت أن أهل تلك المناطق -بالرغم من اعتناق بعض علمائهم لهذه العقيدة- كانوا حراس العقيدة السلفية السليمة من الشرك والتأويل، والخالية من البدع والخرافات، بل يحاربون كل من حاد عن هذا النهج القويم وسلك سبيل غير المهتدين، بعكس القرون المتأخرة حيث استحكم التقليد، وفشى التأويل وركن العلماء!! إلى الدعة والخمول. (¬1) درء تعارض العقل والنقل: 2/ 101 - 102. (¬2) ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة: الترجمة رقم: 1817 (ط: مجريط).

محمد التميمي المعروف بابن ورد من علماء "المرية" والذي وصفه ابن الأبار بالحبر المجمع عليه، وروى هذا الأخير كتب الباقلاني عن كريمة المروزية عنه، وتوفي سنة 540 (¬1)، كما أن رسالة الحرة للباقلاني (وهي المطبوعة باسم "الِإنصاف" بتحقيق الكوثري) كانت متداولة بالأندلس بين بعض العلماء (¬2). أما كتب أبي بكر بن فورك (ت: 406) فقد كان لها رواج بين علماء الأندلس فكتاب "تأويل مشكل الحديث" رواه ابن خير الِإشبيلي عن أبي جعفر النحوي (ت: 543) (¬3) كما سمع عبد الله بن محمد النفزي المعروف بابن المرسي (ت: 538) على محمد بن المأموني نفس الكتاب السابق (¬4)، ورواه كذلك عبد الرحمن بن أحمد القيسي المعروف بالجلياني (ت: 554) (¬5)، ودخل إلى الأندلس تلاميذ ابن فورك منهم عبد الرحيم بن غياث التميمي الحافظ (ت: 471) (¬6). أما تأثير أبي المعالي الجويني (ت: 478) فقد كان سابقيه، كتب تتداول بين العلماء رواية ودرساً بدون النزول بها إلى القاعدة الشعبية (¬7)، فعبد الملك بن موسى بن أبي جمرة الأندلسي (ت: 485) كانت له رواية عن أبي المعالي، وكذلك محمد بن سعيد الميورقي رحل إلى مكة ولزم إمام الحرمين الجويني وأخذ عنه مصنفاته، ورجع إلى ميورقة، وتصدر لتدريس الفقه وأصوله (¬8) وله مناظرات مع ابن حزم (¬9)، أما محمد بن أحمد القيسي ¬

_ (¬1) ابن الأبار: معجم أصحاب أبي علي الصدفي: 20 - 24. (¬2) ابن خير: فهرست ما رواه عن شيوخه: 257. (¬3) الفهرست: 199. (¬4) ابن الأبار: المعجم: 224 - 225. (¬5) ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة: 554 (ط: مجريط). (¬6) م، ن: الترجمة رقم: 1671. (¬7) أي جعلها جزءاً من مناهج الدراسة في المساجد ودور التعليم. (¬8) ربما كان يدرَّس كتاب البرهان للجويني. (¬9) المراكشي: الذيل والتكملة: 6/ 216، الترجمة رقم: 625.

(ت: 539) من أهل مرسية فقد كان فقيهاً حافظاً رحل إلى المشرق وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن مسلم المخزومي المتكلم تأليفه المسمى "المهاد في شرح الإرشاد" لأبي المعالي، وقفل إلى الأندلس وتصدر للتدريس (¬1). ومن الجدير بالذكر أن إعجابهم بالمؤلفات الأشعرية لم يمنعهم من نقدها فيما بعد، فقد ردّ أبو الحسن على محمد بن خروف الحضرمي (ت: 609) على الجويني في كتابه "البرهان وكتابه "الِإرشاد" (¬2)، وردّ غيره كما تذكر كتب التراجم. وبالرغم من كلّ هذه الاجتهادات فإنني أؤكد بأن جلّ هذه الآراء لم تتجاوز مجموعة من العلماء تدارسوا هذه الآراء فيما بينهم، ولم يقدّر الله عز وجلّ لهذه الأفكار أن تنتشر بين الجماهير المسلمة، بل ظلت الغلبة والسطوة للاتجاه السلفي السليم حتى عهد فقيهنا ابن العربي (ت: 543)، وهذا ما صوّره المؤرخ المراكشي في قوله: "دان أهل ذلك الزمان (عهد المرابطين) بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد" (¬3) كما صوره ابن خلدون بقوله: "كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم (أي أتباع الأشاعرة) في التأويل وأخذ رأيهم فيه، اقتداء بالسلف في ترك التأويل وإمرار المتشابهات كما جاءت" (¬4). وهكذا فإن العقيدة الأشعرية لم تتمكن في المغرب الِإسلامي إلاَّ في القرن السادس، وذلك بمجيء المهدي بن تومرت (ت: 524) الذي "طعن ¬

_ (¬1) ابن الأبار: المعجم: 146 - 147. (¬2) المراكشي: الذيل والتكملة: 5/ 319 - 320، ابن الأبار: التكملة: 2/ 676، الترجمة رقم: 1884 (ط: مصر) الرعيني: برنامج شيوخه: 81. (¬3) المعجب: 236 - 237. (¬4) العبر: 6/ 466.

4 - الاتجاه الصوفي والفلسفي

على أهل المغرب في إمرارهم المتشابهات كما جاءت، وحملهم على القول بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية" (¬1) وألّف في ذلك الرسائل البسيطة والعميقة، ويسَّر رواجها، حتى كان لها الظهور والغلبة ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. كما لا ينبغي أن ننسى تأثير أبي الوليد الباجي (ت: 474) في التفكير العقدي ومجادلاته العنيفة لابن حزم في الفقه والعقيدة على طريقة الأشعرية، ثم بعده فقيهنا ابن العربي الذي انتصب لتعليم العقيدة الأشعرية فأملى كتابه الشهير "العواصم من القواصم" وغيره كالمتوسط والمقسط والمشكلين، وكل هذه الكتب مكررة بطريقة جدلية عقلية بعيدة كل البعد عن منهج أهل الحديث والأثر (*). 4 - الاتجاه الصوفي والفلسفي: بدأ الاتجاه نحو التصوف في الأندلس بما كان من الطبيعي أن تبدأ به ¬

_ (¬1) ابن خلدون المصدر السابق. (*) لضيق المجال في هذه البحوث التمهيدية لم أتمكن من التوسع في ذكر كل الفرق التي وجدت في الساحة الأندلسية، وإنما اقتصرت على ما يهمنا من معرفة المحيط الثقافي وتطوره الذي نشأ فيه فقيهنا ابن العربي، وينبغي الإشارة هنا إلى أن بعض دعاة التشيع قد وجدوا في الأندلس في وقت مبكر، فهذا محمد بن حيون الحجازي (ت: 305) لم يكن يذهب مذهب مالك وكان معاصروه يتهمونه بالتشيع (انظر: ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: ترجمة: 1164، الحميدي: جذوة المقتبس: ترجمة 15). وللتوسع في هذا الموضوع انظر بحث الدكتور محمود علي مكي في صحيفة المعهد المصري للدراسات الإِسلامية بمدريد المجلد (2) العدد 1 - 2، سنة: 1954. أما مذهب الاعتزال فقد اعتنقه بعض رجال الأندلس في القرن الثالث والرابع الهجريين منهم عبد الأعلى ابن وهب (ت: 261) وفرج بن سلام الذي أخذ عن الجاحظ وأدخل كتبه إلى الأندلس، وعبد الله بن مسرة (ت: 286) وغيرهم وقد اطلعت في مكتبة المعهد المصري للدراسات الإِسلامية بمدريد على أطروحة الدكتور محمود علي مكي التي عقد فيها فصلاً كاملاً عن الاعتزال في الأندلس، وقد قام السيد ROFAEL - مشكوراً- بترجمة أهم الأفكار الواردة بالرسالة والتي ساعدتني في فهم الاتجاهات الفكرية في الأندلس الإِسلامية، وللتوسع في هذا الموضوع انظر: ابن الفرضي تاريخ علماء الأندلس: 1/ 139، 2/ 188، المستشرق آنخل جنثالث بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي: 324 (ترجمة الدكتور حسين مؤنس) إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي 1/ 25 وما بعد

أي حياة زهدية بسيطة، وهو أمر لا يحتاج في نشأته إلى أن يكون متأثراً بعوامل خارجية (¬1) فقد احتفظت لنا كتب التراجم بكثير من أخبار أفراد رغبوا عن الدنيا، واتجهوا إلى رياضات ومجاهدات قائمة على الكتاب والسنة، وما أثر عن السلف الصالح، وقد كان لهؤلاء مكانة عظيمة بين الشعب الأندلسي في تاريخه المبكر، وأول ما نجده من ذلك، لدى بعض التابعين الذين دخلوا الأندلس وكان فيهم للناس قدوة صالحة، فمن أمثلة هذا ما يروى عن التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني (توفي في بداية القرن الثاني) أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل، أوقد المصابيح وقرب إناء فيه ماء، فكان إذا وجد النعاس استنشق الماء، وإذا تعب في آية نظر في المصحف (¬2). وكان من الطبيعي لهذا الزهد السني أن يتجه أصحابه في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الأندلس إلى الجهاد في سبيل الله ضد النصارى وفتح البلاد وتحرير العباد من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وممن نعرفهم من هؤلاء الصالحين الأندلسيين في خلال القرن الثاني الهجري فرقد بن عبد الله السرقسطي العابد الزاهد (¬3). فقد رُوِيَ عنه أنه كان يتصدق بكل ماله، وعيسى بن دينار (ت: 212) (¬4) ناشر مذهب مالك بالأندلس، يروى أنه ظل أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، بما يدل على أنه كان يقضي الليل كله في العبادة، وخلف بن سعيد القرطبي (ت: 305) (¬5) كان يختم القرآن كل ليلة، ¬

_ (¬1) أعني بالعوامل الخارجية التأثيرات النصرانية واليهودية والفلسفية التي نرى تغلغلها في التصوف الفلسفي فيما بعد. (¬2) ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 1/ 125، الترجمة رقم: 391، الحميدي: جذوة المقتبس: 189 - 191، الترجمة رقم 403. (¬3) ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 1/ 353، رقم الترجمة: 1045. (¬4) ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 1/ 331، رقم الترجمة: 975. (¬5) م، ن: 1/ 134، رقم الترجمة: 405.

وسعدون بن إسماعيل (ت: 295) (¬1)، من أهل رية كان عالماً بالفرائض واختلاف الناس فيها مع العلم باللغة والشعر، وكان زاهداً ورعاً بحيث لم يتزوج ولا اشتغل بشيء من الدنيا طول حياته. ولا شك أن رحلات الأندلسيين إلى المشرق كانت من أهم العوامل التى ساعدت على انتشار الأنماط السلوكية -الخاصة بأهل التصوف- في الأندلس، فأحمد بن محمد بن الرومي من أهل قرطبة رحل إلى المشرق ولقي الجنيد البغدادي وسمع منه بعض تصانيفه في الزهد (¬2)، وقد تزايد وجود مثل هذه الشخصيات في الأندلس ولا سيما بعد أن اشتغل بعض الرحالين من الأندلسيين إلى المشرق بجمع سير عُبَّاده وزهَّاده، ولعل أول كتاب ألف في هذا الموضوع هو كتاب "العباد والعوابد" (¬3) لمحمد بن وضاح (ت: 287) ولا شك أن مثل هذه الكتب قد فتحت قلوب الأندلسيين وأرواحهم إلى تلمّس أخبار زهاد المشرق ومتصوفيه، يضاف إلى هذا الزيارات والرحلات التي يقوم بها المشارقة إلى الأندلس بقصد التجارة أو السياحة، فطاهر بن محمد المعروف بالمهند (ت: 390) من أهل بغداد وصل إلى الأندلس في جمادى سنة: 340 وكان من أهل الزهد وله رسائل عجيبة ومقالات في معاني الزهد على مذهب المتصوفة (¬4). وفي هذا العصر بدأت معالم التصوف الأندلسي تتحدد شيئاً فشيئاً، ¬

_ (¬1) م، ن: 1/ 183، رقم الترجمة: 546. (¬2) م، ن: 1/ 29، رقم الترجمة: 82. (¬3) القاضي عياض: ترتيب المدارك: 4/ 440، مخلوف: شجرة النور الزكية: 76 وقد ورد فيه: العوائد بالهمز بدل العوابد بالباء وهو تصحيف. وتجدر الإشارة بأن هذا العصر اقتصر فيه رجال التصوف على حفظ أخبار النساك مثلاً، أو رواية كتب السمرقندي، أو التفرغ للعبادة ونظم الأشعار حول الزهد والآخرة: انظر: المراكشي: الذيل والتكملة السفر (5) صفحة: 216، رقم الترجمة: 439، الضبي: بغية الملتمس، رقم الترجمة: 1212، التادلي: التشوف: 211 رقم الترجمة: 81، الفاسي: سلوة الأنفاس: 2/ 24. (¬4) ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 1/ 207، رقم الترجمة: 622.

فنحن نرى الشعب يتجه بكثير من الإِجلال والتعظيم لهؤلاء الصالحين، فتتردد عنهم أخبار تؤكد أنهم كانوا مستجابي الدعوة، وتطور الأمر حتى بدأت نسبة الكرامات إليهم (¬1)، وبدأت تسميتهم بالأبدال (¬2). ولعل لفظ "الأبدال" الذي نرى شيوعه في هذه الفترة هو أول مظهر لدخول الاصطلاحات الصوفية المشرقية إلى الأندلس، إلى جانب إقامة الأربطة التي يقيم فيها النساك والعباد أفراداً وجماعات للعبادة والتأمل وفي بعض الأحيان للجهاد والمرابطة. على أنه كما بدأ التصوف في المشرق بتلك العبادات والرياضات الدينية، والميل إلى حياة الزهد والتبتل، ثم انتهى إلى أن أصبح تأملًا عقلياً وجدانياً خالصاً (¬3). فكذلك كان الأمر بالأندلس، فقد بدأ التصوف الفلسفي يغزو الأفراد والجماعات، وتجسمت ملامح هذا الاتجاه بشكل واضح في جماعة من المتفلسفة سنذكر في هذا المبحث أهم شخصياتهم التي احتفظت لنا كتب التراجم ببعض سيرهم وأخبارهم، وفي هذه الفترة التي بدأ فيها تمييز الصوفية عن الفقهاء (¬4) في الأندلس، وقع الصراع بين العلماء المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها وبين الغلاة من الصوفية المبتدعة، ¬

_ (¬1) بل ألف أبو المطرف عبد الرحمن محمد (ت: 402) كتاباً بعنوان "كرامات الصالحين ومعجزاتهم" في ثلاثين جزءاً. ابن بشكوال الصلة: 1/ 309 - 312، الترجمة رقم: 683. (¬2) كما هو الحال بالنسبة لمحمد بن سلمة الصدفي (ت: 272) الذي قال عنه ابن الفرضي: كان حافظاً للمسائل، ولي القضاء، وكان أحد الأبدال، وأبو أيوب سليمان بن حامد الزاهد القرطبي، قال عنه ابن الفرضي: كان أعبد أهل زمانه، وكان يقال أنه مجاب الدعوة وأحد الأبدال. انظر ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 1/ 314، رقم: 1969، 2/ 12، رقم: 1124، ابن بشكوال: الصلة: 1/ 20 رقم 37. ملاحظة مهمة: وينبغي التنبيه على أن أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر ابن قيم الجوزية: المنار المنيف: 136 وانظر تعليق شيخنا "عبد الفتاح أبو غدة" على الكتاب السابق ففيه فوائد. (¬3) هذه النهاية المحزنة لتطور التصوف، هي نتيجة طبيعية للبعد عن الكتاب والسنة. (¬4) في بداية الأمر لم يكن هذا الفصل، فكل فقيه فهو عابد زاهد وأغلب الزهاد هم فقه

والمطلع على تاريخ الحياة الفكرية في الأندلس يرى أن الفقهاء لم يعترضوا ولم ينتقدوا على حياة الزهد والتبتل التي كان يحياها بعض عباد وزهاد الأندلس في القرنين الأولين، بل -كما قلت- كان هؤلاء موضع احترام وتبجيل من الجميع، أما في أواخر القرن الثالث وبداية الرابع فقد ظهر من تصرفات هؤلاء العباد!! -بعد تأثرهم بالأفكار الباطنية والمسيحية (¬1) - ما أشار الفقهاء عليهم (¬2). وننتقل الآن إلى أقدم شخصية أندلسية صوفية فلسفية ظهرت خلال أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري وكان لها أثر كبير بعد ذلك في الحياة الروحية بهذه البلاد حتى ابن العربي الصوفي ومن والاه، ونعني بها شخصية ابن مسرة الجبلي (¬3) (محمد بن عبد الله + 269 - 318)، الذي ¬

_ (¬1) عثرت في كتاب "الصلة" لابن بشكوال: 1/ 190 - 200، رقم الترجمة: 450 على نص مهم جداً يمكن أن يساعد الباحث في معرفة العوامل المؤثرة على مسيرة الفكر الإِسلامي في الأندلس وهو على بساطته يحمل دلائل خطيرة جداً، فسليمان بن إبراهيم القيسي من أهل طليطلة، كان رجلاً صالحاً زاهداً عالماً بأمور دينه تالياً للقرآن مشاركاً في التفسير والحديث ورعاً، فرق جميع ماله وانقطع إلى الله ولزم الثغور للجهاد في سبيل الله ضد النصارى، توفي مرابطاً بحصن غرماج، وذكر أن النصارى يقصدونه ويتبركون بقبره رحمه الله. قلت: فكيف يعقل أن يقصد النصارى قبر هذا المسلم الذي أوقف حياته على محاربة النصارى؟! الحقيقة أن هؤلاء الكفرة أرادوا أن يفسدوا على المسلمين دينهم، فبذروا فيهم بذرة السوء، وهي التبرك بقبور الأموات والاستغاثة بهم، وإنني أشك في صدق النصارى في الإيمان ببركة صاحب القبر على فرض أن له بركة، وإنما هو كيد أو مصيدة تَمَّ تدبيرها من طرف القساوسة ورهبان المسيحية، فلا حول ولا قوة إلا بالله. (¬2) أول من يمثل لنا هذا الاصطدام بين الفقهاء والصوفية هو أبو بكر يمن بن رزق الزاهد الذي ألف كتاباً سماه "الزهد" فقد أشار هذا الكتاب حفيظة الفقهاء الملتزمين بالكتاب والسنة فمنعوا المسلمين من النظر فيه لأن مؤلفه صاحب وساوس (انظر ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 2/ 200، رقم الترجمة: 1613)، وكذلك عطية بن سعيد الأندلسي العالم الزاهد الذي له كتاب في تجويز السماع فكان كثير من المغاربة يتحامونه من أجل ذلك (انظر: الحميدي: جذوة المقتبس: 319، الترجمة رقم: 741، ابن بشكوال: الصلة: 2/ 447، الترجمة رقم: 448. (¬3) انظر ترجمته: الحميدي: الجذوة: 58، ابن خاقان: مطمح الأنفس: 286 (ط: الرسالة)، الضبي: بغية الملتمس: 88، النُّبَاهي: تاريخ قضاة الأندلس: 78.

كان أبوه ذمياً فأسلم (¬1)، وتتفق الكتب التي ترجمت لابن مسرة على أنه كثير العلم بالأخبار، فيلسوفاً علمياً وطبيباً ومنجماً وفلكي، وله بعض الاجتهادات في اللغة، كما شارك المعتزلة في القول بالاستطاعة، وإنفاذ الوعد والوعيد وتحريف التأويل في كثير من القرآن، ويؤخذ من كلام ابن الفرضي أنه انتحل بعض أساليب الصوفية في النسك والعبادة فاغتر الناس بظاهره (¬2). وباستطاعتنا بعد الرجوع إلى الدراسات التي كتبت عن ابن مسرة (¬3) أن نحدد مذهبه ونشاطه في النقاط التالية: 1 - أن والده معتزليّ، وقد سقاه الاعتزال، وهو ذمي أسلم، فسقاه العقائد النصرانية التي لم يستطع أن ينفك منها. 2 - أنه سافر إلى المشرق والتقى هناك بأرباب مختلف الملل والنحل التي كان لها رواج آنذاك. 3 - أنه زار في المدينة المنورة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخصص لمارية القبطية وصلّى فيه، وقاس إحدى الحجرات بشبره ثم بنى له صومعة في متعبده في قرطبة على مقاسها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ترجمة والد ابن مسرة في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي: 1/ 217، الترجمة رقم: 652، ويذكر فيه أن عبد الله كان متهماً بالقدر. (¬2) انظر: م، ن: 2/ 39 الترجمة رقم: 1204. (¬3) من أوائل وأحسن الدراسات التي كتبت عن فكر ومدرسة ابن مسرة دراسة المستشرق بلاسيوس: Miguel Asin Palacions, Obras Escogidas 1, Ibn Masarra' Y Su Escuela De Estudies Arabes, madrid, 1946. وقد اطلعت على هذه الدراسة القيمة بمساعدة الدكتور روفائيل الإسباني -هداه الله إلى الإِسلام- وأثبت خلاصتها في النقاط المجملة التي في المتن. وانظر: بالنثيا: تاريخ الفكر الأَندلسي: 329 - 0 33 (فهو يلخص النتائج التي توصل إليها بلاسيوس في كتابه السابق)، إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) 31 - 38 (ط: دار الثقافة- بيروت)، دراسات في الأدب الأندلسي: 232 - 248 (ط: الدار العربية للكتاب- ليبيا). (¬4) لماذا خصّص بيت مارية القبطية بالزيارة والتبرك؟ هنا يظهر الأثر المسيحي الذى اكتسبه من والده.

4 - قدرته على التأثير في النفوس من طريق عذوبة الكلام، ومتانة الحجج وحضور الجواب، والاطلاع الواسع على العلوم. 5 - ورعه الكاذب وانتحاؤه طريقة زهدية في الحياة. 6 - تقربه إلى المالكية بحفظ مسائل المدونة حتى كان يسردها سرداً، وحين صنع لها مختصراً جاء مختصره من أفضل موجزات المدونة وأتمها. 7 - يذهب إلى القول بوجود روحانية تشترك فيها جميع الكائنات عدا الذات الإلهية، وتعتبر هذه المادة أول صورة برزت للعالم العقلي الذي يتألف من الجواهر الخمسة الروحانية. 8 - الدفاع عن الآراء الفلسفية وسكبها في قوالب إسلامية. 9 - اتفاقه التام مع الباطنية والشيعة الإسماعيلية (¬1). هذه هي أهم المميزات التي انفرد بها ابن مسرة، ولم تمت هذه الأفكار، ولكنها تطورت على يد تلاميذه (¬2) من بعده إلى أن اكتملت على يد ابن العربي الطائي. فقد انتشر دعاة ابن مسرة بعد وفاته (319) يستميلون الناس إلى مذهبهم وينادون بأفكار كلها خليط من الاعتزال والفلسفة ومذهب الباطنية. ومن أهم النقاط التي ركز عليها تلاميذه: ¬

_ (¬1) انظر إحسان عباس: دراسات في الأدب الأندلسي: 236. (¬2) من جملة تلاميذه محمد بن أحمد الخولاني المعروف بابن الإِمام (ت: 380) قال عنه ابن الفرضي: كان مشهوراً باعتقاد ابن مسرة ولا يَتستر بذلك (تاريخ علماء الأندلس: 1/ 143، رقم الترجمة 439)، وعبد العزيز بن حكم (ت: 387) قال عنه ابن الفرضي: كان عالماً بالنحو والغريب والشعر، مائلاً إلى الكلام والنظر، شهر بانتحال مذهب ابن مسرة، فغض ذلك منه (ن، م: 279، الترجمة رقم: 836) وجاء إسماعيل بن عبد الله الرعييني فأدخل شيئاً من التعديل على آراء المذهب كما وضعها ابن مسرة، كما أضاف إلى هذه النحلة القول بإباحة زواج المتعة (وهنا نلاحظ التأثير الشيعي)، وتحريم الملكية (وهذا من تأثير المزدكية) وإهدار دَمِ كلِّ من لا يمارس عقيدته، إضافة إلى الاعتقاد في الشيخ أنه يصنع المعجزات ويفهم لغة الطير وغيرها من الخرافات، انظر بلاسيوس: 39 1 - 89. P.P، وابن حزم: الفصل 4: 199.

1 - إنفاذ الوعد والوعيد. 2 - تحريف التأويل في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتحكيم مبدأ التأويل في المحكم من التنزيل. 3 - الطعن في أحاديث الشفاعة واتهامها بالضعف، وإنكار الشفاعة جملة، وإبطال التوبة. ونرى أن هذه الآراء الاعتزالية التي كانوا يجاهرون بها، إنما هي واجهة فقط للآراء الباطنية التي كانوا يعملون لها في الخفاء، ولقد تنبه أهل السنة -ولله الحمد- لهذه النحل الباطلة فصدر في يوم الجمعة لتسع خلون من ذي الحجة سنة: 340 منشور قرئ على الناس بالمسجدين الجامعين بالحضرتين قرطبة والزهراء وفيه ينكر الخليفة الناصر ما يقوم به أصحاب ابن مسرة، ويكل إلى مولاه عبد الله بن بدر أمر تتبعهم والتنقير عنهم، وكذلك صدر منشور آخر في شعبان سنة: 346 وقرىء أيضاً على أبواب جامع قرطبة، وفيه عهدٌ مجدّد في البحث عن أتباع ابن مسرة المبتدعين والتحريض على طلبهم إذ فارقوا الجماعة وخالفوا السنة، كما قام علماء الإِسلام بالرد على هذه الآراء الباطلة، منهم عبد الله بن محمد الأموي النحوي (ت: 400) من أهل قرطبة وكان حافظاً نبيلًا، جمع كتاباً في الرد على ابن مسرة وصفه ابن بشكوال بالجودة والحسن (¬1)، وكذلك محمد بن يبقى وأبا بكر الزبيدي وأبا عمر بن لبّ الطلمنكي (¬2). وبالرغم من هذا الحزم الذي اتخذته السلطة الحاكمة آنذاك، وبالرغم من قيام العلماء بواجب النصح لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد قدّر الله لهذه المدرسة أن تستمر إلى عصر فقيهنا ابن العربي، ووجد في هذا العصر جماعة من كبار المتصوفة ذوي الاتجاه الفلسفي منهم أحمد بن محمد بن العريف ¬

_ (¬1) الصلة: 1/ 249، الترجمة رقم: 565. (¬2) بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي: 330.

(+ 481 - 536) (¬1) وأحمد بن الحسين بن قسِّي (¬2) (ت: 545) وعبد السلام بن أبي الرجال الِإشبيلي (ت: 536) (¬3)، وكل هؤلاء وغيرهم ممن لم نقف على أخبارهم نشروا في الأندلس الأفكار الصوفية بما تحمل من آراء فلسفية غنوصية وباطنية ملحدة، وعلى هذا فإن الباحث في تاريخ الفكر الأندلسي لا يمكنه أن يفرق بين الاتجاه الفلسفي والاتجاه الصوفي، فكل واحد منهما يغترف من الآخر، ويسيران إلى هدف واحد. ولهذا نجد تجاوباً شديداً بين المتصوفة السابقين وبين الفلاسفة في هذا العصر أمثال ابن محمد طفيل القيسي (ت: 581) (¬4) صاحب كتاب أسرار الفلسفة المشرقية؛ وأبي بكر محمد بن يحيى المعروف بابن الصائغ وابن باجه (¬5) (ت: 533). وقد عبر لسان الدين بن الخطيب الأندلسي عن هذا التقارب بين ¬

_ (¬1) انظر ترجمته عند ابن بشكوال: الصلة: 1/ 81، رقم الترجمة: 176، ابن الأبار: معجم الصدفي: 18، التادلي: التشوف: 96، الذهبي: العبر 4/ 98، أحمد بابا: نيل الابتهاج: 30، مخلوف: شجرة النور: 133، وله كتاب تحت عنوان "محاسن المجالس" نُشِرَ في باريز: 1933 وبلغني أنه أعيد نشره بمجلة "المورد" العراقية. كما يوجد شرح لهذا الكتاب بعنوان مفتاح السعادة وتحقيق طريق الإرادة، بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 1562. (¬2) انظر ترجمته عند ابن الأبار: الحلة السَّيَرَاء: 2/ 197، ابن حجر لسان الميزان: 1/ 247، رضا كحالة: معجم المؤلفين: 2/ 51، وله كتاب "خلع النعلين" انظر عنه: دراسة الدكتور عفيفي في مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية المجلد 11، السنة 1957، الصفحة 53، وقد قام ابن قسَّي بجمع مريديه والثورة على المرابطين، وانظر رسائل ابن العريف إلى أصحاب ثورة المريدين مجلة أبحاث البيروتية، العدد 27، السنة 1978 - 1979، صفحة: 43 - 56. (¬3) والمشهور بابن برجان اللخمي، له تفسير للقرآن الكريم على طريقة الصوفية، وشرح لأسماء الله الحسنى، وقفت على هذين الكتابين في الخزانة العامة بالرباط ولا يحضرني الآن ذكر رقميهما، المهم أن في هذين الكتابين آراء باطنية لا تمت إلى الشرع الشريف بصلة، وللتوسع في ترجمة ابن برجان انظر: الكتبي: فوات الوفيات: 1/ 1274، ابن حجر: لسان الميزان 4/ 13، تاريخ بركلمان: 1/ 559، عبد العزيز بن عبد الله الموسوعة المغربية: 1/ 27. (¬4) انظر ترجمته في الإعلام للمراكشي: 3/ 34 (ط: المغرب 1936)، بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي: 348 وطبعت رسالة "حي بن يقظان" أو "أسرار الفلسفية الإشراقية" بالجزائر سنة 1900، كما يوجد كتاب أسرار الحكمة المشرقية في مكتبة دعي الأسكريال تحت رقم: 669. انظر: عبد العزيز بن عبد الله: الموسوعة المغربية: 2/ 29. (¬5) انظر ترجمته عند: ابن خاقان: مطمح الأنفس: 397 (ط: الرسالة 1983) ابن خلكان: =

الفلسفة والتصوف فقال: "فالكل دائرة مفروضة، وهالة حول قمر الحق معروضة، تعود الخطوط عن محيطها المبدد إلى مركزها المحدد، فالفيلسوف يروم التشبه بالعلة الأولى ويعني بها ذات الحق، وأن يتحد بالثانية وهي مرآة وجه الحق، والِإشراقي يروم التجوهر بنور الأنوار المعبر عنه بالحق، والاتصال به إما بواسطة من الحق، أو بغير واسطة من الحق" (¬1). قلت: فالذي أريد أن أؤكده هو أن عصر ابن العربي كانت فيه طبقة من الصوفية والفلاسفة حاولوا جاهدين أن ينشروا أفكارهم بين العامة والعلماء، ودليلنا على هذا الأسئلة التي وجهها أعيان الأندلس إلى ابن السيدِ البَطَلْيَوْسي (ت: 561) والتي أجاب عليها في كتاب "الحدائق في المطالب الفلسفية العويصة" (¬2) ويقصد بها مطالب المتصوفة، ومن الأسئلة سؤال عن معنى قول الحكماء أن ترتيب الموجودات عن السبب الأول يحكي دائرة وهمية مرجعها إلى مبدئها في صورة الإِنسان، وسؤال آخر عن معنى قولهم: إن علم الِإنسان يحكي دائرة وهمية، وإن ذاته تبلغ بعد مماته إلى حيث يبلغ علمه في حياته، وهاتان القضيتان أهم القضايا التى سَتَشْغَل -فيما بعد- فكر ابن العربي الصوفي (¬3)، وأكثر من هذا نجد في شعر ابن السيدِ القضايا الآتية: قضية "وحدة الوجود"، وقضية "اعرف نفسك تعرف ربك" ومثال على ذلك قوله: وكل وجود عن وجودك كائن ... فواجد أصناف الورى لك واجد سرت منك فيها وحدة لو منعتها ... لأصبحت الأشياء وهي بوائد وكم لك في خلق الورى من دلائل ... يراها الفتى في نفسه ويشاهد ¬

_ = وفيات الأعيان: 4/ 429 (ط: إحسان عباس)، الصفدي: الوافي بالوفيات 2/ 240 (ط: استانبول: 1949) وانظر ثبت ببليوغرافي عنه في الموسوعة المغربية لعبد العزيز بن عبد الله: 1/ 45. (¬1) روضة التعريف بالحب الشريف: 2/ 630 - 631 (ط: دار الثقافة بالمغرب). (¬2) نشرَهُ آسين بلاسيوس مع ترجمة إلى الإِسبانية سنة 1940، وأعاد طبعه الشيخ محمد زاهد الكوثري في القاهرة سنة 1946. (¬3) انظر الفتوحات المكية: 3/ 3589.

وحتى الأفكار المعروفة في كتب ابن العربي الصوفي نراها في شعر ابن السيدِ، التي يفسر بها ابن العربي {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] من أن كل من عبد إلهاً آخر ما عبد إلاَّ الله دون أن يدري فقد قضى ربك بذلك، وهذا ما يقوله ابن السيد: وكل معبود سواك دلائل ... من الصنع تنبي أنه لك عابد (¬1) قلت: وباستطاعتنا أن نعرف من مجموع هذه الأشعار وغيرها بما هو مبثوث في كتب التراجم والأدب، أن ثمة آراء فلسفية خطيرة وجدت في الساحة الأندلسية، وهذا هو الذي دفع فقيهنا ابن العربي إلى نقدهم بعنف في كتابيه "قانون التأويل" و"العواصم من القواصم". لقد كان ظهور ابن العربي في أوائل القرن السادس حديثاً له اعتباره الخاص، لأنه كان من الشخصيات القلائل التي يؤثر ظهورها في مجرى التاريخ تأثيراً جوهرياً ينقطع به أو يكاد ذلك الِإلحاد الذي يسيطر أحياناً على منابع الحياة الفكرية، فلا يرتفع إلاَّ بظهور عبقرية عبادة في الالتزام بالفكر السليم، تفور بها المنابع الغائرة، وينقلب سير المجاري إلى تيارات لم تكن تندفع نحوها من قبل. لقد امتاز ابن العربي بأسلوبه النقدي الذي لم ينسج على منوال سابق، فكان تراثه في نقد مدارس التصوف والفلسفة مناراً استضاء به العلماء، ومثالًا موجهاً للأساليب والنظريات التي استنارت بها عقلية العصور المتأخرة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر هذه الأشعار بمجلة المورد العراقية، المجلد (6) العدد (1) السنة 1977. صفحة 79. وانظر الرد على أهل وحدة الوجود عند شيخ الإِسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2/ 111 - 121، 286 - 294. قلت: إذا كان المراد من الآية ما نسب إلى ابن العربي الصوفي، فلماذا أرسل الله تعالى الرسل وبعث الأنبياء، وأنزل الكتب، وقد اعترف المكذبون بالرسل أنهم مشركون كما أخبر الله تعالى عنهم في آيات كثيرة منها قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] ففي هذه الآية وغيرها من الآيات اعتراف من المشركين بشركهم، وعبادة غير الله تعالى، فكيف يدعي أصحاب الحلول بعد هذا من أن كل من عبد إلهاً آخر ما عبد إلا الله دون أن يدري؟. (¬2) وهذا واضح جلي عند ابن الحاج العبدري وأبي إسحاق الشاطِ

الغزالي وإحراق كتابه "إحياء علوم الدين" بالأندلس

الغزالي وإحراق كتابه "إحياء علوم الدين" بالأندلس (¬1) إنها لمقارنة عجيبة تبدو للناظرين في العهدين: العهد الِإسلامي بالأندلس (القرن الخامس والسادس) وعهودنا المتأخرة، وذلك بملاحظة أن الفكر الِإسلامي بالأندلس كان سنياً نابياً عن البدعة وما يؤدي إليها، متمسكاً بالكتاب الكريم، معتصماً بالسنة النبوية الشريفة، وفي الوقت ذاته بملاحظة فكرنا الِإسلامي (أو المنسوب إلى الإِسلام بتعبير أدق) في العصور المتأخرة، وكيف قال صاحب الفكر الأول بوجوب إحراق كتاب "الِإحياء" للغزالي، وقال صاحب الفكر الثاني "بعْ اللحْيَة واشْتَرِ الِإحْيَا" (¬2). ولا نريد أن ندخل في شرح العوامل التي أدت بالفكر المغربي إلى الانحطاط والتدهور، فهذا أمر يطول شرحه، وإنما نقتصر على ذكر الحملة العنيفة التي شنها علماء الأندلس وفقهائها ضد كتاب "الإحياء"، مع بيان الدوافع الِإيمانية التي أثارتهم وألجأتهم للوقوف ضد تيار الكشف والِإشراق الذي قُدِّرَ له أن يكون هو الغالب والسائد في العصور المتأخرة، بعد أن ضعفت الهمم، وبعد الناس عن المصادر الأولى للدين الحنيف. يعتبر قاضي الجماعة (¬3) محمد بن علي بن حمدين (ت: 508) (¬4) من ¬

_ (¬1) آثرت كتابة هذا البحث للعلاقة الوطيدة بينه وبين الأفكار التي ناقشها ابن العربي في كتابه "قانون التأويل" ومن أحسن البحوث التي كتبت في هذا المجال بحث أستاذنا الجليل الدكتور عمار طالبي في مجلة "الثقافة" التي تصدر بالجزائر، السنة: 1، العدد: 6 عام 1972 م. (¬2) هذا مثل شعبي عندنا بالمغرب الإِسلامي، يدل على المكانة العظيمة التي احتلها كتاب "إحياء علوم الدين" في قلوب الناس في العصور المتأخرة. (¬3) أي قاضي القضاة كما هو معروف في المشرق العربي. (¬4) كان من المشهود لهم بالصلاح والوقوف عند حدود الشرع، قال عنه الذهبي: "وكان يحطّ =

أوائل العلماء الذين اطلعوا على كتاب "الإِحياء" ووقفوا على أغراضه ومقصاده، فحكَّ في صدره منه أشياء أنكرها عليه، وتوجسها منه، تخالف العقيدة السليمة والمنهج الحق، فاجتمع الفقهاء والعلماء وأداروا الرأي بينهم في شأن هذا الكتاب الذي شحن بنفثات الصوفية وآراء المتكلمين، فاجتمعت كلمتهم واتحدت وجهتهم على ضرورة إتلاف هذا الكتاب ووجوب التيقظ لشبهاته والتحصن من ضلالاته، ورفعوا أمره إلى أمير المسلمين علي ابن يوسف بن تاشفين، فصار الأمير إلى ما ارتأى الفقهاء ونزل على رأيهم، وأصدر أمره إلى جميع الأقاليم بمصادرة الكتاب وإحراقه، وأمر بتفتيش المكتبات الخاصة والعامة، وأن يحلّف من يشك في أمرهم بالأيمان المغلظة بأنهم لا يملكون كتاب "الإحياء"، كما أمر بمنع دخول جميع كتب الغزالي إلى المغرب والأندلس وأنزل أشد العقوبات بمن وجد عنده منها شيئاً (¬1). وقد نفذ أمر ابن تاشفين على أتم وجه وأكمله، حيث جمعت كلّ نسخ "الِإحياء" التي تم العثور عليها، ووضعت على الباب المغربي من مسجد قرطبة الجامع، وأشبعت زيتاً كي يسهل احتراقها، بحضور جماعة من أعيان قرطبة وعلمائها يتقدمهم قاضي الجماعة ابن حمدين، وكان ذلك سنة 503 (¬2). ويذكر لنا ابن القطان أن الإحراق استمر في مختلف الجهات بقية ¬

_ = على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألف في الرد عليه" انظر ترجمته عند: ابن بشكوال: الصلة 2/ 570، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 422، المقري: نفح الطيب: 3/ 537. (¬1) مؤلف مجهول: الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية: 104. (تحقيق سهيل زكار وزميله: الدار البيضاء 1979 م). (¬2) هذا هو التاريخ المتفق عليه عند العلماء، انظر: محمد عبد الله عنان: عصر المرابطين والموحدين: 79، ويرى الأستاذ محيي الدين عزوز التونسي في كتابه "التطور المذهبي بالمغرب": 75 أن الإحراق كان سنة: 500 ولا أدري ما هو معتمده في ذلك؟ أما الأستاذ عباس الجراري في "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه" 1/ 94 (ط: المغرب 1979) فيرى التوقف في تعيين سنة الإحراق. وأغرب من هذا فإن الأستاذ إبراهيم حركات في "المغرب عبر التاريخ" 1/ 194 (ط: الدار البيضاء 1951) ينكر قصة الإحراق أصلاً بدو

ذلك العام (أي عام: 503) (¬1)، بل استمر الِإحراق وتتبع كتب الغزالي إلى عهد تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين، إذ وصل إلينا منشوره الذي وجهه إلى أهل بلنسية في شهر جمادى الأولى من عام: 538 والذي تضمن بعض التوجيهات الِإدارية والدينية والحض على الجهاد، وأهم ما ورد فيه وجوب مقاومة أهل البدع، يقول المنشور: " ... ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة -وفقكم الله- كتب أبي حامد الغزالي، فليتبع أثرها، وليقطع بالحريق المتتابع خبرها، ويبحث عنها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها .. " (¬2). وممن أغلظ على الغزالي اللائمة وشدد عليه النكير أبو بكر الطرطوشي (ت: 520) الذي كتب رسالة إلى عبد الله بن مظفر يجيبه فيها عن حقيقة الغزالي وكتابة "الِإحياء" وفي هذه الرسالة يقول: "سلام عليك، فأما ما ذكرت من أمر الغزالي، فرأيت الرجل وكلمته، ¬

_ = دليل على ذلك، ورأيه ساقط لا يعول عليه، وللتوسع في معرفة حادثة الإحراق انظر: ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب 4/ 59، ابن أبي دينار: المؤنس 111، محمد المنتصر الكتاني: الغزالي والمغرب: 707 (بحث ضمن البحوث التي ألقيت في مهرجان الغزالي بدمشق) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإِسلام: 4/ 456 (ط: القاهرة 1967 م)، عبده بدوي: مع حركة الإِسلام في إفريقيا: 54 (ط: القاهرة 1970 م) عبد العزيز سالم: المغرب الكبير: 3/ 744 (ط: الإسكندرية 1966 م)، سلامة الهرفي: دولة المرابطين: 324 (ط: مكة 1985 م). (¬1) ابن القطان: نظم الجمان: 16 (ط: بتحقيق محمود علي مكي- تطوان- المغرب). (¬2) هذه الوثيقة نشرها الدكتور حسين مؤنس في "مجلة معهد الدراسات الإِسلامية" بمدريد: العدد: 3 سنة: 1954 - 1955 صفحة: 113، تحت عنوان "نصوص سياسية عن فترة الانتقال من المرابطين إلى الموحدين" وقد كتب أحد القراء على النسخة المخطوطة من هذا المنشور -بخط مغاير لخط النسخة المخطوطة- تعليقاً في الهامش يدل على أن الغزالي أصبح في العهود المتأخرة موضع تقدير وتبجيل وإليك هذا التعليق: "يا كاتب هذه الرسالة إياك ثم إياك أن تكتب مقالته، لا تنسخ هذه الكلمات التي أشار بها إلى كتب أبي حامد الغزالي نفعنا الله ببركته!! فإن ذلك لا يحل، إياك ثم إياك، والسلام على من اتبع الهد

فوجدته رجلاً جليلاً من أهل العلم، نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء، فدخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وجعل يطعن علي الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين. فلما عمل كتابه، سماه "إحياء علوم الدين" (¬1) عمد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قرّ، ولا في أحوال الزاهدين استقر، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فلا أعلم كتاباً على وجه بسيط الأرض أكثر كذباً على الرسول منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة، ورموز الحلاج، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة اكتساباً، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل تخلّق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها، وساس نفسه حتى ملك قيادها، فلا تغلبه شهواته، ولا يقهره سوء أخلاقه، ثم ساس الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله تعالى -من أقر منهم بالصانع- أن يبعث للخلق رسولاً، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. ولقد شرف الله الإِسلام، وأوضح حججه، وأقام برهانه وقطع عذر ¬

_ (¬1) ذكر الإِمام الذهبي عن أحد الحفاظ أنه قال: إن أبا الوليد الطرطوشي ذكر في غير هذه الرسالة كتاب "الإحياء" فقال: هو -لعمرو الله- أشبه بإماتة الدين. سير أعلام النبلاء: 19/ 494. (¬2) قال الإِمام الذهبي تعليقاً على هذا الموضع: "أما "الإحياء" ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علماً نافعاً، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنتي فَلَيْسَ مِني" فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في "الصحيحين" وسنن النسائي ورياض النووي وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة ووظائف أهل الرياضيات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم". سير أعلام النبلاء: 19/ 3

الخلائق بحججه الواضحة، وأدلته القاطعة الدامغة، وما مثل من ينصر دين الإِسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية، إلاَّ كمن يغسل الثوب بالبول، ثم يسوق (أي الغزالي) الكلام سوقاً، يرعد فيه ويبرق ويمني ويشوق، حتى إذا تشوفت له النفوس قال: "هذا من سرِّ الصدر الذي نهينا عن إفشائه". وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في الدين، يستقل الموجود (¬1)، ويعلق النفوس بالمفقود، وهو تشويش لعقائد القلوب وتوهين لما عليه كلمة الجماعة، فإن كان الرجل يعتقد ما سطره، لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله. وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب بالنار، فلعمري فإنه إن ترك انتشر بين ظهور الخلق ومن لا معرفة له بسمومه القاتلة، وخيف عليهم أن يعتقدوا صحة ما سطر فيه بما هو ضلال، فيحرق قياساً على ما أحرقته الصحابة رضي الله عنهم من صحائف المصحف التي تخالف المصحف العثماني، ألا ترى أنهم لو لم يحرقوا تلك الصحائف وانتشرت في الخلق، لحفظ كلّ إنسان ما وقع منها إليه، وأوشك أن يختلفوا فيتقاتلوا ويتقاطعوا. وإني لعلى عزم أن أنفرد له فأستخرج جميع هفواته وأوضح سقطاته، وأبينها حرفاً حرفاً، وفي دونه من الكتب غنيه وكفاية لِإخواننا المسلمين وطبقات الصالحين، ومعظم من وقع في عشق هذا الكتاب رجال صالحون لا معرفة لهم بما يلزم العقل وأصول الديانات ولا يفهمون الإلهيات، ولا يعلمون حقائق الصفيات (كذا)، ولا يخبرون شياطين الإِنس الذين انتدبوا للطعن في الدين، وتوهين عمود الإِسلام، وتعطيل الصانع، وإفساد المعجزات فمن يكن عنده تمييز لهذه الأبواب من الذبّ عن دين الله تعالى، ونصره شريعته، لم ينبغ له أن يَقْفُ ما ليس له به علم، يمدح على غير علم، ويذم على غير علم، والسلام" (¬2). ¬

_ (¬1) في المعيار المعرب للونشريشي "يستغل الوجود" والمثبت من سير أعلام النبلاء. (¬2) انظر مقتطفات وملخصات لهذه الرسالة عند: الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 339، 494 =

قلت: ومن المعارضين لأبي حامد الغزالي الِإمام المازري (ت: 536) الذي صنف كتاباً في الرد على الغزالي سماه: "الكشف والِإنباء عن كتاب الِإحياء" صدره بقوله: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأبار الباطل وأزاله .. " (¬1). ومما قاله في هذا الكتاب: " ... ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكاً الِإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسماً، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعاً وتحفظاً من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل (وهو الغزالي) فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه (أي في الإحياء) كثير من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلاَّ بتعسف على اللفظ بما لا يتكلف العلماء مثله إلاَّ في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل ... " (¬2). وقال الإِمام المازري مجيباً لمن سأله عن حال كتاب "إحياء علوم الدين" ومصنفه: "وقد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بـ "إحياء علوم الدين" وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لاشتهاره، وطائفة حذّرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبني أهل المشرق أيضاً يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذ منه، فإن نفس الله في العمر، مددت فيه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس (¬3). ¬

_ = الونشريشي: المعيار المعرب: 12/ 186 (وقد وردت فيه كاملة)، السبكي: طبقات الشافعية: 6/ 248. (¬1) عن الذهبي يسير أعلام النبلاء: 19/ 330. (¬2) م. ن: 19/ 330. (¬3) وقد مدّ الله في عمره فألف كتاب "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء".

اعلموا أن (الغزالي) هذا رأيت تلامذته (¬1)، فكل منهم يحكي لي نوعاً من حاله وطريقته، فأتلوح بها من مذهبه وسيرته ما قام لي مقام العيان، فأنا اقتصر على ذكر الرجل، وحال كتابه، وذكر جملة من مذاهب الموحدين والمتصوفة، وأصحاب الِإشارات والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطرائق لا يعدوها، ثم أُتْبعُ ذلك بذكر حيل أهل مذهب على مذهب آخر ... وأكشف عما دفن من جبال الغرور ليحذر من الوقوع في حبالة صائده" (¬2). قلت: ومن المعارضين للِإمام الغزالي الناقمين عليه القاضي عياض (ت: 544) إذ وصفه في كتابه "معجم أصحاب أبي علي الصدفي" (¬3) بقوله: " ... والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرّد لنصرة مذهبهم، وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتُثِلَ ذلك .... ". أما القاضي ابن العربي فقد عرف كتاب "الإحياء لعلوم الدين" على ثقة وبينة، إذ كان قد سمعه من الغزالي مشافهة ببغداد سنة: 490، فكان حكمه عليه حكم تمحيص وإنصاف، كحكمه على الغزالي في ذاته وعلى كتبه ¬

_ (¬1) تتلمذ على الغزالي جماعة كبيرة من أهل المغرب الِإسلامي منهم علي سبيل المثال لا الحصر: عبد الرحمن بن أبي الرجاء البلوي الوادي آشي الذي رحل حاجاً سنة: 477 فأدى فريضة الحج سنة: 480 ولقي أبا حامد الغزالي، فسمع منه وأجاز له تآليفه، ورجع إلى الأندلس ونزل المرية سنة: 505 وأقرأ بها، وأخذ عنه جماعة، توفي سنة 545. انظر: ابن الأبار: التكملة: الترجمة: 1597 (ط: مجريط)، ابن الزبير: صلة الصلة: لوحة 90 - 91، ومن تلاميذه: علي بن أحمد الكناني ويعرف بابن حنين الطليطلي ثم القرطبي (ت: 569) حج سنة: 500 ولقي أبا حامد الغزالي وصحبه، وسمع منه. انظر ابن الأبار: التكملة: الترجمة: 1865 (ط: مجريط). (¬2) السبكي: طبقات الشافعية: 6/ 240، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 340. (¬3) هذا الكتاب من جملة كتب القاضي عياض المفقودة، وقد أورد هذا النص الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/ 3

الأخرى غير كتاب "الِإحياء"، وكان يُكْبر ما قام به الغزالي في نقد الفلاسفة وإضاءة المسالك للعلماء لفهم القضايا الفلسفية ونقدها، وكان يقول فيه: "إنه بدر في ظلمة الليالي، وعقد في لبّة المعالي ... إذا لقيته لقيت رجلاً علا في نفسه، ابن وقته لا يبالي بغده ولا أمسه .... " (¬1). وكان ابن العربي يرى "أن المهاجمين للِإسلام من الفلاسفة لما ردَّ عليهم رجال من أعيان الأمة، لم يكلموهم بلغتهم، ولا ردُّوا عليهم بطريقتهم، وإنما ردّوا عليهم بما ذكر الله في كتابه، وعلّمه لنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يفهموا تلك الأغراض، وطفقوا يهزؤون بتلك الردود، ويضحكون منها، فانتدب أبو حامد للردّ عليهم بلغتهم، ومكافحتهم بسلاحهم، والنقض عليهم بأدلتهم، فأجاد في ما أفاد، وأبدع في ذلك كما أراد الله .. " (¬2). وهكذا فقد أثنى ابن العربي على جملة من كتب الغزالي في تقويم الفلسفة ونقدها وتمحيصها (¬3)، ولكن هذا لم يمنعه من توجيه نقده الشديد واللاذع للآراء الِإشراقية المبثوثة في كتبه بعامة وفي "الإحياء" بخاصة (¬4) بل وصفه في كتابه "العواصم من القواصم" بقوله: كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج على الحقيقة، وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق .. " (¬5). قلت: ويؤيد رأي ابن العربي الِإمام المازري الذي أثنى على أبي ¬

_ (¬1) قانون التأويل. (¬2) العواصم من القواصم: 105 - 106. (¬3) انظر مدحه "للقسطاس المستقيم" و"معيار العلم" في العواصم 106، إلاَّ أنه انتقد الغزالي في "المعيار" لكونه أدخل فيه أغراضاً صوفية فيها غلو وإفراط. (¬4) انظر صفحة: (554) من هذا البحث. (¬5) العواصم من القواصم: 107.

حامد في الفقه وأقذع في معرفته بباقي العلوم فقال في "الكشف والإِنباء": " ... هو أعرف بالفقه منه بأصوله. وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين، فإنه صنف فيه أيضاً، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لسبب عدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهّلاً للهجوم على الحقائق؛ لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، وليس لها حكم شرع ترعاه، ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها. وعرّفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ومصنفها فيلسوف قد خاض في علم الشرع والعقل، فمزج ما بين العلمين، وذكر الفلسفة وحسنها في قلوب أهل الشرع بأبيات يتلوها عندها، وأحاديث يذكرها، ثم كان في هذا الزمان المتأخر رجل من الفلاسفة يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تآليف في علم الفلسفة، وهو فيها إمام كبير، وقد أدته قوّته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطّف جهده حتى تمّ له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملاً من دواوينه، ورأيت هذا الغزالي يعوِّل عليه في أكثر ما يشير إليه من علوم الفلسفة. وأما مذاهب الصوفية، فلا أدري على من عوّل فيها، لكني رأيت -فيما علق بعض أصحابه- أنه ذكر كتب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذلك كتب أبي حيان التوحيدي، وعندي أنه عليه عوّل في مذهب التصوف، وأخبرت أن أبا حيان ألف ديواناً عظيماً في هذا الفن ... ورأيت له (أي للغزالي) في الجزء الأول يقول: "إن في علومه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب"، فليت شعري أحق هو أو باطل؟ فإن كان باطلاً، فصدق، وإن كان حقاً -وهو مراده بلا شك- فلم لا يودع في الكتب، لغموضه ودقته، فإن كان هو فهمه، فما المانع أن يفهمه غيره؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) أورد الذهبي هذه المقتطفات من كتاب المازري الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء في سير أعلام =

قلت: ورغم هذا كله، فإن المغاربة أخذوا يتعلقون بالغزالي شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبح إمامهم في التصوف بلا منازع، يسترشدون به في المهمات، ويستنيرون به في المشكلات، حتى قال قائلهم: أبا حامد أنت المخصص بالمجد ... وأنت الذي علمتنا سنن الرشد وضعت لنا الِإحياء يحيي قلوبنا ... وينقذنا من طاعة النازع المردي وفيها ابتهاج للجوارح ظاهر ... ومنها صلاح للقلوب من البعد (¬1) ولم يعدم الِإمام الغزالي أنصاراً يدافعون عنه، ويأنسون له، وينهجون سبيله. فقد وجد في الأندلس من الفقهاء من برّأ الغزالي مما رمي به، وفي هذا الموضوع يحدثنا قاضي الجماعة ابن حمدين بقوله: "إن بعض من كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفاً بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره، ومضاليل أساطيره المباينة للدِّين؟ وزعم أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يفسر عن قناعة، ولا يفوز بإطلاعه إلاَّ من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها .. " (¬2). ¬

_ = النبلاء 19/ 341 وكذلك السبكي في طبقات الشافعية 6/ 241 إلاَّ أن السبكي تصدى للرد على المازري بردود ضعيفة. تنبيه: لا شك أن الذين أنكروا على الغزالي ينتمون إلى مختلف المذاهب وهم- كما قال الزبيدي في الإتحاف: 1/ 40 "طوائف شتى ما بين مغاربة ومشارقة، ومالكية وشافعية وحنابلة"-، ولكنني اقتصرت على ما له علاقة بالأندلس والعصر الذي أتحدث عنه، وإلا فإن هناك من الأندلسيين المتأخرين من ردّوا على الغزالي، منهم على سبيل المثال أبو بكر محمد بن عبد الله المالقي (ت: 750) في الرد على "المضنون على غير أهله" ولدي صورة نادرة من هذا المخطوط القيم، عثرت عليه في مكتبة مدريد الوطنية وهو من الأهمية بمكان. (¬1) أورد هذه الأبيات السبكي في طبقات الشافعية: 6/ 254 والزبيدي في إتحاف السادة المتقين: 1/ 40. (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 332، كما ألّف أبو علي المسيلي (ت: 580) كتاباً في التذكير على غرار كتاب "الإحياء" ولذلك كان يسمى بأبي حامد الصغير. انظر: الغبريني: عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المئة السابعة ببجاية: 33 (ط: بيروت 196

كما انتصر له أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي (ت: 513) (¬1) وكتب لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بذلك، وأفتى بأن الأيْمان التي فرضت في عملية التفتيش أَيْمان لا تلزم وقال: "وددت أنني لم أنظر في عمري سوى كتاب الِإحياء" وكان قد انتسخ كتاب "الإِحياء" في ثلاثين جزءاً، فإذا دخل رمضان قرأ كل يوم جزءاً (¬2). كما ثبت عن أبي الحسن علي بن محمد الجذامي، المعروف بابن البَرْجي (ت: 509) (¬3) أنه أوجب في من امتثل لأمر السلطان فأحرق كتب الغزالي تضمين قيمتها لأنها مال مسلم، وكذلك يؤدب محرقها، وقيل له: أتكتب ما قلته بخط يدك؟ قال: سبحان الله. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ثم كتب السؤال في النازلة وكتب فتياه بعقبه، ودفع إلى أبي بكر عمر بن أحمد الفصيح وأبي القاسم بن ورد (¬4) وغيرهما من فقهاء المرية ومشايخها، فكتب كل واحد منهم فيه بخطه: "وبه يقول فلان" مُسَلِّمين لعلمه وزهده، فغاظ قاضي الجماعة ابن حمدين ذلك، وكتب إلى قاضي المرية حينئذ أبي عبد الملك مروان بن عبد الملك (¬5) بعزله عن خطة القضاء (¬6). وأختتم هذا المبحث بمقتطفات من مقدمة كتاب "المدخل لصناعة المنطق" (¬7) لأبي الحجاج يوسف بن محمد بن طُمْلُوس (ت: 620) ففي هذه المقدمة عرض دقيق للِإطار التاريخي للحركة العلمية في الأندلس (¬8). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته عند: التادلي: التشوف 72 ابن مريم: البستان 299، التنبكتي: نيل الابتهاج 383. (¬2) السلاوي: الاستقصاء 2/ 74. (¬3) انظر ترجمته عند ابن الأبار: التكملة 1841 (ط: مجريط). (¬4) انظر ترجمته عند ابن الأبار: المعجم 23 (ط: مجريط). (¬5) انظر ترجمته عند ابن الأبار: التكملة 1747 (ط: مجريط). (¬6) ابن الأبار: المعجم. (¬7) نشره مع ترجمة إسبانية المستشرق الإسباني آسين بلاسيوس، وظهر الجزء الأول عام 1916. (¬8) لا شك أن الصراعات الفكرية بالأندلس لا يمكن أن تفهم بالنظر إلى الأفكار مجردة عن سياقها التاريخي ومحيطها الاجتماعي الذي ظهرت فيه.

يقول ابن طُمْلُوس: " ... وكان ما يتصرف فيه من المسائل في أول الأمر (في الأندلس) على مذهب الأوزاعي، ثم انتقلوا إلى مذهب مالك بن أنس رضي الله عن جميعهم، فغدوا بمحبة هذا العلم والشغف به، ونشؤوا على تعظيم أهله واعتقاد صدقهم وبغض مخالفيه، وذلك أنهم -لما كانوا يعتقدون فيه أنه الحق وأنه من عند الله- اعتقدوا في مخالفيه الكفر والزندقة ... ولما امتدت الأيام وسافر أهل الأندلس إلى المشرق، ورأوا هناك العلماء وأخذوا عنهم المذاهب -أعني مذاهب الأئمة المشهورين- وكتب الحديث، وانقلبوا إلى الأندلس، بما أخذوه عن شيوخهم، وما جلبوه من المسائل الغريبة، رأى علماء الأندلس أن ما أتى به هؤلاء الداخلون هو مخالف لمذهبهم أو بعضه، وكان المخالف عندهم كافراً، لمخالفته الحق الذي جاء به الرسول عن الله تعالى. فاعتقدوا لذلك في هؤلاء الواصلين من المشرق بعلم المذاهب المنسوبة إلى الأئمة وبعلوم الحديث أنهم كفار وزنادقة، وقرروا ذلك عند العوام وعند آل السلطان، وقاموا في طلب دمائهم وهتكهم نصرة لدين الله تعالى على ذممهم. وأعظم من امتحن على أيديهم من أفاضل العلماء، ولقي كل مكروه منهم "بَقِيّ بن مَخْلَد"، وكادت نفسه تذهب وتمزق كلّ ممزق، لولا الأمير (¬1) في ذلك الوقت، فإنه تثبت في أمره، وطالع ما عنده فاستحسنه، وكان من جملة الذي أتى به من علم الحديث مسند ابن أبي شيبة، فأمر الأمير بمطالعة ما عنده والأخذ عنه، فانصرف الناس إلى "بقيّ" قليلاً قليلاً، وأخذ عنه الحديث وما نقل عن الأئمة. وطالت الأيام، فعاد ما كان منكراً عندهم مألوفاً، وما اعتقدوه كفراً وزندقة إيماناً وديناً حقّاً. فدانوا بهذا مدة ودأبوا عليه، إلى أن اتصل بهم علم أصول الدين، فاعتقدوا فيه ما اعتقدوه أولاً في مذاهب الأئمة من أنه كفر وزندقة، ولذلك ¬

_ (¬1) قلت: إسناد دفع المكروه وحصول النفع إلى الأسباب غير سديد إذ يتنافى مع تحقيق التوحيد.

قال القحطاني: "يا أشعرية يا زنادقة الورى" فعد القوم الذين هم أهل السنة والناصرون لدين هذه الملة كفاراً وزنادقة .. ثم أنِسُوا أيضاً بهذا المذهب -أعني علم الأصول- ودرّجتهم الأيام إلى أن طالعوه وتمهروا فيه، حتى كان فيه منهم أئمة وعلماء، ولكن بقي في نفوس أرباب المسائل -أعني أهل الفروع- استنكار لذلك إلى قريب من زماننا هذا، فإن ذلك الاستنكار لم ينتسخ من نفوسهم بالكلية، كما استنسخ استنكار المنكرين لعلوم الحديث قبل ذلك، ولكن صار الحامل لهذا العلم آمناً منهم في نفسه وماله، متكلماً بما شاء من علمه، يملي فيه غير مترقب ولا خائف. فصار هذا العلم وعلم الحديث، ومذاهب الأئمة ومسائل الفروع، كل ذلك دين الله تعالى يجب الِإيمان به والعمل بمقتضاه، بعد أن كان فيه ما كان. ولما امتدت الأيام، وصل إلى هذه الجزيرة كتب أبي حامد الغزالي متفننة، فقرعت أسماعهم بأشياء لم يألفوها ولا عرفوها، وكلام خرج به عن معتادهم من مسائل الصوفية وغيرهم من سائر الطوائف الذين لم يعتد أهل الأندلس مناظرتهم، ولا محاورتهم، فبعدت عن قبوله أذهانهم، ونفرت عنه نفوسهم وقالوا: إن كان في الدنيا كفر وزندقة فهذا الذي في كتب الغزالي هو الكفر والزندقة، وأجمعوا على ذلك، واجتمعوا للأمير إذ ذاك وحملوه على أن يأمر بحرق هذه الكتب المنسوبة إلى الضلال بزعمهم، وعزموا عليه في ذلك حتى أجابهم إلى ما سألوه منه، فأحرقت كتب الغزالي وهم لا يعرفون ما فيها، وخاطب الأمير إذ ذاك جميع أهل مملكته بأمرهم بحرقها، ويعلمهم أنه هذا هو الذي أدى إليه نظر العلماء، وقرئت مخاطبته على المنابر، وشنع الأمر بذلك تشنيعاً عظيماً، وامتحن من كان عنده منها كتاب، وخاف كل إنسان على نفسه أن يرمى بأنه قرأ منها كتاباً أو اقتناه، وكان في ذلك من الوعيد ما لا مزيد عليه ...

ثم لم تكن تمتد الأيام إلاّ قليلاً، حتى جاء الله بالِإمام المهدي (¬1) فبان به للناس ما كانوا قد تحيروا فيه، وندب الناس إلى قراءة كتب الغزالي رحمه الله، وعرف من مذهبه أنه يوافقه، فأخذ الناس في قراءتها، وأعجبوا بها وبما رأوا فيها من جودة النظام والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف، ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب الغزالي إلاَّ من غلب عليه إفراط الجمود من غلاة المقلدين، فصارت قراءتها شرعاً وديناً، بعد أن كانت كفراً وزندقة" (¬2). قلت: وأكتفي بهذا القدر والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي السوسي الذي ادعى المهدية بالمغرب ومؤسس دولة الموحدين (ت: 524)، انظر ترجمته عند: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/ 45، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 539، د. عبد المجيد النجار: المهدي ابن تومرت حياته وآراؤه (ط: دار المغرب الإِسلامي - بيروت: 1983). (¬2) ابن طملوس: المدخل لصناعة المنطق 1/ 9 - 13.

الفصل الثاني نشأته وحياته العلمية

الفصل الثاني نَشأته وَحَيَاته العِلميَّة

حَيَاة ابن العَرَبّي وَمكانتهُ العلميَّة مدخل: يتفق الباحثون المعاصرون أن من مستلزمات البحث العلمي أن يتناول الباحث الموضوع المدروس من الناحية البيبليوغرافية، يستعرض فيه مجمل الدراسات التي كتبت فيه، وهذا في حد ذاته اعتراف بإنجاز السابقين. تناول ابن العربي جملة كبيرة من المؤرخين، فترجموا له تراجم تختلف طولًا وقصراً، وتتباين في نوعية المعلومات التي تقدمها استناداً إلى اختلاف مشاربهم وتنوع ثقافاتهم واهتماماتم وأمزجتهم ونجد من بينهم أصحابه وتلاميذه وهلم جراً إلى أزمنة متأخرة حتى يومنا هذا. وقد ترجم له من معاصريه صديقه الفتح بن خاقان (ت: 529) في "مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس": 297 - 300 فأشار إلى رحلته إلى المشرق وأورد له قصيدة طويلة في مدح أهل بغداد. كما ترجم له تلميذاه القاضي عياض (ت: 544) في "الغنية" 66 - 72، رقم 16 (ط: دار الغرب الإِسلامي) وفي ترتيب المدارك أيضاً (¬1) وتمتاز ترجمته بالدقة والتركيز وترجم له كذلك ابن بشكوال (ت: 578) في الصلة: 1/ 590 - 591، رقم 1297. ¬

_ (¬1) لا يحضرني الآن رقم الجزء والصفحة.

فكانت المادة التي كتبها هؤلاء الثلاثة هي المعين لما كتبه المتأخرون عن ابن العربي، إضافة إلى أن هذه التراجم تمثل رأي أصدقائه وتلاميذه الذين احتكوا به وخبروه، فكانت دقيقة ومركزة. وليس في هذه التراجم من اختلاف كبير إلا أن ترجمة القاضي عياض كانت أكثر فائدة لنا، فقد قدم لنا فيها رأيه الشخصي في تقويم ابن العربي فذكر أنه كان يحكي الغرائب. أما الذين ترجموا له بعد عصره فمنهم الضبي (ت: 599) في "بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس" (¬1)، وابن خلكان (ت: 281) في "وفيات الأعيان" (¬2) وابن عبد الملك المراكشي (ت: 703) في "الذيل والتكملة" (¬3) والذهبي في "العبر" (¬4) و"تذكرة الحفاظ" (¬5) و"سير أعلام النبلاء" (¬6) و"تاريخ الإِسلام" (¬7) وصلاح الدين الصفدي (ت: 764) في "الوافي بالوفيات" (¬8) والنُّباهي (كان حياً سنة 793) في "تاريخ قضاة الأندلس" (¬9) وابن فرحون (ت: 799) في "الديباج المذهب" (¬10) والداودي (ت: 945) في "طبقات المفسرين" (¬11) والمكناسي (ت: 1025) في "جذوة الاقتباس في ¬

_ (¬1) الترجمة رقم 179 صفحة 92 - 99 (ط: دار الكتاب العربي 1967 وهذه الطبعة سقيمة لا يعمد عليها فانظر ط: أوروبا صفحة: 82، رقم 979) وترجمة الضبي غير دقيقة فقد أخطأ في التواريخ التي خرج فيها ابن العربي إلى المشرق وعودته منه. (¬2) الترجمة رقم: 626، 2/ 296 - 297 واعتمد فيها اعتماداً كلياً على ابن بشكوال. (¬3) 4/ 296 - 297 وترجمته موسعة جيدة. (¬4) 4/ 125 وهي ترجمة مختصرة. (¬5) 4/ 1291 - 1297. (¬6) لوحة 301 - 302/ أ- ب (مخطوط أيا صوفيا رقم 3010/ 2 وهي بخط الذهبي) وهي ترجمة من أحسن التراجم التي كتبت عن ابن العربي وانظر المطبوع من السير: 20/ 197. (¬7) الجزء 12 ورقة 380 (مصور بالمكتبة المركزية بجامعة أم القرى). (¬8) 3/ 330 رقم 1388. (¬9) 105 - 107. (¬10) 2/ 252 - 256 رقم 74 (ط: دار التراث) واعتمد فيها على القاضي عياض إضافة إلى بعض الأمور الجديدة. (¬11) 2/ 162 - 166 وهي ترجمة موسعة.

ذكر من حلّ من الأعلام مدينة فاس" (¬1) والمقري في "نفح الطيب" (¬2) و "أزهار الرياض" (¬3) وابن عماد الحنبلي (ت: 1089) في "شذرات الذهب" (¬4) وصديق خان (ت: 1307) في "التاج المكلل" (¬5)، والشيخ مخلوف (ت: 1340) في "شجرة النور الزكية" (¬6) والشيخ الكتاني (1960) في "فهرس الفهارس" (¬7). قلت: ولم أعن بحصر كل المراجع التي ترجمت لابن العربي لأن العملية التوثيقية لمصادر ترجمته بشكلها التفصيلي محفوفة بكثير من الغموض بل شائكة إلى أبعد التصورات، وألاحظ أن الدخول إلى تلك التفصيلات يشل من نشاطي في إعطاء صورة واضحة لغرضي، وهو الترجمة لابن العربي ترجمة موجزة مركزة بإذن الله، لذلك سأعرض عن عشرات من المصادر التي اهتمت بذكر ابن العربي في كل مناسبة وقضية وشأن. وإن كنا بحاجة هنا إلى معرفة الجهود المعاصرة التي تضافرت على إنجاز مجمل الدراسات عن ابن العربي، فإنه لمن العسير استعراضها كاملة في هذا الموجز، غير أن حصر كلامنا في أهم تلك الِإنجازات مسألة مهمة في مثل هذه الدراسة العلمية. فمن المحاولات الرائدة في ترجمة ابن العربي والتنويه بفضله ما كتبه الشيخ محب الدين الخطيب في مقدمته لمبحث الصحابة من كتاب "العواصم ¬

_ (¬1) 1/ 260 - 262 رقم 268. (¬2) 2/ 33 (ط: د. إحسان عباس) وهي من أحسن التراجم وأوسعها. (¬3) 3/ 92. (¬4) 4/ 141 - 142 وهي مختصرة. (¬5) صفحة 280 - 285 واعتمد فيها على نفح الطيب للمقري اعتماداً كلياً. (¬6) صفحة 136 - 138 رقم 408 وهي ترجمة موسعة اعتمد فيها على جماعة منهم ابن غازي في التكميل. (¬7) 2/ 229 (ط: المغرب 1347) صفحة: 855 رقم 488 من (ط: د. إحسان عباس).

من القواصم" (¬1) وكذلك بحث العلامة الشيخ محمد الخضر حسين (¬2) الذي يمتاز بحثه بالرصانة والجدة والعمق، ثم توالت المقالات والبحوث تترى ولكن مع الأسف ليس في هذه الكتابات أي جديد، فهي تلخيص لما هو شائع في المصادر القديمة إلى أن جاء أستاذنا الدكتور عمار طالبي فكتب دراسته النقدية العميقة حول ابن العربي (¬3) وتراثه الفكري مع تحليل مجمل لآرائه الكلامية، مستفيداً من مختلف المصادر المخطوط منها والمطبوع، فاستوفى أغلب المعلومات الضرورية في مثل تلك الدراسة الأكاديمية. فكانت دراسته -بحق- تطوراً واضحاً في دراسة ابن العربي واتساعاً في تفصيل موضوعات متصلة بالأشعرية وتطورها بالمغرب الإِسلامي. وبناء على هذه الدراسات السابقة (¬4) فإنني قمت بدراسة موجزة عن ابن العربي حاولت أن ألتزم فيها الكشف عن الجوانب المجهولة التي أهملها الباحثون والدارسون لحياة هذا الفقيه الجليل، فعنيت عناية تامة بمؤلفاته المخطوطة لإيماني بأنها من أكثر الينابيع صفاء، وأعلاها ثقة في تدوين سيرة ابن العربي هو دراسة ما خلفه من شذرات حول سيرته في تراثه الكتابي ومن ¬

_ (¬1) نشر بالمكتبة السلفية- مصر 1371. (¬2) أجل البحث محاضرة ألقاها الشيخ الخضر في دار جمعية الهداية الإِسلامية في 202/ 1355 ونشرت في مجلة الهداية الإِسلامية- الجزء الثاني من المجلد التاسع. (¬3) وذلك في كتابه آراء أبي بكر بن العربي الكلامية. الجزء الأول. (¬4) ولا يفوتني أن أنوه ببعض الدراسات الحديثة التي تمتاز بالعمق والاستقصاء، كالدراسة التي نشرها الأستاذ الدكتور إحسان عباس في بحثين قيمين هما: "الجانب السياسي في رحلة ابن العربي إلى المشرق" مجلة "الأبحاث" الجامعة الأمريكية - بيروت، السنة: 16، 1963، صفحة: 217 - 236. و"رحلة ابن العربي إلى المشرق كما صورها قانون التأويل" مجلة "الأبحاث" السنة: 21، 1968، صفحة: 59 - 91 وقد نشر الدكتور إحسان في هذا البحث الأخير قطعة من "قانون التأويل" استفدت من قراءته وتحقيقه له. ومن الدراسات الجادة ما نشره الأستاذ الفاضل سعيد أعراب في مجلة "دعوة الحق" المغربية في أعداد متفرقة، وقد استفدت منها كثيراً. وهناك دراسات كثيرة أهملت ذكرها قصداً، وذلك لأنه يغلب عليها الإيجاز دون البحث عن التفصيلات الضرورية التي صار يتطلبها البحث الأكاديمي الحد

1 - نسبه ومولده ونشأته

هنا كان استيعابي لمؤلفاته على غاية من الأهمية في استنباط أخباره وأحداث سيرته؛ والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم. 1 - نسبه ومولده ونشأته: يعتبر القاضي أبو بكر بن العربي، بأصله ومولده ومنشئه، وحياته وموته، كنزاً مشاعاً بين المشرق والمغرب الِإسلامي. فهو عربي من قبيلة "مَعَافِر" (¬1) (بفتح الميم والعين وكسر الفاء) القحطانية، وأندلسي من مدينة إشبيلية (¬2)، فوالده هو أبو محمد عبد الله بن العربي (+ 435 - 493) من وجوه علماء إشبيلية ومن أعيانها المبرزين، كان من أهل الآداب الواسعة، والتفنن والبراعة، والذكاء والتقدم في معرفة الخبر والشعر، والافتنان بالعلوم وبجمعها (¬3)، سمع ببلده أبا عبد الله بن منظور (¬4) (ت: 469)، وبقرطبة ابن عتاب (ت: 521) (¬5)، ولازم ابن حزم سبعة ¬

_ (¬1) ابن عبد البر: القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم 118. ابن حزم: جمهرة أنساب العرب: 485. السمعاني: الأنساب: 535. ابن خلدون: التاريخ، القسم: 1، المجلد: 2، الصفحة: 534. النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، 2/ 303. القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: 423. (¬2) هي إحدى حواضر الأندلس الكبرى، تقع غربي قرطبة، قريبة من البحر، سقطت في يد الكفار -لعنهم الله- سنة 646، للتوسع انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان: 1/ 195، الحميري: صفة جزيرة الأندلس 18 (ط: ليفي بروفنسال القاهرة 1937). (¬3) ابن بشكوال: الصلة: 1/ 289. الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس: 88. الصفدي: الوافي بالوفيات: 3/ 330، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 130. (¬4) ابن رشيد السبتي: "إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح": 49، وانظر ترجمة ابن منظور في الصلة لابن بشكوال: 2/ 548، الضبي: بغية الملتمس: 52، الذهبي. سير أعلام النبلاء: 18/ 389. (¬5) الصلة: 1/ 288، وانظر ترجمته في الجزء الثاني صفحة: 544.

أعوام حتى عد من كبار أصحابه (¬1)، وهو الذي رفع عماد بيت آل ابن العربي بإشبيلية، وأناله الشهرة الفائقة، وأضفى عليه من أبهة الرئاسة وجاهة، قال عنه معاصره الفتح بن خاقان: " ... كان بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها، اصطفاه ابنُ عباد اصطفاء المأمون لابن دُؤَاد (¬2)، وَوَلّاه الولايات الشريفة، وبوّأه المراتب المنيفة ... " (¬3). وقد صاهر أبو محمد بن العربي أسرةً تشاطره الرئاسةَ وتقاسمه السياسة، تلك هي أسرة أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني (+ 392 - 460) عالمَ الأندلس ومحدثها (¬4)، زاحم المعتضد بن عباد في الاستئثار بالسلطان، ففتك به، وقتله بيده، ودفنه بثيابه وقَلَنسوته داخل القصر من غير غسل ولا صلاة (¬5)، وكان لهذا العمل الشنيع أثره البالغ على بيت الهوزن، فأبى ولده أبو القاسم (+ 435 - 512) -وهو العالم الأديب، والفقيه المشاور- إلا أن يثأر لوالده -وقد بدت سحب كثيفة في العلاقات بين المرابطين وأمراء إشبيلية- فاتصل بيوسف بن تاشفين، وجعل يحرضه على ابن عباد، حتى أطاح بدولته وأزال ملكه (¬6). في ظل هذه الأسرة الكريمة، وتحت عظيم اسمها وذائع سمعتها، ولد ¬

_ (¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء، مخطوط مصور بالمكتبة المركزية بجامعة أم القرى، الجزء: 12، القسم: 3، ورقة: 380. وفي المطبوع: 19/ 130. (¬2) هو أحمد بن أبي دُؤَاد الإيادي، من المعتزلة المشهورين بالعلم والفصاحة، كان مقرباً من المأمون، توفي سنة: 240، انظر الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد: 4/ 141 - 156، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/ 81 - 91. (¬3) ابن خاقان: مطمح الأنفس: 63. المقري: أزهار الرياض: 1/ 92. (¬4) انظر للتعريف به الصلة: 2/ 402. ابن سعيد: المغرب: 1/ 239. عياض: ترتيب المدارك: 4/ 825 (ط: بيروت). (¬5) الذخيرة: 2/ 133. ترتيب المدارك: 4/ 825 - 826 (ط: بيروت). (¬6) المقري: نفح الطيب: 2/ 94 وانظر تعليق د. إحسان عباس رقم: 3 على النفح.

2 - رحلته في طلب العلم

محمد بن عبد الله بن العربي في ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمئة (¬1)، فنشأ هذا الشاب وهو لا يعرف من جده إلاَّ اسماً سيّاراً، ومقاماً علمياً واضحاً، ونسبة مشاعة بين الأقطار، متأثراً بما نزل به من المحن والأنكال، فتسلّى عن هذا كله بتتلمذه على والده، العالم الأديب والسياسي المحنك، فنشأ نشأة علمية، وأقبل بهمة فتية على التفنن في المعارف وجمع أطرافها، واستكمال آلاتها، ولم يكد يبلغ السابعة عشرة من عمره، حتى قدّر الله لدولة بني عباد أن تسقط، واستولى المرابطون على إشبيلية، وصادروا أموال أمرائها ووزرائها، ومن بينها ضياع الوزير أبي محمد بن العربي (¬2)، فما كان من الوالد إلاَّ أن ترك البلاد مع ولده في رحلة علمية سياسية دوّن أخبارها ابن العربي الابن في "شواهد الجلة" (¬3). 2 - رحلته في طلب العلم: كان ابن العربي -رحمه الله- برماً بالوضع الذي كانت عليه الثقافة الدينية في الأندلس، متطلعاً إلى منبع الحكمة والعلوم، متشوقاً إلى لقاء العلماء الفحول، فالنظرة الضيقة عند الفقهاء بطريقتهم الالتزامية الضيقة، طالما جثمت بكلكلها على أهل البحث والنظر، وأحرقت مواهب العلم الحق، والفقه الصحيح، إذ صارت على طريقة التقليد، بحيث أصبح عمل المقلدين حجة لا يلتفت بعدها إلى كلام أئمتهم الأولين، وهذه النزعة هي التي شكى منها المؤلف في العواصم حيث قال: "صار التقليد ديدنهم، ¬

_ (¬1) وهي الرواية الصحيحة، وقيل سنة: 469. الصلة: 1/ 590. النباهي: المرقبة العليا: 106. ابن خلكان: وفيات الأعيان: 4/ 2974. الذهبي: العبر: 4/ 125، تذكرة الحفاظ: 1294 وغيرها من المراجع. (¬2) انظر ابن الأبار: المعجم: 6. الثعالبي الحجوي: الفكر السامي: 4/ 56. (¬3) تعتبر "الشواهد" المذكرات السياسية لرحلتهم إلى المشرق، انظر قائمتنا لكتبه رقم: 24 من هذا البحث.

والاقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم، دفعوا في صدره، وحقروا من أمره، إلاَّ أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علومٍ على رسم التبعية" (¬1)، وكان رحمه الله يرى أن رزية الانكماش والقصور والركود وضيق الأفق، مشكلة صعبةُ العلاج، بعيدة الزوال؛ لأنها تعطيل للأنظار، وطبع على المدارك، فهيهات أن يستطيع محاول إصلاحها، ويعتقد أن رزية التفرق والزَّيْغِ والجحود التي نزلت بالحياة الثقافية بالمشرق أقرب إلى الأمل في العلاج، وأرجى للدفع والاقتلاع، لأنه ما دام جوهر الإدراك سالماً نامياً متحركاً فإن عوامل الهداية لن تعوز، ووسائل التقويم والتصويب لن تبعد، ومن هنا اطمأن إلى حياة العلوم الدينية بالمشرق على ما فيها من بدع وخرافات إذ هي الحياة الممكنة، وإن حياة علوم الدين بالمغرب قد رانت عليها نزعةُ التقليد، والإحجامُ عن النظر، والقصور بالمعاني الشرعية السليمة عن غاياتها ومقاصدها، وإن كل ما فيها من خير إنما يرجع إلى خلوها من البدع العقدية المنكرة. يقول في العواصم مثنياً على أهل المغرب لسلامته من تلك البلايا: (¬2) " ... خرجت من بلادي على الفطرة فلم ألق في طريقي إلا من كان على سنن الهدى، يغبطني في ديني، ويزيدني في يقيني، حتى بلغت بلاد هذه الطائفة (مصر) ... فلم يبق باطل إلّا سمعته، ولا كفر إلاَّ شوفهت به ووعيته ... " (¬3). قلت: ومع كل هَذه الطامات فإن ابن العربى كان قوي الميل إلى المشرق، عظيم الشغف والِإعجاب به، شديد الِإدْلاَلِ بمعرفته، قوي الاعتزاز بما طبع عليه المشرق من ملكات، وما أكسبه من مواهب وقدرات، فكان ابن العربي يرى أن في كل من الموضعين الشرقي والغربي مزايا ورزايا، إلا أن مزايا الوضع الثقافي بالمغرب هي سلامته، ورزيته في ركوده ¬

_ (¬1) العواصم: 490 - 491. (¬2) محمد الفاضل بن عاشور: ومضات فكر: 141 - 142. (¬3) العواصم: 59 - 60.

وجموده، وأن مزايا الوضع المشرقي هي حركته. ونماؤه، ورزيته في فتنته وجحوده (¬1). وبهذه الروح الوثابة، والمثل القيمة المقتبسة من تلك المعاني، حدد فقيهنا -رحمة الله عليه- مناهج التعلّم وطرائق التحصيل. فكانت همته سبّاقة إلى الجمع والاستكثار، والاستذكار والرواية والضبط والتصحيح، فنراه في رحلته دؤوباً على الدراسة والسماع، لاَ يَشْغَلُهُ عنهما شاغل، يلتقط الدرر من العلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم. وقد أفاض فقيهنا -رحمة الله عليه- في ذكر رحلته ومن لقيه من الشيوخ بمقدمة كتابه "قانون التأويل" الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه، كما قام أستاذنا الدكتور عمّار طالبي الجزائري بدراسة (¬2) نقدية وافية لرحلته في طلب العلم منذ خروجه من إشبيلية إلى عودته إليها بتفصيل دقيق نسأل الله أن يجازيه خير الجزاء، وعليه فإنني سأقتصر في هذا المبحث على ذكر رحلته إلى الحجاز، هذا الجانب الذي أغفله المؤلف في "القانون" وأجمله أستاذنا د. عمّار في دراسته القيمة، والذي أدّى ببعض الباحثين المُحْدَثِينَ إلى التشكيك في السنة التي حج فيها ابن العربي (¬3)، بل وأدى بالبعض الآخر إلى إنكار أن يكون ابن العربي قد أدّى فريضة الحج (¬4). والواقع أن الحج كان من مقاصد ابن العربي فقد قال في "القانون": رحلت طالب علم وحج. فكانت رحلته رحمه الله إلى الحجاز في أواخر ذي القعدة من سنة تسع ¬

_ (¬1) محمد الفاضل بن عاشور: ومضات فكر: 141. (¬2) د. عمار طالبي: آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 1/ 25 - 65. (¬3) وهو: د. إحسان عباس في بحثه رحلة ابن العربي إلى المشرق كما صورها "قانون التأويل" بمجلة "أبحاث" البيروتية، السنة: (21) الجزء: (1) آذار سنة: 1968، الصفحة: 131. (¬4) وهو: د. حسين مؤنس في بحثه الجغرافية والجغرافيون في الأندلس" بمجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد إسبانيا، المجلدان: (11 - 12) السنة 63 - 1964، الصفحة 67.

وصوله مكة

وثمانين وأربعمئة (489) (¬1) وقد مر في طريقه إلى الحجاز على الرَّبَذَة التي وصف ما شاهده فيها فقال: " ... وقفت على قبر أبي ذر الغفاري بِالرَّبَذَة مستهل شهر ذي الحجة سنة 489، وهو على قارعة الطريق من الكوفة إلى مكة، غريباً مفرداً، لا أنيس ولا عمارة، خرج هنالك أيام عثمان رضي الله عنه على وجه سليم صحيح بيناه في كتاب "العواصم" (¬2) لم يقدح في أحد، ولا قصر ببشر، ولا انتسب إليه فيه ظلم، فأقام بها حتى مات رضي الله عنه ... " (¬3). وحول وصوله إلى ميقات الِإحرام يقول: " ... لما كانت سنة: 489 أهلّ علينا هلال ذي الحجة ليلة يوم الخميس بالرَّبَذَة، فرحلنا عنه، وقد فرح الناس بوقفة الجمعة ليجتمع لهم فضل اليومين، فضل يوم عرفة، وفضل يوم الجمعة، فبتنا بمكان يقال له المسجد، ثم رحلنا سَحَراً، فلما صلينا الصبح، وأشرقت الشمس إذا بقافلة البلقاء، ترى فيها النفر المحرمين بالثياب البيض بين الناس، فقلت: ما هذا؟ قال لي بعضهم: هم الشيعة، لا يحرمون من ميقات عمر (ذات عرق)، قلت فمن أين لهم هذا؟ قال: هم يزعمون أن علياً خرج من الكوفة، فأحرم من هذا الماء ... " (¬4). وصوله مكة: ويذكر ابن العربي رحمة الله عليه أعماله في الحج، ويحاول أن يكون أداؤه لها دقيقاً كما أدّاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الحج الأكبر، ويلاحظ أن الناس يهملون بعض مناسك الحج، ويُفَوِّتُونَ على أنفسهم خيراً كثيراً، فهم يتركون المبيت بمنى يوم التروية، ويؤثرون أن يبيتوا ليلة عرفة بعرفة (¬5)، يقول فقيهنا ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي: 4/ 41، 153. (¬2) من: (384 - إلى - 386). (¬3) سراج المريدين للمؤلف: 115/ أ، وانظر نفس الوصف بالعارضة: 10/ 48. (¬4) العارضة: 4/ 49 - 50. (¬5) سعيد أعراب: "القاضي أبو بكر بن العربي" مقال بمجلة "دعوة الحق" المغربية، السنة: 14، العدد: 5، صفحة: 165.

في هذا الشأن: " ... مررت من ذات عرق، فألفيت الحاجَّ كلَّهُ كائناً في عرفة، ولَيْسَ عَلَى من فَعَلَ ذلك شيء، ولكنه ترك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد خاب في تركه (¬1) ... أما أنا فجئت من ذات عرق إلى الموقف، ليلة عرفة نصف الليل، فأصبحت بها، ووقفت من الزوال يوم الجمعة سنة 489 (¬2)، ثم اندفعت بعد غروب الشمس إلى مزدلفة" (¬3). ويقصّ علينا المؤلف -رحمة الله عليه- بعض البدع المنكرة التي كان يعتقدها الجهال فيقول: " ... ولقد رأيت الجهل قد انتهى بقوم إلى أن يقولوا -ليلة المزدلفة- قائمين على سطح مسجد المشعر الحرام: يا فلان حج، فينادي كل أحد باسم حبيبه أو جاره، ويقول إنه إذا فعل ذلك به حجّ، فقلت لبعض جيراني: هذا باطل، فنادى معي، وانقلبنا إلى البلد، فما حجّ من نُودِيَ باسمه" (¬4). ومن مزدلفة في طريقه إلى منى يقول: " .. فبتّ بها (أي بمزدلفة) ثم أصبحت، فوقف بها الأمير (¬5)، حتى طلعت الشمس على قدم، فلما عمت الجبال، اندفعنا، فرمينا الجمرة، وحَلَقْتُ وذبحت لفدية كانت علي، ثم دخلت مكة، وطفت وسعيت، وصليت بها الظهر (¬6)، ... وكنت أشرَبُ ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والِإيمان، حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسّره لي من العلم، ونسيت أن أشرَبَهُ للعمل، ويا ليتني شربته لهما، حتى يفتح الله عليّ فيهما، فكان صغوي (¬7) إلى العلم أكثر منه إلى ¬

_ (¬1) العارضة: 4/ 110. (¬2) هذا التاريخ هو الذي ذكره ابن فهد في إتحاف الورى: 2/ 488، حيث ذكر أن أبا بكر بن العربي حج في هذه السنة. (¬3) العارضة: 4/ 153. (¬4) سراج المريدين: 99/ ب. (¬5) أمير الحج في هذه السنة هو الحاج خمادتكين الحسناني، ابن فهد: إتحاف الورى: 2/ 488. (¬6) العارضة: 4/ 153. (¬7) أي ميلي.

العمل، ونسأل الله الحفظ والتوفيق (¬1)، ... ودعوت بالملتزم ثلاث دعوات، فرأيت الاثنتين وبقيت واحدة، والله يمنُّ بها عليَّ فهي العمدة، فكانت الأولى أن يجعلني من العلماء حتى لا يتكلَّمَ أحد بشيء من العلم -إن كان حقاً- إلاّ علمته، وإن كان باطلاً إلاَّ قدرت عليه، إثباتاً للأول، ونفياً للثاني، وآتاني الله ذلك، وآتاني الثانية، وبقيت الثالثة، فيا ليتني كنت شَرِبْتُ ماءَ زَمْزَمَ للعمل، ودعوت الله فيه في الملتزم" (¬2). وحول مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام قال: " .. وقد اختلفوا فيه، فقال قوم: هو الحجر الذي جعل إبراهيم عليه رجله حين غسلت زوج إسماعيل عليهما السلام رأسه، وقد رأيت بمكة صندوقاً فيه حجر عليه أثر قدم قد انمحى واخلولق، فقالوا كلهم هذا أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وهو موضوع بإزاء الكعبة (¬3)، لمسته بيدي وخدي تبركاً به (¬4) في ذي الحجة من سنة 489 والحمد لله رب العالمين" (¬5). وحول الكعبة المشرفة يقول: " ... وقد كنت ألصق خدَّيَّ بجداراتها (¬6) مع فضتها، وكأنه خد جارية زهراء، وأما استلام الحجر فوالذي خلق الماء والحجر إنه لألذُّ في القلب من رشف رُضَابِ الكَوَاعِبِ (¬7) للعازب، ولا يمكنكم أن تدركوا حقيقة ذلك بالصفة، حتى تباشروه، كما لا يمكن تعري العنِّينِ لذَّةَ الجماعِ بالوصف والتمثيل حتى يباشرَهُ ... " (¬8). ¬

_ (¬1) الأحكام للمؤلف: 1124. (¬2) سراج المريدين: 74/ ب، التجيبي: مستفاد الرحلة والاغتراب: 315. (¬3) الأحكام: 39. (¬4) قلت: التبرك بآثار الأنبياء بخاصة، اختلف فيه أهل العلم، فأجازه بعضهم ومنعه البعض الآخر، والذي أراده عدم جوازه وأثر قدم سيدنا إبراهيم لم تثبت بطريق صحيح والله أعلم. (¬5) العارضة: 11/ 80 - 81. (¬6) قلت: التمسح بغير الركنين اليمانيين لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما فعله سيدنا معاوية بن أبي سفيان فأنكر عليه ابن عباس فرجع رضي الله عنهم أجمعين. (¬7) الرُّضَابُ هو الريق. والكَاعِبُ هي الجارية حين يبدو ثديها. (¬8) السراج: 101/ أ.

وقد اتصل فقيهنا -رحمة الله عليه- بجمهرة كبيرة من شيوخ العلم وأهل الفضل، ومن جملة من سمع عليهم بالحرم المكي الشريف، محدث مكة عبد الله الحسين بن علي الطَّبَرِي (¬1) (418 - 498) الذي روى عنه صحيح مسلم برواية الجلودي سماعاً ومناولة (¬2)، كما سمع من أبي المعالي ثابت بن بندار (ت: 498) (¬3) نسخة دينار بن عبد الله الأهوازي عن أنس بن مالك (¬4). وقد تفرغ فقيهنا -رحمة الله عليه- مدة إقامته بالحرم الشريف للعبادة والتهجد، والاتِّصَالِ بشيوخ التربية والسلوك، يوسع دائرة علمه، ويزكي راسخ ملكته، مقبلاً على العلم النافع، مستكثراً من الخير والبر، ويصف لنا في كتابه "سراج المريدين" ليلة من لياليه في مكة فيقول: " .. سمعت محمدَ بنَ عبد الملك الواعظ وهو على المنبر في الملتزم بين الركن والمقام وهو يعظ في ليلة من ليالي كانون الأول من حين فراغنا من صلاة العتمة إلى الفجر، ما نزل ولا انقطع له كلام في التملق لله والتحبب والتعطف، وأنشد في تلك الليلة نحواً من ألفِ بيت وقد قيدنا منها كثيراً في "ترتيب الرحلة" وكان من جملتها: بَسَطْت نَحْوَ الحَبِيب كَفَّا ... أسْألُهُ بِالغَدَاةِ عَطْفَا وَقُلْتُ يَا سَيدِي ترَانِي ... فَلَيْسَ مَا بِي عَلَيْكَ يَخْفَا وهو رافع يديه، يقول يا سيدي تراني، يا سيدي تراني، والخلق يَخِرُّونَ، والمسجد الحرام قد امتلأ بالأصوات والجؤار والبكاء، والناس يتساقطون يميناً وشمالاً ضعفاً وإغماء .. " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: ابن عساكر: تبيين كذب المفتري: 287، الذهبي: العبر 3/ 351. (¬2) ابن خير: الفهرست: 98. (¬3) انظر ترجمته في: الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1233. (¬4) ابن خير: الفهرست: 161. (¬5) سراج المريدين: 107/ ب-108/ أ.

زيارته للمسجد النبوي الشريف بالمدينة

زيارته للمسجد النبوي الشريف بالمدينة: ثم بعد أن قضى مناسك الحج، شدّ الرحال إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بشوق عظيم ونية خالصة، وقد أعرب عن هذه الفرحة في كتابه السراج فقال: " ... ولقد وصلت إليها والحمد لله، وأشرفت من الثنيّة، ورأيت النور ساطعاً إلى السماء بفضل الله تعالى، وصليت في الروضة النبوية، وناجيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلاً من جهة رأسه وتشفعت به (¬1)، فنسأل الله الذي يختص برحمته من يشاء، ويمن على من يشاء من عباده، ألا يجعل ذلك عناء، ولا يصيّره هباء بفضله ورحمته" (¬2). وكان -رحمة الله عليه- يقضي جلّ أوقاته في الروضة الشريفة، بين القبر والمنبر، يستمع إلى أحاديث العلماء الأعلام، وهم يقولون: قال صاحب هذا القبر .. وحدث ابن العربي تلاميذه بكل ما سمع في الروضة الشريفة وهو فخور بذلك، وإليك أنموذجاً لمسموعاته بالمدينة المنورة: " ... حدثنا الشريف الأجل الكامل، نقيب النقباء، ذو الشرفين، شهاب الحضرتين، أبو الفوارس طِرَاد بن محمد الزينبي بين القبر والمنبر بالروضة الشريفة تجاه منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة، يوم الجمعة السابع من المحرم سنة: 490 ... الحديث ... " (¬3). ¬

_ (¬1) يقول في موضع آخر: السراج: 208/ أ " .. وقد كنت جئته - صلى الله عليه وسلم - من قبل رأسه الرفع بإزاء البلاطة وقلت له: يا رسول الله إني فلان بن فلان قصدتك متشفعاً بك إلى ربي ... ". قلت: قول ابن العربي "قصدتك" هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فإمام الحرمين الجويني والقاضي عياض وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجمع غفير من العلماء الذين يعتد بهم منعوا شد الرحال لقصد زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستدلين بحديث:"لا تشد الرحال إلا لثلاث" وأما بعض العلماء فقد أجازوا شد الرحال لقصد زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - والرأي الأول هو الصحيح، وهو الرأي الذي استقر عليه فقيهنا ابن العربي بعد تمكنه من العلم، انظر الأحكام: 1658. وقول ابن العربي "يا رسول الله" لا يجوز. (¬2) السراج: 103/ أ. (¬3) "مجلس الروضة" ضمن مجموع فيه كتاب "قدوة المغازي" لابن أبي زمنين، محفوظ بالمكتبة الوطنية بمدريد تحت رقم: 5349، لوحة:

3 - صلاته الشخصية وأثرها في تكوينه الفكري

3 - صلاته الشخصية وأثرها في تكوينه الفكري: كان القرن الخامس في المشرق قرن الِإنتاج الخِصْبِ، والتحقيق العميق، والبحث الواسع، والتحرير البديع، في الفقه، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والكلام، والتصوف، كان كل علم من هذه العلوم قد قيّض الله سبحانه وتعالى له من يبعث فيه روح الحياة فيجدد له طرقه، وييسّر له سبله، فكان ذلك واضحاً في فقه القدوري (¬1) والسرخسي (¬2) من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب (¬3) والباجي من المالكية، والماوردي (¬4) وأبي إسحاق الشيرازي (¬5) من الشافعية، وفي كتاب البرهان والِإرشاد لِإمام الحرمين، وفي تآليف البيهقي، ورسائل القشيري (¬6). لقد كانت بغداد ودمشق والقدس ملتقى لهذه الفنون والمعارف العقلية والنقلية، وكان ابنُ العربي قد انقطع في -هذه الأماكن المباركة- للمطالعة والطَّلَب والتحصيل والتحرير، فلازم الشيوخ الأعلام بالمدرسة النظامية (¬7)، وأقبل على الغزالي إقبال المتشوق ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن القدوري (ت: 428) صاحب "المختصر" المشهور لدى الحنفية باسم "الكتاب" والجديد فيه أن مؤلفه رحمه الله لم يرتض فيه إلاَّ ذكر الراجح من مختلف آراء ظاهر الرواية في المذهب الحنفي وتخريجات مشايخه. (¬2) هو شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي (ت: 490) صاحب "المبسوط" الذي شرح به "الكافي" للعالم الشهيد (ت: 334)، ويعتبر من أهم الكتب المعتمدة في المذهب، لا يعمل بما يخالفه، ولا يركن إلاَّ إليه، ولا يفتى ولا يُعَوَّل إلا عليه. (¬3) هو أبو محمد عبد الوهاب بن نصر المالكي (ت: 422) صاحب "التلقين" وهو الكتاب الذي أصبح عمدة من عمد المذهب المالكي، وذلك لاختصاره المهذب للفقه المالكي. (¬4) هو أبو الحسن علي محمد الماوردي (ت: 450) صاحب "الحاوي" ومن أعظم الكتب في الفقه الشافعي بل في الفقه المقارن. (¬5) المتوفى سنة: 476 صاحب "التنبيه" و"المهذب" في الفقه الشافعي و"التبصرة" في الأصول. قلت: وهذه الكتب التي ذكرتها آنفاً هي التي كانت معتمدة في مدارس القدس ودمشق وبغداد، فدراسة ابن العربي لها قد أكسبته قوة على الرجوع بالأحكام إلى مداركها، ومسايرة الأئمة المجتهدين في أنظارهم للمقاصد والمعاني، مسايرة تخلص بها من حضيض التعصب المذهبي الرائج آنذاك في الأندلس، إلى أوج التحقيق والإِنصاف. (¬6) محمد الفاضل بن عاشور: ومضات فكر: 129. (¬7) أمثال أبي القاسم الطوسي (ت: 529)، وأبي بكر الشاشي (ت: 507) وأبي سعيد الحلواني (ت: 520) وغيرهم كما هو مبين في مقدمة القانون.

اللهفان، وتلقاه الغزالي بقبول طيب، وتفرغ له بصفة خاصة. فسمع عليه "إحياء علوم الدين" وسأله سؤال المسترشد عن عقيدته المستكشف عن طريقته، ليقف على سر تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه (¬1)، وكان الِإمامِ الغزالي يعرف فيه النبوغ ويتوسم فيه جمع الحسنيين: قوة الحافظة وقوةَ العارضة، فسدده إلى سواء السبيل، وواساه مواساةَ الوالد الجليل (¬2). وهكذا وجد فقيهنا الصواب الذي لا شوب فيه، وصادف اليقين الذي لا ريب معه، والِإمام الغزالي بخاصة وأهل السنة والجماعة بعامة كان ديدنهم -في الكلام على مسائل الفقه والأصول وسائر مباحث الثقافة الِإسلامية- على طريقة من يَتَوَخَّوْنَ من الأمور لبابَهَا ويصرفون عنها قشورها. فتلقى عنهم أصول المذهب الأشعري، فتعشّقه واندفع في نصرته (¬3) بما آتاه الله من قوة الحجّة، وبراعة المحاورة، وسرعة البديهة، وطلاقة اللسان، وغزارة البيان، فأصبح يناقش هذا ويحاور ذاك وهو ما زال بعدُ في ريعان الصبا وفتاء الشباب (¬4). ومن هذه الصلات الموجهة، والعوامل المنتجة، من توافر الكتب وتلاقي العلماء، وتلاقح الأفكار، كل هذا أصَّلَ لدى ابن العربي المنهج القويم، وزكّى فيه المعرفة الحقة، فاكتملت شخصيته العلمية، إذ أصبح مشرفاً على مذاهب الفقهاء، وأنحاء العلماء، وأغراض الأدباء، إماماً في ¬

_ (¬1) العواصم: 30 - 31. (¬2) على حد تعبير ابن العربي في مقدمة القانون. (¬3) هذه حقائق ينبغي لنا ذكرها، لأن ابن العربي عندما كان بالأندلس فإن علماءها وإن كانوا على سياق السنة ثابتين، ولمنهج السلف سالكين، فإنهم كانوا يَنْزِعُونَ إلى أصول الأشعرية التي وطّد أقدامها الباجي وأمثالُه، كما هو مبين في دراستنا للحالة الفكرية في الأندلس: (39)، وعند ارتحال هذا الشاب -الشغوف بالعلم وتحصيله- إلى المشرق، وجد أمور العقائد قائمة على أركان المنهج الأشعري، جارية على أصوله، ثابتة على مبادئه، فما كان منه إلاَّ أن تبنى منهجهم، ونصره بكل ما أوتيَ من قوة وعزيمة، ولا شك أن منهجهم الذي اجتبوه مكتَنَف بمعارضات واسعة، وعليهِ مداخِلُ لمخالفيهم لا سبيل إلى دفعها أو رفعها، ومنهج السلف هو الأعلم والأحكم والأسلم والأظفر بالبغية. والأظفر بالبغية. (¬4) انظر أمثلة من مناظراته ومناقشاته أيام طلبه العلم بالمشرق في العواصم: 43 -

4 - عودته إلى الأندلس

العلوم القرآنية والحديثية (¬1)، أصولياً (¬2)، متكلماً (¬3)، فقيهاً (¬4)، شاعراً مجيداً (¬5)، نحوياً لغوياً (¬6)، كاتباً بليغاً (¬7)، خطيباً فصيحاً (¬8)، وقد ترجم له من معاصريه (¬9) رجال تشهد تراجمهم له بما سما إليه مقامه من عِزٍّ وسؤدد في الدين والعلم. فرحم الله فقيهنا وجزاه الله عن الإِسلام والمسلمين كل خير. 4 - عودته إلى الأندلس: عاد ابنُ العربي إلى وطنه "الأندلس" بعد غياب طويل دام إحدى عشرة سنة أو تزيد، فاشرأبت الأعناق لرؤيته، واحتشد الجميع لملاقاته والترحيب به (¬10)، إذ كانت رحلته العلمية وتلمذته لفحول الشرق قد أشاعت اسمه، وأعلت صيته، وقررت منزلته، فتمكّن مقامه في قلوب أهل العلم، وفتحت له أبواب الحظوة والكرامة في رحاب السلطان. وعن هذا الموقف يقول معاصره وتلميذه الفتح بن خاقان: " ... فَكَرَّ إلى الأندلس فحلها، والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمّعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سُقِيَ، ومن رفعة ¬

_ (¬1) والدليل تفسيره "أنوار الفجر" وشرحه "لصحيح الترمذي" وغيرها من كتب الحديث. (¬2) والدليل كتابه "المحصول في علم الأصول" و"التمحيص". (¬3) والدليل كتابه "المتوسط" و"المقسط" و"العواصم" و"الأمد الأقصى" وغيرها. (¬4) والدليل شروحه للموطأ وغرب رسالة القيرواني وغيرها. (¬5) انظر أشعاره المبثوثة في كتب الأدب والتراجم. أزهار الرياض: 3/ 83، الحُلة السيَرَاء: 1/ 706. (¬6) والدليل "شرحه لقسط الزند للمعرّي" و"ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين". (¬7) والدليل خطبته السجعية الرائعة التي أوردها الكلاعي في "إحكام صنعة الكلام": 195، إضافة إلى أسلوبه المشرق المكين في كتبه بعامة. (¬8) والدليل تقديمه في وفد إشبيلية إلى عبد المؤمن بمراكش للخطبة أمامه، والتي كانت محل استحسان، انظر الحلل المُوَشيَة: 111. (¬9) انظر تلميذه ابن بشكوال في الصلة: 2/ 590. وتلميذه الفتح بن خاقان في مطمح الأنفس: 71. (¬10) انظر: سعيد أعراب: "القاضي أبو بكر بن العربي" مجلة "دعوة الحق" صفحة: 104.

سما إليها وَرَقِيَ، وحسبك من مفاخر قُلِّدَهَا، وَمَحَاسِنَ أُنْسٍ أنْبَتَهَا وَخَلَّدَهَا ... " (¬1). ولا ندري هل كانت عودة ابن العربي عن طريق البَرِّ أو البحر؟ وكل ما استطعنا معرفتَه أنه دخل تونس في ذي الحجة سنة: 494 (¬2)، ورأى بمدينة المنستير جماعة من الزهاد قال عنهم: " ... ورأيت بمنستير إفريقية جماعةَ الطريق المثلى، في العزلة عن الدنيا، أقمت عندهم عشرين يوماً فكأني في الآخرة، طيب عيش، وسلامةَ دِينٍ، ثم جذبتني صلةُ الرَّحِمِ، فقطعتني عن الله مقاديرُ سماوية، فاعجب -فديتك- من قطع بوصل، ومن أجر بذنب، ومن إعراض فإقبال، ومسامحة في استدراج، وذلك بضرب من العجز والتقصير، وغلبة حب الدنيا على القلب وإلّا فما أسهلَ الجمعَ بين معاقد التقوى، وأقْرَبَ التحصيلَ لوجوه الخلاص، ولكن بحذف العلائق وقطع الشهوات، وذلك يعسر مع الِإقبال عليها، ويسهل مع التوفيق بالإِعراض عنها، قل إن الأمر كله لله" (¬3). ثم نزل بتلمسان وفاس (¬4) وأملى بها مجالس علم كانت مثار إعجاب ¬

_ (¬1) مطمح الأنفس: 298 - 299 (ط: الرسالة: 83). (¬2) سراج المريدين: 87/ ب. (¬3) ن، م: 73/ ب، وانظر نفس هذه القصة: "بالمسالك شرح موطأ مالك": لوحة: 481، (مخطوط دار الكتب القاهرة رقم: 21875 ب). (¬4) قال المؤلف في السراج: 239/ ب: " .. وقد كنت وردت تلك الديار الكريمة سنة 495، فنزلت بتلمسان وفاس، وكنت أذكر منها (أي من "أسرار الله" للدبوسي) مسائل، وأُعَجِّبُهُم من أغراضها، فما تحركت لذلك همّة، ولا نشأت عزيمة، إلاَّ لرجل واحد علم أني إذا سُئِلْتُ قراءتها أو إعارتها أقول: هي من أواخر الكلم، فإذا أخذتم أوائلها مكنتم منها، فتاقت نفسه إليها، فرحل إلى العراق وكتبها من مدرسة الحنفية بمدينة السلام، وجاء بها، وكان ذلك من جميل صنع الله معي، فإنه لما ذهب ببعضها عند نهب الدّار، أسفت لها وَلمَا مضى من أمثالها بما لا أجبره إلاَّ بالرحلة مرة أخرى، فأُعْلِمْتُ بأن هذا الرجل جلبها، فاستدعيتها، وجبرت ما فاتني منها ولكن النسخة التي جلبها هذا الرجل سقيمة، لم يعارضها بالأم، ولا قرأها على شيخ، ففيها سقم كثير، فما سلم منها عندي صححت منه، وبقي ما لم يكن عندي على سقمه، والله يصحح لنا أدياننا وعلومنا برحمت

وصول ابن العربي إلى إشبيلية ونشاطه بها

الحاضرين، وَمَرَّ في طريقه بأرض "دُكَّالَة" في المغرب الأقصى حيث التقى به العالم الرحالة أبو العباس القسمطيني الذي يقول: " ... وبها (أي بأرض دُكَّالَة) اجتمعت بالشيخ أبي بكر بن العربي لما قدم من سفارة العراق، وتوجه لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين المتوفى سنة 494" (¬1). ودخل ابنُ العربي مدينة مراكش عاصمة الدولة المرابطية، ويبدو أن ابن تاشفين قابل العالم الشاب والسفير الموفق بكل ترحاب وتكريم، وتسلّم منه المراسم السلطانية التي حملها إليه من عاصمة الخلافة العباسية -بغداد- بتقليده لقب أمير المسلمين (¬2)، وجعله نائباً عن الخليفة العباسي في أقطار المغرب الِإسلامي، تعزّزه في ذلك فتاوى العلماء (¬3) ورسائل الوزراء (¬4). وصول ابن العربي إلى إشبيلية ونشاطه بها: وعاد ابنُ العربي إلى إشبيلية يهاجم ويناظر، ويفيض كالسيل بألوان الفنون والمعلومات تدريسا (¬5) وتحريراً، وينقّحُ الفقه المالكي بتحقيقه لمناط الأحكام، ونظره في أدلتها، ونقضه على الفقهاء ما كانوا يُفْتُون به تقليداً أو عن ضعف دليل، فملأ كتبه النفيسة العجيبة بذكر الغزالي والتعلق بمتين محبته، وجليل إعظامه، والتلذذ بإعادة محاوراته، وتجديد مطارحاته، على أن ما تشرّبه من حرّية البحث وكرامة المعرفة، كان يدفع به إلى مناقشة أستاذه "دانشمند" في كثير من أقواله وآرائه مثلُ بحوثه المستفيضة في "العواصم" (¬6) و"القانون" (¬7) وانتصب -فقيهنا رحمة الله عليه- بطريقته هذه يُبْرِزُ للناس ¬

_ (¬1) أبو القاسم الزياني: الترجمانة الكبرى: 78. (¬2) انظر "شواهد الحيلة": 29/ ب، وانظر قائمة مؤلفات ابن العربي رقم: 24 من هذا البحث. (¬3) أمثال الإِمام الغزالي والِإمام الطرطوشي، انظر المراجع السابقة. (¬4) وهي رسالة الوزير محمد بن محمد بن جهير المتوفى سنة 493، انظر المراجع السابقة. (¬5) ونراه يعقد مجال الدرس عند استقراره بإشبيلية مباشرة، فهذا تلميذه محمد بن عبد الملك الغافقي سمع منه بإشبيلية سنة 496، انظر معجم تلاميذ ابن العربي رقم: 92 من بحثنا هذا. (¬6) الصفحات: 14 - 20، 30 - 50، 106 - 109. (¬7) الصفحات: 92، 142، 272 - 277.

5 - نشاطه العلمي ومناصبه في الدولة

علماً مفنّناً على مناهج عجيبة وفي صور بديعة، وأول ما لَفَتَ أنظار الناس إليه، جمعُه العجيب بين طريقتي النقل والعقل، فإنه لما رأى عناية أهلِ الأندلس بالموطأ، مع قِصَرِ باع العاكفين عليه عن معرفة فقهه والاستدلال لمسائله، والجمع بين ضبط أحاديثه ودقة استخراج الفقه منها بإعمال الأدلة والتنظير بينها، انتصب يشرح لهم الموطأ شرحاً واسعاً، على منهج النظر والاستدلال والفقه في المعاني، وبهذا العمل التحق الفقه المالكي في المغرب الِإسلامي بالدرجة التي كان قاصراً دونها، كما أنه اهتم بتدريس الأصول (¬1)، وذلك لتمهيد طريق النظر الفقهي على قواعد الأصول، فأصبح ابنُ العربي عَلَماً مُفْرَداً في الجمع بين الفنون وسهولة هضمها، وبذلك علت سمعته وَعَظُمَ صيته، وبطريقته البديعة في تدريسه صدرت كتُبه الكثيرةُ الجليلة المفننة في التفسير والكلام والأصول والفقه والنحو والأدب. 5 - نشاطه العلمي ومناصبه في الدولة: وما إن مرت أيام، حتى جاء الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني يدعوه لحضرته، ويختاره للشورى بين يديه (¬2)، وهو منصب عال لا يرقى إليه إلاَّ الصَّفْوة المختارة من رجالات الفكر وأئمة الفقه، يجعلهم في مصاف الوزراء وكبراء رجال الدولة، ولذا نجدُ بعضَ معاصريه (¬3) يحليه بلقب "الوزير". ولم تكن أعماله الِإدارية لمجلس الشورى لتعوقَهُ عن مهامه العلمية من بحث وتأليف وتدريس ووعظ، ولكن صلتُه بالسلطان ربما أساءت إلى سمعته كعالم تقي ورع، فهذا أحد تلاميذه المعجبين به، أبو عبد الله بن مجاهد الإشبيلي الزاهد العابد، لازم ابن العربي نحواً من ثلاثة أشهر، ثم تخلف ¬

_ (¬1) ووضع في ذلك كتاب "المحصول في علم الأصول". (¬2) أغلب الذين ترجموا لابن العربي لم يعينوا زمن تقديمه لمنصب الشورى، والنص الوحيد الذي عثرت عليه هو قول ابن الأبار: "وقدم ابن الجد للشورى مع أبي بكر بن العربي ونظرائه من الفقهاء حينئذ بإشبيلية في سنة: 521" التكملة: 2/ 542 (ط: الحسيني). (¬3) وهو ابن عبد الغفور الكلاعي في "إحكام صنعة الكلام": 190 - 191، 232، 247.

ولايته القضاء

عنه، فقيل له في ذلك، فقال: كان يدرّس وبغلته بالباب تنتظره للركوب إلى السلطان (¬1). ولايته القضاء: أظهر ابن العربي لدى توليته الشورى بين أيدي القضاة كفاءة نادرة، دَلَّت على تضلّعه الواسع في علوم الشريعة، وغيرة ملْتَهِبَةٍ على حقوق الضعفاء، والوقوف إلى جانب المظلومين، وكان في مجالسه العلمية ينتقد الأوضاع الفاسدة التي يعيشها المجتمع الأندلسي، ويُنْحِي باللائمة على الوُلَاةِ، والمسؤولين تارة، وعلى فساد المجتمع بأكمله أخرى، وفي هذا الصدد يقول رحمه الله في كتابه السراج: "وقد عظم الخطب في هذا الزمان، حتى لا يدري العبد على أي شيء يبكي، أعلى فوات دنياه، أم على ذهاب دينه، أم على إخوانه في القربات، أم على دروس العلم وطموسه، أم على اتفاق الخلق على إنكار المعروف وتعريف المنكر، أم على أميره الذي لا يرعى فيه إلاًّ ولا ذمّة ... " (¬2)؟. ويقول في موضع آخر: "وقد فَسَدَ اليَوْمَ الأصنافُ كلُّهم، وأشدُهم فساداً الأمراء والفقهاء، وهم الذين تُصْلَحُ بهم الأحوال، وتنال بصلاحهم الآمال" (¬3). ومضى ابنُ العربي في طريقه هذا غَيْرَ هيّاب ولا وَجِلٍ، فأخلص للحق، وانقطع لِإبراز ما يراه عدلاً وقسطاً، ولا شك أن إخلاصه هذا، وغيرتَه على نصرة دين الله، وَجَمْعَهُ نَوَاحِيَ متباعدةً من فنون العلم، وبلوغَهُ فيها جميعاً درجةً متساويةً من الِإمامة، قد جذب الفحول من ناشئة الفقهاء والمتأدبين إلى دروسه من مختلف بلاد الأندلس والمغرب (¬4)، كما كان لهذه ¬

_ (¬1) التكملة: 2/ 522 (ط: الحسيني). وانظر معجم تلاميذ ابن العربي، الترجمة رقم: 71. (¬2) لوحة: 57/ ب. (¬3) م، ن: لوحة 151/ ب. (¬4) المطلع على معجم تلامذته يدرك هذه الحقائق.

الدروس والنقد النزيه للأوضاع المعاشة صداها البعيد في مراكش عاصمة المرابطين، فأصدر علي بن يوسف بن تاشفين مرسوماً بتولية أبي بكر بن العربي قضاء إشبيلية يحمل تاريخ منسلخ جمادى الثانية سنة: 528 (¬1). وتتفق كلمة المؤرخين على أنه كان مثال العدل والاستقامة (¬2)، صُلْباً في الحق، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، قال عنه تلميذه ابن بشكوال: " ... استقضى ببلده فنفع الله به أهله لصرامته وشدته، ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة" (¬3) و"مع الرفق بالمساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (¬4). وقد عثرت -في كتابه سراج المريدين- على نص له أهمية بالغة، يوضح لنا فيه كيفية قبوله لهذا المنصب الخطير، وما اعترضه فيه من متاعب ومصاعب نرجو من الله تبارك وتعالى أن يجعلها في ميزان حسناته يوم القيامة بمنه وكرمه. وهذا النص -وإن طال- فلا يخرج عن الِإفادة بذكره والاستفادة من نشره. يقول الفقيه ابن العربي في شرحه للآية الكريمة: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. "لما علم من قوة نفسه، ورأى من تضييع الحق وتعطيل الحدود، وفساد الخلق في الأرض، ما حمله على إرادة إظهار الحقوق. ففي ذلك أسوة لمن قَدَرَ من نفسه على القيام بالحق أن يَقْبَلَهُ إذا جُعِلَ إليه. ولقد اقتديت أسوة بذلك، مع أني من أكثر الخلق ذنوباً وعيوباً، وأقلهم منزلةً به، فإني لما دعيت إلى ولاية القضاء قَبِلْتُه مختاراً لثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) البيان المغرب: 4/ 92 - 94، وذهب أستاذنا الدكتور عمار طالبي إلى أن توليته القضاء كان سنة: 508 وهو وهم منه. (¬2) انظر الصلة: 591، الديباج المذهب: 283، العبر للذهبي: 4/ 125، المرقبة العليا: 105 - 106. (¬3) الصلة: 2/ 591. (¬4) النص الثاني هو للِإمام المقري في أزهار الرياض: 3/ 63.

أحدها: سر ما بيني وبين الله. والثاني: معاينتي للباطل قد دمّر الأرض، فأردت أن أصلح ما تمكنت منها، من كف الظلم والاعتداء (¬1)، وبث الأمن، وحفظ الأموال، وكف الأطماع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفك الأسير، والتحصين على الخلق بالسور، والمساواة في الحق بين الصغير والكبير، فحكمت حتي أرِجَت أقْطَارِي، وَرُفِعَ السَّمَر بِأخْبَارِي، فَضَجَّ العُداة، وظهر الولاة حين صَفُرَ وِطَافُهُم من الحرام، وابيضت صحائفهم من الآثام، فَدَسُّوا إليّ نفراً من العامة فثاروا على، وساروا إليّ، فَنُهِبَت داري، وهم قيام ينظرون، ولا يغيرون ولا ينكرون، فانتشلوا مالي، وهدموا مسجدي وداري ... وتعرضوا لنفسي فَكَفَّ الله أيديهم عني، ولقد وطّنتها على التلف وأنا أنشد لخُبَيْب: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ في الله مَصْرَعِي (¬2) وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار لكنت قتيل الدار (¬3). ¬

_ (¬1) ومن أمثلة رفعه للظلم ما قَصَّه علينا في الأحكام: 597 " ... ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها فَاحْتَمَلوهَا، ثم جَدّ فيهم الطلب فجيء بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفَرْجِ، فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون! ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وإن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم، ولا يحرب المرء من زوجته وبنته، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يَسْلُبُ الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصاً في الفتيا والقضاء" انتهى بتصرف يسير. (¬2) هو الصحابي الجليل خُبَيْب بن عدي الأنصاري الشهيد، شهد أحداً، وقد أنشد هذا الشعر عندما قبض عليه كفار قريش وصلبوه بالتنعيم، انظر قصته في البخاري: المغازي: 7/ 291 - 295 (من فتح الباري). (¬3) وحول هذه القصة المؤلمة يقول في العواصم: 400 - 401 "ولقد حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا إلي، واستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطو

الثالث: أن الناس كانوا يظنون أن الأرض خالية عن سياسة درب بالخلق، درب بإقامة الحق فأردت أن أكشف لهم عن بنات صدري، وأعلمَهُم كيفية وِرْدِي في الأمر، وفي صحيح الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لِسَمُرَة: " لاَ تَسَل الإمَارَة، فَإِنَّكَ إِنْ سَألْتَهَا لَمْ تُعَنْ عَلَيْهَا، وَإنْ أُعْطِيتَها مِن غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا" (¬1). وهذا وإن كان من قول يوسف خبراً عن شريعته، فإن الشرائع في هذا الباب متماثلة؛ لأنّه من باب التعاطي المذموم في كل ملّة، المناقض للتواضع المحمود في كل دين" (¬2). قلت: وهكذا لم تمض سنةٌ وبضعةُ أشهر (¬3) على ولايته القضاء، حتى ثارت الغوغاء في وجهه ونكب، فانصرف عن القضاء أو صرف عنه، والتحق بقرطبة وبها جماعة من محبِّيهِ ومريديه ومعارفه، فانقطع للعلم والبحث، وقد استراح من أعباء القضاء. وما إن استقر ابن العربي في قرطبة، حتى تواردت عليه الوفود من الطلاب، وأضحى بيتُه كعبةَ الواردينَ، وملجأ الوافدين، وكانت مجالسُهُ العلميةُ لا تكاد تنقطع ليل نهار، إلى جانب ما كان يقوم به من بحث وتأليف. ويصوّر لنا بعضُ تلاميذه هذه الحياةَ العلميةَ التي كان يعيشها ابنُ العربي في خَلوة العلم والبحث فيقول: " ... وكنا نبيت معه في منزله بقرطبة، فكانت الكتب عن يمينه وعن شماله، وكان لا يتجرد من ثوبه، وكانت له ¬

_ = بنفسي فعاثوا عليّ، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار". قلت: كانت قوة يقينه الِإيمان، وبعد همته العقلية يعصمانه من أن يستسلم إلى اليأس أو يركن إلى الدعة والخمول، رحمه الله رحمة واسعة. (¬1) أخرجه البخاري في كفارات الأيمان: 11/ 608 (من الفتح) ومسلم في الإِمارة: 3/ 1456. (¬2) السراج: 40/ أ. (¬3) البيان المغرب: 4/ 93.

عودة ابن العربي إلى إشبيلية

ثياب طويلة يلبسها بالليل وينام فيها إذا غلبه النوم، ومهما استيقظ مَدَّ يده إلى كتاب، وكان مصباحه لا ينطفىءُ الليلَ كله" (¬1). عودة ابن العربي إلى إشبيلية: ولم تطل إقامة ابن العربي بقرطبة، ولعلّ انتقاله إليها كان مؤقتاً- ريثما تهدأ العاصفة، وتعود المياه إلى مجاريها، فلم يلبث أن عاد إلى إشبيلية، وبنى بها مسجداً اكتظت جوانبه برواد المعرفة، واتصلت حلقاته في التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام واللغة والأدب والأخبار والسير، وما إليها، وهذه الفترة من أخصب فترات حياته، وفيها أتمّ أكثرَ مؤلفاته. ولا شك أن ذيوع اسمه وتألق نجمه قد غطّى على كثير من مشيخة عصره، مما دفع ببعض منافسيه إلى النيل منه، والحطّ من قدره، فنفّروا الناس من الأخذ منه والسماع عليه، ورموه بالتزيد والِإغراب في أحاديثه ورواياته (¬2). وحدث أن دخل أبو محمد التادلي (ت: 597) إلى الأندلس للأخذ عن مشايخها، فهمّ بالسماع من ابن العربي، فصدّه الفقهاءُ عنه، وأحالوه على أبي بكر بن طاهر راوية أبي علي الغساني، قال ابن الأبار: وما أراه سمع منه، فصحب عياضاً ولقي أبا القاسم بن بشكوال (¬3)، وهما من تلاميذ ابن العربي. ويذكر أبو بكر محمد بن مسدي (ت: 636) في معجمه عن أحمد بن الفرج البنَّاني عن الحافظ ابن جد وغيره أن فقهاء إشبيلية حضروا يوماً ¬

_ (¬1) البغية: 83، وانظر نماذج من الدارسين عليه أيام كونه بقرطبة معجم تلاميذه، التراجم رقم: 55. (¬2) الغنية للقاضي عياض: 68 (ط: دار المغرب الِإسلامي). (¬3) التكملة: 2/ 921 - 922، إتحاف أعلام الناس أو "عبير الآس": 4/ 494، 495، شجرة النور الزكية: 164.

بمجلس وفيهم أبو بكر محمد بن عبد الملك بن المرخي (ت: 536) وكان ممن حضر معهم ابن العربي فتذاكروا حديث المِغْفَر (¬1)، فقال ابن المرخي: لا يعرف إلاَّ من حديث مالك عن الزهري، فقال ابن العربي: قد رويته عن ثلاثة عَشرَ طريقاً غير طريق مالك، فقالوا: أفدنا هذا، فوعدهم، فلم يأت بشيء، فأقاموا الدنيا وأقعدوها. وقد ذهب الناس في هذه القصة مذاهب شتى، فمنهم من أثبتها وحاول الدفاع عن ابن العربي، كالحافظ الذهبي الذي ذكر أن هذه القصة ساذجة، لا تدلّ على جرح صحيح، والشعراء يخلقون الإِفك، قال: ولعل القاضي ابن العربي وهم، وسرى فكره إلى حديث فظنه هذا (¬2)، وظلت قصة ابن العربي مع فقهاء إشبيلية لغزاً مغلقاً (¬3)، لم يهتد أحد إلى وجه الصواب فيها، حتى جاء خاتمة الحفاظ الِإمام ابن حجر العسقلاني (ت: 852) فَخَرَّجَهَا المخرج الصحيح الذي يليق بإمامنا الحافظ ابن العربي. قال الحافظ ابن حجر في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (¬4): " .. وابن مسدي تعقب هذه الحكايةَ بأن شيخه (البنَّاني) كان متعصباً على ابن العربي، يعني فلا يقبل قوله. ¬

_ (¬1) الذي رواه مالك عن الزهري عن أن بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر .. الحديث، والمغفر هو ما يغطي الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد أو غيره. انظر: الزرقاني على الموطأ: 2/ 327، عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للعيني: 10/ 206 - 207. (¬2) تذكرة الحفاظ: 1297، وانظر "الأعلام" لعباس بن إبراهيم: 3/ 99 - 100. (¬3) لست أرتاب أن هؤلاء الحسدة قد جاؤوا بالإِفك حين رَمَوْا ابن العربي بالقصور في العلم والاختلاق في الحديث، فلو كان لهذه الاتهامات نصيب من الصحة، لجرد قلمه السيال في الدفاع عن نفسه والانتصار للحق، وقد أحسن الحافظ ابن حجر عندما وضَّحَ المسألة فَخَرَّج القَوْل فيها معضوداً بالحجة، معقوداً بالنصفة، مشفوعاً بالدليل. (¬4) "النكت" رسالة دكتوراه بتحقيق الطالب ربيع هادي عمير وإشراف د. محمد محمد أبو شهبة رحمه الله بجامعة أم القرى، الصفحات: 440 - 454.

قلت (¬1): وهو تعقب غير مَرْضِيٍّ، بل هو دالّ على قلة اطِّلاع ابن مسدي، وهو معذور لأن أبا جعفر بن المرخي راويها في الأصل، كان مستبعداً لصحة قول ابن العربي، بل هو وأهل البلد حتى قال قائلهم (¬2): يا أهل حمص (¬3) ومن بها أوصيكم ... بالبر والتقوى وصية مشفق خذوا عن العربيِّ أسمار الدجى ... وخذوا الرواية عن إمام متق إن الفتى ذربُ اللسان مهذب .... إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلق وَعَنَى بأهل حمص أهل إشبيلية، فلما حكاها أبو العباس البنّاني لابن مسدي على هذه الصورة، ولم يكن عنده اطلاع على حقيقة ما قاله ابن العربي، احتاج من أجل الذب عن ابن العربي أن يتهم البنّاني، حاشا وكلّا، ما علمنا عليه من سوء، بل ذلك مبلَغُهم من العلم. وقد تتبعت طرق هذا الحديث، فوجدته كما قال ابن العربي من ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري غيرَ طريقِ مالك، بل أزيد، فرويناه". قال محمد بن الحسين السليماني: وبعد أدق ذكر الحافظ ابن حجر جميع هذه الطرق باستقصاء عجيب قال: "فهذه طرق كثيرة غيرَ طريقِ مالك عن الزهري عن أنس، فكيف يجمل ممن له ورع أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع، وقد أطلت الكلام على هذا الحديث، وكان الغرض منه الذبّ عن أعراض هؤلاء الحفاظ، والإرشاد إلى عدم الطعن والرد بغير إطلاع. وآفة هذا كله الإطلاق في موضع التقييد، فقول من قال إن هذا الحديث تفرّد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه، وإنما المراد به بشرط الصحة، وقول ابن العربي إنه رواه من طرق غيرِ طريق مالك إنما المراد به ¬

_ (¬1) القائل هو ابن حجر. (¬2) القائل هو خلف بن حبر الأديب كما هو منسوب عند الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1297. (¬3) المراد بحمص إشبيلية كما هو مشهور بالأندلس.

في الجملة سواء صَحَّ أو لم يصح، فلا اعتراض ولا تعارض" انتهى. ومن ألدّ خصوم ابن العربي أبو القاسم محمد الصدفي المعروف بالزنجاني الِإشبيلي فقد كان لا يجد فرصة للطعن عليه إلاّ اهتبلها، واتفق ذات يوم أن حضر الناس إلى الجمعة بالجامع الأعظم بإشبيلية، فتغيب الخطيب لعذر قاهر، فلم يكن بد من أن يقوم للصلاة قاضي البلد -وهو- إذ ذاك- أبو بكر بن العربي، وعندما قام ليخطب -وهو الخطيب المفوَّه- لم يجد حَرفاً من الخطبة فأرتج عليه، فقال: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلاَّ الله، فقالوها، فقال روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إِذَا قَالَ العَبْدُ لَا إلهَ إلّاَ الله اهْتَزَّ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ ... الحديث، ثم تلا آية الكرسي وقال: روينا عن عكرمة وابن عباس أنهما قالا:" العُرْوَةُ الوُثْقَى لَا إلهَ إِلَأ الله، ثُمَّ قَرَأ" {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية وقال: اذكروا الله يذكركم، فأقيمت الصلاة فصلى. وما إن انتهى الناس من صلاتهم، حتى وقف الزنجاني وقال: يا أهل هذا المسجد، أعيدوا صلاتكم، ولكن أبا بكر بن الجد، قام على الأثر فردّ عليه وقال: يا أهل إشبيلية إن صلاتكم صحيحة، فخطبة إمامكم تضمنت آيات من كتاب الله، وجملاً من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأي كلام له بال أعظم من هذين، فانصرف الناس عن جمعة. وقد حملته خصومته لابن العربي على التوجه إلى مراكش وتحمل أعباء السفر للسعاية به والمطالبة بتنحيته -أيام كان قاضياً- من منصب القضاء، وظل يتردد على البلاط التاشفيني حتى أدركه أجله غريباً عن أهله سنة: 529 وسيق إلى إشبيلية ودفن بها (¬1). وفقيهنا رحمه الله (¬2) كثيراً ما يرفع عقيرته بالشكوى من حاسديه والمتربصين به، يقول في العارضة: " ... إلاَّ أني منيت بحسدة لا يفتؤون، ¬

_ (¬1) بغية الملتمس: 87 - 88. (¬2) معجم ابن الأبار: 118، الإعلام لعباس بن إبراهيم: 4/ 76 (ط: فاس).

6 - جهاد ابن العربي

ومبتدعة لا يفهمون، قد قعدوا مني مزجر الكلب يبصبصون، والله أعلم بما يتربصون" (¬1). 6 - جهاد ابن العربي: عندما اكتسح الصليبيون، واكتسبوا أراضي الإِسلام في عدة جهات من شرق الأندلس، وأضحى الخطر يتهدد الثغر الأعلى بأكمله، قام ابن العربي في الناس يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، ونجدة إخوتهم وجيرانهم، وفي هذا الشأن يقول في كتابه الأحكام: " ... ولقد نزل بنا العدو -قصمه الله- سنة: 527 فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حَدَّدُوهُ، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله، وقد وقع في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة دين الله المتعينة عليكم بركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن سيّركم الله له، فغلبت الذنوب ووجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره وإن رأى المكروه بجاره، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل" (¬2). ويقول في موضع آخر متحسراً مكلوماً: " ... فكيف بنا وعندنا عهد الله أن لا نسلم إخواننا إلى الأعداء، وننعم وهم في الشقاء، أو نملك بالحرية وهم أرقاء، يا لله ولهذا الخطب الجسيم، نسأل الله التوفيق للجمهور، والمنّة بصلاح الآمر والمأمور" (¬3). وقد شارك ابن العربي في كثير من الغزوات التي خاضها أمراء إشبيلية مع الصليبيين في شرق الأندلس وغربه، ومن بينها غزوة كتندة التي خرج إليها ¬

_ (¬1) العارضة: 1/ 3. (¬2) الأحكام: 955. (¬3) الأحكام: 956.

7 - شخصية ابن العربي العلمية

أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين (ت: 514) وكانت على المسلمين، واستشهد فيها آلاف المتطوعة، وفقد عدد منهم من بينهم الإِمامان الجليلان أبو علي الصدفي، وأبو عبد الله بن الفراء، ونجا ابن العربي بقدرة الله، وقد سئل -عند نجاته منها- عن حاله فقال: حال من ترك الغباء والعباء (¬1)، أي فقد كل ما عنده وَسَلِمَ بنفسه. كما خرج مع الأمير أبي بكر بن يوسف بن تاشفين إلى الغزو في الثغور الشرقية سنة: 522، وكان يجمع بين الجهاد والعلم، فقد أخذ عنه في هذه الوجهة أبو العباس لب بن عبد الجبار (ت: 538) (¬2). كما تردد غازياً على بلنسية في السنوات 522، 523، 524، 525، وممن أخذ عليه في هذه الغزوات أبو العباس بن طارق بن موسى (¬3). وأبو الخطاب محمد بن عمر (¬4) وغيرهم. 7 - شخصية ابن العربي العلمية: من قراءة سيرة ابن العربي ودراسة تراثه تطالعنا شخصيته الفريدة بكل معالمها القوية ومميزاتها الخاصة، فلقد وصفه زعيم الباطنية -والفضل لما تشهد به الأعداء- بقوله: "ما هذا الصبي إلاَّ بحر زاخر من العلم، ما رأينا مثله قط" (¬5) فإذا كانت هذه منزلته وهو ابن العشرين (¬6) فلا ينبغي أن نستغرب عندما يصفه الحافظ الذهبي بالاجتهاد المطلق (¬7)، أو يصفه ابن عزم المغربي ¬

_ (¬1) معجم ابن الأبار: 4 - 5، مقدمة د. حسين مؤنس لكتاب الحلة السيراء لابن الأبار: 1/ 19. (¬2) التكملة: 1/ 350. (¬3) انظر معجم تلاميذ ابن العربي: الترجمة رقم: 59. (¬4) انظر معجم تلاميذه، الترجمة وقم: 95. (¬5) العواصم: 75. (¬6) صرح بذلك في العواصم: 61. (¬7) الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1295، وانظر السيوطي: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض": 99.

العامل الأول

(ت: 891) بشيخ المالكية على الإطلاق (¬1). وتكوين هذه الشخصية القوية يرجع في نظري إلى عاملين اثنين بعد توفيق الله سبحانه: العامل الأول: نشأته في بيت علم وشرف، فقد كان هذا البيت ملتقى لفضلاء العلماء ونبلاء الأدباء والشعراء، فكانت سير المشاهير من أعلام الفكر تجري على الألسن، والمذاكرة في الكتب ومسائل العلم لا تنقطع (¬2)، فنشأ فقيهنا في هذا الجو الثقافي العطر، متشبعاً بتلك الروح العلمية، طموحاً إلى الحفاظ على عز أسرته وشرفها، راغباً أن يجدد الله به وعلى يده سيرة أولئك المشاهير من أهل العلم والفضل. العامل الثاني: رحلته إلى المشرق العربي وما لها من آثار عميقة في تكونه الفكري، وقد أشبعنا القول فيها في الصفحات السابقة. فهذان العاملان وعوامل أخرى يطول شرحها، قد جعلت منه شخصية متعددة الجوانب يجد فيه الطالب -أياً كان اتجاهه وتخصصه- بغيته وطلبته، فكان من تلاميذه: المحدث (¬3)، والفقيه (¬4)، والفيلسوف (¬5)، والمؤرخ (¬6)، ¬

_ (¬1) في: "دستور الإعلام بمعارف الأعلام" ورقة: 201، مخطوط بمكتبة الحرم المكي الشريف تحت رقم: 28. (¬2) انظر مقدمة "قانون التأويل": 4 - 46. (¬3) انظر معجم تلاميذ ابن العربي في هذا البحث، الترجمة رقم: 7309. (¬4) م، ن: 125، 136. (¬5) م، ن:81. (¬6) م، ن: 98، 109.

واللغوي (¬1)، والشاعر (¬2)، والطبيب (¬3)، وغيرهم على اختلاف تخصصاتهم. وكانت له -رحمه الله- شجاعة خاصة في إبداء رأيه، ولو كان مخالفاً لأراء أئمة الإِسلام الكبار (¬4)، فلم يسلم من لسانه إمام الهدى أبو الحسن الأشعري (ت: 330) حيث قال عنه في كتابه "المتوسط" أثناء كلامه عن بعض المسائل الكلامية (¬5): " ... وهذا القول ساقط متناقض، ويلزم شيخنا أبا الحسن من وجهين ... " (¬6)، ويقول عنه وعن الإمامين الباقلاني والجويني في العارضة (¬7): " ... وهذا باب عظيم لم يتحقق به كثير من العلماء وأول من غفل عنه شيخنا أبو الحسن وتابعه القاضي أبو بكر والجويني ... " وعن الإِمام أبي حنيفة قال أثناء كلامه على بعض المسائل الفقهية: " ... وقد اتفق الناس على ذلك إلاَّ أبا حنيفة، فإنه سقط على أم رأسه ... " (¬8) وعن الشافعي قال:" ولقد عجبت من الشافعي مع فقهه وبديع فهمه يقول ... كذا" (¬9). كما قال عنه في موضع آخر: " ... كل ما قال الشافعي أو قيل عنه أو وصف به، فهو كله جزء من مالك وَنُغْبَة (¬10) من بحره، ومالك أوعى سمعاً، ¬

_ (¬1) م، ن: 79، 80. (¬2) م، ن: 87. (¬3) م، ن: 86، 94. (¬4) الناظر في كتبه يلمس هذه الحقائق واضحة جلية. (¬5) اتفق الباحثون المنصفون على أن كتاب "الإبانة" هو آخر كتب الإِمام الأشعري، وعليه فإن وصفي له بإمام الهدى لا ضير فيه ولا تثريب. (¬6) ابن العربي: المتوسط: لوحة، 76 (مخطوط الرباط). (¬7) 10/ 68. (¬8) ابن العربي: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لوحة: 243 (مخطوط الرباط). (¬9) سراج المريدين: 18/ ب. (¬10) النُغبةُ هي الجُرعة.

8 - أقوال العلماء فيه

وأثقب فهماً، وأفصح لساناً، وأبرع بياناً وأبدع وصفاً .. " (¬1). ثم لا يلبث أن ينتقد بحدة إمامه والمتبع لمذهبه الإِمام مالك فيقول عنه بمناسبة الكلام على بعض الأمور الفقهية الاجتهادية: " ... وهذا منه فاسد جداً" (¬2). قلت: حسب امرئ مسلم لله أن يبلغه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بطَعَّانٍ، وَلَا لَعَّانٍ، وَلَا فاحِشٍ، وَلاَ بَذِيءٍ " (¬3)، حتى يخشع لرب العالمين، ويسمع لنبي الله ويطيع، فيكف غَرْبَ لسانه وضراوة فكره عن علماء الأمة وأئمتها، نسأل الله أن يجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ويرزقنا الإنصاف، ويعيذنا من الفرقة والاختلاف، وأن يغفر لجميع علماء المسلمين، وأن يتقبلهم عنده في الصالحين، ويختم لنا بما ختم به لعباده المتقين، آمين. 8 - أقوال العلماء فيه: وشخصية ابن العربي لا تتضح معالمها من تراثه فحسب، بل تعرف كذلك في شهادات من عاصروه، وأقوال من ترجموا له من المؤرخين والعلماء، فقد جاء في رسالة العالم الرباني أبي بكر الطرطوشي (¬4) ما نصه: " ... والفقيه أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي ممن صحبنا أعواماً ¬

_ (¬1) الأحكام: 314، وهذا الكلام من ابن العربي كان رد فعل لقول الجويني عن الإِمام الشافعي إنه أفصح من نطق بالضاد. (¬2) الأحكام: 211، وانظر نقده الشديد واللاذع للظاهرية: الأحكام: 10/ 110، العواصم: 311 - 372. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب البر، باب ما جاء في اللعنة، رقم: 1978، وابن حبان رقم: 48 (من موارد الظمآن لنور الدين الهيثمي) والبخاري في الأدب المفرد رقم: 312، والحاكم في المستدرك: 1/ 12، 13، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬4) وهي الرسالة التي بعث بها إلى الأمير يوسف بن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، انظر: "شواهد الجلة": 33/ أ (مخطوط دار الوثائق بالرباط رقم: 1020).

يدارس العلم ويمارسه، بلوناه وخبرناه، وهو مِمّن جمع العلم ووعاه، ثم تحقق به ورعاه، وناظر فيه وجدّ حتى فاق أقرانه ونظراءه، ثم رحل إلى العراق فناظر العلماء، وصحب الفقهاء، وجمع من مذاهب العلم عيونها، وكتب من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى صحيحه وثابته، والله تعالى يُؤتي الحكمة من يشاء ... ". أما تلميذه ابن بشكوال فيقول عنه: "الإِمام الصالح الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها، ... كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، مقدماً في المعارف كلها، متكلماً في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها ... " (¬1). وقال عنه صاحبه وتلميذه الفتح بن خاقان: "علم الأعلام، الطاهر الأثواب، الباهرُ الألباب، والذي أنسَى ذكاءَ إياس (¬2)، وترك التقليد للقياس، وأنْتَجَ الفرع من الأصل، وغدا في يد الإِسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعد ما أجدبت من المعارف، وَمُدَّ عَلَيْهَا مِنْهُ الظِّلَّ الوارفَ، فكساها رَوْنقَ نُبْلِهِ، وَسَقَاهَا رَيِّقَ (¬3) وَبْلِهِ (¬4) ... " (¬5). أما الحافظ الذهبي فقد وصفه بقوله: ¬

_ (¬1) ابن بشكوال: الصلة: 558 (ط: الحسيني). (¬2) هو إياس بن مُعَاوية بن قُرة المُزَنِي قاضي البصرة، صاحب الفراسة والأجوبة البديعة، كان مشهورا بفرط الذكاء، وبه يضرب المثل في الفطنة والألمعية، توفي سنة 122 هـ، انظر عنه: ابن قتيبة: المعارف: 467، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/ 247. (¬3) الرَّيِّقُ مِنْ كل شيء أفْضَلُهُ وَأوَّلُه. (¬4) الوَبل وَالوَابِل: المطر الشديد الضخْم القَطْرِ، وجعل ابن العربي من الوابلين إشارة إلى سعة عطاياه. (¬5) مطمح الأنفس: 297 (ط: الرسالة: 1983).

9 - وفد إشبيلية برئاسة ابن العربي إلى مراكش

" ... الإِمام العلامة الحافظ ... أدخل إلى الأندلس علماً شريفاً وإسناداً منيفاً، وكان متبحّراً في العلم، ثاقب الذهن، عذب العبارة، موطأ الأكناف، كريم الشمائل، كثير الأموال ... " (¬1). قلت: وهذه كلها شهادات من علماء فحول (¬2)، تقرّ له بالمجد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، قيدوها في كتبهم حتى يكون اعترافهم بها أرسى وأثبت، ونكولهم عنها أبعد وأصعب. 9 - وفد إشبيلية برئاسة ابن العربي إلى مراكش: قدر الله سبحانه وتعالى لابن العربي أن يرى سقوط دولة آل عباد على يد يوسف تاشفين في أول شبابه، وشاء الله له أن يشهد إنهيار صرح الدولة المرابطية على يد الموحدين في أخريات حياته، وعندما أخذت وفود الأندلس تتهيأ لتقديم البيعة إلى الدولة الجديدة، بادر وفد إشبيلية إلى تقديم الولاء والطاعة، تحت رئاسة عالمها الأكبر أبي بكر بن العربي، فحضر إلى مراكش في حدود ذي القعدة عام: 541 (¬3)، ويتكون الوفد من علماء وأعيان وفضلاء إشبيلية وهم: 1 - أبو بكر بن العربي. 2 - الخطيب أبو عمر بن الحجاج (¬4). 3 - أبو بكر بن الجد (¬5). ¬

_ (¬1) الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1294 وانظر تاريخ الإِسلام له كذلك: الورقة 301/ ب-302/ أ (مخطوط آيا صوفيا). (¬2) اكتفيت بهذه النماذج من شهادات العلماء خوفاً من الإطالة، وحباً للاختصار، وإلاّ فإن كتب التراجم طافحة بمدحه وذكر أمجاده. (¬3) الأنيس المطرب لابن أبي زرع الفاسي: 190. (¬4) هو أبو عمر محمد بن عمرو بن حجاج اللخمي: من أهل إشبيلية، وليَ الخطبة بها، التكملة: 251، رقم 809 (ط: مجريط). (¬5) انظر ترجمته في معجم تلاميذ ابن العربي في هذا البحث تحت رقم: 85.

4 - أبو الحسن الزهري (¬1). 5 - أبو الحسن بن صاحب الصلاة (¬2). 6 - أبو بكر بن السجرة الهوزني (¬3). 7 - أبو بكر بن شريح (¬4). 8 - أبو العباس الرعيني (¬5). 9 - ابن السيد. 10 - ابن زاهر. 11 - عبد العزيز الصدفي (¬6). وصادف حضور الوفد الِإشبيلي إلى مراكش اشتغال عبد المؤمن بمحاربة محمد بن هود الماسي، ثم قبائل بِغَرْوَاطَة، فانتظروه نحو عام أو أزيد (¬7)، وسلّموا عليه سلام الجماعة في عيد الأضحى من سنة 542 (¬8)، ثم أذن لهم بمقابلته، فتقدموا للسلام عليه، وألقى أبو بكر بن العربي خطبة بليغة كانت محل استحسان من عبد المؤمن، وتلاه أبو بكر بن الجد فأحسن وأجاد، ثم قدموا إليه بيعة أهل إشبيلية بخطوطهم، فقبلها منهم وشكرهم واستحسن صنيعهم (¬9). ¬

_ (¬1) م، ن: رقم: 136. (¬2) لم أعثر له على ترجمة، انظر الإعلام لعباس بن إبراهيم: 3/ 68 (ط: فاس). (¬3) من ذوي قرابة ابن العربي من أمه، انظر ترجمته في المغرب 1/ 240. (¬4) انظر ترجمته في معجم تلاميذ ابن العربي تحت رقم: 97. (¬5) انظر ترجمته في معجم تلاميذ ابن العربي رقم: 24 من هذا البحث. (¬6) الظاهر أن هؤلاء الثلاثة هم من أعيان ووجهاء إشبيلية وليسوا من العلماء. وينبغي التنبيه على أنني رجعت في معرفة أعضاء هذا الوفد إلى كتاب "الحلل الموشية" ص: 111. (¬7) قدّر النباهي في المرقبة العليا: 106 انتظارهم بنحو عام ومثله المقري في النفح (ط: محيي الدين)، وقدره ابن أبي زرع في الأنيس المطرب: 190، بنحو عام ونصف وتابعه على ذلك الناصري في الاستقصاء. (¬8) الأنيس المطرب: 190، الاستقصاء: 2/ 105. (¬9) الحلل الموشية للمراكشي: 111.

الفصل الثالث تراثه الفكري (مؤلفاته)

الفصل الثالث تراثُه الفكري (مؤلّفاته)

مؤلفات ابن العربي

الفَصل الثالث مؤَلّفاتُ ابن العَرَبيّ مدخل: لعل من خير ما يصور مكانة ابن العربي العلمية واتجاهاته الفكرية دراسة آثاره الكثيرة التي خلفها، وتبيان قيمتها مقارنة بمثيلاتها، ومدى اهتمام العلماء والدارسين بها، من عصره إلى عصرنا هذا. وإن التعرض لمؤلفات ابن العربي يستوجب الِإشارة إلى الجهد الذي بذله أستاذنا الدكتور عمار طالبي الجزائري (¬1)، فله الريادة في إعداد الكشف البيبليوغرافي لمؤلفات ابن العربي بشكله العلمي السليم فجزاه الله خيراً. ولا بد من الِإشارة أيضاً إلى أنه ينبغي للباحث أن يربط بين تنوع ثقافة ابن العربي كمتكلم وفقيه ومحدث ولغوي، وبين اتجاهاته في التأليف، وهي مسألة طبيعية أن ينوع مؤلفاته بحسب ثقافته واختصاصاته، فقد كان رجلًا عجيباً في جمعه نواحي متباعدة من فنون العلم وبلوغه فيها درجة عليا مكنته من الِإشراف على العلوم والمعارف، وبالتالي سلوك طريقة في التأليف والبحث والعرض أساسها: توخي الابتكار في الأسلوب، والاستقلال في الفهم، والإفصاح عن المعاني بصورة محكمة مبينة، متينة الأسس واضحة المعالم. ¬

_ (¬1) في آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 1/ 65 - 83.

1 - "علم الكلام"

ونحن بحاجة شديدة إلى الإلمام بأعمال ابن العربي والتعرف على مجمل الظروف التي ألف فيها مؤلفاته، والخصائص التي تميزت بها تلك المؤلفات، وهذا أمر يحتاج إلى تتبع دقيق وروية في الحكم، وقد يسر الله لنا -بمنه وفضله الاطلاع على أغلب ما وصل إلينا من مؤلفات ابن العربي المخطوط منها والمطبوع، فأثبت خلاصته بهذا المبحث، مجتهداً في اتباع منهج واحد في تناول وصف كل كتاب، ويمكن تلخيص هذا المنهج في النقاط التالية: 1 - الإشارة إلى ذكر ابن العربي للكتاب المتحدث عنه في كتبه الأخرى. 2 - الإشارة إلى من ذكره من المؤلفين السابقين. 3 - التنبيه فيما إذا كان الكتاب موجوداً مخطوطاً أو مطبوعاً، واجتهدت أن أطلع عليه، وأشرف إلى الطبعة أو المخطوطة التي وقفت عليها، أما بعض النسخ الخطية التي لم أتمكن من الوقوف عليها -وهي قليلة- فقد أشرت إلى ذلك ونبهت عليه. 4 - حاولت أن أقدم وصفاً مختصراً لنوعية الكتاب ومجاله وموضوعه بعبارة وجيزة مستنداً إلى دراستي للكتاب. 5 - قسمت الكتب حسب موضوعات العلوم، كما ذكرت الذي لم أقف عليه في آخر القائمة متبعاً نفس الترتيب السابق بعد أن أسقطت ما كرره المترجمون بفعل الوهم أو الخطأ. 1 - "علم الكلام": 1 - كتاب "الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى" (¬1): وقد وقفت عليه مخطوطاً في الخزانة العامة بالرباط، تحت رقم: ¬

_ (¬1) ذكره في أغلب كتبه منها، الأحكام: 1961، العارضة: 13/ 39، ونسبه إليه أغلب من ترجموا له منهم: المقري في الأزهار: 3/ 94 ونفح الطيب: 2/ 242 (ط: محيي الدين).

(6275: د)، 112 ورقة، خط مغربي قديم وسطوره مختلفة، مبتور الأخير، ووقفت على نسخة أخرى بنفس المكتبة وهي تحت رقم: (4: ق)، 180 ورقة 21 سطر خط مغربي. إضافة إلى نسختين أخريين وقفت عليهما كذلك، الأولى من تركة الشيخ عبد الحي الكتاني التي ضمت إلى الخزانة العامة، وهي ضمن مجموع رقم: (2670: ك، أي: كتاني)، والثانية في الخزانة الملكية تحت رقم: (2872). وعند سفري إلى تركيا، عثرت على نسخة جيدة من هذا الكتاب في مكتبة الحاج سليم آغا بأسكدار- إستانبول، تحت رقم: (499)، 136 ورقة، 25 سطراً، خط نسخي. كما وقفت على نسخة هامّة بالمكتبة الوطنية بمدريد تحت رقم: ( CDL: VII) لم أتمكن من نقل كامل البيانات عنها لوقوفي عليها في آخر يوم من وجودي في العاصمة الإسبانية، مع العلم أن خطها مغربي متوسط الجودة (¬1). أما عن مضمون هذا الكتاب ومنهج المؤلف في تحرير قضاياه وبسط مسائله، فيقول ابن العربي في ديباجة الكتاب: "الحمد لله قبل كل مقال، وعلى كل حال، وفي كل زمان وعند كل مثوى وارتحال .... ، أما بعد: فقد كنت متشوقاً إلى قرع باب العلم بربي، متشوقاً إلى مطالعة حضرته وما فيها من عجائب المعارف وفنون المعلومات ... فكان أفضل ما انتدبت إليه، وعقدت العزم عليه، التعريف بالله تعالى، والتفسير لأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فنظمت فيها شتيت تعليقي، وصدعت بتبيانها وعاء تحقيقي، وجلوت نكتاً طال ما شددت إليها ¬

_ (¬1) ينبغي التنبيه على أنني لم أعن باستقصاء نسخ الكتاب المخطوطة كلما تذكرها فهارس المخطوطات. وإنما اقتصرت على ما وقفت عليه بنفسي وتحققت من وجوده.

الحزام، وطبعت عليها الختام، فهذا أوان جلاها، وهذه جواهرها وحلاها. وقد سبق إلى هذا المعنى جماعة، فجاؤوا مستأخرين ومستقدمين، ومنهم من أوعب وأطنب، ومنهم من هذّب وقرب، وما استولى علي المرغوب، ولا قرطس المطلوب، إلاَّ بعض أشياخي (¬1) فإنه جمع فيها كتاباً صغير الحجم، استوعب جملًا عظيمة، وأشار إلى أمور بديعة، هتك بها حجاب الِإخفاء، وقام فيها بواجب جمل الاحتفاء، وعلى كثرة ما جمعنا فيها، وأوثقنا من مبانيها، وأوضحنا لمعانيها، فإنَّنَا على منواله ننسج، وفي سبيله نستنتج، وربما اقتحم فيها -على سيرته- أموراً لا تطاق، وجاء بألفاظ يضيق عنها النطاق، سنفاوضه فيها ... والله ولي التوفيق" (¬2). قلت: وعن أبواب وفصول الكتاب قال رحمه الله: " ... إن مدار الكلام فيه ينبني على أربعة أقطاب: القطب الأول: في ذكر أسماء الله عَزَّ وَجَلَّ على الجملة والتفصيل، وذكر مواردها واختلاف الروايات فيها. القطب الثاني: في ذكر سوابق وفواتح لا بد من تقديمها بياناً لما عسى أن يستبهم من أغراضها. القطب الثالث: في شرح معانيها وإيضاح مقتضاها. القطب الرابع: في ذكر تتميمات بها يكمل المقصود، ويحصل بفضل الله المطلوب. وكل قطب منها يشتمل على فصول وأصول، وتمهيدات وفروع، ... وانتقينا من كلام العلماء كل غريبة، وأوردنا كل بديعة، وعقبناه من الاجتهاد ¬

_ (¬1) وهو الإِمام الغزالي الذي شرح الأسماء الحسنى في تأليف لطيف سماه "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" طبع عدة مرات بمصر ولبنان. (¬2) لوحة: 2/ أ- ب.

بما نتضرع إلى الله أن يقرنه بالسداد" (¬1). قلت: وعن مسلكه في تحرير موضوعاته قال رحمه الله: " ..... اعلموا وفقكم الله أن المؤلفين في هذا الباب وإن كانوا على حالين، منهم من اختصر واقتصر، ومنهم من أوعب واستظهر، فإنهم لم يستنزلوا على جميع المقاصد. ولا شرعوا في جملة الموارد، وإنما أخذ كل واحد بطرف لواه وما استوفاه، وهذا الكتاب غَدَا موثّق المباني، وأتى على جميع المعاني، إذ رتبنا القول فيه على أربعة عشر وجهاً: الأول: النظر في مورد الاسم قرآناً وسنة وإجماعاً، فعلاً أو اسماً، إفراداً أو جمعاً. الثاني: النظر في معناه لغة. الثالث: القول في حقيقته ومعناه الخاص المعقول منه، المضمون للفظه. الرابع: اختلاف الناس فيه. الخامس: المختار منه. السادس: دفع الشبه العارضة له. السابع: وجه اختصاص الباري سبحانه فيه. الثامن: وجه اختصاص العبد بمعناه فيه. التاسع: ضم الأسماء كلها إلى الصفات السبع (¬2) التي لا مزيد عليها في المعقول والمنقول جميعاً. العاشر: حسن الترتيب في جميع ذلك على وجه لم نسبق إليه. ¬

_ (¬1) لوحة: 2/ ب. (¬2) قلت: جمهور الأشاعرة يثبت هذه الصفات السبع ويسمونها صفات المعاني وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، ولا يخفى أن هذا التقسيم مبني على إثبات بعض الصفات إثباتاً حقيقياً، والتأويل في بعضها الآخر، وهذا منهج خاطئ، عفى الله عن الجميع.

2 - كتاب "الأفعال"

الحادي عشر: تنزيه القول في الأسماء عن تشبيه صارت إليه الحشوية (¬1). الثاني عشر: تنزيهنا عن تعطيل مال إليه كثير من الغالين، حتى ردّوا أسماء الله تعالى إلى اسم واحد، والمعاني الكبيرة إلى معنى واحد، جهلاً بالحقائق، أو عمداً للِإلباس ونفي الصانع (¬2). الثالث عشر: إعراضنا عن أغراض الصوفية من علمائنا (¬3)، فإنهم وإن كانوا أهل اعتقاد وتحقيق، فإنهم قد سلكوا في عباراتهم أوعر طريق. الرابع عشر: ما ضمناه من أحكام أسماء الله في فضل التنزيل من كل اسم، وذلك أمر بديع عظيم القدر لو لم يكن في الكتاب سواه لكفاه" (¬4). 2 - كتاب "الأفعال" (¬5): وتوجد منه نسخة فريدة، وقفت عليها في الخزانة العامة بالرباط في مجموع تحت رقم (4/ ق) من لوحة: 18 - إلى آخر المخطوط لوحة: 214. ولكي نتبين منزلة موضوع هذا الكتاب من علم التوحيد يجدر بنا أن ننقل مقدمة الكتاب بقلم الِإمام ابن العربي، يقول رحمه الله: "الحمد لله الذي منّ على الخلق بمعرفته، وَصَرَّفَهُم على حكم إرادته ... أما بعد: فإنه لما كان التوحيد لا يتم إلاَّ بعد معرفة الله سبحانه بأنه واحد في ¬

_ (¬1) يقصد بالحشوية المجسمة أتباع محمد بن كرام. انظر تعليقنا على "الكرامية" في قانون التأويل صفحة: 28. (¬2) الظاهر من كلامه أنه يقصد الفلاسفة. (¬3) يقصد بالصوفية صوفية القرون الأولى لا المتصوفة المتأثرين بالنظريات الفلسفية من وحدة الوجود والحلول كابن عربي وابن سبعين وأمثالهم. (¬4) لوحة: 113/أ- ب. (¬5) أشار إليه في الأحكام: 1961. واعتبره قسماً من "الأمد الأقصى"، كما أشار إليه في قانون التأويل صفحة: 278.

3 - كتاب "المتوسط في الاعتقاد"

أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله ومخلوقاته، وكما قد فرغت من شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى في كتاب "الأمد الأقصى"، تَعَيَّنَ قصد الإِكمال، والتعرف للأفعال، حتى لا يبقى علي المزيد لمعرفة التوحيد إشكال، فشرعنا في تفسيرها، ولم يكن ذكرها مرتبا على المعاني والأبواب؛ لأنه أمر يعسر طلبه، ويخفى إلاَّ علَى اللبيب مذهبه، فرأينا والحالة هذه أن نرتبها على سور القرآن، أقرب في الِإمكان، وأسرع إلى الأذهان، وأنفع في البرهان، وأعظم بركة في غابر الأزمان، والله المستعان لا رب غيره" (¬1). 3 - كتاب "المتوسط في الاعتقاد" (¬2): وهذا الكتاب ظل في حكم المفقود لم يهتد الباحثون إلى الوقوف على خبره إلى أن منَّ الله تعالى بفضله فيسّر على يدينا العثور على نسخة عتيقة منه متآكلة الجوانب مبتورة الأول، وذلك في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم: (2963 ك) وهي من تركة شيخ شيوخنا عبد الحي الكتاني (¬3) رحمه الله، ¬

_ (¬1) لوحة: 181/ أ -81/ ب. (¬2) أشار إليه المؤلف باسم "المتوسط" -في أغلب كتبه منها: الأمد الأقصى: 107/ ب، العارضة: 13/ 118، سراج المريدين: 239/أوسماه "المتوسط في الاعتقاد" قانون التأويل: 136 - 146 ورواه ابن خير: الفهرست: 258 عن ابن العربي، وسماه "المتوسط في الاعتقاد" وهذه التسمية هي التي ارتضاها حاجي خليفة: كشف الظنون: 1/ 336، وارتضيناها تبعاً لابن خير تلميذ المؤلف. أما المقري: أزهار الرياض: 3/ 95 فقد سماه "المتوسط في المعرفة بصحة الاعتقاد، والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد"، وتابعه على هذه التسمية الشيخ عباس بن إبراهيم (ت: 1959) الإعلام: 4/ 96 إلاَّ أن محقق هذا الكتاب الأخير وهو الشيخ المؤرخ عبد الوهاب بن منهور التلمساني وَهِمَ في ضبط هذا العنوان، فجعله اسمين لمسمى واحد، فأورد عبارة: "المتوسط في معرفة صحة الاعتقاد" بين معوقتين، ثم أضاف: "والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد"، وهذا يوهم الباحث بوجود كتابين لابن العربي، الأول في بيان العقيدة السليمة، والثاني في الرد على أهل البدع، وهذا غير صحيح. (¬3) هو الشيخ محمد عبد الحي الكتاني، عالم بالحديث ورجاله، ولد بفاس سنة: 1305 (1888) ونشأ وتعلم فيها، شغف بالعلم منذ صغره فجد في طلبه، وكان له ولع عجيب بجمع المخطوطات فجمع منها الكثير، توفي بمدينة باريز: 1962 مغترباً عن وطنه لظروف سياسية

وعدد أوراق هذا المخطوط 73 صفحة، كتب سنة 600 - وخطه مغربي قديم. ونظراً لِخُلُوَّ المخطوط من البيانات اللازمة التي تَنْسُبُهُ إلى مؤلفه، فقد قمت بعملية نقد توثيقي للنص الموجود عن طريق النقد الخارجي (الظاهري) Critique externe (¬1) ، والنقد الداخلي (الباطني) Critique interne (¬2) ، أثبت خلالها صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن العربي بدلائل وقرائن ليس هذا مجال ذكرها بالتفصيل، ومع الأسف الشديد فإن مقدمة الكتاب قد تلفت بفعل الرطوبة والأرضة، فلم نتمكن من نقل كلامه؛ لأن المتبقي من الكلمات السالمة، لا يفي بالمقصود، وقد ضمنه خمسة أبواب، كل باب يشمل على فصول وهي كالتالي: الباب الأول: في الِإله وصفاته (¬3). وتحته عدة فصول منها: مبحث ¬

_ = وخلف مكتبة عظيمة زاخرة بنفائس المخطوطات النادرة، صودرت من طرف الحكومة لخلافه معها، وضم قسم منها إلى الخزانة العامة بالرباط، وقسم آخر إلى الخزانة الملكية بالقصر الملكي في الرباط، وقسم ثالث ضم إلى الخزانة الملكية بالقصر الملكي بمراكش. (¬1) فقد لجأت إلى تلمس أخبار "المتوسط" في مؤلفات علم الكلام بل وفي كتب الفقه أحياناً. فوجدت -مثلاً- السنوسي في أم البراهين: 54 (ط: أحمد بابي الحلبي: 1306) ينقل نصاً طويلًا عن المتوسط" وبالرجوع إلى المتوسط وجدت الكلام المنقول بنصه وفصه، ومطلعه: "واعلموا -علمكم الله- أن هذا العلم المكلف به لا يحصل ضرورة ولا إلهاماً ... " كما وجدت نصوصاً أخرى نقلها الفقهاء والمتكلمون عن "المتوسط" يطول ذكرها، انظر على سبيل المثال: حاشية الحطاب على متن سيدي خليل: 6/ 281. (¬2) فقد أحال المؤلف -رحمه الله- في المتوسط على جملة من كتبه المعروفة لدينا منها: "المشكلين" لوحة: 20، 42 كما أحال على: "العوض المحمود" لوحة: 118؛ وصرح بذكر مشايخه الذي عرف أنه أخذ عنهم بالمشرق، قال: " ... وفي التعليقة التي درستها على شيخنا أبي بكر الشاشي رحمه الله ببغداد ... ": 125. إضافة إلى أن طريقة ابن العربي الجدلية مع المخالفين التي عرفناها في كتبه مثل العواصم وغيرها هي عين طريقة هذا الكتاب. كما أنه أشار في فصول هذا الكتاب إلى ما يثبت عنوانه "المتوسط" إذ يقول في ثناياه: " .... وهذا المتوسط كاف: 28 ... فلم نرَ أن نخلي هذا العقد المتوسط منها: 26 ... وهي خارجة عن هذا المتوسط: 29، ... لا يحتملها هذا المتوسط: 116"، وهذه كلها شواهدُ ناطقة على صحة نسب هذه المخطوط إلى ابن العربي. (¬3) لوحة:

4 - كتاب "العواصم من القواصم"

المعرفة هل هي واجبة؟ والنظر الموصل إليها هل هو واجب (¬1)؟ ومبحث خلق العالم (¬2)، وقدم الباري جل وعلا، دليل وحدانيته (¬3) ... ، مخالفته للحوادث (¬4) ... ، صفات الباري تعالى (¬5) .... ، أسماؤه (¬6)، إلى آخر مباحث هذا الباب. الباب الثاني: في خلق الأعمال وما يتصل به، وتحته عدة فصول (¬7). الباب الثالث: القول في النبوات وما يتبعها من ذكر المعجزات والكرامات (¬8). الباب الرابع: ذكر السمعيات التي لا سبيل إلى معرفتها إلاَّ بالشرع (¬9). الباب الخامس: القول في التفضيل والخلافة (¬10). أما عن منهجه في هذا الكتاب فقد توخّى فيه الابتكار في العرض، والاستقلال في الفهم، بعكس مؤلفاته الكلامية السابقة (¬11). وقد اعتمد على كتب أبي الحسن الأشعري بعامة. وعلى الموجز واللمع (¬12) بخاصة. كما اعتمد على الِإرشاد للجويني، واستشهد بكلام الباقلاني والِإسفراييني. 4 - كتاب "العواصم من القواصم": وهو كتاب عظيم الشهرة واسع الرواج عند أهل السنة والجماعة، غصة ¬

_ (¬1) لوحة: 3 - 5. (¬2) لوحة: 5 - 7. (¬3) لوحة: 7 - 9. (¬4) لوحة: 9 - 10. (¬5) لوحة: 34 - 52. (¬6) لوحة: 53 - 59. (¬7) لوحة: 59 - 86. (¬8) لوحة: 87. (¬9) لوحة: 120. (¬10) لوحة: الأصل مطموس. (¬11) فمثلاً كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول" أغلبه نقول عن العلماء الأشاعرة بدون إعمال الرأي والترجيح في نصوصهم. (¬12) وهو مطبوع.

في حلق أهل البدعة والضلالة (¬1). ومما يدعو للدهشة أن هذا الكتاب -على أهمية موضوعه- يظل طيلة هذه القرون المنصرمة خزين رفوف المكتبات، حتى بداية هذا القرن عندما قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بتحقيقه ونشره (¬2). وظلت هذه الطبعة عمدة العلماء والباحثين زمناً طويلاً، بيد أن الحصول على نسخة منها قد أصبح متعذراً بل ومستحيلاً، فتشوفت النفوس إلى طبعة جديدة تغني عنها أو تسد مسدّها، حتى نهض أستاذنا الدكتور عمار طالبي بهذه المهمة الشاقة فنشر الكتاب في حلة قشيبة تسر الناظرين (¬3)، وتمتاز طبعة د. طالبي بميزة حسنة، فقد حرص -حفظه الله- كلّ الحرص على إثبات كل خلاف بين النسخ مهما كان شأنه، ليكون القارئ على بينة منه، فيختار ما يختار ويرد ما يرد بذوقه الخاص ورأيه المستقل، ولا يكون مقيداً بذوق الناشر ورأيه. ولا داعي لذكر أبواب الكتاب وفصوله ومنهج المؤلف فيه، فقد تكفل أستاذنا عمار بتحقيق ذلك على أحسن وجه وأكمله، ولكن هذا لا يمنع من الكلام على هذا الكتاب العظيم بصورة إجمالية لا تخلو من فائدة إن شاء الله. ¬

_ (¬1) تقابلت في الحرم المكي الشريف (موسم حج سنة: 1399) مع أحد العلماء!! الشيعة فتجاذبنا أطراف الحديث في موضوعات مختلفة فلما جاء ذكر كتاب "العواصم من القواصم" قال الشيعي على الفور: هذا كتاب فيه نصب، ومؤلفه ناصبيّ وعدو لآل البيت الأطهار، وعلماؤنا يحذرون منه ومن كتابه هذا خاصة. قلت: والنصب عند الشيعة هو بمعنى العداء لآل البيت، وكأن ابن العربي في دفاعه عن مواقف واجتهادات الصحابة -بما فيهم سيدنا معاوية- يناصب العداء لسيدنا علي، وهذا بعيد عن القياس غير معهود عند أحرار الناس. (¬2) وذلك في مدينة قسنطينة بالجزائر سنتي 1347، 1348 اعتماداً عن نسخة مخطوطة في جامع الزيتونة. (¬3) نشره د. طالبي في الجزائر سنة 1974 في جزئين تحت عنوان "آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، وكتاب "العواصم" هو الجزء الثاني بأكمله: (504) صفحة. وتجدر الإشارة بأن الشيخ محب الدين الخطيب نشر جزءاً صغيراً من "العواصم" وهو المبحث الخاص بتحقيق الخلاف بين الصحابة وذلك في القاهرة سنة 1371. وعلق عليه تعليقات ط

5 - كتاب "الوصول إلى معرفة الأصول"

فهذا الكتاب محرر بطريقة جدلية خطابية، فيها شدة العنف وسورة الحدة، فالمؤلف يتحرى أشد العبارات وأقساها في الدلالة على معاني التخطئة حتى يدخل -في بعض الأحيان- في باب الشتم والاستخفاف المنهي عنه (¬1). وبالرغم من هذه الهَنَاتِ التي يمكن أن تؤخذ عليه، فالكتاب عظيم في مبناه قيم في معناه، بناه على إيراد القضايا الباطلة والشبه المضللة مما كان يروج يومئذ في العالم الِإسلامي فيصد المسلمين عن الصراط المستقيم، فالمراد بكتابه هذا: الهداية للتوقي من الشبه، لا مجرد إيرادها وتقريرها، فإنه سماه "العواصم من القواصم" أي الحجج المنجية من المقالات المضللة، وجعل المقالات التي تكفل بردها وتزييف باطلها راجعة إلى مذهب السفسطائية الذين يعطلون المعرفة، أو يعطلون بعض طرقها، بما يشمل مقالات الباطنيين والروحانيين وغلاة الصوفية. وعلى العموم فقد أبدع في كل مبحث طرقه وأتى بالعجب العجاب. 5 - كتاب "الوصول إلى معرفة الأصول" (¬2): وأعتقد أنه من أول مؤلفاته في علم الكلام، كتبه بعد رجوعه من رحلته مباشرة، بدليل عدم إحالته إلى كتبه الأخرى، إضافة إلى أن أسلوبه فيه تنقصه القوة والاندفاع الحماسي الشديد في الرد على المخالفين، فهو يكتفي -على عادة العلماء المبتدئين في التصنيف- بنقل نصوص طويلة عن علماء العقائد ¬

_ (¬1) كقوله عن الِإمام ابن حزم: " .. فلما عدت (من رحلتي) وجدت القول بالظاهر قد ملأ المغرب بسخيف كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم ... ". العواصم: 336. (¬2) ينبغي التنبيه على أن لأبي عمر أحمد بن قرطان المعافري الطلمنكي (ت: 428) كتاباً في العقائد تحت عنوان "الوصول إلى معرفة الأصول" وقد نقل عنه شيخ الإِسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: 2/ 35، 6/ 250 انظر في ترجمة أبي عمر: عياض: ترتيب المدارك: 7/ 32 (ط: الرباط)، الضبي: بغية الملتمس: 151، ابن عماد: شذرات الذهب: 3/ 243، وانظر تعليقنا على قانون التأويل: صفحة 668 التعليق رقم:5.

أمثال الِإسفراييني والجويني ويعقبها بتعاليق مختصرة، وقد عثرت على نسخة مخطوطة منه في مكتبة ابن يوسف العامة بمدينة مراكش بالمغرب، وهي ضمن مجموع تحت رقم: 525 عنوانه: "مجموع فيه كتاب الوصول إلى معرفة الأصول" كتب بخط مغربي قديم جداً، وهو آخر كتاب في المجموع المشار إليه، كتب في آخر صفحة من المجموع ما يلي: تكلم الناس عن والد ابن العربي وما حدث له من الكرامات بشّرته بدخول المرابطين ... انتهى. ونظراً لتآكل النسخة المخطوطة لم أستطع الاستمرار في القراءة السليمة وخلاصة الكلام هو أن ابن العربي الأب خرج فاراً بنفسه إلى الحجاز هو وابنه محمد، ومات الأب ببيت المقدس!! وحج ابنه ومضى إلى العراق وقد تفقه وانصرف إلى إشبيلية بكتاب والي بغداد إلى علي بن يوسف. وفي الصفحة الأولى من كتاب "الوصول" وبعد البسملة ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عنوان كالتالي: القول في وجوب النظر والبحث عن معرفة دقائق الأشياء بالبرهان. ثم شرع في المقدمة فقال: "قال أبو بكر: أما بعد، فإن العلم طويل المادة، والعمر قصير المدة، والتكليف شديد الوطأة، والإِيمان بالغيب عظيم الحرمة، وثوابه الخلودُ في الجنة. وأول ما نظر فيه الناظرون، وفكر في معانيه المفكرون، علم تكشف به الحقائق والعهود، ويعرف به الخالق المعبود" (¬1). وقد رتبه على أبواب، وكل باب تحته فصول، وقد يعبر عن الفصل بالقول، وإليك استعراض سريع لأهم مباحث الكتاب: 1 - الباب الأول: في أسماء مقامات العلماء ... 2 - الباب الثاني: في بيان أن العلم قبل العمل، وتحته فصول منها: القول في الاستدلال والنظر، القول في العلوم، القول في الدليل، القول في ¬

_ (¬1) لوحة: (1).

2 - "علوم القرآن"

أقسام المعلومات، القول في إثبات الجوهر، القول في الأعراض، القول في حدوث العالم، القول في إثبات صانع العالم. 3 - الباب الثالث: في بيان أن صانع العالم واحد. 4 - الباب الرابع: في الكلام على ما يستحيل على الله تعالى (¬1). 5 - الباب الخامس: في بيان أنه تعالى سميع بصير، القول في صفات الله، القول في أسمائه. 6 - الباب السادس: في إثبات الكلام لله تعالى. 7 - الباب السابع: في خلق القرآن. 8 - الباب الثامن: في جواز رؤية الله تعالى. وبهذا الباب ختمت فصول الكتاب (¬2). 2 - "علوم القرآن": 6 - كتاب "أحكام القرآن" (¬3): وهذا الكتاب من أرفع كتب ابن العربي قدراً، وأنبهها ذكراً، وأقدمها نشراً (¬4)، وقد عظم هذا الكتاب في أعين العلماء والفقهاء في القديم ¬

_ (¬1) وقد اعتمد فيه اعتماداً كلياً على الجويني: العقيدة النظامية: 14 - 6. (¬2) لوحة 53، وجاء فيها: "ثم كتاب الوصول إلى معرفة الأصول". (¬3) أشار إليه المؤلف في أغلب كتبه منها: العارضة، 1/ 51، الأمد الأقصى: 50/ ب، المحصول: 37/ ب، سراج المريدين: 239/ ب كما نسبه إليه أغلب العلماء كابن جزي: التسهيل: 1/ 10، ابن فرحون، الديباج: 281، حاجي خليفة: 1/ 56. (¬4) طبع هذا الكتاب بمصر (ط: السعادة) بأمر مولاي عبد الحفيظ العلوي سلطان المغرب آنذاك، ثم أعيد طبعه في مصر عدة مرات وآخر طبعة هي الطبعة الثالثة بتحقيق الأستاذ علي محمد بجاوي رحمه الله سنة: 1972. وتحتاج إلى مزيد تحقيق وعناية. ملاحظة: جاء في أحد النسخ التي اعتمدها الشيخ بجاوي أن ابن العربي فرغ من كتابه "الأحكام" في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسمئة وقد سلم د. عمار طالبي (آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 1/ 66) بصحة هذا التاريخ، ونحن نشك في صحته بل نجزم بخطئه، وذلك لأن الدارس المتفحص لما جاء في "الأحكام" من أخبار توليته القضاء، (انظر الأحكام: 597، 601) وجهاده مع الأمير سير بن أبي بكر، وإحالته للقارىء على أغلب كتبه (الناسخ =

والحديث، بمنهجه الذي درج عليه في تحقيق المسائل الخلافية، وذلك بالرجوع إلى دلالات القرآن الكريم والسنة النبوية، والإفصاح عن معاني آيات الأحكام بصورة محكمة مبينة، متينة الأسس، واضحة المعالم، ويجدر بنا في هذا المقام أن ننقل جزءاً من مقدمة المؤلف لكتابه "الأحكام" حتى نتبين منهجه الذي رامه وتبناه. يقول رحمه الله: " ... فنذكر الآية، ثم نعطف على كلماتها، بل حروفها، فنأخذ بمعرفتها مفردة، ثم نركبها على أخواتها مضافة، ونحفظ في ذلك قسم البلاغة، ونتحرز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة، ونحتاط إلى جانب اللغة ونقابلها في القرآن بما جاء في السنة الصحيحة، ونتحرى وجه الجمع، إذ الكل من عند الله، وإنما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم، ونعقب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها، حرصاً على أن يأتي القولُ مستقلاً بنفسه، إلا أن يخرج عن الباب فنحيل عليه في موضوعه مجانبين للتقصير والِإكثار" (¬1). قلت: وبهذا المنهج القويم السديد جاء كتابه في حسن عرضه، ودقة ضبطه، وترتيب مفاصله، وتحقيق معانيه، آية للسائلين. ¬

_ = والمنسوخ: 35، المشكلين: 31، المقسط: 25، النواهي عن الدواهي: 18، مسائل الخلاف: 2، التلخيص: 144، قانون التأويل: 1387). إضافة إلى أن ابن العربي قال في خاتمة كتابه الأحكام: 1998: " ... وقد كنا أملينا في ثلاثين سنة ما لو قيض له تحصيل لكانت له جملة تدل على التفصيل .... ". قلت: فعلى اعتبار رجوعه إلى الأندلس سنة: 495، واشتغاله بِإمْلاَءِ "أنوار الفجر" مع تصديه لتأليف باقي الكتب التي أشار إليها، أو استخراجها مع التعديل والتنقيح من أنوار الفجر "باستطاعتنا أن نجزم بتأخر كتابة هذا السفر إلى ما بعد سنة 530، بل إلى ما بعد سنة: 533 لأن "القانون" أملاه سنة: 533 كما صرح بذلك في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" لوحة: 317 (مخطوط الرباط رقم: 25/جـ) والله أعلم. (¬1) الأحكام: 1.

7 - كتاب "الأحكام الصغرى"

7 - كتاب "الأحْكَام الصغرى" (¬1): وهو مختصر في غاية الحسن والجودة، وقفت عليه بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 274/ د، 258 ورقة، خطه مغربي حسن، في الصفحة الأولى بعد البسملة، كتب الناسخ بخط يغاير خط النسخة الأصلية: "الأحكام الصغرى للإمام أبي بكر بن العربي المعافري رحمه الله" وبنفس القلم كتبت الأربع الصفحات الأولى المبتدئة بشرح البسملة، فالظاهر أن مقدمة الكتاب فقدت، فاستدرك أحد النساخ على الأصل الناقص معتمداً على "الأحكام الكبرى" للمؤلف، أما في خاتمة الكتاب (لوحة: 156) فالأمر فيها مشابه للمقدمة، فصغار الصور كتبت بنفس خط الناسخ الأول. وعلى هذه النسخة تعليقات كثيرة أغلبها تخريج للأحاديث الواردة، استمدها المعلق من حاشية السيوطي على البيضاوي (¬2) كما صرح بذلك. 8 - كتاب "خامس الفنون": وقفت عليه في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم 141، على شريط (ميكروفيلم) مصور عن الخزانة الحمزاوية، ويحتوي هذا الكتاب على 292 صفحة من القطع الكبير، كتب بخط مغربي واضح في أكثر صفحاته. وبعد اطلاعي عليه تحققت من نسبته لابن العربي، فهو يشير فيه إلى بعض كتبه على طريقته المتبعة في كتبه المشهورة، فهو يقول: " ... والاستحسان عندنا وعند المالكية هو العمل بأقوى الدليل، على ما بيناه في مسائل الخلاف ... " (¬3)، ومنها قوله: "وفاوضت الطوسي الأكبر في ¬

_ (¬1) أشار إليه المؤلف باسم "مختصر الأحكام" في العارضة: 7/ 41، 261، وفي القانون صفحة: 278. (¬2) وهذه الحاشية توجد نسخة مخطوطة منها في مكتبة برلين بألمانيا تحت رقم: 834. (¬3) خامس الفنون: لوحة 111.

9 - كتاب "واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل بفوائد التنزيل"

ذلك وراجعته حتى وقف، وقد بينا ذلك في المحصول ... " (¬1) كما أن أسلوبه النقدي واضح في ثنايا الكتاب، فهو يقول عن الجويني: " ... وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين الجويني يقول .. كذا .. " (¬2). وهذا الجزء يبتدىء بشرح الآية: 4 من سورة الأنعام، وينتهي بشرح الآية: 71 من سورة الأعراف وهي قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وبعد أن ذكر في صفة إهلاكهم أنَّ الله أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلاَّ جعلته كالرميم، أشار إلى أنه ستأتي بقية القصة في سورة هود. قلت: ويحتمل -والله أعلم- أن يكون هذا السفر جزءاً من مجموع تفسيره "واضح السبيل" (¬3). 9 - كتاب "واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل بفوائد التنزيل" (¬4): وقد اختلف الباحثون في اسم هذا الكتاب (¬5)، كما اختلفوا في مضمونه، وقد تجمع لي في هذا الموضوع كلام طويل سأفرده بالكتابة في ¬

_ (¬1) م، ن:120. (¬2) م، ن: 96، قلت: وهذه العبارة نفسها وردت معنا في "القانون" الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه. انظر صفحة: (¬3) قلت: يا حبذا لو اهتم الباحثون بهذا التفسير، فيجمعون نسخه، ويقارنون بينها مع التتبع المحيط بأطراف الموضوع، لعلنا نتوصل إلى أحكام جديدة تلقي الضوء على المدرسة القرآنية بالمغرب والأندلس في نشأتها وتطورها. (¬4) ارتضيت في العنوان التسمية التي وردت على غلاف الجزء الموجود بخزانة جامع القرويين بفاس رقم: 926، ونسخة الأسكرياب. (¬5) ذهب المستشرق الألماني بركلمان (تاريخ الأدب العربي): إلى تسميته بـ "قانون التأويل في التفسير" وإلى هذا الأسم ذهب د. عمار طالبي (آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 67، 68) بناء على النسخ المحفوظة من هذا التفسير بدار الكتب المصرية، أما بعض الباحثين المغاربة الذين اتصلت بهم في المغرب، فالشيخ محمد بن أبي بكر التطواني -حفظه الله- سماه "قانون التأويل" أما الدكتور الصغيري فسماه "القانون في التفسير"، وما زال الاختلاف قائماً إلى الآن نظراً لعدم وقوفهم على جميع النسخ المخطوطة التي وصلتنا والتحقق من موضوعات

غير هذه الرسالة إن شاء الله، وسأقتصر في هذا المبحث على تعداد النسخ التي وقفت عليها مع التطرق لمنهجه في هذا التفسير باختصار شديد. وقفت على الجزء الأول بمكتبة دعي الأسكوريال ( El-Escorial) تحت رقم: 1264 - بخط مغربي يميل إلى الأندلسي. ما بين 30 و 44 سطراً، 103 ورقة، ينتهي عند شرح الآية رقم: 248 من سورة البقرة. أما السفر الآخر فقد وقفت عليه بمكتبة القرويين بمدينة فاس بالمغرب، تحت رقم: 926 تفسير، بخط مغربي قديم، 179 ورقة، 25 سطراً، يبتدىء عند شرح الآية رقم: 4 من سورة المائدة، وينتهي عند شرح الآية رقم: 27 من سورة الأعراف، وكتب الناسخ على وجه الورقة الأولى عبارة: "الجزء الرابع من واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل بفوائد التنزيل". وبدار الكتب بالقاهرة وقفت على جزئين من هذا التفسير، الأول تحت رقم: 184 - تفسير. كتب سنة 768، ويبتدىء من الآية رقم: 107 من سورة المائدة، وينتهي عند الربع الأخير من سورة الأعراف، وخطه مغربي غير مفهوم وبه محو وبياض كثير. أما السفر الثاني فهو تحت رقم: 184 - تفسير، ويبتدىء من أول سورة الحجر إلى آخر سورة الحج، وكتب سنة 767. وبعد اطلاعي على هذه النسخ ودراسة محتواها، تبين لي أن هذا التفسير هو آخر مؤلفات ابن العربي تحريراً، فقد كتبه في آخر عمره عندما أصبح يميل إلى أمور الزهد والآخرة، وشرع في إملائه -على طريقته المفضلة في التأليف- على أمل مراجعته وتنقيحه عند اكتماله، ولكن المنية أدركته قبل أن يحقق رجاءه ويتمم مراده. وإلى هذا أشار ابن جُزَي الأندلسي في تفسيره (¬1) حيث قال: " ... وأما ابن العربي فصنف كتاب "أنوار الفجر" ¬

_ (¬1) ابن جُزَي: التسهيل لعلوم التنزيل: 1/ 10 - (ط: 1 سنة 1355).

في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب "قانون التأويل" إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه ... ". قلت: وقد صدق ابن جُزَيّ، فقد وقفت في تفسيره هذا على آراء صوفية في غاية الغرابة، فتعجبت من إيراده لها مع أنه انتقدها بعنف وقوة في سائر مؤلفاته، ولكني بعد وقوفي على كلام ابن جزي تيقنت بأن هذا التفسير الموجود بين يدينا ما هو إلا مسودة لتفسيره الذي أملاه. وقد اشتهر هذا التفسير في المشرق. ونقل عنه العلماء منهم الزركشي (¬1)، وأشار الحافظ الذهبي إليه ووصفه بأنه في خمس مجلدات (¬2). أما سبب تأليفه ومنهجه فيه، فقد تكفل ابن العربي ببيان ذلك في مقدمته للجزء الأول، إلا أن جلّ الورق متآكل، وليس باستطاعتنا نقل المقدمة كما خطها يراع المؤلف وإنما نقتطع منها ما سلم من التلف والله المستعان. يقول ابن العربي رحمه الله: " ..... أما بعد: أيها الأخ العلي، المساعد والولي، سألتني أن أفيدك بجمل عربية، وعلوم جليلة من كتاب الله العزيز، إذ كانت عُلُومُهُ لا تحصى (¬3) ... فقد سبق إلى ترتيب نظامه العلماء المتقدمون، وأهل الفهم الشادون، وقد ألفوا في هذا النوع علوماً جليلة، وفوائد خطيرة في أنواع علوم التنزيل ... لأنك ذكرت أنك قرأت كتاب الشيخ الزاهد الصالح أبا عبد ¬

_ (¬1) وجدت بدر الدين الزركشي في البرهان: 1/ 450 ينقل عن تفسير أبي بكر بن العربي، وكنت اعتقد أول وهلة أنه يقصد "بالتفسير" كتاب "الأحكام" فرجعت إلى "الأحكام" فما ظفرت بالنص المشار إليه، فتيقنت عندها أنه اقتبسه من "واضح السبيل". (¬2) ذكر ذلك في كتابه "تاريخ الإِسلام" (مخطوط آيا صوفيا: 3010/ 2) لوحة: 302/ أ، أما في سير أعلام النبلاء (مصور بالمكتبة المركزية) المجلد: 12، القسم: 3، لوحة 380، فقد قال: "وفسر القرآن المجيد، فأتى بكل بديع ... وبعد أن تعرض لذكر مؤلفاته قال: "وسوى ذلك لم نشاهدها .. قلت: إذاً فالحافظ الذهبي قد شاهد تفسير ابن العربي ووقف عليه. (¬3) الكلمات التي تعذر علي قراءتها وضعت نقطاً للدلالة على النقص الموجود.

الرحمن السلمي وهو المسمى "بحقائق التفسير" على لسان القوم (¬1)، فأنكر عليك بعض المتفقهة في زمان لك، وحق لهم أن ينكروا ... فاستخرت الله تعالى على تصنيف هذا الكتاب، وأجبتك إلى ما دعوتني إليه ... فانتقيت من كلام العلماء المتقدمين وأهل النظر ما علقناه من المشيخة في هذا النوع من تنبيه حسن، واستقراء فائدة زائدة ... سهل التناول، حاضر الفائدة، يخف اكتسابه على الطالب المبتدىء ... كتاب مختصر فيه بغية العالم وفائدة المتعلم، وحذفت الطرق والأسانيد ... ونبهت على المنسوخات والمجملات والمتشابهات .. وأطلقت القول فيه على الِإطلاق ... ثم عرضناها (أي الأقوال) على ما جلبه العلماء، وميزناها بمعيار الأشياخ، فما اتفق عليه النظر أثبتناه، وما تعارض فيه هجرناه ... ونحفظ في ذلك قسم البلاغة ونتحرز من المتناقضات. ونقابل ما ورد في القرآن بما ورد في السنة الصحيحة، ونتحرى وجه الجمع بينهما إذ الكل من عند الله .. وَنُعْقِبُ ذلك بتوابع ووظائف لا بد في تحصيل العلم بها منها .. " (¬2). قلت: لقد أجهدت نفسي في مطالعة هذا التفسير، واستخراج ما يليق أن يكون تعليقاً وتوضيحاً لكتابنا "القانون" الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه. فَعَنَّت لي بعض الملاحظات حول كتابه هذا، أرى من المناسب أن أثبت بعضها وأحتفظ بالبعض الآخر آملًا من الله أن ييسر لي كتابة بحث مطول عن هذا التفسير ما له وما عليه. أما الملاحظات فهي كالتالي: 1 - لقد أحسن المؤلف وأجاد في تتبع آراء المعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة، فدفع الشبه، وحرر ما يحتاج إلى تحرير، بقريحة متقدة ونظرة حادة. مع البيان الجميل الذي جاء محبوكاً مسبوكاً. 2 - منهجه في تفسير الآيات يمتاز بالتتبع المحيط بكل الجوانب، فهو ¬

_ (¬1) أي الصوفية. (¬2) لوحة: 1/أ- ب.

10 - كتاب الناسخ والمنسوخ" (*)

يتتبع السورة بالتحليل وتقليب الأوجه، وبيان معاقد المعاني وَطُرُقِ استنباطها، وهو بهذا المنهج يجعل من كل سورة كتاباً مستقلاً، وهذه الطريقة ستكون لنا عوناً إِذا ما أردنا نشر تراثه في التفسير على شكل ملازم تخضع للنسخ المتوفرة ومدى وضوحها. 3 - إِن إعجابنا بابن العربي كفقيه عظيم ومتكلم نظار، لا ينبغي أن يحملنا على التعصب له ولطريقته في الكتابة -على ما فيها من إتقان وإبداع-، فهو في هذا الكتاب قد أورد آثاراً عن الصحابة والتابعين أقل ما يقال فيها إِنها ضعيفة ومنقطعة السند لا يُعَوَّل عليها، كما أنه -رحمه الله وغفر له- أكثر من إيراد آراء المتصوفة تحت عنوان: "قال أهل الِإشارة" وهذا مما نأخذه عليه، فقد وقفت على إِشارات يخالف ظاهرها كتاب الله وسنة رسول الله وما صح عن السلف الصالح، فينبغي لمن أراد نشر تراثه أن ينبه على هذه المسائل بأسلوب علمي بعيد عن الخطابية والحماس. 10 - كتاب الناسخ والمنسوخ" (¬1) (*): وهو كتاب مختصر في غاية التحرير والِإتقان، وقفت على نسختين منه. الأولى بالخزانة العامة بالرباط وهي من تركة الشيخ عبد الحي الكتاني -رحمه الله- تحت رقم: 2024 ك، 39 ورقة كتبت سنة 686 بمالقة. ¬

_ (¬1) أشار إليه المؤلف في: سراج المريدين: 239/ أ، العارضة: 11/ 113، الأحكام: 80، 1822. كما نسبه إليه الزركشي في البرهان: 2/ 283، وابن فرحون في الديباج: 282، والمقري في أزهار الرياض: 3/ 94 وسماه "الناسخ والمنسوخ في القرآن" وذكره ابن جزي الغرناطي في التسهيل لعلوم التنزيل: 1/ 6 (ط: 1 سنة: 1355) قال: " (كتب) الناسخ والمنسوخ وأحسنها، تأليف القاضي أبي بكر بن العربي". كما أشار الأستاذ العابد الفاسي في فهرست مخطوطات القرويين: 1/ 92 إلى وجود كتاب: "مختصر الناسخ والمنسوخ لابن العربي" لمؤلف مجهول، ضمن مجموع من 117 - 181. ولم أقف عليه فالله أعلم به. (*) قام بتحقيقه الأخ الدكتور عبد الكبير المدغري -وزير الأوقاف بالمغرب الشقيق- وسيظهر هذا الكتاب قريباً بالرباط، حيث أفادني المحقق الكريم- عند مقابلتي له بفاس سنة: 1403 - بأنه يقوم بتصحيح تجارب الطبع.

3 - "علوم الحديث"

النسخة الثانية بمكتبة الجامع الكبير بمكناس وهي الآن بمكتبة القرويين بفاس تحت رقم: 947 تفسير وعدد لوحاتها: 47 ورقة، خط مغربي قديم. وقد تحدث ابن العربي في مقدمة هذا الكتاب اللطيف عن ماهية النسخ وشروطه وأقسامه، ثم شرع في بيان ما نسخ من آيات القرآن، مرتباً ذلك حسب ترتيب سور القرآن، وقد مهد لهذا كله بالحديث عن المكي والمدني، ثم أول ما نزل، ثم تعداد آي السور وما دخله النسخ منها وما لم يدخله. ومن الموضوعات التي أجاد القول فيها -وهي من مبتكراته- ما هو متن قبيل المخصوص، ويذكره المفسرون في جملة أقسام المنسوخ (¬1) مثل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (العصر: 1 - 2) فهذه الآية عند ابن العربي قد خصصت باستثناء (¬2). ومن غريب النسخ ما ذكره في آية {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] كان أولها {خُذِ الْعَفْوَ} وآخرها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} منسوخاً ووسطها محكم. 3 - "علوم الحديث": 11 - كتاب "المسالك في شرح موطأ مالك" (¬3) (*): وهذا الكتاب من أعظم شروح موطأ الِإمام مالك رضي الله عنه، وقد ¬

_ (¬1) انظر أبا القاسم هبة الله بن سلامة (ت: 410) في الناسخ والمنسوخ: 103 (ط: الحلبي 1967). (¬2) لوحة: 38 / ب. (¬3) أشار إليه المؤلف في كتبه، منها: واضح السبيل: لوحة 20/ أ (مخطوط فاس: 926) كما نسبه إليه كثير من العلماء منهم: ابن فرحون في الديباج: 282، والمقري في أزهار الرياض: 3/ 94 وسماه "ترتيب المسالك في شرح موطأ الإِمام مالك". (*) وينبغي التنبيه على أن هذا الكتاب القيم تقوم شقيقتي بتحقيقه والتعليق عليه وقد أنجزت الجزء الأول منه. انظر: أخبار التراث العربي: العدد: 9 صفحة: 14 (معهد المخطوطات العربية بالكويت).

وقفت على عدة نسخ مخطوطة من هذا السفر الجليل بيانها كالتالي: 1 - نسخة بالمكتبة الوطنية بالجزائر تحت رقم 425، 426 في ثلاثة مجلدات وهي ناقصة (¬1)، خطها مغربي كتب سنة 1029. 2 - نسخة عتيقة جداً في مكتبة القرويين تحت رقم: 180، 122 ورقة، خط مغربي رديء كتب سنة: 711 (وهي تعتبر الجزء الثاني) وقفت عليها. 3 - نسخة جيدة في المكتبة الحمزاوية اطلعت على شريط (ميكروفيلم) منها في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 24 (وهي الجزء الأول والرابع) بخط أندلسي نسخ عام: 579. 4 - نسخة دار الكتب المصرية تحت رقم: 793 حديث، 130 ورقة، كتبت سنة: 691 خطها أندلسي قديم، استنسخ عن هذه النسخة أحد الكتاب بدار الكتب المصرية مجلداً سنة: 1359 في 766 ورقة وهو تحت رقم: 21875 ب. وهذا الكتاب يعد مفخرة من مفاخِر الفقه المالكي، وذلك أن مؤلفه أبدع في شرح كتاب المالكية الأول "موطأ الِإمام مالك" فقد سلط عليه أنواراً من طريقته النقدية الممتازة، والمبنية على البحث والنظر والمقارنة والترجيح، فكان بمسلكه هذا يحلل النصوص الحديثية بنظر أصولي عال، وتحقيق فقهي دقيق، مع التعرض لأقوال الأئمة المالكية الذين سبقوه، فيضع آراءهم على بساط التعليل والتأصيل، ثم يعرضها -بعد غربلتها- في معرض التعليق على أحاديث الموطأ، باذلًا جهده كله، في الرد على الظاهرية الذين انتقصوا من موطأ الِإمام مالك، فكان هذا الكتاب بقوة حجته ونصاعة أدلته، ضربة قاضية للمتعلقين بالمذهب الظاهري أفَلَ بِهَا نَجْمُهُم، وَانْقَطَعَ بهَا مَذْهَبُ الحَزْمِيَّةِ بَتَاتاً، ووضعت بذلك الحرب المذهبية مع الظاهرية في الَأندلس أوزارها. ¬

_ (¬1) يقول ابن باديس أن بمكتبته ما يكمل هذا النقص: مقدمة العواصم 2/ 3 (ط: ابن باديس، قسنطينة).

وإليكم مقدمة المؤلف ومنهجه في كتابه كما خطها بقلمه، قال رحمه الله: " ... اعلموا -أنار الله قلوبكم للمعارف، ونبهنا وإياكم على الآثار والسنن السوالف- أنه إنما حملني على جمع هذا المجموع -بما فيه إن شاء الله كفاية- أمور ثلاثة، وذلك أني ناظرت يوماً جماعة من أهل الظاهر الحزمية الجهلة بالعلم والعلماء وقلّة الفهم على موطأ الِإمام مالك بن أنس، فكل عابه وهزأ به، فقلت لهم: ما السبب الذي عبتموه من أجله؟ فقالوا: أمور كثيرة أحدها أنه خلط الحديث بالرأي، والثاني أنه أدخل أحاديث كثيرة صحيحة، وقال ليس العمل على هذه الأحاديث، والثالث أنه لم يفرق فيه بين المرسل والموقوف والمقطوع من البلاغ. وهذا من إمام قد صحت عندكم إمامته في الفقه والحديث ... فقلت لهم: اعلموا أن مالكاً رحمه الله إمام من أئمة المسلمين، وأن كتابه أجلّ الدواوين، وهو أول كتاب ألف في الإِسلام لم يؤلف مثله، لا قبله ولا بعده، إذ بناه مالك على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على علم عظيم من أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وأنا إن -شاء الله- أنبهكم على ذلك عياناً، وتحيطون به يقيناً، عند التنبيه عليه في موضعه -إن شاء الله- ... وَأُقَدِّمُ في صدر هذا الكتاب مقدمات ثلاث: المقدمة الأولى في التنبيه على فضل مالك ومناقبه، وذكر سلفه وموطنه وشرفه. المقدمة الثانية: في الرد على نفاة القياس من الظاهرية الحزمية وإثبات ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله والِإجماع. المقدمة الثالثة: في معرفة الأخبار وقبول الخبر الواحد العدل، ومعرفة علوم الحديث من المرسل والمسند ... وأذكر في هذا المجموع -إن شاء الله- ما قيدته عن العلماء والمشيخة العليا من نوادر الغريب في اللغة والفقه ... " (¬1). قلت: وفي نقل هذا القدر من المقدمة كفاية والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) مخطوط الجزائر رقم: 452، لوحة: 2/ أ- ب.

12 - كتاب "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس"

12 - كتاب "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (¬1): وهو شرح مختصر، ركز فيه على استنباطه الأحكام الفقهية على غرار الباجي في المنتقى، وقد أملاه بداره بقرطبة سنة: 532 (¬2)، وقفت على عدة نسخ مخطوطة منه بيانها كالتالي: 1 - نسخة بالمكتبة الوطنية بالجزائر تحت رقم: 427، خطها مغربي بتاريخ 636. 2 - نسخة بالخزانة العامة تحت رقم: 8009، خطها مغربي عادي، 345 صفحة، 22 سطراً. 3 - نسخة بالخزانة العامة رقم: 25 ج، خطها مغربي حديث بتاريخ 1300، 198 ورقة، 25 سطراً. 4 - نسخة من تركة الشيخ عبد الحي الكتاني بالخزانة العامة تحت رقم 1916 كل، 145 ورقة، 32 سطراً. 5 - نسخة بمكتبة نور عثمانية بإستانبول تحت رقم: 1115، 178 ورقة، كتبت سنة 872 (¬3)، اطلعت عليها على شريط (ميكروفيلم) بمكتبة الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة (¬4). ¬

_ (¬1) أشار إليه المؤلف في العارضة: 8/ 218، والأحكام: 1000، كما نسبه إليه ابن فرحون في الديباج: 282 والمقري في أزهار الرياض: 3/ 94. (¬2) كما صرح بذلك تلميذه وراوي هذا الكتاب أبو القاسم عبد الرحمن محمد بن حُبيْش في مقدمة القبس حيث قال: " ... حدثنا الإِمام الخطيب جمال الإسلام، أقضى القضاة أبو بكر محمد بن العربي إملاء علينا من لفظه بداره بقرطبة -حرسها الله- ونحن نكتب شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمئة ... " لوحة: 1 (مخطوط الرباط: 25 جـ). قلت: ومن جملة الذين أملى عليهم "القبس" في قرطبة أبو محمد عبد الله بن محمد الحِجْرِي، انظر: معجم تلاميذ ابن العربي الترجمة رقم: 115، ابن رشيد السبتي: إفادة النصيح، 83. (¬3) وهم أستاذنا د. طالبي فأرشد القارئ إلى تاريخ نسخ المخطوط عوضاً عن رقمه في المكتبة، آراء أبي بكر بن العربي: 1/ 79. (¬4) أشار الشيخ ابن بادي إلى وجود نسخة كاملة بمكتبته، مقدمة العواصم 2/ 3، كما أشار د. طالبي إلى وجود نسختين بمكتبة القرويين، الأولى تحت رقم 813 والثانية تحت رقم 170. =

13 - كتاب "عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي"

أما عن منهجه فيقول المؤلف في مقدمة كتابه: " ... هذا كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس رحمه الله، وهو أول كتاب أُلِّفَ في شرائع الإِسلام، وهو آخره؛ لأنه لم يؤلف مثله، إِذْ بَنَاهُ مالك رضي الله عنه على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك -إن شاء الله- عياناً، وتحيط به يقيناً عند التنبيه عليه في موضعه أثناء الإِملاء بحول الله تعالى جل ذكره" (¬1). قلت: ثم شرع في شرح الموطأ مباشرة بعد هذه المقدمة القصيرة فأتى بالعجب العجاب الذي يحير العقول والألباب، بحسن الترتيب وبراعة التقسيم، فهو يشير إلى نكت وقضايا لم يسبق إليها (على حد تعبيره) تحت عناوين مختلفة مثل: إلحاق ... كشف وإيضاح ... تفصيل ... استلحاق ... تأصيل ... تقدير ... مزيد ... إيضاح ... تنبيه ... حقيقة ... تفريع ... تكملة ... تنبيه على مقصد ... استدراك ... فائدة ... تلفيق ... نكتة أصولية ... تتميم ... تحقيق لغوي وشرعي ... تنبيه على وهم ... مسألة أصولية، وهكذا .. 13 - كتاب "عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي" (¬2): وهو من ألطف شروح الترمذي، امتاز على غيره بالدقة في التعبير ¬

_ = آراء أبي بكر بن العربي: 1/ 79. وللوقوف على أرقام نسخ أخرى انظر: فؤاد سزكين. تاريخ التراث العربي: 1/ 127، العابد الفاسي: فهرست مخطوطات القرويين، 1/ 173. (¬1) لوحة: 1. (¬2) أشار إليه المؤلف في سراج المريدين: 239/ أباسم "شرح الترمذي" كما نسبه إليه المِقَّرِي في أزهار الرياض: 3/ 94. ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان 4/ 297 "معنى العارضة القدرة على الكلام ... =

14 - رسالة في طرق حديث: "ليس من أم بر صيام في أم سفر"

والِإيجاز غير المخل بالمعنى. وآراؤه فيه تشهد له بعلو كعبه في علم الحديث بعامة وعلم الرجال بخاصة. وقد طبع طبعة سقيمة مبتورة، كثيرة التصحيف والتحريف، لا يوثق بشيء منها (¬1). ويذكر المؤلف في مقدمة الكتاب -وهو يتحدث على الأغراض التي دفعته إلى تأليفه- أن طائفة من تلاميذه ألحوا عليه في تصنيفه، فلبى رغبتهم بعد تَرَدُّدٍ ومماطلة. أما عن منهجه فَبَيَّنَهُ بقوله: " ... ونحن سنورد فيه -إن شاء الله- بحسب العارضة قولاً في الإِسناد، والرجال، والغريب. وفناً في النحو، والتوحيد والأحكام والآداب. ونتفاً من الحِكَمِ، وإشارات إلى المصالح ... ". قلت: وشخصية ابن العربي قوية في هذا الكتاب، فقد ناقش الترمذي في كثير من مسائلِ الكتاب، ودخل معه حتى في الشكليات، فرتب بعض أبوَابِ الكتاب ترتيباً خاصاً، فجعل الفرع مع أصله، والنسيب إلى نسيبه. 14 - رسالة في طرق حديث: "لَيْسَ مِنْ أمْ بِرٍّ صِيَامٌ في أمْ سَفَرٍ" (¬2) (*): وقد عثرت على هذه الرسالة في المكتبة الوطنية بمدريد Biblioteca) Nacional de Madrid) تحت رقم: 5349، تقع في 20 ورقة، خط أندلسي ¬

_ = والأحوذي هو الخفيف في الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: الأحوذي المُشمَّرُ في الأمور، القاهر لها الذي لا يشذ عليه منها شيء". (¬1) وهي الطبعة التي صدرت في مصر في 13 جزءاً سنة 1350، 1352 وقد سبق أن طبع في كوانبور: 1299 (الهند) ضمن مجموعة "شروحي أربعي ترمذي". ومن أجل الوقوف على النسخ المخطوطة لهذا الكتاب انظر: فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي: 1/ 243. (¬2) رواه الإِمام أحمد في المسند: 5/ 434، وقال عنه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: إسناده صحيح، ابن الأثير: جامع الأصول: 6/ 396 قال ابن الأثير في شرح غريب هذا الحديث، قوله: من أم بِرٍّ: هذه الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن، فلا ينطقون بلام التعريف، ويجعلون مكانها الميم. (*) تنبيه: قال ابن الصلاح: "إن من أعلى المراتب في تصنيفه (أي في الحديث) تصنيفه معللاً بأن يجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه" مقدمة ابن الصلاح: 129.

15 - رسالة في طرق حديث عقبة بن عامر

جميل، أملاها ابن العربي في مدينة غرناطة سنة 521 على أحد مريديه المقربين منه حيث قال له: " .. وتعين علي والحالة هذه أن أنهي إليك ما بلغني اشتماماً لما توسمته فيك ... " (¬1) وسبب تحريره هذه الرسالة هو إنكار بعض العلماء عليه في طُرُقِ هذه الحديث قال رحمه الله: " ... وقد كان ينبغي أن أفطم القائم إليه، لما ظهر لي من نكير الجاهلين علينا في حديث كعب بن عاصم الأشعري "لَيْسَ مِنْ أمْ بِر صَوْمٌ في أمْ سَفَرٍ". ما دَلَّ على سوء سخيمتهم من نفيهم للرواية، ما حقق جهالتهم وحسارتهم حتى قست قلوبهم وقست نفوسهم .. " (¬2) ويقول في موضِع آخر: " ... ثم تفقدت بعد ذلك طرقه وتقصيت رواته. فقيدت منها جملاً. سطرت لك بعضها بحسب عجالة الحال واستغراق الوظائف المتعاقبة للبال ... " (¬3). 15 - رسالة في طرق حديث عقبة بن عامر: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ يَتَوضأ فَيُسْبغُ الوُضُوءَ فَيَرْكَعُ رَكعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بقَلْبهِ وَوَجْههِ إِلا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة أوْ غُفِرَ لَهُ" (¬4): وتوجد بالمكتبة الوطنية بمدريد تحت الرقم السابق: 5349، 11 ورقة. قال القاضي ابن العربي عن هذا الحديث: "هذا حديث غريب لم يروه بهذه الأسانيد غير معاوية بن صالح ... وله علة حسنة وقصة طويلة قد نظمناها لمن شاءها .. " (¬5). وقال رحمه الله في خاتمة هذه الرسالة: "فهذا تفسير ما أشار إليه أبو ¬

_ (¬1) صفحة 2 من نسختي الخاصة التي استنسختها من الأصل بمدريد. (¬2) صفحة: 4. (¬3) صفحة: 5. (¬4) هذا الحديث أخرجه مع اختلاف في الألفاظ أبو داود في كتاب الصلاة رقم 905 باب كراهية الوسوسة وحديث النفس في الصلاة والنسائي في كتاب الطهارة 1/ 95 باب ثواب من أحسن الوضوء ثم صلى ركعتين. (¬5) صفحة: 3.

16 - رسالة في "أحاديث المصافحة"

عيسى من الاضطراب ... والذي عندي فيه أن الحديث عمل على غيره، وركب على سواه قصداً أو غلطاً" (¬1). 16 - رسالة في "أحاديث المصافحة": وقد عثرت عليها في المكتبة الوطنية بمدريد تحت رقم: 5349، وخطها أندلسي جميل، نسختها لنفسي من الأصل المحفوظ في المكتبة. قال عنها ابن جابر الوارآشي: "مصافحة الفقيه أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي غريبة الاعتماد قريبة الإِسناد" (¬2). قال ابن العربي في مقدمة رسالته: " .. كنا قد خرَّجْنَا في شرف المنزلة كتاباً سميناه "بالأحاديث السباعية" التي مرتبتنا فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا التعديد من القرون، وَبَيَّنَا في ذلك الكتاب علوّ التعديد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلو التنزيل إلى المشيخة رضي الله عنهم، وعندنا في علو التنزيل عدد كثير من الأحاديث، لكنا لم نتفرغ لتخريجها لتزاحم الأغراض وكسل النفس وزهد الناس في العلم، والزهد فيهم لقلة الاستقامة وعدم القوامية، وكانت عندنا ستة أحاديث في المصافحة التي ظفر بها الِإمام الحافظ البرقاني وهو شيخ شيوخنا رحمهم الله، فرأينا تخريجها منفردة لمجتاز يقتبس، أو طارق يختلس، حتى إذا استنار بها، استثار لغيرها" (¬3). قلت: وقد تتبعها ابن رشيد البستي (¬4) بالنقد والتقويم متعجباً من وهم ابن العربي فيها على قلتها. ¬

_ (¬1) صفحة: 11. (¬2) ابن جابر: البرنامج: 282. (¬3) صفحة 1 - 2. (¬4) انظر ابن رشيد في رحلته المسماة "ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة": 272 وما بعدها.

17 - رسالة "مجلس الروضة"

17 - رسالة "مجلس الروضة": وهي عبارة عن مجموعة أحاديث سمعها إملاءً من الشريف طِرَاد بن محمد الزينبي في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقد وصلت لنا هذه الرسالة في المجموع السابق 5349 بالمكتبة الوطنية بمدريد من 31 - 34. خط أندلسي جميل، وهي برواية الحافظ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن خلف الأنصاري (¬1) عن المؤلف. 4 - "أصول الفقه": 18 - كتاب "المحصول في علم الأصول" (¬2): ولدى مكتبة الوالد حفظه الله، صورة من هذا الكتاب عن الأصل المحفوظ بمكتبة فيض الله أفندي بإستانبول، ويشمل على: 67 ورقة بخط نسخي جيد. ويعتبر هذا الكتاب من الكتب التي أثرت في مسيرة أصول الفقه المالكي بالمغرب الِإسلامي، وذلك لأنه اتبع فيه طريقة أبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الِإسفراييني اللذين جمعا بين مناهج العقيدة الأشعرية وطرائق الفقه المالكي والشافعي، فابن العربي قد تأثر بهما لا محالة، فهو يعتمد عليهما وعلى الِإمام الغزالي وأبي المعالي الجويني في أغلب الكتاب. غير غافل عن نصرة المسائل الفقهية الواردة في الكتاب من وجهة نظر مالكية مدافعاً عنها بالحجة والبرهان (*). ¬

_ (¬1) هو الإِمام الحافظ المشهور بابن الفخار، انظر في ترجمته: معجم تلامذة ابن العربي ببحثنا رقم: 63. (¬2) أشار إليه المؤلف في الأحكام: 494 ونسبه إليه الرعيني في برنامج شيوخه: 44، والتَّجَانِي في رحلته: 256، والمِقَّرِي في أزهار الرياض 3/ 94. (*) وقد قمت بتحقيقه والتعليق على بعض المواضع فيه تمهيداً لنشره إن شاء الله تعالى.

5 - "الفقه"

ولخص رحمه الله المحصول في أصول الفقه في اثني عشر باباً، وكل باب تحته فصول أو مسائل أو مهد لهذه الأبواب بمقدمات عَرّفَ فيها الفقه وأصوله، والدليل، والواجب، وغيرها. أما الأبواب فهي:1 - الأوامر، 2 - النهي، 3 - العموم، 4 - التأويل، 5 - المفهوم، 6 - الأفعال، 7 - الأخبار، 8 - الِإجماع، 9 - القياس، 10 - النسخ، 11 - الترجيح، 12 - التقليد. 5 - "الفقه": 19 - كتاب "التقريب والتبيين في شرح التلقين": وقفت على هذا الكتاب في المكتبة الوطنية بمدريد تحت رقم: ( XLIX) بخط مغربي كتب سنة 920، ولست أستطيع الآن أن أتبين هل هذا الكتاب المخطوط هو لابن العربي أم هو منسوب إليه؛ لأنني لم أحصل بعد على صورة منه (¬1) لدراستها دراسة نقدية متأنية، كما لا أستطيع أن أدفع هذا المخطوط عن ابن العربي لمجرد أن الذين ترجموا له لم يذكروه في مصنفاتهم، فلم يزعم المترجمون وَلَا زَعَمَ لهم زاعم أن الكتب التي يذكرونها لمن يترجمون لهم هي على سبيل الحصر والاستقراء. وعدم توفر صورة هذا المخطوط لديّ لم يمنعني من محاولة التحقق من نسبته لابن العربي تحت ضوء اطلاعي السريع عليه أيام كنت بمدريد، فلا شك أن أسلوب الكتاب يمتاز بحسن سبك المسائل ومتانة جمعها، وبراعة تعريفها وتقنينها، إضافة إلى مزية ضبط الحقائق الشرعية بالتعريف والتحديد، وهذه أمور نلمسها في كتب ابن العربي جلية واضحة، كما أنه كثيراً ما يعتمد على المازري وابن رشد، وهذا أمر حيرني كثيراً، إذ المعروف ¬

_ (¬1) أثناء طبع هذا البحث على الآلة الكاتبة وصلني من السيد: Rafael- هداه الله إلى الإِسلام- نسخة مصورة على شريط ميكروفيلم، ولم أتمكن من دراستها لضيق الوقت.

في كتب ابن العربي أنه لم يعتمد على هذين الفقيهين، إلا أنني وجدته في كتاب "المسالك شرح موطأ مالك" ينقل نصاً عن المازري (مخطوط دار الكتب المصرية رقم 21875 ب) ويصفه بالفقيه وهو نفس الوصف الوارد في "التلقين"، أما ابن رشد فرغم بحثي الشديد في المصادر والمراجع الأندلسية عن العلاقة بين ابن العربي وابن رشد المتعاصرين لم أقف على أي نص يثبت تتلمذ أحدهم على الآخر أو يثبت مساجلة علمية بينهم أو حتى ملاقاتهم، اللهم إلاَّ الشيخ الدسوقي في شرحه لأم البراهين (¬1) حيث قال: "وكان ابن العربي معاصراً لابن رشد، اتفق أن ابن رشد عرض عليه كتاباً له شرحاً على العتيبية (¬2) في الفقه، فقال له ابن العربي: بم سميت كتابك؟ فقال له ابن رشد: سميته بالبيان والتحصيل (¬3). فقال له: ما بينت وما حصلت يا ابن الأمة وطرحه له. فاتفق بعد ذلك أن ابن العربي ركب البحر في سفينة فهاجت الريح عليه وكادت السفينة أن تغرق فصار ابن العربي يقول يدك يا ابن رشد، ويكرر ذلك، فرفعت تلك السفينة ولم تغرق". قلت: ولا شك أن هذا شرك بالله تعالى وخرافة باردة من نسج عقول عصر الانحطاط والخمول الفكري والغبش العقدي. وينبغي التنبيه على أن ابن العربي كان يُقْرِىء كتاب "التلقين" للقاضي عبد الوهاب بقرطبة (¬4)، فإِذَا علمنا هذا فلا يستبعد أن يدون ذلك الِإقراء مع شرحه في كتاب خاص. ¬

_ (¬1) (2) صفحة: 54. (¬2) العتبية هي الروايات التي جمعها الإِمام العتبي (ت: 255) عن الإِمام مالك ولا توجد في الموطأ. (¬3) اسم الكتاب بالكامل"البيان والتحصيل والشرح لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل" ويطبع الآن بتحقيق جماعة من العلماء في دار الغرب الإِسلامي ببيروت بفضل الله عزّ وجلّ ثم بفضل صاحب الدار الأستاذ الحاج الحبيب اللمسي حفظه الله وبارك في جهوده. (¬4) قرأه عليه عبد الله بن عمروس ت: 546 انظر: ابن الأبار: التكملة 2/ 831.

20 - "الرسالة الحاكمة على الأيمان اللازمة"

20 - "الرسالة الحاكمة على الأيْمَان اللازمة" (¬1): وقفت عليها في الخزانة العامة بالرباط (¬2)، مبتورة الأخير، كتبت بخط مغربي قديم. وتعتبر هذه الرسالة من أوائل ما كتب ابن العربي حيث يقول: "وقد جمعت في المسألة (¬3) رسالة إبَّانَ كنت بإفريقية. وقد كَثُرَ السؤال فيها عَلَيَّ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى على متوسط من الأقوال، لم أخرج فيه عن جادة الأدلة ولا عن أصل إمام الأئمة مالك بن أنس" (¬4). قلت: وقد ناقضها قاضٍ في مدينة مكناس: أبو محمد عبد الحق بن سعيد برسالة سماها "الجازمة على الرسالة الحاكمة" قرأها لسان الدين بن الخطيب على مؤلفها ووصفها بالجودة والحسن (¬5). 6 - "الزهد والتربية": 21 - كتاب "سراج المريدين وموفي سبيل المهتدين للاستنارة بالأسماء والصفات في المقامات والحالات الدينية والدنيوية بالأدلة العقلية والشرعية القرآنية والسنية" (¬6): وهو القسم الرابع من علوم القرآن في التذكير. وقفت عليه مصوراً في ¬

_ (¬1) ذكرها المؤلف في الأحكام: 745، ونسبها إليه القاضي عياض في الغنية: 69، ولسان الدين ابن الخطيب في نُفَاضَةِ الجراب في علالة الاغتراب: 374، وابن غازي في الروض الهتون: 18. (¬2) كنت قد كتبت تقريراً مفصلاً عن هذه الرسالة مع نقل مقدمة المؤلف أيام كنت بالرباط، ولكن قَدَّر الله أن تضيع مني الكناشة التي تحتوي على تلك المعلومات. (¬3) وهي: لو قال إنسان: عَلي يمين وحنث، هل تلزمه الكَفارة؟ ولو قال: عَلَي يمينان وحنث، هل تلزمه كفارتان؟ (¬4) الأحكام: 745. (¬5) ابن الخطيب: نفاضة الجراب: 374. (¬6) ذكره المؤلف في العارضة 7/ 122، 10/ 113، ويحتمل أن يكون هذا الكتاب من أواخر كتب المؤلف إملاءً، فقد أشار فيه إلى أغلب كتبه، وأملاه في نفس الوقت الذي كان يملي فيه كتاب "العواصم من القواصم" يقول رحمه الله في سراج المريدين: " ... وأمليناه عليكم في هذه الأيام في كتاب العواصم ... " 111/ ب. =

دار الكتب بالقاهرة تحت رقم (20348 ب) (¬1) عن النسخة الأصلية الموجودة عند الشيخ المحدث أحمد بن الصديق الغماري المغربي بمدينة "طنجة" (¬2) (*). وهذا الكتاب ذو نزعة زهدية سلفية خالصة، يتناول فيه المؤلف -رحمة الله عليه- الجزئيات السلوكية ويرجع بها إلى الأسماء والصفات التي يتسمى بها الِإنسان، ويسكب المعاني والحقائق في قوالب حِكَمِيَّة رائعة التفسير، مازجاً التوجيه الوعظي بالأسرار الشرعية اللطيفة، فجاء كتابه -بهذا الترتيب العجيب- آية للسائلين. والأمر الذي يلفت نظر الباحث والقارئ لهذا الكتاب، هو أن مؤلفه رحمه الله لم يستنزل -وهو في قمة نشوته الروحية- إلى الاعتماد على ضعيف ¬

_ = قلت: وقد ذكر هذا الكتاب القيم القرطبي في التذكرة: 30، 39، والمجاري في برنامجه: 113. وابن دراج السبْتِي في إمتاع الأسماع: 28، 126، وابن الحاج في المدخل: 4/ 301 (ط. الحلبي) والزركشي في البرهان 2/ 523، وحاجي خليفة في كشف الظنون: 2/ 23، وغيرهم كثير. (¬1) انظر فهرست مخطوطات دار الكتب المصرية من سنة 1936 - 1955 الجزء- 1 - صفحة: 458. (¬2) هذه النسخة هي الآن بحوزة السياسي حسن التهامي المصري. (*) هناك نسخة أخرى من هذا المخطوط ذكرت في مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد: 5 الجزء- 1 - صفحة 184 وهي بخط أندلسي واضح، وهذه النسخة كلمني عنها الشيخ محمد بن أبي بكر التطواني صاحب الشيخ عبد الحي الكتاني فقال إنها الجزء الأول من سراج المريدين، عليها خط ابن العربي. قلت: وقد اعتمد عليها الكتاني في فهرس الفهارس: 1/ 80 وقال: "من نسخة عليها خطه (أي خط ابن العربي) نقلت. كما ذكر لي الشيخ التطواني -حفظه الله تعالى- بأن الشيخ الكتاني استنسخ لنفسه الجزء الثاني من سراج المريدين من مكتبة ابن منصور ببزو. قلت: وإلى هذا الجزء أشار الشيخ الكتاني في تقريره للمجمع العلمي بدمشق عام 1357 والذي عثرت عليه بخط يده بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 3002 ك، 17/ ب-18/أ. وقال الأستاذ صغيري المغربي (دار الحديث الحسنية) أن ابن الفقيه ابن منصور بحث في مكتبة أبيه عن النسخة المشار إليها فلم يعثر عليها وذلك سنة 1975، كما ذكر له الأستاذ محمد رضوان الداية السوري بأنه وقف على جزء من سراج المريدين لدى عائلة ثرية بالجزائر بخيلة به، وقال أنه تصعب الاستفادة منه لما لحقه من تلف. رسالة "قانون التأويل" للأستاذ صغيري: 1/ 1

الآثار، أو الاستئناس بموضوع الأخبار (¬1)، بل اعتمد على كتاب الله وما صَحَّ من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إيداعه فيه خلاصة نظره الاجتهادي وعمله النقدي لأقوال أئمة التصوف (¬2) وأقطابه (¬3)، وأعتقد أنه بهذا العمل الجليل كان مبتكراً ومؤسساً لطريقة جديدة في خدمة الجانب التبتلي في الفكر الِإسلامي، وهذا المنهج الجديد هو الذي درج عليه الشاطبي في الاعتصام وابن الحاج العبدري في المدخل (¬4). أما عن الكتاب ومضمونه، فيقول المؤلف في ديباجته: " ... إلى زمرة المريدين وإلى الطالبين السالكين في سبيل الدين والمتوجهين إلى الحق المبين، سلام عليكم أما بعد: فإني أعظكم بواحدة، وهي أن تصغوا إلى مبتدئي ومنتهاي، فإن الذي أورده عليكم وأجلوه لديكم عقائل أتمنى إبرازها في منصة العقائد، وأنظم لها صفات الهدى والضلال على وجه يأتي عليه الشرح والِإجمال حسبما تقتضيه الحال. وقد كنت أفضت في "أنوار الفجر بمجالس الذكر" في أنواع العلوم الشرعية من التوحيد ¬

_ (¬1) وبصنيعه هذا فإن الصوفية لم يعتبروه من الذين وصلوا -بزعمهم- إلى مقام المعرفة الصوفية الكاملة، يقول المتصوف أحمد بن زروق في قواعد التصوف: 35 (ط: الكليات الأزهرية 1976): "وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربي في سراجه"، وانظر هذا القول في "محاضرات الحسن اليوسي المغربي: 1/ 192 - 193 (ط: المغرب الِإسلامي: 1402). (¬2) لا شك أنه جدّ خبير بأقوالهم وما تشتمل عليه من إشارات ودقائق، كيف لا وهو الذي يقول في قانون التأويل: "وأفنيت عظيماً من الزمان في طريقة الصوفيين، ولقيت رجالاتهم في تلك البلاد أجمعين .. " ويقول في موضع آخر: "ولم أزل أطلب هذا الفن في مظانه وفي مراجعة شيوخه حتى وقفت على حقيقة مذهبه .. ". (¬3) استعمالي لكلمة "قطب" هو استعمال لغوي صرف. يقال: فلان قطب بني فلان أي: سيدهم الذي يدور عليه أمرهم، وينبغي التنبيه على أن مفهوم القطبية عند الصوفية فيه من التجاوزات ما لا يعلمه إلاَّ الله، انظر على سبيل المثال: الشريف الجرجاني: التعريفات: 94، واصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية: 138 (هذه الرسالة الأخيرة ملحقة بالتعريفات ط: الدار التونسية: 1971). (¬4) انظر النقول المتفرقة عن ابن العربي 1/ 110، 114، 211، 4/ 25، 171، 218 من المد

22 - "سراج المهتدين"

والأحكام ومقامات الأعمال وآفات القلوب والأحوال ما سارت به الركبان، وتعطّر بأريجه الزمان، وضَعُفَت عن تحصيله الأركان، وهو مُفَرَّق بين الناس، وبقي علم التذكير المتعلق بالأعمال والمقامات، فَتَجَرَّدْنَا لَهُ الآن مسترشدين بربنا، مستوهبين منه الهداية من البداية إلى النهاية، حتى نبلغ الغرض، ونقضي المفترض، إلى ذكر صفات العباد الذين اصطنعهم الله لخدمته، واصطفاهم لجواره في جنته، وأفاض عليهم من سعة رحمته. وقد مضت منه أصول في فصول "الأمد الأقصى" لأن أكثر أسمائه تعالى تنطوي حروفها على العبد بالمبنى والتأليف الذي تنطوي به على الله تعالى، وإن اختلفت المعاني، مبيناً جلالة الله فيها، مشيراً إلى كرامة العباد ومنازلهم منها. فنسرد الآن الصفات على ترتيب المقامات والله المستعان" (¬1). قلت: وقد لخص -رحمه الله- في هذا الكتاب العظيم قواعد علم التربية والسلوك (التصوف) أحسن تلخيص، وحرر مسائله أحسن تحرير، مع الكشف عن دقائق أغراض التصوف، وخفي مقاصده ولطيف إشاراته ومكنون أسراره، فجاء هذا الكتاب واضح التعبير، متسنَّي التحصيل، فجزاه الله عن الإِسلام كل خير. 22 - "سراج المهتدين" (¬2): وقد وقفت عليه مخطوطاً بالخزانة الملكية بالمغرب تحت رقم: 1473 في حوالي: 40 صفحة بخط مغربي متوسط الجودة (¬3). ¬

_ (¬1) 2/ أ- ب. (¬2) ذكره ابن فرحون في الديباج: 282 والمقري في الأزهار: 3/ 94 والنفح: 1/ 242 (ط: محيي الدين) وعباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96 وقد وهم الدكتور طالبي الجزائري فاعتبر سراج المهتدين هو نفس كتاب سراج المريدين. آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 1/ 75 - 76. (¬3) للأستاذ سعيد أعراب التطواني المغربي نسخة خاصة لم يتيسر لي الاطلاع عليها.

23 - "أحكام الآخرة والكشف عن أسرارها الباهرة"

وقد حذا في كتابه هذا حذو القضاعي -على حد تعبيره- في الشِّهَاب، وَصَدَّرَهُ بأحاديث قدسية وَحِكَمٍ نبوية، آثر أن تكون من صحيح الحديث المستقيم. لا من واهيه السقيم. وتتخلل الكتاب عدة فصول في الآداب والمواعظ، تضمنت كثيراً من الأحاديث والآثار، وكثيراً ما ينتقد في ثنايا هذا الكتاب اللطيف آراء الصوفية في المحبة والعشق الإِلهي وما إلى ذلك. مستظهراً على خصومه بالحجج والبراهين، مؤيداً مذهبه بشواهد المعقول والمنقول. 23 - "أحكام الآخرة والكشف عن أسرارها الباهرة" (¬1): وقد وقفت عليه مخطوطاً في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 928 ك ضمن مجموع من 1 - إلى- 69. قال المؤلف في مقدمة الكتاب: "الحمد لله الذي خص نفسه بالدوام وجعل الموت مآل أهل الكفر والِإسلام ... أما بعد: فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ... ". قلت: وقد قسم كتابه على أربعة فصول: الفصل الأول في قبض الروح، الفصل الثاني في سؤال القبر، الفصل الثالث في أحوالهم، الفصل الرابع في قيام الساعة، ثم ختم هذه الفصول بمواعظ مختلفة. 7 - "تاريخ": 24 - "شَوَاهِدُ الجِلَّةِ والأعْيَانِ في مَشَاهِدِ الِإسلَامِ وَالبُلْدَانِ" (¬2): وقد وقفت على هذه المخطوطة النادرة بدار الوثائق الوطنية بالرباط تحت ¬

_ (¬1) لم أتمكن من العثور على ذكر له في المصادر التي رجعت إليها، وقد يحتمل أن يكون هذا الكتاب قد استل من تفسيره الكبير. (¬2) استخلصت هذا الاسم من عبارة وردت بسياق النص المخطوط وسيجىء ذكرها وينبغي التنبه =

رقم: 1020. وهي ضمن مجموعة من ثلاثين ورقة، منفصلة من الوسط، ومبتورة من الأول والآخر بما يتعذر معه معرفة الناسخ، وتاريخ كتابتها، وهي مكتوبة بخط مغربي متوسط الجودة، والعناوين مميزة بالحبر الأحمر والأصل بحبر أسود، والأوراق ليست في حالة جيدة، تكثر فيها الثقوب، وسطورها تبلغ 16 سطراً في الصفحة، وتقع رسالة "شواهد الحيلة" بين وجه الورقة رقم: 27، وظهر الورقة رقم: 35، ويشمل هذا الجزء من المخطوطة "شواهد الحيلة" على الرسائل التالية: أولاً: رسالة القاضي الوزير عبد الله بن محمد بن العربي (¬1) إلى الخليفة المستظهر العباسي يزكي فيها الأمير يوسف بن تاشفين، ثم رد الخليفة المستظهر (¬2) على ظهر الخطاب في 37 سطراً، مؤرخاً في رجب سنة 491 هـ، وكان التوقيع تمجيداً للخلافة، وحثاً على الطاعة، وتقديراً لما يبذله يوسف بن تاشفين من جهود، وفي الخاتمة توصية بابن العربي وولده. ثانياً: رسالة وزير الخليفة العباسي محمد بن جهير باسم الخليفة نفسه موجهة إلى يوسف بن تاشفين كتبت في الثاني عشر من رجب من السنة نفسها، وفيها تقديراً لما قام به أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين، وثناء على حسن رأيه، وفي نهايتها أيضاً توصية بابن العربي وابنه. ثالثاً: خطاب الِإمام أبي حامد الغزالي، ويتضمن مطلبين لابن العربي: أولهما استصدار فتوى حول موقف الأمير يوسف من أمراء الطوائف، ¬

_ = إلى أن الدكتور أحمد مختار العبادي قد نشر مقتطفات من الرسائل الثلاثة الأولى في كتابه "دراسات في تاريخ المغرب والأندلس": 471 - 484 (ط: الإسكندرية 1968). (¬1) أي والد الفقيه ابن العربي. (¬2) أشار ابن خلدون إلى هذه الرسالة فقال: وخاطب (ابن تاشفين) المستظهر العباسي وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإِشبيلي وولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول وأحسنا في الِإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس، فعقد له، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة ... "العبر: 6/ 386".

وحقه في قتال هؤلاء الأمراء والظفر بأموالهم، وحق الطاعة ليوسف بن تاشفين. المطلب الثاني: هو أن يبعث رسالة تأييد لجهاد الأمير يوسف بن تاشفين وتأييد سياسته، ورسالة الغزالي غير مؤرخة، ولكن من سياق الرسالة يفهم أنها صدرت قبل رسالة الخليفة بقليل. وفتوى الغزالي هذه لها أهمية كبيرة، إذ أظهرت حق يوسف بن تاشفين في جهاد ملوك الطوائف، وأفتى بشرعية حكم يوسف بن تاشفين حتى ولو تأخر وصول تقليد الخلافة، وقد طلب الغزالي سرعة إرسال التقليد (¬1)، أما الشق الثاني من الرسالة وهو الخطاب الذي وجهه إلى يوسف بن تاشفين فقد قص فيه ما سمعه من الفقيه ابن العربي عن جهود ابن تاشفين في جهاد الممالك المسيحية، وتبجيله لأهل العلم. رابعاً: رسالة الِإمام أبي بكر الطرطوشي إلى يوسف بن تاشفين (¬2)، وهذه الرسالة تختلف عن رسالة الِإمام الغزالي إذ تدور على الوعظ والِإرشاد، مؤيدة بكثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ورسالة الطرطوشي هذه يبدو أنها كتبت في 493 بعد وفاة ابن العربي الوالد، إذ أنها لا تتضمن إلاَّ التوصية بالابن وحده (¬3). وأما عن سبب جمع هذه الرسائل فيقول ابن العربي في ديباجته لها: "الحمد لله الذي جعل الحمد فاتحة الكتاب ... وصلى الله على المصطفى الطاهر ... (وبعد): فقد شاهدت من طلب العلم بإفريقية ومصر والشام والساحل والعراق والحجاز ما لا يأتي عليه الِإحصاء ولا ينال ¬

_ (¬1) شواهد الحيلة: 31/ أ. (¬2) هذه الرسالة من الكتب التي رواها ابن خير عن ابن العربي، انظر فهرست ابن خير: 299، وأزهار الرياض للمِقَّرِي: 4/ 324. (¬3) 35/ ب.

مؤلفات ابن العربي التي لم نقف عليها

بالاستقصاء ... ولما سبق خير القضاء برحلتي إلى تلك المشاهد الكريمة، وحلولي في تلك المقامات العظيمة ... جنيت من كل شجرة زهرة، وكشفت عن كل خفاء عورة، حسبما فسرته وأوضحته وشرحته وقررته ... في كتاب "ترتيب الرحلة للترغيب في الملة" وذكرت فيه لقاء الأعيان لنا، وسير الفضلاء لنا، وكان ذلك أمراً يطول النظر فيه ... فاستخرت الله تعالى على تجريد هذه الأوراق "بشواهد الجلة، والأعيان في مشاهد الإِسلام والبلدان" ... حتى يظهر البون، ويتبين أن الله تعالى يختص من يشاء بالعون ... " (¬1). مؤلفات ابن العربي التي لم نقف عليها علم الكلام: 25 - "المقسط" ذكره المؤلف في "الأحكام": 25، وحقق فيه ذكر المعجزات وشروطها: الأحكام: 1719، كما ذكره في "قانون التأويل": 188 حيث أحال عليه في أثناء كلامه حول بعض القضايا الكلامية. ونسبه إليه ابن خير في فهرست ما رواه عن شيوخه: 258. 26 - "المشكلين" أي مشكل القرآن والسنة، وتكلم في هذا الكتاب القيم عن كل ما كان من قبيل التوحيد كما ذكر في القبس: 416 (مخطوط رقم: 25 ج) وعن التأويل (العواصم: 417)، وأورد فيه القول في السحر، وحقيقته ومنتهى العمل به وأقسامه (الأحكام: 1387)، وبيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآياته وأخباره وشروطه وفائدته (الأحكام: 266) كما ذكره في السراج: 166/أوالمتوسط: 20، 42 ونسبه إليه ابن فرحون في الديباج: 281 والمقري في أزهار الرياض 3/ 94، وعباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96. 27 - كتاب "النبي" ذكره في الأحكام: 27 وحقق فيه أن الشياطين لا تتصور على صور الأنبياء. ¬

_ (¬1) 27/ب.

28 - "العوض المحمود"

28 - "العوض المحمود" ويشتمل هذا الكتاب على رسالة خاصة في موضوع الرؤيا، وهي "محاسن الإنسان في جوابات أهل تلمسان" ذكره المؤلف في "قانون التأويل": 66، والعارضة: 9/ 123، والمتوسط: 118، القبس:352. 29 - رسالة "الغرة في نقض الدرة" وهي رد على ابن حزم الأندلسي في رسالة الدرة، قال عنها المؤلف:" وقد جاءني بعض الأصحاب .. برسالة "الدرة" في الاعتقاد، فنقضتها برسالة الغرة، والأمر أفحش من أن ينقض، وأفسد من أن يفسد". العواصم: 338. علوم القرآن: 30 - "الكتاب الكبير" ذكره بهذا الاسم في العارضة: 11/ 298، والمسالك شرح موطأ مالك: 214 (مخطوط في القاهرة: 21875/ ب) وذكره مرة أخرى في العارضة بعنوان "الشرح الكبير": 1/ 290. ويحتمل أن يكون هذا الكتاب هو نفس كتابه "أنوار الفجر". 31 - كتاب "أنوار الفجر بمجالس الذكر" وهذا السفر من أعظم ما كتب في تفسير القرآن الكريم، ذكره المؤلف في القبس فقال: " ... وقد كنا أملينا في كتاب "أنوار الفجر" ثمانين ألف ورقة، تفرقت بين أيدي الناس وحصل عند كل طائفة منها فن، وندبتهم إلى أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفاً، وهي أصولها التي ينبني عليها سواها وينظمها على علوم القرآن الثلاثة: التوحيد والأحكام والتذكير ... " 316 (مخطوط الخزانة العامة: 25 ج). قلت: وإلى هذا الكتاب أشار ابن جزي في التسهيل: 1/ 10 حيث قال: " ... فأما ابن العربي فصنف كتاب أنوار الفجر في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب "قانون التأويل .. ". كما ذُكِرَ أن يوسف المغربي الحَزَّام الذي كان يحزم كتب السلطان أبي عنان المريني رآه في خزانته في ثمانين مجلداً لم ينقص منها شيء. انظر ابن

32 - "المقتبس"

فرحون في الديباج: 282 - 283. وقال عنه الشيخ الكوثري: " ... وللقاضي أبي بكر بن العربي "أنوار الفجر" في التفسير، في ثمانين ألف ورقة، والمعروف أنه موجود ببلادنا -أي في مكتبات تركيا- إلا أني لم أظفر به مع طول بحثي عنه ... " المقالات: 402. 32 - "المقتبس" في القراءات، ذكره عباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 97، وحاجي خليفة في كشف الظنون: 1972. الحديث وعلومه: 32 - كتاب "النَّيِّرَيْنِ في شرح الصحيحين" ذكره بهذا العنوان في السراج: 227/ أ، وفي الأحكام: 1555 ذكره بعنوان "شرح الصحيحين" وكذلك في العارضة 8/ 161، وسماه تارة أخرى "شرح الصحيح" العارضة: 10/ 54 و"شرح الحديث الصحيح" الأحكام: 711، و"شرح النيرين" العارضة: 11/ 81، و"شرح الحديث" السراج: 90/ ب. ونسبه إليه المقري في أزهار الرياض: 3/ 94 وعباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96. 33 - "شرح حديث أنْزِلَ القُرآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُف" ذكره في العارضة: 11/ 60 وقال عنه: "هذا الحديث صحيح وقد بَيَّنَا معناه في جزء مفرد على غاية الإيضاح" وذكره كذلك في قانون التأويل: (514). 34 - "جزء فيه أحاديث النعل وأبوابها" ذكره في العارضة: 7/ 272. 35 - جزء مفرد شرح فيه حديث الِإفك ذكره في العارضة: 12/ 47 وقال: "هي نازلة عظيمة ومصيبة شنيعة شاء الله كونها لتهلك بها أمة، وتعصم بها أمة، وتظهر الدفائن، ويكشف النفاق، وقد بيناها في جزء مفرد". قلت: وقد نسب العلماء هذا الشرح اللطيف إلى ابن العربي منهم عباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96، والمقري في نفح الطيب: 2/ 242 (ط: محيي الدين).

36 - "شرح حديث أم زرع"

36 - "شرح حديث أم زرع" ذكره المقري في المصدر السابق والبغدادي في هدية العارفين: 2/ 90 وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 97. 37 - "شرح حديث جابر في الشفاعة" ذكره المقري في المصدر السابق. 38 - "الأحاديث المسلسلات" نسبها إليه أبو بكر بن خير في الفهرست 175، وابن الأبار في التكملة (ط: مجريط): 229، 260، 275، 474، 738، والمراكشي في الذيل والتكملة 6/ 427، والرعيني في برنامجه: 44 والكتاني في فهرس الفهارس رقم 656. 39 - "الأحاديث السباعيات" نسبها إليه ابن الأبار في التكملة 445، 449، والمعجم 227، والمراكشي في الذيل والتكملة 6/ 965، والكتاني في فهرس الفهارس رقم: 524. 40 - "الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب" ذكره المقري في الأزهار 3/ 94 والبغدادي في هدية العارفين: 2/ 90. الفقه والأول والمناظرة ومسائل الخلاف: 41 - "شرح غريب الرسالة" أي رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ذكره المقري في أزهار الرياض 3/ 95، والبغدادي في هدية العارفين 2/ 90، وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 96. 42 - "نواهي الدواهي" ذكره المؤلف في العواصم: 338 وقال عن سبب تأليفه: "وقد كان جاءني بعض الأصحاب بجزء لابن حزم سماه "نكت الإِسلام" فيه دواهي، فجردت عليه نواهي". قلت: وقد كان هذا الكتاب عرضة للنقد من أحد العلماء الذين ينتسبون إلى ابن حزم يقول المراكشي في الذيل والتكملة 1/ 408 - 409: "ولأبي عمر أحمد بن محمد بن حزم كتاباً وسمه "بالزوابع والدوامغ" تابع فيه القاضي أبا بكر بن العربي على فصول

43 - "رسالة نزول الوافد"

كتابه المسمى "بالدواهي والنواهي" في الرد على ابن حزم، وحاذاه فيه كلاماً بكلام، وحديثاً بحديث، وفقهاً بفقه، ونظماً بنظم، ونثراً بنثر، وإقناعاً بإقناع، والله يجازي الجميع بفضله". قلت: وقد ذكره المؤلف في العارضة: 10/ 165 والأحكام: 18، كما نسبه إليه المقري في أزهار الرياض: 3/ 95 وحاجي خليفة في كشف الظنون: 1/ 496. 43 - "رسالة نزول الوافد" ذكره في الأحكام: 140 حيث بين فيها حقيقة القضاء والأداء. 44 - "كتاب ستر العورة" ذكره المقري في نفح الطيب 2/ 242 (ط: محيي الدين). 45 - "كتاب التقصي" ذكره في الأحكام: 1164 أثناء كلامه عن الوضوء. 46 - "نكت المحصول" ذكره المؤلف في القانون. ونسبه إليه الونشريسي في المعيار المعرب: (12/ 122). 47 - "التمحيص والتخليص" ذكره المؤلف في السراج: 237 بهذا العنوان، وذكره في الأحكام: 749، 773، بعنوان "تلخيص (وفي نسخة: تمحيص) الطريقتين وفي موضع آخر بالتلخيص، وفي آخر بالتمحيص، وكل هذه العناوين هي عنوان لمسمى واحد، نسبه إليه ابن فرحون في الديباج: 283 وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 97، وهذا الكتاب هو في أصول الفقه بدليل قوله في السراج: 237/ أ: "اختلف الناس في قول الصحابي هل هو حجة أم لا إذا كان بخلاف القياس؟ ورأى مالك وحده أن قول التابعي حجة ودليل إذا خالف النظر ولم يكن إليه طريق الخبر، والصحيح قوله وقد بيناه في التمحيص والتخليص". 48 - "نزهة المناظر وتحفة الخواطر" وقد ضمن كتابه هذا جملة من المناظرات العقدية (العواصم: 16) والفقهية (الأحكام: 62) التي شهدها

49 - "الكافي في أن لا دليل على النافي"

بالمشرق أثناء رحلته في طلب العلم. وقد ذكره في مختلف كتبه منها: السراج: 28/ ب. 49 - "الكافي في أن لا دليل على النافي" ذكره المقري في أزهار الرياض، وعباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96. 50 - "الإِنصاف في مسائل الخلاف" وهو في عشرين مجلداً، ذكره المؤلف في مختلف كتبه بأسماء متغايرة منها: مسائل الخلاف والفروع (الأحكام: 131) ومسائل الفروع (الأحكام: 96، 155) ومسائل الخلاف (الأحكام: 534، السراج: 98/ ب) والإِنصاف (الأحكام: 983)، وتلخيص مسائل الخلاف (الأحكام: 227) ونسبه إليه أغلب من ترجموا له كالمقري في أزهار الرياض: 3/ 95، وحاجي خليفة في كشف الظنون: 1/ 160، وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 97. الزهد: 51 - "العقد الأكبر للقلب الأصغر" وهذا الكتاب موضوعه هو علم الكلام والتصوف، فقد أحال المؤلف عليه في الأمد الأقصى: 107/ ب أثناء كلامه عن اسم الجلالة "الخالق"، كما أحال عليه في المتوسط: 44 أثناء كلامه على كلام الله عز وجل، وقد نسبه إليه الرعيني في برنامجه: 72، والمقري في أزهار الرياض: 3/ 94 والبغدادي في هدية العارفين: 2/ 90. 52 - "تفصيل التفضيل بين التحميد والتجليل" وقد قرر المؤلف في هذا الكتاب شروط القول في التفضيل بين الخوف والرجاء وبين الفقر والغنى وما إلى ذلك وقد ذكر في السراج: 134/ ب والقبس: 280/ ب (مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم: 1916 ك) كما نسبه إليه المقري في أزهار الرياض 3/ 94 - 95، وحاجي خليفة في كشف الظنون: 1/ 810، وعباس ابن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96. 53 - "كتاب الأمر" ذكره في الأحكام: 91 حيث بين فيه توبة الله على

54 - "كتاب الفقراء"

الخلق ومعنى وصفه بأنه توّاب، كم ذكره في القبس: 321 (مخطوط الخزانة العامة: 919). 54 - "كتاب الفقراء" ذكره في الأحكام: 217 حيث ذكر فيه أقسام التقوى، كما ذكره في العارضة: 12/ 285، 300. 55 - "مراقي الزلفى": ذكره ابن الحاج العبدري في المدخل 1/ 110، 114، 4/ 25، 28، 171، 212، 218، 310، ويظهر من الفقرات التي نقلها ابن الحاج أن هذا الكتاب يعالج أمور السلوك والتربية، ونسبه إليه المقري في أزهار الرياض: 3/ 94، وعباس بن إبراهيم في الأعلام: 4/ 96 وانظر آراء أبي بكر بن العربي الكلامية للدكتور عمار طالبي: 1/ 76 - 77. 56 - "كتاب آداب المعلمين" ذكره الشوشاوي في كتابه "الفوائد الجميلة في الآيات الجليلة"، أفادني بهذا الشيخ محمد بن أبي بكر التطواني -حفظه الله تعالى. الرحلات والسير: 57 - "ترتيب الرحلة للترغيب في الملة": وهذا الكتاب طراز فريد من نوعه، نَوَّهَ به كثير من العلماء في مقدمتهم ابن خلدون (المقدمة: 1017) وهذا الكتاب ضاع في عهد المؤلف كما تفيد عبارته في القانون: " ... فلما شذ في معرض المقادير، واستلبته الحوادث بما سبق في علم الله من التدبير، رأينا أن نجدد ما سلم في الرقاع الموجودة مع ما حضر في الذكر ... " قلت: وقد أثبت خلاصة في قانون التأويل الذي مَنَّ الله علينا بتحقيقه والتعليق عليه، وقد نسبه إليه أغلب من ترجموا له منهم المقري في نفح الطيب: 2/ 242 (ط: محيي الدين) وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 96. 58 - "عيان الأعيان" ذكره المؤلف في قانون التأويل: 44 ويحتمل أن

59 - "أوراق المياومة"

يكون في تراجم الرجال، وقد نسبه إليه الداودي في طبقات المفسرين: 2/ 165 بعنوان "أعيان الأعيان" وصاحب إيضاح المكنون: 1/ 105، وعباس ابن إبراهيم في الأعلام: 4/ 97. 59 - "أوراق المياومة" وهي مذكراته اليومية، ذكرها في العارضة: 3/ 307، 10/ 138 حيث قال: "كنت قد علّقت بالثغر في هذا الباب نكتة استخرت الله على نقلها من أوراق المياومة ها هنا .. ". 60 - "معجم مشيخة ابن العربي" وربما يكون هذا الكتاب من جمع ابن الأبار، انظر التكملة 463 (ط. مجريط) ولعله هو الذي يعنيه ابن خير في فهرسته: 166 بقوله:"كتاب فيه جملة من شيوخ الحافظ القاضي ابن العربي، وهم أحد وأربعون رجلاً خرج عن كل واحد منهم حديثاً". 61 - "فهرست ابن العربي" وهو غير "المعجم" وقد ذكره ابن خير في فهرسته: 411، والكتاني في فهرس الفهارس: 2/ 229 (ط: المغرب). 62 - "تبيين الصحيح في تعيين الذبيح" ذكره المقري في أزهار الرياض 3/ 94 وعباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 96 وأفادني الشيخ محمد بن أبي بكر التطواني بأن هذا الكتاب قد أدرجه أبو العباس العزفي في كتابه "الدرر المنظم" وهو موجود بالخزانة العامة تحت رقم 14695، وبالخزانة الملكية تحت رقم 816. 63 - "خصائص ومعجزات النبي ألف معجزة" ذكره المؤلف في القانون: ()، وفي العارضة: 2/ 293، 12/ 175، 13/ 152، ويحتمل أن يكون هو نفس الكتاب المذكور تحت رقم 27. 64 - رسالة "تنبيه الغبي على مقدار النبي" ذكرها في الأحكام: 301. اللغة والأدب: 65 - "حواشي على شرح ابن السيدِ لديوان أبي العلاء (سقط الزند) ":

66 - "ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين"

ولعلها أول ما كتب ابن العربي، وقد انتقد فيها ابن السِّيدِ البَطَلْيَوْسِي، وصحح أخطاء وقع فيها، منها ما يرجع إلى الرواية الصحيحة في شعر أبي العلاء، ومنها ما يرجع إلى الوزن، ومنها ما يرجع إلى تأثره بآراء الفلاسفة والمتكلمين، وقد رد ابن السيدِ على هذه المآخذ كلها في رسالة سماها "الانتصار عمن عدل عن الاستبصار" طبعت بتحقيق حامد عبد القادر سنة 1955. 66 - "ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين": ذكر المؤلف هذا الكتاب في الأحكام: 533، والعارضة: 2/ 47. 67 - "لمحة البارق في تقريظ لواحظ السابق": وهي رسالة عارض بها رسالة "الساجعة" لابن عبد الغفور الكلاعي. وهي من النوع المورى، وهو أسلوب من أساليب النثر الفني يكون ظاهره خلاف باطنه. انظر: "إحكام صنعة الكلام" للكلاعي تحقيق محمد رضوان البداية بيروت 1966. 68 - "شعراء الأندلس" ذكره عباس بن إبراهيم في الأعلام 4/ 97. 69 - "أشعار لابن العربي" رواها محمد بن يونس المعروف بالأديب المتوفى سنة 542 (ابن الأبار: التكملة 2/ 468 ط: مصر). كتب منسوبة إلى ابن العربي: أ- "اختصار إصلاح المنطق لابن العربي" كذا ذكره المكناسي في درة الحجال: 3/ 20 (ط: دار التراث بمصر) في ترجمة مالك بن عبد الرحمن السبتي المتوفى سنة 699، حيث ذكر أن السبتي قد نظم اختصار إصلاح المنطق والصحيح أنه نظم اختصار إصلاح المنطق لابن المغربي، انظر برنامج الوادي آشي: 139 - 140 (ط: دار المغرب). ب- "كتاب المتكلمين" كذا ذكر في المتوسط: 20، وذكره عبد العزيز ابن عبد الله في الموسوعة المغربية: 2/ 52، وهو تحريف لكلمة "المشكلين" والله أعلم.

جـ- "كتاب السياسات"

جـ- "كتاب السياسات" كذا في سلوة الأنفاس للكتاني: 3/ 200، وفي الأعلام لعباس بن إبراهيم 4/ 96 وهو تحريف لكلمة: "السباعيات" التى سبق أن أشرت إليها في رقم 39 من هذا المبحث. د- "مختصر السيرة النبوية" وقد نُسِبَ إليه في كثير من فهارس المخطوطات، ولكن بعد الِإطلاع على مخطوطات الخزانة الملكية بالرباط رقم 7403، 5502، 7548، تبين لي أن هذا المختصر هو لأحمد بن فارس المتوفى سنة: 490، برواية أبي بكر بن العربي. هـ - "كتاب القواعد": ذكر في فهرست مكتبة الأسكريال تحت رقم 1514، وكذا ذكره بركلمان في الملحق الألماني، وبعد الاطلاع عليه تبين لي أنه لابن العربي الطائي الصوفي. استدراك: فاتني أثناء جمع مادة هذا المبحث ذكر بعض الكتب والرسائل التي نسبت إلى ابن العربي وهي كالآتي: 70 - "فرائض النكاح وسننه وآدابه" مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم: 79 مجاميع. وقفت عليه. 71 - "مفتاح المقاصد ومصباح المراصد": ذكره البغدادي في هدية العارفين: 2/ 90، وحاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1771، وعباس ابن إبراهيم في الأعلام: 4/ 97. 72 - "السلفيات" ذكره البغدادي في هدية العارفين: 3/ 200. 73 - "كتاب الحق" ذكره المؤلف في العارضة: 4/ 51. 74 - "مسائل الصحبة والعزلة": ذكره المؤلف في القانون. 75 - "الِإملاء على التهافت" ذكره المؤلف في العواصم: 50. 76 - "رسالة في مسألة من مسائل الطلاق" ذكرها المؤلف في الأحكام

الصغرى لوحة: 507 - 508، وهذه المسألة هي التي أثارها الشاعر في قوله: أيها العالم الفقيه أجبنا ... بجواب يكون فيه بيان في فتى علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعد قبله رمضان قال ابن العربي: "وقد تكلم العلماء على هذه المسألة واستنبطوا منها مئة مسألة وعشرين مسألة من مسائل الفقه، وقد استوفينا الكلام عليها في جزء والله الموفق للصواب".

الفصل الرابع شيوخه .. تلاميذه مروياته .. وفاته

الفصل الرابع شيُوخُه .. تلَاميذهُ مَرويَّاته .. وَفاته

المبحث الأول شيوخه

الفصل الرابع المبحث الأول شيُوخُه مدخل: حرص ابن العربي رحمه الله أن يسجل أسماء مشايخه الذين أخذ عنهم العلم، فوضع فهرساً لشيوخه (¬1)، ولا شك أن معاجم الشيوخ تحتوي على معلومات هامة للعلماء المعاصرين للمصنف لدِقّة معرفته بمن يترجم لهم، وهم شيوخه الذين جالسهم وخالطهم، وعرف مزاياهم ونقائصهم، فهو أقدر على الحكم عليهم من سواه. ومما يؤسف له أن معجم ابن العربي لم نعثر له على خبر في مختلف المكتبات العالمية (¬2)، ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر أهم شيوخه، فمن المعلوم أن من جملة الأسباب التي تدرك بها مكانة المرء ¬

_ (¬1) انظر قائمة مؤلفات ابن العربي رقم 59 - 60 من هذا البحث. (¬2) ومن غريب الاتفاق أنني قمت في السنة الماضية بإعداد معجم لأهم شيوخه استخرجتهم من مختلف المصادر المطبوعة والمخطوطة فوصل عددهم إلى قرابة المئة وخمسين شيخاً، وبعد الانتهاء من هذه المهمة الشاقة قدر الله سبحانه وتعالى أن يضيع هذا المعجم الذي صنعته كما ضاع المعجم الأصلي الذي صنعه المؤلف.

وتعرف منزلته، هي معرفة شيوخه وأساتذته الذين تلقى عنهم وتأثر بهم، فإن للشيخ في نفس التلميذ من الأثر ما ليس لأحد غيره من الناس، وإن لقُوة شخصية الشيخ وقدرته العلمية لكبير الأثر في بناء شخصية التلميذ ونضوج عقليته، وليس بإمكاننا -الآن- أن نذكر كل من أخذ عنهم ابن العربي ونترجم لهم تراجم مسهبة، فهذا يقتضي منا مجلداً قائماً بنفسه (¬1)، ولكننا سنقتصر على ذكر أهم من أخذ عنهم من شيوخ المشرق والمغرب الِإسلامي. 1 - الفقيه الوزير الرئيس أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الِإشبيلي، والد القاضي أبي بكر، وأول شيوخه وأحقهم بالتقديم ذكره القاضي عياض، وابن خير، والذهبي، وابن فرحون، والمقري وغيرهم. ولد بإشبيلية سنة 435. وسمع ببلده من أبي عبد الله بن منظور القيسي وأبي محمد بن فرج وسمع بقرطبة من أبي عبد الله محمد بن عتاب وأبي مروان عبد الملك بن سراج وغيرهم من مشايخ الأندلس (¬2). وخلال الربع قرن الذي صحب فيه أبو بكر والده أبا محمد لا يمكن حصر ما استفاده الولد من علم أبيه وشخصيته وتجاربه. وما تلقّى من تربيته وتوجيهه لا سيما مع قيامه على تعليمه وتهذيبه ثم خروجه به إلى الحواضر العلمية بالمشرق في رحلته الطويلة. وقد احتفظ لنا ابن خير بشيء مما رواه أبو بكر بن العربي عن والده (¬3). 2 - الفقيه الحافظ أبو القاسم بن عمر بن الحسن الهوزني الإِشبيلي، ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) فهرست ابن خير 410 - 415 وفي التكملة لابن الأبار 1/ 389 أنه سمع من محمد بن عبد الملك بن سليمان المعروف بابن القوطية قصيدة الجزيري سنة 445. (¬3) انظر فهرست ابن خير 410 - 414.

خال أبي بكر بن العربي وأستاذه، كان من سروات الناس، وذوي الحسب، روى عن أبيه وعن أبي الوليد الباجي وغيرهما، له رحلة إلى المشرق، من تلامذته أبو بكر محمد بن عبد الله بن الجد الفهري، وأبو محمد عبد الحق ابن عطية، توفي سنة: 512 (¬1). 3 - أبو منصور أحمد بن محمد الصباغ (ذكره في العارضة 3/ 206) وكان فقيهاً حافظاً ثقة، تفقه على القاضي أبي الطيب وسمع الحديث منه ومن غيره (ت: 494) (¬2). 4 - أحمد بن عبد الوهاب المعروف بالشيرازي ذكره في السراج: 69/ أ. نزيل بغداد، كان فقيهاً واعظاً تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وأعطي القبول من الناس، سمع وحدث (ت: 493) (¬3). 5 - أبو طاهر أحمد بن علي بن سوار البغدادي الضرير، (ذكره في العارضة 1/ 6) إمام محقق ثقة، حنفي المذهب له كتاب المستنير في القراءات (ت: 496) (¬4). 6 - أبو المعالي ثابت بن بندار البقال الدينوري، المعروف بابن الحمامي (ذكره في العارضة 3/ 180) إمام ثقة. حنبلي المذهب (ت: 498). (¬5) 7 - أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي (ذكره في العواصم 151) من الأئمة الحفاظ، أديب عالم بالقراءات والنحو واللغة، له ¬

_ (¬1) ابن فرحون الديباج الـ: 104 ابن خير: الفهرست 117، 304 ابن الأبار التكملة 1/ 36. (¬2) السبكي: الطبقات 4/ 85 الأسنوي: الطبقات 2/ 132 ابن الجزري المنتظم 9/ 125 ابن كثير البداية والنهاية 12/ 160. (¬3) الأسنوي: الطبقات 2/ 102 السبكي: الطبقات 4/ 27، ابن الجوزي المنتظم 9/ 114. (¬4) ابن الجزري طبقات القراء 1، 86، 390. (¬5) الذهبي العبر 3/ 351 وتذكرة الحفاظ 1232 ابن الجوزي المنتظم 9/ 144. ابن الأثير غاية النهاية 1/ 188 ابن العماد 8/ 403.

تآليف مفيدة (ت: 500) (¬1). 8 - أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن طلحة النعالي (ذكره في العارضة 8/ 165) كان عامياً من أولاد المحدثين، عمر دهراً طويلاً وانفرد بأشياء نادرة روى عن أبي عمر بن مهدي وطائفه (ت: 493) (¬2). 9 - أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي (ذكره في العارضة 5/ 206) نقيب النقباء ومسند العراق في وقته، سمع الحديث الكثير، وتفرد بالرواية عن جماعة ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى (ت: 491) (¬3). 10 - أبو الخطاب نصر بن أحمد بن البطر البزاز، القارئ (ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ 1294 وسير أعلام النبلاء لوحة 380) مسند بغداد، طال عمره ورحل إليه من الآفاق وكان صحيح السماع، انفرد بالرواية عن جماعة (ت: 494) (¬4). 11 - أبو بكر محمد بن طرخان بن يلتكن بن يجكم التركي (ذكره في العارضة 1/ 205) إمام من أئمة الشافعية، تفقه على أبي إسحاق الشيرازي وغيره (ت: 513) (¬5). 12 - أبو زيد محمد بن محمد بن أحمد الحميري من أهل إشبيلية (ذكره في الأحكام 1244 وذكره ابن الأبار في الحلة السيراء: 1/ 211) سمع ¬

_ (¬1) ابن خلكان وفيات الأعيان 1/ 139 الذهبي: العبر 3/ 355 ابن الجوزي المنتظم 90/ 151. (¬2) الذهبي: العبر 3/ 336 ابن الجوزي: المنتظم 9/ 115، ابن عماد: شذرات الذهب 3/ 339. (¬3) الذهبي: العبر 3/ 331 ابن الجوزي: المنتظم 9/ 106، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 155 - 156، اليافعي مرآة الجنان 3/ 154 ابن عماد: الشذرات 3/ 396 ابن أبي الوفا: الجواهر المضيئة 1/ 266. (¬4) ابن الجوزي: المنتظم 9/ 129 الذهبي: العبر 3/ 340، ابن كثير: البداية والنهاية 12/ 161، ابن عماد: الشذرات 3/ 402 قلت: والبطر كثيراً ما تحرف إلى ابن النظر كما في الشذرات والمنتظم والبطر كالكتف كما ضبطه في القاموس. (¬5) ابن الجوزي: المنتظم 9/ 215 الذهبي: العبر 4/ 30 الصفدي: الوافي بالوفيات 3/ 169 السبكي: الطبقات 6/ 106 ابن عماد: الشذرات 4/ 41.

من أبي عبد الله الباجي وغيره كان فقيهاً مشاوراً عالياً في روايته حدث عنه ابن العربي وقال: أخذت عنه سنة 484 (¬1). 13 - أبو الحسين محمد بن محمد بن الحسين الفراء المعروف بابن أبي يعلى، ويقال له ابن الفراء (ذكره ابن خير في الفهرست 162) من كبار فقهاء الحنابلة ببغداد له مؤلفات قيمة في الفقه والتاريخ منها كتاب طبقات الحنابلة المشهور (ت: 526) (¬2). 14 - أبو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله المقرئ من أهل سرقسطة روى عن أبي عبد الله بن شريح وغيره قال ابن بشكوال: أخذ عنه القراءات شيخنا القاضي الِإمام أبو بكر بن العربي وذكر أنه كان شيخاً صالحاً، وكان يقرىء الناس بحاضرة إشبيلية توفي بعد 500 (¬3). 15 - أبو عبد الله محمد بن علي التميمي المازري (ذكره في المسالك 291 مخطوط رقم 21875 ب) الفقيه المالكي الكبير، يعرف بالإِمام وكان واسع الباع في العلم والاطلاع، مع حدة الذهن، بلغ مرتبة الاجتهاد له عدة تآليف قيمة (ت: 536) (¬4). 16 - أبو القاسم مكي بن عبد السلام الرميلي (ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء لوحة: 380 وتذكرة الحفاظ 1994) من كبار الحفاظ مؤرخ رحالة، كان حافظاً فقيهاً على مذهب الشافعي، قتل ببيت المقدس شهيداً محارباً مقبلاً غير مدبر سنة 492 (¬5). ¬

_ (¬1) ابن بشكوال الصلة 2/ 557 رقم 1123 (ط: تراثنا). (¬2) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 159 ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 212 ابن عماد: الشذرات 4/ 79. (¬3) ابن بشكوال: الصلة 2/ 563 رقم 1234 (ط: تراثنا). (¬4) ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 26، اليافعي: مرآة الجنان 3/ 267 ابن فرحون: الديباج 2/ 250 (ط: د. الأحمدي أبو النور) ابن عماد: الشذرات 4/ 114، مخلوف: شجرة النور الزكية 127. (¬5) ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب 1/ 477 الذهبي: العبر 3/ 334 السبكي: الطبقات =

17 - أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (ذكر في السراج 12/ ب) كان يعرف بابن أبي حافظ، عالم بالفقه والأصول والكلام، له مؤلفات كثيرة قيمة منها كتاب "الحجة على تارك المحجة" اعتمد عليه ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: 6/ 251 توفي رحمه الله عام 490 (¬1). 18 - أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي (ذكره المقري في نفح الطيب 2/ 234 ط: محيي الدين) عالم ثقة ثبت، سمع من ابن النقور، اشتهر بالورع يقول عنه ابن الجوزي: وقد نصب نفسه لتسميع الحديث طول النهار، وكنت أقرأ الحديث عليه وهو يبكي (¬2)، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته توفي سنة 538 (¬3). 19 - أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي (ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء لوحة 380). كان فقيهاً صالحاً له تصانيف قيمة روايات متسعة، ويعتبر من أعلى أهل مصر إسناداً، جمع له أحمد بن الحسن الشيرازي عشرين جزءاً خرجها عنه وسماها "الخلعيات" (ت: 492) (¬4). 20 - أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي (ذكره في الأحكام 1161) فقيه واعظ أصولي جدلي، شيخ الحنابلة في وقته، كان قوي الحجة، اعتقد مذهب الاعتزال في حداثته ثم تاب ورجع إلى حضيرة أهل السنة ¬

_ = 5/ 332 الأسنوي: الطبقات 1/ 583 ابن عماد: الشذرات 3/ 398. (¬1) ابن عساكر: تبيين كذب المفتري 286، النووي: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 125، الذهبي: العبر 3/ 329، السبكي: الطبقات 5/ 351، الإسنوي: الطبقات 2/ 389، اليافعي: مرآة الجنان 3/ 152. (¬2) قلت: وهكذا حال الصالحين وأستاذي الشيخ سليمان دنيا كان أثناء قراءتي عليه هذا البحث -يبكي عند ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه شهادة مني أسجلها في هذا البحث. (¬3) مشيخة ابن الجوزي 61، 92 الذهبي: العبر 4/ 104. (¬4) ابن خلكان، وفيات الأعيان 1/ 425 الذهبي: العبر 3/ 334 السبكي: الطبقات 5/ 253، الأسنوي: الطبقات 1/ 479، اليافعي: مرآة الجنان: 3/ 255، السيوطي: حسن المحاضرة 1/ 184 ابن عماد: الشذرات 3/ 398.

والجماعة- مع بقايا رواسب الاعتزال. له كتاب الفنون. قال عنه الذهبي: لم يصنف في الدنيا أكبر منه (ت: 513) (¬1). 21 - أبو الحسن علي بن سعيد العبدري، من أهل جزيرة ميورقة قال ابن بشكوال: سمع من أبي محمد بن حزم ورحل إلى المشرق وحج ودخل بغداد وترك مذهب ابن حزم وتفقه عند أبي بكر الشاشي، أخبرني بذلك القاضي أبو بكر بن العربي، وذكر أنه صحبه ببغداد وأخذ عنه وأثنى عليه وقال لي تركته حياً ببغداد سنة 491 وتوفي بعد ذلك (¬2). 22 - أبو الفوارس شجاع بن فارس بن حسين بن فارس الذهلي السهروردي البغدادي (ذكره ابن خير في الفهرست 309) من العلماء الأثبات، له ذيل على تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ت: 507) (¬3). 23 - أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني الأنصاري الدمشقي (ذكره في السراج 49/ ب) كان حافظاً مكثراً بارعاً في العلم، شديد العناية بالحديث، له تآليف جليلة (ت: 524) (¬4). وأكتفي بهذا القدر من الشيوخ إضافة إلى من ذكرهم في متن "قانون التأويل" والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 556 ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 188 ابن حجر: لسان الميزان 4/ 234، ابن عماد: الشذرات 4/ 35. (¬2) ابن بشكوال: الصلة 2/ 422 رقم 906. (¬3) الذهبي: العبر 4/ 13 تذكرة الحفاظ 1240 السيوطي: طبقات الحفاظ 252. (¬4) الذهبي: العبر 4/ 63، الإسنوي: طبقات الشافعية 1/ 102 ابن عماد: الشذرات 4/ 73.

المبحث الثاني تلاميذه

المبحث الثاني تلاميذه مدخل: لقد علمنا فيما مضى مكانة ابن العربي العلمية، ولكن حقيقته لا تبدو واضحة، وصورته لا تكون جلية إلاَّ إذا وقفنا على آثاره في تلاميذه، فإن التلميذ أثر من آثار أستاذه، وثمرة من ثماره، يشيع بها ذكره ويعرف قدره وينشر علمه، وإن كبار الأئمة السابقين والعلماء المتقدمين ما كنا نعرف عنهم شيئاً لولا الله سبحانه ثم تلامذتهم الذين نشروا في المشرق والمغرب علمهم، وحملوا للناس في شتى البقاع آثارهم. ولقد كان الِإمام ابن العربي محظوظاً من جهة تلاميذه فقد كان مجلسه عامراً بطلبة العلم من أفاضل عصره، فلا غرو أن تخرّج بة جم غفير من العلماء، وقد برعوا في شتى الفنون، فكان منهم الفقيه البارع، والمحدث الحافظ، والمؤرخ الحاذق، وغيرهم على اختلاف تخصصاتهم، وقد أسهم هؤلاء إسهاماً فعالًا في نشر مؤلفاته، فتناولوها بالنسخ والتعليق والتذييل.

ولما كان تلامذته ورواة أخباره وحملة مصنفاته كثيرين، فقد حاولت أن أضع معجماً لهم، مع الاعتراف بأن عملي هذا ينقصه التتبع المحيط لكل تلاميذه. ولكنها محاولة متواضعة، تتلوها -بإذن الله- محاولات جادة من باحثين مقتدرين يكملون النقص ويصلحون الخطأ. 1 - أبو إسحاق إبراهيم بن حارث الكلاعي: من أهل إفريقية، دخل الأندلس وسمع بإشبيلية من أبي بكر بن العربي كتاب "الشِّهاب" للقضاعي وبعض تآليفه وذلك سنة: 509، عاد إلى بلده وكانت له بها نباهة، توفي في حدود: 560 (¬1). 2 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن موسى الأشعري: المُكَتِّب: من أهل إشبيلية، يعرف بالطرياني، سمع من أبي بكر بن العربي، وكان رجلاً صالحاً يعلم القرآن، توفي بعد سنة: 590 (¬2). 3 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يوسف الأنصاري الخزرجي: أندلسي، يعرف بالتطيلي، روى عن أبي بكر بن العربي، انتقده ابن الأبار بعنف ونسبه إلى التخليط والغلط، عفى الله عن الجميع (¬3). 4 - أبو إسحاق إبراهيم بن صالح المرادي: من أهل المرية، يعرف بابن السَّمَاد، سمع من أبي بكر بن العربي، تصدَّر للِإقراء ببلده، ووليَ القضاء والخطبة بها، توفي بلورقة سنة: 547 وقيل سنة: 548 والأول أصح (¬4). 5 - أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن طلحة، المقْرِىء: من أهل ¬

_ (¬1) التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار: الترجمة رقم (458) .. (¬2) م، ن: 414. (¬3) م، ن: 403. (¬4) م، ن: 381.

إشبيلية، وسكن قرطبة، سمع من أبي بكر بن العربي جامع الترمذي وغير ذلك، تَصَدَّر للإقراء بإشبيلية (¬1). 6 - أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن الأمين: من أهل قرطبة، سمع من أبي بكر بن العربي في قرطبة، وكان من أهل الضبط والإتقان والتقدم في صناعة الحديث وحفظ اللغة، له مؤلفات (ت: 544) (¬2). 7 - أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن القائد الوهراني، وشهر بالحَمْزِيَّ لأن أصله من "حمزة" موضع بناحية الميسيلة عمل بجاية، ويعرف بابن قرقول، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان فقيهاً نظَّارًا أديباً حافظاً، له بصر بالحديث ورجالهِ (+ 505 ت: 569) (¬3). 8 - أبو جعفر أحمد بن أبي بكر بن غلبون التُّجِيبِي: روى عن أبي بكر ابن العربي، وكان فقيهاً مشاوراً (¬4). 9 - أبو حفص أحمد بن أبي الحسن بن واجب القيسي: من أهل بلنسية، باجيّ الأصل، أجاز له ابن العربي ولم يلقه، وكان فاضلاً، كامل الاستقلال بعلم الحديث، حافظاً متسع الرواية، ثقة عدلاً ضابطاً (+ 537 ت: 611) (¬5). 10 - أبو جعفر أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي: من غرناطة، ويعرف بابن القصير، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان محدثاً فقيهاً عاقداً ¬

_ (¬1) م، ن: 401. (¬2) "المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي" لابن الأبار: 63 - 64، بغية الملتمس للضبي: 223. (¬3) ابن الأبار: التكملة: 394، الذيل والتكملة للمراكشي (تحقيق ابن شريفة) ص 37، وسأكتفي بالإشارة إلى ما حققه ابن شريفة برمز "ش" والمراد بعلامة (+) ولادة المترجم له. (¬4) الذيل والتكملة (ش): 60، 726. (¬5) الذيل والتكملة (ش) 713، المرقبة العليا للنباهي: 116، برنامج الرعيني: 47 - 49 الديباج المذهب لابن فرحون: 56، الإعلام للمراكشي: 1/ 347.

للشروط، أديباً حافظاً (توفي قبل: 580) (¬1). 11 - أبو القاسم أحمد بن أحمد بن عبد الله: روى عن أبي بكر بن العربي، كان إماماً صالحاً (¬2). 12 - أبو جعفر أحمد بن أحمد بن صدقة السلمي: من غرناطة، روى عن أبي بكر بن العربي وصحبه وكان راوية للحديث عالماً بالفقه وأصوله (ت: 559) (¬3). 13 - أبو جعفر أحمد بن بقاء اليَحْصُبِي: من شَنْتَمَرِيَّة، له رواية عن ابن العربي وغيره (ت: 544) (¬4). 14 - أحمد بن الحاج مروان بن محمد التُّجِيبي: أخذ القراءات عن أبي بكر بن العربي، وكان مقرئاً ضابطاً، محدثاً عدلاً، نحوياً ماهراً، أقْرَأ القرآن وأسمع الحديث، له تآليف (¬5). 15 - أبو العباس أحمد بن حسن بن إبراهيم: من بلنسية، سمع أبا بكر ابن العربي وأكثر عنه، وكان فقيهاً حافظاً للمسائل، بصيراً بعقد الشروط، ذا عناية برواية الحديث، (ت: 547) (¬6). 16 - أبو جعفر أحمد بن الحسن القشيري: من قرطبة، ويعرف بابن صاحب الصلاة، سمع من أبي بكر بن العربي وأخذ عنه جامع الترمذي وغير ذلك، وكان من أهل الحديث والإتقان لما رواه (¬7). ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (ش): 25، بغية الملتمس: 159، الديباج المذهب: 44. (¬2) الذيل والتكملة (ش): رقم (6) .. (¬3) ن. م: 5، الديباج: 44 نقلاً عن المراكشي في الذيل .. (¬4) ابن الأبار: المعجم: 33. (¬5) الذيل والتكملة (ش): 825. (¬6) ابن الأبار: التكملة: 159، والمعجم: 35، الذيل والتكملة (ش): 107. (¬7) ابن الأبار: التكملة: 195، الذيل والتكملة (ش): 111.

17 - أبو عمر أحمد بن حكم الكلاعي: روى عن أبي بكر بن العربي (¬1). 18 - أحمد بن خليل بن عبد الله السكوني: روى عن أبي بكر بن العربي، كان زاهداً صادعاً بالحق في مصالح المسلمين، عارفاً بالقراءات ووجوهها، عالماً بالحديث وطرقه وصحيحه من سقيمه، مشاوراً بصيراً بالفتوى: معتنياً بأصول الفقه وعلم الكلام. توفي بليلة سنة: 581 (¬2). 19 - أبو جعفر أحمد بن طلحة بن عدنان المحاربي: من غرناطة، روى عن ابن العربي، كان فقيهاً جليلاً، استشهد في دخول اللمتونيين غرناطة سنة: 539 (¬3). 20 - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحيم الأنصاري: من المرية، سكن مرسية، يعرف بابن البراذعي، أجاز له ابن العربي، وكان مقرئاً متصدراً، ولم يكن ضابطاً، كان حياً سنة: 559 (¬4). 21 - أبو القاسم أحمد بن محمد الأنصاري: له إجازة من أبي بكر بن العربي (¬5). 22 - أبو العباس أحمد بن محمد الأنصاري: المُقْرىء: أصله من بادية بلنسية، وسكن المرية وبها نشأ ويعرف بابن اليتيم وبالبلنسي وبالأندرشي أيضاً، حدث بالِإجازة عن ابن العربي، وكان حافظاً متحققاً بالقراءات، مشاركاً في الحديث والعربية، تصدر للإقراء مُدة طويلة. (ت 581) (¬6). ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (ش): 124. (¬2) ن، م: 148. (¬3) ن، م: 196، ابن الأبار- الحلة السيراء: 2/ 211، الديباج المذهب: 45 - 46 (نقلاً عن الذيل باختصار). (¬4) ابن الأبار: التكملة 180، الذيل والتكملة (ش): 683. (¬5) الذيل والتكملة (ش): 591. (¬6) ابن الأبار: التكملة: 221، والمعجم 53، الذيل والتكملة (ش) 655.

23 - أبو العباس أحمد بن محمد بن خالد: روى عن أبي بكر بن العربي (¬1). 24 - أبو العباس أحمد بن محمد بن مقدام الرعيني: من إشبيلية، سمع من ابن العربي كثيراً وصحبه في توجهه إلى مراكش، وحضر وفاته ودفنه بمدينة فاس وكان مقرئاً زاهداً أديباً حافظاً (+ 516 ت: 604) (¬2). 25 - أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج اللخمي: من إشبيلية، يعرف بابن الزاهد، روى عن أبي بكر بن العربي (¬3). 26 - أبو القاسم أحمد بن عبد العزيز الكلاعي: من إشبيلية، يعرف بالحوفي إذ أصله من حوف مصر، سمع من أبي بكر بن العربي، وكان فقيهاً حافظاً بصيراً بعقد الشروط، فرضياً ماهراً، وله في الفرائض تصانيف كثيرة، استقضى بإشبيلية مرتين، فكان شديد العباس على أهل الشر والدعارة (ت: 588) (¬4). 27 - أبو بكر أحمد بن محمد بن مالك: من بلنسية وأصله من سرقسطة، روى عن ابن العربي، وكان أديباً كاتباً، شاعراً محسناً (ت: 571) (¬5). 28 - أبو جعفر أحمد بن محمد المرادي: من غرناطة، روى عن ابن العربي، وكان مقرئاً مجوداً له عناية برواية الحديث توفي بعد: 540 (¬6). 29 - أبو الخطاب أحمد بن محمد بن واجب القيسي: من بلنسية، ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (ش): 606. (¬2) ابن الأبار: التكملة: 252، الذيل والتكملة (ش): 537، غاية النهاية: 1/ 104. (¬3) الذيل والتكملة (ش): 691. (¬4) ابن الأبار: التكملة: 227، الذيل والتكملة (ش): 608، الديباج المذهب: 54. (¬5) ابن الأبار: التكملة: 205، الذيل والتكملة (ش): 750. (¬6) الذيل والتكملة (ش): 279.

كتب إليه أبو بكر بن العربي وأجاز له ولم يسمع منه ويعتبر من أئمة المحدثين، حامل الرواية بشرق الأندلس وآخر المحدثين المسندين، وليَ القضاء ببلنسية وشاطبة حقباً عدة توفي بمراكش سنة 614 (¬1). 30 - أبو جعفر أحمد بن محمد بن يونس: من مربيطر، ويعرف بالمرباطري، رحل إلى أبي بكر بن العربي بإشبيلية سنة: 533 فسمع منه كثيراً من روايته وأجاز له، وقد كان - رحمه الله - من أهل العناية بالرواية وسماع الحديث، ذكره ابن الأبار في معجم أصحاب ابن العربي "مفقود" (¬2). 31 - أبو العباس محمد بن مروان بن محمد التجيبي: من المرية، يعرف بابن شاب، سمع من أبي بكر بن العربي، أقرأ القرآن وحدث وعلم العربية (¬3). 32 - أبو العباس أحمد بن معبد بن وكيل التجيبي: الزاهد، يعرف بابن الِإقليشي، سمع الحديث من جماعة منهم ابن العربي، وكان مفسراً للقرآن، عالماً عاملاً، محدثاً راوية عدلاً، له تآليف عديدة توفي بصعيد مصر سنة: 551 (¬4). 33 - أبو العباس أحمد بن نصرون: روى عن أبي بكر بن العربي (¬5). 34 - أبو عامر أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري: من قرطبة يعرف بابن أبيّ، صحب أبا بكر بن العربي طويلاً وأكثر عنه وكان - رحمه الله- كامل العناية بشأن الرواية ولقاء الشيوخ والأخذ عنهم مع الثقة والعدالة، استقضى بقرمونة ثم باستجة، وتوفي بالمنكب سنة: 549 (¬6). ¬

_ (¬1) ابن الأبار: التكملة: 276، المرقبة العليا: ص 196. (¬2) ابن الأبار: التكملة: 150، الذيل والتكملة (ش): 788. (¬3) التكملة: 100. (¬4) التكملة: 167، الذيل والتكملة (ش): أخبار وتراجم أندلسية لإحسان عباس: 64. (¬5) الذيل والتكملة (ش): 853. (¬6) التكملة 164، المعجم: 35 - 36، الذيل والتكملة (ش): 265.

35 - أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن موسى الخزرجي: روى عن أبي بكر بن العربي (¬1). 36 - أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الأنصاري الخزرجي: ولد بالمرية ونشأ بسبتة ثم فاس واستوطن مراكش، روى عن أبي بكر بن العربي وكان - رحمه الله - محدثاً مكثراً ثقة ضابطاً مقرئاً مجوداً، حافظاً للفقه، متقدماً في علم الكلام: عاقداً للشروط بصيراً بعللها، له تآليف، تولى أحكام مراكش والصلاة بمسجدها- ثم ولاّه أبو محمد بن عبد المؤمن قضاء غرناطة وإشبيلية (ت: 569) (¬2). 37 - أبو العباس (وأبو جعفر) أحمد بن عبد الرحمن بن عمير اللخمى: قاضي الجماعة، من قرطبة رحل إلى إشبيلية وسمع من أبي بكر بن العربي بعد سماعه عنه بقرطبة وأكثر عنه، كان مقرئاً مجوداً محدثاً مكثراً قديم السماع واسع الرواية عاليها ضابطاً لما يحدث به ثقة ثبتاً، إلاَّ أنه امتحن بضياع أسمعته عندما استولى الروم -أذلهم الله- على مدينة المرية، فمال إلى العربية فكان بصيراً بالنحو مجتهدا فيه، منفرداً بآراء ومذاهب شذ بها عن مألوف أهلها، إلى جانب تحققه بعلم الأصول والكلام، وُلِّيَ قضاء فاس ومراكش (+ 511 ت: 593) (¬3). 38 - أبو عمر أحمد بن عبد الله اللخمي الباجي: من إشبيلية، روى عن أبي بكر بن العربي وسمع منه برنامجه وأجاز له. (ت: 574) (¬4). ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (ش): 280. (¬2) الذيل والتكملة (ش): 292، تحفة القادم: 4 الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 1/ 189 - 193، الديباج المذهب 48 - 50، الأعلام للمراكشي 1/ 227 - 232 (نقلاً عن الإحاطة). (¬3) التكملة: 234، الذيل والتكملة (ش): 291، بغية الملتمس 193 غاية النهاية: 1/ 66 جذوة الاقتباس: 71 الديباج: 47، الإعلام للمراكشي: 1/ 233. (¬4) التكملة: 209.

39 - أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن نصر الأزدي: من بلنسية، روى عن أبي بكر بن العربي، كان فقيهاً أصولياً، فرضياً، أديباً، ينظم الشعر فيجيد، توفي بالجزائر سنة 547 أو 548 (¬1). 40 - أبو العباس أحمد بن عبد الله بن سابق: من إشبيلية، سمع من أبي بكر بن العربي، كان موصوفاً بالفضل والصلاح، وقدم لصلاة الفريضة ببعض مساجد بلده (¬2). 41 - أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن شراحيل الهَمْذَاني: من غرناطة أجاز له أبو بكر بن العربي، كان قديماً من ذي الثروة ثم أقل بأخرة فتلبس بعقد الشروط ولم يكن فيها من ذوي النفوذ (+ 522 ت: 606) (¬3). 42 - أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن سماعة اللخمي: من إشبيلية، كان يعرف بالباجي (نسبة إلى باجة القيروان) روى عن أبي بكر بن العربي، كان محدثاً عدلاً فاضلاً (ت: 574) (¬4). 43 - أبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن عبد الحق الخزرجي: من قرطبة، نزل بجاية، روى عن ابن العربي، وكان معنياً بالحديث وروايته وكف بصره في آخر عمره له تصانيف مفيدة- توفي بفاس سنة 582 (¬5). 44 - أبو العباس أحمد بن عبد العزيز بن خلف الأنصاري: من بلنسية، ويعرف بأبي طورينه، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان محدثاً مكثراً عدلاً ثقة فيما يرويه (¬6). ¬

_ (¬1) التكملة: 161، الذيل والتكملة (ش): 217، الديباج المذهب 46 (نقلاً عن الذيل باختصار) (¬2) التكملة: 230. (¬3) التكملة: 256، الذيل والتكملة (ش): 202. (¬4) الذيل والتكملة (ش): 343. (¬5) التكملة: 223، الذيل والتكملة (ش): 308، جذوة الاقتباس: 60 (نقلاً عن التكملة) الديباج:50 (نقلاً عن الذيل والتكملة). (¬6) الذيل والتكملة (ش): 316.

45 - أبو القاسم أحمد بن عبد الودود بن صالح الهلالي-من غرناطة، سكن المنكب يعرف بابن سمجون وهو لقب لعبد الله جد جده- كتب إليه ابن العربي مجيزاً ولم يلقه، وكانت له المعرفة الكاملة بطرق الرواية وله عناية بالشعر والأدب استقضى بالمنكب وغيرها من بنيات غرناطة علت روايته لعلو سنه، وعرف بالثقة والعدالة (+ 528 ت: 608) (¬1). 46 - أبو جعفر أحمد بن علي بن أبي بكر التجيبي: ويعرف بابن الضحاك، أجاز له ابن العربي، وكان محدثاً عدلاً فاضلًا ولي اختزان الطعام بغرناطة (ت: 587) (¬2). 47 - أبو جعفر أحمد بن علي بن خلف القيسي، العطار، ويعرف بالحصار: من غرناطة أجاز له ابن العربي وكان من أهل الخير والصلاح والعناية بالرواية ثقة صدوقاً (ت: 598) (¬3). 48 - أبو جعفر أحمد بن علي بن عون الله الأنصار: من دانية، نزل بلنسية يعرف بالحصار أجاز له ابن العربي وكان خاتمة المقرئين ببلنسية وكان محدثاً ثقة عالي الرواية، اضطرب بأخرة في روايته (ت: 609) (¬4). 49 - أبو القاسم أحمد بن عمر الخزرجي: من قرطبة يعرف بالمكناسي لنزوله بها، روى عن أبي بكر بن العربي كان محدثاً راوية من أهل العدالة والثقة (ت: 616) (¬5). 50 - أبو العباس أحمد بن عمر المعافر: من مرسية، يعرف بابن افْرَنْدُو، روى عن ابن العربي، وكان شيخاً فاضلاً زاهداً من أصحاب أبي ¬

_ (¬1) التكملة: 259، الذيل والتكملة (ش): 351. (¬2) الذيل والتكملة (ش): 369. (¬3) التكملة: 239. (¬4) الذيل والتكملة (ش): 431، غاية النهاية: 1/ 90. (¬5) جذوة المقتبس: 1/ 138 - 139، الذيل والتكملة (ش): 445.

حامد الغزالي (توفي في حدود: 570) (¬1). 51 - أبو المعالي إدريس بن يحيى بن يوسف: من إشبيلية، يعرف بالواعظ، سمع من ابن العربي بقرطبة سنة 531 وكان يتجول في البلاد للوعظ والتذكير فينتفع به الناس. تأخرت وفاته (¬2). 52 - إسماعيل بن الحضرمي: من أهل إشبيلية، حدث عن أبي بكر ابن العربي بكتاب "الشهاب" .. للقضاعي وذكر أنه سمعه بقراءته عليه، ذكره ابن الأبار في معجم أصحاب ابن العربي (مفقود) (¬3). 53 - أبو علي الحسن بن عبد الله الأندلسي: المعروف بابن تابو لقي بأغمات أبا بكر بن العربي وكان من أهل العلم والفصل يميل إلى الزهد (ت: 604) (¬4). 54 - أبو علي الحسن بن علي بن خلف الأموي: من قرطبة وسكن إشبيلية يعرف بالخطيب، سمع الحديث من أبي بكر بن العربي، كان يميل إلى الأدب، خطب ببعض جهات إشبيلية، له تصانيف مفيدة (¬5). 55 - أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال: من قرطبة، صاحب التاريخ المشهور "الصلة" الذي وصل به كتاب ابن الفرضي، آخر المسندين بقرطبة والمسلم له في حفظ أخبارها ومعرفة رجالها، سمع بإشبيلية من أبي بكر بن العربي، وولي بإشبيلية قضاء بعض جهاتها لأبي بكر بن العربي (+ 494 ت: 578) (¬6). 57 - أبو سليمان داود بن يزيد بن عبد الله السعدي النحوي: من قلعة ¬

_ (¬1) التكملة: 190، المعجم: 46 - 47، الذيل والتكملة (ش): 457. (¬2) المعجم 68 - 69. (¬3) التكملة: 491. (¬4) أنس الساري للقيسي: ص21 التشوف للنادلي: ص 402. (¬5) التكملة (698). (¬6) ن، م: 787.

بني يحصب أجاز له ابن العربي، ويعتبر بقية النحويين في وقته مشاركاً في علم الحديث (ت: 573) (¬1). 58 - أبو الحسن زيادة الله بن محمد الثقفي: من مرسية، يعرف بابن الحلال، أجاز له ابن العربي، كان يُقرىء الحديث ويفسره، ولي قضاء بلنسية (ت: 548) (¬2). 59 - أبو جعفر طارق بن موسى المعافري: المقرئ: من بلنسية، روى عن ابن العربي في تردده غازياً على بلنسية وكان شيخاً فاضلاً مقرئاً من أهل التجويد والإتقان والتقدم في هذه الصناعة والتحقق بها تولى الحسبة والمواريث (ت: 566) (¬3). 60 - أبو محمد طلحة بن سعيد بن عبد العزيز: من أهل بطليوس يعرف بابن القبطرنة، كانت بينه وبين القاضي ابن العربي صداقة، ولما توفي ابن القبطرنة رثاه ابن العربي بأبيات وقف عليها ابن الأبار (¬4). 61 - أبو عيسى لب بن عبد الجبار بن عبد الرحمن: من أهل شنتمرية يعرف بابن ورهزن، سمع القاضي أبا بكر بن العربي ولقيه بكولية من الثغور الشرقية إذ غزاها مع الأمير أبي بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين في جمادى الآخرة سنة 522 وولي الأحكام بشاطبة وتوفي سنة: 538 (¬5). 62 - أبو مروان مالك بن عبد الرحمن بن أبي المليح القشيري: قال ابن الأبار: أحسبه من أهل إشبيلية، روى عن ابن العربي، وكان في عداد ¬

_ (¬1) ن، م: 855. (¬2) ن، م: 903. (¬3) التكملة: 930، الذيل والتكملة (ش): 270. (¬4) التكملة: 301، الذيل والتكملة (ش): 911 قلائد العقيان لابن خاقان: 148. (¬5) التكملة: 941، الذيل والتكملة (ش): 1130.

الأدباء النبهاء والحفاظ الأيقاظ له تآليف حسنة، ذكره ابن الأبار في معجم أصحاب ابن العربي (¬1). 63 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد الأنصاري: من مالقة، يعرف بابن الفخار، سمع من أبي بكر بن العربي، وأكثر عنه واختص به، وكان صدراً في حفظ الحديث مقدماً في ذلك، معروفاً بحفظ المتون والأسانيد، عارفاً بالرجال واللغة (+ 511 ت: 590) (¬2). 64 - أبو القاسم محمد بن إبراهيم بن خيره: من أهل قرطبة، يعرف بالمواعيني، سمع من أبي بكر بن العربي وروى عنه ملح وطرائف أدبية، كان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً له تصانيف منها "ريحان الآداب وريعان الشباب" وقفت عليه مخطوطاً في الخزانة الملكية بالرباط تحت رقم (1406) توفي رحمه الله سنة 564 (¬3). 65 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن المعتصم اللخمي: من إشبيلية يعرف بالزبيدي وضبطه ابن الزبير بالزُبيدي وهو خطأ على رأي ابن الأبار. أجاز له ابن العربي ما رواه وصنفه وكان فقيهاً جليلًا استقضى عدة مرات بجهات مراكش (ت: 610) (¬4). 66 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد: من دروقة، يعرف بابن زرياب، لقي أبا بكر بن العربي وتناول منه مختصر ابن أبي زيد، وكان من أهل العلم والفضل فقيهاً مشاوراً. (ت 522) (¬5). ¬

_ (¬1) التكملة: 1803. (¬2) التكملة: 1480، الذيل والتكملة (السفر: 6) رقم (218) العبر للذهبي: 4/ 274 وتذكرة الحفاظ: 1355. (¬3) التكملة: 1407، الذيل والتكملة (السفر: 6): 221، الإحاطة لابن الخطيب: 2/ 338 وفيها أنه توفي سنة 564، المغرب في حلى المغرب: 1/ 242. (¬4) التكملة: 1547، الذيل والتكملة (السفر: 6) 206. (¬5) التكملة: 1236.

67 - أبو عبد الله محمد بن أبي أحمد بن مأمون الأنصاري: من بلنسية، كتب إليه ابن العربي مجيزاً ولم يلقه، أو لقيه ولم يقرأ عليه. وكان مجوداً للقرآن مبرزاً في النحو، له مؤلفات مفيدة (ت: 586) (¬1). 68 - أبو بكر محمد بن أبي بكر بن أبي الخليل التميمي: من المرية، يعرف بابن ولَّم أو ابن ولام، روى عن ابن العربي وكان من أهل الفهم والتيقظ، مشاركاً في الأدب (ت: 557) (¬2). 69 - أبو القاسم محمد بن أبي بكر بن غلبون التجيبي: من أهل لورقة، لقي أبا بكر بن العربي بقرطبة، وكتب عن ابن العربي مسلسلاته (¬3). 70 - أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة: من المرية، سكن مراكش، روى عن أبي بكر بن العربي في المرية، ثم جاوره بمراكش مدة قال: كنت أجالسه ليلاً ونهاراً، وكان -رحمه الله- فقيهاً حافظاً، محدثاً مسنداً، كتب لابن تاشفين ثم لابنه ثم نزع عن ذلك وانقطع إلى نشر العلم وإسماع الحديث، توفي بمراكش سنة 576 (¬4). 71 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري، الزاهد: من إشبيلية، يعرف بابن المجاهد لأن أباه كان كثير الجهاد والغزو في السرايا والجيوش، تفقه بأبي بكر بن العربي ولازم مجلسه نحواً من ثلاثة أشهر ثم تخلف عنه وترك التردد عليه، فقيل له في ذلك فقال: كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان وكان صالحاً تقياً مع الحظ الوافر من الفقه والقراءات (+ 483 ت: 574) (¬5). ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (السفر: 6) 394. (¬2) ن، م: 348. (¬3) ن، م: 351. (¬4) ن، م: 538. (¬5) التكملة: 1423، الذيل والتكملة (السفر: 5) 1261، العبر للذهبي 4/ 220 - 221.

72 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف اللخمي: من إشبيلية، أخطأ ابن الأبار فعده من الغرباء عن الأندلس، روى عن أبي بكر بن العربي وكان أديباً لغوياً له مؤلفات كثيرة كان حياً سنة 557 (¬1). 73 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعد الفهري: من مرسية، يعرف بابن الصقيل، ويلقب بأبي هريرة لتتبعه الآثار وروايتها وعنايته بها أجاز له ابن العربي مكاتبة، وكان ذا عناية بالعلم، صنف في أنواع من علم الحديث وتاريخ رجاله وقد ضعف (ت: 550) (¬2). 74 - أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إبراهيم الأنصاري: من أهل غرناطة، يعرف بابن بداوة، سمع من ابن العربي المسلسلات من جمعه، وكان من أبدع الناس خطأ وأجودهم ضبطاً تحرف بالطب، وكان حياً في سنة 598 (¬3). 75 - أبو عبد الله محمد بن الحسن بن كامل المالقي: ابن الفقيه المشاور المعروف بابن الفخاري، أديب شاعر خطاط، قال القفطي: رأيت بخطه كتاب عارضة الأحوذي في شرح كتاب الترمذي لابن العربي، وقد قرأه عليه، والخط في غاية الحسن والصحة (ت: 539) (¬4). 76 - أبو بكر محمد بن خير بن يغمور اللمتوني: من إشبيلية، لازم ابن العربي وسمع منه كثيراً وأخذ عنه ما ينيف على 125 كتاباً أوردها بأسانيدها في فهرسته وكان مقرئاً مجوداً، محدثاً متقناً، نحوياً لغوياً، واسع المعرفة (ت: 575) (¬5). 77 - أبو عبد الله محمد بن مالك الغافقي: من مرسية، يعرف بالمولى ¬

_ (¬1) التكملة: 1709. (¬2) التكملة: 1340، الذيل والتكملة (السفر 5): 1267. (¬3) التكملة: 1513، الذيل والتكملة (السفر 6): 427. (¬4) المحمدون من الشعراء للقفطي: 407 - 408، الذيل والتكملة (السفر 6): 437. (¬5) التكملة: 1424، العبر للذهبي: 4/ 225، الديباج المذهب 289.

نسبة إلى بعض أعمالها، لقي أبا بكر وسمع منه مسلسلاته وكان فقيهاً على مذهب مالك حافظاً له بصيراً به. (ت: 590) (¬1). 78 - أبو عبد الله محمد بن مروان بن يونس: من أهل لَرِيّة وسكن بلنسية، يعرف بالأديب، سمع من أبي بكر بن العربي ولي خطة السوق، أخذ عنه ابن عياد وكتب عنه عقيدة أبي بكر المرادي وأشعاراً لابن العربي توفي ببلنسية سنة 542 (¬2). 79 - أبو بكر محمد بن مسعود الخنشني، النحوي: من أهل جيان، يعرف بابن ركب أخذ العربية والآداب عن ابن العربي كان من جلة النحويين وأئمتهم، حافظاً للغريب واللغة، يقرض الشعر له تآليف حسان (ت: 544) (¬3). 80 - أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن خَلَصَة اللخمي النحوي: من بلنسية سمع من أبي بكر بن العربي وصحبه، وهو أول من حدث عن ابن العربي وتوفي قبله بمدة قيل سنة (520) وقيل 519، وَرَجَّحَ ابن الأبار سنة 521، وكان ابن العربي يُجِلُّه ويثني عليه بعلمه وتقدمه بصناعته وربما زاره في منزله. وله رسالة انتقد فيها كتاب الانتصار لابن السيد البطليوسي الذي رد فيه على ابن العربي، وهي كما يقول ابن الأبار: من أجود الرسائل (¬4). 81 - أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي: من مرسية، ورئيسها في الفتنة، أجاز له ابن العربي، كان يذهب في جميع ما يحمله إلى الدراية، وطالع العلوم القديمة (الفلسفة) فبرز فيها وصار إماماً من أئمتها، وله فيها أوضاع وشروح اعتمدها أهل ذلك الشأن، خاطب عبد ¬

_ (¬1) التكملة: 1476 غاية النهاية 2/ 139، تذكرة الحفاظ للذهبي: 1366، والعبر له: 4/ 225. (¬2) م، ن: 1234. (¬3) التكملة: 1298. (¬4) التكملة: 1215، المعجم: 113، الذيل والتكملة (السفر- 6): 894.

المؤمن بمقالة علمية يقرر فيها صحة أمر المهدي القائم بأمر الله ويَهْدِيها إليه. (ت: 574) (¬1). 82 - أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز القيسي: من شاطبة، ويعرف بابن تُريس، وشهر بالمكناسي، لقي أبا بكر بن العربي فناوله وأجاز له تآليفه وروايته متسعة متحققاً بالقراءات بصيراً بوجوهها (ت: 561) (¬2). 83 - أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد العتقي: من أهل مرسية، له رواية عن ابن العربي سمع منه أكثر سباعياته ولم يحدث (¬3). 84 - أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق بن يوسف الكلبي: من إشبيلية، روى عن أبي القاسم الهوزني وابن العبربي وصحبه مدة طويلة ورحل إلى المشرق (ت: 563) (¬4). 85 - أبو بكر محمد بن عبد الله بن الجد الفهري- الفقيه الحافظ المستبحر: من أهل إشبيلية، عُني بالعربية فبرع فيها ثم مال إلى دراسة الفقه ومطالعة الحديث وقدم للشورى مع أبي بكر بن العربي ونظرائه من الفقهاء بإشبيلية سنة 521، لم يشتغل بالتآليف مع غزارة علمه واستبحاره في العلم ما خلا كتاباً مختصراً في الزكاة أملاه في صغره، قال ابن رُشَيد السبتي: قال أبو علي الشلوبين: وأسرَّ إلى (أي ابن الجد) أنه سمع الترمذي على ابن العربي، ولا أعلمه ذكر سماعاً على ابن العربي إلا في هذه المرة توفي رحمه الله سنة 586 (¬5). ¬

_ (¬1) التكلملة: 1418، الحِلَّةُ السَّيَرَاء لابن الأبار: 2/ 227، الذيل والتكملة (السفر-6): 896، نظم الجمان لابن الأحمر 50 - 73 وفيه رسالته في أمر المهدي. (¬2) التكملة: 1376، الذيل والتكملة (السفر- 6): 958، المعجم: 180. (¬3) التكملة: 1379، الذيل والتكملة (السفر- 6): 965. (¬4) الصلة لابن بشكوال: 2/ 593. (¬5) التكملة: 1469، الذيل والتكملة (السفر- 6): 840، إفادة النصيح لابن رشيد ص 72، الديباج المذهب: 302 شذرات الذهب.

86 - أبو بكر محمد بن علي الزهري: من إشبيلية، روى عن أبي بكر ابن العربي وكالمه وهو صغير السن، كان متواضعاً كريم النفس، عُني بالحديث كثيراً وتقدم في علم الطب (+ 535 ت: 623) (¬1). 87 - أبو بكر محمد بن عبد الله بن ميمون العبدري: من قرطبة، روى عن ابن العربي كان متقدماً في علم اللغة، شاعراً مجوداً كانت له معشرات في الغزل كفرها بمثلها في الزهد، له مؤلفات كثيرة (¬2). 89 - أبو بكر محمد بن عبد الله بن سيد إله التجيبي: من شاطبة، كتب إليه ابن العربي مجيزاً، كان عارفاً بالأخبار حافظاً لأسماء الرواة، له مؤلف وصل به صلة ابن بشكوال (ت: 558) (¬3). 90 - أبو عبد الله محمد به عبد الملك بن بشكوال الأنصاري: من قرطبة وهو أخ الراوية ابن بشكوال المعروف، روى عن ابن العربي وكان عارفاً بالفقه ملازماً لعقد الوثائق بصيراً بها (+ 519 ت: 567) (¬4). 91 - أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن عصام العبدري: من مالقة وسكن غرناطة يعرف بابن البيطار، سمع من أبي بكر بن العربي وأجاز له ما ألفه ورواه. ولد سنة 506 وتوفي رحمة الله عليه سنة 590 (¬5). 92 - محمد بن عبد الملك بن نصير الغافقي: من أهل مرسية، لقي أبا بكر بن العربي وسمع منه بإشبيلية سنة: 496. يقول ابن الأبار: ولا أعلمه حدث (¬6). 93 - أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي: من أهل غريب ¬

_ (¬1) الذيل والتكملة (السفر- 6): 1165. (¬2) التكملة: 1395، الذيل والتكملة (السفر-6): 836، الإحاطة لابن الخطيب: 3/ 85. (¬3) التكملة: 1362، الذيل والتكملة (السفر- 6): 739. (¬4) التكملة: 1429، الذيل والتكملة (السفر- 6): 1096. (¬5) التكملة: 1478، الذيل والتكملة (السفر- 6): 1071. (¬6) التكملة: 1263.

الأندلس، حدث في بعض تآليفه عن ابن العربي وقد جرت بينهما مخاطبات (¬1). 94 - أبو القاسم محمد بن علي الهمذاني: من وادآشي ويعرف بابن البُرَّاق، كتب إليه ابن العربي مجيزاً ولم يلقه وكان محدثاً حافظاً، راوية مكثراً ضابطاً ثقة، ذا نظر صالح في الطب (+ 529 ت: 596) (¬2). 95 - أبو الخطاب محمد بن عمر بن واجب القيسي: من بلنسية، لقي أبا بكر بن العربي سنة: 522 حين قدومه لبلنسية غازياً فناوله وأجازه، وكان - رحمه الله - نبيهاً نزيهاً، وُلّيَ قضاء ألش من كور مرسية، قتل بأريولة في الفتنة في حدود: 540 (¬3). 96 - أبو بكر (وأبو عبد الله) محمد بن عيسى بن بقي الغافقي: من مرسية، حدث بالموطأ عن أبي بكر بن العربي سنة: 529 (¬4). 97 - أبو بكر محمد بن شريح الرُّعَيْنِيّ: من إشبيلية، صحب أبا بكر ابن العربي في وجهته إلى المغرب وكان من نبلاء بلده ووجوههم (+ 503 ت: 563) (¬5). 98 - أبو عبد محمد بن يحيى الأنصاري: من أهل لَرِيّة، سمع من أبي بكر بن العربي وأجاز له سنة: 522، تصدر ببلده فأحيا رسم القرآن هنالك، ولم يكن لأهله قبله بصر بالتوحيد ولا بضبط حروف القرآن (ت: 547) (¬6). 99 - أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة: من مرسية وسكن ¬

_ (¬1) التكملة: 1295. (¬2) التكملة: 1501، الذيل والتكلملة (السفر- 6): 1241. (¬3) التكملة: 1289. (¬4) التكملة: 1228، المعجم: 106. (¬5) التكملة: 1379، الذيل والتكلملة (السفر- 6): 667. (¬6) التكملة: 1315.

شاطبة، سمع أبا بكر بن العربي وكان - رحمه الله - عارفاً بالسنن والآثار بصيراً باللغة والغريب، ذا حظ من علم الكلام، ولي القضاء وخطة الشورى ببلده (+ 496 ت: 600) (¬1). 100 - أبو الخيل مفرج بن محمد بن عصام الفهري: من لشبونة سكن قرطبة، سمع من أبي بكر بن العربي جامع الترمذي وغير ذلك وكان أستاذاً في العربية والآداب وله حظ في قرض الشعر (¬2). 101 - أبو عمران موسى بن حجاج بن أبي بكر: من أشِيرَه من عمل بجاية، رحل إلى الأندلس وأقام بها من سنة: 535 إلى: 540، فسمع من أبي بكر بن العربي سنة: 535، عني بالرواية إلاَّ أنه كان عديم الضبط (ت: 589) (¬3). 102 - أبو الحسن نَجَبَة بن يحيى الرعيني: من إشبيلية، روى عن ابن العربي، تصدر لِإقراء القرآن الكريم وتعليم العربية وكان إماماً في ذلك مقدماً يتحقق بالقراءات ويشارك في الحديث (520 ت: 591) (¬4). 103 - أبو محمد عبد الحق بن محمد الجُمَحِي، المقرئ: من نَوَالِشْ من أعمال غرناطة يعرف بابن المُرْسي، روى عن أبي بكر بن العربي كان -رحمه الله - مقرئاً لكتاب الله ومعلماً له ومن أهل الِإتقان والمعرفة (ت: 601) (¬5). ¬

_ (¬1) التكملة: 1523، بغية الرواد لابن خلدون: 126، البستان في ذكر أولياء تلمسان: 227، فهرست الرصاع: 99. (¬2) التكملة: 1835. (¬3) التكملة: 1738. (¬4) التكملة: 1879، صلة الصلة لابن الزبير: ق- 38 تكملة إكمال الإكمال في الأنساب للمحمودي المعروف بابن الصابوني ص: 337. (¬5) التكملة: (ط: مجريط): 1809، صلة الصلة لابن الزبير (ط: بروفنسال): رقم 12، مخطوط الأزهر: ق 129.

104 - أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري: من مرسية، وأصله من غرناطة سمع من أبي بكر بن العربي وكان عدلاً عارفاً بالنقل، موصوفاً بالِإتقان وصحة التقييد (ت: 566) (¬1). 105 - أبو جعفر عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأزدي: من غرناطة ويعرف بابن القصير، روى عن أبي بكر بن العربي وكان فقيهاً مشاوراً صاحب رواية ودراية ثم ركب البحر قاصداً الحج فتوفي شهيداً في البحر، قتله الروم بمرسى تونس مع جماعة من المسلمين صبح يوم الأحد 10 ربيع آخر سنة 576، له تآليف (¬2). 106 - أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عيسى الأنصاري: من المرية، يعرف بابن حبيش روى عن ابن العربي وأكثر عنه وهو محدث جليل من أعلم رجال طبقته بصناعة الحديث مع مشاركته في الفنون الأخرى (ت: 584) (¬3). 107 - أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي: من شاطبة، أجاز له ابن العربي كان من كبار الكتّاب وجلة الأدباء المشاهير بالأندلس، له تآليف (ت: 587) (¬4). 108 - أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يحيى الغماري: الواعظ الضرير: من الجزيرة الخضراء، روى عن ابن العربي واستظهر عليه موطأ مالك، وأجاز له، وكان -رحمه الله- من حفاظ أهل العلم والعمل، يحكي ابن الأبار عن أبي عبد الله بن هشام النحوي أن أبا زيد الضرير كان يحفظ ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط) 1603، المعجم: 252 - 253. (¬2) صلة الصلة: ق 93، التكملة (ط: مجريط) 1607. (¬3) صلة الصلة: ق 96 - 97، التكملة (ط: مجريط): 1817، بغية الملتمس: 340، غاية النهاية: 1/ 378. (¬4) صلة الصلة: ق 98، التكملة (ط: مجريط) 1622، المعجم 254 - 255.

عليه بعض ألفاظ الموطأ من حفظه وهو يقول: هكذا كنت أعرضه على أبي بكر بن العربي (ت: 602 أو 603) (¬1). 109 - أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن فتوح الخثعمي ثم السُّهَيْلِي ويكنى أبا زيد: المحدث المشهور صاحب الروض الأنف في السيرة (مطبوع) روى عن ابن العربي ولقيه وأخذ عنه بالسماع والإجازة (+ 507 أو 508 ت: 581) (¬2). 110 - أبو الحكم عبد الرحمن بن عبد الملك الأنصاري: من سرقسطة، يعرف بأبي غشليان رواية مسند، لقي أبا بكر بن العربي بقرطبة سنة 518 فأجاز له هو وأبو محمد بن عتاب وأبو بكر بن غالب بن عطية وأبو الفضل بن عياض (ت: 541) (¬3). 111 - أبو القاسم عبد الرحيم بن عمر الحضرمي: من أهل فاس، يعرف بابن عكيس دخل الأندلس فسمع من أبي بكر بن العربي، وكان فقيهاً مشاوراً، حافظ للخلاف، له تآليف (+ 500 - 580) (¬4). 112 - أبو محمد عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن العبدريُّ: من بلنسية، يعرف بابن مَوْجُوَال، سمع بإشبيلية من أبي بكر بن العربي وتحقق به ودَرَّس في مجلسه وكان ابن العربي يثني عليه (ت: 566) (¬5). 113 - أبو محمد عبد الله بن أحمد عُمْرُوس: من شِلْب، لقي أبا بكر ابن العربي بقرطبة وقرأ عليه "التلقين" للقاضي عبد الوهاب في مجلس ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 1627. (¬2) صلة الصلة: ق 95، التكملة (ط: مجريط): 1613، الإحاطة 3/ 477 وله ترجمة طيبة في "مركز الإحاطة بأدباء غرناطة" لمحمد بن يحيي الغساني (مخطوط المكتبة الوطنية بباريس رقم (3347) الورقة: 146/ أ- ب). (¬3) المعجم: 247 - 248. (¬4) التكملة: (ط: مجريط): 1673، صلة الصلة: ق 113. (¬5) المعجم: 237 - 238.

واحد، وكان رحمه الله فقيهاً مشاوراً (ت: 546) (¬1). 114 - أبو بكر عبد الله بن طلبة المُحَاربي: من غرناطة، كتب له ابن العربي بالإجازة، ولي أحكام المرية لصهره ابن عطية المفسر المشهور. (+ 511: 598) (¬2). 115 - أبو محمد عبد الله بن محمد الحِجْرِي: أحد الأئمة الحفاظ، رَحَلَ إلى قرطبة مرتين وبها لقي أبا بكر بن العربي وصحبه بها نحواً من عامين، وأملى عليه ابن العربي وعلى ابن حُبَيْش وغيرهما كتاب "القبس شرح موطأ مالك بن أنس" ثم لقيه بعد ذلك "بإشبيلية وصحبه أشهر وأكثر الرواية عنه قراءة وسماعاً. وكان ابن العربي يقدمه لقراءة الكتب للواردين لشدة نفوذه (+ 505 ت: 591) (¬3). 116 - أبو محمد عبد الله بن علي اللخمي: من أريولة، يعرف بالرشاطي، أجاز له ابن العربي وسمع منه سباعياته وكان مشاركاً في اللغات والآداب متحققاً بالآثار والإنساب، له تآليف منها كتاب "إظهار فساد الاعتقاد" رد فيه على القاضي ابن عطية، واستشهد بالمرية عند تغلب الروم عليها يوم الجمعة: 20 جمادى الأولى: 542 (¬4). 117 - عبد الله بن عيسى بن محمد التادلي: أصله من تادلة بالمغرب، دخل الأندلس ولقي أبا بكر بن العربي، وكان أديباً شاعراً وكاتباً بليغاً. (ت 600) (¬5). 118 - أبو محمد عبد الله بن سعيد: من بلنسية، يعرف بالطراز، رحل ¬

_ (¬1) التكملة: 2026 (وقد كتب الرقم (2027 وهو خطأ)، المعجم 233، البغية رقم (904). (¬2) التكملة: 2084، صلة الصلة ق 63. (¬3) التكملة: 2080، صلة الصلة: ق 58 - 59 - 60 - 61، إفادة النصيح لابن رُشَيْد: 78، 87، العبر للذهبي 4/ 277. (¬4) المعجم: 227 - 228. (¬5) صلة الصلة: ق 79.

إلى قرطبة وسمع من أبي بكر بن العربي، وعني بحفظ المسائل وذكر الخلاف، وكان بصيراً به (¬1). 119 - أبو مروان عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الأنصاري: من غرناطة، يعرف بابن الحمامي، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان فقيهاً جليلاً، ولي القضاء (ت: 591) (¬2). 120 - أبو مروان عبد الملك بن سلمة الأموي: من أهل وشقة، يعرف بابن الصقيل، لقي أبا بكر بن العربي فأكثر عنه وربما أجاز له، وكان فقيهاً أديباً من أهل الفهم والإتقان (ت: 540) (¬3). 121 - أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن هشام الخزرجي: من غرناطة، يعرف بابن الفرس أجاز له ابن العربي، وكان من بيت علم وجلالة مستبحراً في فنون المعارف على اختلافها، ولي القضاء (+ 524 ت: 598) (¬4). 122 - أبو حامد عبد الصمد بن محمد بن يعيش الغساني، المقري: من أهل المنكب، روى عن ابن العربي، كان خطيباً بجامع مدينته (ت: 588) (¬5). 123 - أبو بكر عبد العزيز بن عبد العزيز بن شداد المُعَافِرِي: من ضواحي جيان، أخذ بإشبيلية عن أبي بكر بن العربي وقرأ عليه جامع الترمذي ¬

_ (¬1) التكملة: 2028. (¬2) الذيل والتكملة (السفر- 5): 83 صلة الصلة: ق 119. (¬3) التكملة (ط: مجريط) 1708، المعجم: 259 - 260 وفيه أن اسم أبيه "سلمان" فالله أعلم بالصواب. (¬4) الذيل والتكملة (السفر- 5): 129، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 28، المخطوط: ق 129 - 130 بغية الملتمس (ط: أوروبا): 1050 الإحاطة: 3/ 543. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 1800، صلة الصلة (ط: بروفنسال: 22، المخطوط: ق 131.

سنة: 525، وكان من أهل البلاغة، شاعراً (ت: 560) (¬1). 124 - أبو الأصبع عبد العزيز بن يوسف اللخمي: من مرسية، سكن تلمسان ويعرف بابن الصباغ، روى عن أبي بكر بن العربي، قال ابن الأبار في وصف علمه: "ولم يكن الحديث شأنه"، أما ابن أبي زرع الفاسي فقد أفرط في مدحه حتى نعته بإمام المحدثين وحفاظهم في الضبط والإِتقان، ولا شك أن ابن الأبار أعرف بحاله لتقدمه، فكلام الفاسي لا يعتد به. (ت: 602) (¬2). 125 - أبو محمد عبد الغني بن مَكِّي التغلبي: من شاطبة، له رواية عن أبي بكر بن العربي، كان فقيهاً أديباً متقدماً في عقد الشروط، وشُووِرَ في الأحكام (ت: 556) (¬3). 126 - أبو العرب عبد الوهاب بن محمد التُّجيبِي: من بلنسية، يعرف بالبقَّساني، سمع من أبي بكر بن العربي ببلنسية، كان شيخاً أديباً شاعراً، عالماً بالفقه والشروط، ولم يكن بالمحدث المتسع الرواية (+ 479 ت: 552) (¬4). 127 - أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الصمد بن غياث الصدفي: من لوشة، سمع أبا بكر بن العربي، وُلّيَ القضاء، وقتل بإشبيلية بفتنة بها سنة: 586 وصلب (¬5). ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 1760. (¬2) التكملة (ط: مجريط): 1765، الذخيرة السنية للفاسي: (سهوت عن تقييد رقم الصفحة) وفيها أنه يعرف بالدباغ فالله أعلم بالصواب. (¬3) المعجم 279 - 280. (¬4) التكملة (ط: مجريط): 1790 وفيها أنه يعرف بالقساني، المعجم: 278 - 279، الذيل والتكملة (السفر- 5): 172. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 1794، الذيل والتكملة (السفر- 5): 165، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 40.

128 - أبو الحسين عبيد الله بن عبد الرحمن بن قزمان: من قرطبة واستوطن أُشُونة، أجاز له ابن العربي، وولي القضاء ببعض جهات قرطبة، وكان بصيراً بالأحكام أديباً شاعراً (ت: 543 أو 544) (¬1). 129 - أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان: من شلب وسكن إشبيلية، يعرف بابن الإِمام، روى بقرطبة عن ابن العربي وكان من العلماء الأدباء، بليغ القلم واللسان، كاتباً، شاعراً، له تآليف في شعراء عصره، توفي بعد سنة 550 (¬2). 130 - علي بن أبي سفيان: روى بمراكش عن القاضي أبي بكر بن العربي (¬3). 131 - أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري: من غرناطة ويعرف بابن الباذش، أجاز له ابن العربي، كان عالماً أديباً متحققاً بالقراءات (¬4). 132 - أبو الحسن علي بن أحمد بن لَبَّال: من أهل شريش، روى عن ابن العربي وكان أديباً شاعراً، زاهداً ورعاً فاضلاً، وُلِّيَ القضاء مكرهاً. (ت: 582) (¬5). 133 - أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الأنصاري: من طليطلة، استوطن فاس، أجاز له ابن العربي، وكان محدثاً عدلاً فاضلاً، كان حياً في حدود سنة: 570 (¬6). ¬

_ (¬1) التكملة: 2181. (¬2) التكملة: (ط: مجريط): 1833، الذيل والتكملة (السفر- 5): 272. (¬3) الذيل والتكملة (السفر- 5): 441. (¬4) الذيل والتكملة (السفر- 5): 329 وقد طُبِعَ للمُتَرْجَمِ لَهُ كتاب "الأقناع في القراءات السبع" في مركز البحث العلمي بمكة سنة: 1403 هـ. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 1874، الذيل والتكملة (السفر- 5): 335 تحفة القادم لابن الأبار: 74، رايات المبرزين لابن سعيد: 23. (¬6) الذيل والتكملة (السفر-5): 340، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 209.

134 - أبو الحسن علي بن أحمد الغافقي: من قرطبة، يعرف بالشقوري، أجاز له ابن العربي سنة 539 (ت: 616) (¬1). 135 - أبو الحسن علي بن أحمد الكلبي المعروف بابن المقابلة: روى عن ابن العربي وكان عالماً متفنناً متقدماً في الأصول، شاعراً مكثراً (ت: 565) (¬2). 136 - أبو الحسن علي بن أحمد بن يعيش الزهري: من باجة، قاضي إشبيلية، سمع من أبي بكر بن العربي بإشبيلية، وكان فقيهاً مشاوراً له تأليف في مناسك الحج (+ 490 ت: 567) (¬3). 137 - أبو الحسن علي بن طاهر بن يوسف الأموي: من شاطبة، روى بمراكش عن القاضي أبي بكر بن العربي (¬4). 138 - أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك القيسي: من إشبيلية، يعرف بالأشبوني (في الصلة لابن الزبير: الأشموني)، روى عن ابن العربي، وكان محدثاً راوية (¬5). 139 - أبو الحكم علي بن محمد بن عبد العزيز اللخمي، يعرف بابن المرخي: من قرطبة سكن إشبيلية، أجاز له ابن العربي، وكان من بيت علم وجلالة، أحد الكتبة المجيدين الفائقين لفظاً وخطاً، متين المعارف الأدبية (¬6). 140 - علي بن محمد بن فيد الفارسي: من قرطبة، روى عن ابن ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 1890. (¬2) التكملة (ط: مجريط): 1859، الذيل والتكملة (السفر- 5): 346، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 200. (¬3) التكملة (ط: مجريط): 1861، المعجم: 297. (¬4) الذيل والتكملة (السفر- 5): 449. (¬5) الذيل والتكملة (السفر- 5): 616، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 162. (¬6) الذيل والتكملة (السفر- 5): 615، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 209.

العربي، وكان محدثاً حافظاً ثقة عدلاً، كامل العناية برواية العلم وتقييده، ولد بقرطبة قبل: 490 واستشهد في خروجه من ألش -التي استوطنها- مع عامة أهلها خوفاً على أنفسهم من الأمير محمد بن سعد إذ كانوا قد خلعوا دعوته وذلك سنة: 567 (¬1). 141 - أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الوارث: من أهل غرناطة، روى عن ابن العربي، وكان صاحب رواية ودراية، ومعرفة جيدة وصلاح (ت: 580) (¬2). 142 - أبو الحسن علي بن صالح العبدري: ويعرف بابن عزّ الناس، طرطوشي، سكن دانية، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان عالماً بالفقه حافظاً لمسائله، متقدماً في علم الأصول ذا حظ وافر في قرض الشعر ولد سنة: 508، وقتل مظلوماً سنة 566 (¬3). 143 - أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الملك الأنصاري: ويعرف بابن النعمة، من المرية وسكن بلنسية، سمع من ابن العربي مقدمه على بلنسية غازياً سنة: 522، ويعتبره ابن عبد الملك المراكشي خاتمة العلماء بشرق الأندلس في عصره، متفنناً في معارف جَمَّة، مفسراً بارعاً له تفسير للقرآن يسمى "ريُّ الظمآن". (+ 491 ت: 567) (¬4). 144 - أبو الحسن علي بن عتيق الأنصاري الخزرجيّ، روى عن ابن العربي، وكان بصيراً بالقراءات والحديث، يشارك في علم الطب ونظم ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 1864، الذيل والتكملة (السفر- 5): 557. (¬2) الذيل والتكملة (السفر-5): 618، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 217. (¬3) التكملة (ط: مجريط) 1860، الديباج المذهب: 212، نيل الابتهاج لأحمد بابا التنبكتي: 184. (¬4) التكملة: (ط: مجريط): 1863، المعجم: 298، الذيل والتكملة (السفر- 5): 455، بغية الملتمس: 1224، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 211، نيل الابتهاج: 185.

الشعر، ألّف في الطب والأصول. (ت: 598) (¬1). 145 - أبو الحكم عمرو بن زكريا بن بطال: من لبلة، سمع من ابن العربي كثيراً، وولي القضاء والخطبة، استشهد سنة: 549 (¬2). 146 - أبو حفص عمر بن عبد الرحمن بن عذرة الأنصاري: من أهل الجَزِيرَة الخضراء وأعيانها، روى عن ابن العربي، وولي قضاء بلده وقضاء سبتة، وكان أديباً شاعراً جليلاً (ت: 576) (¬3). 147 - أبو الحسن عقيل بن محمد بن عبد الخولاني: ويعرف بابن العقل: من شَلْب، حدث عن أبي بكر بن العربي، وكان مجوداً للقرآن، عارفاً بطرق القراءات واختلاف القراء، ولي الصلاة بجامع بلدته (¬4). 148 - أبو موسى عيسى بن محمد بن شعيب الغافقي: يعرف بالأشل وكذلك بالورّاق: من أهل قرمونة واستوطن مدينة فاس روى عن ابن العربي، وكان فقيهاً حافظاً عارفاً، ماهراً في عقد الشروط، بصيراً بعللها، نحوياً أديباً، توفي بفاس سنة: 586 وقيل 587 (¬5). 149 - أبو الفضل عياض بن موسى اليَحْصُبِي: من سبتة، الإِمام الحافظ، الضابط المتقين، أشهر من أن يعرف سمع من ابن العربي عند اجتيازه سبتة، وكتب عنه فوائد حديثية، وناوله كتاب المؤتلف والمختلف للدارقطني، ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 1878، الذيل والتكملة (السفر- 5): 525، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 234. (¬2) التكملة (ط: مجريط): 1942، الذيل والتكملة (السفر- 5): 859. (¬3) التكملة (ط: مجريط): 1826، الذيل والتكملة (السفر-5): 773، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 120. (¬4) التكملة (ط: مجريط): 1945، الذيل والتكملة (السفر- 58): 308، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 312. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 1927، الذيل والتكملة (السفر-5): 936، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 84.

وحدّثه بكتاب الِإكمال لابن ماكولا، وقرأ عليه مسألة الأيْمان اللازمة، من تأليفه وأجازه جميع مروياته (ت: 544) (¬1). 150 - أبو الحسن غربيب بن خلف بن قاسم القيسي: من مجريط (أي مدريد) نزيل مالقة، سمع من ابن العربي، وكان من أهل العلم، محدثاً لا فقيهاً، حافظاً متكلماً، له تصنيف لطيف (¬2). 151 - أبُو نصر الفتح بن خاقان: أجاز له ابن العربي وهو من الأدباء الأفذاذ الذين تفخر بهم الأندلس، وترجمته مشهورة، له مؤلفات مطبوعة (ت: 528) (¬3). 152 - أبو الحسن سعد بن خلف بن سعيد: من قرطبة، سمع أبا بكر ابن العربي، إمام فاضل، كريم العشرة، تصدّر للِإقراء وإسماع الحديث بقرطبة (ت: 542) (¬4). 153 - أبو بكر يحيى بن محمد بن أحمد الأنصاري: ويعرف بالأركشي: روى عن أبي بكر بن العربي، وكان أديباً شاعراً، قتل بقرطبة سنة: 851 (¬5). 154 - أبو بكر يحيى بن محمد بن رزق (في التشوف: بن وزج وهو خطأ): من أهل المرية، روى عن أبي بكر بن العربي، وكان فقيهاً محدثاً متقناً، عارفاً بالمتون والأسانيد والرجال، إماماً في ذلك (ت: 560) (¬6). ¬

_ (¬1) أزهار الرياض للمقري: 1/ 30 (والأزهار بأجزائه الخمسة ترجمة لعياض) وانظر ترجمة له موسعة في مركز الإحاطة بأُدباء غرناطة للغساني، الورقة 212/ ب وما بعدها. (¬2) التكملة (ط: مجريط): 1961، الذيل والتكملة (السفر- 5): 994. (¬3) المغرب في حلى المغرب: 1/ 254، نفح الطيب: 7/ 29، 35 (ط: محيي الدين) ومركز الإحاطة بأُدباء غرناطة، الورقة: 215/ ب وما بعدها (مخطوط باريس). (¬4) الذيل والتكملة (بقية السفر- 4): 28. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 2053، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 365. (¬6) التشوف إلى رجال التصوف للتادلي: رقم (142) صفحة 290، البغية للضبي: 1454، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 357.

155 - يحيى بن محمد بن عقال الفهري: من بلنسية، سمع من أبي بكر بن العربي في قرطبة، وكان فقيهاً حافظاً مفتياً قدم إلى خطّة الشورى، وولِّي القضاء (ت: 567) (¬1). 156 - أبو بكر يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري، ويعرف بابن الصيرفي، من أهل غرناطة، كان نسيج وحده في البلاغة والتبريز في أسلوب التاريخ، ومن الكتّاب المجيدين والشعراء المطبوعين، قرأ على أبي بكر بن العربي (توفي في حدود: 570) (¬2). 157 - أبو بكر يحيى بن عبد الجبار الأنصاري: ويعرف بالأبار: من مالقة، سمع من ابن العربي، وكان فقيهاً بصيراً بالشروط، ولي قضاء مالقة (+506 ت: 590) (¬3). 158 - أبو العباس يحيى بن عبد الرحمن بن الحاج: ويعرف بالمجريطي: من قرطبة، سمع من ابن العربي، قُدِّمَ بعد أبي الوليد بن رشد لقضاء قرطبة، وكان معدوداً من رجالها (+ 519 ت: 598) (¬4). 159 - أبو خالد يزيد بن محمد بن رفاعة اللخمي، ويعرف بابن رفاعة: وكذلك بابن الصفار: من قرطبة، سمع من ابن العربي، كان عاكفاً على عقد الشروط (+ 511 ت: 580) (¬5). 160 - أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم الكلاعي: من إشبيلية، سمع من أبي بكر بن العربي مسلسلاته، وكان مقدماً في بلده، عاقداً للشروط، ¬

_ (¬1) التكملة (ط: مجريط): 2047. (¬2) الإحاطة بأخبار أدباء غرناطة: 243/ أ، صلة الصلة (ط: بروفنسال): 361. (¬3) التكملة (ط: مجريط): 2056. (¬4) التكملة (ط: مجريط): 2058. (¬5) التكملة (ط: مجريط): 2108.

توفي سنة: 606 عن 95 سنة (1). 161 - يوسف بن علي التلمساني: روى بإشبيلية عن القاضي ابن العربي وكان محدثاً صالحاً (2).

المبحث الثالث مروياته

المبحث الثالث مرويَّاته مدخل: تدل المؤلفات التي رواها ابن العربي على سعة اطلاعه على كتب الثقافة العربية الِإسلامية، فقد وقف -سواء بالمغرب أم بالمشرق الإِسلامي- على مكتبة ضخمة غذتها أقلام العلماء عبر القرون الأولى بمئات من المصنفات التاريخية والأدبية والشرعية، وقد وفق رحمه الله في رواية عيون كتب التراث العربي الإِسلامي وأظهر بذلك تفوقاً كبيراً دل على صدق رغبته في طلبه للعلم، وشغفه بأن ينهل من ينابيع العلم الصافية. وقد ألف ابن العربي ثبتاً بأسماء الكتب التي رواها عن مشيخته، ومن المؤسف أن هذا المصنف لم يصلنا (¬1)، ونظراً لأنني قمت بالاطلاع على جلّ مؤلفاته وجلّ ما كتب عنه، فقد رأيت من المناسب أن أثبت في هذا المبحث الكتب التي رواها وأدخلها إلى المغرب الإِسلامي، وذلك لأنني لا زلت ¬

_ (¬1) انظر قائمة مؤلفات ابن العربي رقم: 60 من هذا البحث.

أ- علم الكلام

أحس بأن الدراسات التي كتبت عن ابن العربي -رحمه الله- لا بد من تغذيتها بروافد فكرية جديدة من الجمع والتحليل والاستنتاج، ولا بد من إضافات فكرية مستمرة تملأ ما يمكن ملؤه من فراغ في هذا الميدان، وهذا لا يتأتى إلا بالقيام بدراسات علمية جادة تقوم على أساس إحصائي دقيق لما رواه ابن العربي وأدخله إلى الأندلس. وما عملي هذا إلا محاولة بسيطة أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفق الباحثين إلى القيام بدراسات عميقة واستنتاجات دقيقة في ضوء ما قدمنا. أ- علم الكلام 1 - "الِإرشاد" و"التلخيص" و"الشامل" (¬1) لأبي المعالي الجويني، قال ابن خير-258 - 259: حدثني بذلك كله ابن العربي قال: -حدثني بالِإرشاد الغزالي وأبي سعيد محمد بن طاهر المقدسي الزنجاني، و"بالتلخيص" قراءة وسماعاً أبو الحسن علي القروي نزيل عسقلان، وبكتاب "الشامل" أبو الحسن القروي المذكور إلاَّ القول بالقدر، وخلق الأعمال والتعديل والتجوير، والصلاح والأصلح، واللطف، والرد على الفلاسفة والمنجمين. 2 - الِإرشاد للرازي الحنفي الإِسكندراني (¬2)، ذكره ابن العربي من جملة الكتب التي جلبها من المشرق السراج-239/ أ. 3 - "الاقتصاد في الاعتقاد" و"محك النظر" و"معيار العلم" و"تهافت الفلاسفة" للغزالي، ذكرها في السراج-239/ أمن جملة الكتب (¬3) التي جلبها من المشرق. ¬

_ (¬1) "كتاب الإرشاد إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد" طبع في القاهرة 1369 بتحقيق محمد يوسف موسى وزميله، أما التلخيص فهو مفقود، والشامل في أصول الدين طبع الجزء الأول منه بالإسكندرية 1969 م بتحقيق علي سامي النشار وزملائه وهي طبعة سقيمة لا يعتمد عليها. (¬2) لم أتمكن من معرفة الكتاب ومؤلفه. (¬3) جميع هذه الكتب مطبوعة متداولة وجلها بتحقيق أستاذنا الدكتور سليمان دنيا شفاه الله وحفظه.

ب- علوم القرآن

4 - "أسماء الله" لابن فورك (¬1)، ذكره في السراج: 239/ أ. 5 - الجامعان الجلي والخفي للِإسفراييني، عشرة أجزاء ذكرها في السرا: 239/ أ. 6 - "مدارك العقول" (¬2) للجويني، ذكره في السراج: 239/ أ. 7 - "نقص التسديد" لعبد الجليل، ذكره في السراج: 239/ أ. 8 - "نقض نقض التمهيد" للطبري لمهدي الوراق، ذكره في السراج: 239/ أ. 9 - "العقيدة النظامية" (¬3) للجويني ذكرها في السراج: 239/ أ. 10 - "غياث الأمم (3) في التياث الظلم" (¬4) للجويني، ذكره في السراج: 239/ أ. 11 - "قصيدة في الآداب وعقائد أهل السنة" للوزير الفقيه الشهيد أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني، قال ابن خير: 414 حدثني بها ابن العربي عن ابن خاله الحسن عن المؤلف .. * * * ب- علوم القرآن 1 - "إعجاز القرآن" (¬5) للخطّابي ذكره في السراج: 239/ أ. ¬

_ (¬1) لم أعثر على اسم هذا الكتاب في قوائم الذين ترجموا لابن فورك اللهم إلا -الدكتور سزكين فقد أورد في تاريخه: "أسماء الرجال" مخطوط ببرلين وشكك في نسبته إلى ابن فورك. انظر: تاريخ التراث العربي 2/ 389، واذكر أن ابن قيم الجوزية اعتمد في كتبه على "الأسماء والصفات" لابن فورك فلعله المقصود. (¬2) مفقود. (¬3) طبعت بتحقيق الشيخ محمد بن زاهد الكوثري في مصر: مطبعة الأنوار 1367 والذي طبع هو من رواية ابن العربي عن الغزالي. (¬4) طبع أخيراً في دولة قطر بتحقيق عبد العظيم الديب. (¬5) طبع في مصر بعناية عبد الله بن الصديق الغماري المغربي.

2 - "إعجاز القرآن" (¬1) للباقلاني ذكره في السراج: 239/ أ. 3 - "لطائف الِإشارات" (¬2) للقشيري، ذكره في السراج: 238/ ب. 4 - "المجاز" (¬3) لأبي عبيد معمر بن المثنى التميمي، قال ابن خير: 59 - 60: حدثني به الشيخ ابن العربي إذناً ومشافهة عن الشيخ المقرئ الأديب الراجز أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسن بن السراج. 5 - "مختصر تفسير الطبري" (¬4) ذكره في السراج: 238/ ب. 6 - "مختصر الكشف والبيان" (¬5) لأبي إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي لأبي محمد بن الوليد الطرطوشي قال ابن خير: -59: حدثني أبي العربي إجازة: قال: -حدثني به مختصره الطرطوشي- في مهد عيسى بالفسيفساء من المسجد الأقصى في رمضان سنة 487 بحضرتي وقراءتي له عليه. 7 - "معاني القرآن وإعرابه" (¬6) لأبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، قال ابن خير 64: حدثني به القاضي ابن العربي إذناً ومشافهة قال: أخبرنا الشيخ الثقة أبو ¬

_ (¬1) طبع في مصر بتحقيق السيد أحمد صقر بسلسلة ذخائر العرب التي تصدرها دار المعارف بمصر. (¬2) طبع بتحقيق د. إبراهيم بسيوني في القاهرة 1970 م. (¬3) في تسمية هذا الكتاب خلاف بين العلماء فهناك من يسميه غريب القرآن وآخر يسميه معاني القرآن، وآخر مجاز القرآن وأغلب الظن أن هذه الأسامي اسم لمسمى واحد ذكره ابن النديم في الفهرست 37، وحاجي خليفة 2/ 1204، وقام بتحقيقه د. محمد فؤاد عبد الباقي ود. سزكين ونشرته مكتبه الخانجي بمصر عام 1962 م ... (¬4) هناك عدة مختصرات لتفسير الطبري ولم أتمكن من تعيين المقصود، ولعله للتُّجِيبيّ. (¬5) ذكره المقري في أزهار الرياض 3/ 163 ... (¬6) طبع الكتاب بمصر عام 1974 بشرح وتحقيق عبد الجليل عبده شلبي.

الحسن علي بن الحسين بن علي بن أيوب البزاز البغدادي .. من أول سورة يونس وباقيه إجازة .. 8 - "المسائل" (¬1) لابن قتيبة في معاني غريب القرآن والحديث مما لم يقع في كتاب الغريب، قال ابن خير- 195: حدثني به ابن العربي قال: حدثنا أبو الحسن المبارك وأبو المعالي ثابت بن بندار البغدادي إذناً. 9 - "ناسخ القرآن ومنسوخه" (¬2) لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني- (ت: 275): قال ابن خير 47: حدثني ابن العربي سماعاً عليه، قال: - حدثنا أبو الحسن علي بن الحسين البزاز .. 10 - "الغريبين" (¬3) لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي (ت: 401)، قال ابن خير- 69: حدثني به ابن العربي سماعاً عليه لأكثره ومناولة لجميعه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن طرخان بن يلتكين بن الحكم التركي بمنزله ببغداد، قرأت عليه بعضه وسمعته واستنزلت الباقي منه. 11 - "ياقوتة الصراط في غريب القرآن" لأبي عمر أحمد بن محمد الزاهد المطرز، قال ابن خير- 60 - 61: ¬

_ (¬1) نشره حسان الدين القدسي في مطبعة السعادة بالقاهرة عام 1349 م ثم أعاد نشره شاكر العاشور في مجلة المورد العراقية ص 234 م/ 3 ع/4/ 1974. (¬2) لم يصل إلينا هذا الكتاب، انظر تاريخ التراث العربي لسزكين: 290 - 296. (ط: جامعة الإِمام). (¬3) طبع الجزء الأول من هذا الكتاب بتحقيق الأستاذ محمود محمد الطناحي بالقاهرة عام 1970 م وانظر عنه بروكلمان 2/ 272 ومقدمة غريب الحديث لابن قتيبة 3/ 1069 للدكتور عبد الله الجبوري.

جـ- علوم الحديث

حدثني بها ابن العربي قال: - حدثنا الشيخ أبو الحسين أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف البغدادي ... * * * جـ- علوم الحديث 1 - جزء فيه "الأحاديث التي خولف فيها إمام دار الهجرة مالك بن أنس (¬1)، وفي تضاعيفها" أحاديث حدث بها في الموطأ على وجه وحدث بها في غير الموطأ على وجه آخر (¬2)، تخريج الحافظ الدّارقطني قال ابن خير -180: حدثني به ابن العربي قال: - حدثنا به الشيخ أبو الحسين بن الطيوري، وانظر: السراج 238/ ب. 2 - "الأحاديث التي اجتمع فيها أربعة من أصحابه" لأبي محمد عبد الغني الأزدي، رواها ابن جابر الوادي آشى في برنامجه (¬3) - 252: -عن أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخزرجي عن ابن العربي سماعاً عن الأخوين أبي القاسم عبد الرحمن وأبي محمد عبد الله ابني أحمد بن صابر الدمشقيين. 3 - "الأحاديث العوالي المنتقاة الصحاح" المخرجة من أصول السيد الشريف- أبي الفوارس طراد الزينبي، جزآن، قال ابن خير- 161: حدثني بها القاضي ابن العربي الذي سمعها من أبي الفوارس الزينبي. 4 - "أجزاء الفوائد المنتقاة الصحاح مما اتفق البخاري ومسلم على ¬

_ (¬1) هذا الجزء يوجد بالمكتبة الظاهرية مجاميع 63/ 21 من 255/ أإلى 267/ ب. (¬2) لعله الجزء الذي حققه الشيخ محمد بن زاهد الكوثري ونشره في القاهرة سنة 1365 بعنوان "أحاديث الموطأ واتفاق الرواة عن مالك واختلافهم فيها زيادة ونقصاً". (¬3) يقول الدكتور محمد الحبيب الهِيلَة أن الشيخ صبحي السامرائي أفاده بوجود نسخة محفوظة من هذا الكتاب بمكتبة الأوقاف ببغداد.

إخراجه في الصحيحين" من حديث البغوي وغيره من عوالي ابن النقور وهي أربعة أجزاء عالية جداً، قال ابن خير- 164: حدثني بها ابن العربي قال: -حدثنا بها ابن طرخان وابن الفراء ببغداد. 5 - الإكمال في رفع عارض الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب (¬1) لابن ماكولا (ت: 475) قال ابن خير- 219 - 220: حدثني به ابن العربي سماعاً عليه لبعضه وإجازة لجميعه- قال: قرأته على أبي بكر محمد بن طرخان ببغداد. انظر السراج: 238/ ب. 6 - "إصلاح الغلط الواقع في غريب الحديث لابن قتيبة" (¬2) قال ابن خير- 189: حدثني به ابن العربي -إذْناً ومشافهةً- عن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار قراءة. 7 - "أوهام البرادعي" لعبد الحق- ذكره في السراج 238/ ب. 8 - "تقريب الغريبين لأبي عبيد وابن قتيبة" (¬3) جمعه واختصره الفقيه أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (ت: 447): قال ابن خير: حدثني به ابن العربي قال: - حدثنا به أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي .. ¬

_ (¬1) طبع هذا الكتاب كاملًا باعتناء وتعليق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني بالهند بدائرة المعارف العثمانية سنة 1962، كما أعاد محمد أمين دمج تصويره في بيروت. (¬2) طبع هذا الكتاب سنة 1982 في مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري. (¬3) وصل إلينا الجزء الأول من هذا الكتاب وهو مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 1017 تفسير، يبتدىء بحرف الهمزة وينتهي بحرف الصاد (198 ورقة).

9 - "تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود الترمذي والنسائي في مصنفاتهم من الصحابة والتابعين إلى شيوخهم" تأليف الحافظ البرقاني (ت: 336) قال ابن خير-222: حدثني به ابن العربي قال: حدثنا به علي بن الحسين البزاز البغدادي. 10 - "تسمية شيوخ مالك وسفيان وشعبة" للإمام مسلم، قال ابن خير -213: حدثني به ابن العربي قال: حدثنا به ابن الطيوري. انظر السراج: 238/ ب. 11 - "حديث أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل" قال ابن خير -160: حدثني به ابن العربي قال: حدثني به المبارك في ثاني رجب سنة 490 في مسجده في القطيعة من الكرخ. 12 - جزء فيه "ما روى هلال بن الحفّار عن أبي عبد الله الحسين بن يحيى بن عياش القطان" (¬1). رواه عن ابن العربي ابن خير: 163، وابن جابر الوادي آشي (البرنامج ص 249). وابن الأبار عن أبي الخطاب عن ابن العربي- (المعجم: 40 - 41) وانظر السراج: 238/ ب. 13 - "مجلسان من إملاء الشريف أبي الفوارس طراد الزينبي" (¬2) رواه ابن خير: 163: عن القاضي ابن العربي قراءة منه عليه. 14 - "المدخل إلى معرفة كتاب البخاري" للإسماعيلي، ذكره في السراج: 238/ ب .. ¬

_ (¬1) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 590. (¬2) يوجد في الظاهرية رقم 540/ م ولدى مكتبة الوالد -حفظه الله- مصورة من هذا المخطوط عن إحدى مكتبات إسبانيا.

15 - "مصافحة مسلم والبخاري" لأبي بكر أحمد بن محمد الحافظ البَرْقَاني. رواه ابن خير: - 165 عن ابن العربي سماعاً عليه. 16 - "مصنف أبي داود" رواية اللؤلؤي (¬1)، رواه ابن خير: 105 عن ابن العربي. 17 - مشيخة ابن شَاذَان (¬2) (446) ذكره في السراج: 238/ ب .. 18 - جزء فيه "النصيحة لأهل الحديث" للخطيب البغدادي، "وفيه رسالة في الإجازة المجهولة وتنويعها وانقسامها" (¬3) رواه ابن خير: 226 عن ابن العربي. 19 - نسخة أبي زكريا يحيى بن معين من حديث يحيى بن يحيى التميمي، ذكره في السراج: 238/ ب. 20 - نسخة خراش بن عبد الله خادم أنس بن مالك (¬4)، أربعة عشر حديثاً عن أنس بن مالك. رواه ابن خير: 162 عن ابن العربي. 21 - نسخة دينار بن عبد الله الأهوازي عن أنس بن مالك، رواها ابن خير: 162 عن ابن العربي. 22 - جزء فيه "نسخة همام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة" (¬5) رواها ابن خير: ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد بن عمرو البصري (ت: 333) وهو آخر من روى كتاب السنن عن أبي داود. العبر للذهبي 3/ 73 الشذرات: 2/ 334. (¬2) الموجود هو "المشيخة الصغيرة" بالمكتبة الظاهرية: 347 حديث (فهرس الشيخ الألباني). (¬3) كتاب النصيحة طبع بعنوان "مختصر نصيحة أهل الحديث ضمن مجموعة رسائل في علوم الحديث" بتحقيق صبحي السامرائي ط: المكتبة السلفية 1969، وكتاب الإجازة طبع كذلك في نفس المجموع السابق في خمس ورقات. (¬4) أشار الدكتور/ محمد مصطفى الأعظمي في كتابه "دراسات في الحديث": 1/ 103 - إلى وجود نسخة مخطوطة من هذا الجزء في مكتبة شهيد علي بإستانبول. (¬5) نشر هذا الجزء بتحقيق الدكتور محمد حميد الله في مجلة المجمع العلمي بدمشق 1953.

163 عن ابن العربي، وابن جابر الوادي آشي (البرنامج: 229) عن ابن حُبَيْش عن ابن العربي ... 23 - "صحيح الترمذي" برواية ابن محبوب (¬1) قال ابن خير -217 - 218: حدثني به ابن العربي سماعاً عليه قال: حدثنا أبو الحسين المبارك بالقطيعة، وأبو طاهر البغدادي بدار الخلافة، أمَّا أبو الحسين فاستوفيته عليه، وأمَّا أبو طاهر فبعضه من أوله، حاشى أحاديث في كتاب الدعوات والمناقب، وكلام أبي عيسى في آخر الكتاب لم تكن في سماع أبي يعلى، فاستظهرتها برواية خالي أبي القاسم الحسن بن عمر الهوزني. 24 - "صحيح الحديث" (¬2) للإسماعيلي (ت: 371) ذكره في السراج: 238/ ب. 25 - "صحيح مسلم" برواية الجلودي، رواها ابن خير: 98 عن ابن العربي. 26 - "غريب الحديث" (¬3) لابن قتيبة، ذكره في السراج: 107/ أ. 27 - "فضل الوضوء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - و"فضل لا إله إلا الله" لابن شاهين (ت: 385) رواها ابن خير: 278 عن ابن العربي، وذكرها (¬4) المؤلف في السراج من جملة الكتب التي جلبها في رحلته إلى المشرق 239/ أ. 28 - "فوائد الشهيد أبي سعيد محمد بن طاهر الزنجاني" ذكرها في السراج: 238/ أ. ¬

_ (¬1) ابن محبوب هو أبو العباس محمد بن أحمد المروزي ونسخته هو المشهورة المتداولة، شذرات الذهب: 2/ 373. (¬2) مفقود. (¬3) طبع الجزء الأول في الدار التونسية بتحقيق رضا السويسي عام: 1979 م. ثم نشر كاملاً بتحقيق د. عبد الله الجبوري في العراق عام 1977. (¬4) هناك مصورات لهذه الرسالة أو الرسائل بمكتبة الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة.

29 - "السنن" للدارقطني، رواه ابن خير: 121، وابن حبيش (المعجم لابن الأبار (¬1): 122) وغيرهم عن ابن العربي. 30 - "السنن" (¬2) للفِرْيَابِي (ت: 301) ذكره في السراج: 238/ ب. 31 - "الشامل لابن الصباغ" ذكره في السراج: 238/ ب. 33 - كتاب "الشجر في أسماء المحدثين" للجورجاني؟ ذكره في السراج: 238/ ب. 32 - "شرح غريب الحديث" (¬3) لأبي عبيد معمر بن المثنى، رواه ابن خير 185 عن ابن العربي. 34 - "شرح غريب الحديث" (¬4) لأبي القاسم بن سلام (ت: 224) رواه ابن خير: 186 عن ابن العربي. 35 - "شرف الحديث" (¬5) للخطيب البغدادي ثلاثة أجزاء، وكتاب "تقييد العلم" (¬6) وكتاب "الرحلة في طلب الحديث" (¬7) وكتاب "أسماء من روى عن الِإمام مالك بن أنس" (¬8) مبوباً على حروف المعجم من تأليفه. كل هذه الكتب رواها ابن خير: 181 - 182 عن ابن العربي وانظر السراج: 228/ ب. ¬

_ (¬1) طبع في دلهي بالهند عام: 1306، ثم أعيد طبعه في المدينة عام 1386 بعناية السيد عبد الله هاشم اليماني المدني. (¬2) مفقود. (¬3) لم يصل إلينا هذا الكتاب فيما أعلم. (¬4) نشره الدكتور محمد عبد المعيد خان بحيدرآباد، الهند، عام 1387، 1967. (¬5) طبع بتحقيق محمد سعيد خطيب أوغلو ونشرته كلية الإلهيات بجامعة أنقرة عام: 1971. (¬6) طبع بتحقيق يوسف العش بالمعهد الفرنسي بدمشق عام: 1949. (¬7) طبع ضمن مجموعة "رسائل في علوم الحديث" بتحقيق صبحي البدري السامرائي ثم أعيد طبعه بتحقيق د. نور الدين عتر بدار الكتب العلمية ببيروت. (¬8) مخطوط، انظر: موارد الخطيب البغدادي للدكتور أكرم ضياء العمري.

د- الفقه والأصول

36 - شيوخ أبي عمر أحمد بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد القاهر العبسي بالأندلس والمشرق رواهم ابن خير: 436 عن ابن العربي. 37 - كتاب "وصية النبي لأبي هريرة" (¬1) رواه ابن خير: 277 عن ابن العربي. 38 - "وفاة الشيوخ" لابن المنادلي، ذكر في السراج من جملة الكتب التي جلبها من المشرق 238/ ب. * * * د- الفقه والأصول 1 - "الإكسير الأحمر" لقاضي العسكر في مسائل الخلاف، وأصول الفقه له كذلك ذكرهما من جملة ما جلبه من الشرق في السراج 238/ ب. 2 - أسرار الله في المسائل (¬2) للدبوسي في عشرة أسفار، ذكره في السراج 238/ ب. 3 - البرهان (¬3) للجويني، رواه ابن خير: 258 عن ابن العربي، وانظر السراج: 239/ أ. 4 - "تلقين المبتدىء وتذكرة المنتهي" (¬4) للقاضي محمد بن عبد الوهاب المالكي رواه ابن خير: 243 - عن ابن العربي .. 5 - "تعاليق مسائل الفرائض باختلاف معانيها" تأليف أبي عبد الله الفرضي الشقاق الزاهد. ذكرها في السراج 238/ ب .. ¬

_ (¬1) الذي وصلنا هو وصية النبي لأبي هريرة للحسن البصري للوقوف على نسخها المخطوطة انظر تاريخ التراث العربي لسزكين: 2/ 355. (¬2) توجد عدة نسخ مخطوطة من هذا الكتاب القيم للوقوف على أرقامها انظر تاريخ التراث لفؤاد سزكين 2/ 117 .. (¬3) طبع بتحقيق د. عبد العظيم الديب بالدوحة- قطر عام 1399 - . (¬4) مطبوع في تونس.

هـ - الزهد والتربية

6 - تعليقة ابن عمروس في نصرة مذهب مالك، ستون جزءاً، ذكرها في السراج 238 / ب .. 7 - "حلية الفقهاء" (¬1) لأبي الحسين أحمد بن فارس، رواها ابن خير: 373 عن ابن العربي. 8 - المنخول (¬2) وشفاء الغليل (¬3) للغزالي، ذكرها في السراج: 239/ أ .. 9 - كتاب "المشجر في نكت النظر" للحاكم الأسراباذي السعيداني في 20 ورقة بأدلة مسائل الفقه، لم يؤلف بشر مثله يقول فيه، دليل يثبت مئة مسألة وهي كذا وكذا، دليل يثبت تسعين مسألة، وهي كذا وكذا، دليل يثبت سبعين مسألة. دليل يثبت عشرة وتسميتها هكذا حتى تمت المسائل كلها السراج: 238/ ب .. 10 - قصيدة الشيخ الأجل أبي عبد الله محمد بن قاسم الكاتب في مناسك الحج. رواها ابن خير: 414 عن ابن العربي .. * * * هـ - الزهد والتربية 1 - كتاب "الآيات ومن تكلم بالدعوات" وكتاب "الحذر والشفقة" وكتاب "التقوى" وكتاب "ذم الفحش" وكتاب "ذم الغضب" وكتاب "التوكل" وكتاب "مداراة الناس" وكتاب "الوجل" (¬4). رواها ابن خير: 283 - 284 عن ابن العربي. ¬

_ (¬1) طبع أخيراً. (¬2) طبع بتحقيق د. محمد حسن هيتو - دار الفكر دمشق. (¬3) "شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل" طبع في بغداد سنة 1971م .. (¬4) لعل هذه الكتب لابن أبي الدنيا.

2 - "أخبار سابق البربري وأشعاره" (¬1). رواها ابن خير 406 عن ابن العربي. 3 - كتاب "أخلاق رسول الله" لأبي حيان، اختصار أبي بكر الطرطوشي (¬2)، رواها ابن خير: 276 عن ابن العربي. 4 - "أدب الدين والدنيا" (¬3) للماوردي، رواه ابن خير: 296 عن ابن العربي. 5 - كتاب "الشكر" (¬4) وكتاب "قصد الأمل" لابن أبي الدنيا رواهما ابن خير: 283 عن ابن العربي. 6 - كتاب "بر الوالدين" للخلال، رواه ابن خير: 278 عن ابن العربي وانظر السراج: 190/ أ. 7 - "الخصال" للعبدي، ذكره في السراج: 238/ ب. 8 - "الرسالة القشيرية" و"التحبير في علم التذكير" (¬5) للقشيري، رواهما ابن خير: 296 عن ابن العربي. 9 - كتاب "الزهد" (¬6) لهناد بن السري (ت: 243) رواه ابن خير: 275 عن ابن العربي. 10 - كتاب "محنة الشافعي" رواه ابن خير: 301 عن ابن العربي. ¬

_ (¬1) احتفظ لنا ابن عساكر في تهذيب دمشق (6/ 38 - 42) ببعض قصائد سابق البربري في الزهد تتضمن حوالي 80 بيتاً. انظر تاريخ التراث لسزكين-2/ 428 .. (¬2) قام بتحقيقه ونشره على محمد الصديقي في القاهرة عام 1959م. (¬3) طبع مراراً طبعات تجارية تحتاج إلى تحقيق. (¬4) اختصره أحمد طاحون وطبعه في جدة. (¬5) طبعت الرسالة بعناية الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله. وطبع التذكير بتحقيق إبراهيم بسيوني سنة 1968م. (¬6) يوجد مخطوطاً بـ (جاريت رقم 1419، 98 ورقة كتبت سنة 531) عن تاريخ التراث 2/ 166، وقد حقق بجامعة أم القرى.

و- التاريخ والسيرة

11 - "مخمسة الترمذي" (¬1) لعلي بن الحسن الترمذي، رواها ابن خير: 413 عن ابن العربي. 12 - "المصباح والداعي إلى الفلاح" لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، رواه ابن خير: 159 عن ابن العربي. 13 - كتاب "معيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا" لأبي ذر الهروي (ت: 435) رواه ابن خير: 276 عن ابن العربي. 14 - كتاب "مجابي الدعوة" (¬2) وكتاب "الفرج بعد الشدة" و"ذم المسكر" و "اليقين" و"حسن الظن" و"الذكر والملاهي والمحاسبة" و "قرى الضيف" و"القناعة والتعفف عن المسألة" و"الرضى بالقسم في الرزق " لأبي بكر بن أبي الدنيا رواها ابن خير: 282 - 283 عن ابن العربي. * * * و- التاريخ والسيرة 1 - كتاب "أخبار بيت المقدس" مختصرة منتقاة، يتصل بها "فضل مسجد الخليل" تأليف أبي العباس أحمد بن خلف بن محمد السبحي، رواهما ابن خير: 279 عن ابن العربي. 2 - كتاب "أخبار مكة وفضائلها" (¬3) للأزرقي (ت: 250) ثلاثة عشر جزءاً، رواها ابن خير: 278 عن ابن العربي. 3 - كتاب "اختصار سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4) لأبي الحسين أحمد بن ¬

_ (¬1) للترمذي عدة رسائل وكتب ما بين مطبوع ومخطوط ولم أهتد إلى هذه المخمسة فالله أعلم بها، راجع تاريخ التراث 2/ 464 - 476. (¬2) طبع بمؤسسة الرسالة ببيروت: 1984. (¬3) نشره فستنفيلد في مدينة غتنغه سنة 1275، وأعيد تصويره ببيروت مع حذف المقدمة الألمانية، وفي عام 1352 طبع بتحقيق رشدي الصالح ملحس. (¬4) ذكر الزركلي في الأعلام 1/ 184 أن هذا الكتاب طبع ببغداد تحت عنوان: "أوجز السير لخير البشر".

فارس بن زكرياء، رواه ابن جابر الوادي آشي (البرنامج: 231) عن السهيلي عن ابن العربي. 4 - كتاب "جذوة المقتبس" (¬1) للحميدي رواه ابن خير: 622 - 227 عن ابن العربي انظر السراج: 238/ ب. 5 - "طبقات الفقهاء" (¬2) للشيرازي، ذكره في السراج: 238/ ب. 6 - جزء فيه "منتخب من عيون خصائص العباد" وثلاثة أجزاء فيها الكلام في الغنى والفقر، تولى جمعها الفقيه الطرطوشي، رواها ابن خير: 299 عن ابن العربي. 7 - كتاب "المغازي والسير" (¬3) لمحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت: 146) رواه ابن خير: 232 عن ابن العربي. 8 - "سيرة الرسول ومغازيه" (¬4) للواقدي (ت: 207) رواها ابن خير: 231 عن ابن العربي. 9 - شرح أبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري لغريب كلام هند ابن أبي هالة التميمي في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، رواه ابن خير: 197 عن ابن العربي .. ¬

_ (¬1) طبعه عزت عطار الحسيني بالقاهرة بتحقيق محمد بن ناوت الطنجي وتمتاز هذه الطبعة بالدقة والضبط وأعيد طبعه في سلسلة تراثنا رقم 3 عن الدار المصرية للتأليف والترجمة عام 1966م .. (¬2) طبع مع طبقات الشافعية لهداية الله الحسيني وذلك ببغداد سنة 1937، ثم أعيد طبعه ببيروت .. (¬3) لم يصل إلينا هذا الكتاب كاملاً، بل هناك قطع متعددة مخطوطة في مختلف مكتبات العالم، كما أن هناك قطع وصلتنا في مصادر كثيرة كتفسير وتاريخ الطبري وغيرها وللتوسع في الموضوع انظر تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين .. (¬4) طبع عدة طبعات منها نشرة عباس الشربيني- القاهرة 1948، وطبعه المستشرق جونز في لندن عام 1966 في ثلاثة مجلدات. (¬5) يقصد الحديث المشهور في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: 1/ 238 - 351 والهيثمي في مجمع الزائد: 8/ 273 - 278، وغيرهم ..

ز- الأدب واللغة والنحو

ز- الأدب واللغة والنحو 1 - أخبار الأصمعي (¬1) (ت: 216) رواها ابن خير: 375 عن ابن العربي. 2 - كتاب فيه أخبار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأشعاره، جمع الزبير بن بكار، رواه ابن خير: 384 عن ابن العربي. 3 - كتاب "اختيار نصيح الكلام" (¬2) لثعلب (ت: 291)، رواه ابن خير: 338 عن ابن العربي. 4 - كتاب "الأمالي" (¬3) للأخفش، رواه ابن خير: 376 عن ابن العربي. 5 - كتاب "الإشارة في النحو" وهي مقدمة من تأليف الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن ثابت الخولاني المعروف بالمهدوي، رواه ابن خير: 319 - 320 عن ابن العربي. 6 - "الإيضاح في النحو" (¬4) لأبي علي الفارسي، رواه ابن خير: 309 عن ابن العربي. 7 - كتاب "إيمان العرب" (¬5) لأبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي رواه ابن خير: 374 عن ابن العربي. 8 - كتاب "البئر" لابن الأعرابي (ت: 231)، رواه ابن خير: 373 عن ابن العربي. ¬

_ (¬1) الذي وصلنا هو "المنتقى من أخبار الأصمعي لأبي محمد عبد الله بن أحمد الربعي، نشره التنوخي في مجلة المجمع العلمي بدمشق سنة 1953 م. (¬2) نشره Barth في ليبزج عام 1876. (¬3) المراد بالأخفش هو أبو الحسن علي بن سليمان المعروف بالأخفش الأصغر (ت: 310) وكتابه المشار إليه مفقود. (¬4) طبع في القاهرة بتحقيق حسن شاذلي فرهود: 1969 م. (¬5) نشره محب الدين الخطيب في القاهرة عام 1928م (الدار السلفية).

9 - كتاب "البهي في النحو" للفراء، رواه ابن خير 311 - 312 عن ابن العربي. 10 - جزء من شعر أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي، رواه ابن خير: 415 عن ابن العربي. 11 - كتاب "حب الوطن" للجاحظ، رواه ابن خير: 385 عن ابن العربي. 12 - كتاب "خلق الإنسان" للزجاج (¬1) (ت: 311) رواه ابن خير: 365 عن ابن العربي. 13 - كتاب "اللباء واللبن" وكتاب "فعلت وافعلت" وكتاب "اللغات" وكل ذلك من تأليف أبي زيد سعيد بن أوس بن ثابت بن العتيك الأنصاري رواها ابن خير: 375 عن ابن العربي. 14 - كتاب "المشاركة في أسماء الفواكه" وكتاب "نوادر الأطباء" وكلاهما من تأليف أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، رواهما ابن خير: 385 عن ابن العربي. 15 - كتاب "ما اتفق لفظة واختلف معناه" للأصمعي رواه ابن خير: 375 عن ابن العربي. 16 - كتاب فيه "مجاز الفتيا" تأليف أبي الخير زيد بن عبد الله بن رفاعة الهاشمي رواه ابن خير: 374 عن ابن العربي. 17 - كتاب "المجلة في الأمثال" لأبي عبيد معمر بن المثنى، رواه ابن خير: 341 عن ابن العربي، وانظر السراج 239/ أ. 18 - كتاب "مجمل اللغة" لابن فارس، رواه ابن خير: 373 عن ابن العربي. ¬

_ (¬1) طبع في بغداد عام 1964م بتحقيق د. إبراهيم السامرائي.

19 - "المختار من شعر أبي العتاهية وأخباره" اختارها وانتقاها أبو الحسن علي بن أحمد بن العباس بن طلحة، رواها ابن خير: 414 عن ابن العربي. 20 - "مفاخرة القلم والسيف والدينار" (¬1) لأبي نصر بن ماكولا، رواه ابن خير: 416 عن ابن العربي. 21 - كتاب "المربعة" لابن دريد (ت: 321)، رواه ابن خير: 400 عن ابن العربي. 22 - "مقصورة ابن دريد" (¬2)، رواها ابن خير: 400 عن ابن العربي. 23 - "مسألة سبحان الله" لنفطويه (ت: 323) رواها ابن خير: 376 عن ابن العربي. 24 - كتاب "الموفقيات في الأخبار والأشعار" (¬3) للزبير بن بكار (ت: 256) رواه ابن خير: 376 عن ابن العربي. 25 - كتاب "الفرج بعد الشدة" (¬4) للقاضي أبي علي المحسن بن علي ابن أبي الفهم التنوخي، رواه ابن خير: 385، 415 عن ابن العربي. 26 - كتاب "الفرق بين الراء والعين" تأليف الشيخ الأجل أحمد بن علي بن الفضل بن الفرات الدمشقي، رواه ابن خير: 385، عن ابن العربي. ¬

_ (¬1) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1758. (¬2) قصيدة مشهورة يبلغ عدد أبياتها 250 بيتاً، وطبعت عدة طبعات في أوروبا وغيرها، انظر معجم المطبوعات لسركيس: 102. (¬3) لم يصل إلينا كلاملاً، وقد حقق القطع المتبقية منه د. سامي مكي العاني ونشرها ببغداد عام 1972، كما نشر قسم صغير في المجلد: 23 من بحوث الجمعية الملكية للعلوم في جوتنحن عام: 1878 بتحقيق فوستنفيلد ... (¬4) طبع بالقاهرة سنة 1375 هـ.

27 - قصيدة كعب بن زهير التي امتدح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) رواها ابن خير: 400 عن ابن العربي. 28 - قصيدة مدرك بن عمرو الشيباني، رواها ابن خير: 413 عن ابن العربي. 29 - قصيدة الفرزدق "هذا الذي تعرف البطحاء وطأته" .. رواها ابن خير: 401 عن ابن العربي. 30 - قصيدة في "رثاء الديك" لأبي الفرج علي بن محمد بن الحسن القرشي، رواها ابن خير: 412 عن ابن العربي. 31 - القصيدة اليتيمة "هل بالطول لسائل رد" (¬2) للحسين بن محمد المنبجي ولقبه "دوقلة" رواها ابن خير: 401 عن ابن العربي. 32 - "شرح شعر المتنبي" و"شرح أشعار الحماسة" (¬3) و"شرح إصلاح المنطق" تأليف أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي (ت: 503) رواها ابن خير: عن ابن العربي. 33 - شعر أبي عمر أحمد بن دراج (¬4) (ت: 421) رواه ابن خير: 414 عن ابن العربي. 34 - "شعر أبي دهبل الجمحي" (¬5) للزبير بن بكار، رواه ابن خير: ¬

_ (¬1) طبعت عدة طبعات انظر بروكلمان 1/ 156 - 162. (¬2) نشرها جرجي زيدان في مجلة الهلال عام 1905 وأعيد نشرها في مجلة المجمع العلمي بدمشق عام 1971. (¬3) نشره فرايتاخ في بنون بألمانيا سنة 1838 كما نشر في بولاق بمصر سنة 1286 هـ وأعيد طبعه مرات عديدة. (¬4) له عدة قصائد أدرجها لسان الدين بن الخطيب في "أعمال الأعلام" (ط. بروفنسال) 231، 245، 256، وقد جمعها في ديوان د. محمود علي مكي ونشرها في دمشق عام 1961. (¬5) نشره كرنكو في مجلة جمعية الاستشراق الإِسلامية الملكية بلندن سنة 1915 بعنوان "شعر أبي دهبل الجمحي وأخباره".

394 عن ابن العربي. 35 - "شعر الأفوه الأودي" واسمه صلاءة بن عمرو، رواه ابن خير: 394 عن ابن العربي. 36 - شعر عبد بني الحسحاس وأخباره للزبير بن بكار، رواه ابن خير: 394 عن ابن العربي. 37 - شعر الشيخ أبي علي الحسن بن محمد المعروف بابن أبي الشخبا العسقلاني وخطبته وترسيله رواها ابن خير: 415 عن ابن العربي. 38 - تآليف أبي العلاء المعري وجميع ما له من منثور ومنظوم، رواها ابن خير: 450 - 451 عن ابن العربي، وتآليف أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي مدرّس الآداب بالمدرسة النظامية، وتآليف أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي المعتزلي، وتآليف الِإمام الغزالي (*)، يرويها ابن خير: 441 - 442 عن ابن العربي. ¬

_ (*) تنبيه: جلّ هذه الكتب التي رجعت إليها وتحققت من تاريخ طبعها لم أشأ أن أثبتها في جريدة المصادر لعدم استفادتي منها فيما يخص موضوع "قانون التأويل"، وكذلك الشأن بالنسبة للمخطوطات.

المبحث الرابع وفاته

المبحث الرابع وَفَاته توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمئة (¬1)، منصرفه من مراكش بعد أداء البيعة لعبد المؤمن بن علي (¬2)، وذلك في ¬

_ (¬1) لا أعلم خلافاً في وفاته سنة: 543، اللهم إلاَّ ما نقله الذهبي عن تاريخ ابن النجار من أنه توفي سنة: 546. تذكرة الحفاظ: 1297، وإلى هذا الرأي ذهب صديق خان القنوجي في كتابه: "الحطة في ذكر الصحاح الستة": 242، وهو وهم منهما يخالف الصحيح المتواتر. كما أن ابن كثير في البداية والنهاية: 12/ 228، والذهبي في العبر: 4/ 125، والأتابكي في النجوم الزاهرة: 5/ 302، وابن عماد في شذرات الذهب: 4/ 141، وسركيس في معجم المطبوعات العربية والمعربة: 1/ 174، هؤلاء جميعاً جعلوه ضمن وفيات: 546، وهو سبق قلم منهم لا غير، لأن المصادر التي اعتمدوها في تراجمهم كلها تصرح بأن وفاته كانت سنة 543 ومنها الغنية للقاضي عياض: 68 "ط: دار المغرب الإِسلامي" والصلة لابن بشكوال: 2/ 591 (ط: تراثنا). كما ذكر بعض شراح الشفا للقاض عياض بأن وفاته كانت سنة 542 وهو غير صحيح: المراكشي: الإعلام: 3/ 100. (¬2) ذهب النباهي في "المرقبة العليا": 106، إلى أن الإِمام ابن العربي سُمّ. وإلى هذا الرأي ذهب ابن غازي في "الروض الهتون"10. وأصابع الاتهام تتجه بطبيعة الحال إلى المُوحدِين الذين يعرفون عنه تحمسه الشديد للدعوة المرابطية، ودعوته لها في المشرق والمغرب. كما أن المراكشي ذهب في كتابه "الإعلام": 3/ 100 إلى أن سبب وفاته هو أن بعض رفقائه ممن أظهر أنه يريد القراءة عليه أطعمه سماً في تمرة، فيقال إن ابن العربي بعد أن أكلها قال =

موضع يقال له "مَغِيلَة" (¬1) أو "رأس الماء" (¬2)، وحمل ميتاً على الأعناق إلى فاس حيث دفن من الغد خارج باب المحروق (¬3)، بتربة القائد المظفر، وقبره مشهور (¬4) بفاس بنت عليه الأميرة خناثة بنت بكار (¬5) المعافرية قبة ضخمة، ثم جدد في عهد الملك الحسن الثاني (¬6) سامحهم الله. ¬

_ = له: أطعمتنا سُماً في تمرة قتلك الله ببقرة، فنطحته بقرة فقتلته. قلت: ولا شك أن هذه خرافة باردة. (¬1) مدينة تاريخية بسهل سايس بين فاس ومكناس، خربت أيام الموحدين، ما زالت معروفة باسمها إلى الآن، وما زالت أطلالها ماثلة ترى عن يمين الذاهب من فاس إلى مكناس. (¬2) موضع ما زال معروفاً بهذا الاسم فيه عيون وحدائق جميلة، بقربه محطة قطار قرية تدعى أيضاً "رأس الماء". (¬3) هذا هو المعَوَّل عليه خلافاً لما ذهب إليه القاضي عياض في الغنية: 68 (ط: دار المغرب الإِسلامي) من أنه دفن بباب الجيسة وتابعه على ذلك ابن الزبير، وقد اعتذر العلماء للقاضي عياض بأن باب المحروق لم يكن إذ ذاك قد فتح لأن بِناءَهُ قَدْ تَم على عهد الناصر بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن على رأس المئة السادسة، وعليه فقد كان ذلك الخارج كله ينسب لباب الجيسة. انظر: المقري في أزهار الرياض: 3/ 65، النباهي: المرقبة العليا: 106، 107، عبد الرحمن بن زيدان: عبير الآس: 3/ 27، علي الجزنائي: جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس: 80، المراكشي: الإعلام: 3/ 101. (¬4) قال ابن قنفد القسنطيني (ت: 809) " .. وقبره بين المدينتين، فاس القديم وفاس الجديد، وقد وقفت على قبره ولزيارته (بركات؟!!) ... " أنيس الفقير وعز الحقير: 42. كما أن النباهي (ت: 793) قال: " ... وقد زرناه وشاهدنا قبره ... " المرقبة العليا: 107. وقال المقري (ت: 1041) " ... وقد زرته مراراً وقبره هناك مقصود للزيارة ... ". قلت: شد الرحل إلى زيارة القبور بدعة مذمومة في الدين، ورحم الله ابن العربي الذي يقول: وينبغي (للمسلم) ألا يقصد مسجداً ولا يعظم بقعة إلا البقاع الثلاث التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تعمل المطي إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومكة والمسجد الأقصى" وقد سوّل الشيطان لأهل زماننا أن يقصدوا الربط، ويمشوا إلى المساجد تعظيماً لها، وهي بدعة ما جاء النبي بها ... " الأحكام: 1658. (¬5) هي الأميرة خناثة بنت بكار المعافري زوج المولى إسماعيل بن محمد العلوي سلطان المغرب، عالمة بالفقه والأدب، توفيت بفاس سنة 1155، وهي من ذرية أبي بكر بن العربي. انظر الناصري: الاستقصاء 7/ 58. (¬6) أقول: كان من الواجب أن نتقيد بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: لَعْنَة اللهِ عَلَى اليَهود وَالنصَارى، اتخَذوا قبورَ أنبيَائِهمْ مَسَاجِد (رواه البخاري 1/ 422، ومسلم 2/ 61)، فما يفيدنا تجديد القبور وبناء القبب عَليهَا إلا فتح باب الشرور من عبادة العامة والدهماء لها من دون الله.

أولاده وأحفاده

أولاده وأحفاده: أنجب أبو بكر بن العربي جملة أولاد منهم: 1 - أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن العربي سمع من أبيه وأخذ عنه وعن أبي محمد بن عتاب وأبي الحسن بن مغيث، وسمع الحديث المسلسل في الأخذ باليد من أبي محمد بن أيوب الشاطبي، وكان من الفقهاء الجلة المشاورين، وكتب بخطه كثيراً، وكان بارع الخط. قال ابن الزبير (¬1): وقفت على سماعه على أبيه بتاريخ 532، وأحسبه لم يُعَمِّر، وإن كان قد ولد له. وقال ابن الأبار (¬2): وكان له اعتناء بسماع العلم، والمداومة عليه، ولم يبلغ مبلغ التحديث فيما أحسب. 2 - أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي، سمع أباه في إشبيلية، وأبا الحسن بن شريح وغيرهم، كان من أهل النباهة والجلالة، معتنياً برواية الحديث والسماع، قتل خطأ على يد جنود الموحدين أثناء اقتحامهم إشبيلية عند صلاة العصر 13 شعبان سنة: 541، وحسن صبر أبيه عليه (¬3). 3 - أحمد بن محمد بن العربي، ذكر في بعض المصادر عرضاً (¬4)، ولعله لم يكن له حظ من المعرفة. ومن أحفاده: 1 - أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن العربي، كان من أهل الفضل والدين والتواضع ولين الجانب بمكان، توفي سنة: 617 هـ (¬5). ¬

_ (¬1) صلة الصلة: ورقة: 88 - 89 (مخطوط القاهرة). (¬2) التكملة: 564 رقم: 1600 (ط: مجريط). (¬3) التكملة: 2/ 829، ابن خلدون: التاريخ: 6/ 486. (¬4) التكملة: 3/ 603، ابن زيدان: عبير الآس: 5/ 458. (¬5) التكملة: 2/ 603.

2 - أبو الحسن علي بن عمر بن عبد السلام بن أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن الحافظ أبى بكر بن العربي- كذا ذكر في عبير الآس (¬1)، وقال فيه: ميقاتي متقن، انتقل من فاس لمكناس وأسندت إليه رئاسة التوقيت بمنار مسجدها الجامع الكبير، وقال عنه أبو عبد الله بن غازي: فاضل دَيِّن، لم يل الأذان ببلدتنا مثله (¬2). 3 - أنجب هذا الميقاتي ولداً يعرف بأبي زيد عبد الرحمن بن علي بن العربي، كان فقيهاً حافظاً محدثاً، قيل أنه بلغ رتبة الاجتهاد، كان بفاس وانتقل إلى مراكش، وتوفي بها سنة: 934 (¬3). ¬

_ (¬1) 5/ 458 - 459. (¬2) الكتاني: سلوة الأنفاس: 3/ 159. (¬3) ابن زيدان: عبير الآس: 5/ 278 - 279، الكتاني: سلوة الأنفاس: 3/ 159.

الفصل الخامس دراسات نقدية لأهم الجوانب الكلامية في قانون التأويل

الفصل الخامس دراساتٌ نَقديّة لأهَمّ الجوانب الكلَاميّة في قَانون التّأويل

مدخل

درَاسَاتٌ نَقديّة لأهمّ الجوَانب الكلَاميّة في قَانون التّأويل مدخل: هذا الفصل هو عبارة عن دراسات نقدية تحليلية قمت بها لتساعد القارئ على تكوين فكرة مضيئة لكتاب "قانون التأويل"، فبعد مطالعتي الطويلة للنص، وجدت أنه يشتمل على عدة مسائل عقدية هامة يتعين التعليق عليها من وجهة نظر سنية أساسها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فسأقول متوكلًا على الله: من المعروف عن المؤلفين أنهم يسعون إلى اختيار عنوان الكتاب بحيث ينسجم مع المحتوى العام المقرر بين دفّتيه، وفقيهنا ابن العربي -رحمة الله عليه- قد وفّق إلى أبعد الحدود في اختيار العنوان المناسب، فقانون التأويل يشمل عند ابن العربي تفسير وتأويل كل ما عسى أن ينبهم من أغراض علوم الشريعة الِإسلامية، فهو بمنهجه هذا يستعمل كلمة "تأويل" كما هي مُقَررة عند السلف (¬1)، ولكن أنّى له أن يلتزم بهذا الفهم الصافي لمدلولات الألفاظ، وهو الذي درس العقيدة الأشعرية على من أرسوا قواعدها، وهذّبوا مناهجها، ومَهْمَا أُوتي المرء من قوة النزاهة وروح العدالة، فإن هناك مؤثرات -ربما كانت لا شعورية- تظلّ تفعل فعلها في نفسه، وخصوصاً حين يواجه المرء صعوبة الاختيار والتحديد، وهي صعوبة لا مَفَرَّ ¬

_ (¬1) وهي عندهم بمعنى التفسير والبيان.

معنى التأويل لغة

منها حين يكون المقياس في التمييز غامضاً أو مطّاطّاً (¬1)، ويلاحظ الباحث أن ابن العربي كانت توجّهه في اختياره الآراء والحكم في بعض القضايا العقدية عواملُ كامنة لا يستطيع أن ينفكّ منها، فهو دوماً يسير على الخطّ الأشعري، مبرزاً رَأْيَ أئمته، مطنباً في مدح نظرياتهم واختياراتهم، وفي اعتقادنا أنه لم يفعل ذلك بداعي التعصب، ولكن الانتماء يحدد أحياناً مجالات الاختيار. ونظراً لهذا الغبش الفكري الذي ساد الفكر الإِسلامي، بل والألفاظ اللغوية ذاتها، أصبح حقاً عليّ واجباً أن أكشف عن معنى كلمة "تأويل" كما هي في اللغة العربية، وفي القرآن الكريم، وكما فهمها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأبين أن هذه الكلمة قد تراكمت عليها معاني حادثة بعيدة المطلب، وهذه المعاني الحادثة الغريبة هي التي أجمع أغلب علماء العقائد في القرون المتأخرة على القول بها، ضَارِبينَ بدلالة اللفظ -كما عرفه العرب الخلّص- عرض الحائط، ومن هذا الباب نشأ الاختلاف، ودخل الوهم، واضطربت الآراء وتباينت. معنى التأويل لغة: بالرجوع إلى أصل استعمال كلمة "تأويل" عند العرب، نجد أن استعمالها كان يدور على معنيين: المعنى الأول: الرجوع والمآل والعاقبة والعود والمصير، وإلى هذا التفسير ذهب أئمة اللغة المتقدمين أمثال أبي منصور محمد بن أحمد الأزْهَري (ت: 370) الذي يذكر عن ابن الأعرابي أن الأوْل بمعنى الرجوع، من آل يؤول أوْلًا (¬2). ويقول ابن فَارِس (ت: 395): أوّل الحكم إلى أهله أي أرجعه وردّه ¬

_ (¬1) اللهم إلاّ إذا كان المقياس هو الكتاب والسنة فلا صعوبة حينئذ. (¬2) الأزهري: تهذيب اللغة: 15/ 437، ونجد أن كل الأمثلة التي استشهد بها الأزهري تفيد معنى الرجوع والعود.

إليهم ... وآل جسم الرجل إذا نحف، أي رجع إلى تلك الحالة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] يقول: ما يؤول إليه في وقت بعثهم ونشورهم (¬1): أي عاقبتهم ومصيرهم. المعنى الثاني: التفسير والبيان، قال الأزهري: وسئل أحمد بن يحيى عن التأويل فقال: التأويل والتفسير والمعنى واحد، قلت (أي الأزهري) أُلْتُ الشيء: جمعته وأصلحته، فكأن التأويل جمع معان مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه، قال الليث: التأوّل والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه (¬2). وقد ذكر الجوهري (ت: 400) هذا المعنى فقال: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء وقد أولته وتأولته تأولاً بمَعْنىً (¬3) قلت: ويتضح لنا بما سبق أن المعاجم اللغوية قد اتفقت على أَن لفظ: "التأويل" يستعمل في معنيين: الأول: التفسير والبيان. الثاني: المرجع والمصير. وهذان المعنيان هما اللذان يذكرهما المفسرون (¬4) في تفسيرهم للفظ "التأويل" على أنهما المعنى اللغوي، وكذلك هما اللذان سادا في ¬

_ (¬1) ابن فارس: مقاييس اللغة 1/ 159، وتفسير التأويل بمعنى المرجع والمصير هو الذي اتفقت عليه جميع المعاجم اللغوية كالصحاح للجوهري 4/ 1628، والفيروزآبادي في القاموس المحيط 3/ 331 وابن منظور في لسان العرب 11/ 32 والزبيدي في تاج العروس: 7/ 214. (¬2) الآزهري: تهذيب اللغة 15/ 458. (¬3) الجوهري: الصحاح 4/ 1627، وانظر الفيروزآبادي في القاموس المحيط: 3/ 331 وابن منظور في لسان العرب: 11/ 33، والزبيدي في تاج العروس: 7/ 215 .. (¬4) انظر تفسير الطبري 6/ 204، وتفسير الفخر الرازي 7/ 188، وتفسير ابن الجوزي 1/ 345.

استعمالات السلف منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن استعماله عليه الصلاة والسلام للفظ "التأويل" بمعنى التفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - داعياً لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فَقَهْهُ في الدِّينِ وَعَلَّمْهُ التأوِيلَ" (¬1). ومن استعماله - صلى الله عليه وسلم - للفظ "التأويل" بمعنى المرجع والمصير قوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] وذلك عندما سئل عن معناها فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأتِ تَأوِيلهَا بَعْدُ" (¬2). أي مآلها ومصيرها. وثمة معنى ثالث ذكره ابن منظور (ت: 711) والزبيدي (ت: 1205) للفظ "التأويل" إلاَّ أنهما ذكراه عمن لا يحتجّ بهم في اللغة، إذ أنهم ليسوا برواة لغة لأنهم وُجِدُوا في عصور متأخرة، وأقدم هؤلاء المنقول عنهم هذا المعنى الجديد هما أبو الفرج بن الجَوْزِيّ الحنبلي (ت: 597) وابن الأثير (ت: 606). يقول ابن الجوزي: التأويل نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ (¬3). ويقول ابن الأثير عن التأويل: أنه نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ (¬4). وهذا المعنى ينقله الزبيدي كذلك عن ابن الكمال (ت: 940) إذ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه رقم 166 وأحمد 1/ 266، 314 وقد صححه الشيخ الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية 172. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد 3/ 38، رقم 1467. وانظر تفسير ابن كثير 2/ 140 وتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: 106. (¬3) الزبيدي: تاج العروس 7/ 215. (¬4) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 1/ 280 وقد نقل هذا الكلام ابن منظور في لسان العرب 11/ 33.

يقول: "التأويل صرف الآية عن معناها إلى معنى تحتمله، إذا كان المعنى المحتمل الذي تصرف إليه الآية موافقاً للكتاب والسنة" (¬1). ثم ينقل عن جمع الجوامع للسبْكِي (ت: 771) أن التأويل "هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل فصحيح، أوْ لِمَا يظن دليلًا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل" (¬2). قلت: والذي يبدو أن ما ذكره ابن منظور والزبيدي من هذا المعنى للتأويل، إنما ذكراه استطراداً، لا أنه من معانيه اللغوية، بدليل ما أشرنا إليه آنفاً إلى أن المنقول عنهم هذا المعنى الجديد لم يكونوا من المعاصرين لعصر الرواية حتى يُعْتَدَّ بكلامهم، إضافة إلى أن هذه المعاني أوردها ابن منظور والزبيدي مجرّدة عن الأمثلة والشواهد. وهذا عكس ما عهدناه منهما إزاء الاستعمالين الآخرين للفظ التأويل، حيث أورد كلّ منهما من الأمثلة والشواهد ما وضح به المعنى المراد من الكلمة. ويترتب على هذه الملاحظة نتيجة مهمة وهي: أن الكلمة لم تستعمل في هذا المعنى مطلقاً بين رجال اللغة في العصور المتقدمة، إذ لو استعملت عندهم في ذلك المعنى لأوْرَدُوا لها أمثلة وشواهد توضيحية كما فعلوا إزاء الاستعمالين الآخرين (¬3). ¬

_ (¬1) الزبيدي: تاج العروس: 7/ 214. (¬2) م، ن. وانظر حاشية البناني على جمع الجوامع للسبكي: 2/ 46 (ط: مصر 1285). وهذا المعنى هو الذي نجده في أغلب كتب الأصول والكلام والتفسير، يقول الباجي (ت: 474) في كتابه الحدود: 48 "التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتملها ويقول ابن رشد (ت: 595) "التأويل هو إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخلّ ذلك بعادة العرب في التجوز في تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو حقه، أو مقارنة، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" فصل المقال: 58، وانظر الغزالي: فيصل التفرقة: 188، الرازي أساس التقديس 182 - 189 التهانوي (ت: 1158) كشاف اصطلاحات الفنون 1/ 89، 793 (ط: خياط) ولقد أدى ظهور هذا المعنى الاصطلاحي إلى ظهور تأويلات ممقوتة وبعيدة كل البعد عن روح الإسلام وحقائقه. (¬3) الجَليَنْد: ابن تيمية وقضية التأويل:

التأويل في القرآن

وعلى الرغم من كل ما تقدم فقد كُتِبَ لهذا المعنى الثالث الغريب عن اللغة الذيوع والانتشار بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين، واستعملوه على أوسع نطاق، بحيث أصبح هو المتبادر إلى الذهن عند سماع لفظة "التأويل" وهو الشائع في معاجم اللغة المتأخرة، وقد تنوسي معه المعنيان المذكوران في معاجم اللغة المتقدمة في القرن الرابع وما قبله. التأويل في القرآن: معنى التأويل في القرآن الكريم لا يختلف عن معناه في اللغة، غير أن هذا لا يبدو واضحاً تمام الوضوح إلاَّ باستقراء الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ "التأويل" ومن أقوال السلف في تفسير هذا اللفظ. لقد تكررت كلمة التأويل في القرآن في سبع سور (¬1)، وتكرر ذكر كلمة التأويل في بعض السور أكثر من مرة كما في سورة يوسف والكهف. وأول سورة ذكر فيها التأويل هي سورة "آل عمران" والتى سوف نترك الحديث عنها لأننا سنتكلم عليها بإذن الله باستفاضة في مبحث المحكم والمتشابه (¬2). 1 - التأويل في سورة النساء: وقد وردت كلمة التأويل في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. أخرج ابن جرير الطبري بسنده عن مجاهد (¬3) أنه قال في تفسير ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا: تفسير المنار 3/ 182. (¬2) صفحة: (663) من هذا البحث. (¬3) يعتبر مجاهد إماماً من أئمة المفسرين: قال عنه الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك =

2 - التأويل في سورة الأعراف

{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}: أحسن جزاء (¬1). وقال قتادة: أحسن ثواباً وخير عاقبة، وقال السدي: عاقبة (¬2). قال شيخ الإِسلام: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قالوا: (أي السلف) أحسن عاقبة ومصيراً. فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الردّ إلى الكتاب والسنة (¬3). 2 - التأويل في سورة الأعراف: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52 - 53]. يقول ابن جرير الطبري في تفسير معنى التأويل في هذه الآية الكريمة: أي ما يؤول إليه عاقبة أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وَصَلِيِّهِم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به (¬4). وقال قتادة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي عاقبته، وفي رواية عنه: ثوابه (¬5). قال ابن كثير: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}: أي ما وُعِدُوا به من العذاب والنكال .. قاله مجاهد وغير واحد. ¬

_ = به، وعلى تفسيره يعتمد الإِمام الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهما. مجموع الفتاوى: 3/ 55. (¬1) تفسير ابن جرير الطبري: 8/ 506 (ط: شاكر) وانظر السيوطي في الدر المنثور: 2/ 579 (ط: دار الفكر 1983). (¬2) م، ن. (¬3) مجموع الفتاوى: 17/ 366. (¬4) تفسير الطبري 12/ 478. (¬5) م، ن. والسيوطي: الدر المنثور 3/ 470 (ط: دار الفكر 83) وانظر ابن تيمية مجموع الفتاوى 3/ 56.

3 - التأويل في سورة "يونس"

وقال مالك: ثوابه (¬1). وقال شيخ الإِسلام: " ... وعن ابن عباس في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} تصديق ما وعد في القرآن، وعن قتادة تأويله: ثوابه، وعن مجاهد: جزاؤه، وعن السدي: عاقبته، وعن ابن زيد حقيقته، قال بعضهم: تأويله، ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار" (¬2). 3 - التأويل في سورة "يونس": قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]. قال ابن جرير الطبري: "ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك، ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه، مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم، ولم يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله به في هذا القرآن" (¬3) وعن الضحّاك: يعني عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه كان من الوعيد (¬4). قال الشيخ رشيد رضا: "فسر أهل الأثر تأويله هنا بنحو ما تقدم، أي ما يؤول إليه الأمر من ظهور صدقه، ووقوع ما أخبر به، ولما كانت عاقبة المكذبين قبلهم الهلاك، كان تأويله أن تكون عاقبتهم كعاقبة من قبلهم" (¬5). فالتأويل هنا المراد به: وقوع ما أخبر به القرآن، وهو الأثر الخارجي ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 2/ 220، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 17/ 364. (¬2) تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: 102. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 17/ 365. (¬4) تفسير الطبري 15/ 93 (ط: شاكر) وانظر تفسير سورة الإخلاص: 105. (¬5) تفسير المنار: 3/ 173.

4 - التأويل في سورة "يوسف"

والمدلول الواقعي بوعيد هؤلاء، ولا يصح بحال أن يكون معنى التأويل هنا أو في الآية السابقة: التفسير والبيان أو إرادة غير الظاهر (¬1). 4 - التأويل في سورة "يوسف": تكررت كلمة التأويل في سورة يوسف في ثمانية مواضع: الموضع الأول: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ .... } [يوسف: 6]. قال الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: أي ويعلمك ربك من علم ما يؤول إليه أحاديث الناس عما يرونه في منامهم، وذلك تعبير الرؤيا. وعن مجاهد: ويعلمك من تأويل الأحاديث قال: عبارة الرؤيا (¬2). الموضع الثاني: قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. قال السدي في تأويل الآية الكريمة: أي تعبير الرؤيا، ومثله عن مجاهد وعن أبي نجيح. الموضع الثالث: قوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]. فَسَّرهَا الطبري بمعنى أخبرنا بما يؤول إليه أمر ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا (¬3)، وعن مجاهد: عبارته (¬4). ¬

_ (¬1) الجَلْيَنْد: ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل: 39. (¬2) تفسير الطبري 12/ 153 - 154 الدر المنثور: 4/ 499 (ط: دار الفكر: 83). (¬3) م، ن: 12/ 215. (¬4) الدر المنثور 4/ 536 (ط: دار الفكر: 83).

الموضع الرابع: قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37]. فسرها السدي بما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه (¬1). الموضع الخامس: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 43 - 44]. فسرها الطبري بمعنى: وما نحن بما تؤول إليه الأحلام الكاذبة بعالمين (¬2). الموضع السادس: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] فسرها الطبري بمعنى ما يؤول إليه المنام (¬3). الموضع السابع: قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100]. فسرها الطبري بمعنى أن يوسف قال لأبيه: هذا ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها .. قد حققها ربي لمجيء تأويلها على الصحة (¬4). الموضع الثامن: قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]. وفسرها مجاهد التأويل هنا بالتعبير (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 12/ 217 وانظر ابن تيمية مجموع الفتاوى 17/ 365. (¬2) تفسير الطبري: 12/ 226 - 227. (¬3) م، ن: 12/ 227 هذا هو المفهوم من مجموع كلامه في الآية الكريمة. (¬4) م، ن: 13/ 73. (¬5) م، ن: 13/ 74.

5 - التأويل في سورة "الإسراء"

ونخلص من هذا العرض للمواضع الثمانية أن معنى التأويل يقصد به تعبير الرؤيا، أي ما تؤول إليه (¬1). 5 - التأويل في سورة "الِإسراء": قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35]. فسر مجاهد وقتادة كلمة التأويل هنا بالمآل والمرجع والعاقبة (¬2) والثواب. 6 - التأويل في سورة "الكهف": قال تعالى حكايه عن موقف الخضر من موسى لما تتابعت أسئلته ولم يستطع صبراً على ما رآه من الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]. فسرها الطبري بمعنى أن الخضر قال: سأخبرك بما يؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها ولم تستطع علي ترك مسألتك إياي عنها صبراً (¬3). ولما بيَّن الخضر ما أشكل على سيدنا موسى قال له في النهاية: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في معنى الآية الكريمة: "وهذا تأويل فعله ليس هو تأويل قوله، والمراد به عاقبة هذه الأفعال بما يؤول إليه" (¬4). يتبين لنا من هذه الآيات الكريمة أن لفظ التأويل لم يستعمل إلاَّ بمعنى ¬

_ (¬1) انظر ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة: 1/ 9، رشيد رضا: تفسير المنار: 3/ 173. (¬2) تفسير الطبري 15/ 85، الدر المنثور 5/ 285 (ط: دار الفكر: 83) تفسير ابن كثير 3/ 39. (¬3) تفسير الطبري 16/ 7. (¬4) مجموع الفتاوى: 17/ 367.

التأويل في السنة وعند السلف

المآل والمرجع والمصير، أو الأثر الخارجي الذي يقع جزاء لقوم وعاقبة لهم، أو مآلاً لأحاديث الناس وتعبيراً لرؤياهم (¬1). التأويل في السنة وعند السلف: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعى لعبد الله بن عباس فقال: "اللهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التأوِيل" (¬2). فالتأويل هنا كما هو ظاهر يراد به التفسير وبيان معاني الآيات القرآنية وتوضيح المراد منها. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر الآية الكريمة: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ .... } [الأنعام: 65] بأنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد (¬3)، أي لم يحصل، ولم يحدث مدلولها العملي والواقعي الذي هو عين تأويلها، والذي هو مصير المخاطبين وعاقبة أمرهم (¬4). ومنه قول عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سُبْحَانَكَ اللهُم رَبنا وَلَكَ الحَمْد، اللهُم اغْفِر لِي، يَتَأوَّل القُرْآنَ" (¬5)، يعني قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (¬6) كما ثبت عن كثير من السلف أنهم كانوا يقولون في بعض الآيات: هذه ذهب تأويلها وهذه لم يأت تأويلها (¬7). ¬

_ (¬1) الجليند: ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل: 41. (¬2) سبق تخريجه صفحة: 232/ 1 وربما يتهمني القارئ بتكرار النصوص المستشهد بها، والواقع أن المقام هو الذي يستدعي إيرادها، فمثلاً الحديث "اللهم فَقهْهُ في الدَّين" استشهدت به في السابق على أنه من لغة العرب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح من نطق بلغة الضاد، واستشهدت به الآن لبيان الفهم الصحيح لمدلولات الألفاظ الذي كان عليه السلف. (¬3) أخرجه الترمذي في التفسير رقم 3068. (¬4) الجليند: ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل: 33. (¬5) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 68 وسيأتي تخريج هذا الحديث صفحة: 242 ت 1. (¬6) م، ن: 3/ 56. (¬7) أخرج الطبري بسنده عن أبي مازن قال: "انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فقال أكثرهم:

أخرج الطبري بسنده عن أبي العتاهية قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين ما يكون بين الناس حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال فسمعها ابن مسعود فقال: مه، لما يجىء تأويل هذه بعد! إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار .. الأثر (¬1). قلت: ولو رحنا نستقصي أقوال السلف وتفسيراتهم للفظ "التأويل" لطال بنا المقام، ونكتفي في هذه العجالة ببيان مراد السلف بعامة بلفظ "التأويل" فنقول: إن لهذا اللفظ في عرف السلف (¬2) معنيين: أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه سواء أوافق ظاهره أم خالفه، فيكون التأويل والتفسير بهذا المعنى متقاربين أو مترادفين، وهذا الذي عناه ابن جرير الطبري في تفسيره عندما قال: القول في تأويل قوله كذا وكذا ... واختلف أهل التأويل في هذه الآية، ونحو ذلك، ومراده التفسير (¬3). ¬

_ = لم يجىء تأويلها هذه الآية اليوم" 11/ 140 (ط: شاكر) وانظر هذا الأثر في الدر المنثور: 3/ 217 (ط: دار الفكر: 83). (¬1) 11/ 433 - 144 وأورده السيوطي في الدر المنثور: 3/ 216 (ط: دار الفكر 83) وعزاه إلى نعيم بن حماد في الفتن، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان. (¬2) لا شك أن السلف هم أدرى بلغة القرآن الكريم وبتفسيره، وفهمهم هو الفهم الصحيح الذي يشبه العسل المصفى. (¬3) ومنه قول الإِمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة": بيان ما تأولت الجهمية من قول =

الثاني: التأويل بمعنى الحقيقة الخارجية والأثر الواقعي المحسوس لمدلول الكلمة، وهو الذي تحدث به القرآن في كثير من الآيات، فقد تكررت -كما مر معنا- كلمة "التأويل في القرآن" في أكثر من عشرة مواضع، وكان معناها في جميع استعمالاتها هو الأثر الواقعي لمدلول اللفظ المستعمل سواء كان ذلك في الماضي أو المستقبل. فمن المعلوم أن الكلام ينقسم إلى نوعين: إنشاء وخبر. فالتأويل استعمل في الإنشاء في تنفيذ الأوامر والنواهي، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ يُكْثِرُ أنْ يَقولَ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهم رَبنا وَبِحَمْدِكَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأوَّلُ القُرْآنَ" (¬1)، تَعْنِىِ قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] (¬2). ومن هنا قال السلف: إن السنة هي تأويل الأمر والنهي. وقد استعمل التأويل في الخبر وهو نفس الحقيقة المخبر عنها، وهذا يشمل إخبار الله عن أمور الغيب كالقيامة وأحوالها والبعث، ومن هذا الباب الكلام في الصفات، فهذا النوع لا يعلم حقيقته كيفاً وقدراً إلاّ الله عز وجل (¬3). والآن وبعد أن عرفنا معنى التأويل في اللغة والشريعة، أرى من الواجب ¬

_ = الله، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} الآية صفحة 138 (ط: دار اللواء بالرياض 1977). فأبطل تلك التأويلات التي ذكرها، وهو تفسيرها المراد بها. انظر ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة: 1/ 16. (¬1) رواه البخاري في صفة الصلاة 2/ 247، ومسلم في الصلاة رقم 484، وأبو داود في الصلاة رقم 877 والنسائي في الافتتاح 2/ 219. (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 3/ 56، ابن الأثير: جامع الأصول: 4/ 191 - 192. (¬3) انظر محمد السيد الجليند: ابن تيمية وموقفه من التأويل: 132، محمود خفاجي: في العقيدة الإسلامية 77.

تمهيد

أن أتكلم عن فكرة "قانون التأويل" لدى ابن العربي، ولدى العلماء الذين سبقوه وأثروا في منهجه وتفكيره فنقول: تمهيد: بما لا يقبل الشك أن ابن العربي نظر إلى أحوال العلماء في عصره نظرة مليئة بالنقد الدقيق، فهو من هنا فكر في وضع نهج عام يُخلّص به الثقافة الإِسلامية من الركود والجمود، بل ومن التبعية للفكر اليوناني الغريب عن الإِسلام. فقد سعى رحمةُ الله عليه لتهديم كلّ البناء الذي أنشأه الفلاسفة (الإِسلاميون!!)، متأثراً بشيخه الإِمام الغزالي (¬1)، على أن ابن العربي لم يقتصر على الناحية السلبية فحسب، بل عمل على ألاَّ يقف عمله على النقض والتهديم، بل تعداه إلى تشييد صرح ديني قوامه كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فتميز تفكيره بأصالة الِإفادة من أفكار سابقيه، مع الابتكار في حدود الكتاب والسنة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المبحث هو: هل وُفِّقَ ابن العربي إلى الالتزام بالكتاب والسنة في كل ما حرره من مباحث التوحيد ومتعلقاته؟ أم تأثر بشيوخه وثقافة عصره التي كانت تميل إلى المعقول المناكب -في بعض الأحيان- للمنقول. هذا ما سيكشف عنه بحثنا عن موقف ابن العربي من العلاقة بين العقل والشرع. فكرة قانون التأويل لدى العلماء: شغل ابن العربي في بداية طلبه للعلم بكثير من القضايا الفكرية المهمة ¬

_ (¬1) بخصوص نقد الإِمام الغزالي للفلاسفة، انظر المقدمة النقدية الممتازة التي كتبها أستاذنا د. سليمان دنيا لكتاب "مقاصد الفلاسفة" للغزالي (ط: دار المعارف). (¬2) وهذا واضح كل الوضوح في كتبه بعامة "والعواصم" بخاصة.

التي يُعَولُ عليها في فهم كتاب الله وسنة رسول الله صلوات الله عليه، فراح يستهدي العلماء في حل مشكلات هذه القضايا ومعرفة غامضها ومبهمها، فخص - رحمه الله - الِإمام الغزالي بالنصيب الأوفر من هذه الأسئلة والاستفسارات العقدية المشكلة، فكان جواب الغزالي بمثابة القانون الكلي المعتمد، الذي يرجع إليه في تأويل كثير من قضايا ومباحث العقيدة. فالغزالي هو أول من تكلم عن التأويل من الأشاعرة بشكل منظم (¬1)، ووضع له قانوناً خاصاً بفضل الأسئلة التي طرحها عليه فقيهنا ابن العربي (¬2). وقبل أن نتعرض لبحث قانون التأويل عند الجويني والغزالي وابن العربي أودّ أن أشير إلى أن قانوناً للتأويل كان قد وضعه الفيلسوف أبو علي ابن سينا (ت: 428) نبهنا إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية بقوله: ( ... وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم ... كالقانون الذي ذكره في "رسالته الأضحوية" وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذباً وباطلاً ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة .... " (¬3). قلت: وبالرجوع إلى هذه الرسالة الأضحوية (¬4)، نرى ابن سينا يقول ¬

_ (¬1) د. محمد السيد الجليند: ابن تيمية وقانون التأويل: 213، قلت: وقد تكلم الجويني في هذا الموضوع كما سيأتي معنا. (¬2) لقد توصلت بحمد الله- إلى أن كتاب "قانون التأويل" للإمام الغزالي الذي نشره لأول مرة الشيخ محمد بن زاهد الكوثري (ط: عزت الحسيني القاهرة 1359) هو عبارة عن الأجوبة التي أجاب بها الغزالي عن أسئلة تلميذه ابن العربي، وقد صرّح ابن تيمية بأن السائل هو "ابن العربي" درء تعارض العقل والنقل: 1/ 5، كما توجد هذه الأجوبة في الخزانة العامة بالرباط ضمن مجموع تحت رقم: (555 ق) وقفت عليه، كما توجد كذلك بمكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت ضمن مجموع (- LA MS: 297-3. A.AL) من (1 - 24). وقد اشتهرت هذه الأجوبة عند المغاربة فَضَمَّنُوهَا كتبهم، وانظر على سبيل المثال الونشريسي في المعيار المعرب: 11/ 24 - 27. (¬3) ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 1/ 5. (¬4) الاسم الكامل لهذه الرسالة هو: "رسالة أضحوية في أمر المعاد" نشرت بتحقيق أستاذنا د. سليمان دنيا (ط: دار الفكر العربي 1368 - 194

فيها: " ... وأما الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد هو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافةً .... " (¬1). قلت: وقد تكفل شيخ الإِسلام ابن تيمية بالرد على هذه الأقاويل والدعاوى (¬2) في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، فأجاد وأفاد رضي الله عنه. والذي يهمنا في هذا المبحث هو: هل تأثر الِإمام الغزالي (¬3) بآراء الفلاسفة في هذا الموضوع؟ أم استقل بفكره دون تأثير؟. الواقع أن هذا التساؤل من الأهمية بمكان، وليس باستطاعتنا في هذه العجالة أن ندلي برأينا مع التدليل عليه بالحجج والبراهين لأن هذا سيستغرق صفحات ليست بالقليلة، ولكن والحالة هذه، فلا مانع من القول بأن الِإمام الغزالي قد تأثر بالفلاسفة بعامة وابن سينا في رسالته الأضحوية بخاصة (¬4)، وذلك باتساعه في تأويل ما لا يدرك عقلاً، وهذا ما رامه ابن سينا في رسالته. وهنا يصدق على الإِمام الغزالي ما قاله ابن العربي: "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منها فما قدر" (¬5). ¬

_ (¬1) الرسالة الأضحوية: 44. (¬2) للاطلاع على آراء الفيلسوف المتكلم ابن رشد في التأويل انظر مقدمة د. محمد رشاد سالم لدرء تعارض العقل والنقل: 1/ 18، حيث أشار إلى كتاب "مناهج الأدلة إلى عقائد الملة" 132 - 133، وانظر: "فَصْل المقال": 34 (ط: الجزائر: 82). (¬3) ركزت على الغزالي بصفته شيخاً لابن العربي والمؤثر فيه تأثيراً قوياً. (¬4) لقد درست "الرسالة الأضحوية" دراسة دقيقة وقارنتها بآراء الغزالي في كتبه في هذا الموضوع، فتكون لي بهذا الصنيع بحث جيد أرجو أن يوفقني الله لتنقيحه ونشره. (¬5) لم أعثر على هذه المقالة في كتب ابن العربي المطبوعة والمخطوطة التي استطعت الاطلاع عليها، ولكن هذا لا يمنع ثبوتها عنه فقد رواها عنه كبار الأئمة ممن يوثق في دينهم وعلمهم منهم شيخ الإِسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: 1/ 5، وملا علي القارئ في شرح الشفا للقاضي عياض: 505 (ط: إستانبول 1299) كما ذكرها الإِمام الذهبي بالصيغة التالية: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع". (سير أعلام النبلاء: مخطوط دار الكتب المصرية رقم 12195، ورقة 75/ ب-76/

قلت: ومن عجائب القدر، أن ابن العربي الذي أدرك هذه الحقائق وانتقد شيخه ومحبه من أجلها، نراه قد تأثر هو الآخر بالتأويل فقرره في كتبه على الطريقة الغزالية، مع اختلاف كثير (¬1) في التفصيلات التي تنجم عند تطبيق قانون التأويل على المسائل العقدية (¬2). وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن الغزالي قد سبقه إلى هذا القانون جماعة من المتكلمين مثل الباقلاني والجويني (¬3)، وقد رجعت إلى كتب الباقلاني فلم أهتد إلى نصوص صريحة تدل على تبلور هذه الفكرة بشكل منهجي منظم، وإن كانت روح التأويل سارية في كل كتاباته، أما في كتب أبي المعالي الجويني فقد عثرت على النصوص التالية والتي تمثل الأساس الذي بني عليه الإِمام الغزالي أفكاره وكذا الأشاعرة من بعده إلى يومنا هذا. يقول الجويني: " ... اعلموا -وفقكم الله- أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، وإلى ما يدرك سمعاً ولا يتقدر إدراكه عقلاً، وإلى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً (¬4) ... فإذا ثبتت هذه المقدمة فيتعين على كل معتنٍ بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية، فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله، فلا وجه إلاَّ القطع به. وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعاً، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل ¬

_ (¬1) ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن ابن العربي قد خالف شيخه الغزالي في كثير من المسائل التي سأله عنها. درء تعارض العقل والنقل: 1/ 5. (¬2) انظر فصل: "ذكر المعنى الذي أوجب العثور في النظر" من كتاب "قانون التأويل" الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه، وانظر العواصم من القواصم: 126، 324، 327، 333. (¬3) درء تعارض العقل والنقل: 1/ 6. (¬4) الجويني: الإرشاد: 1/ 35.

إلى القطع، ولكن المتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دلّ الدليل السمعي على ثبوته، وإن لم يكن قاطعاً. وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفاً لقضية العقل، فهو مردود قطعاً فإن الشرع لا يخالف العقل .. " (¬1). قلت: وبعد الجويني جاء تلميذه الغزالي فأفصح عن هذه المعاني بصورة محكمة منظمة، وذلك في جوابه لأسئلة ابن العربي (¬2)، حيث قسم الخائضين في التأويل إلى خمس فرق: الفرقة الأولى: هم الذين وقفوا مع المنقول وصدقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلاً، امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كلّ شيء. الفرقة الثانية: وهم الذين وقفوا على النقيض من أصحاب الفرقة الأولى، فَجَرَّدُوا النظر في المعقول ولم يكترثوا بالمنقول، فإذا سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه، وإن سمعوا ما يخالف عقولهم، زعموا أن ذلك صوَّره الأنبياء للعوام على سبيل التمثيل، فغلوا في المعقول حتى كفروا، إذ نسبوا الأنبياء إلى الكذب لأجل المصلحة. الفرقة الثالثة: وهم الذين جعلوا المعقول أصلاً فطال بحثهم عنه، فضعفت عنايتهم بالمنقول، فلما سمعوا من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه، وكذبوا راويه، إلاَّ ما يتواتر عندهم كالقرآن، ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في ردِّ الأحاديث الصحيحة. الفرقة الرابعة: وهم الذين جعلوا المنقول أصلاً وطالت ممارستهم له، فاجتمعت لهم الظواهر الكثيرة، ولما لم يغوصوا في المعقول، ولم يخوضوا فيه، لم تتبين لهم المحالات العقلية. ¬

_ (¬1) م. ن: 359 - 360. (¬2) والتي طبعها الشيخ محمد بن زاهد الكوثري باسم "قانون التأويل".

الفرقة الخامسة: وهم الذين توسطوا في البحث فجمعوا بين المعقول والمنقول، وجعلوا كل واحد منهما أصلاً مستقلاً، وأنكروا أن يتعارض العقل والنقل، وذلك لأن من كذب العقل فقد كذب الشرع، إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق العقل لما عرف الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق من الكاذب، وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلاَّ بالعقل (¬1). قلت: وقد اعتبر الإِمام الغزالي أصحاب هذه الفرقة الخامسة هم المحقون الذين نهجوا منهجاً قويماً فراح يوصيهم بأن لا يكذبوا برهان العقل أصلاً، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب فلعله كذب في إثبات الشرع، إذ به عرفنا الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مزكي الشرع (¬2). قلت: وإذا رجعنا إلى كتاب "قانون التأويل" لابن العربي، نراه قد حذا حذو شيخه في الكلام على التأويل والخائضين فيه فقال: "إن العقل والشرع إذا تعارضا، فإنما ذلك في الظاهر بتقصير الناظر، وقد يظهر للناظر المقصر أن يجعل الشرع أصلاً فيرد إليه العقل. وقد يرى غيره أن يجعل العقل أصلاً فيردّ الشرع إليه. وقد يتوسط آخر فيجعل كل واحد منهما أصلاً بنفسه. فالناظر الذي قدم المعقول، سيأتيه من ظاهر الشرع ما يقلب حقيقة الشرع، ولا سبيل إليه. والذي يجعل العقل أصلاً، والشرع تبعاً، إن أخذه كذلك مطلقاً، ورد ما ينكره القلب ببادىء الرأي في مورد الشرع بما يستحيل في العقل، فإن وقف في وجه الشرع فهو مكذب، وإن قال بما في الشرع فهو متناقض، وإن ¬

_ (¬1) اعتمدت في نقل كلام الإِمام الغزالي على رسالة "قانون التأويل" (ط: الكوثري) 1 - 4 مع تصرف يسير. (¬2) م، ن: 10.

توسط فهو الناظر العدل، يجعل كل واحد منهما أصلاً عقلاً ونقلاً" (¬1). قلت: ومفهوم التوسط عند ابن العربي هو تقديم العقل على الشرع، فقد صرح بهذا في كتابه "المتوسط في الاعتقاد" حيث قال: " ... إن الشرع لا يجوز أن يَرِدَ بما يَرُدُّهُ العقل، وكيف يصحّ ذلك والعقل بمثابة المزكي للشرع والمعدِّل له، فكيف يصح أن يجرَّح الشاهد مزكيه .. " (¬2). العقل والنقل، هل يتعارضان؟. إن مبحث صلة العقل بالنقل من أهم المباحث التي ثار حولها الجدل بين أهل الحديث المتبعين للكتاب والسنة، وبين علماء الكلام والفلاسفة الإِسلاميين المبتدعين للمناهج العقلية المناكبة للأدلة الشرعية، وقد رأينا ابن العربي قد أعجب بمناهج المتكلمين في وضع قانونهم الكلي، فتابعهم متابعة المأموم للإمام، باذلاً وسعه في تطبيق ما ارتضاه على مباحث الشريعة والتي يوهم ظاهرها منافاة صريح العقل، مع أن العقل الصريح لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يناقض منقولاً صحيحاً، وإنما الَّذي يظن أنه معقول قد عارض المنقول الصحيح فإنه لا يعدو أن يكون شبهات وخيالات طارئة أو كما سماها شيخ الإِسلام ابن تيمية: شبه سوفسطائية لا براهين عقلية (¬3). وكذلك ما يظن أنه منقول صحيح قد عارض المعقول الصريح، قد يكون المستدل به غالطاً في المتن بحيث يكون ذلك النص غير منقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يكون مكذوباً عليه، وقد يكون غالطاً في الاستدلال ¬

_ (¬1) ابن العربي: قانون التأويل. (¬2) ابن العربي: المتوسط: 11، وانظر هذا القانون الكلي عند الفخر الرازي في كتابه "أساس التقديس في علم الكلام": 172 - 173 (ط: مصطفى الحلبي 1354)، "ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والحكماء والمتكلمين": 31 "ط: الحسينية 1323" وانظر بهامشه "معالم أصول الدين": 9. (¬3) درء تعارض العقل والنقل: 1/ 156.

بيان استحالة اعتبار العقل أصلا للشرع

بحيث يكون هذا النص لا يستدل به على مثل مطلوبه، وهذا كثيراً ما يحدث في جميع الفرق (¬1). بيان استحالة اعتبار العقل أصلاً للشرع: الحجة الأولى: لو تتبعنا كلام الفلاسفة والمتكلمين في الِإلهات والسمعيات لوجدنا أن كلا منهم يتأول الآية أو الخبر الصحيح بحجة أن عقله القاطع أبطل ظاهر الآية أو صحيح الأثر، فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقوان: إن أصلهم المتضمن لنفي الصفات والتكذيب بالقدر (¬2)، معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات (¬3) يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية، ومن يتأول السمع والبصر، يدعي أن عقله قطع بإحالة ذلك على الله، وكذلك من ينكر المجيء والاستواء والنزول فلا نجد مع أحدهم إلاَّ دعوى أن عقله القاطع أحال ذلك على الله تعالى. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: " ... فلو قيل بتقديم العقل على الشرع، وليست العقول شيئاً واحداً بَيِّناً بنفسه، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب، لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته، ولا اتفاق للناس عليه. وأما الشرع فهو في نفسه قول صادق، وهذه صفة لازمة، لا تختلف باختلاف أحوال الناس، والعلم بذلك ممكن، ورد الناس إليه ممكن، ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ ¬

_ (¬1) الجليند: ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل: 232. (¬2) وهذا ما يسمونه بالتوحيد والعدل. (¬3) أي إثبات الصفات.

الحجة الثانية

فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فأمر الله تعالى المؤمنين عند التنازع بالردَّ إلى الله والرسول، وهذا يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب، إذ لو ردُّوا إلى غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الردّ إلاَّ اختلافاً واضطراباً، وشكاً وارتياباً .. " (¬1). الحجة الثانية: إن ذهاب المتكلمين بعامة وابن العربي بخاصة إلى تقديم العقل على النص غير صحيح، وذلك لأنهم إما أن يريدوا بالعقل أنه أصل في إثبات الشرع في نفسه، أو يريدوا أنه أصل في علمنا بصحته. والأول محال لا يقول به عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره، هو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم يعلم ثبوته، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ثابت في نفس الأمر سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه، ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علمنا صدقه أو لم نعلم، فثبوت الرسالة في نفسها، وثبوت صدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، ليس موقوفاً على وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا (*). فتبين من هذا أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة كمال أو أي صفة لم تكن له (¬2). ¬

_ (¬1) ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 1/ 146 - 147. (*) ملاحظة: جل هذه الحجج قد أتى بها ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل بتفصيل يحمد عليه، كما لخصها تلميذه ابن قيم الجوزية في مختصر الصواعق المرسلة: 1/ 133. (¬2) م، ن: 1/ 87 - 88.

أما إن أرادوا بالعقل أنه أصل في معرفتنا بالشرع ودليل لنا عليه، فلا بدّ من التساؤل عن ماهية العقل الذي يعنونه؟. أهو الغريزة التي فينا والتي هي شرط في تحصيل العلوم؟. أم هو العلوم المستفادة من وجود تلك الغريزة؟. أما الأول فيمتنع أن يكون هو المراد؛ لأن وجود تلك الغريزة شرط في تحصيل أي علم عقلي أو سمعي، وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له. أما إذا عنوا بالعقل تلك المعرفة الحاصلة والتي استفدناها بوجود غريزة العقل -وهذا ما يعنيه فقيهنا ابن العربي إذ عَرَّفَ العقل بأنه العلم بعينه (¬1) - فإنه لا يسلم لهم؛ لأن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر. وليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً على صحته، إذ العلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول. وهذه الحقيقة قال بها ابن العربي نفسه في قانون التأويل (¬2) حيث أثبت "أنه لا يصح أن يأتي في الشرع ما يضاد العقل، فإنه الذي يشهد بصحة الشرع ويزكيه من وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول". فإذا كان الأمر كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلاً للنقل، فإذا وجد ما يعارض السمع من المعقولات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن القدح فيه قدحاً في أصل السمع، وليس القدح في بعض العقليات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها، كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها. وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالسمع ¬

_ (¬1) ابن العربي: سراج المريدين: 44/ ب. (¬2) ص: 646.

الحجة الثالثة

صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات المناقضة للسمع (¬1). الحجة الثالثة: إن الدليلين المتناقضين لا يخلوان إما أن يكونا قطعيين أو ظنيين، أو أحدهما قطعياً والآخر ظنياً. أما الأول فباطل؛ لأنه لا تعارض بين القطعيات. وأما الثاني فجائز، وفي هذه الحال يقدم السمعي على العقلي. وأما الثالث فجائز أيضاً وفي هذه الحال يقدم القطعي -أياً كان عقلياً أو سمعياً- ويردّ الظني -أياً كان سمعياً أو عقلياً. فتبين لنا أن الجهة التي يجب أن يرجح الدليل من أجلها هي كون دلالته على المطلوب قطعية، وليس من أصل كونه عقلياً أو سمعياً، وحينئذ يجب أن يرجح الدليل لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً. وجوب تقديم السمع على العقل: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كلِّ ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل" (¬2). قلت: وقد توسع شيخ الإِسلام في البرهنة على مطلوبه، وأبدع في ضرب الأمثلة من الواقع التي تبرهن على صحة وجوب تقديم السمع على العقل. ¬

_ (¬1) ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 1/ 89 - 90. (¬2) م، ن: 1/ 139 وما بعدها.

فالإنسان إذا علم بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره- كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه. أما قول ابن العربي السابق الذكر الذي يقول فيه: "إنَّ الشرع لا يجوز أنْ يَرِدَ بما يردَّه العقل وكيف يصح ذلك والعقل بمثابة المزكي للشرع والمعدل، فكيف يصح أن يجرح الشاهد مزكيه" (¬1) وكذلك قوله: "لا يصح أن يأتي في الشرع ما يضاد العقل فإنه الذي يشهد بصحة الشرع ويزكيه .. فكيف يأتي الشاهد بتكذيب المزكي" (¬2). قلت: وقد تكفل شيخ الإِسلام بالرد على هذه الدعاوى الباطلة من عدّة وجوه، وسأقتصر على نقل وجهين فقط في هذا المبحث وذلك لضيق المجال. قال ابن تيمية: "الشاهد إذا صرّح بتكذيب معدليه لم يكن تكذيب المعدَّل من عدله في قضية معينة مستلزماً للقدح في تعديله؛ لأنه يقول: كان عدلاً حين زكاني، ثم طرأ عليه الفسق، فصار يكذب بعد ذلك، ولا ريب أن العدول إذا عدّلوا شخصاً، ثم حدث ما أوجب فسقهم، لم يكن ذلك قادحاً في تعديلهم الماضي، كما لا يكون قادحاً في غير ذلك من شهاداتهم. فتبين أن تمثيل معارضة الشرع للعقل بهذا ليس فيه حُجة على تقديم آراء العقلاء على الشرع بوجه من الوجوه. وأيضاً فإذا سلّم أن هذا نظير تعارض الشرع والعقل فيقال: من المعلوم أن الحاكم إذا سمع جرح المعدَّل وتكذيبه لمن عدَّله في بعض ما أخبر به لم ¬

_ (¬1) ابن العربي: المتوسط: 11. (¬2) ابن العربي: قانون التأويل ص 646.

يكن هذا مقتضياً لتقديم قول الذينَ زكُّوه، بل يجوز أن يكونوا صادقين في تعديله، كاذبين فيما كذبهم فيه، ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله، وفي هذا، ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله، صادقين في هذا، سواء كانوا متعمدين للكذب أو مخطئين، وحينئذ فالحاكم يتوقف حتى يتبين له الأمر، لا يردّ قول الذين عدّلوه بمجرد معارضته لهم، فلو كان هذا وِزَانَ تعارض العقل والشرع، لكان موجب ذلك الوقف دون تقديم العقل" (¬1). وأختم هذه الردود برد لطيف ذكره الِإمام محمد بن المرتضى اليماني من مجتهدي القرن الثامن باليمن وهو: إن العلوم يستحيل تعارضُها في العقل والسمع، فتعارضها تقدير محال، فإنه لو بطل السمع أيضاً بعد أن دل العقل على صحته لبطلا معاً أيضاً؛ لأن العقل قد كان حكم بصحة السمع وأنه لا يبطل، فحين بطل السمع علمنا ببطلانه بطلان الأحكام العقلية (¬2). وبعد: فإن تقديم العقل على الشرع من أعظم الخطايا التي وقع فيها المتكلمون والتي أدَّت بنا إلى التحزب والفرقة والتكفير. فهذا الأصل الذي اتخذوه قانوناً أعظم فرية وأشدّ بلية وأكبر إثماً من كثير بما أجمعوا عليه أنه بدعة أو كفر. فمذهب السلف رضي الله عنهم فيه الإنسة والحجة وغيره فيه الوحشة والشبهة، وهذا المذهب هو الذي مال إليه فقيهنا ابن العربي في أواخر حياته حين قال: " ... إن ما لا يوافق الشرع المنقول مطروح وإن قبلته ظواهر العقول ... " (¬3). ¬

_ (¬1) ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 1/ 143 - 144. (¬2) وقد نسب ابن المرتضي هذا الرد إلى شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن دقيق العيد وبدر الدين الزركشي في شرحه لجمع الجوامع للسبكي، إيثار الحق على الخلق: 123. (¬3) ابن العربي: المسالك شرح موطأ مالك: ورقة 2 (مخطوط دار الكتب المصرية). قلت: ولا شك أن هذه العبارة هي توجيه بالغ للمستبصرين وتعليم هام للمسترشدين.

ابن العربي واستدلاله على وجود الله وصفاته العلى

ابن العربي واستدلاله على وجود الله وصفاته العلى: تعرض ابن العربي رحمه الله في فصل "ذكر معرفة النفس" إلى دلالة الأنفس على وجود الله سبحانه فأجاد وأفاد، ملتزماً في سوقه للأدلة بالطريقة الشرعية (¬1). وتعتمد هذه الدلالة على ما يعرض للِإنسان من أطوار، كما تعتمد من جهة أخرى على أنه خلق في أحسن تقويم، وذلك كله مشاهد لا يخفى على أحد. فكل عاقل يعرف من أحوال نفسه أنه كان نطفة، فصارت النطفة علقة، ثم مضغة، ثم لحماً وعصباً وعظاماً. وآلات وحواس موافقة لمصالحه، ثم بعد الانفصال من قرار مكين، تعاقبت عليه الأحوال من صغر وكبر، وقوة وضعف، وجهل وعقل، فلا بد لهذه التغيرات من مغيّر قادر عالم، فتبارك الله أحسن الخالقين. كذلك هذا الِإحكام الدقيق، والعناية والِإبداع العجيب في خلق الإِنسان، وتركيب حواسه، ووضع كل عضو في موضعه المناسب لأداء وظيفته (¬2)، كل هذا يدل دلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض على وجود الخالق سبحانه وتعالى (*). ويذهب ابن العربي -أحياناً- مذهباً آخر، فيثبت صفات الباري تعالى بطريق العقل (¬3)، معتمداً على ما ذهب إليه شيوخ الأشاعرة، فرؤية العبد لما هو عليه من الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود، والانتقال من صفة إلى صفة، والاختصاص بحالة دون حالة بالمزايا المختلفة من العلم والنطق ¬

_ (¬1) ص: 457. (¬2) ص: 460. (*) للوقوف على الطرق التي استعملها ابن العربي في الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى انظر الدكتور عمار طالبي: آراء أبي بكر بن العربي الكلامية 1/ 240 - 246. (¬3) من المعلوم أن ابن العربي يميل في هذا المجال إلى إثبات صفات الله عز وجل بمنهج عقلي صرف، نعم لا مانع لديه بعد إثبات الصفة من أن يدلل عليها بالنقل، ولكن الأصل في الاستدلال هو العقل لا السمع، ونراه ينتقد بعنف إمام الحرمين الجويني لأنه يعتمد على السمع فقط. انظر قانون التأويل: 461.

والتدبير والحياة والقدرة، دليل على أنه كائن لموجد قادر، فهذه أول صفة من صفات الخالق الموجد وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). كما انتهج ابن العربي في الدلالة على كونه تعالى عالماً طريق المتكلمين بعامة (¬2) والذي يرتكز على مبدأ الِإحكام والِإتقان بمعنى أن هذا العالم منسق ومنظم ومدبر أحسن تنسيق وتنظيم وتدبير، وكلّ شيء فيه يسير نحو غاية معينة مرسومة، يقول ابن العربي: "ويدل إتقان جبلَّته وإحكام صنعته على أنه عالم" (¬3). وإذا كان إحكام صنعته يدلّ على أنه عالم، فإن ذلك يقتضي -عند ابن العربي -أيضاً أن يكون ذلك القادر العالم حيّاً، إذ يستحيل وصف الجماد الموات بالقدرة والعلم (¬4). وتعيين أحد جائزي الوجود من صفة وهيئة يدلّ على الإرادة، وهكذا فإن ابن العربي يعتمد على فكرة الإِمكان أو الجواز بمعنى أن الصفتين اللتين يمكن أن تتعاقبا على موصوف أو محل ما فإن اتصاف المحل بإحداهما لا يكون إلا بسبب يعين أو يرجح إحدى الصفتين الممكنتين أو الجائزتين، وهذا التعيين إنما هو وظيفة الِإرادة، إذ لا يمكن لنا أن نضيف ذلك إلى القدرة أو الحياة أو العلم (¬5). ¬

_ (¬1) م، ن: 459. (¬2) الأشعري: الإبانة: 63 - 64، الجويني: الإرشاد: 61 - 62 الشهرستاني: نهاية الأقدام 274، الإيجي: المواقف (بشرح الجرجاني): 8/ 65 - 66، وانظر تعليقنا رقم: (1) على قانون التأويل: 460. (¬3) قانون التأويل: 460. (¬4) انظر الباقلاني: التمهيد: 47 (ط: مصر)، البغدادي: أصول الدين: 105، الإيجي: المواقف (بشرح): 8/ 80 وانظر تعليقنا رقم: (2) على قانون التأويل: 460، وينبغي التنبيه على أن المراجع التي أذكرها هنا هي للِإشارة بعامة، أما التي ذكرتها بالقانون فهي للأشاعرة الذين يحتمل أن يكون المؤلف قد تأثر بهم خلا المراجع السلفية. (¬5) انظر استدلال الأشاعرة على صفة الإِرادة: الرازي محصل أفكار المتقدمين: 131 - 133 (ط: الحسينية: 1323)، الإيجي: المواقف (بشرح الجرجاني): 8/ 58 - 59.

أما إثبات صفتي السمع والبصر للباري جلّ شأنه فقد اختار ابن العربي منهج العقل في إثباتها مشنعاً على من ارتضى طريق السمع وحده، والحق أن طريق المتكلمين -في إثبات هاتين الصفتين- قد تباينت فمن قائل أن الدليل عليهما هو السمع فقط (¬1) ومن قائل بأن الأدلة عقلية ونقلية. وقد اعتمد ابن العربي على نصّ لأبي إسحاق الِإسفراييني (ت: 418) من الأهمية بمكان، لم أعثر على من نسبه إليه في كتب المتكلمين رغم بحثي الجادّ عنه، وهو قوله في إثبات صفتي السمع والبصر: "لأنه قد خلقهما للعبد ومحال أن يخلق ما لا يعلم، وعليه نبه بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] (¬2) وقريباً من قول الإسفراييني ذهب ابن رشد (¬3) في "مناهج الأدلة" (¬4) حيث قال: "ولما كان الصانع من شرطه أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع وجب أن يكون له هذان الإدراكان، فواجب أن يكون عالماً بمدركات البصر وعالماً بمدركات السمع، إذ هي مصنوعات له .. ". قلت: وقد ساق ابن العربي قول الغزالي في إثبات الصفتين السابقتين والذي معتمده فيه حجّة الكمال المشهورة، يقول الإِمام الغزالي: "من المعلوم أن الخالق أكمل من المخلوق، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر والسميع أكمل ممن لا يسمع، فيستحيل أن يثبت وصف كمال للمخلوق ولا نثبته للخالق" (¬5). قلت: ودليل الغزالي هذا يقرب من قول الِإسفراييني وابن رشد وثلاثتهم يعتمدون على فكرة واحدة وهي إثبات الكمال كله لله. إلاَّ أن حجة ¬

_ (¬1) كنصير الدين الطوسي في كتابه تجريد الاعتقاد: 159 (عن المرحوم محمد صالح الزركان: فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية: 316) والجويني في الإرشاد: 74. (¬2) قانون التأويل: 461. (¬3) ويحتمل أن يكون قد تأثر هذا الفيلسوف الفقيه بقول أبي إسحاق الإسفراييني المتكلم. (¬4) ص: 166. (¬5) إحياء علوم الدين: 1/ 138 (ط: الشعب).

الِإمام الغزالي انتقدها فخر الدين الرازي الأشعري بقوله: "ومن الأصحاب (يقصد الغزالي) من قال السميع البصير أكمل ممن ليس بسميع، والواحد منا سميع بصير، فلو لم يكن الله تعالى كذلك لكان الواحد منا أكمل من الله تعالى، وهو محال، وهذا ضعيف، لأن لقائل أن يقول: الماشي أكمل ممن لا يمشي، والحسن الوجه أكمل من القبيح، والواحد منا موصوف به، فلو لم يكن الله تعالى موصوفاً به لزم أن يكون الواحد منا أكمل من الله تعالى" (¬1). ثم بعد أن قرر ابن العربي إثبات الصفات نفى أن يكون للباري جلّ وعلا شبه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (¬2)، وقد اعتمد في تنزيهه على مجرد نفي التشبيه، والاعتماد على مجرد نفي الشبيه ليس بسديد لأنه ما من شيئين إلاَّ بينهما قدر مشترك، وقدر مميز، ولا يلزم من الاشتراك أو المشابهة المماثلة في حقيقة المعنى المشترك بينهما فمن المعلوم أن كل موجودين لا بدّ بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى الوجود مثلًا والقيام بالنفس ونحو ذلك، ونفي ذلك القدر من المشابهة يؤدي إلى التعطيل كما ذهب إلى ذلك الفلاسفة في نفيهم للصفات نفياً محضاً، فلا بد من إثبات خصائص الربوبية في كل ما يتصف به بما هو مشترك بينه وبين عباده، ولولا ذلك القدر المشترك لما استطعنا أن نفهم معنى ما خوطبنا به من الصفات الِإلهية، فنثبت له صفاته على وجه لائق به؛ لأنه ليس كمثله شيء، ولما لم يكن في إثبات ذاته مماثلة بينها وبين بقية الذوات، كذلك صفاته ليس في إثباتها مماثلة لصفات غيره. وهذه الطريقة التي اجتباها ابن العربي هي التي ألجأته إلى تأويل آيات وأخبار الصفات بحجة أن ظاهرها لا يفهم منه إلاَّ ما يدل على صفات المُحْدَثِين، وهكذا فإنه لزم من توحيد ابن العربي ومن ذهب مذهبه تعطيل الصفات وتأويلها. ثم بعد أن استدل ابن العربي - رحمه الله - على التوحيد ونفي التشبيه ¬

_ (¬1) محصل أفكار المتقدمين: 124 (ط: الحسينية: 1343). (¬2) قانون التأويل: 462.

أشار إلى القدرية واعتبرهم موازين في قولهم -إن العباد يخلقون الشر دون الله- للثنوية، وأبان رحمه الله بأن الكل هو خلق الله واستدل بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] (¬1)، وهنا أود أن أقرر مذهب السلف رضي الله عنهم لأن مذهب ابن العربي في هذه المسألة أشعري المشرب، يقول بنظرية الكسب بمعنى أن أفعال العباد فعل الله، وليست للعبد، ولكنها تستند إليه لكسبه إياها، فهي مكسوبة للعبد وليست فعلاً له، وإن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله ولا في صفة من صفاته وإنما أجرى الله سبحانه العادة بخلق مقدور العباد مقارناً لقدرتهم، فيكون الفعل مخلوقاً ومفعولاً لله وكسباً للعبد، فالكسب عندهم عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق عن اقتران المقدور بالقدرة القديمة (¬2). ومذهب السلف في هذا الموضوع هو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الذي خلق العبد هلوعاً إذا مسّه الشر جزوعاً وإذا مسّه الخير منوعاً، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله مشيئة وقدرة، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فالقرآن قد أثبت للعبد مشيئة، وأخبر أنها لا تكون إِلا بمشيئة الله، وهناك آيات عديدة تخبر بأن العباد يفعلون ويصنعون وأن لهم قوة واستطاعة، فالسلف يرون أن الله خالق لذلك كله، والعبد فاعل لفعله حقيقة. فالله خالق لكل شيء حقيقة ومن بينها أفعال العباد؛ لأنه خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي أودع الأسباب قوة التأثير في مسبباتها، فالآيات التي تنسب الأفعال إلى الله تعالى هي حق فيما دلت عليه بدون تأويل؛ لأنَّ الله خالق كل شيء، والآيات التي تنسب الفعل إلى العبد هي حق فيما دلّت عليه بدون تأويل، لأن ¬

_ (¬1) م، ن: 463. (¬2) انظر قولهم هذا عند الأشعري: اللمع: 69، الباقلاني: الإنصاف: 40، البغدادي، أصول الدين: 133، الجويني: الإرشاد: 187، الشهرستاني: الملل والنحل: 97، الإيجي 8/ 145، ومقدمة المرحوم محمود قاسم لمناهج الأدلة لابن رشد: 108 - 112.

الإنسان هو العالم الأصغر

العبد له قدرة مؤثرة في أفعاله كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، ولا شيء في ذلك من المجاز أو يحتاج إلى تأويل. الإنسان هو العالم الأصغر: ثم بعد أن ساق ابن العربي الأدلة العقلية والنقلية على وجود الله سبحانه واتصافه بصفات الكمال قال: "وهكذا تستدل أيها العبد بنفسك على ربك، حتى لقد غلا في ذلك بعضهم فقال: إن الِإنسان هو العالم الأصغر، والسموات والأرض بما تشتمل عليه هو العالم الأكبر، وأفرط في التشبيه بينهما والمناسبة لهما وليس ذلك بمعترض على الدين ولا قادح في عقيدة المسلمين" (¬1). قلت: وهذا الذي ارتضاه ابن العربي غير مرضيّ ولا مقبول عند علماء المسلمين المتبعين للطريق المبين، وذلك لأن هذه الأقوال هي من سواقط كلام الفلاسفة (¬2)، ومن المعلوم أن للفلاسفة اصطلاحاتهم التي تحمل تصورات كاملة للكون والحياة والوجود، فإذا ما استعرنا عباراتهم وتشبيهاتهم بحجة أنها لا تتعارض مع ما ورد في الشرع. فإن هذا لن يستقيم لنا، وسيغزو فكرهم عقائدنا بما يحمل من مدلولات مناقضة للشرع. وحتى نتبين خطورة هذه الفكرة التي قبلها ابن العريي مختاراً فإننا ننقل ملخصها كما جاءت في كتاب "الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة" (¬3) لابن السيد البَطَلْيَوْسِي الأندلسي (ت: 521). قال: " ... وخلق الله عَزَّ وَجَلَّ الِإنسان آخر المخلوقات، وجمع في خلقه جميع ما في العالم، فصار مختصراً منه، وجعله حدّاً بين عالم الحسن ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 464. (¬2) وتبعهم في ذلك الصوفية، انظر هذه الفكرة عند لسان الدين بن الخطيب في روضة التعريف بالحب الشريف: 1/ 156 الذي يقول: "إن الإنْسَانَ نسخة من العالم، وأنه عالم صغير" وانظر الغزالي ميزان العمل: 200. (¬3) ص: 28 - 30.

وعالم العقل، فهو آخر الموجودات الطبيعية وأول الموجودات العقلية، وهو معرض لأن يعلو فيلحق بالملأ الأعلى، ويسفل فيلحق بالعالم الأدنى، وقد قلت في ذلك من الخفيف: أنت وسط ما بين ضدين يا إنسان ... ركبت صورة في هيولى أن عصيت الهوى علوت علواً ... أو أطعت الهوى سفلت سفولا فمن أجل أنه جمع في خلقته جميع ما في العالم الأكبر، صار مهيئاً بفطرته الفاضلة، مستعداً بقوته العاقلة لأن يتصور جميع ما في العالم الأكبر، وبيان ذلك أن مدركات الِإنسان صنفان: محسوسات ومعقولات، فالأشخاص هي المحسوسات وأنواعها وأجناسها، ومبادئها هي معقولاتها، وله إدراكان: إدراك بالحس للأشياء المحسوسات، وإدراك بالعقل للأشياء المعقولة لأن كل شيء إنما يدرك بشكله، فإدراكه المحسوسات يسمى كماله الأول وحياته الأولى، وإدراكه المعقولات يسمى كماله الثاني وحياته الأخيرة، فإذا كان العالم كله صنفين -محسوساً ومعقولاً- وكان كمال جوهر الإنسان بإدراكهما معاً، وكان مهيئاً بفطرته لذلك صار الإنسان إذا أدرك المحسوسات والمعقولات فقد تصور بصورة العالم الأكبر، فالإنسان إذاً يستحق أن يسمى عالماً صغيراً من وجهتين: أحدهما: خلقة لا عمل له فيها. والثاني: لاكتساب يكتسبه، إلاَّ أن سعادته إنما هي بالاكتساب وحصول العقل المستفاد (¬1)، وأما خلقته فإنما هي هيئة واستعداد جعل معرضاً بهما لنيل السعادة، إن فهم ذاته وعلم مرتبته من العالم نجا وسعد، وإن جهل ذاته ولم يعرف ما الغرض بكونه آخر الموجودات هلك وطال شقاؤه، ولذلك قال ¬

_ (¬1) العقل المستفاد عند الفلاسفة هو عبارة القوة النظرية حالة كونها عالمة ومدركة كحال الإنسان عند كتابته، وبعبارة أخرى: هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه. انظر: الآمدي: المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين: 63، الجرجاني: التعريفات: 81.

تأثر ابن العربي ببعض آراء الفلاسفة

النبي - صلى الله عليه وسلم -: الناس نِيَامٌ فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا" (¬1). وقال: " أعْلَمُكُمْ بِنَفْسِهِ أعلَمُكُمْ بِرَبهِ" (¬2). قلت: إن الركون إلى مثل هذه العبارات والأفكار الفلسفية يفضي -لا محالة- إلى طريق مليء بالمنعرجات التي تؤدَّي إلى الهلكة، والناظر في مثل هذه الأقوال وان كان بعضها غير قادح في عقيدة المسلمين -على حد تعبير ابن العربي- فإن جلها ينطوي على شبهات إذا خالطت العقلَ واليقين تفسده، فيصاب المشتغل بها بالحيرة والشك والاضطراب، فالأحرى بالمسلم أن يقتصر على الألفاظ الواضحة ذات الدلالات الشرعية السليمة، والحمد لله فإن في مكتبتنا الإِسلامية السنية ثروة طائلة من الألفاظ الدقيقة والتعابير الحكيمة تزخر بها كتب التوحيد والحديث والتفسير وإنها لتدل بسلامتها وأصالتها ووضوحها ودقة تعبيرها وإحكام تحريرها على أن الذين تعاطوا العلوم الشرعية كانت مرضاة الله دائماً نصب أعينهم، فلم يحيدوا عن الطريق، فسددهم الله إلى سواء السبيل. تأثر ابن العربي ببعض آراء الفلاسفة: سبق أن عرفنا أن ابن العربي قد يستعير بعض الصور والأفكار من الفلاسفة والصوفية ويسكبها في قالب سني، ولكن هل وفق في منهجه هذا أم أخفق؟. باستطاعة الباحث الجزم بأن القاضي ابن العربي وفق إلى أبعد الحدود في نقض كلام الفلاسفة وآراء مختلف الطوائف، ولكن -والعصمة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم من التأثر بمقولاتهم، وهنا أود أن أشير إلى أن ابن العربي لم يكن وحيد دهره في الانفراد بهذا التأثر، فإن الأمر أوسع من هذا، ¬

_ (¬1) هذا حديث موضوع وإسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطل. انظر تعليقنا رقم: 1 على قانون التأويل: 567. (¬2) انظر تعليقنا رقم: 1 على قانون التأويل: 467.

فقد كان علم الكلام الذي نشأ إسلامياً (¬1) ثم أخذ ينجر بذاته ويجر المنجذبين إليه من العلماء القائمين بالتصدي للملل والنحل الكافرة، ويجر أيضاً المتشيعين لمباحثه من عموم المؤمنين المتعلقين بالمباحث الكلامية إلى الفلسفة، كما أن الفلاسفة الإِسلاميين!! الذين استبطنوا الفلسفة اليونانية وتشربوها -بحكم وجودهم في محيط إسلامي- كانوا مدفوعين إلى أن يصبغوا -من حيث شاؤوا أو لم يشاؤوا- مباحثهم الفلسفية بلون من التفكير الديني، إن يكن صحيحاً أو فاسداً، أو يكن عميقاً أو سطحياً. وبهذا المعنى أصبحت مباحث المتكلمين من جهة ومباحث الفلاسفة من جهة أخرى، متأثرة على التفاوت بعضها ببعض، وعلى هذا فإن الألفاظ التي تجري على ألسنة المتكلمين ومنهم ابن العربي لم تكن معهودة على ألسنة السلف، بل والمعاني التي يصورها المتكلمون وإن يكن بعضها راجعاً إلى معنى من التلاقي مع عقيدة السلف في الأصول الإِسلامية الإِجمالية العامة فإن صورة تفصيلها قد أصبحت فيها من الخلط والزيف الكثير، فمن هنا برزت النبوة الواضحة بين المنهج الكلامي وبين ما عليه جمهور المسلمين. نعود إلى ابن العربي بعد هذا الاستطراد الذي لا يخلو من فائدة -إن شاء الله- فنقول: لقد بحث ابن العربي في موضوعات فلسفية وصوفية، ولم يكن بحثه فيها إلا بحثاً جزئياً؛ لأنه تناول في "قانون التأويل" مسائل معينة وجزئيات محصورة لأجل تقويم المنهج الاستدلالي، مع الغايات التي يرمي إليها في الحفاظ على المقالات السُّنِّيَّةِ. وقد وفق ابن العربي في أغلب ما تطرق إليه من موضوعات مختلفة إلاَّ أننا نأخذ عليه بعض الهنات البسيطة والتي ربما تكون لها عواقب وخيمة، وذلك كقوله في فصل ذكر حقيقة النوم وحكمته": " ... وإن نظرنا إليه (أي إلى النوم) من حيث أنه انقطاع عن عالم التصرف ¬

_ (¬1) أعني أنه في بداية ظهور علم الكلام لم تكن هناك ألفاظ اصطلاحية مثل الجوهر والعرض والحيز وغيرها.

الأدنى مع الآدميين، والإكباب على الدنيا ومعانيها، وأنه إقبال على الملائكة المقربين، وتفريغ القلب لإدراك الحقائق بطريق الأمثال، والاطلاع على ما يكون غداً، رأينا أنه حياة صحيحة ... " (¬1). قلت: قارن قوله هذا بقول شيخه الِإمام الغزالي في "المنقذ من الضلال" والذي يقول فيه: " ... وقد قرّب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة، وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير ... " (¬2). قلت: ويرى الدكتور إبراهيم بيومي مدكور أن عبارة الغزالي هذه تحمل في ثناياها أفكاراً فارابية واضحة، وأنه اعتنق تلك النظرية عن أساس من الفيض والإشراق (¬3). قلت: وقد صاغ الفارابي نظريته في النبوة على أساس قوله بالفيض (¬4)، فقد رأى أن مخيلة النبي تتصل بالعقل الفعال الذي يفيض عليها فتدرك أمور الغيب. أما كيف يحدث هذا الاتصال. فالفارابي يقول إن المخيلة -كما أنها قوة قادرة على حفظ صور المحسوسات الخارجية- فهي أيضاً تستطيع أن ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 470. (¬2) المنقذ: 146. (¬3) في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق: 132. (¬4) تتلخص نظرية الفيض في أن الواحد -الله سبحانه- يصدر منه العالم حين يعقل أو يعلم ذاته، لكن هذا الصدور ليس صدوراً مباشراً بل يتم بوسائط، فمن الأول يفيض وجود ثان هو العقل الأول المحرك للفلك الأكبر، وتفيض بعد ذلك عقول ثمانية، الواحد من الآخر تنازلياً مع فيض نفوس هذه العقول نتيجة تأملها في ذاتها، في ذات الواحد أو العقل الذي يسبقه، وهكذا تتدرج حلقات الفيض في مراتبها حتى تأتي لمرتبة العقل الفعال الذي يشكل حلقة الاتصال بين العالم العلوي والعالم السفلي. والعقل الفعال أعلى مرتبة من العقل الإنساني ويقع خارجه، وفيه توجد كل الصور والحقائق، وبهذا تكون المعرفة هبة وفيضاً آتياً إلى العقل الإنساني من الخارج. انظر آراء المدينة الفاضلة للفارابي: 24 - 66 (ط: ألبير نادر) والدكتور حسام الألوسي: دراسات في الفكر الفلسفي الإِسلامي: مبحث "نظرية الفيض الفارابية نظرة معاصرة": 14.

تشكل صوراً تحاكي بها الصور المخزونة فيها، وتتجلى استطاعتها هذه في الأحلام، ففي الحلم تبتدع المخيلة صوراً تناسب الأحوال العضوية والنفسية التي تشغل الشخص أثناء نومه .. على أنه قد يوجد من الناس من يتمتع يمخيلة تتمكن من أن تنصرف عن الشواغل الحسية، وترقى أثناء النوم إلى العالم الروحاني، وتطلع هناك على الحقائق التي تفيض عن العقل الفعال ... والمختارون من البشر هم الذين تتساوى عندهم أوقات اليقظة وأوقات النوم، فتصعد مخيلتهم إلى العقل الفعال في النهار، كما تصعد في الليل، وهؤلاء هم الأنبياء، وما تراه مخيلتهم أثناء اليقظة هو الوحي (¬1). قلت: وقد أوضح الدكتور مدكور أن هذه النظرية قد تأثر صاحبها بنظرية الأحلام (¬2) عند أرسطو (¬3). وقد حذا ابن سينا حذو الفارابي فأخذ عنه هذه النظرية بحذافيرها (¬4). وهكذا فإن تأثير أرسطو سرى بين الفلاسفة وعلماء الكلام إلى أن وصلت ملامح منه إلى الإِمام أبي بكر بن العربي. والواقع أن هذه النظرية هي من أخطر النظريات التي دخلت الفكر الإِسلامي قصد تشكيك الناس في النبي والنبوة، وسنتكلم عنها في مبحث قادم -إن شاء الله تعالى- والذي نفتقر إليه الآن هو معرفة أن الرؤيا ثلاثة أنواع: 1 - رؤيا من الله سبحانه وتعالى. 2 - رؤيا من الشيطان. 3 - رؤيا من حديث النفس. ¬

_ (¬1) آراء المدينة الفاضلة: 68 - 76 (ط: مصر) وقد آثرت الإتيان بنص الفارابي -على طوله- لكي يتمكن القارئ من المقارنة بين الأقوال الثلاثة: أقوال الفارابي -الغزالي- ابن العربي. (¬2) ملخص هذه النظرية هي أن الحلم صورة ناتجة عن المخيلة التي تعظم قوتها أثناء النوم على أثر تخلصها من أعمال اليقظة. (¬3) الفلسفة الإِسلامية منهج وتطبيق: 124 - 138. (¬4) الإشارات والتنبيهات: 3/ 863 (ط: أستاذنا الدكتور سليمان دنيا).

أبو بكر بن العربى وتأويله لاسم الجلالة "النور"

والرؤيا الصحيحة أقسام: منها إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد، ومنها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها، ومنها دخول روح النائم إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات، وهذا الموضع هو الذي اضطرب فيه العلماء واستغله الفلاسفة والصوفية لنشر مذهبهم، قال الِإمام ابن قيم الجوزية في هذا الموضوع: " ... فمن قائل أن العلوم كلها كامنة في النفس وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنها مطالعتها: فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها، ولما كان تجردها بالموت أكمل كانت علومها ومعارفها هناك أكمل. وهذا فيه حق وباطل، فلا يرد كله، ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي، والأسماء والصفات والأفعال، وغير ذلك بما لا يعلم إلاَّ بالوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر بما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية" (¬1). أبو بكر بن العربى وتأويله لاسم الجلالة "النور": تعرض المؤلف - رحمه الله - في فصل "ذكر قانون من التأويل في آية معينة" إلى شرح قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية (¬2) [النور: 35] فقال: "قال علماؤنا: أراد الله منوّر السموات بما خلق فيها من الأنوار ¬

_ (¬1) ابن قيم: الروح: 30. (¬2) قانون التأويل: 475.

المحسوسة كالكواكب، ومنور القلوب بما خلق فيها من الهدى، ولذلك قالوا: نور بمعنى هادي التفاتاً إلى هذا المعنى" (¬1). قلت: وابن العربي تأثر بالمعتزلة في هذا التأويل الغريب الذي رفضه في كتابه "الأمد الأقصى" كما سيأتي معنا. وقد ذهبت المعتزلة عن بكرة أبيها إلى وجوب تأويل اسمه تعالى "النور" فيكون مجازاً، معناه منور السموات والأرض بالنور المخلوق، ويتعين المجاز -في رأيهم- لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الله تعالى ليس هو هذا النور المنبسط على الجدران ولا هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار، فإما أن يكون مجازه منوِّر السموات، أو هادي أهلها. قلت: وهذا الذي ارتضوه باطل لا يقول به عاقل، وذلك من عدة أوجه: أولاً: أن اسم "النور" جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول، وأثبتوه في أسمائه تعالى، وهو مثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَةَ. هُوَ الله لَا إلهَ إلاَّ هُوَ الرحْمنُ الرحِيمُ .. الحديث إلى ذكر اسْمِهِ تَعَالَى "النور" (¬2). وهذا الحديث لم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة، ومحال أن يسمي نفسه نوراً وليس له نور ولا صفة النور ثابتة له، كما أن من المستحيل أن يكون عليماً قديراً سميعاً بصيراً ولا علم له ولا قدرة، بل صحة ¬

_ (¬1) م، ن. (¬2) أخرجه الترمذي في الدعوات رقم 3507، وابن ماجة في الدعاء رقم 3907 (ط: الأعظمي) "قال الدكتور الأعظمي: قال البصيري في الزوائد 234/ ب عدد أسماء الله الحسنى لم يخرجه من الأئمة السنة سوى ابن ماجه والترمذي. قلت: وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم 2384 (من موارد الظمآن) وحسّنه النووي في الأذكار.

هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت معانيها له، وانتفاء حقائقها عنه مستلزم لنفيها عنه، والثاني باطل قطعاً فتعين الأول (¬1). الثاني: ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهُم لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْض، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيَّامُ (¬2) السمَوَاتِ والأرْض، ولَكَ الحَمْدُ أنْ رَب السَّمَوَاتِ وَالأرْض ... " الحديث (¬3). وهذا الحديث الشريف يقتضي أن كونه نور السموات والأرض مغاير لكونه رب السموات والأرض، ومعلوم أن إصلاحه السموات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيهما هي ربوبيته، فدلّ على أن معنى كونه نور السموات والأرض أمر وراء ربوبيتهما، يوضحه أن الحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسموات والأرض، وهي ربوبيتهما وقيوميتهما ونورهما، فكونه سبحانه وتعالى ربّاً لهما وقيُّوماً لهما ونوراً لهما أوصاف له، فآثار ربوبيته وقيوميته ونوره قائمة بهما، وصفة الربوبية ومقتضاها هو المخلوق المنفصل، وهذا كما أن صفة الرحمة والقدرة والِإرادة والرضى والغضب قائمة به سبحانه، والرحمة الموجودة في العالم والإِحسان والخير والنعمة والعقوبة آثار تلك الصفات، وهي منفصلة عنه، وهكذا علمه القائم به هو صفته، وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته وهكذا (¬4). الثالث: إن المعتزلة ومن ارتضى مذهبهم قد وقعوا في المحظور أولاً ثم حاولوا التخلص فما قدروا، فإنهم فهموا أن حقيقة النور ومدلوله هو هذا النور ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة 2/ 189. (¬2) وفي رواية "قَيِّم" والقَيومُ هو القَائمُ الدائمُ بلا زوال، ووزْنُهُ فَيْعول، من القِيَام وهو نَعْت المُبَالَغَة في القيام على الشَّيْء ويقال: هو القَيم على كلَ شَيْءٍ بالرعَايَةِ لَهُ، انظرَ الخطابي: شأن الدعاء: 81. (¬3) مسلم في صلاة المسافرين وقصرها رقم: 769. (¬4) ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة 2/ 191.

الواقع على الحيطان والجدران، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أدى بهم إلى إنكار حقيقة النور، فجمعوا بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق، فالنور الذي عنوه ليس هو نور الرب عَزَّ وَجَلَّ القائم به الذي هو صفته، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه كما سبق أن أشرنا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: "أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْض" لم يفهم منها قطعاً أن الله هو هذا النور المنبسط على الحيطان والجدران، ولا فهمه الصحابة عنه، بل علموا أنَّ لنور الرب تعالى شأناً آخر هو أعظم من أن يكون له مثال، فالقرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم متطابقة يوافق بعضها بعضاً، وتصرح بالفرق الذي بين النور الذي هو صفته والنور الذي هو خلق من خلقه، وكما أنه لا يماثل في صفة من صفات خلقه، فكذلك نوره سبحانه لا كالأنوار المخلوقة (¬1). الرابع: إن كبار علماء الكلام كأبي محمد بن عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب (ت: 240) (¬2)، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة من أئمة المتكلمين لم يذكروا الخلاف في اسمه تعالى "النور" إلاَّ عن المعتزلة، فإنكار كونه نوراً هو قول المبتدعة، ولا يحسن بالإمام ابن العربي -وهو الشديد على أهل البدعة- أن يكون متبعاً في هذه الفكرة أهل الجحود والتعطيل. قال الإِمام ابن فورك في كتابه "مقالات أبي محمد بن كُلاب وأبي الحسن الأشعري: "إن المشهور من مذهبه (أي مذهب الأشعري والله أعلم) بأن الله سبحانه نور لا كالأنوار حقيقة، لا بمعنى أنه هاد" (¬3). وقال في كتابه "التوحيد": ¬

_ (¬1) م، ن: 2/ 193. (¬2) هو أحد كبار الأئمة المتكلمين من مثبتة الصفات، وصفه الجويني بإمام أهل السنة في عصره، الإرشاد: 119 وانظر عن آرائه الكلامية: الدكتور علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/ 265 - 284. (¬3) عن ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة 2/ 196.

إن سأل سائل عن الله سبحانه عَزَّ وَجَلَّ أنُورٌ هو؟ قيل له: كلامك يحتمل وجهين: إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا، وهذه صفة النور المخلوق، وإن كنت تريد معنى ما قاله الله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالله سبحانه نور السموات والأرض على ما قال، فإن قال: فما معنى قولك: نور؟ قيل له: قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق، وما معنى نور الخالق، وهو سبحانه الذي ليس كمثله شيء، ومن تعدى أن يقول: الله نور، فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين؛ لأن الله لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به، فَإنْ قال: لا أعرف النور إلاّ هذا النور المضيء المتجزىء قيل له: فإن كان لا يكون نور إلا كذلك، فكذلك لا يكون شيئاً إلاَّ وحكمه حكم ذلك الشيء ... فإذا قال عز وجل: إنِّي نور، قلت أنا: هو نور على ما قال سبحانه وتعالى، وقلت أنت: ليس هو نوراً، فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت؟ وكيف يتبين الحق فيه إلاَّ من جهة ما أخبر الله سبحانه، والدافع لما قال الله كافر بالله، وإن لزمنا أن لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق، لزمنا أن لا نقول إن الله حيّ سميع بصير موجود، لأن ذلك موجود في الخلق، وَمَعْنَانَا في هذا الباب خلاف مَعْنَاكمْ، لأن معناكم في ذلك التعطيل، وَمَعْنَانَا في قولنا: الله نور، نثبت لله تعالى (اسم النور) على ما ورد به في كتابه بما تسمى به عندنا، فنحن مُتبعون ما أخبرنا به في كتابه، فإن جاز لكم أن تقولوا: شيئاً لا كالأشياء، جاز لنا أن نقول: نور لا كالأنوار (¬1)، وأنتم ظلمة فيما سألتم، جحدة لما أخبر به عن نفسه في كتابه" (¬2). قلت: سبق أن ذكرت أن ابن العربي لم يؤول اسم الجلالة "النور" في كتابه "الأمد الأقصى" بل ارتضى ما ذهب إليه الِإمام الأشعري بأنه نور لا كالأنوار، وقد تعرض لأقوال العلماء في هذا الموضوع وذكر بعض آراء منها: ¬

_ (¬1) قلت: وقد أخطأ القرطبي خطأ مبيناً عند نسب هذا القول في كتابه الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى "لوحة 146/ ب" إلى المجسمة. (¬2) ابن قيم الجوزية: مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 196.

القول الأول: إن النور بمعنى هادي، قاله ابن عباس (¬1). وقد ناقش ابن قيم الجوزية هذا القول فأوضح بأن هذا التفسير عن عبد الله بن صالح بن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس في ثبوت ألفاظه عن ابن عباس نظر، لأن الوالبي لم يسمعها من ابن عباس فهو منقطع، وأحسن أحواله أن يكون منقولًا عن ابن عباس بالمعنى، ولو صحّ ذلك عن ابن عباس فليس مقصوده به نفي حقيقة النور عن الله، وأنه ليس بنور، ولا نور له، كيف وابن عباس هو الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله في صلاة الليل اللهُم لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ" (¬2)، وكذلك لفظ الآية والحديث ينبو عن تفسير النور بالهادي؛ لأن الهداية تختص بالحيوان، وأما الأرض نفسها والسماء فلا توصف بهدى. والقرآن والحديث وأقوال الصحابة صريح بأنه سبحانه وتعالى نور السموات والأرض، ولكن عادة السلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها ولازماً من لوازمها، أو الغاية المقصودة منها، أو مثالاً ينبه السامع على نظيره، وهذا كثير في كلامهم، فكونه سبحانه هادياً لا ينافي كونه نوراً (¬3). القول الثاني: معناه مُنَوِّر، قاله ابن مسعود، وروى أن في مصحفه: {مُنَوِّرُ السمَوَاتِ وَالأرْض} (¬4). رد ابن قيم الجوزية على أصحاب هذا القول بأن هذا لا ينافي كونه تعالى في نفسه نوراً، وأن يكون النور من أسمائه وصفاته، بل يؤكد ذلك، فإن الموجودات النورانية نوعان: منها ما هو في نفسه مستنير ولا ينير غيره كالجمرة ¬

_ (¬1) الأمد الأقصى: 91/ ب وانظر الأعشى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي: 145/أوأخرج هذا الأثر الطبري في تفسيره 18/ 135، وذكره السيوطي في الدر المنثور: 6/ 197 (ط: دار الفكر 1983) وعزاه إلى جماعة منهم ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 199. (¬4) الأمد الأقصى: 91/ ب، القرطبي: الأسنى 145/ أ.

مثلاً، فهذا يقال له نور، ومنها ما هو مستنير في نفسه وهو منير لغيره كالشمس والقمر والنار، وليس في الموجودات ما هو مُنوِّرٌ لغيره، وهو في نفسه ليس بنور، بل إنارته لغيره فرع كونه نوراً في نفسه، فقراءة عبد الله بن مسعود مُنوِّر تحقيق لمعنى كونه نوراً، وهذا مثل كونه متكلماً معلماً مرشداً، مقدراً لغيره، فإن ذلك فرع كونه في نفسه متكلماً عالماً رشيداً قادراً (¬1). القول الثالث: إنه مزين، قاله أُبي بن كعب (¬2). قال ابن قيم: إن هذا القول لا أصل له عن أبي بن كعب، وهو بالكذب عليه أشبه، فإن تفسير أبيّ رضي الله عنه لهذه الآية معروف رواه عنه أهل الحديث من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي، ذكره ابن جريج ومعمر ووكيع وهشيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد وإسحاق وخلائق غيرهم، وذكر ابن جرير (¬3) وسعيد وعبد بن حميد وابن المنذر في تفاسيرهم عن طريق عبد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس بن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: فبدأ بنور نفسه فذكره، ثم ذكر نور المؤمن فقال: "مَثَلُ نُورِهِ"، يقول: مثل نور المؤمن، قال: وكان أبي بن كعب يقرأها كذلك مثل نور المؤمن. قال: فهو عبد جعل الإيمان في صدره كالمشكاة، قال: المشكاة صدره فيها مصباح، قال المصباح: القرآن والِإيمان الذي جعل في صدره ... إلخ. فهذا هو التفسير المعروف عن أبي بن كعب (¬4)؛ لا ما ذكر آنفاً. ونكتفي بهذا القدر من مناقشة أقوال العلماء في معنى "النور" مرددين مع ابن العربي قوله: "والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار (¬5)؛ لأنه الحقيقة ¬

_ (¬1) مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 199 - 200. (¬2) الأمد الأقصى: 91/ ب، القرطبي: الأسنى 145/ أ. (¬3) في جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 18/ 136. (¬4) انظر تفسير ابن كثير: 6/ 197 (ط: دار الفكر 1983). (¬5) الأمد الأقصى 92/ أ.

أبو بكر بن العربي وموقفه من الفضائل الأربعة

والعدول عن الحقيقة إلى أنه نور هادي أو منور وما أشبه ذلك مجاز من غير دليل لا يصح" (¬1). أبو بكر بن العربي وموقفه من الفضائل الأربعة: تكلم ابن العربي في فصل "ذكر تمام الوصول إلى المقصود من معرفة النفس والرب" (¬2) عن أصول الفضائل التي هي علامات النجاة للنفس باكتسابها لها، وحصرها في أربعة مواطن: الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، وبالرغم من اتباعه لمنهج الفلاسفة في هذا الحصر، فإنه لم يسلم بالمعاني والتفسيرات التي ارتضوها، بل حاول جاهداً أن يستخرج أصول هذه الفضائل من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة. معتمداً على المعاني اللغوية الأصلية، فهل وُفِّقَ ابن العربي في تصديه لهذا الغزو الفكري الذي غزا عقول جماعة كبيرة من علماء الأخلاق الِإسلاميين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المبحث مستعينين بالله وحده: اختلفت آراء الفلاسفة في تحديد الفضيلة منذ زمن طويل، فكان السوفسطائيون يزعمون أنهم مُعَلِّمُو فضيلة، ويقصدون بالفضيلة أنها كمال استعداد كل كائن فيما خلق له، ففضيلة السياسي كماله في المهارة وفوزه من أي طريق، وفضيلة الرائض مهارته في تدريب الخيول ... إلخ (¬3). ولكن سقراط كان يرى أنه لا فضيلة إلاَّ المعرفة، ويترتب على ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير ما لم يعلم الخير، وكل عمل صدر لا عن علم بالخير فليس خيراً ولا فضيلة، وإذا كان العلم هو الفضيلة فالجهل هو الرذيلة، وقد اعترض على نظرية سقراط هذه بأنه يحدث كثيراً أن نعلم الخير ¬

_ (¬1) الأمد الأقصى 92/ ب. (¬2) قانون التأويل: 480. (¬3) أبو بكر ذكرى: تاريخ النظريات الأخلاقية: 51.

الحكمة

ومع ذلك لا نفعله، ونعلم الشر ولا نتجنبه، فالمعرفة إذاً غير كافية في حمل الإنسان على العمل وفق ما علم. وقد هاجم أرسطو (¬1) نظرية سقراط فقال: لقد تناسى سقراط أن نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده، وتخيل أن كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل، وعلى ذلك إذا علم العقل صدر العمل، ولكن سقراط غاب عنه أن معظم الأفعال محكومة بالعواطف والشهوات، ولذلك فقد يقع الإنسان في الخطأ رغم علم العقل، وقد قرر أفلاطون أيضاً عدم كفاية النظرية السقراطية (¬2). وكان أفلاطون يرى أن أصول الفضائل أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، وقد جرى ابن مسكويه (ت: 421 هـ) والإمام الغزالي (¬3) على رأي أفلاطون في أصول الفضائل الأربع المشار إليها. يقول ابن مسكويه: "أجمع الحكماء على أن أجناس الفضائل أربع وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، ولهذا لا يفتخر أحد ولا يتباهى إلاَّ بهذه الفضائل فقط" (¬4). الحكمة: يرى أفلاطون أن الحكمة هي الفضيلة العليا التي تنشأ من سيطرة القوة ¬

_ (¬1) أما مذهب أرسطو في الفضيلة فقد ذهب إلى أن مقياس السلوك هو الالتزام الوسط العدل، فالفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط اللذين هما رذيلتان فمثلاً الشجاعة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة وهما التهور والجبن، وتسمى هذه النظرية بنظرية الأوساط، وقد شاعت نظرية الأوساط هذه في مدارس الفكر الإِسلامي، واتخذت طابعاً إسلامياً بالتدليل عليها من القرآن الكريم، وتبنى كثير من الفلاسفة المسلمين هذه النظرية وبنوا عليها أمهات الفضائل الأربع. (¬2) انظر أحمد أمين: الأخلاق 178 - 181. (¬3) انظر ميزان العمل: معارج القدس 85. (¬4) تهذيب الأخلاق: 17.

العاقلة على القوة الغضبية والقوة الشهوانية، ويتابع الإمام الغزالي أفلاطون فى أن الحكمة فضيلة القوة العقلية (¬1). أما ابن العربى فإن الحكمة عنده ليست إلاّ العلم غير أنها تزيد على العلم معنى العمل. يقول رحمه الله تعالي في كتاب الأمد الأقصى: "وقد اختلف الناس في الحكمة على أقوال يكثر تعدادها جماعها خمسة عشر قولاً: الأول منها: أنها العقل. الثاني: العلم (¬2). الثالث: أشرف العلوم. الرابع: الفهم. الخامس: العلم. السادس: علم الله. السابع: علم السنة. الثامن: الِإيمان. التاسع: النبوة. العاشر: اجتماع العلم والعمل. الحادي عشر: صواب الأمر. الثاني عشر: القضاء بالحكم. الثالث عشر: ما يمنع من الجهل. الرابع عشر: الكلام الموجز الدال على المعنى الكثير. الخامس عشر: ما وقع بقصد فاعله" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ميزان العمل: معارج القدس: 85. (¬2) القول بأن معنى الحكمة: العلم، تكرر بالأصل. (¬3) لوحة: 98/ أ.

الشجاعة

قلت: ثم بعد أن عدد - رحمه الله - هذه المعاني، ذكر المختار منها فقال: "اعلموا أن بعض المحققين من علمائنا قالوا أن حروف "ح ك م" كيف ما تصرفت إنما ترجع إلى العلم، والعقل نوع من العلم، والسنة نوع من العلم، والعلم بالله والنبوة علم شريف، واجتماع العلم والعمل علم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَزْني الزَّاني حِينَ يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (¬1). وقول المتكلم الحكمة ما وقع بقصد فاعله، إشارة إلى أن الفعل الواقع على وفق الإرادة يسمى حكمة؛ لأنه لا يقع كذلك إلا موافقاً للعلم" (¬2) فهذا هو رأي ابن العربي في الحكمة، وقد انتقد الفلاسفة بشدة حيث قال: "فزعمتم أنها (أي الحكمة) قُوَّةٌ عقلية تتلقى بها العلوم من الملأ الأعلى، في كلام طويل تركبون عليه مقاصدكم، وليس للحكمة معنى إلا العلم، ولا للعلم معنى إلا العقل، إلا أن في الحكمة إشارة إلى ثمرة العلم وفائدته، ولفظ العلم مجرد عن دلالة على غير ذاته، وثمرة العلم العمل بموجبه، والتصرف بحكمه، والجري على مقتضاه في جميع الأقوال والأفعال .. وليس يمتنع في اللسان العربي أن يسمى العمل بمقتضى العلم حكمة، على معنى تسمية الشيء بثمرته وفائدته" (¬3). قلت: ومنع ابن العربي أن تطلق الحكمة على من لا يستحقها من الأطباء والشعراء والمنجمين وحاسبي الرمل في الشوارع، وأسف لهذا الوضع المقلوب. الشجاعة: الشجاعة هي إحدى الفضائل الأربع الرئيسية -كما سبق أن ذكرنا- في الفلسفة اليونانية، عرفها ابن مسكويه بقوله: ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في تعليقنا رقم: 2 على قانون التأويل: 476. (¬2) الأمد الأقصى: 98/ أ. (¬3) العواصم من القواصم: 252 - 253.

"الشجاعة فضيلة النفس الغضبية وتظهر في الِإنسان بحسب انقيادها للنفس الناطقة المميزة، واستعمال ما يوجبه الرأي في الأمور الهائلة" (¬1). ومثل هذا عند الغزالي الذي يرى أن الشجاعة هي القوة الغضبية بكونها قوية الحمية، وهي وسط بين التهور والجبن، فالتهور عنده هو الزيادة على الاعتدال، وهي الحالة التي بها يقدم الِإنسان على الأمور المحظورة التي يجب في العقل الإحجام عنها. والجبن حالة بها تنقص حركة القوة الغضبية عن القدر الواجب فتنصرف عن الإِقدام حيث يجب الِإقدام (¬2). ورأيُ كل من ابن مسكويه والغزالي هنا متفق في جملته مع رأي كل من أفلاطون وأرسطو. أما الشجاعة عند ابن العربي فترجع إلى حقيقة أخرى غير ما ذهب إليه الفلاسفة ومن ارتضى مذهبهم من العلماء المسلمين، فهي عنده: ثبات النفس عند حلول المصائب (¬3)، أو ثبوت القلب عند تعارض المضادات من المخاوف والمرجوات (¬4). ويعود هذا الثبات في نظره إلى صفة العلم التي يتصف بها صاحب الشجاعة، لأن المرء إذا اعترضه أمر وكان جاهلاً به أو ذاهلًا غير محصل له، فإنه سيرتبك ويضطرب فلا يهتدي إلى حل مشكله، ولا يتبصر وجه كشفه، أما إن اعترضه أمر وكان عالماً به غير ذاهل عنه، فإنه لا يبالي عما ينزل به من مصيبة، أو يطرأ عليه من مشكل إذ أنه قد حصن نفسه وأعدّها لمثل هذا الموقف، وذلك بما عنده من وضوح لما طرأ عليه وانكشاف لما حلّ به (¬5). وينتقد ابن العربي الفلاسفة في زعمهم بأن الشجاعة هي عبارة عن ¬

_ (¬1) تهذيب الأخلاق: 18، 21. (¬2) ميزان العمل 266 ومعارج القدس: 87. (¬3) العواصم من القواصم: 255. (¬4) قانون التأويل: 483. (¬5) العواصم من القواصم: 255 - 256.

فضيلة القوة الغضبية، فَهوَ لَا يقِرُّهُمْ على أن للغضب قوة ولا للحمية التي يزعمون أنها تنضاف إليها أو تتعاضد معها، ويحجّهم بنفس سلاحهم فيقول لهم بأنه إذا كانت الشجاعة فضيلة القوة الغضبية، وكانت القوة الغضبية ناشئة -على أصلكم- عن النفس بطريق التوليد (¬1)، فإنها تكون ضرورية، وأمر طبيعي، وغير داخلة في الفضائل الواقعة عن علم واختيار، وإرادة الفلاسفة أن يركّبوا على هذه الفكرة فكرة القوة الغضبية دَعْوَى. ولذلك بنوا عليها ما يجري مجرى الخطب والشعر التي ليست من البرهان والتحقيق في شيء عندهم أنفسهم. كما انتقدهم في قولهم إن التهور زيادة على اعتدال القوة الغضبية، والجبن نقصان منها، وأشار إلى أن هذا الكلام كلّه هو كما قال أهل بغداد: "بناء شاذوف على قاذوف ليأتي منه لافوف" (¬2)، وهذا كما يبدو للقارىء سخرية لاذعة بالفلسفة الخلقية اليونانية المبنية على القوى النفسية المجهولة المعنى. فابن العربي -رحمة الله عليه- نظرته نظرة واقعية تجريبية، إذ أنه فسر لنا معنى التهور ومعنى الجبن بنقصان التصرف الملائم واضطراب المواجهة، مواجهة الموقف بسبب ما طرأ عليه من الآفات المفاجئة التي تجعل حركة المواجهة صادرة عن جهل، ويؤدي ذلك إلى تصرف غير مناسب، وغير موافق لما يتطلبه الموقف الجديد المفاجىء (¬3). ¬

_ (¬1) بيّن لنا ابن العربي -رحمه الله- في كتابه العواصم أن أوّل من اخترع عبارة التولد في المصطلح الكلامي هو الجاحظ المعتزلي (ت: 255) أخذها من مادة "ولد" أو "الولادة" وهي: خروج الشيء من الشيء. وكذا هذا لما نشأ عن هذا، وقال إن الطبيعيين ومن أخذ بقولهم لما رأوا تركيب الكون في الموجودات المحسوسة على نظام متساوق واحد بعد واحد، نسبوا من أصل ذلك الثاني إلى الأول، وربطوا بين السابق واللاحق، والمقدم والتالي، ولكن المعتزلة تحيلوا في اختراع الاصطلاح وبرعوا فيه، إذ أنهم سموا هذه العلاقة بين الأول والثاني تولداً، وذهب إلى أن المعتزلة سموا هذه العلاقة تولداً تزييناً له وتحسيناً واتهمهم -واتهامه حق- بأنهم استمدوا ذلك من الفلاسفة فقال: "وعلى قاعدة الفلاسفة قعدوا، وحول دائرتهم دوروا" العواصم: 110 وما بعدها. (¬2) العواصم: 256. (¬3) عمار طالبي: آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: 1/ 2

العفة

العفة: العفة كما يعرفها الغزالي هي: "فضيلة القوة الشهوية وهي انقيادها على يسر وسهولة للقوة العقلية حتى يكون انقباضها وانبساطها بحسب إشارتها" (¬1). وقد انتقد ابن العربي تعريفهم هذا، وأشار إلى أنهم جعلوا لذلك أسباباً من الحساب في الجوع والعطش، وحملوا تقليلها على تقليل الطعام والشراب، وتكثيرها على كثرتهما، ونفى أن يكون الأمر كما يزعمون لا سيما وأن زعيم الفلاسفة الأكبر أرسطو يقرر أنه ليس يوجد اعتدال بحال. واستند ابن العربي في بيان حقيقة العفة إلى بناء الكلمة اللغوي، فأوضح أن بناء "ع ف ف" وبناء "ك ف ف" هو على بناء "ت ر ك" والترك هو عبارة عن فعل، وأشار إلى أن الفلاسفة والقدرية قد جهلوا ولم يتحققوا معنى "الترك" فضلوا عن السبيل، وإنما الذين أدركوا هذا المعنى هم أهل السنة والجماعة (¬2) ثم بين أن العفة هي ترك الأفعال القبيحة إذا علم قبحها وتحقق مضرتها (¬3)، ويعرفها في "قانون التأويل" بقوله: "هي كف النفس عن المكروه، وبها يكون الحياء والصبر والسخاء والورع والقصد والتؤدة وحسن السجية، وبها تتنزه النفس عن الشره والجمود" (¬4). ولا ينسى ابن العربي -وهو الإِمام الغيور على مقدسات هذه الأمة- أن يضع لنا بعض القواعد المنهجية التي تعرف بها دسائس وخبايا الملل والنحل المناهضة للِإسلام فيقول: ¬

_ (¬1) معارج القدس: 89 وانظر ميزان العمل: 269، وابن مسكويه: تهذيب الأخلاق: 18، 20، 27. (¬2) العواصم من القواصم: 257. (¬3) م، ن: 257. (¬4) صفحة: 80.

العدل

"وهذه الألفاظ التي يستعملونها، ليس لها عندهم أصل، إذ لا قوة عندهم ولا قدرة، وإنما هي طبيعة غالبة ومعان مرتبة دائرة ضرورة، لا تتعلق بإيثار، ولا تجري على اختيار، فيريدون أن يدمجوا لفظ الطبيعة ويخرجوا لفظ القوة. يثبتوا للجماد قدرة، وينفوا قدرة الفاعل الأول، فَيُخْلِطُوا وَيُخَلِّطُوا، وينظموا هوسهم في سلك الألفاظ العربية والنبوية تيمناً بها واسترسالاً للعامة عليها، ويخترعوا لذلك أخباراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أصل لها، تلوح بإشارات إلى أغراض يوهمون أنها أمور غامضة يقصر الخلق عنها، فيشار إلى الأفراد بها" (¬1). العدل: يرى أفلاطون أن العدالة حالة التناسب بين قوى النفس الثلاث: العقلية والغضبية والشهوية، وليست العدالة عنده فضيلة خاصة ولكنها حال الصلاح والتناسب الناشىء عن اجتماع الحكمة والشجاعة والعفة، ويسير الغزالي على رأي أفلاطون فيرى أن العدالة حالة للقوى الثلاث العقلية والغضبية والشهوية في انتظامها، بل هي عبارة عن جملة الفضائل (¬2)، ويعرفها ابن مسكويه فيقول: "فأما العدالة فهي فضيلة للنفس تحدث لها من اجتماع هذه الفضائل الثلاث التي عددناها، وذلك عند مسالمة هذه القوى بعضها للبعض، واستسلامها للقوة المميزة حتى لا تتغالب ولا تتحرك لنحو مطلوباتها ... ويحدث للإنسان بها (أي بالعدالة) سمة يختار بها أبداً الِإنصاف من نفسه على نفسه أولاً، ثم الإِنصاف والانتصاف من غيره وله .. " (¬3). وانتقد ابن العربي آراء الفلاسفة في العدل قائلاً: ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم: 257 - 258. (¬2) معارج القدس: 90، ميزان العمل: 272. (¬3) تهذيب الأخلاق 18، 19، 22، 23.

"وأما العدل فهو عندهم عبارة عن اتساق قوى هذه الفضائل الثلاث في جهتي الِإباء والانقياد على التناسب والسداد، ويقال لهم: ليس هناك قوة ولا قدرة، والانتظام إنما يكون على النظام الأسدِّ الذي رتبه صاحب الشرع، وأنتم لا تدرونه" (¬1). وأوضح -رحمه الله- في كتابه "الأمد الأقصى" حقيقة العدل في اللغة فقال بأنه ضد الجور، ورجل عدل إذا كان مستمر الطريقة، وهذا عدل إذا كان مساوياً له، وأصل ما ورد على اللفظ يرجع إلى هذا المعنى (¬2). ويضيف قائلاً: "وإذا علمتم ما تقرر في اللغة من معنى هذا اللفظ، وأن العدل هو الذي لا يميل به الهوى ولا يجور في الحكم، فإن معنى العدلية بما اختلفت فيه عبارات علمائنا على ثلاثة أوجه: الأول: فعل ما للفاعل أن يفعله. الثاني: إن كل فعل وقع. الثالث: العدل ما فعله الفاعل وكان مالكاً لفعله. والعبارة الأولى أوجز وأحق في البيان لأنها تعم المحدث والقديم" (¬3). قلت: وبناء على هذا الاختيار فيرى ابن العربي بأن الباري تعالى هو العدل وحده بالحقيقة؛ لأنه له أن يفعل ما يشاء من تعذيب جميع الخلق أو تنعيمهم، أما العدل الِإنساني فحقيقته: فعل المأمور به، فيرجع العدل والعدالة إلى العلم ارتباطاً؛ لأن الإنسان إذا عمل بما علم كان عدلاً (¬4)، وهذا ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم: 258. (¬2) لوحة 106/ أ- ب وقال الزجاج (ت: 311): "أصل هذه اللفظة من قولهم: عدلت عن الطريق، أعدل عنها عدلاً وعدولًا، إنما سمي العدل والعادل لأنهما عَدَلاَ عن الجور إلى القصد" تفسير أسماء الله الحسنى: 44، وانظر: الأزهري: مقاييس اللغة: 2/ 211. (¬3) م، ن: 106/ ب. (¬4) العواصم من القواصم: 258 - 259.

أبو بكر بن العربي وموقفه من الروح

ما عبر عنه في "قانون التأويل" عندما عرّف العدالة بقوله: "هي انتظام العلم والعمل" (¬1). قلت: وبتعريف العدالة ختم ابن العربي رحمه الله فصل "ذكر تمام الوصول من المقصود من معرفة النفس والرب" (¬2) وشرع في ذكر أقسام حال النفس. أبو بكر بن العربي وموقفه من الروح: تكلم ابن العربي في فصل "ذكر الآيات الواردة في النفس والقلب والجوارح" (¬3) عن الروح (¬4)، ولكنه لم يتوسع في ذكر آراء العلماء والفرق فيها، وقبل أن أتعرض لرأيه في هذا الموضوع أرى من المستحسن أن أذكر -باختصار- أهم آراء العلماء في هذا الموضوع (*) فأقول: لقد اكتنف محاولات البحث عن ماهية الروح وحقيقتها قصور وعجز في مختلف الثقافات والديانات العالمية، وعلى الرغم من الوضوح التام الذي جاء به الإِسلام، إلاَّ أن علماء المسلمين سرعان ما اندفعوا بجرأة وتطاول يستكشفون ماهية الروح، ويحاولون الوصول إلى كنهها، متأثرين -بلا شك- بالثقافة اليونانية وغيرها من الفلسفات البشرية، ويمكن إجمال الآراء المختلفة في مدارس الفكر الِإسلامي في الاتجاهات التالية: الأول: أنكرت طائفة وجود النفس كجوهر روحاني مستقل عن البدن ¬

_ (¬1) ص: 485. (¬2) من ص: 480 إلى 486. (¬3) قانون التأويل: 495. (¬4) اختلف العلماء في مسمى النفس والروح: هل هما متغايران؟ أو مسماهما واحد؟ والتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها. ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 348. (*) للتوسع في معرفة رأي ابن العربي في العدل انظر: عمار طالبي: آراء أبي بكر بن العربي الكلامية 1/ 201 - 203.

ومتميز عنه، وقالوا: إن الإِنسان عبارة عن البنية المحسوسة، وعن هذا الجسم المحسوس، ويرى هؤلاء أن الِإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حدّ ورسم، بل الواجب أن يقال: إن الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المحسوسة ومن أوضح الأمثلة على هذا التصور المادي الصرف للنفس، موقف الأصم المعتزلي (¬1) الذي كان يقول:، الِإنسان هو الذي يرى، وهو شيء واحد لا روح له، وهو شيء واحد" ونفى إلا ما كان محسوساً مدركاً. وكان يقول: "ولست أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه أو أشاهده" كما كان يقول: "النفس هي هذا البدن بعينه لا غير" (¬2)، وحُكِيَ عن قوم آخرين أنهم قالوا:، إن البدن هو الِإنسان" (¬3) وقد زعم الرازي أن هذا المذهب هو اختيار طائفة عظيمة من المتكلمين (¬4)، وتابعه في هذا الزعم شارح كتاب "المواقف" (¬5). الثاني: طائفة من ذوي الاتجاه الروحي الخالص القائم على أن النفس ليست جسماً ولا في مكان بل هي جوهر روحاني خالص منفصل من البدن، وهذا الرأي هو معتقد أكثر الإلهيين من الفلاسفة كسقراط وأفلاطون، وقد أخذ به من المنتسبين إلى الإِسلام جماعة منهم معمر بن عمار السلمي (¬6)، وكثير من الإمامية (¬7) كما أخذ به -مع اختلاف بسيط- الراغب الأصفهاني والإمام الغزالي، وقد وصف الإِمام ابن قيم الجوزية هذا المذهب بأنه أردى المذاهب وأبعدها من الصواب (¬8). ¬

_ (¬1) هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان من طبقة أبي هذيل العلاف. (¬2) الأشعري: مقالات الإِسلاميين 2/ 333 (ط: ريتر) ابن قيم الجوزية، الروح: 176. (¬3) الأشعري: مقالات الإِسلاميين 2/ 28 (ط: محيي الدين). (¬4) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين: 163 (ط: الحسينية). (¬5) المواقف: 7/ 250. (¬6) من كبار أئمة المعتزلة الذين كان لهم اتصال وثيق بالفلسفة اليونانية انظر عنه: الشهرستاني، الملل والنحل 68 - 71. (¬7) الرازي: المعالم في أصول الدين: 267 (ط: بهامش المحصل). (¬8) الروح: 177.

الثالث: اعتبر جماعة من المفكرين أن الروح عرض من جوهر مادي، وممن ذهب إلى هذا الرأي العلاف المعتزلي والأشعري والباقلاني أنصار مذهب الجوهر الفرد، الذين يرون العالم مؤلفاً من جواهر وأعراض لا تستمر آنين، وهكذا فالروح مثل الذرات تخلق وتعدم في كل آن وباستمرار، وعلى مذهبهم أن الباري تعالى: يخلق الأجسام وأرواحها التي هي عرض لها خلقاً متجدداً مستمراً بلا انقطاع، وقد انتقدهم الرازي بقوله: "إن هذا بما لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الِإنسان جوهر، لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبير والتصرف، ومن كان كذلك كان جوهراً والجوهر لا يكون عرضاً (¬1). والآن وبعد هذا العرض المختصر لأهم الآراء التي قيلت في الروح، ما هو موقف ابن العربي من هذا الموضوع الشائك (*)؟. الواقع أن ابن العربي أمسك عن الخوض في هذا الموضوع في كتابه "أحكام القرآن" حيث قال: " ... إن الأنبياء لا يتكلمون مع الخلق في المتشابهات، ولا يفيضون معهم في المشكلات، وإنما يأخذون في البيِّن من الأمور المعقولات، والروح خلق من خلق الله تعالى، جعله الله في الأجسام فأحياها بها، وعلمها وأقدرها، وبنى عليها الصفات الشريفة والأخلاق الكريمة، وقابلها بأضدادها لنقصان الآدمية، فإذا أراد العبد إنكارها لم يقدر لظهور آثارها، وإذا أراد معرفتها وهي بين جنبيه لم يستطع؛ لأنه قصر عنها وقصر به دونها" (¬2). قلت: أما في "قانون التأويل" فقد تعرض لمسألة "الروح" فأورد قول الصوفية فيها وأنكره بشدة، قال رحمه الله: " ... وتابعت الصوفية الفلاسفة في شيء من أغراضها فيها (أي في ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب: 5/ 434. (*) للاطلاع على مختلف الآراء في الروح انظر ابن قيم الجوزية: الروح: 175 وما بعدها. (¬2) صفحة: 1224.

الروح) قالوا: العالم عالمان: عالم الخلق وعالم الأمر، والروح من عالم الأمر، وأشاروا إلى أن الخلق من العالم ما كان كَمِّياً مُقَدَّراً، والأمر ما لم يكن مقدراً، والروح عندهم حادث، ولا يكون عندهم محدث في احترازات من مقاصد لا خير فيها .. ويكاد يكون هذا القول تحليقاً على مذاهب الحلولية واعتصاماً بمذهب النصارى في عيسى" (¬1). قلت: ونفهم من هذا النص المختصر مدى تأثر الصوفية بآراء الفلاسفة، فمن المعلوم أن الأفلاطونية ترى أن الروح أزلية خالية وجدت قبل البدن، وتحيا بعد فنائه، وقد تطورت هذه النظرية وتحددت معالمها على يد الفلاسفة المنسوبين إلى الإِسلام أمثال الفارابي وابن سينا ثم اعتنقها بعد ذلك جمهور الصوفية. واحتجاج الصوفية بأن الروح من أمر الله، وأمره غير مخلوق، يقتضي أن تكون قديمة (¬2)، وهذا قول بعيد كل البعد عما اعتقده السلف الصالح، فقد أجمعت الرسل على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة (¬3)، كما يعلم بالاضطرار أن العالم حادث وأن معاد الأبدان واقع، وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم -وهم القرون المفضلة- على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة (¬4). وقد أنكر شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله على أبي حامد الغزالي (وهو الذي اكتملت على يديه صياغة هذه النظرية) تفرقته بين عالم الخلق ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 499. (¬2) انظر آراء الصوفية في تعليقنا رقم 2 على قانون التأويل: ص 498. (¬3) ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية 346. (¬4) ابن قيم: الروح 144 قال ابن أبي العز الحنفي: "واتفق أهل السنة والجماعة على أنها (أي الروح) مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما" شرح العقيدة الطحاوية 346، وقد حكى هذا الإجماع ابن تيمية كما في الروح لابن القيم: 145.

وعالم الأمر فقال: "وأبو حامد يفرق بين عالم الخلق وعالم الأمر، فيجعل الأجسام عالم الخلق، والنفوس والعقول عالم الأمر، وهذا أيضاً ليس من دين المسلمين، بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين، والله تعالى خالق كل شيء" (¬1). وقد صدق ابن العربي عندما وصف أصحاب هذا الاتجاه بأنه اعتصام بمذهب النصارى من أن الروح انفصل من ذات الله وحل بعيسى فعبدوه، فعيسى عندهم روح من الله حل في مريم فهو غير مخلوق، ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة لله، خلقها وأنشاها وكونها واخترعها، ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. فأما احتجاج الصوفية في إثبات مذهبهم بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. فمعلوم قطعاً أنه ليس المراد ها هنا بالأمر الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام، بل المراد به ها هنا المأمور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي مأموره الذي قدره وقضاه وقال له كن فيكون. وكذلك قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] أي مأموره الذي من إهلاكهم، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77]. ¬

_ (¬1) الرد على المنطقيين: 197.

فليس في قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ما يدل على أنها قديمة غير مخلوقة بوجه ما (¬1). أما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله: "من روحي" فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه، والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف عن غيره (¬2) كبيت الله وإن كانت البيوت كلها ملكاً له، وكذلك ناقة الله، والنوق كلها ملكه وخلقه، لكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه، بخلاف الِإضافة العامة إلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده، فالإضافة الشفافة تقتضي الإيجاد، والخاصة تقتضي الاختيار، وإضافة الروح إليه من هذه الِإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات (¬3). أما قولهم: إن الروح من عالم الأمر والأمر ما لم يكن كَمِّياً مقدراً، فهذا من لغو الكلام، فإن العقلاء متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي الحساس المتحرك بالإرادة وهذه الصفات نوعان: صفات لبدنه، وصفات لروحه، فلو كانت الروح جوهراً مجرداً لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، أو كان بعضه في العالم، وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه، وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك. أما الأدلة على خلق الروح فهي كثيرة جداً نقتصر على بعضها فنقول: الدليل الأول: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]. ¬

_ (¬1) ابن القيم: الروح 150، ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية 346. (¬2) ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية 346 - 347. (¬3) ابن القيم: الروح 154.

فهذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى، فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخلة في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله، ولا صفة من صفاته وإنما هي من مصنوعاته (¬1). الدليل الثاني: قوله تعالى لزكريا عليه السلام: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]. فهذا الخطاب موجه للإنسان، والِإنسان اسم لروحه وجسده وهذا الخطاب موجه لشخص زكريا أي لروحه وبدنه، وليس لبدنه فقط، فإن البدن وحده لا يفهم ولا يخاطب ولا يعقل، وإنما الذي يفهم ويعقل ويخاطب هو الروح (¬2). الدليل الثالث: قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. فلو كانت روحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئاً مذكوراً. الدليل الرابع: النصوص الدالة على أن الله سبحانه كان ولم يكن شيء غيره كما ثبت في البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن قالوا يَا رَسُولَ الله: جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ في الذينٍ، وَلِنَسْألَكَ عَنْ أوَّلِ الأمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَيء قَبْلَهُ، وَكَان عَرْشُه عَلَى المَاءِ، ثُم خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ .. الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) ابن القيم: الروح 146 - 147، ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية 346. (¬2) م، ن. (¬3) البخاري 8/ 66 في المغازي، باب وفد تميم، وأخرجه كذلك الترمذي في المناقب رقم 3946.

فهذا الحديث يدل على أنه لم يكن مع الله أرواح ولا نفوس قديمة يساوي وجودها وجوده تعالى، بل هو الأول وحده لا يشاركه غيره في أوليته بوجه (¬1). الدليل الخامس: من المعلوم أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإِمساك والِإرسال وهذا شأن المخلوق المحدث المربوب، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. والأنفس ها هنا هي إلأرواح قطعاً، جاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "سِرْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّسْتَ (¬2) بنا يا رسول الله؟ قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال، أين ما قلت؟ قال: ما ألقيت عليّ نومة مثلها قط، قال: إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء. الحديث" (¬3). فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها (¬4). ¬

_ (¬1) ابن القيم: الروح 148. (¬2) التعريس هو نزول المسافر آخر الليل نزلة للاستراحة وللنوم. (¬3) أخرجه البخاري 2/ 54 في المواقيت باب الأذان بعد ذهاب الوقت. (¬4) آثرت سوق هذه الأدلة لكون هذه الأفكار الصوفية الفلسفية لا زالت -إلى يومنا هذا- هي المهيمنة على الفكر الصوفي ببلادنا (الجزائر وتونس والمغرب) وما كتب ورسائل الشيخ أحمد العلوي (المتوفى في الخمسينية من هذا القرن) والمعروف لدى مريديه بالشيخ ابن عليوة إلا استمرار لهذا الفكر الملحد، والغريب في الأمر أن كتبه ورسائله التي تدعو إلى هذه الفكرة وإلى الوحدة بين الأديان ترجمت إلى أكثر من لغة، كما أن نفوذه تعدى حدود المغرب الإِسلامي وتخطاه إلى المشرق العربي حيث يكثر مريدوه ولا زالت طريقته المبتدعة تلقى رواجاً في بعض عواصم أوروبا حتى يومنا هذا.

وأختم هذه الأدلة بقول قيم لابن القيم رحمه الله الذي يقول في كتابه الروح: " ... وكيف تكون (أي النفس) قديمة مستغنية عن خالق محدث مبدع لها، وشواهد الفقر والحاجة والضرورة أعدل شاهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة، وإن وجود ذاتها وصفاتها وأفعالها من ربها وفاطرها، ليس لها من نفسها إلا العدم، فهي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، لا تستطيع أن تأخذ من الخير إلا ما أعطاها وتتقي من الشر إلا ما وقاها، ولا تهتدي إلى شيء من صالح دنياها وأخراها إلا بهداه ... فهو الذي خلقها فسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها، وخالق أفعالها من الفجور والتقوى" (¬1). نعود إلى ابن العربي في "قانونه" فنراه يستعرض أقوال العلماء مثل الجويني الذي يعتقد في الروح معتقد أهل السنة والجماعة، والباقلاني الذي يرى أنها عرض، ثم تحصل لابن العربي من تلك الأقوال كلها أمران: أحدهما: أن الروح بالدليل القاطع العقلي (¬2) مخلوق من غير إشكال، يكفر جاحد ذلك. الثاني: أن الروح بالدليل القاطع الشرعي باقية لا فناء لها (¬3). ولو اقتصر المؤلف على هذا لكفى ولكنه - رحمه الله - قال: "والنظر بعد ذلك في أنها عرض لوجود أو جوهر؟ فهذا موضع الِإشكال، ومحل الاجتهاد، وسبيل العذر في ذلك ممهد لمن اضطرب فيه قوله، واختلف عليه رأيه، والأقوى أنها عرض لا جوهر، وصفة غير موصوف، فإن التحامل على الألفاظ في تأويلها وصرفها من الحقيقة إلى المجاز، أقرب في النظر من الاضطراب في الأدلة العقلية التي توجب أنها لا تقوم بنفسها" (¬4). ¬

_ (¬1) الروح: 149. (¬2) قلت: بل والنقلي كذلك. (¬3) قانون التأويل: 500. (¬4) م، ن: 501.

قلت: القول بأن الروح عرض قول مردود بالعقل والنقل معاً، فلو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن، لكان قول القائل: خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله: أقوالًا باطلة، لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك، فالقدح في ذلك قدح في أظهر المعلومات وهذا من باب السفسطة (¬1). كما أن كل واحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية، ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضاً من أعراض بدنه ولا جوهراً مجرداً منفصلاً عن بدنه غير مجاور له (¬2)، ويقطع ضرورة بأن هذه الِإدراكات لأمر داخل في بدنه، كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشمّ وذاق ولمس وتحرك وسكن، فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه، وأن جوهر النفس هو الذي قام به ذلك كله، ولم يقم بمجرد ولا بعوض بل قام بمتحيز داخل العالم منتقل من مكان إلى مكان، يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل، وليس إلاّ هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك له الذي لولاه لكان بمنزلة الجماد (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" (¬4) فوصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها جنود مجندة والجنود ذوات قائمة بنفسها، ووصفها بالتعارف والتناكر، ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضاً، أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه كما هو مذهب الصوفية (¬5). ¬

_ (¬1) قال الشريف الجرجاني في تعريف السفسطة: قياس مركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، كقولنا: الجوهر موجود في الذهن وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، لينتج أن الجوهر عرض. التعريفات: 63. (¬2) كما تقول الصوفية. (¬3) ابن القيم: الروح 194. (¬4) أخرجه مسلم رقم 2638 في البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة. (¬5) ابن القيم: الروح 185.

الدليل الأول: قوله تعالي: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت}

والآن بعد أن عرفنا بعض الآراء التي قيلت في أمر الروح، ما هو رأي أهل السنة والجماعة الذي ينبغي للمسلم أن يعتقده؟ هذا ما سنحاول بيانه - إن شاء الله- مع التدليل عليه من الكتاب والسنة. الذي يدلّ عليه الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع الصحابة الأجِلاء وأدلة العقل أن الروح جسم (¬1) مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد. كما تظاهرت الأدلة على أن الروح أو النفس تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وعلى هذا أكثر من دليل نقتصر على الأدلة القرآنية التالية: الدليل الأول: قوله تعالي: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94 - 95]. ¬

_ (¬1) إن مسمّى "الجسم" في اصطلاح الفلاسفة أعم من مسماه في لغة العرب وعرف أهل العرف، فإن الفلاسفة يطلقون الجسم على ذي الأبعاد الثلاثة خفيفاً كان أو ثقيلاً، مرئياً كان أو غير مرئي، فيسمون الهواء جسماً والنار جسماً وكذلك الدخان والنار والبخار، يقول ابن سينا في النجاة: 317 (ط: السعادة 1331): " ... بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة، كل واحد منها قائم على الآخر، ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة، فالذي يفرض أولًا هو الطول، والقائم عليه هو العرض، والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق، وليس يمكن غيره". وهذا الذي قرره الفلاسفة لا يعرف في لغة العرب، قال الجوهري في الصحاح 5/ 1887: "الجسم: الجسد، وقال الأصمعي: الجسم والجسمان: الجسد والجثمان: الشخص". قال ابن قيم الجوزية: "ونحن إذ سمينا النفس جسما، فإنما هو باصطلاحهم (أي باصطلاح الفلاسفة) وعرف خطابهم، وإلاّ فليست جسماً باعتبار وضع اللغة، ومقصودنا بكونها جسماً: إثبات الصفات والأفعال والأحكام التي دل عليها الشرع والعقل والحس من الحركة والانتقال والصعود والنزول ومباشرة النعيم والعذاب (وغيرها) فلذلك أطلقنا عليها اسم الجسم تحقيقاً لهذه المعاني، وإن لم يطلق عليها أهل اللغة اسم الجسم، فالكلام مع هذه الفرقة المبطلة =

الدليل الثاني: قوله تعالى

ففي هذه الآيات الكريمات بسط الملائكة أيديهم لتناولها، ووصفها بالإخراج والخروج، والإخبار بعذابها ذلك اليوم، والإخبار عن مجيئها إلى ربها. (¬1) الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 60 - 61]. ففي هذه الآيات الِإخبار بتوفي النفس بالليل، وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت. الدليل الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. ففي هذه الآيات وصف النفس بالرجوع والدخول والرضا (¬2). الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: "إن الله قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء" (¬3) فوصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالقبض والرد. ¬

_ = في المعنى لا في اللفظ، الروح: 201، وانظر كلام في هذا المعنى في درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإِسلام ابن تيمية 10/ 292. (¬1) انظر شيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة العقل والروح 2/ 28 (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) ومجموعة الفتاوى 4/ 216 - 232، ابن القيم: الروح 178، ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 347. (¬2) ابن القيم: الروح 179 - 180 ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية 347 - 348. (¬3) سبق تخريجه.

أبو بكر بن العربي وموقفه من علم الكلام

وهناك عدة أحاديث تؤكد هذا المعنى ومن أراد التوسع فعليه بكتاب شيخ الإِسلام ابن قيم الجوزية "الروح" فقد استعرض كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤيد مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله رب العالمين. أبو بكر بن العربي وموقفه من علم الكلام (¬1): اعتذر ابن العربي لعلماء الكلام عدولهم عن أدلة الكتاب والسنّة إلى أدلة العقول بحجج واهية لا تفي بالمقصود (¬2)، ونحن نبين -بإذن الله- في هذه التعليقة رأي أهل السنة والجماعة في مثل هذا الموضوع الخطير الذي تشعبت فيه الأقوال، وتضاربت حوله الآراء، والحق أن هذا الموضوع باب واسع لا يفيد الِإغراق في مناقشة آراء مجيزي استعمال هذا العلم إلاَّ ما يفيد التوسط والقصد من بيان موقف السلف (أهل السنة والجماعة)، فلا وجه إذاً للِإطالة ولما يكون سبباً للملالة (¬3). فما هو موقف سلف الأمة وعلمائها من هذا الصنف من العلوم؟. اتفق السلف على ذم علم الكلام وأهله (¬4)، بل صنف بعضهم (¬5) كتباً ¬

_ (¬1) عرف ابن خلدون هذا العلم بقوله: "علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة" المقدمة: 826. انظر تعريفات علم الكلام في المصادر التالية: الفارابي: إحصاء العلوم: 131 (ط: بتحقيق د. عثمان أمين) الغزالي: إحياء علوم الدين 1/ 30 (ط: الحلبي)، الجرجاني: التعريفات: 98، طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة 2/ 150، الإِيجي: المواقف (بشرح الجرجاني) 1/ 34. (¬2) انظر "القانون" صفحة: 501. (¬3) لم أشأ أن أتعرض لأراء المجيزين -لعلم الكلام- بالنقض والتزييف؛ لأن هذا موضوع واسع ليس باستطاعتي في هذه التعليقة أن أقوم بالحق المتعين علي فيه، فأدرسه دراسة نقد وتمحيص، ولكن الاقتصار على بيان رأي السلف فيه الغنية إن شاء الله. (¬4) ممن حكى هذا الاتفاق الإِمام الغزالي في إحياء علوم الدين: 1/ 163 (ط: القاهرة 1356). (¬5) مثل الكتاب الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري (ت: 481) الملقب بشيخ =

في هذا الشأن جمع فيه كلام الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين في التحذير منه، وسأقتصر في عرضي لمواقفهم على آراء الأئمة الأربعة الذين أجمعت الأمة على فضلهم وحسن معتقدهم. يروي أبو الفضل عبد الرحمن المقري بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي (ت: 198) قال: دخلت على مالك بن أنس وعنده رجل يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد (¬1)، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والتشريع ولكنه باطل يدل على باطل (¬2). كما روى أبو الفضل كذلك بسنده عن أشهب بن عبد العزيز- (ت: 204) قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، فقيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان (¬3). أما الإِمام أبو حنيفة النعمان فقد روي عنه أنه نهى ابنه حماد عن المناظرة في الكلام (¬4). كما روى محمد بن الحسن (ت: 181) صاحب أبي حنيفة قال: قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا ¬

_ = الإِسلام- الذي سماه "ذم الكلام وأهله" ويوجد مخطوطا في المكتبة الظاهرية بدمشق بوقم 337. (¬1) هو أبو عثمان بن باب، من أئمة المعتزلة (ت: 144) انظر ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 130 - 133، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 12/ 666 - 188. (¬2) "ذم الكلام" لأبي الفضل المقري: لوحة 5 - 6 (ميكروفيلم بمكتبة مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى تحت رقم 1/ 49 مجاميع) وانظر السيوطي في صون المنطق والكلام 1/ 96. (¬3) م، ن: لوحة 2 - 3. (¬4) إشارات المرام من عبارات الإِمام لكمال الدين البياضي 35.

يعنيهم من الكلام. قال: وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام (¬1). أما الِإمام الشافعي فقد عرف بإنكاره الشديد لعلم الكلام، روى ابن عساكر بسنده عن يونس بن عبد الأعلى المصري قال: سمعت الشافعي يقول: لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه إلاَّ الشرك خير له من الكلام، ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك (¬2). كما أثر عن الإِمام الشافعي أنه كان يقول: "حكي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الِإبل ويطاف بهم في العائر والقبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (¬3). كما روى البيهقي بسنده عن أبي ثور قال: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لم يفلح (¬4). أما الإِمام أحمد فعداؤه للكلام والمتكلمين مشهور وأحاديثه في هذا الشأن مبثوثة في مختلف كتب أهل السنّة والجماعة، يقول الإِمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": "المعروف عن أحمد وأهل العلم أنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا أهل الكلام والخوض والتنازع" (¬5). ¬

_ (¬1) صون المنطق والكلام للسيوطي 1/ 100 - 101. (¬2) أخرج هذا القول اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": 1/ 146 وابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه": 182، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار": 1/ 112 والاعتقاد له: 119 (ط: أحمد محمد موسى: 1961) والقرطبي في "الانتقاء": 78. (¬3) تاريخ بغداد للخطيب 7/ 59. (¬4) مناقب الشافعي للبيهقي 1/ 461 - 462 وانظر الانتقاء للقرطبي: 80 وتلبيس إبليس لابن الجوزي: 82 (ط: المنيرية)، صون المنطق للسيوطي: 1/ 106. (¬5) أورد هذا النص السيوطي في صون المنطق والكلام: 1/ 131، وقد بحثت عن هذا القول في كتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري فلم أجده فربما سقط النص المذكور من المخطوطة التي اعتمدها صاحب مطبعة النهضة الحديثة بمكة الذي نشر الكتاب سنة 1390 هـ.

ويروي ابن الجوزي بسنده عن محمد بن إبراهيم بن خالد قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان: لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلاَّ ما كان في كتاب الله أو حديث عن رسول الله أو عن صاحب، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود (¬1). ويعلم من مجموع الأقوال السابقة أن السلف رضي الله عنهم ذمّوا الجدل والكلام على الجملة وإن قصد به المتكلم نصر الكتاب والسنة، فالبدعة عندهم لا تقابل بالبدعة، وهنا تكمن الحكمة في عدم مجالسة أهل البدع والضلال، فإن مجالستهم ومناظرتهم ومخاطبتهم قد تورّث شبهاً يستعصي حلها، وعليه فإن اجتنابهم قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، وينبغي أن يهجر ويعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي (¬2)، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو يقتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم (¬3) وغيلان الدمشقي (¬4)، فالمسلمون أقاموا الحجة على غيلان وغيره وناظروه وبينوا له الحق، فلما أبى قتل كفراً، والمصلحة في القتل أرجى، بخلاف ما لو ترك يدعو إلى بدعته وَهُوَ لَا يَقبل الحق، إما لهواه، وإما لفساد إدراكه. ¬

_ (¬1) مناقب الإِمام أحمد: 254 وانظر صون المنطق والكلام للسيوطي: 108. (¬2) كان من أهل الأهواء يسأل عن متشابه القرآن، فعاقبه عمر وأمر بألاّ يجالسه أحد من المسلمين، حتى تاب وحسن أمره فأذن عمر رضي الله عنه الناس بمجالسته. انظر عنه: سنن الدارمي 1/ 54 - 55 المقدمة: باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع. (¬3) هو من الموالي، كان مؤدباً لمروان بن محمد -آخر خلفاء بني أمية- ولكنه أظهر القول بخلق القرآن، وقد أمر هشام بن عبد الملك خالد القسري وإليه على الكوفة بقتل الجعد لذلك ولقوله بالقدر، فقتله نحو عام 118. انظر ابن الأثير: الكامل 5/ 160، الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 185، ابن حجر: لسان الميزان 2/ 105، ابن نباته: سرح العيون: 186. (¬4) هو غيلان بن مسلم، كان يقول بالقدر، قتله هشام بن الحكم. انظر الملطي: التنبيه: 185، ابن نباته: سرح العيون 118.

والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، ودعا دعاة البدعة إلى نحلتهم، قوبلوا بالعقوبة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. أما قول ابن العربي في الدفاع عن خوض العلماء مع المبتدعة واستعارتهم لمصطلحاتهم الكلامية "بأنهم أرادوا أن يُبَصَّرُوا الملاحدة، ويُعَرِّفُوا المبتدعة أن مجرد العقول التي يدعونها لأنفسهم، ويعتقدون أنها معيارهم لا حظَّ لهم فيها" (¬1)، فهو كلام يشعر بأن السلف قد خاضوا مع الخائضين في الجوهر والعرض وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح، فإن السلف وإن كانوا أعرف الناس وأعلمهم، فإنهم سدُّوا للبدعة كل باب، فامتنعوا عن مجاراة أهل الكلام، وقد أحسن الإِمام الخطابي في تصوير هذا الموضوع في كتابه "الغنية عن الكلام" حيث قال: "واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر، عجزاً عنه، ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله من توفيقه، وشرح صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواها، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان، وقفت عنايتهم، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم -حسبوا أنهم إن لم يردوا عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلّة من الرأي، وغبناً فيه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان" (¬2). ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 502. (¬2) عن صون المنطق والكلام للسيوطي: 1/ 139 - 140، وانظر نقل ابن تيمية لهذا الكلام في درء تعارض العقل والنقل: 7/ 286 - 287.

قلت: وقريباً من هذا الرأي استقر ابن العربي في آخر حياته إذ قال في كتابه "سراج المريدين" (¬1): " ... نشأت المبتدعة من القدرية وأترابهم، فتكلموا بألفاظ الأوائل من عرض وجوهر وحامل ومحمول، وخاضوا في أن العرض يتعدد، وأن الجوهر الفرد لا يتعدد، وركبوا عليه أدلة التوحيد، وهذا وإن كان يفضي إلى تحقيق!! ولكنه خروج عن سيرة السلف، ويصلح للغلبة فيِ الجدال، وإلا فقد أغنى الله في كتابه بما وضع من أدلته، ولَيْسَ مِنا مَنْ لَمْ يَتَغنَّ بِالقُرْآنِ، ولو لم يُمكِّنوا أنفسهم من هذه الألفاظ معهم، ولا انقادوا في تردادها في النظر إليهم، لكانوا قد سدوا من البدعة باباً، وطمسوا وجهاً، فإن المداخلة لهم فيها إطالة النفس وما حلت عقدة الجس". قلت: وبهذا نعلم أن الخلف (¬2) هم الذين خاضوا في منافسات جدلية عقلية مع مختلف الفرق والطوائف، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل وفق علماء الكلام في الدفاع عن العقيدة الِإسلامية بمناهجهم العقلية التي صاغوها في قوالب فلسفية؟. الواقع أنهم وفقوا إلى أبعد الحدود في نقض العقائد المزيفة التي يدعيها اليهود والنصارى، وكذلك قاموا بواجبهم على أحسن وجه وأكمله في نقد خرافات الباطنية على اختلاف مدارسها. ولكنهم بالرغم من هذه الإيجابيات، فإن هناك ثمة سلبيات كثيرة أهمها ما يلي: أولاً: استعمالهم طريقة الجدل: وهي طريقة تعتمد على مسلمات الخصم وتتسم بالتدقيق وتحديد الاحتمالات والفروض، وتهدف أساساً إلى التغلب على الخصم، وهذه الطريقة هي من أكثر الطرق تعرضاً للنقد، بل هي من الأسباب القوية التي جلبت العداوة للكلام وأهله، وقد وصف الإِمام ¬

_ (¬1) لوحة: 52/ ب. (¬2) أعني بالخلف العلماء الذين وجدوا بعد القرون الثلاثة الأولى.

الغزالي -وهو المتكلم النظار- أهل هذا الطريق بأنهم أهل جدل وشغب يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة، وبين بطلان الجدل القائم على أساس القسمة العقلية حين قرر أننا لو سلمنا بأنهم وصلوا بقسمتهم العقلية إلى استقصاء جميع الاحتمالات، فإنه لا يلزم من إبطال ثلاث ثبوت رابع، فقد تكون الأقسام كلها باطلة (¬1). وكذلك عاب الخطابي طريقة الجدل هذه في رسالته "الغنية عن الكلام" في قوله: " ... والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة، وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطلة، ويكون الحق في ثالثة غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسداً به قول خصمه" (¬2). وأشار ابن الوزير اليماني إلى أن من أسباب فساد الأدلة الكلامية اعتماد المتكلمين فيها على مقدمات مختلف فيها، ولما كان من شرط المقدمات أن تكون جلية غير مشكوك فيها، وكانت الأدلة الكلامية قائمة على مقدمات مشكوك فيها مختلف عليها، كان ضرورياً أن تأتي محلاً للشك وكثرة الخلاف (¬3). ومع هذا فإنه ينبغي أن نعلم بأن السلف ومن سار على هديهم جادلوا المخالفين الرأي ولكنهم التزموا بما ألزمهم الله في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. فمناظرة السلف مع الكفار وأهل البدع كانت مناظرات محمودة، إذ استهدفت تبيين الحجة التي تهدي إلى الحق والصواب. ¬

_ (¬1) القسطاط المستقيم: 62. (¬2) عن السيوطي: صون المنطق والكلام 1/ 99، 176. (¬3) إيثار الحق: 11.

وما ذكره الله سبحانه وتعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا. وقد ذَمّ الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة: ذم صاحب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين، وذم المجادلة فيما لا يعلم المحاج. فقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]. وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]. وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]. والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب، فإن أصل ذمهم الكلام هو الكلام المخالف للكتاب والسنّة، وهذا لا يكون في نفس الأمر إلاَّ باطلاً، فمن جادل به جادل بالباطل، وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة، فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه مشوباً بحق، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. فما ينصبه الله من الأدلة، ويهدي إليه عباده من المعرفة يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به، وهذا يتأتى بالاقتصار على المناهج المشروعة التي شرعها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ثانياً: من النتائج الخطيرة التي ترتبت على الاشتغال بعلم الكلام، ما حدث من اختلاف المتكلمين فيما بينهم، وهذا خطر كبير مزق أمة الإِسلام شيعأاً وأحزاباً، وفرقها فِرَقاً متباينة متطاحنة ترمي كل منها الأخرى بالكفر والضلال، أو تنسبها إلى الفسق والابتداع، مما فل وحدة المسلمين وبدد قواهم، وفي ¬

_ (¬1) ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 7/ 167 - 171.

ذلك يقول أبو المظفر السمعاني في كتابه "الانتصار لأهل الحديث": " ... أما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يُبَدِّع بعضهم بعضاً، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره ... تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ... أوَ مَا سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر صاحب أبي علي أصحاب أبي هاشم، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم" (¬1). ويرى الإِمام الغزالي أن الشر إنما نبع في هذه الأمة منذ ظهر علماء الكلام الذين أرادوا أن يضيقوا رحمة الله الواسعة وأن يجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين. ومن الآثار الخطيرة التي ترتبت كذلك على الاشتغال بعلم الكلام وسلوك طريق المتكلمين: الطعن علي إيمان العوام من المسلمين والقول بكفرهم، وقد بين ذلك ابن السمعاني حين قال عن المتكلمين: "ومن قبيح ما يلزمهم في اعتقادهم أننا إذ بينا الحق على ما قالوا وأوجبنا طلب الدين بالطريق الذي ذكروه، وجب من ذلك تكفير العوام بأجمعهم لأنهم لا يعرفون إلاَّ الاتباع المجرد ... فإذا كفر هؤلاء الناس وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة، فماذا إلاَّ طيّ بساط الإِسلام وهدم منار الدين وأركان الشريعة وأعلام الإِسلام، وإلحاق هذه الديار -أعني دار الإِسلام- بدار الكفر؟ ... ومتى يوجد في الألوف من المسلمين على الشرط الذي يراعونه لتصحيح معرفة الله" (¬2). ¬

_ (¬1) عن السيوطي: صون المنطق والكلام: 1/ 167 وما بعدها. (¬2) م، ن: 1/ 177 - 178، ولهذا السبب وصف الغزالي المتكلمين بالغلو والإسراف، إذ كفروا -في نظره- عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتهم ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حرروها فهو كافر". انظر فيصل التفرقة بين الإِسلام والزندقة: 150 (ضمن مجموعة القصور العوالي).

نقد استدلال ابن العربي بقصة الخليل عليه السلام على حدوث العالم.

وفي الختام أقول: إن القرآن الكريم قد اشتمل على البراهين العقلية على أصول الدين، وقد أثبتها الكثيرون من الفلاسفة (¬1) والمتكلمين (¬2) إذ يرى الِإمام الغزالي أن الأدلة القرآنية أكثر إقناعاً من غيرها، وإنها لذلك أكثر فائدة حيث تصلح للعامة ولأهل المعرفة اليقينية في آن واحد، فالأدلة القرآنية فيما يرى الِإمام الغزالي كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القويّ، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى (*)، ولا ينتفع بها الصبى أصلاً، "فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الِإعادة أقدر، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] وإن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمديرين فكيف ينتظم في كلّ العالم؟. وإن من خلق علم كما قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حياً، وما أحدثه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه وإشكال ثم اشتغال بحلّه فهو بدعة، وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر فهو الذي ينبغي أن يتوقى" (¬3). نقد استدلال ابن العربي بقصة الخليل عليه السلام على حدوث العالم. أشار ابن العربي - رحمه الله - في "قانون التأويل" (¬4) إلى أن الله قد أوعب القول في حدوث العالم، ونبه باختلاف الأعراض عليها في ¬

_ (¬1) كابن رشد الذي يرى أن الشرع اشتمل على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور - انظر فصل المقال: 19. (¬2) كالأشعري في رسالته "استحسان الخوض في الكلام". (*) ملاحظة: لا يخفى أن المتكلمين إنما أكدوا اشتمال القرآن على الأدلة العقلية ليثبتوا أنهم فيما وضعوا من أدلة لم يكونوا مبتدعين، بينما أراد السلف من ذلك إثبات الاستغناء ببراهين القرآن عن الأدلة الكلامية. (¬3) إلجام العوام: 88/ 89 (ضمن مجموعة القصور العوالي). (¬4) ص: 502.

الانتقالات، ويعتقد ابن العربي أن الاستدلال بالتغير على الحدوث، إليه يرجع كلّ بسيط وموجز من الأدلة، وعليه عوّل الخليل عليه السلام (¬1)، وهذا الدليل هو الدليل المعتمد عند جمهور الأشاعرة، وملخصه أن هذه التغيرات الحاصلة في هذا العالم من وجود وعدم وتحول من حال إلى حال، سكون بعد حركة، أو حركة بعد سكون وغير ذلك، عبارة عن أعراض (¬2) حلت بجواهر (¬3) هذا العالم، والأعراض حادثة، بعضها بالمشاهدة وبعضها بالدليل، وما حلت به الأعراض فهو حادث مثلها، إذ العالم حادث، وإبراهيم عليه السلام رأى هذه الأعراض حالة بتلك الكواكب حيث تحركت وانتقلت من محل لآخر، والحركة والسكون عرضان من الأعراض، وهذا دليل حدوثها، وما دامت حادثة فهي غير صالحة لأن تكون إلهاً (¬4)، والنتيجة الأخيرة التي يتوصل إليها المتكلمون من هذه المقدمات هي الاستدلال بحدوث العالم على وجود الله سبحانه وتعالى. والواقع أن طريقتهم هذه طريقة باطلة (¬5)؛ لأن المعلوم بداهة أن ¬

_ (¬1) المتوسط في الاعتقاد لوحة: 7. (¬2) العرض هو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي محل يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى الجسم يحله ويقوم هو به، والأعراض على نوعين: قار الذات، وهو الذي يجتمع أجزاؤه في الوجود كالبياض والسواد، وغير قار الذات، وهو الذي لا يجتمع أجزاؤه في الوجود كالحركة والسكون. الجرجاني: التعريفات 79 - 80. (¬3) الجوهر هو ما قام بنفسه واحتاج إلى حيز يشغله، انظر المصدر السابق: 43. (¬4) قال الرازي في "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين": "قد عرفت أن العالم إما جواهر وإما أعراض، وقد يستدل بكل واحد منهما على وجود الصانع، إما بإمكانه أو حدوثه، فهذه وجوه أربعة: الأول: الاستدلال بحدوث الأجسام وهو طريقة الخليل في قوله: "لا أحب الآفلين" صفحة 106 (ط: مصر 1323) وانظر هذا الاستدلال عند الباقلاني في الإنصاف: 30، وفي المواقف للإيجي: 8/ 1 (ط: أحمد سامي العربي) وصفحة: 5 (ط: أحمد مهدي). (¬5) ونحن نسلم بالنتيجة التي انتهوا إليها، وهي قضية بديهية لكن المقدمات التى سلكوها في الوصول إلى هذه النتيجة ليست بينة بنفسها، ولا يمكن التوصل إلى إثباتها بطريق القطع، كما أن هذه الطريقة قد ألجأت الأشاعرة إلى مآزق كثيرة لم يتمكنوا من التخلص منها فألزموا أنفسهم بلوازم معلومة الفس

النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستدل بها، ولم يدع أحداً من أمته إلى الاستدلال بها على وجود الله تبارك وتعالى، بالِإضافة إلى أن هذه الطريقة مبنية على استعمال ألفاظ مجملة، ومعان مبهمة لم يعرفها العرب في تخاطبهم، ولم يستعملوها فيما بينهم، وإنما اصطلح عليها المتأخرون وحملوا عليها ألفاظ الكتاب والسنة، وظنوا أن المعنى الذي اصطلحوا عليه هو المعنى العام الذي عرفه العرب للفظ عند الِإطلاق وليس الأمر كذلك؛ لأن المعاني العامة للألفاظ قد دونتها لنا كتب اللغة والمعاجم لا كتب المتكلمين وأرباب التأويل. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية مبيناً زيف وتهافت طريقة حدوث العالم: "فهذه الطريقة بما يعلم بالاضطرار أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يدع الناس بها إلى إلِإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه، ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام -كالأشعري (¬1) وغيره (¬2) - بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدّعى بها مطلقاً، ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه، فأحد أمرين لازم له: إما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل، كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار (¬3)، والتزم لأجلها أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة (¬4)، والتزم قوم لأجلها -كالأشعري وغيره- أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك (¬5). والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض -كالطعم واللون ¬

_ (¬1) في رسالته لأهل الثغر (ميكروفيلم بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة رقم 105). (¬2) كابن رشد في مناهج الأدلة 136. (¬3) انظر قوله في التبصير في الدين للإسفراييني 96، وأصول الدين للبغدادي 238، التنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع للملطي: 95 - 96، 130. (¬4) هو أبو الهذيل العلاف، من أئمة المعتزلة توفي حوالي 235، وانظر قوله بانقطاع حركات أهل الجنة والنار: الإسفراييني: التبصير في الدين 66، البغدادي: أصول الدين 238، علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام 1/ 460. (¬5) انظر الباقلاني في التمهيد 42 (ط: مص

وغيرهما- لا يجوز بقاؤها بحال؛ لأنهم احتاجوا إلى جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال على حدوث الأجسام بصفاتها، فقالوا: صفات الأجسام أعراض، أي أنها تعرض فتزول، فلا تبقى بحال، بخلاف صفات الله فإنها باقية" (¬1). قلت: ولا يعنيني -الآن- الردّ على هذه الطريقة المبتدعة، فهذا يحتاج إلى موضوع مستقل بنفسه (¬2)، ولكن غرضي هو نقد القول: بأن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام فيما حكى الله عزّ وجل عنه بقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] فقد تأول الأشاعرة الأفول بالحركة فقالوا: إن إبراهيم قد استدل على حدوث الكواكب بتحركها وتغيرها، لأن كل متحرك محدث، والمحدث لا يصلح أن يكون رباً. ولقد ابتعد المتكلمون عن جادة الصواب في الاستدلال بهذه الآية لأمور كثيرة منها: أولاً: أن الأفول ليس هو الحركة، وهذا المعنى لم تعرفه العرب كما هو مبين في كتب ومعاجم اللغة (¬3)، كما لم تعرف أن الأفول هو التغير وإنما المعروف هو أن "أفل" بمعنى غاب واحتجب وأفلت الشمس تأفل وتأفل أفولًا أي غابت (¬4). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل 1/ 39 - 40. (¬2) انظر الرازي مفاتيح الغيب 4/ 77، 13/ 52. (¬3) انظر الجوهري الصحاح 4/ 1623، ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 1/ 119 وانظر لسان العرب مادة "أفل". (¬4) يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية "إن هذا القول الذي قالوه (أي قولهم في الأفول بمعنى الحركة) لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإِسلام، كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي (في كتابه "الرد على بشر للمريسي العنيد: 55 ط: السنة المحمدية 1358) وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع" درء تعارض العقل والنقل: 1/ 314.

ثانياً: أن إبراهيم الخليل لو استدل بالأعراض على نحو استدلال المتكلمين لما قال: {قَالَ هَذَا رَبِّي} أولًا، ولما فرق بن النجم والشمس والقمر، ولكان دليله على أن النجم محدث يدل بعينه على أن كل جسم محدث، سواء كان مستدلاً لنفسه أم ملزماً لغيره؛ لأنه يكون قد أقام الحجة على الخصم بحدوث الأجسام حين أبطل ربوبية النجم، فلم أعاد، إلاستدلال عند رؤية القمر ثم أعاده عند رؤية الشمس؟. ثالثاً: أن الله سبحانه ذكر عن الخليل عليه السلام أنه لما {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 76 - 79] ومعلوم أنه لما بزغ القمر كان في بزوغه متحركاً وكذلك الشمس، فلو كان إبراهيم الخليل يقصد الاستدلال بالحركة التي يسمونها تغيراً، لكان قد قال ذلك من حين رأى الكواكب بازغة، ولما انتظر أفولها. رابعاً: أن إبراهيم عليه السلام لم يكن بصدد إثبات الصانع، بل كان بصدد الاستدلال على نفي الشريك وإبطال عبادة ما سوى الله لأن قومه كانوا مقرين بالصانع ولكنهم كانوا يشركون في عبادته غيره (¬1). أو على سبيل ¬

_ (¬1) ولهذا قال لهم إبراهيم الخليل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]. فعادى كل ما يعبدونه إلاَّ رب العالمين وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: 4] وقال تعالى حكايه على الخليل عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].

ابن العريى وأقسام العلوم

الاستدلال والترقي أو غير ذلك فليس مراده هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه؛ لأن قومه ما كانوا يعتقدون أن الكواكب هي رب العالمين، بل كانوا يتخذونها أرباباً يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة والسجود لها، وسيدنا إبراهيم استدل بمغيب هذه الكواكب على عدم صلاحيتها للعبادة، لأن الذي يستحق العبادة لا ينبغي أن يغيب عن عين عابده، وهذه الكواكب لا تملك نفسها أن تمنعها من الاحتجاب والمغيب عن أعين العابدين لها (¬1). وبهذا يتبين لنا أن قصة الخليل عليه السلام إنما كانت لنفي ألوهية الكواكب وعبادتها من دون الله لا إثبات حدوث العالم كما ذهب إليه ابن العربي والأشاعرة بعامة. ابن العريى وأقسام العلوم: أورد ابن العربي تقسيماً للعلوم في أثناء كلامه عن علوم القرآن (¬2)، وجاء ذلك التقسيم ثنائياً تارة وثلاثياً تارة أخرى على حسب صفات العلم واختلاف متعلقاته وما يتصل أو يرتبط به. فالمعلومات عند ابن العربي على قسمين: معدوم وموجود، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم هو المنتفي الذي ليس بشيء، قال تعالي: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. فأخبر تعالى أن المعدوم ليس بشيء، والموجود هو الشيء الكائن الثابت، والموجود هو مظهر الأحكام في الخارج (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 1/ 109 وما بعدها: 1/ 310 - 317 وشرح حديث النزول 165 - 168 والردّ على المنطقيين 304 - 306. (¬2) قانون التأويل: (504)، 510. (¬3) يقول الفلاسفة: الموجود هو الذي يمكن أن يخبر عنه والمعدوم بنقيضه وهو ما لا يمكن أن يخبر عنه. الجرجاني: التعريفات 123.

وتنقسم العلوم من جهة طرقها إلى ثلاثة أقسام

وتنقسم الموجودات إلى قسمين: خالق ومخلوق (¬1). فالخالق هو الله سبحانه وتعالى. والمخلوق هو المحدث الذي لوجوده أول (¬2). كما أن العلم ينقسم من جهة صفاته إلى قسمين: قديم ومخلوق. 1 - فالقديم هو علم الله الذي لا أول له، يتعلق بالمعلومات كلها على اختلاف أنواعها من قديم ومحدث وموجود ومعدوم، على الجملة والتفصيل، فهو بكل شيء عليم، وهذا العلم ليس بعلم ضروري ولا استدلالي. قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وَقَالَ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] فأثبت الله سبحانه وتعالى العلم لنفسه ونص على أنه صفة له في نص كتابه. 2 - المخلوق، وهو علم الخلق، ويتصف بالقصور، فهو يعلم جملة من تفصيل، وقليلاً من كثير، إذ لا إحاطة له خاصة، ويعلم من وجه ويجهل من وجه، ويطرأ عليه السهو والذهول والشك؛ ويعدم كذلك (¬3). وتنقسم العلوم من جهة طرقها إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسم يثبت في النفس ابتداء لا عن إدراك ببعض الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة والألم والغم والفرح والقدرة والعجز والصحة والسقم، والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الاثنين أكثر من الواحد. ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 511. (¬2) يقول الجرجاني: المحدث ما يكون مسبوقاً بمادة ومدة، وقيل: ما كان لوجوده ابتداء. التعريفات 109. (¬3) انظر سراج المريدين للمؤلف: لوحة 50/ أ- ب ويشير ابن العربي في قانون التأويل: 512 إلى أن علم المخلوق ينقسم إلى علم دنيا وعلم آخرة.

وينقسم العلم من جهة متعلقاته إلى ثلاثة أقسام

2 - قسم يعلم بالحواس، كدرك الحواس الخمس وهي: حاسة الرؤية وحاسة السمع، وحاسة الذوق، وحاسة الشم، وحاسة اللمس، وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم ولون وكلام وصوت ورائحة وطعم وحرارة وبرودة ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، فالعلم به يقع ضرورة (¬1). 3 - قسم بعلم بالقياس على هذين القسمين وهو ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة وهو القسم المأمور به والمسمى بالعلم النظري. وينقسم العلم من جهة متعلقاته إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وهو المطلوب. القسم الثاني: معرفة أفعال المكلفين. القسم الثالث: معرفة الجزاء في الآخرة (¬2). كما ينقسم العلم من وجه آخر إلى قسمين: 1 - علم باللفظ وهو معرفة وقوع العبارة على المعنى المراد. 2 - وعلم بالمعنى وهو الذي يعرف به أحوال اللفظ العربي الذي يطابق مقتضى الحال، وهذا العلم هو المطلوب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر قانون التأويل: 528 وقد أحكم المؤلف هذا التقسيم في سراج المريدين 50/ أ- ب وعليه عوّلتُ. (ص 510 ت 2). (¬2) هذا التقسيم هو الذي اعتمده في "سراج المريدين" أما في "قانون التأويل": 510، 540 فقد قسم العلم باعتبار متعلقاته إلى علم نظري وعلم عملي، والتقسيم الأول هو المعتمد عند أغلب العلماء، قال الشريف الجرجاني في التحريفات: 83 " ... والعلم المحدث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: بديهيّ، وضروريّ، واستدلاليّ. فالبديهيّ: ما لا يحتاج إلى تقديم مقدمة، كالعلم بوجود نفسه وأن الكل أعظم من الجزء، والضروري: ما لا يحتاج فيه إلى تقديم مقدمة، كالعلم الحاصل بالحواس الخمس، والاستدلالي: ما يحتاج إلى تقديم مقدمة، كالعلم بثبوت الصانع وحدوث الأعراض". انظر: الباقلاني: الإنصاف: 14، الشاطبي: الاعتصام 2/ 318. (¬3) قانون التأويل: 512.

وتنقسم العلوم من وجه آخر إلى ثلاثة أقسام

وتنقسم العلوم من وجه آخر إلى ثلاثة أقسام: 1 - علم عقد: وهو معرفة الله تعالى. 2 - علم قول: وهو الإيمان بالله تعالى وصفاته وما يرتبط بذلك. 3 - علم عمل (¬1): وهو معرفة الجسد والغرور والنية والتوكل (¬2). وتنقسم من وجه آخر إلى قسمين: 1 - علم ظاهر كاللغات وتفسيرها والقراءات وتقييدها. 2 - وعلم باطن كعلم أصول الفقه مثلاً (¬3). وهكذا ينتهي ابن العربي من مجموع هذه التقسيمات إلى تقسيم علوم القرآن أو علوم الشريعة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: التوحيد وتدخل فيه معرفة المخلوقات بحقائقها، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله. القسم الثاني: علم التذكير ويشمل الوعد والوعيد، والجنة والنار، والحشر وتصفية الباطن والظاهر عن أخلاط المعاصي. القسم الثالث: الأحكام وهو التكليف كله من العمل في قسم النافع منه والضار، وحظ الأمر والنهي والندب (¬4). تعقيب: يعتبر الكندي (ت: 252) والفارابي (ت: 339) وابن سينا (ت: 438) من أوائل من تطرقوا لموضوع تصنيف العلوم أو علم تقاسيم العلوم (¬5)، ¬

_ (¬1) ويقسم العمل إلى قسمين: نافع وضار: ن، م: 550. (¬2) م، ن: 541. (¬3) م، ن: 514. (¬4) م، ن: 542. (¬5) قال طاش كبرى زادة في تعريف هذا العلم: "هو علم باحث عن التدرج من أعم الموضوعات =

فخصصوا له الرسائل المستقلة، وضمنوه كتبهم، فالكندي مثلًا يقوم تصنيفه للعلوم على تقسيمها إلى: 1 - العلوم الإنسانية وهي العلوم الفلسفية التي يصل إليها الإنسان بالتكلف والبحث والرياضيات والمنطق، والتي تحتاج إلى زمان لاكتسابها. 2 - العلوم الدينية: ويسميها العلم الإلهي وعلم الرسل (¬1). أما الفارابي فقد أجمل تقسيم العلوم فيما يلي: 1 - علم اللسان: ويشمل علم الألفاظ ومدلولاتها وعلم اللغة وما إلى ذلك. 2 - علم المنطق: ويعرفه بأنه صناعة تعطي جملة القوانين التي من شأنها أن تقوّم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب (¬2). 3 - علم التعاليم: ويدخل فيه علم الهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم وغيرها. 4 - العلم الطبيعي والإلهي. 5 - العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام (¬3). ويقسم ابن سينا العلوم الفلسفية إلى نظرية وعملية وآلية، ثم يقسم النظرية إلى علم طبيعي ورياضي وإلهي، ولكل واحد منهما عنده علوم أصلية وفرعية ثم يقسم العلوم العملية إلى ثلاثة: أخلاق وتدبير المنزل وتدبير المدينة (¬4). ¬

_ = إلى أخصها، ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم" مفتاح السعادة 1/ 324. (¬1) رسائل الكندي 1/ 372 - 373. (¬2) إحصاء العلوم: 11. (¬3) م، ن: 60 - 69. (¬4) قسم المنطق من كتابه الشفاء: 1 (تحقيق سعيد زايد) والنجاة: القسم الأول: 2 - 3 (ط: الكردي 1938).

ومن الملاحظ أن هؤلاء الفلاسفة قد تأثروا في تقسيمهم للعلوم بالتقسيم الأرسطي الذي يقوم على تفصيل ثلاثي للعلم: علم نظري وعلم عملي وعلم شعري (¬1). والآن ما هو موقع التقسيم الذي أورده ابن العربي من هذه التقاسيم التي سبقته؟ وما هي خصائصه ومميزاته؟. لعل أول ما نلاحظه أن تقسيم ابن العربي -رحمه الله- يكاد يكون متحرراً من تقسيم أرسطو، وهو قائم على تصور عقدي صرف، فعلم الله المحيط بكل شيء، ومقابله علم المخلوق القاصر، وكذلك معرفة الله وصفاته، ومعرفة أحكام المكلفين وما إلى ذلك، كل هذا من وحي علوم الشريعة. وفي مقابل هذا، فإننا نجد في التقسيم اهتماماً بعلوم اللغة وهو ما يعكس شغف ابن العربي باللغة واهتمامه بها وتركيزه عليها. ومن الواضح أنه بني تصنيفه على نظر في واقع العلوم كما هي، إلى جانب انطلاقه من صورة ذهنية للعلم حددت له ما هو واجب على المسلم أن يعتقده، وبفضل هذه النظرة المزدوجة جاء تقسيمه متحرراً -إلى حد ما- من التقاسيم التي سبقته، إلى جانب أن البنية العامة التي اعتمدها هي بنية طريفة وعملية، تدل على تمكنه من الثقافة الِإسلامية وتبحره فيها. ¬

_ (¬1) لا شك أن أفلاطون قد سبق أرسطو في تقسيم العلوم وذلك في كتابه الجمهورية. صفحة 268 وما بعدها (ط: دار الكتاب العربي) وانظر عنه يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية: حواشي صفحة 71، وللوقوف على تقسيم أرسطو انظر: عبد الرحمن بدوي: "أرسطو": 56 (ط: القاهرة 1964)، مقدمة الدكتور إبراهيم سلامة لكتابه "بلاغة أرسطو بين العرب واليونان" 7 - 9 (ط: مصر 1952). ملاحظة: ينبغي الإشارة إلى أن الخوارزمي (ت: 387) وابن النديم (ت: 438) وإخوان الصفا والغزالي (ت: 505) وغيرهم قد تأثروا جميعاً بالتقسيم الأرسطي.

أبو بكر بن العربي ونقده للجويني في مسألة "علم الله بالجزئيات"

أبو بكر بن العربي ونقده للجويني في مسألة "علم الله بالجزئيات": تكلم ابن العربي في فصل "ذكر أقسام العلوم" (¬1) عن علم الله سبحانه وتعالى، وانتقد الإِمام الجويني بشدة وعنف لقوله باستحالة علم الله بالجزئيات، ونحن في هذا المبحث سنقوم بتوضيح موقف ابن العربي من هذه الدعوى الخطيرة مستعينين بالله عَزَّ وَجَلَّ ثم بما كتبه ابن العربي في "العواصم من القواصم" (¬2) حول هذا الموضوع الشائك، وقبل الشروع في مناقشة ما ذهب إليه الجويني أرى من الواجب أن أبين صفة العلم كما هي عند السلف فأقول متوكلاً على الله وحده: العلم صفة لله عَزَّ وَجَلَّ بها يدرك جميع المعلومات على ما هي عليه، فلا يخفى عليه منها شيء (¬3). فالله تعالى عالم بجميع الموجودات، ومحيط بجميع المعلومات، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد نبه القرآن الكريم على إثبات هذه الصفة في آيات كثيرة، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]. وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. وقوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47]. ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 507. (¬2) صفحة 133 وما بعدها. (¬3) محمد خليل هراس: شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية 44.

وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. فهذه الآيات (¬1) الكريمات تفيد إثبات صفة العلم للباري تعالى. وأنه عليم بدقائق الأمور وبواطنها، وعلمه شامل ومحيط بكل شيء، بعكس بني آدم فإنهم وإن كانوا يوصفون بالعلم، فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالماً بالفقه غير عالم بالنحو وعالماً بهما غير عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، فعلم الله -سبحانه- عِلْمُ حَقِيقَةٍ وَكمَال {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬2)، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (¬3). فعلم الله تبارك وتعالى صفة ذاتية لازمة له تعالى، لا يخلو منها في وقت من الأوقات فهو قديم لا يتصور انفكاك ذات الله عنه، وإلى هذا أشار الإِمام أحمد رضي الله عنه بقوله: "فإن قال الجهمي (¬4): ليس له علم، كفر، وإن قال: لله علم محدث، كفر، حيث زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علماً فعلم، فإن قال لله علم وليس مخلوقاً ولا محدثاً، رجع عن قوله كله، قال بقول أهل السنة" (¬5). ونكتفي بهذا القدر من بيان صفة العلم لندخل في المناقشة الحادة التي أدارها ابن العربي مع الجويني حول علم الله بالجزئيات فنقول: قال إمام الحرمين في البرهان: ¬

_ (¬1) انظر استدلال ابن العربي بهذه الآيات في الأمد الأقصى: 64/ ب-65/ أ. (¬2) الآية 12 من سورة الطلاق. (¬3) الآية 28 من سورة الجن، وانظر الخطابي: شأن الدعاء: 57. (¬4) أي الذي يعتقد اعتقاد جهم بن صفوان. (¬5) الرد على الجهمية والزنادقة.

"تردد المتكلمون في انحصار الأجناس (¬1) كالألوان. فقطع قاطعون بأنها غير متناهية في الِإمكان كآحاد كل جنس، وزعم آخرون أنها منحصرة، وقال المقتصدون: لا ندري أنها منحصرة أم لا؟ ولم يثبتوا مذهبهم على بصيرة وتحقيق. والذي أراه قطعاً أنها منحصرة فإنها لو كانت غير منحصرة، لتعلق العلم منها بأجناس لا تتناهى على التفصيل، وذلك مستحيل، فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا: الباري سبحانه عالم بما لا يتناهى على التفصيل، سفهنا عقولهم وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات، وبالجملة علم الباري سبحانه وتعالى إذا تعلق بجواهر لا تتناهى، فمعنى تعلّقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد مع نفي النهاية، فإن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود، يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم، والأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل العلم بها، فإنها متباينة بالخواص، وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال، وإذا لاحت الحقائق فليقل الأخرق بعدها ما شاء" (¬2). قلت: وقد مهّد ابن العربي في نقده لكلام الجويني بتقرير القواعد التالية: إن المعلومات من جهة الكون (¬3) تنقسم إلى واجب وجائز ومستحيل، والواجب على قسمين: واجب مطلق وهو الله وحده وصفاته، وواجب من وجه وهو ما خلقه الله تعالى من أصول العالم كالجواهر والأجسام والأعراض، فهذه يجب كونها على هذه الصفة فلا يتصور خروج الجوهر عن كونه جوهراً، ولا ¬

_ (¬1) الجنس هو اسم دال على كثيرين مختلفين بالأنواع. والنوع اسم دال على أشياء كثيرة مختلفة بالأشخاص. التعريفات للجرجاني: 42، 129. (¬2) البرهان: 1/ 145 - 146. (¬3) الكون عبارة عن خروج شيء من العدم إلى الوجود دفعة واحدة. انظر: الآمدي: المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين: 55، الجرجاني التعريفات 99.

العرض عن كونه عرضاً، ولا خروج الجسم عن كونه جسماً، ومن أصول هذه الأصول أن الجوهر لا يخلو عن عرض، وأن العرض لا يصح وجوده دون ما يقوم به من جوهر أو جسم، وهذا كله متفق عليه بين العقلاء، ومعلوم عندهم قطعاً قبل النظر، ومنه ما هو معلوم بنظر، ويتركب عليه وجود الأكوان والألوان بالجواهر والأجسام على البدل والانفراد حسب نسبة كل واحد منها إلى الآخر من ضد أو خلاف، ويتركب عليه بعد ذلك النظر في أحكام جميعه بالنسبة إلى سَبَبٍ نَشَأتْ عَنْهُ، أو إلى كيفية هي عليه، أو إلى تركيب في وجود أو عدم، أو صفة فناء أو بقاء، أو إلى حال تركيب واستحالة، يكون بعده نظر في انحصار الأعراض إلى ألوان وأكوان، وانحصار الأكوان إلى حركة (¬1) وسكون (¬2)، وانحصار الألوان إلى أحمر وأسود، وما بينهما من واسطة ترجع إليهما، أو تقف بينهما. وأعظم من ذلك القول في انحصار العالم إلى الموجودات على ترتيبها وتدبيرها، ما بين وجود وعدم، وبقاء وفناء، وتكليف وإعفاء، وتعجيل وإمهال، ودنيا وآخرة، وثواب وعقاب، في عموم ذلك. ومن هذا المتقدم أصل متفق عليه بين منزلتيْ النفي والإثبات وهو الوجود والعدم، والحركة والسكون فرعاً عليه (¬3)، ومنه متفق عليه بين أهل الملل ومنه متفق عليه بين أهل السنة، ومن جملة المتفق عليه بما تقدم أن الجوهر لا يخلو عن حركة أو سكون ... ومن المختلف فيه القول في وجود لون خلاف ما شاهدناه، فمن قائل أن الألوان منحصرة، ومن قائل أنها غير منحصرة (¬4) ومن واقف لم يحكم عليها بالحصر أو عدمه (¬5). ¬

_ (¬1) قال الجرجاني: الحركة هي الخروج من القوة إلى الفعل على سببل التدريج، وقيد بالتدريج ليخرج الكون عن الحركة. التعريفات: 45. (¬2) قال الجرجاني: السكون هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك، فعدم الحركة عما ليس من شأنه الحركة لا يكون سكوناً فالموصوف بهذا لا يكون متحركاً ولا ساكناً. التعريفات 64. (¬3) وفي نسخة مخطوطة من العواصم كتب بدل "فرعاً عليه" فرعي علته. (¬4) المراد بالانحصار وعدمه: التناهي وعدم التناهي. (¬5) العواصم من القواصم 136 - 137.

قلت ثم بين ابن العربي أن مسألة الانحصار هذه مسألة شائكة وتحيط بها إشكالات عديدة؛ لأن العلم الذي به أدرك الِإنسان انقسام الموجودات إلى جواهر وأعراض، به أدرك كذلك أن ثمة موجود آخر ليس بجوهر ولا عرض ولكن لا يحيط به علماً، وكذلك أن الكون من حركة وسكون لا ثالث لهما، وأن السواد والحمرة لا غاية وراءهما، وإن كان بينهما وسائط (¬1). وأن العلم لا تعلق له بالعلم المحض، وإنما يتعلق بمعدوم مقدر، فإن قدر الِإنسان عالماً آخر، وأمكنه فهمه، فقدر موجوداً ليس بجوهر ولا عرض، وكوناً ليس بحركة ولا سكون. ولوناً ما ليس بحمرة ولا سواد، فإن وجب أن ينحصر ذلك في المعلوم، فلا يسأل عما وراءه بنفي أو إثبات. ويقرر ابن العربي بأن القول بتناهي الأجناس والأنواع ليس إلاَّ لغواً من الكلام، إذ ليس هناك من دليل نظري ولا ضروري يدل على الانحصار وتناهي الموجودات في هذه الأجناس والأنواع المعروفة لدينا. واستدل على ما ذهب إليه بحديث المعراج الذي صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد عدم تناهي الأجناس والأنواع حيث قال: "ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا ألوَانٌ لَا أدرِي مَا هِيَ .. " (¬2) فهذا الحديث يدل عند ابن العربي على عدم انحصار الألوان، إذ لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - في سدرة المنتهى شيئاً يشابه ما عهده في الدنيا، ويؤيده الحديث القدسي الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عز وجلّ: أعدَدْتُ لِعِبَادِي الصالِحِينَ مَا لَا عَيْن رَأت، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .. الحديث" (¬3). وهذا يشير إلى أشياء مخالفة لأجناس الموجودات وأنواعها المعروفة لدينا (¬4). ¬

_ (¬1) م، ن: 137 - 138. (¬2) هذا جزء من حديث طويل رواه مسلم في كتاب الإِيمان رقم 163 باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات. (¬3) أخرجه مسلم في الجنة رقم 2824 والترمذي في التفسير 3195. (¬4) انظر ابن العربي عارضة الأحوذي 2/ 76، العواصم من القواصم 137.

وبعد هذه المقدمة الضرورية شرع ابن العربي في نقد مقالة الجويني فقرة فقرة فأورد قول الجويني: "والدليل على أنها منحصرة أنها لو كانت غير منحصرة، لتعلق العلم بها بآحاد لا تتناهى على التفصيل وذلك محال". وعارضه بقوله: إن هذا الكلام محذوف لأن قوله: "لو كانت غير منحصرة" مقدمة واحدة لا تنتج شيئاً باتفاق العقلاء (¬1)، فلا يصح أن يرتب عليها قوله "لتعلق العلم منها بآحاد لا تتناهى على التفصيل" حتى يقول (أي يستنتج) هي منحصرة. ويرى ابن العربي أنه لكي نثبت أنها منحصرة يجب أن نثبت قبل ذلك أنها معلومة؛ لأن الحكم على المجهول بحصره أو عدم حصره محال، وإذا قررنا أنها معلومة فمعنى ذلك أن العلم متعلق بها تفصيلًا، وليس معنى التفصيل إلاَّ الحصر، فآل نفي الحصر إلى إثباته، فبطل في نفسه وهذا هو برهان الخلف (¬2). أما قول الجويني: "وإن قالوا: إن الباري عالم بما لا يتناهى على التفصيل سفهنا عقولهم" فهذا الكلام عند ابن العربي كلام متناقض غير معقول، وذلك لأن التفصيل عند الجويني يقتضي الحصر، وما لا يتناهى ينفيه. فتناقضت القضيتان، فالجمع بينهما سفه في العقل (¬3). وكذلك قول الجويني: "إن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود، يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم" كلام متناقض أيضاً، يفتقر إلى ¬

_ (¬1) يخالف شيخ الإِسلام ابن تيمية المناطقة في هذا القول ويرى أن المقدمة الواحدة منتجة، انظر الرد على المنطقيين 107 وما بعدها، ومناهج البحث عند مفكري الإسلام للمرحوم الدكتور علي سامي النشار 164 - 179، منطق ابن تيمية للدكتور محمد حسني الزين 85 - 93. (¬2) برهان الخلف يعرفه ابن سينا بقوله: "هو الذي تبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه" النجاة 85 - 86 (ط: السعادة 1331) الآمدي المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين 37 - 38. وانظر ابن سهلان: البصائر النصيرية 104 - 105 (ط: بولاق 1316). (¬3) العواصم من القواصم: 140.

تتميم؛ لأن قوله: "ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود" يعني به أن ذلك إذا كان في زمن محدود متناه، وإلا فدورات الأفلاك عند الفلاسفة لا نهاية لها، ونعيم الجنة عند الموحدين لا نهاية له، وذهب ابن العربي إلى أن الوجود في هذه الأشياء اللامتناهية إنما يحال فيها على أزمنتها المستقبلة، فيكون لكل موجود زمان معين. ثم خرّج ابن العربي أقوال الجويني على الطريقة التالية: أما قول الجويني: "يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم" فيعني بقوله: "وقوع": وجود، وقوله: "تقديرات" يريد تصوير موجودات، وقوله: "غير متناهية" يعني في زمان متناه، وذلك بما لا يتعلق به علم؛ لأنه لا يتصور له ثبات، وقوله: "فتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال" فهذا مبني على أصل في أن التفصيل هو الحصر والانتهاء (¬1). وبعد هذا النقد المختصر (¬2) لأقوال الجويني لا ينسى ابن العربي أن يذكرنا بالطريقة المثلى التي ينبغي أن تتبع في مثل هذه المشكلات فيقول رحمه الله: "إن هذه الألفاظ من الجملة والتفصيل والحصر، ألفاظ مولدة ركّبت عليها المبتدعة علومها، وخاض فيها علماؤنا معهم، ولكل واحد فيها اصطلاح تركيب معناه على ما اصطلح عليه فيها، ويختلف الاثنان في الوجه المصطلح عليه فيتباريان ويتعارضان، ونحن إذا تكلمنا على ذلك قلنا: دعونا من العبارات المحدثة الفاسدة، الباري تعالى عالم بعلم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما كان وما يكون، ولا يقدر شيء إلا ¬

_ (¬1) م، ن: 141. (¬2) توسع ابن العربي في نقد هذه الفكرة بكتابه التمحيص، ومع الأسف الشديد فإن هذا الكتاب يعتبر من جملة الكتب الضائعة التي لم أقف لها على خبر في حدود اطلاعي على فهارس مخطوطات المكتبات العالمية.

هو، عالم به، فإن قلتم على التفصيل يعلم أو على الجملة؟ قلنا: لا ندرك ما تريدون! فإن أردتم بقولكم: على التفصيل، أنه لا يخفى عليه شيء فذلك صحيح، وإن أردتم بالجملة أنه يعلم شيئاً ويخفى عليه شيء فلا يصح؛ لأن الدليل قد قام على أنه لا يخفى عليه شيء فإنما نتكلم معكم في عموم علمه وخصوصه، والجملة والتفصيل عبارات باردة لا نلتفت إليها (¬1)، ولا نبني عليها حكماً، ولا نصف الباري بشيء منهلا، نفياً ولا إثباتاً، وإنما نصفه بما وصف به نفسه، ودلّ الدليل عليه من سعة علم، وتقدس ذاته وصفاته، وأنه لا يخفى عليه شيء كان أو لم يكن، تقدم أو تأخر فعلى هذا عوَّلوا، ودعوا بنيات الطرق، والألفاظ المحدثة، وخذوا ذات اليمين، وهو ما كان عليه السلف المتقدمون من الصحابة والتابعين" (¬2). قلت: وهكذا يعود ابن العربي بعد هذه المناقشات الحادة ليؤكد لنا أن طريقة السلف هي الأحكم والأسلم في مثل هذه المواقف التي اختلط فيها الحق بالباطل، وينبهنا على قضية مهمة في سبب نشأة الخلاف بين المتكلمين وهي الإجمال والغموض في الألفاظ والمعاني الاصطلاحية، فاستعمال الفلاسفة والمتكلمين للألفاظ العربية، بعيد كل البعد عن معانيها اللغوية الأصيلة التي استعملها العرب كما هو مدون في كتب اللغة والمعاجم، فلو فصل ما في هذه الألفاظ من الإجمال، ووضح ما في معناها من الغموض والِإبهام، فيثبت ما فيها من حق، وينفي ما فيها من الباطل لكان ذلك منهجاً قويماً ولانحل الِإشكال، واتضح الأمر. وفي الختام أرى من المستحسن أن أثبت في هذا المبحث بعض النكت العلمية اللطيفة التي ذكرها ابن العربي في كتابه "الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى" (¬3) في أثناء كلامه على اسم الجلالة "العليم" قال رحمه ¬

_ (¬1) في الأصل: لا تلتفت لكم إليها. (¬2) العواصم من القواصم: 142 - 143. (¬3) لوحة 65/ ب.

الله مبيناً المنزلة العليا للرب سبحانه في الاسم: ... ولا يخفى على العبد "العلم" لأنه قد احتوى، منه على أنموذج يستدل به على ربه، وهذه هي الحكمة في أن جعلت فيه صفات تشترك في الأسماء مع صفات الخالق وأسْمائِهِ لتكون عوناً له في استدلاله عليه، ومعرفته به، والله تبارك وتعالى قد اختص في هذا الاسم بأحكام جماعها عشرة: الأول: عدم الأولية في علمه، لاستحالة أن يكون مخلوقاً. الثاني: استحالة العدم عليه. الثالث: أنه يعلم به جميع المعلومات وعلم العبد محصور بالمعلوم. الرابع: أنه يعلمه جملة وتفصيلًا وعلم العبد يتعلق بالجملة دون التفصيل. الخامس: أن علمه يتعلق بالتفريع والتأصيل، وعلم العبد يتعلق بأصل خاصة دون فروعه. السادس: أن علم الله سابق الموجودات، وعلم العبد مسبوق بالمعلوم. السابع: أنه لا يتطرق إلى علمه آفة، وعلم العبد معرض لكل آفة. الثامن: أن علم الرب بالمعلومات في غاية الكشف والِإيضاح، وعلم العبد وإن بلغ غاية فإنه مقصر كأنه من وراء ستر، وقد بين ذلك بقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. التاسع: أنه لا يشغله شأن عن شأن. العاشر: أن علم الرب أفاد الموجودات، وعلم العبد مستفاد من الموجودات. أما المنزلة الثانية فعلى العبد في علم ربه حكمان: أحدهما: أن يفوض إليه ويستسلم لسابق علمه.

الثاني: أن يستغني في اكتساب العلم به من كل وجه، إذ هو أشرف المكتسبات، وكلما كثرت طرق العلم به، زاد العلم به، فلذلك شرف علم الملائكة والأنبياء على علم الخلق لكثرة دلائلهم". قلت: نعود إلى ابن العربي في كتابه "قانون التأويل" لنستكمل عرض أهم القضايا العقدية الواردة فيه فنقول: أشار ابن العربي أثناء مناقشته للجويني في مسألة علم الله بالجزئيات قضية القياس في العقليات (¬1)، فقد ورد في برهان الجويني قوله: "إن قام الدليل على المطلوب في الغائب فهو المقصود، ولا أثر لذكر الشاهد، وإن لم يتم دليل على المطلوب في الغائب، فذكر الشاهد لا معنى له، وليس في المعقول قياس" (¬2). وهذا الذي ارتضاه الجويني مخالف لما ذهب إليه جمهور المتكلمين، فقد اتفق أكثرهم على صحة القياس في العقليات ومنه نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد، وبناء الغائب على الشاهد وما يجري مجراهما، واتفق القائلون به على أنه لا بد فيه من جامع عقلي، وإلاّ كان الجمع تحكماً محضاً، ثم حصروا الجامع في العلة (¬3)، والحد (¬4)، والشرط (¬5)، والدليل (¬6). فالأول كقول المتكلمين إذا كانت العالمية شاهداً فيمن له العلم، معللة بالعلم، وجب أن يكون في الغائب كذلك. ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 510. (¬2) البرهان 1/ 130 وانظر صفحة: 751. (¬3) العلة هي ما يتوقف عليه وجود الشيء: 82. (¬4) الحد: قول دال على ماهية الشيء. (¬5) الشرط: تعليق شيء بشيء بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني وقيل الشرط ما يتوقف ثبوت الحكم عليه. (¬6) الدليل: هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. انظر في معاني هذه المصطلحات: الجرجاني -: التعريفات 82، 45، 67، 55.

أما الجمع بالحد فكقول القائل. حد العالم في الشاهد من له العلم، فيجب طرد هذه الحقيقة في الغائب كذلك. أما الجمع بالشرط فكقول القائل: العلم مشروط بالحياة شاهداً، فكذلك الحال في الغائب. أما الجمع بالدليل فكقول القائل: التخصيص والأحكام يدلان على العلم والإرادة في الشاهد، فكذلك الأمر في الغائب (¬1). وقد ارتضى شيخ الإِسلام ابن تيمية القول بالقياس في المعقولات ونصره، قال في الفتاوى: " ... من قال أن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقاً، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا دليلاً في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلًا في جميع العلوم، وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي (¬2) لا يستدل بالقياس الشمولي (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الرازي: المحصول في علم الأصول: الجزء 2 القسم 2 صفحة 449 - 450، السبكي: الإبهاج في شرح المنهاج: 3/ 31 - 32. (¬2) قياس الشمول هو انتقال الذهن مع المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي، المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي، بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول وهو المعين. انظر الفتاوى 9/ 119. (¬3) قياس التمثيل هو انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين، لاشتراك الاثنين في معنى واحد مشترك بينهما، وذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلي، ثم المعنى المشترك الكلي، يجب العلم بذلك الملزوم، إذا لم يكن بيناً بنفسه- انظر الفتاوى 19/ 120. تعليق: ويعتبر ابن تيمية قياس التمثيل هو الأصل الحقيقي لقياس الشمول لأن التجربة قد دلت على أن أشياء معينة، وليس على أمور عامة، ولما أن العقل يحس بالجزئيات ويدركها أكثر من إدراكه للكليات، فإنه يدرك حتماً القدر المشترك الذي يربط بين أطراف الجزئيات ليجعل منها قضية كلية. انظر الرد على المنطقيين: 116 وما بعدها.

المذهب الأول

وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزماً للحكم، كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل. فمتى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل، بل نفس الدليل الدال على أن الحكم يتعلق بالوصف كاف، لكن لما كان هذا كلياً، والكلي لا يوجد إلاَّ معيناً، كان يتعين الأصل مما يعلم به تحقيق الكلي، وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات. فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم، أو على إِلغاء الفارق بين الأصل والفرع، فهو قياس صحيح، ودليل صحيح في أي كان" (¬1). قلت: وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن مفهوم الباطن وعن التفسير الِإشاري للنصوص الشرعية، أود أن أبين رأي ابن العربي في مشكلة "الصدق والكذب" فقد تعرض لهذه القضية في مدخل فصل "ذكر أقسام العلوم" (¬2) والغريب في الأمر أنه ذهب في كلامه عن الصدق والكذب مذهب النظام، وهذا يخالف ما كتبه في "سراج المريدين"، فهل رجع عن اعتقاد جمهور الأشاعرة وارتضى مذهب النظام؟ هذا ما سنحاول الِإجابة عليه في هذا المبحث، ولكي تتضح لنا المسألة جلياً، نذكر قول المذاهب في الصدق والكذب (¬3): المذهب الأول: وهو مذهب الأشاعرة الذي يرى أن النسبة الذهنية المفهومة من الكلام في الكلام الخبري، إذا كانت متطابقة مع النسبة الخارجية بأن تكون النسبتان ثبوتيتين أو سلبيتين، فذلك الصدق، وإن اختلفتا في الثبوت والسلب بأن كانت إحداهما ثبوتية، والأخرى سلبية، فذلك ¬

_ (¬1) الفتاوى 9/ 117 - 118. (¬2) قانون التأويل: 507. (¬3) هذا البحث جلّه مستفاد من كتاب شيخنا محمد الشاذلي النيفر "المازري الفقيه والمتكلم وكتابه المعلم": 50 - 54.

المذهب الثاني

الكذب، فلا نظر عند الأشاعرة في الصدق والكذب إلاَّ إلى التطابق بين الكلام ونسبته الخارجية. المذهب الثاني: مذهب النظام (¬1) ومن تابعه، وهو أن الصدق مطابقة الكلام لاعتقاد المخبر، ولو كان الاعتقاد خطأ، بمعنى أنه غير مطابق للواقع، والكذب عدم مطابقته لاعتقاد المخبر، والمراد بالاعتقاد ما يشمل الظن، فلو قال قائل: السماء تحتنا وهو يعتقد ذلك كان صدقاً، ولو قال: السماء فوقنا وهو لا يعتقد بذلك كان خبره كذباً. واحتج النظام لمذهبه بقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وأجاب الأشاعرة عن استدلال النظام على مذهبه بهذه الآية الكريمة بثلاثة أوجه: الأول: إن التكذيب راجع إلى الشهادة لأنهم كأنهم قالوا: إن شهادتنا واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا، وهذا كذب؛ لأن المنافقين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فتكذيبهم راجع إلى ادِّعاء المواطأة، لا إلى المشهود به الذي هو إنك لرسول الله كما يدعي النظام، فإنه وإن كان مطابقاً للواقع إلاَّ أنه غير مطابق لاعتقادهم، وإذا كان غير راجع للمشهود به كما يدعي النظام، بل هو راجع للمواطأة سقط استدلاله. والعجب من النظام كيف يستدل بهذه الآية مع أنها لا تحتمل إلاّ الوجه ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن سيار البصري، المعروف بالنظام من أعظم أئمة المعتزلة توفي سنة 231 للوقوف على ترجمة حياته وآرائه الفلسفية انظر الدراسة النقدية الممتازة التي كتبها الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة (ط: القاهرة 1946) وانظر كذلك د. علي سامي النشار في نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام: 1/ 484 - 503.

الذي حملها عليه الأشاعرة، وهذا الزمخشري وهو من الاعتزال بمكان ومع ذلك يقول: وَالله يشهد أنهم لكاذبون في قولهم: "نشهد" وادعائهم فيه المواطأة (¬1). الوجه الثاني: من أوجه الردّ على النظام أن تكذيبهم راجع إلى تسمية إخبارهم -بكسر الهمزة- شهادة، إذ هي ما تكون على وفق الاعتقاد. الوجه الثالث: أنه على فرض التنزل مع النظام بأن يكون التكذيب من الله تعالى راجعاً للمشهود به -وهو إنك لرسول الله- لكن ليس على ما ذهب إليه، بل إظهار لما هو في قرارة نفوسهم من زعمهم الكاذب في عدم الِإقرار بالنبوة، فيكون المعنى أنهم يزعمون أنهم كاذبون في هذا الخبر الصادق. المذهب الثالث: مذهب الجاحظ (ت: 250) وينكر فيه انحصار الخبر في الصدق والكذب كما هو مذهب الأشاعرة، وكما هو مذهب سلفه النظام الذي لا مخالفة بينه وبين أهل السنة في الانحصار، وإنما مخالفته فيها هو المراد بالتطابق، وأما الجاحظ فيرى أن هناك واسطة بين الصدق والكذب، لأنه يرى أن الصدق يتوقف على مطابقة أمرين وهما: الواقع، واعتقاد المتكلم، والكذب هو عدم المطابقة فيهما، فكأنه أراد التوفيق بين سلفه النظام وما عليه غيره. وبناء على رأي الجاحظ فإنه يلزم أن تكون هناك أخبار لا توصف بصدق ولا كذب، وهي الأخبار التي تكون مطابقة للواقع، لكن يعتقد المتكلم أنها غير مطابقة، أو يكون غير معتقد شيئاً، وكذلك في عدم المطابقة للواقع والمتكلم يعتقد المطابقة، أو ينتفي اعتقاده بأن لا يكون له اعتقاد أصلاً. وذهب الجاحظ إلى ما ذهب إليه اعتماداً على ما استنتجه من قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] إلاَّ أن هناك تلك ¬

_ (¬1) الكشاف 4/ 538 (عن المازري الفقيه والمتكلم: 51).

الواسطة لترديد المناوئين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخباره بالحشر والنشر كما جاء في قوله تعالى: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] بين الافتراء والأخبار حال الجنة: أي حال المجنون، وذلك لأن المراد بالثاني وهو الأخبار حال الجنة، غير الكذب لأنه قسيمه، وغير الصدق لأنهم لم يعتقدوه؛ لأنهم منازعون في الرسالة، فكيف يعتقدون مقاله، فإذا خرج عن كونه صدقاً لما ذكر، وعن كونه كذباً لأنه في مقابلته، فلم يبق حينئذ إلاَّ أنه قسم برأسه، فلا يكون صدقاً ولا كذباً، وبذلك تثبت الواسطة بين الطرفين المتضادين وهما الصدق والكذب. والمذهب الجاحظي هذا قد ردَّه المفسرون واقتصروا في ردهم على إبطال دليله وذلك بأن المقصود: أم لم يفتر، لأن الافتراء أخص من الكذب، إذ هو الكذب عن عمد فحينئذ يكون القسمان مندرجين تحت الأعم وهو مطلق الكذب. وهناك رد مختصر لطيف رد به الإِمام المازري (ت: 536) علي الجاحظ استخرجه من قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ" (¬1) قال رحمه الله: ودليل هذا الخطاب يرد عليهم لأنه يدل على أن ما لم يتعمد يقع عليه اسم الكذب". وتحليل جوابه أنه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب أخبر أن الكاذب عليه إن تعمد الكذب فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب ولم يتعمد فحكمه غير حكم الكاذب المتعمد فهو قد أطلق اسم الكاذب على المتعمد وغيره، وهو إطلاق واضح لا يحتمل وجهاً آخر ولو مع التكلف، وإذا أخذنا هذا في جانب الكذب، فالصدق لا يخرج عنه، إذ أنهما من واد واحد. فما ادعاه الجاحظ من أن الكذب لا يكون كذباً، وكذلك الصدق إلاَّ إذا طابق الكلام الواقع والاعتقاد، أو خالفهما، ليس بشيء حيث أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مسلم في المقدمة 1/ 10 باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

اسم الكذب على الكلام المخالف للواقع وإن لم يطابق الاعتقاد، وبهذا يظهر أن لا مدخل لمطابقة الاعتقاد في إطلاق الكذب، إذ هذا يطلق على ما طابق الاعتقاد وما خالفه، وإنما المراعى مطابقة الواقع" (*). والآن وبعد أن عرفنا آراء المذاهب في مفهوم الصدق والكذب، ما هو رأي ابن العربي في هذه المسألة؟. يقول رحمه الله في قانون التأويل (¬1): "إن العلم لا بد أن يقوم عنه في النفس خبر، وذلك الخبر هو الكلام، وهو من الله صدق لموافقته العلم، ويتصور أن يكون في العبد صدق، وهو ما وافق علمه، ويكون كذباً، وهو ما جاء بخلاف العلم، والكذب مستحيل على الله تعالى، لأن العبد له حالة علم وشك، وظن وجهل ووسواس، فكل معنى من هذه المعاني قام عنه خبر في نفسه، والصدق منها ما وافق العلم". قلت: وقد اعتقدت في أول وهلة أن ابن العربي في هذا النص يوافق النظام في قوله بأن الصدق هو مطابقة الكلام للاعتقاد، والكذب هو عدم مطابقته، ولكنني بعد رجوعي إلى سراج المريدين وجدته يعرف الكذب بقوله: "هو الِإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به" (¬2) وهذا التعريف -كما عرفنا- هو الذي اتفق عليه الأشاعرة قاطبة (¬3). وهنا رجعت إلى نص "قانون التأويل" متأملاً، فوجدته لا يخرج عن اعتقاد سلفه الأشاعرة، فمراد ابن العربي -والله أعلم- أن الصدق هو مطابقة الكلام الذي هو المعنى القائم بالنفس للعلم الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، فيكون الصدق مطابقة الكلام لما عليه الواقع، وقد تأكد لي هذا اللهم بنص آخر في الموضوع وجدته بكتاب "الأمد الأقصى" يقول فيه: ¬

_ (*) إلى هنا ينتهي كلام شيخنا الفاضل محمد الشاذلي النيفر -حفظه الله تعالى. (¬1) صفحة: 507. (¬2) لوحة 226/ أ. (¬3) انظر التعريفات: 69، 97.

أبو بكر بن العربي والباطن من علوم القرآن

" ... فإن جماعة ظنوا أن الكذب إنما يتحقق بأن نقول: إن الكلام عبارة عن المعنى القائم بالنفس، واللسان يعبر عنه فإذا وافق اللسان عقد الجنان، فذلك الصدق، وإذا خالفه فهو الكذب (¬1)، وليس الأمر كذلك، بل نقول وهو الغاية في البيان والتحقيق: إن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والعلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، فإذا كان الكلام النفسي أو الاعتقادي أو اللفظي موافقاً للعلم فهو الصدق، وإن كان مخالفاً له فهو الكذب، وقد يكون الكذب بقصد وبغير قصد، والحقيقة فيه واحدة، وإنما تختلف في الأجر والوزر" (¬2). ونكتفي بهذا القدر والحمد لله رب العالمين. أبو بكر بن العربي والباطن من علوم القرآن: ابن العربي -كما يبدو لدارسه بشكل عام- من أكبر مفكري الإِسلام، ولعله أقربهم إلى الابتكار، فآراؤه في الزهد والتربية وحدها يمكن أن تعتبر تجديداً مهماً في وضع قواعد سلوكية للذين يريدون سلوك طريق المهتدين، مع ما نستشعره من وعورة وتشعب هذا الجانب من المعرفة التي طرق أبوابها. والحق أن ابن العربي وفق إلى أبعد الحدود في صياغة نظرية سنية متكاملة في السلوك والتربية في كتابه "سراج المريدين" (¬3) وأثبت خلالها أنه ذو مقدرة فائقة على دحض أفكار المتصوفة الغالين، مع إفادته منها في الوقت نفسه، وقد أثمرت طريقته هذه -بإذن الله- فأصبحت مؤلفاته في تاريخ الحركات الإصلاحية في المجتمع الإِسلامي ذات شأن وأهمية لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال. وبهذا الوضوح في الرؤية والسلامة في المنهج ناقش ابن العربي ¬

_ (¬1) وهذا هو مذهب النظام المعتزلي كما عرفنا. (¬2) لوحة 89/ ب. (¬3) انظر فصل "ذكر الباطن من علوم القرآن" في قانون التأويل.

المتصوفة وأصحاب الإشارات على اختلاف مشاربهم وأحوالهم، فحدثنا -رحمة الله عليه- في كتاب "العواصم" عن مذهب الصوفية في قولهم بالإشارة فقال: " ... نبغت (طائفة) يقال لهم أصحاب الِإشارات جاؤوا بالألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها (¬1)، لكنهم زعموا أن وراءها معاني غامضة خفية، وقعت الإشارة إليها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إليها بالفكر، واعتبروا منها في سبيل الذكر، وزاحمتهم من الطوائف ... زمرة (¬2) لبست لبسهم، وتكلمت كلمتهم، ونحن نجمع بين الطائفتين بمكان (¬3) ... ومتعلقهم في ذلك أن السلف ما زالوا يبطنون مثل هذا المعنى، ويجعلونه من باطن علم القرآن الذي قالوا فيه: إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً (¬4) .. ولقد صحبت منهم كثيراً، وفاوضتهم طويلاً .. وطالبتهم بالأدلة، فتعلقوا بما قدمته من آثار السلف، ومنهم من قال: هذا مقصود الشريعة من تأديب الخلق وإصلاحهم بالتصريح تارة، وبالِإشارة أخرى فإن القرآن نزل بلغة العرب ... وما من كلام إلا وهو في لسان العرب يحتمل وجوهاً، ويدل على معان لا يدرك حقيقتها إلا الكامل بنور العلم، أو لا ترى ما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس أنه قال: كُنْتُ أُقْرِىءُ رِجَالًا مِنَ المهاجرين منهم عبدُ الرحمن ابنُ عَوْف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذْ رَجَعَ إِليّ عَبْدُ الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلاً أتى أميرَ المؤمنين، فقال: هل لك يَا أمِيرَ المؤمنين في فلان يقول: لو قد مَاتَ عمرُ لَقَد بَايَعْتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلْتَة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العَشِيَّةَ في الناس، فَمُحَذِّرُهُمْ هؤلاء الذين يريدون أن ¬

_ (¬1) انظر عنه رقم 21 من قائمة مؤلفات ابن العربي في هذا البحث. (¬2) لعلها الباطنية. (¬3) يقول المؤلف في موضع آخر من "العواصم" 17 "إن غلاة الصوفية ودعاة الباطية يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمشتبهات الآيات والآثار على محكماتها". (¬4) سيأتي تخريج هذا القول ص: 512 ت 1.

يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وَغَوْغَاءَهُم، وإنهم هم الذين يغلبون على قُرْبكَ حين تَقُومُ في الناس، فأنا أخشى أن تقومَ فتقول مقالة يطيرها عنك كل مُطِيَرٍ، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فَتَخْلُصُ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً فَيَعِي أهْلُ العلم مقالتَك ويضعوها على مواضعها (¬1). قال القاضي أبو بكر بن العربي: فقد كان خوف سوء التأويل للقول، وحمله على غير وجهه، مخوفاً في الصدر الأول" (¬2). قلت: هذه الأدلة هي أهم ما استدل به أصحاب الإشارات من أصل القول بالمعاني الباطنة والإشارات الخفية، وقد ردّ ابن العربي على هذه الادعاءات بعد النظر فيها وتمحيصها فقال: "فتلقفت جميع ذلك ووعيته، وأنا إلى أصل المأخذ ناظر، وعلى أعطافه بالتفكر مائل، والذي تحرر بعد تحرير الافتكار في سبيل النظر والاعتبار، أن الصريح عام في الدين، به جاء البرهان، وعليه دار البيان، فلا يجوز أن يعدل بلفظ صريح معناه إلى سواه، فإن ذلك تعطيل للبيان، وقلب له إلى الإشكال، فإذا تقرر الصريح في نصابه، فالإِشارة بعد ذلك إلى الأمثال والأشباه. والتنبيه لوجه التشبيه أصل عظيم في العقل، وباب متسع في الدين وسبيل واضحة في الشريعة، فإن كانت في الأحكام فهو باب القياس، وإن كانت في التذكير والوعظ، فالعبرة مباحة، وإن كانت في التوحيد ولم يذكر في معرض المثل، فهي على حقيقتها لاحظ فيها لغير التنبيه بقدرة على قدرة وبتقديس على تقديس ... " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الحدود: 12/ 144 (عن الفتح) انظر جامع الأصول لابن الأثير 4/ 90. (¬2) العواصم من القواصم 261 - 263. (¬3) م، ن: 265 - 266.

(أما) قولهم إن السلف كانوا يبطنون مثل هذا المعنى فغير مسلَّم، إنما كانوا يستدلون بالتنبيه العرفي، أو الذي يقتضيه اللفظ من جهة اللسان، فأما الاعتبار بالمعنى الباطن الذي يجري مجرى الرموز، فلم تفعله قط، ولا يوجد في أغراضها من طريق صحيحة. وأما قولهم: إن هذا المقصود في الشريعة من التأديب والإِصلاح، فكلاً إنما أدبت وأصلحت الخلق بما أذنت به وصرحت، وما اقتضاه لسان المخاطبين. وأما حديث عمر رضي الله عنه فأصل صحيح، فإن الناس ما زالوا قديماً وحديثاً بأغراضهم الفاسدة، يقلبون القرآن، ويبدلون ما سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال عنه: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]، وكانوا يقولون للنبي عليه السلام: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] (¬1) وأنتم ممن يبدل كلام الله، ولا تتأولونه كما يجب، وتضعونه في غير موضعه" (¬2). قلت: وبهذه الردود الحاسمة يتضح لنا موقف ابن العربي من التفسير الإشاري، فهو يرفضه جملة وتفصيلًا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل وفَّى ابن العربي بالتقيد بهذا المنهج السني في كل ما حرره من مباحث وتعليقات؟ أعتقد أنه وفَّى بهذا الالتزام في كتابه العواصم حيث أنه رد على الذين فسروا الحديث النبوي الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" (¬3)، بأن معناه مع الإقرار بمعناه الظاهري - تنبيه على تطهير القلوب عن الحسد والحقد وسائر الصفات الذميمة، وإن القلوب هي منازل الملائكة، فإذا طهرت المنازل الحسية عن أجسام الكلاب ¬

_ (¬1) الآية الكريمة ير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. (¬2) العواصم من القواصم: 271 - 272. (¬3) هو بعض حديث رواه مسلم في اللباس رقم 2107 والترمذي في صفة القيامة رقم 2470 (وانظر عارضة الأحوذي 10/ 247).

ابن العربي ونقده للفلاسفة والصوفية في مسألة الكشف

الحسية فتنزيه القلوب عن صفات المكروه أولى (¬1). قال ابن العربي في الرد على من اعتقدوا هذه الِإشارة: " ... هذه قدحة خاطر، ولمحة ناظر لا يحتاج إليها، وأصلها إنما هو من القوم الذين قدمنا شأنهم في تعطيل الشرائع، وإن كل ما جاء منها وجرى في ألفاظها، ليس على ظاهره، وإنما هو كله مبني على التعبير عن باطن سواه، وغرض آخر غيره، فأراد هذا القائل أن يتوسط، فذكر ذلك على هذا الوجه، وهو معنى فاسد من وجهين: أحدهما: أنه يكاد يقطع بأن هذا لم يكن مقصوداً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أنا قد وجدنا التصريح بتطهير القلوب عن هذه الصفات الذميمة كلها منصوصاً عليه، فما الذي يحوجنا إلى أن نأخذه على بعد من لفظ آخر بمعنى من الاعتبار يبعد أو يقرب. هذا من الفن الذي لا يحتاج إليه، وإنما هو احتكاك بتلك الأغراض الفلسفية، وهي عن نهج الشريعة قصية، كادت بها الدين طائفة خبيثة" (¬2). قلت: أما في كتاب "معرفة قانون التأويل" فإنه رأى -ولا أدري ما الحكمة في ذلك- أن يفسر بعض الآيات بطريق الإشارة والاعتبار (¬3)، مع الإقرار بالمعنى الظاهر، فهذا وإن رضيه بعض العلماء، فإنه مخالفة صريحة لمذهبه الذي اعتقده ونصره في أغلب كتبه. ابن العربي ونقده للفلاسفة والصوفية في مسألة الكشف: تمهيد: قبل التعرض لنقد ابن العربي لأقوال الفلاسفة والصوفية في الكشف ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم 269 - 270. (¬2) ن، م: 270، 271. (¬3) انظر: معرفة قانون الأسكريال لوحة: 10 - 11.

ينبغي لنا تسطير تمهيد مختصر نعرض فيه لنشأة هذه النظرية المشؤومة وتطورها على يدي الفلاسفة الإِسلاميين!! كان المسلمون في عهد النبوة يستقون عقائدهم من منبعين أساسيين: الكتاب والسنة، فقد نزل القرآن الكريم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبلغ الرسول الكريم لأمته ما أنزل إليه، كما كانت جميع تعاليمه وأقواله صادرة عن الوحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 3 - 5] وبعد الفتوحات الإِسلامية دخل الناس في دين الله أفواجاً، وغاظ هذا الفتح المبين بعض الطوائف والجماعات، فأخذوا يكيدون للِإسلام، ويوجهون له الطعنات وصوبوا سهامهم نحو النبوة، فطعنوا فيها وأنكروها، واستمدوا أسلحتهم من مصادر شتى، فكان أحمد بن إسحاق الراوندي (ت: 298) من الأوائل الذين كتبوا عدة كتب في إبطال النبوة وإنكار الرسل، ثم جاء بعده محمد بن هارون الورّاق (عاش في القرن الثالث) إذ يذكر ابن الجوزي أن كلا من الوراق هذا وابن الراوندي يدعي أنه صنف "كتاب الزمرد" وهو كتاب في الطعن علي رسول الله وشتمه والطعن في القرآن (¬1). ومن الشخصيات التي أثارت مشكلة النبوة بغرض التشكيك فيها أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابيه "مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين "و"نقض الأديان" (¬2). ويحدثنا أبو حيان التوحيدي (ت: 400) عن رجل معاصر له يدعى أبا إسحاق النصيبي كان يشك في النبوات كلها، ويذكر التوحيدي بعض الشخصيات البارزة في عصره التي أضلها أبو إسحاق (¬3). ¬

_ (¬1) المنتظم: 6/ 99 - 100. (¬2) هذان الكتابان مفقودان، وقد بقي لنا من الكتاب الثاني بعض فقرات أوردها أبو حاتم الرازي (ت: 322) في كتاب "أعلام النبوة" الذي توجد منه بعض النسخ المخطوطة في مكتبات الهند. (¬3) الإمتاع والمؤانسة: 1/ 141.

وأمام هذه المحاولات التي تستهدف التشكيك في صحة النبوة أو إنكارها وقف مفكرو الإِسلام على اختلاف مشاربهم يصدون هذه الحملات وصنفوا الكثير من الكتب في دلائل النبوة وإثباتها. وحاول المشتغلون بالفلسفة أن يسهموا بدورهم في الرد على حملات الطعن في النبوة وذلك بأن يعرضوا تفسيراً عقلياً فلسفياً للوحي، ولقد كان الفارابي معاصراً لابن الراوندي والرازي معاً، ويروي المؤرخون أنه كتب ردّين على كل منهما، إلاَّ أن هذين الردين لم يصلا إلينا. ويعتبر الفارابي أول من طبع نظرية النبوة بطابع فلسفي، وفصّل القول فيها، وكان لنظريته هذه تأثير كبير في خلفائه من فلاسفة المتكلمين والصوفية، فالفيلسوف ابن سينا نضجت نظرية النبوة -من الناحية الفلسفية- على يديه فهو يرى أن للنبي ثلاث قوى: الأولى: قوة قدسية، وهي متابعة لقوة العقل النظري، ويتمكن بها النبي من إدراك الحد الأوسط دفعة واحدة. القوة الثانية: قوة خيالية، أو قوة المخيلة، أو التخيل والحس الباطن، بحيث يتمثل للنبي ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه، فيرى في نفسه صوراً نورانية هي الملائكة، ويسمع أصواتاً هي كلام الله أو وحيه، وهذا كله من جنس ما يحصل للنائم في منامه، ومن جنس ما يحصل لبعض الذين يأخذون أنفسهم بالرياضيات الروحية، ومن جنس ما يحصل لبعض المجانين والذين يصابون بالصرع. والقوة الثالثة: القوة النفسية التي يتمكن بها النبي من التأثير في مادة العالم، بحيث تحدث له الخوارق والمعجزات (¬1). هذا هو تفسير ظاهرة النبوة عند الفلاسفة الذين ينتسبون إلى الإِسلام، ¬

_ (¬1) انظر نظرية ابن سينا في الإشارات والتنبيهات 2/ 368 - 370، 3/ 853 - 903 (ط: بتحقيق أستاذنا الدكتور سليمان دنيا شفاه الله)، وانظر الرد على هذه النظرية: ابن تيمية: النبوات: 168، مجموع الفتاوى 5/ 93.

وقبل أن ننتقل إلى عرض آراء الغزالي -وهي التي عناها ابن العربي في ردّه على الصوفية بقانون التأويل- نودّ بيان حكم الإِسلام في هذه النظرية فنقول وبالله التوفيق: لقد أخفق الفلاسفة في الدفاع عن النبوة بواسطة هذه النظرية وقد سئل عنها شيخ الإِسلام ابن تيمية، فخصص للإجابة عليها كتاب "الصفدية" (¬1) أعلن فيه أنها باطلة، وأن ما ورد فيها من كلام فهو كفر، ويذهب شيخ الإِسلام إلى أنه لا يجب أن يظن أن النبوة هي مجرد هذه الخصال الثلاث وأن من حصلت له فقد صار نبياً، ذلك أن كثيراً من آحاد المؤمنين تحصل له هذه الثلاث، بل وما هو أكمل منها، فتجعل له في نفسه قوة علمية، وتكون له في نفسه قوة عملية يكون بها مؤثراً، ويحصل له إحساس باطن، أو مخيلة قوية، فيرى ويسمع في باطنه، وهو مع ذلك كله من آحاد المؤمنين، فمن جعل هذا حد النبي ومنتهاه، كان مبطلًا جاحداً لحقيقة ما خص الله به أنبياءه (¬2). ولا يعني هذا أن ابن تيمية ينفي عن الأنبياء هذه الخصال الثلاث، ولكنه يرفض الاقتصار عليها وحدها، يقول رحمه الله: "فنحن لا ننكر أن الله تعالى يخص النبي بقوة قدسية يعلم بها ما لا يعلم غيره، ولا ننكر أيضاً ما يمثله الله له إما في اليقظة وإما في المنام من الأمور الصادقة المطابقة للحقائق، ولا ننكر أيضاً أن الله قد يجعل في النفوس قوى يحصل بها تأثير في الوجود (¬3)، ولكن دعوى المدعي أن معجزات نبينا أو غيره من الأنبياء هي من هذا الباب بهتان عظيم. ¬

_ (¬1) طبع بالرياض في شركة مطابع حنيفة: 1976 بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. (*) تنبيه: لأستاذنا المحقق العلامة الشيخ كمال هاشم نجا رد محكم على هذه النظرية لم يطبع بعد، وقد كتبه لطلبة السنة المنهجية لقسم الدراسات العليا الشرعية- فرع العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. (¬2) الصفدية: 229. (¬3) كالعائن مثلاً.

وتفصيل ذلك أن النفس قد يحصل لها نوع من الكشف (¬1) إما يقظة وإما مناماً بسبب قلة علاقتها مع البدن (¬2)، وهذا هو الكشف النفساني، ولكن ثبت أيضاً بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم، كما للكهان والمصروعين وأهل العبادات الشيطانية من البراهمة وغيرهم، فهؤلاء جميعاً يسمع منهم من أنواع الكلام واللغة الغريبة وما يعلم أن المتكلم على لسان غيره، لا أن هذا الكلام صدر عن مجرد نفسه، وإذا كان هذا بما شوهد في النفوس الخبيثة، وأن كثيراً من إخباراتها تصدر عن أرواح شيطانية، فلأن يكون إخبار الأنبياء عن إخبار أرواح الملائكة بطريق أولى. وإذا كان الوحي كما يزعم الفلاسفة تخيلاً في نفس النبي وليس له وجود في الخارج، فحينئذ يكون النبي من آحاد المسلمين، بل رجل من أضعف الصالحين، والتخيل يحصل لجميع الناس الذين يرون المنامات، ولكن ابن سينا يزعم أن النبي يرى في اليقظة ما يراه غيره في المنام، وهذا موجود عند كثير من الناس، وهم جعلوا مثل هذا يحصل للمجنون والمصروع والساحر، ولكن قالوا إن الساحر قصده فاسد، والمجنون والمصروع ناقص العقل، فجعلوا ما يحصل للأنبياء من جنس ما يحصل للمجانين والسحرة، وهذا قول الكفار في الأنبياء؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53]. ¬

_ (¬1) يرى شيخ الإِسلام ابن تيمية أن الأخبار بالمغيبات يكون عن ثلاثة أسباب: أ- ما يكون عن طريق أسباب نفسانية. ب- ما يكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية. بر- ما يكون عن أسباب ملكية. وكل ما ذكره الفلاسفة هو من النوع الأول وهو أضعفها- الرد على المنطقيين 482، الصفدية: 189. (¬2) كما يرى شيخ الإِسلام ابن تيمية: الصفدية 187.

أما قول الفلاسفة بأن المعجزات ترجع إلى تأثير قوى النفس: يعني أن النفس تكون مدركة لهذا التأثير وشاعرة به أو مريدة له، فمن المعلوم أن تأثير النفوس مشروط بإرادة هذه النفوس وشعورها ولكن خوارق العادات التي للأنبياء منها ما لا يكون النبي شاعراً بها، ومنها ما لا يكون مريداً لها، فلا يكون ذلك من فعل نفسه، بل ومنها ما يكون قبل وجوده، ومنها ما يكون بعد موته، مثال ذلك قصة أصحاب الفيل (¬1) الذين أرسل عليهم طيراً أبابيل، وكان ذلك كرامة للنبي، وكان عام الفيل عام مولده - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وقد حدثت هذه الكرامة قبل مولده بنحو خمسين ليلة، فلم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها، ولا شعور بما جرى، ولا إرادة له في ذلك، وكذلك كان بقاء الكعبة ألوف السنين بعد موت من بناها كرامة لإبراهيم عليه السلام (¬3). نكتفي بهذا القدر من معرفة رأي الفلاسفة في موضوع الكشف والنبوة، ونعود إلى الموضوع الذي أثاره ابن العربي في "قانون التأويل" (¬4) وهو تأثر زمرة من الصوفية بآراء الفلاسفة. فقد كثر جدل المتصوفة في موضوع علاقة القلب بالجسد، وابن العربي إذ يتعرض للآراء الإشراقية بالنقد والتزييف، إنما يقصد بالدرجة الأولى شيخه الإِمام الغزالي الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لمدرسة كبرى في التصوف الفلسفي أثرت في مسيرة الفكر الإِسلامي منذ القرن السادس إلى يومنا هذا، وذلك أن انصراف الإِمام الغزالي إلى دراسة الفلسفة والتبحر في مباحثها الشائكة إلى جانب رياضاته ومجاهداته الصوفية قد أثرا في كتاباته، فلم يسلم من التأثر المباشر وغير المباشر، وقد بدا واضحاً في "المنقذ من الضلال" ¬

_ (¬1) انظر قصة أصحاب الفيل عند ابن فهد: اتحاف الورى بأخبار أم القرى: 1/ 18 - 45. (¬2) انظر في مولده - صلى الله عليه وسلم -: سيرة ابن هشام 1/ 103، ابن سعد: الطبقات 1/ 100 الطبري: التاريخ 2/ 124. (¬3) الصفدية: 219 - 225. (¬4) ص: 148 وما بعدها.

و "إحياء علوم الدين" جمعه بين التصوف والكلام، بل تعلقه الشديد بمنهج الرياضة والاستشراق، وطرحه لمنهج النظر والكلام. ودعا المتكلمين والفقهاء جميعاً إلي أن يسلموا لسلطان التصوف وأن يجعلوه الحقيقة العليا المطلوبة من المعارف الدينية، وأن يجعلوه الروح التي تجري في كلام المتكلم، وفي فقه الفقيه الذي إن لم يصحبه تصوف فما هو إلا زندقة. ولقد تمسك الغزالي في هذا المجال بما تبرأ منه القشيري، ذلك أن القشيري تبرأ من أن يكون للصوفية نظريات خاصة بهم تختلف مع نظريات المتكلمين، واجتهادات تختلف عن اجتهادات الفقهاء، وبين أن الصوفية يسلمون للمتكلمين جميع ما قرروه من تكاليف الشريعة، ولكنهم يبحثون عقد شيء واحد هو طريق الوصول إلى تلك الغايات التي هي مطلوب المتكلمين ومطلوب الفقهاء (¬1). فالتصوف حينئذ على طريقة القشيري منهج نظري لا يصطدم مع نظرية من النظريات التي هي قوام علم الكلام، إلاَّ أن الغزالي جاء يتمسك بذلك الذي تبرأ منه القشيري قبله فيدعي أن للصوفية نظريات، وأهمها نظريتهم في المعرفة التي تختلف تمام الاختلاف عن نظرية المتكلمين، وإن المتكلمين إذا كانوا يرون أن ملاك تحسين الحق إنما هو النظر العقلي فإن الغزالي مع الصوفية جميعاً يرون أن من المعارف ما لا طريق لإدراكه إلاَّ بالكشف الإشراقي الذي يأتي من الكمال الروحاني الذي هو نتيجة الرياضة والتجرد، وإن ذلك الأمر مرجوع فيه إلى التجربة، وليس مرجوعاً فيه إلى برهان آخر، وعلى ذلك بنى بحثه في نظرية المعرفة في "المنقذ من الضلال" (¬2) حيث يذكر في هذا الكتاب أن المكاشفات والمشاهدات تحدث للصوفية في أول طريق التصوف حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" وشكاية أهل السنة. (¬2) هذا الكتاب هو من آخر كتب الغزالي تأليفاً كما أنه من الكتب التي لم يطعن أحد في صحة نسبتها إليه. انظر: عبد الرحمن بدوي مؤلفات الغزالي: 202.

ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق (¬1). ثم يقرر الغزالي أن من لم يرزق من طريق التصوف شيئاً بالذوق، فلا يمكنه أن يدرك من حقيقة النبوة إلاَّ الاسم، وإن كرامات الأولياء على التحقيق- هي بدايات الأنبياء (¬2). وعين هذا الكلام هو الذي حرره عنه تلميذه القاضي ابن العربي الذي قال في كتابه "العواصم من القواصم": "ولقد فاوضت فيها أبا حامد الغزالي حين لقائي له بمدينة السلام في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربعمئة، وقد كان راض نفسه بالطريقة الصوفية (¬3) من سنة ست وثمانين إلى ذلك الوقت نحواً من خمسة أعوام، وتجرد لها، واصطحب مع العزلة، ونبذ كلّ فرقة ... فقرأت عليه جملة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه بالِإحياء لعلوم الدين، فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته، المستكشف عن طريقته، لأقف من سر تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه ... فقال لي من لفظه، وكتبه لي بخطه: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول انكشفت له الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلاَّ بالتجربة لها عند أربابها، بالكون معهم، والصحبة لهم، ويرشد إليه طريق من النظر وهو أن القلب جوهر صقيل، مستعد لتجلي المعلومات فيه، ¬

_ (¬1) ص: 140. (¬2) ص: 141 - 142. (¬3) قال ابن العربي في موضع آخر من كتابه "العواصم من القواصم" معلقاً على انغماس الإِمام الغزالي في التصوف، " ... وقد كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبّ المعالي، حتى أوغل في التصوف وأكثر معهم التصرف، فخرج على الحقيقة، وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإِسلام فيه عين، فإذا ذكروه جعلوه في حيز العدم، وقرعوا عليه السنن من ندم، وقاموا في التأسف عليه على قدم، فإذا لقيته رأيت رجلاً قد علا في نفسه، ابن وقته، لا يبالي بغده ولا أمسه، فواحسرتي عليه أي شخص أفسد من ذاته، وأي علم خاط وخلط فيه مفرداته .. " 107 - 108.

عند مقابلتها عرياً عن الحجب كالمرآة في ترائي المحسوسات عند زوال الحجب من صدء لائط، أو ستر من ثوب أو حائط، لكنه بتراكم الآفات عليه، يصدأ حتى لا يتجلى فيه شيء، أو يتجلى معلوم دون معلوم بحسب مواراة الحجاب له، من ازورار أو كثافة أو شفف، فيتخيل فيها مخيلة غير متجلية، كأنه ينظر من وراء شف، ألا ترى إلى النائم إذا أفلت قلبه من يد الحواس وانفك من أسرها، كيف تتجلى له الحقائق تارة بعينها وأخرى بمثالها. قال لي: وقد تقوى النفس، ويصفو القلب حتى يؤثر في العوالم، فإن للنفس قوة تأثيرية موجدة، ولكن -كما قلنا- ما يتوارد عليها من شعوب البدن وعلائق الشهوات، يحول بينها وبين تأثيرها. حتى لا يبقى لها تأثير إلاَّ في محلها وهو البدن خاصة ... وقد تزيد قوتها بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث، وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات، فإذا نطقت به كان على نحوه، وهذه نفوس الأنبياء، وهي الآيات التي تأيّدت بها أحوالهم" (¬1). قلت: وهذا الكلام الخطير من الِإمام الغزالي هو الذي جعل ابن العربي -على ما بينه وبين الغزالي من مودّة صادقة- يناقض هذه النظرية في "قانون التأويل" وينتقدها بعنف في "العواصم من القواصم" وهذا المعنى من محاولة إحداث نظرية منهجية للصوفية تختلف عن نظرية المتكلمين والأصوليين والفقهاء، هو الذي فرق بين الغزالي وبين جمهرة إخوانه في عصره من المتكلمين والفقهاء وحتى من الصوفية، فإن بعض الصوفية وإن كانوا قائلين بالكشف إلاَّ أنهم ملتزمون بأن الكشف الذي يقولون به لا يمكن أن يأتي بشيء فيما اختص به الشارع بالتوقيف، وعلى هذا بنيت الأصول التي استقر عليها جماعة من الصوفية (¬2) قبل الغزالي وبعده مثل الشيخ عبد القادر ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم 30 - 33. (¬2) يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية في كتابه الرد على المنطقيين: 514 - 515: " ... كان الشيوخ =

الجيلاني (ت: 562) وأتباعه، وأصحاب أبي مدين التلمساني وأشهرهم الإِمام أبو الحسن الشاذلي (ت: 656) فمحاولة الغزالي إحداث تلك النظرية المناكبة للكتاب والسنة هي التي أثارت عليه بالخصوص ضجة الأصوليين والمحدثين، والتي جعلته هدفاً لردود الفقهاء من معاصريه وبخاصة من المالكية المغاربة مثل الِإمام الطرطوشي والإمام المازري وتلميذه وصديقه أبي بكر بن العربي (¬1). وقد تكفل هذا الأخير بالرد عليه بالتفصيل في "العواصم من القواصم" (¬2) كما رد عليه بصورة إجمالية في "قانون التأويل" (¬3)، فناقش قولهم (¬4) "إن القلب مستعد بذاته لتعلم المعلومات" فبين أن هذا خطأ بحت ودعوى عريضة لا برهان عليها من العقل، ولا من جهة السمع (¬5)، ولا يصح أن يكون شيء يعلم بذاته وإنما القلب موجود خلقه الله، ويخلق فيه على ¬

_ = العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون أهل القلوب -أرباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة- بلزوم الكتاب والسنة، قال الجنيد (ت: 297) علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح أن يتكلم بعلمنا، وقال الشيخ أبو سليمان الداراني (ت: 215) إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلاّ بشاهدين الكتاب والسنة .. " راجع قول الجنيد والداراني في الرسالة القشيرية 1/ 86، 107 (ط: الدكتور عبد الحليم محمود). (¬1) انظر دراسات للحالة الفكرية في الأندلس، مبحث: الغزالي وحرق كتابه "الإحياء" صفحة: (*) فكرة: بعد اطلاعي المحدود على النظرية الإشراقية، تبين لي أن مسألة اكتساب أصول المعلومات بالكشف الإشراقي مسألة قامت فيها المشادات من قديم بين أئمة الإِسلام وبين الذين خلطوا التصوف بالفلسفة من لدن الحسين الحلاج إلى السهروردي (المقتول ما بين سنتي 556 - 588) صاحب "حكمة الإشراق وهياكل النور" حتى انتهت إلى محيي الدين بن العربي (ت: 637)، على أن أبا القاسم القشيري أراد برسالته أن يقطع -ولو إلى حد ما- ما بين الصوفية وبين الفلاسفة الإشراقيين من صلات، ويجدد ما بين أهل الشريعة وأهل الصوفية من روابط. (¬2) انظر ص: 107 وما بعدها. (¬3) انظر ص: 554 وما بعدها. (¬4) أي قول الغزالي ومن ارتضى مذهبه من الصوفية. (¬5) قانون التأويل: 555.

الترتيب والتدريج ما شاء (¬1)، فالباري تعالى يخلق في القلوب إدراك العلوم ابتداء، ويركبه، فيجري التدبير فيها والتقدير (¬2). أما تجرد النفس أو القلب من علائق المحسوسات كي يترقى إلى المعقولات فتتجلى فيه المعلومات على حقائقها، فقد أنكره ابن العربي أشد الإنكار، وأجاب على هذا الرأي متهكماً: عسى أن يكون ذلك إذا مات!!، واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأسْتَغْفِرُ الله كَذَا مَرَّة" (¬3). فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الأمة على الإطلاق كان يغان على قلبه فيستغفر الله، فكيف يصح أن يدعي عاقل فكيف عالم قلباً لا يدركه غين، ولا تتطرق إليه غفلة، حتى يترقى إلى حالة الفناء، وقد حف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الأزواج وخالطهن بالوطء، فكيف يدعي أحد قطع علائق ربطها الله قبل، ولم يأذن بحلها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشدها، ويحث على النكاح وعلى انتقاء الأبكار لا على انتفاء الأفكار (¬4). أما قول الغزالي: "إن هذا الكشف ينال بالتجربة معهم والصحبة لهم" فقد رد عليه ابن العربي بأن التعرض للتجربة إنما يكون في الممكن، فيحك في مدق التجربة، فأما الذي لم يثبت بدليل، ولا سبقت به عادة فكيف يتعرض له بتجربة، والصحابة لم يسلكوا طريقه ولا نظروا تحقيقه، بل الوارد ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم: 41 - 42. (¬2) م، ن: 44. (¬3) سيأتي تخريج هذا الحديث في تعليقنا رقم: 1 على قانون التأويل: صفحة: 565 قال الخطابي في تفسير هذا الحديث: "وليس هذا على أنه كان يغشى قلبه شك بعد المعرفة، أو ريب بعد اليقين وإنما ذلك لأنه كان لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأحوال وغلب عليه النسيان لما فيه من الطبع البشري عدّهُ على نفسه ذنباً، وفزع إلى التوبة والاستغفار" شأن الدعاء: 199، وانظر: الهروي: غريب الحديث 1/ 136 - 137. (¬4) العواصم: 37 - 38.

عنهم ما رواه الِإمام مسلم عن حنظلة الأُسَيدِيَ قَالَ: لَقِيَنِي أبُو بَكْر فَقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قَلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! ما تَقُولُ: قال: قلتِ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ يُذَكَرُنَا بالنارِ وَالجَنَةِ حَتَّى كَأنا رَأْيَ عَيْن (¬1)، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ والضَيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً. قَالَ أبُو بَكْر: فَوَاللهِ إِنا لَنَلْقَى مِثْلِ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أنَا وَأبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَمَ قلت: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكرُنَا بالنارِ وَالجَنةِ حَتى كَأنَا رَأْيُ عَيْن (¬2)، فَإذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدكَ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيراً فَقَالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ: "وَالذي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِيٍ الذكْر لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعة". ثَلَاثَ مَراتٍ (¬3). قال أبو بكر بن العربي: فتفطن الصحابة لتغير القلب عند مفارقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحالة التي يكون معه عليها، وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأخبرهم أن تلك الحالة لو دامت لصافحتم الملائكة معاينة، وذلك ممنوع من الله للخلق، فما يفضي إليه ممنوع، وإلا فلم لم يحضهم عليه، وهل كان فوق منزلة الخلفاء منزلة يرتقي إليها وما كلمهم ملك ولا صافحهم (¬4). أما استدلالهم بالمرآة (¬5) فيرى ابن العربي أنه لا يصح التمثيل بها في هذا المجال لأنهم بنوا رأيهم على أن الإدراك في المرآة إنما يكون بانعكاس الأشعة على زوايا في مرايا، في حين أن الماء الصقيل إذا نظرت إليه رأيت نفسك معكوساً فيه وأنت مستقيم عليه، فإذا كان الِإدراك في الصقيل لا يكون ¬

_ (¬1) أي كأنا نراها رأي عين. (¬2) أي كأنا بحال من يراها بعينه. (¬3) صحيح مسلم كتاب التوبة رقم 2750. (¬4) العواصم من القواصم: 40. (¬5) انظر قانون التأويل: 4

إلاَّ بانعكاس الشعاع فهذا أيضاً انعكاس في انعكاس، فكيف التقيا على خط وانحرفا في زاوية؟ (¬1). أما قول الغزالي بقوة النفس التأثيرية الموجدة، فقد تعجب ابن العربي من هذا القول فقال: "سبحان الله! لقد (¬2) أخذنا عنك في كل كتاب، وقيدنا على كل باب أن الله منفرد بالِإيجاد، متوحد بالاستبداد وأن ما سواه لا ينسب إليه فعل ولا يناط به حادث (¬3) .. فالآن ترد التأثير إلى النفس، هيهات، ... فإن قلت أن النفس تؤثر ذلك عند تعلق القصد منها إليه، قلنا هذا فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: أن هذا مما يجب أن يثبت أولاً مشاهدة أو بخبر صدق يوجب العلم، وحينئذ تنسبه إلى الله إيجاداً بالقدرة الأزلية في الأصل، وتجعل النفس وما تعلقت به محلاً لمجاري مخلوقات الله. الثاني: إنه وإن انكشفت له المعلومات، واتضحت له المعقولات واستبصر بالحقائق والكائنات، فليس في قوة القلب تأثير في الإِيجاد. وإنما غايته الِإدراك والكشف، فأما تعديه إلى الِإيجاد فلا يصح بحال. الثالث: إن قلت وجدناه بالتجربة فهذا عمر قد قال: يا سارية الجبل (¬4) ... قلنا: هذا الآن قول في كرامة الأولياء، وهي أصل الدين وعمدة من عمد المسلمين، لا ينكرها إلاَّ جاهل. اتفق عليها العلماء (¬5)، واختلفوا ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم: 44. (¬2) في العواصم: هل. (¬3) بمعنى أن الله خالق كل شيء حقيقة ومن بينها أفعال العباد؛ لأنه خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي أودع الأسباب قوة التأثير في مسبباتها. (¬4) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة 3/ 210، 211 من طريق حرملة عن ابن وهب ومن ثلاثة طرق أخرى كما أورده السيوطي في الخصائص الكبرى: 2/ 285 وابن الجوزي في تاريخ عمر: 196. (¬5) العواصم من القواصم: 48.

هل هي خرق عادة، أو إجابة دعوة، ونحن الآن لا نخوض في النظر فيها، فإنها تجوز بخرق العادة (¬1) على شروطها التي بيناها في أمالينا، ولكنها إذا جرت لا تجري بتأثير نفس، وإنما يسأل العبد الصالح ربه فيجيب دعاءه في مطلبه، ويكشف له بالمعرفة عن خفايا جهله، وهذا من الجائز القليل الوقوع، لكن الناس قد أكثروا فيه الرواية، وادعت طوائف كثيرة هذه المنزلة، فأحدث الإكثار من ذلك إنكاراً واستبعاداً في نفوس أكثر الخلق" (¬2). ويختم ابن العربي ردوده على الغزالي بذكر خاصية النبوة فيقول: "والذي قيدت عنه (أي عن الِإمام الغزالي) وعن غيره قبله سماعاً ورواية، أن النبوة ليست بصفة ذاتية للنبي، وإنما هي عبارة عن قول الله تعالى: بلغ إلى خلقي كلامي، وهذا مما لا يصل إليه أحد بعمل، ولو كان أوفى من عمل الملائكة والآدميين، وإنما يأتي موهبة من الله، وهذه الموهبة -التي ليست لأحد فيها حيلة- دليل من الله، وهي خرق العوائد وتأثيرات في العالم، من فعل الله، تشهد بصدق الرسول .. فلا تكون من فعل أحد غير الفاعل المطلق بالحقيقة (وهو الله) " (¬3). ثم يوجه نقداً لاذعاً للغزالي بقوله: "وبعد النظر الطويل الذي هذه إشارته، خرجت عن هذه الغمرة التي أوجبها استرسال مثله في هذه الألفاظ القلقة التي لا يصح أن يكون فيها إذن لأحد أن يذهبها، فضلاً عن أن يحققها ويسطرها، وهي أخلاط غالبة على الفؤاد، ومعاني حائدة عن سنن السداد" (¬4). قلت: والذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها أن الله يصطفي من ¬

_ (¬1) انظر الكلام عن خوارق العادات في كتاب النبوات 11، 149، 233، لشيخ الإسلام ابن تيمية. (¬2) العواصم من القواصم: 48. (¬3) م، ن: 49 - 50. (¬4) م، ن.

الملائكة رسلاً ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره في عقله ودينه، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 31 - 32]. وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. وقال تعالى: {مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. [الأنعام: 84 - 85 - 86 - 87]. والأنبياء هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة، ولا عبرة بأقوال الفلاسفة والصوفية المتأثرين بأقوال اليهود والنصارى في قولهم بالإلهام والكشف. وبعد أن انتهى ابن العربي من ذكر بيان أن العلم قبل العمل، شرع في ذكر علم الأنبياء عليهم السلام (¬1)، فتطرق إلى حقيقة الأمثال وحكمتها، وذكر أنموذجاً لذلك، وفي هذا الفصل بالذات أرشد طلاب العلم إلى وجوب تأويل ¬

_ (¬1) قانون التأويل: 564 وما بعدها.

موقف المسلم من الصفات الخبرية

الصفات الخبرية (¬1) وهذا منهج خاطئ في فهم صفات رب العالمين، ولكي نتبين الصواب لا بد من معرفة موقف السلف الصالح من هذا الموضوع فنقول مستعينين بالله: موقف المسلم من الصفات الخبرية: يقصد بالصفات الخبرية أو السمعية عند المتكلمين ما كان الدليل على ثبوتها لله تعالى الخبر من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصفات الفعلية الاختيارية وهي الأمور المتعلقة بمشيئته تعالى وإرادته، يفعلها متى شاء وكيف شاء، وذلك مثل النزول والاستواء والقبض والإتيان والمجيء والمحبة والرضا والغضب والضحك والفرح والمقت وغيرها، منها ما وصف الله سبحانه بها نفسه في كتابه العزيز، ومنها ما وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنة الشريفة، وهذا القسم من الصفات يقال له قديم النوع، فلم يزل الله فعالاً لما يريد، حادثة الآحاد، عند المثبتين (¬2). القسم الثاني: وهو الصفات الذاتية اللازمة للذات كالوجه واليدين والرجل والساق والأصبع واليمين. وقبل أن نبين حكم الله فيما يجب على المسلم أن يعتقده في هذا الباب، لا بد لنا من أن نعرف -بإيجاز شديد- آراء الفرق في هذه الصفات: رأي المشبهة: والمشبهة (¬3) يسمون بأسماء مختلفة ومنها: الهشامية والكَرَّامية والحشوية ¬

_ (¬1) م، ن: 576 وما بعدها. (¬2) ابن تيمية: الرسالة التدمرية: 11. (¬3) وهم الهشامية أتباع هشام بن الحكم الرافضي، والمغيرية أتباع المغيرة بن سعيد العجلي الهالك سنة: 119 والكرامية أتباع محمد بن كرام، وغيرهم من الفرق الضالة التي شبهت ذات الله تعالى بذات خلقه. انظر الأشعري: مقالات الإِسلاميين 1/ 259، الشهرستاني: الملل =

رأي الفلاسفة

وكلهم مجمعون على تشبيه الخالق عز وجلّ بالمخلوق، فجوزوا عليه الجسمية فقالوا: إنه جثة على صورة إنسان وأنه من دم ولحم، وله أعضاء من يد ورجل ورأس وساق، وجوزوا عليه الانتقال والمصافحة، وإن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة ويروى عن داود الجورابي المشبه أنه كان يقول: "اعفوني عن الفرج واللحية واسالوني عما بدا لكم" -تعالى الله عن ذلك. وهذه الخزعبلات فيها من التنفير وسوء المقالة وقلة الأدب ما يمنع الباحث من الاسترسال معهم سواء بعرض آرائهم أو الردّ عليهم فمذهبهم ساقط لا يقول به عاقل. رأي الفلاسفة: أجمع فلاسفة الإِسلام (والإِسلام منهم براء) أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم على نفي الصفات الإلهية نفياً تاماً؛ لأن إثباتها في نظرهم يوجب التعدد ويدخل الكثرة في الذات الِإلهية (¬1). وهكذا جعلوا الإله فكرة مجردة لا مضمون لها. رأي المعتزلة: يذهب المعتزلة إلى نفي الصفات الإلهية بعامة وإلى نفي الصفات الخبرية بخاصة، وتأويل الآيات والأخبار التي وردت في هذا الموضوع؛ لأن إثباتها في نظرهم يؤدي إلى جسمية الله تعالى، فهم يؤولون قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بقولهم إن الاستواء هو ¬

_ = والنحل: 105، البغدادي: الفرق بين الفرق: 233 (ط: محيي الدين)، الملطي: التنبيه: 72. الدكتور علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإِسلام: 1/ 285 - 308، انظر تعليقنا على قانون التأويل ص: 437 التعليق رقم: 2. (¬1) انظر الغزالي: مقاصد الفلاسفة: 223.

رأي الأشاعرة

الاستيلاء والاقتدار (¬1)، كما يؤولون الوجه بالذات (¬2) واليد بالقدرة إلى غير ذلك من هذه التأويلات الباطلة (¬3). فنقول للمعتزلة: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإنكم إن قلتم: إنه إثبات الحياة والقدرة والغضب والنزول يقتضي التشبيه أو التجسيم لأنا لم نجد متصفاً بالصفات إلاَّ وهو جسم. قلنا: وكذلك في الأسماء إذ لا نجد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلاَّ ما هو جسم فانفوا أسماء الله، فإن قالوا: هذه الأسماء تليق بكماله وجلاله، قلنا: وكذلك الصفات. ثم نقول لهم إنكم تؤولون الصفات بقصد التنزيه ونفي التشبيه، ولكن السؤال المطروح هو: عن أي شيء تنزهونه؟ هل تنزهونه عن النقائص أو عن الكمالات؟ فستقولون ننزهه عن النقائص، فهل تعتبرون وصفه بما وصف به نفسه، وما وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص؟ في رأينا أن مذهب المعتزلة في الصفات الخبرية مذهب متهافت لا حجة معه. رأي الأشاعرة: من المعروف أن الأشاعرة يثبتون بعض الصفات لله تعالى كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والِإرادة (¬4)، ويجعلونها صفات حقيقية ثم ينازعون في الصفات الخبرية فيأولونها أو يفوضون معناها إلى الله سبحانه وتعالى. ويذهب أبو بكر بن العربي مع الأشاعرة (¬5) قولًا واحداً في وجوب ¬

_ (¬1) عبد الجبار: متشابه القرآن 1/ 72. (¬2) الزمخشري: الكشاف 4/ 46. (¬3) انظر: عبد الجبار: متشابه القرآن: 1/ 72، وشرح الأصول الخمسة: 227 وانظر ما قيل عنهم: الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/ 235 (ط: محيي الدين). (¬4) أما عند الماتريدية فالصفات ثمانية؛ لأنهم يزيدون "صفة التكوين" فهي عندهم قديمة بذاته تعالى، وعند غيرهم هي من صفات الفعل الحادثة المتجددة بتجدد الأفعال. (¬5) ينبغي التفريق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم، فأما المتقدمون مثل إمامهم أبي الحسن =

التأويل، بل ونراه يحض على التأويل بحماس شديد في كتابه "قانون التأويل" إذ قال فيه في معرض كلامه عن الألفاظ الموهمة للتشبيه في نظره: "وأبطل المستحيل عقلاً بأدلة العقل، والممتنع لغة بأدلة اللغة، والممتنع شرعاً بأدلة الشرع، وأبق الجائز من ذلك كله بأدلته المذكورة، ورجح بين الجائزات من ذلك كله إن لم يمكن اجتماعها في التأويل، ولا تخرج في ذلك عن منهاج العلماء، فقد اهتدى من افتدى، ولن يأتي أحد بأحسن بما أتى به من سبق أبداً" (¬1). قلت: ويا ليت ابن العربي -رحمه الله وعفى الله عنا وعنه- دلنا على التقيد بمنهاج علماء السلف الذين يثبتون هذه المتشابهات -في نظره- بدون تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، ولكنه -عفى الله عنا وعنه- أبى إلاَّ أن يتبع منهاج الخلف الذي لا يثبت أمام أدلة وبراهين أئمة السلف. وقد يطول بنا المقام لو رحنا نستقصي أدلة وحجج أهل السنة والحديث في إبطال تأويل الصفات الخبرية، ولكنني سأحاول أن ألخص بعض الردود اللطيفة التي ¬

_ = الأشعري الذي ينتسبون إليه فإنه يثبت الصفات الخبرية من الاستواء والوجه واليدين وغيرها مما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنة الصحيحة كما ذكر ذلك في آخر كتاب ألفه (كما هو الرأي الراجح لدى كرام العلماء) وهو المسمى "بالإبانة عن أصول الديانة، حيث قال: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عزّ وجلّ وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون ... وجملة قولنا .. إن الله استوى على عرشه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وأن له عيناً بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] الإبانة: 5 - 16 (ط: جامعة الإِمام). قلت: وإلى هذا الرأي ذهب الباقلاني الذي يصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بأفضل المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده، انظر: مجموع الفتاوى 5/ 98، والباقلاني في التمهيد: 258. (¬1) قانون التأويل: وانظر العارضة: 11/

الرد على مؤولة الصفات الخبرية

احتج بها أصحاب الاتجاه السلفي. ثم أذيل هذا المبحث بالروايات التي أثرت عن الأئمة الكبار من أهل السنة والجماعة لأن الإتيان بكلامهم أشفى للغليل وأبلغ إلى الغاية وأظفر بالمراد بإذن الله عز وجل. الرد على مؤولة الصفات الخبرية: 1 - إن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر فما دام الأشاعرة قد أثبتوا لله الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام والإرادة وجعلوها صفات حقيقية، ثم نازعوا في محبة الله ورضاه وغضبه وكراهيته وجعلوا ذلك مجازاً، فيقال لهم: لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن كنتم تقولون حياته وعلمه .. كحياة المخلوقين وعلمهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك، وإن قلتم له حياة وقدرة ... تليق به ولا تشبه حياة المخلوقين وقدرتهم، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك. 2 - إن ذهاب المتكلمين إلى تأويل الصفات الخبرية يدل على أنهم وقعوا في التشبيه أولاً، حيث لم يفهموا من آيات الصفات إلا ما يليق بالمخلوق المحدث، ولم يفهموا منها صفة تليق بذاته المقدسة، ثم عطلوا -ثانياً- بنفيهم ما وصف الله به نفسه لظنهم أن ذلك من صفات المحْدَثِين ثم تأولوا آيات الصفات على مذهبهم في النفي، ثم وقعوا بعد ذلك فيما فروا منه، حيث وصفوه بالسلب والنفي، فشبهوه بالمعدومات التي لا وجود لها خارج الأذهان، وظنوا أن ذلك أكمل وأبلغ في التنزيه من وصفه بما وصف به نفسه. 3 - كما قرر السلف أن الرب سبحانه مستحق للكمال المطلق (¬1) كما ¬

_ (¬1) وهذا الدليل يسمى "قياس الأولى" في إثبات صفات الكمال. ولا بد من التنبيه على أن معنى الكمال والنقص ينبغي أن يؤخذ من الشرع حتى لا نصفه سبحانه بما قد يظن أنه كمال في حقه بالمقايسة على المخلوقين، وهو ليس كمالاً له سبحانه.

أقوال أئمة الإسلام في الصفات الخبرية

أخبرت بذلك رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين، فكل ما اتصف به المخلوق من كمال فالله سبحانه وتعالى أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، والكمال الذي استفاده المخلوق إنما استفاده من خالقه، لذلك فالله سبحانه وتعالى أولى أن يوصف به. يقول شيخ الإِسلام في ذلك: " ... إن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالًا للموجود غير مستلزم للعدم، فالواجب القديم أولى به، وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المعلول المدبر، فإنما استفاده من خالقه ومدبره، فهو أحق به". أقوال أئمة الإِسلام في الصفات الخبرية: لقد آثرت الإتيان بجل ما ظفرت به من أقوال أهل العلم المتفق على إمامتهم وعلو منزلتهم في العلم والدين، فالله تبارك وتعالى علم إخلاصهم له ولرسوله صلوات الله عليه، فأضفى على كلامهم إشراقاً وبهاءً وزينة بالقبول والنفع، فدعوا إلى الرشاد، ودلوا على النهج، وفتحوا باب اليمن والبركة. قول أبي عبد الله محمد بن أبي زمتين (ت: 339): قال رحمه الله في كتابه "أصول السنة" باب "في الإيمان بصفات الله وأسمائه": (¬1)، واعلم أن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به تبارك وتعالى عن نفسه علماً، والعجز عن ما لم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه وعلى لسان نبيه، وقد قال وهو أصدق القائلين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .. وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ¬

_ (¬1) ابن تيمية: موافقة صحيح المنقول: 1/ 14 - 15. وانظر الرد على المنطقيين له: 154، وبيان تلبيس الهجمية 1/ 328.

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيِنِه} [الزمر: 67]، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ... وقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] ومثل هذا في القرآن كثير: فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك كما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، الأول ولا شيء قبله والآخر الباقي إلى غير نهاية، لا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء ... وهو بكل شيء عليم (¬1)، قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم" (¬2). قلت: وبعد هذه المقدمة يسوق المؤلف رحمه الله الأحاديث الدالة على إثبات الصفات ثم يختمها بقوله: "فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] لم تره العيون فتحده كيف هو كينونته (كذا)؟ لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان به" (¬3). قول الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت: 463): قال رحمه الله في رسالته "الصفات": " ... وأما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والأصل في هذا أن ¬

_ (¬1) اقتباس من الآية: 238 من صورة البقرة. (¬2) ابن أبي زمنين: أصول السنة: لوحة 3 - 4 (مخطوط مكتبة ريغان كوشك بتركيا تحت رقم 510/ 5 ضمن مجموع في العقائد، ولدى مكتبة الوالد -حفظه الله- مصورة منه). (¬3) م، ن: لوحة: 5.

الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ونحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عَزَّ وَجَلَّ إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: أن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر، العلم. ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، التي هي أدوات وجوارح للفعل. ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. (¬1) قول الإِمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر القرطبي (ت: 463): قال رحمه الله في كتابه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد": "أهل السنّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلاَّ أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة والحمد لله" (¬2). ¬

_ (¬1) رسالة الصفات: لوحة 43 - 44 (مخطوط بالمكتبة الظاهرية تحت رقم: 16 مجاميع). (¬2) ابن عبد البر: التمهيد: 7/ 145، وقد نقل هذه الفقرة كل من ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 2/ 256، وفي الفتوى الحموية: 68، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 39، والذهبي في مختصر العلو: 268، ولقد كررت ذكر هذا النص من التمهيد فأثبته في تعليقي على "قانون التأويل": - صفحة: 172 تعليق رقم (1) وعذري في هذا التكرار هو دقة كلام ابن عبد البر وأهميته.

قول الإِمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت: 478): قال رحمه الله في "العقيدة النظامية": "قد اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة. وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في آي الكتاب، وفيما صح من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهبت أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها. وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً: اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإِسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الآي والظواهر (سائغاً) أو محتوماً، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإِضراب عن التأويل، وكان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع بحق فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزيه الرب عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى ... ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة (¬1). فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وما صح من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - النزول وغيره على ما ذكرنا فهذا بيان ما يجب لله تعالى" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تخريجنا لهذا القول في تعليقنا على "قانون التأويل" ص: 666 تعليق رقم (3). (¬2) الجويني: العقيدة النظامية: 23 - 25.

قلت: ولا شك أن من تمعن في كلام إمام المتكلمين أبي المعالي الجويني وفهمه فهماً بليغاً، ووعاه وعياً تاماً، بأن له الرشد في جملته وتفصيله لكون الإِمام رحمه الله قد توخى الحق في تضاعيفه، والصدق في إيضاحه وإثباته. وأنا لا أوافق الشيخ الكوثري الذي فهم من هذا النص أنه يدعو إلى التفويض حيث قال: "وقد فرح بعض الحشوية في غير مفرح ظناً منهم أنه مال إليهم في آخر أمره، وأنّى ذلك؟ وقد صرّح في فصول الكتاب بتنزيه الله قطعاً من الحوادث وصفات المحدثين" (¬1). قلت: وهذه مغالطة من الشيخ الكوثري -غفر الله لنا وله- فمن قال بأن السلف وأهل الحديث -والذي ينبزهم بالحشوية ظلماً وبهتاناً- لا ينزهون الله عن الحوادث وصفات المحدثين، وهذه كتبهم تشهد لهم بالتنزيه ونقد المجسمة وأهل التشبيه، فإطلاق الأحكام على سلف هذه الأمة بدون ضابط ولا قيد لا يليق بالعلماء فضلاً عن كرامهم. والذي ذهبنا إليه في تأويل كلام الجويني هو الصحيح، بدليل أن الإِمام الذهبي اعتبره من المثبتين للصفات بعامة ولصفة العلو بخاصة، وذلك في كتابه "العلو للعلي الغفار" صفحة: 274 - 275 (¬2). ونختم هذا المبحث المفيد -إن شاء الله- بما قاله شيخ الإِسلام رضي الله عنه في تنزيه الله سبحانه وتعالى، فهو الردّ المفحم لكل من تسوّل له نفسه أن يتهم سلف هذه الأمة بالميل إلى التشبيه لكونهم وصفوا الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. يقول رحمه الله: " .. كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب، ¬

_ (¬1) تعليق محمد بن زاهد الكوثري على العقيدة النظامية: 25. (¬2) وإلى هذا الرأي ذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/ 18، والفتوى الحموية: 78.

يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له .. فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها، بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف به العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، فإن هذه ليست نقائص، بل ما يثبت للعبد من هذه المعاني فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلاً عن أن يماثله فيه ... " (¬1). ويقول في موضع آخر: " ... فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ... " (¬2). قلت: ويفهم من هذا الكلام المصفى أن أئمة السلف كانوا يعتقدون أن الله لما كان لا يشبه المخلوقات لا في ذاته ولا في صفاته بأي وجه من وجوه المشابهة ولما وجب أن يتصف سبحانه بكل صفات الكمال، وأن ينزه عن كل صفات العيب والنقص، فإنه يجب إثبات كل الصفات الواردة في الكتاب والسنة لله تعالى بدون تشبيه، أي إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. وقالوا: لا بدّ من إجراء الصفات على ظاهرها وحملها على الحقيقة لا المجاز مخالفين في ذلك أئمة التعطيل والتأويل من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم. يقول شيخ الإِسلام: "ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يثبتون لله ما أثبته من الصفات وينفون عنه مشابهة المخلوقات، يثبتون له صفات الكمال، وينفون عنه ضروب الأمثال وينزهونه عن النقص والتعطيل، وعن التشبيه والتمثيل، إثبات بلا تعطيل. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ ¬

_ (¬1) ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص 76 - 77. (¬2) ابن تيمية: منهاج السنة: 1/ 249. (ط: دار العروبة).

أبو بكر بن العربي ورده على الفلاسفة في بعض الجزئيات

شَيْءٌ} [الشورى: 11]: رد على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]: رد على المعطلة، ومن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم" (¬1). أبو بكر بن العربي ورده على الفلاسفة في بعض الجزئيات: تعرض ابن العربي -رحمه الله- في فصل "ذكر بيان أن العلم قبل العمل" إلى الرد على الفلاسفة في اعتقادهم أن ما في الدار الآخرة إنما هو خيالات وتمثيلات (¬2) وأوضح أنهم أخطؤوا في فهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أقَل أهْلِ الجَنةِ مَنْزِلَةً يُؤْتى مِثْل الدنْيَا وَعَشْرِ أمْثَالِهَا" (¬3) فاستبعدوا ذلك لأمرين: الأمر الأول: لجهلهم بعموم قدرة الله وعلمه وسعة مخلوقاته قياساً على أنفسهم وقصراً لخواطرهم القاصرة عن منتهى العلوم. الأمر الثاني: اعتقادهم أن الجنة هي السموات وهي لا تتسع لهذا، وكيف وهي من الدنيا؟ فذلك أبعد. وقد نقل ابن العربي عن أبي حامد الغزالي أنه قال في تفسير هذا الحديث: إنما يؤتى مثل الدنيا في القيمة والقدر، لا في المساحة، وقدر شبر في الجنة خير من الدنيا بغير حصر بمثل ولا بعشرة أمثالها، ولا بأكثر من ذلك كما يقال: هذه ياقوتة خير من ألف مثقال لا في الوزن، ولكن في القيمة والمنفعة لأنها تساوي بالتقويم أكثر من ألف (¬4). وقد تعجب ابن العربي من صدور هذا القول -المشوب بآراء الفلاسفة- عن الإِمام الغزالي ورد عليه قائلاً: ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 1/ 332 - 333. (¬2) قانون التأويل: 559 وما بعدها. (¬3) سيأتي تخريجه إن شاء الله- في التعليق رقم: 1 من قانون التأويل: 559. (¬4) العواصم من القواصم 333 - 334، وانظر قانون التأويل: 560.

"هذا المذكور -في الحديث- يؤتى مثل الدنيا في عشر مرات مساحة وقيمة فإن القيمة لا تنحصر، إذ نصيف حورية خير من الدنيا، والقدرة متسعة للمساحة والقيمة جميعاً، والخلاء يحتملها، فافرض ما شئت من العدم، وإخراجه إلى الوجود جاز عقلاً وصح. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: "ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء" وليس هذا بإخراج لها من حد المحسوس إلى المعقول كما تقول الفلاسفة، وإنما هو للفرق بينهما من أوجه كثيرة. أحدها: إن الجنة لا تفنى والدنيا تفنى، والجنة لا تستحيل ولا تتغير، والدنيا بخلافها، والجنة لا آفة لها والدنيا كلها آفات من لغو وهمّ وملل وعلل وحسد ومنازعة، وكل ما يكدر نعم الدنيا فالجنة منزهة عنه في ذات وصفات وأفعال، وبذلك تم النعيم وكمل الأمر وطاب العيش. والدنيا ما يكون فيها ينشأ بتركيب وتدريب وترتيب، والجنة إنما يقول العبد فيها للشيء كن فيكون، وكل شيء في الدنيا ينفع ويضر، والجنة منفعة بجميع ما فيها لا مضرة معها، فهذه سبعة وجوه أصول بله ما يتبعها من عظيم التفصيل (¬1). قلت: وأشار ابن العربي في هذا الفصل -قضية العلم والعمل (¬2) - فقال: قد قام الدليل العقلي على أن العلم قبل العمل، كما قام الدليل الشرعي على أن العالم بالله هو الذي لا يعصي، قال الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (¬3) وقد ردّ ابن العربي على من زعموا من الصوفية بأن العلم هو من ثمرات العمل حيث تشبثوا بقول الإِمام مالك: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في قلب من يشاء. ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم 334 - 335. (¬2) قانون التأويل: 552. (¬3) م، ن: 561.

فقال بأن هذا المقطع الشريف من قول إمام الأئمة مالك ليس من غرضهم في شيء، وإنما له حقيقة معلومة، وهي أن العبد إذا واظب الطاعات ونبذ المعاصي لم يكن له إلاَّ استثمار علمه واستدامة نيته، فإن العمل بالقصد، والقصد يرتبط بالعلم فإنهما إخوان، فإذا دام العمل الصالح دل على دوام العلم، وإذا علم ولم يعمل أوشك أن يذهب العلم، ويكون نقصان العمل علامة على نقصان العلم أو ذهابه (¬1). وتساءل ابن العربي قائلاً: وكيف يذهب العلم بذهاب العمل، والعلم أصل والعمل فرع عليه، والفرع هو الذي يذهب بذهاب الأصل؟. وأجاب على هذا التساؤل بجوابين: الأول: ومثل له بأن الإنسان يرى الغصن الذابل في الشجرة الناضرة، فيستدل به على نقصان مادة الأصل التي كانت تمده بالريّ، ولولا نضوب المادة لما ذبل الغصن في الشجرة الناضرة، فكان ذهاب الفرع لذهاب الأصل، وعلامة عليه. الجواب الثاني: هو أن التقوى والعلم جميعاً من جملة الأعمال، وكلاهما من الأعمال القلبية، وتنفرد التقوى بقسم منها، وهو عمل الجوارح، فإذا اتقى الإنسان الله بقلبه أولاً كما يجب، كان ذلك تعليماً من الله عز وجل للإنسان، بوضع الحجب التي تقيه عذابه، فإذا نقص العمل كان لنقصان العلم ضرورة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَا يَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وَهوَ مؤْمِن (¬2) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الزاني لا يقدم على الزنا إلا بعد فوات جزء من العلم (¬3). ولا ينكر ابن العربي أن صفاء القلب وطهارته مقصود شرعي وإنما الذي يستنكره هو القول بأن صفاء القلب يوجب تجلي العلوم فيه بذاته، والصحيح ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم 20 - 21. (¬2) انظر تخريج هذا الحديث في التعليق رقم: 2 في قانون التأويل: 476. (¬3) العواصم من القواصم 21 - 22.

أبو بكر بن العربي ووزن الأعمال يوم القيامة

عند ابن العربي أن القلب بمداومة الطاعات والتفكر في ملكوت الأرض والسموات، يديم الله سبحانه له المعرفة التي هي علامة على النجاة في الآخرة (¬1). أبو بكر بن العربي ووزن الأعمال يوم القيامة: تعرض ابن العربي في فصل "ذكر المعنى الذي أوجب العثور في النظر إلى الكلام على وزن الأعمال يوم القيامة" فأتى بأقوال مختلف الطوائف مع بيان رأي أهل السنّة والجماعة، ولما كان كلامه في هذا الموضوع مختصراً، رأيت الاستعانة بما كتبه في هذا المجال بكتابه "العواصم من القواصم" حيث توسع في بيان المذهب الحق. فقال إنه ثمة ميزاناً ووزناً وموزوناً وكل واحد منها معلوم، وبعضها مرتبط ببعض، لا يصح أن ينفرد منها واحد عن الآخر للملازمة التي يقتضيها اللفظ، ويقضي لها العقل. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] فعلمنا أن هناك وزناً. وقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] فعلمنا أن هنالك ميزاناً نصاً، وموزوناً نصاً؛ لأنه قال: {مَوَازِينُهُ} بعد قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ} فاقتضى ثقلاً في ميزان، وذلك هو الموزون فصارت الثلاثة كلها في القرآن، واقتضى ذلك موزوناً يخف تارةً، ويثقل أخرى. فيخف الميزان به ويثقل ولم يبق إلا تعيين الموزون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرج من النار من قال لا الله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة" (¬2). (¬3) ¬

_ (¬1) م، ن: 23. (¬2) قانون التأويل: 652. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] رقم الحديث 6975 (ط: مصطفى ديب البغا - دار القلم دمشق).

ففي الحديث أنه يوزن عمله من إيمانه وحسناته، وبه يخرج من النار كما أن بعمله السيء دخلها، فإذا ثقلت السيئات ودخل النار، روعي له عند الخروج الإيمان من ذرة إلى شعيرة، ولو روعي له ذلك في الوزن الأول ما دخل النار لرجحانه له ولكنه تأخر، إما لوزن السيئات ورجحها، وإما لأنه مدخر للخروج من النار. فدل صحيح هذا الخبر على أن أعمال الجوارح توزن بها، ينجو من العذاب أو يقع فيه، وأنه بما في قلبه من الإيمان، إذ الأعمال تضعفه فإذا بقي له مقدار ذرة عصم من الخلود به (¬1). وينصح ابن العربي من آمن بالميزان ألا يقف دون الإيمان بالموزون يقول رحمه الله: "فلا نقول إذا لم نعلم عين الموزون يسقط الكل، وإنما وجب الرد في قياس الخلف لابتغاء بعض المقدمات على بعض، وأما هنا فألفاظ صحيحة ومعان صائبة وإمكان موجود" (¬2). ويضيف شارحاً وجهة نظر أهل السنة قائلاً: "قد ثبت أن أعمال العباد مكتوبة في صحائف تنشر له، فيقع الوزن في الصحائف ويخلق الله فيها الثقل والخفة على حسب عمله بها، وهذا كله مبني على أصل يخالف فيه الفلاسفة والقدرية التي فرت من الوزن لأجله وذلك لأن الثقل والخفة عندهم، إنما هو بكثرة الأجزاء وقلتها، وعندنا بما يخلقه الله فيها، فجرت العادة في الدنيا بأن يتبع كثرة الأجزاء والخفة قلتها، فإذا خرق العادة ارتبط الثقل والخفة وزمان القيامة زمان خرق العادة عندنا وعندهم ... فإن قيل .. فأي حاجة إلى الميزان؟. قلنا: نصب الميزان ليس لحاجة، ولا نصب الصراط لحجة، وإنما ذلك لحكمة ليرى الخلق عياناً ما كان أخبرهم عنه برهاناً، وللعيان تأثير لا بد ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم 329 - 330. (¬2) م، ن: 330 - 331.

منه في الدنيا والآخرة كما أخبر به. فلا ترجعوا عن الظاهر إلى الباطن، ولا تحترسوا في أمر لا بدّ لكم منه في كيفية أحوال الأعمال في الآخرة فإنه قد ثبت من تصورها صوراً وتشكلها أشكالًا ما لا مدفع فيه لأحد. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن البقرة وآل عمران معاً يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما حزقان من طير صواف (¬1) .. قال أبو بكر بن العربي: والسورة لا تأتي والحروف والأصوات لا تتشكل والخبر قد صح، وتأويل من قال يأتي ثوابهما كلام متسور لا علم عنده، فيرسل عذبة لسانه في الذي ليس من شأنه بما لا تتحصل حدوده، ولا يثبت وجوده وإنما يحمل على معان: منها أن الصحيفة التي قرأ فيها أو كتب الملك فيها قراءته تظله، أو ينشىء الله له غمامة يقال: هذه سورتك التي كنت تقرأ. فإن قيل: فهذا هو الثواب. قلنا: نعم، ولكن ليست الغمامة السورة، ولم يرد تسميتها ثواباً، فكيف يخبر عما يشكل بما يشكل، وإنما كان يقول يأتي ثوابهما لو قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيفسر به، وأما تفسير المشكل والمحتمل بمشكل محتمل فمما لا يجوز شريعة ولا يصح عربية" (¬2). قلت: نعود إلى تتبع أهم القضايا العقدية الواردة بقانون التأويل لنقف مع ابن العربي في خاتمة الكتاب (¬3) حيث خصص بعض الصفحات للكلام على المحكم والمتشابه (¬4)، فما هو موقف السلف من هذه القضية؟ .. ¬

_ (¬1) هذا بعض حديث أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة رقم 804 وقد تحرف هذا الحديث في النص المحقق من كتاب العواصم من القواصم. ومعنى حزقان: قطيعان أو جماعتان. ومعنى طير صواف: جمع صافة وهي من الطيور التي تبسط أجنحتها في الهواء. (¬2) العواصم من القواصم 331 - 333. (¬3) قانون التأويل: 661. (¬4) م، ن: 663.

المحكم والمتشابه في القرآن الكريم

المحكم والمتشابه في القرآن الكريم أما المحكم في القرآن فله ثلاث إطلاقات: أولاً: القرآن كله محكم، قال الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] فإن لفظ الحكيم هنا بمعنى المحكم، فهو "فعيل" بمعنى "مفعل" (¬1). وقال جلّ جلاله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ومعنى الآية أنه محكم لا اختلاف فيه ولا اضطراب يصدق بعضه بعضاً، فصيح الألفاظ، صحيح المعاني، يهدي إلى الطريق المستقيم (¬2). ثانياً: القرآن كله متشابه، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]. قال العلماء: إن المراد من وصف القرآن الكريم هنا بأنه كله متشابه -في حين أنه وصف في آيات أخرى بأنه كله محكم- أن بعضه يشبه بعضاً في الحق والصدق وفي سلامته من التناقض والاختلاف، كذلك يشبه بعضه بعضاً في هدايته وبلاغته وإعجاز ألفاظه وهو عكس المتضاد المختلف المذكور في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فلا تعارض إذاً بين وصف القرآن ¬

_ (¬1) لسان العرب: 12/ 141. (¬2) ابن تيمية: الإكليل (ضمن الرسائل الكبرى): 5/ 7، الصنعاني، ترجيح أساليب القرآن: 144، السيوطي: الإتقان: 2/ 2، القاسمي محاسن التأويل: 3/ 752، رشيد رضا: تفسير المنار 3/ 163، الزرقاني: مناهل العرفان: 2/ 167.

كله مرة بأنه محكم، ووصفه مرة أخرى بأنه متشابه، فالقرآن كله محكم باعتبار وكله متشابه باعتبار آخر (¬1). ثالثاً: القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ولا شك أن نوع التشابه الذي وصف به الكتاب كله في آية الزمر هو غير التشابه الذي وصفت به بعض آياته في آل عمران. ولذا يحسن بنا أن نبين أنواع التشابه قبل الكلام عن المحكم والمتشابه واختلاف الناس فيه: النوع الأول: التشابه العام، وهو ضد الاختلاف وهو الذي وصف به القرآن كله بأنه {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] وهذا التشابه العام يوافق الإِحكام العام الذي وصف به القرآن كله بأنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] (¬2). النوع الثاني: التشابه الخاص ببعض الآيات، وهو الذي وصفت به آيات لا بعينها في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] في مقابلة وصف بعض آياته بأنهن {مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] ونوع التشابه هنا غيره في النوع الأول لأن الله تعالى قد ذم متبعي المتشابه في النوع الثاني حيث قال بعد ذلك: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] فحيث قد ذم متبعي المتشابه هنا، دل ذلك على أن المعنى المقصود هنا غيره هناك وإلا لكان معنى التشابه في الموضعين واحداً، فيكون كل متبع للمتشابه مذموماً. ووصف آيات القرآن كلها بأنها: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] يمنع ذلك وإلا لكان كل متبع للقرآن مذموماً (¬3). ¬

_ (¬1) الرازي: أساس التقديس: 178، ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص: 115، السيوطي: الإتقان 2/ 2. (¬2) د. محمد الجليند: الإِمام ابن تيمية وقضية التأويل: 53. (¬3) الجليند: الإِمام ابن تيمية وقضية التأويل: 53 - 54 وانظر د. محمد عبد المنعم خفاجي: في العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة 1/ 125 - 1

أقوال السلف في المحكم والمتشابه

النوع الثالث: التشابه الإضافي، وهو اشتباه الأمر على بعض الناس كقول بني إسرائيل {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحلال بيِّن والحرام بيِّن؛ وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ... الحديث (¬1). فدل ذلك على أن التشابه قد يكون بالإضافة إلى بعض الناس دون بعض (¬2). أقوال السلف في المحكم والمتشابه: 1 - القول الأول: ويرى أصحاب هذا القول أن المحكمات هي الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام من قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .... } [الأنعام: 151] وأربع آيات من سورة الِإسراء من قوله تعالى.: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى آخر قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الآيات: 23 - 26). روى هذا الرأي ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬3). 2 - القول الثاني: ويرى أصحاب هذا القول أن المحكمات هي الناسخ، والحلال والحرام، والحدود، والفرائض، وما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات هي المنسوخ والمقدم والمؤخر (¬4) والأمثال والإِقسام (¬5). 3 - القول الثالث: ويرى أصحابه أن المحكم هو ما أحكم الله فيه بيان ¬

_ (¬1) انظر الشاطبي: الموافقات: 3/ 85 - 86، أما الحديث فقد أخرجه. (¬2) الجليند: الإِمام ابن تيمية وقضية التأويل: 54. (¬3) الطبري: التفسير 6/ 174 (ط: شاكر) وانظر السيوطي: الإتقان 2/ 3. (¬4) مثال المقدم والمؤخر قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] روي عن قتادة أنه قال: هذا من تقاديم الكلام. (¬5) ابن جرير الطبري: التفسير 6/ 175 - 176، ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص: 117.

الحلال والحرام، والمتشابه ما سوى ذلك يصدق بعضه بعضاً، روي هذا عن مجاهد وعكرمة (¬1). 4 - القول الرابع: ويرى أصحابه أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل بعض السور مثل: {الم}، {المص} وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل (¬2). 5 - القول الخامس: ويرى أصحابه أن المحكم هو قصص الرسل والأنبياء مع أممهم مما قد بينه سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. والمتشابه ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير في السور، روي هذا القول عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬3). 6 - القول السادس: ويرى أصحاب هذا الرأي أن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً، ويروى هذا القول عن الإِمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل (¬4). 7 - القول السابع: هو أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل بما استأثر الله بعلمه دون خلقه كقيام الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام وما أشبه ذلك وهذا القول روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (¬5). وثمة أقوال كثيرة رويت عن السلف في كتب التفسير، والشيء الذي لم أقف عليه، والذي اعتقده جازماً أن أحداً من السلف الصالح لم يذهب إليه، ¬

_ (¬1) ابن جرير الطبري: التفسير: 6/ 175 - 176، ابن كثير عمدة التفسير 9/ 212 (اختصار أحمد شاكر). (¬2) ابن جرير الطبري: التفسير 6/ 216، ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص: 139، ابن كثير: عمدة التفسير: 2/ 219. (¬3) تفسير الطبري: 6/ 178، تفسير سورة الإخلاص: 140. (¬4) الطبرى: 6/ 179، تفسير سورة الإخلاص: 138. (¬5) نفس المصادر السابقة.

هو إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاَّ الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله. وفي هذا المقام لا بد لنا أن نبين رأي السلف رضي الله عنهم في الآية السابعة من سورة آل عمران، فإن معرفة رأيهم والوقوف على تفسيرهم في المراد بالمتشابه هو الذي ينير الطريق أمام السالك لطريق الحق، فقد اختلف الصحابة ومن جاء بعدهم في آية آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (الآية: 7) (¬1) هل الوقف على لفظ الجلالة "الله" في قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أو الوقف على قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}؟. الرأي الأول: ذهب أصحابه إلى الوقف على لفظ الجلالة "الله" وبه قالت عائشة رضي الله عنها، وابن عباس وأُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس وغيرهم (¬2). الرأي الثاني: الوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. وبهذا القول قال ابن عباس فيما نقله عنه مجاهد، وجماعة من الصحابة أنه قال: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سبب نزول هذه الآية في تفسير الطبري: 6/ 180 - 209 (ط: المعارف) ولمعرفة ما قيل في الآية انظر: ابن حزم: الأحكام: 1/ 492، الآمدي: الأحكام 1/ 165، الرازي: التفسير 2/ 596، الشاطبي: الموافقات 3/ 85، الشوكاني: إرشاد الفحول: 32، تفسير القاسمي 4/ 795. (¬2) تفسير البغوي 1/ 321، تفسير الخازن 1/ 321، ابن كثير: عمدة التفسير 1/ 48، 2/ 221 (اختصار أحمد شاكر). (¬3) انظر ابن كثير: عمدة التفسير 2/ 218 (اختصار أحمد شاكر).

وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. ومن العلماء من فصل في هذا المقام بما يجمع بين القولين السابقين لا سيما وأن بعض الصحابة كابن عباس ورد عنه القولان. ومن الواضح أن لفظ "التأويل" يطلق ويراد به في القرآن معنيان -كما أوضحنا من قبل- أحدهما بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا المعنى فالوقف على لفظ الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها على الحقيقة إلا الله عز وجل، ويكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره. ثانيهما: وأما إن أريد بـ (التأويل) معنى التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى (¬1) فالوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون معنى ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالاً من الراسخين، وهذا قول حسن، ورأي جيد يجمع بين القراءتين في الآية والأقوال المنقولة عن الصحابة والسلف من (¬2) غير تكلف ولا تعسف. أما الخلف فإنهم لم يختلفوا عن السلف في موضع الوقف، منهم من ¬

_ (¬1) وهو المعنى الذي عرفه السلف الصالح كما مر آنفاً. (¬2) انظر ابن كثير 1/ 347، الفتاوى: 3/ 55.

يرى الوقف على لفظ الجلالة "الله" ومنهم من يرى الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وإنما خالفوا السلف في المراد بالمتشابه والتأويل في الآية الكريمة حيث قصدوا بالمتشابه والتأويل معنى لم يقصده السلف (¬1)، وهو الذي ذهب إليه ابن العربي في قانون التأويل حيث اعتبر آيات الصفات من المتشابه، وراح يستدل على رأيه (¬2) بما ورد عن السلف بالنهي عن الخوض في هذه الآيات، كقول الإِمام مالك رضي الله عنه: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة" فنسب إلى الإِمام مالك القول بجعل معرفة معاني آيات الصفات من التأويل الذي استأثر الله بعلمه، وهذا خطأ شنيع وقع فيه الخلف بعامة، والحق أن مالكاً ما كان قصده هذا النفي المطلق، فإنه قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، ولم يخبر عن الجملة، ثم قال: والكيف مجهول، ولو قصد ما ذهبوا إليه لقال: الاستواء مجهول؟ أو قال: تفسير الاستواء مجهول؟ أو بيان الاستواء مجهول؟ فالإمام مالك رضي الله عنه لم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع القول فيما وصف الله به نفسه، فلو قال قائل في قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] كيف يسمع وكيف يرى؟ لقلنا السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قيل: كيف كلم موسى تكليماً، لقلنا التكليم معلوم والكيف غير معلوم، إذاً فالتأويل الذي اختص الله به هو حقيقة الذات والصفات، فإذا قيل لنا ما حقيقة علم الله وقدرته وسمعه وبصره؟ قلنا: هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. أما قول ابن العربي بأن الآيات المتشابهات هي التي قال فيها السلف: "أمروها كما جاءت" فهذا بما لا يقوله عالم مطلع على التفسير وما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن المعلوم لدى صغار الطلبة فضلاً عن علمائهم وأئمتهم بأن السلف قد تكلموا في جميع آيات الصفات وفي نصوص القرآن، ¬

_ (¬1) انظر السيوطي: الإتقان: 2/ 6. (¬2) صفحة: 666.

وفسروها بما يوافق معناها ودلالتها (¬1)، ولم يسكتوا عن بيان معنى آية ما، سواء في ذلك المحكم والمتشابه ولم يرو بطريق صحيح ولا سقيم أن أحداً من سلف الأمة وأئمتها جعل أسماء الله وصفاته من المتشابه الذي ينبغي إمراره وتفويضه إلى الله، كما لم يرو عنهم بأي طريق من طرق الرواية أنهم جعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وقالوا: إن الله أنزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: تمر كما جاءت أي أثبتوا لها معاني صحيحة، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها وأقروا بالنصوص على ما دلت عليه من معناها ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، وهذا الفهم هو الفهم عينه الذي طبقوه في سائر النصوص كالوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك، فهذا الإِمام أحمد قال في غير أحاديث الصفات تمر كما جاءت، فقد روي عنه أنه قال مثل ذلك في الحديث الشريف: "من غشنا فليس منا" (¬2) ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه، كما هو الحال عند من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلاً بالعرف المتأخر (¬3). ونقول لفقيهنا أبي بكر بن العربي -غفر الله لنا وله-: إن الله سمى نفسه في القرآن الكريم بأسماء كثيرة، ووصف نفسه بصفات عديدة، فهل كل هذه الأسماء والصفات هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله؟ سيكون رد فقيهنا بالنفي على الوجه المعلوم في كتبه من إثبات بعض الصفات دون البعض كما هو مذهب الأشاعرة، فنقول له: إن دلالة القرآن الكريم على أنه سميع بصير عالم، كدلالته في ذكره لرحمته وعلوه واستوائه وما إلى ذلك من ¬

_ (¬1) فها هو ذا عبد الله بن مسعود يقول: " ... ولقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه" أخرجه مسلم في فضائل الصحابة رقم: 2462 وانظر الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث رقم: 25 (ط: د. العتر). (¬2) أخرجه مسلم في الإيمان رقم: 101 باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من غشنا فليس منا، والترمذي في البيوع رقم: 1315، وأبو داود في الإجارة رقم: 3452 وابن ماجه في التجارات رقم: 2224. (¬3) ابن تيمية دقائق التفسير 1/ 115 (جمع وتحقيق محمد سيد جلين

التوحيد وأنواعه عند أهل السنة والجماعة

الصفات التي اصطلح عليها بالصفات الخبرية ولا دليل في التفرقة بين هذه وتلك فوجب إثبات الجميع والله تعالى أعلم. التوحيد وأنواعه عند أهل السنة والجماعة نهج أبو بكر بن العربي في بيان أنواع التوحيد منهج الأشاعرة متأثراً بشيوخه الذين أخذ عنهم مباشرة أو عن طريق التتلمذ على كتبهم، وقد اقتصر -تبعاً للمتكلمين- على ثلاثة معان للتوحيد: 1 - توحيد الذات. 2 - توحيد الصفات. 3 - توحيد الأفعال (¬1). ودلل على كل نوع من هذه الأنواع بقوله: " ... الله سبحانه واحد في ذاته بعدم التجزيء، واحد في صفاته، واحد في أفعاله ومخلوقاته، وكل واحد من هذه الأوجه الثلاثة واجب في وصفه فلا قسيم له في الذات ولا شبيه له في الصفات، ولا شريك له في تدبير المصنوعات؛ لأنه لو كان مقسماً كان قابلًا للتركيب، وما احتمل التركيب محدث، وما احتمل القسمة ليس بواحد، بل يكون شيئين فأكثر من ذلك، ولو كان له شبيه في صفاته، كان مستحقاً للإلهية كاستحقاق من هي له، وأدى ذلك إلى القول بتناهي مقدوراتهما ... ولو كان له شريك في مصنوعاته كان جائزاً وقوع التمانع بينهما لتصور اختلاف المرادين، وأدى ذلك إلى عجزهما، أو عجز أحدهما، والآخر هو الإله، فوجب لذلك وصف الواحد له بالوجوه الثلاثة على كمال معانيها ... " (¬2). ¬

_ (¬1) هذا التقسيم مشهور في كتبه وبخاصة في "الأمد الأقصى" و "قانون التأويل"، وانظر كتب الأشاعرة: الجويني: الشامل في أصول الدين: 347، الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد: 39، الشهرستاني: نهاية الأقدام: 90، الفخر الرازي: التفسير 4/ 172. (¬2) ابن الحربي: الأمد الأقصى: 25/ ب.

قلت: وقد ركز ابن العربي والأشاعرة بعامة على النوع الثالث وهو "توحيد الأفعال" وأجهدوا أنفسهم في تقرير الأدلة العقلية معتمدين في ذلك على دليل التمانع، وهذا وإن كان يفضي إلى توحيد الربوبية والإيمان بوجود خالق مدبر لهذا الكون، إلاَّ أنه لا يفي بالمطلوب الذي بُعث من أجله الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين (¬1). فتوحيد الربوبية لا يكاد ينازع فيه أحد، ولم تعتقد أي طائفة من الطوائف أن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فمشركو العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85]. كما أنهم لم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال مشركي باقي الأمم، يعتقدون فيها أنها تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والأولياء، فيتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله. وقد نبه شيخ الإِسلام ابن تيمية على هذه الحقائق فقال: "إن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر، غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في صفاته لا شبيه له، واحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق الأفعال واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرون من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وان هذا هو معنى قولِنَا "لا إله إلا الله" حتى أنهم يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع ومعلوم أن المشركين الذين بعث إليهم - صلى الله عليه وسلم - لم ¬

_ (¬1) انظر ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 25.

أ- توحيد الربوبية

يكونوا يخالفون في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون ... " (¬1). قلت: أما والحالة هذه، فقد تعين علَيَّ بيان أنواع التوحيد على طريقة السلف الصالح فهي السبيل الواضحة، والطريق الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك فنقول مستعينين بالله عز وجل: أ- توحيد الربوبية: وهو الاعتقاد بأن رب العالم وخالقه صانع واحد، وليس اثنين وهو الرب سبحانه الذي جبلت الفطر على الاعتراف به والخضوع له. وبناءً على هذا فإن توحيد الربوبية يعني الإقرار أن الله تعالى ربُّ كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي والمميت، النافع الضار الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على كل شيء ليس له في ذلك شريك لذلك كانت شؤون الربوبية كلها من الخلق والرزق والملك والتدبير والتصريف مختصة به سبحانه، لا يشاركه فيها أحد من خلقه، ولا ريب أن هذا الأمر مركوز في الفطرة لا يكاد ينازع فيه أحد حتى أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرون بذلك، ولا ينكرونه، ولا يجعلون أحداً من آلهتهم شريكاً لله تعالى في ربوبيته غير أن هذا التوحيد لا يكفي الإنسان في حصول الإِسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمة من توحيد الإلهية. ب- توحيد الألوهية: ومعناه أن يُعْبَدَ الله وحده ولا يشرَكَ بعبادته أحدٌ من خلقه وفي هذا النوع يتحقق معنى قولنا "لا إله إلا الله" وهو دعوة كل رسول إلى قومه من لدن آدم إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا ¬

_ (¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 98 وقد سقت كلام شيخ الإِسلام -على طوله- من أصل التدليل على رأيي الذي قررته سابقاً، وإن كان قد أدى إلى تكرار المعاني والأفكار.

قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 83]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال أرباب الكلام ... فهو أول واجب وآخر واجب، وأول ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به عن الدنيا (¬1). وطريقة تحقيق هذا التوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والنفي والبراءة من كل معبود دونه، والتحقيق أن تعرف أن الله جعل العبادة أنواعاً: 1 - عبادات اعتقادية: وهذه أساس العبادات كلها، وهي أن تعتقد أن الله هو الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وإنه لا معبود بحق غيره سبحانه وغير ذلك من لوازم الألوهية. 2 - عبادات قلبية: وهي التي ترجع إلى عمل القلب وحده، ولا يجوز أن يقصد بها إلا الله وحده، وصرفها لغيره شرك والعياذ باللهِ وهي كثيرة منها: ¬

_ (¬1) يرى المعتزلة أن النظر واجب عقلاً. انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: 67، والنظر والمعارف: 96، 316 والمحيط بالتكليف: 30 - 31، أما الأشاعرة فيرون أن النظر واجب شرعاً، انظر: الباقلاني في الإنصاف: 22، أما القصد إلى النظر فهو مذهب ابن فورك والجويني كما هو في شرح المواقف للإيجي: 1/ 275 - 280 وانظر: ابن أبي العز: شرح العقيدة الطحاوية: 22، وانظر آراء الفرق والمذاهب الإِسلامية والرد عليها عند شيخ الإِسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: 7/ 407 - 464، 8/ 5 -

جـ- توحيد الأسماء والصفات

الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والخشوع والخشية، والحب، والإنابة، والتوكل والخضوع. 3 - عبادات قولية (أو لفظية): وهي التي تتعلق باللسان وهي كثيرة جداً أهمها النطق بكلمة التوحيد، إذ لا يكفي اعتقاد معناها بل لا بد من النطق بها، ومنها الاستعاذة بالله، والاستعانة والاستغاثة به، والدعاء له، وتسبيحه، وتمجيده، وتلاوة القرآن. 4 - عبادات بدنية: وهي العبادات التي تؤدى بالجوارح وهي كثيرة معلومة كالصلاة والصوم والحج والنذر وغير ذلك. 5 - عبادات مالية: كالزكاة وأنواع الصدقات والكفارات والأضحية وغيرها. جـ- توحيد الأسماء والصفات: ومعناه أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف أو تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما مرّ معنا في مبحث "الصفات الخبرية" (¬1). العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاث: بعد الفراغ من الكلام على أنواع التوحيد الثلاث، يحسن بنا أن نعرف النسبة بينهما، وهل هي متلازمة في الوجود؟ بمعنى أن بعضها لا يوجد بدون الآخر؟ أم هي غير متلازمة؟ وهل يغني اعتقاد بعضها فقط؟ أم لا بد من اعتقاد جميعها؟. فتوحيد الربوبية الذي يقوم كما بينا على الاعتقاد أنه سبحانه رب كل شيء وخالقه ومدبره وأنه القائم على أمور عباده والكافل لها، والمربي لهم ¬

_ (¬1) صفحة: 375، وانظر تعليقاتنا على قانون التأويل صفحة: 574 وما بعدها.

بنعمة المادية والروحية، هذا التوحيد مستلزم لتوحيد الإلهية والعبادة، فهو منه كالمقدمة للنتيجة، فإنه إذا علم أنه سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في الربوبية، كانت العبادة حقه الذي لا تنبغي إلا له سبحانه، فإنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً خالقاً مالكاً مدبراً وما دام ذلك لله وحده فيجب أن يكون هو المعبود وحده الذي لا يجوز أن يكون معه لأحد شركة في شيء من صور العبادة (¬1). وأما توحيد الإلهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية، ومعنى كونه متضمناً له أن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الإلهية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً. لا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره، ولا مالك سواه، فهو يعبد الله لاعتقاده أن أمره كله بيده، وأنه سبحانه هو الذي يملك نفعه وضره، وأن كل من يدعى من دونه فهو لا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وأما توحيد الأسماء والصفات فإنه شامل للنوعين السابقين فهو يقوم على إفراد الله سبحانه وتعالى بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا التي لا تنبغي إلاَّ له سبحانه، ومن جملتها كونه رباً واحداً لا شريك له في ربوبيته، وكونه إلهاً واحداً لا شريك له في إلهيته وعبادته. ¬

_ (¬1) محمد خليل هراس: دعوة التوحيد: 83.

الخاتمة

الخَاتمَة على الرغم مما احتله أبو بكر بن العربي من المكانة المرموقة في الفكر الإِسلامي، فإن ما كتب عنه لا يتعدَّى صفحات قليلة ليس فيها غير ترديد لما هو شائع عنه في المصادر القديمة التي تناولت ترجمته، فكان محاولتي -على ما فيها من قصور- محاولة جديدة في الكشف عن شخصيته، وذلك بالاستفادة من أغلب المصادر والمراجع التي تحدثت عنه، مع الاعتماد على ما خلفه من آثار كتابية على أنحاء شتى من العلوم الشرعية. وقد استطعت في هذا البحث أن أوضح -ولو باختصار شديد- التطور الفكري -العقدي والمذهبي- في الأندلس، فخرجت بنتيجة مهمة وهي أن أهل المغرب الإِسلامي كانوا على طريقة السلف الصالح في الاعتقاد والعمل، ولم تنتشر العقائد الأشعرية وغيرها إلاَّ بعد ظهور عهدي الموحدين حيث فرضها بالقوة على العامة والخاصة، وكذا الحال بالنسبة للتصوف، فإنه لم يظهر بشكله الفلسفي إلاَّ بعد القرن الخامس وإن وجدت ملامح منه فهي عند أفراد قلائل لا يمثلون مجموع الأمة واعتقادها. كما تتبعت رحلات ابن العربي واستطعت أن أحدد زيارته للأماكن المقدسة بالحجاز، فصححت بذلك آراء بعض الباحثين في هذه المسألة. كما تناولت في البحث صلاته الشخصية وأثرها في تكوينه الفكري

فأثبت بأنه تأثر تأثراً كبيراً بشيوخه الأشاعرة فاعتقد مذهبهم، ونصره بكل ما أوتي من قوة. وأبنت مكانة ابن العربي العلمية، وذلك بدراسة مسهبة لآثاره المخطوطة والمطبوعة ولم يكن عملي في هذا المجال مقتصراً على تقديم قائمة جامدة بذلك، بل عنيت بدراسة كل ما استطعت الوقوف عليه من آثاره سواء كان مطبوعاً أم مخطوطاً وقدمت وصفاً مختصراً لنوعية الكتاب ومجاله وموضوعه بعبارة وجيزة، وخرجت بنتيجة مهمة وهي أن ابن العربي وإن كان مشاركاً في كثير من العلوم إلاَّ أن مكانته العلمية وبراعته ظهرتا في علم الكلام، ولو التزم بمذهب السلف في تقرير الأدلة وعدم التأويل والتفويض، لكان أكثر تألقاً وأحسن إشراقاً. ولمّا تناولت دراسة أهم الجوانب العقدية في "قانون التأويل" تمكنت أن أتلمس منظومة من الآراء العلمية ذات هدف إصلاحي تتوزع على محورين أساسيين: محور عقدي، ومحور تربوي: 1 - أما المحور الأول: فإن الآراء التي انتظمت في "قانون التأويل" حول الاستدلال على وجود الله تبارك وتعالى وحقيقة التوحيد، طريقة مبسطة وربما اتبع فيها منهج السلف في الاستدلال، ولكنني بعد الرجوع إلى كتبه الأخرى وجدته يوافق أئمة الأشاعرة في الاستدلال بالجواهر والأعراض على حدوث العالم زاعماً أنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام، فبينت مخالفة ذلك لمذهب السلف، وفساد تصور من ذهب إلى ذلك. كذلك بالنسبة للصفات الخبرية فقد ذهب ابن العربي رحمه الله إلى تأويل بعضها وتفويض بعضها الآخر، زاعماً أن التفويض هو مذهب السلف، وقد بينت فساد من نسب التأويل إلى السلف، كما بينت في تعليقي على "قانون التأويل" فساد من يقول بالتفويض وينسبه إلى السلف. وأوضحت أن مذهب السلف هو الإثبات الحقيقي لجميع الصفات إثباتاً لا تأويل فيه ولا تفويض ولا تشبيه.

وأثبت في هذا البحث أن ابن العربي قد تأثر بالأشاعرة إلى حدٍّ كبير في افتراضهم أن العقل يعارض الشرع في بعض المواضع، فبينت بالأدلة العقلية والشرعية عدم وجود معقول صريح يمكن أن يناقض منقولاً صحيحاً؛ لأن كلًا من العقل والنقل وسيلة قد وهبها الله للإنسان ليهتدي بها إليه ويعرف بها الطريق إليه، فكيف يتصور عقلاً أن يقع بينهما تعارض أو تناقض؟. كما تبين لي في هذا البحث أن نقد ابن العربي لآراء الصوفية في الكشف والِإشراق كان نقداً موضوعياً نزيهاً، لم يمنعه حبه وتقديره لشيوخه المتصوفة من بيان خطئهم ومدى بعدهم عن الصواب في هذا الموضوع الشائك. 2 - أما المحور الثاني: فإن الآراء التربوية التي انتظمت في "قانون التأويل" تعتبر بحق آراء جديدة، إذ حاول ابن العربي أن يبتكر أساليب جديدة في أساليب التعليم وطرائق التحصيل، ميسراً لطلبة العلم سبيل الاستفادة من مختلف العلوم الشرعية، وقد وفق رحمه الله توفيقاً ظهرت آثاره فيما بعد في نهوض العلوم وازدهارها. والحمد لله رب العالمين.

القسم الثاني (تحقيقُ النَّص)

مدخل الكتاب "قانون التأويل"

بسم الله الرحمن الرحيم مدخل الكتاب "قانون التأويل" 1 - عنوان الكتاب: نصّ ابن العربي في أغلب كتبه (¬1) على اسم "قانون التأويل"، وعلى هذه التسمية اتفقت أغلب مخطوطات (¬2) الكتاب، وأغلب من ترجموا لابن العربي من العلماء في القديم (¬3) والحديث (¬4). وممن خلع عليه اسماً مغايراً ابن خلدون في العبر (¬5) والسيوطي في الِإتقان (¬6) ومعترك الأقران (¬7)، فأطلق ¬

_ (¬1) الأحكام: 1389، القبس شرح موطأ مالك بن أنس: 317 (مخطوط الخزانة العامة بالرباط: 25 ج)، سراج المريدين: 108/ ب وانظر إشارات عن هذا العنوان في نص "قانون التأويل": 101، 157، 179، 183، 200، 209، 215، 216، 277. (¬2) إذ أن مخطوطة الشيخ عبد الحي الكَتَّاني - رحمه الله - كُتِبَ فيها عنوان: "رسالة المستبصر"، والسبب في إطلاق هذا الاسم بين واضح، إذ أن مفهرس الخزانة العامة الموجود فيها "قانون التأويل" لما لم يجد العنوان الصحيح مثبتا على أول صفحة من القانون لسقط حدث، أخذ عنوانه من أول فقرة افتتحها ابن العربي لكتابه "قانون التأويل" وهي: "هذه رسالة من المستبصر بنفسه ... " صفحة: 1. (¬3) كالزركشي في البرهان: 6/ 16، والسيوطي في الإتقان: 4/ 37 ومعترك الأقران: 1/ 23، والمقري في أزهار الرياض: 3/ 94، ونفح الطيب: 2/ 35 ط: محيي الدين، وحاجي خليفة في كشف الظنون: 2/ 1310. (¬4) كالبغدادي في هدية العارفين: 2/ 90، ومحمد بن جعفر الكتاني في سلوة الأنفاس: 3/ 200 والشيخ عبد الحي الكتاني في التراتيب الإدارية: 2/ 175. (¬5) 1/ 1041، 6/ 144. (¬6) 3/ 27 (ط: أبو الفضل إبراهيم). (¬7) 1/ 156.

2 - توثيق نسبة الكتاب إلى ابن العربي

عليه ابن خلدون: "فوائد الرحلة"، وأطلق عليه السيوطي: "كتاب الرحلة" وأعتقد جازماً بأنهما يقصدان بهذه التسمية كتاب "قانون التأويل" إذ أنهما نقلا عنه نصوصاً كثيرة لا تترك مجالاً للشك أو الريب في ذلك (¬1)، فتمسميتهما له "بترتيب الرحلة" أو "كتاب الرحلة" هو اجتهاد منهما، لاحتمال أنهما وقفا على مقدمة "القانون" فقط والمحتوية على ذكر الرحلة وفوائدها، أو أنهما وقفا على الكتاب كله، ولكن لم يقفا على عنوان الكتاب كما اختاره المؤلف (¬2)، فاجتهدا في إطلاق عنوان يناسب المحتوى العام، فلذلك اختلفت تسميتهما له. 2 - توثيق نسبة الكتاب إلى ابن العربي: لا شك أننا بإثباتنا لعنوان الكتاب، قد أثبتنا نسبته إلى مؤلفه، ونزيد هذا بياناً فنقول: لم أجد خلافاً بين العلماء في صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن العربي، فقد أجمعوا على نسبته إليه، سواء بالنقل المباشر عنه (¬3) أم بالِإشارة والتنويه به (¬4)، وتتحقق صحة هذه النسبة بعدة أمور منها: أ- وجود اسمه على جميع مخطوطات الكتاب (¬5). ب- إحالته فيه على أغلب كتبه. ¬

_ (¬1) لقد أثبت في تعليقاتي على القانون نقول السيوطي عن ابن العربي. (¬2) كما هو الحال في مخطوطة الشيخ عبد الحي الكتاني. (¬3) كما عند السيوطي في الإتقان: 3/ 30 ومعترك الأقران: 1/ 156، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري: 2/ 541 والمقري في أزهار الرياض: 3/ 89 والرهوني في شرح متن خليل: 7/ 361، ومخلوف في شجرة النور الزكية: 137. (¬4) كالسكوني في عيون المناظرات: 226. (¬5) انظر وصفنا للنسخ التي اعتمدناها في التحقيق.

3 - بواعث تأليف الكتاب

ج - إحالته في كتبه المختلفة -والمتفق على ثبوتها إليه- على "قانون التأويل" (¬1). د- ثمة نصوص كثيرة في "القانون" هي عينها الموجودة بكتبه الأخرى دَرَجَ المُؤلِّفُ إثباتها -لأهميّتها- في أكثر من كتاب من كتبه، وقد أشرنا إلى هذا في تعليقنا على القانون (¬2). و- إن الناظر في كتب ابن العربي - رحمه الله - والمتتبع لمسائله في البحث لا يجد تفاوتاً بينها وبين "قانون التأويل" من حيث الأسلوب وطريقة العرض، والاعتماد على المصادر إلاَّ بمقدار ما يتطلبه الموضوع المبحوث. 3 - بواعث تأليف الكتاب: لقد تكفل ابن العربي - رحمه الله - ببيان سبب تأليفه لقانون التأويل بأسلوب مشرق أخاذ فقال في كتابه القبس (¬3): " ... وقد كنا أملينا فيه (أي في التفسير) في كتاب "أنوار الفجر" في عشرين عاماً ثمانين ألف ورقة، وتفرقت بين أيدي الناس، وحصل عند كل طائفة منها فن، وندبتهم إلى أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفاً، وهي أصولها التي ينبني عليها سواها، وينظمها على علوم القرآن الثلاثة: التوحيد، الأحكام، التذكير، إذ لا تخلو آية منه بل حرف عن هذه الأقسام الثلاثة، إلاَّ أن فساد الزمان ومواصلة الإخوان .. والأقران، وضرورة الرياض والمعاش الملازمة للإنسان، قواطع نفي المتاع بقطع أسباب الإمتاع. وقد كُنَّا عوتبنا في إعراضنا عن مجموع في تفسير القرآن يثلج حرارة ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال: سراج المريدين: 179/ أ، القبس: 263 (مخطوط الخزانة العامة بالرباط: 1916 ك)، العارضة: 11/ 49، الأحكام: 1164. (¬2) انظر على سبيل المثال إثباته لنص "ذكر معرفة الرب" في "قانون التأويل": وفي "معرفة قانون القاهرة": 64/ أ (مخطوط دار الكتب المصرية: 184 ... تفسير). (¬3) لوحة: 316 - 317 (مخطوط الخزانة العامة بالرباط: 25 ج).

الصدور ... فاعتذرنا، فما قبل عذري، وقيل لي: قد شاهدناك تملي فيه نيف على عشرين عاماً بالوسطى لملأ النشر، وأعجز عن تحصيله البشر، فقلت: كان ذلك والشباب بنضارته، والعمر في عنفوانه، فأما الآن وقد ولّيا، فقد ولّيا معهما، وهذا أوان تفريقي، فكيف أحاول أن أجمع تحقيقي (¬1) .... فجردت مئة ورقة قانوناً في التأويل لعموم آي التنزيل، تأخذ بصيغ الشادي، وتبيد الهمم للهادي (¬2)، فمن وجده فإنه لباب الألباب، وشارع عظيم إلى كلّ باب". قلت: وصدق المؤلف فيما ادّعاه من وضعه لهذا القانون لعموم آي التنزيل، فقد تناول في هذا الكتاب -على صغر حجمه بالمقارنة بتآليفه الأخرى- ما تباعد من العلوم المتصلة بالإِسلام تناول التقريب والتأليف، حتى أخرج من مجموعها مدارك عائدة على جميعها، تُبَصِّرُ بالغايات، وتكشف عن أسرار الحياة. وإنه لحقيق لهذا الكتاب -بعد تحقيقه والتعليق على المسائل العقدية الواردة فيه- أن يأخذ بيد طلاب العلم إلى الغوص في أسرار العلوم والمعارف، والتمرس بأقوال العلماء. ولقد أحس ابن العربي -وهو العالم المطلع على مختلف مناهج العلماء بالنقص المنهجي الشديد الذي يعانيه طلاب العلم، وبخاصة أن الأندلس -آنذاك- قد اعترى نجمها أفول طامس دخلت الأمة فيه في دور الوجود الأجدب، لما فارقت حرصها المعهود على طلب العلوم والتوق إلى المعارف، فأراد إمامنا -ابن العربي- أن يجدد العهد النيّر لأمته، فيعيد تكوين شخصيتها، ويربي كيانها، ويبعث فيها روح الحياة. وذلك بتأصيل قوانين وقواعد منهجية تُوجّه إلى مطالب اعتقادية وعملية مبدؤها وغايتها روح الدين، ¬

_ (¬1) انظر مثل هذا الاعتذار اللبق اللطيف في قانون التأويل. (¬2) لم أعن بتحقيق نص هذا الكلام فقد اعتمدت على نسخة واحدة من "القبس".

4 - زمن تأليف الكتاب

وإن هذه المطالب ارتبطت بمعارف واستدعت مباحث واقتضت تأصيل أصول وتفريع فروع. وضبط معاقد بما يرجع إلى عموم نواحي المعرفة، من علوم شرعية تستفاد من النبوة، وعلوم غير شرعية بما يرشد إليه العقل وتواضع عليه العلماء، فقام عالمنا -رحمة الله عليه- بكتابة قانونه على أفضل وجه وأكمله. 4 - زمن تأليف الكتاب: أملى ابن العربي كتابه "قانون التأويل" سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، يقول - رحمه الله - في العارضة: " ... فَطُرُقُ تفسيره محكمة في كتاب "قانون التأويل" أمليناه سنة ثلاث وثلاثين بجميع وجوهها، خذ ومعنى اللفظ عربية ... " (¬1). قلت: وأغلب الظن أنه أملاه في قرطبة، فابن العربي في هذا الظرف كان لاجئاً إلى قرطبة لأسباب ذكرناها في دراستنا لحياة المؤلف في هذا البحث (¬2). 5 - موضوع الكتاب وتحليل مختصر لمضمونه: كتاب "قانون التأويل" لا ينسب إلى علم من العلوم الإِسلامية على الوجه الواضح في النسبة إلى تلك العلوم، وإنما هو خلاصة لها على وجه العموم، فهو كتاب فريد في فنه، جامع لشتيت الفوائد ومنثور المسائل ومتشعب الأغراض. فمعرفة ابن العربي الواسعة الشاملة التي امتاز بها، أفادته فيما رامه من وضع "قانونه"، فقدرته على استحضار الأفكار الإِسلامية بمذاهبها ومناحي آرائها وطرائق عرضها، ومحاولاته الجادة في الالتزام بكتاب الله وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد خلّصاه من كثير من الأخطاء العقدية والفكرية ¬

_ (¬1) صفحة: 11/ 49. (¬2) انظر صفحة: 95 من قسم الدراسة.

التي وقع فيها معاصروه من الفلاسفة والمتكلمين (¬1)، إلا أن هذا لا ينبغي أن يحملنا على التعصب لطريقته التي اجتباها، فالذي ينظر إلى الحقائق بنور المنطق الصحيح، ويهتدي في سبيلها بمنار البحث والتحقيق، يجب أن لا يقضي في هذا الأمر الشائك حتى يرجع إلى مجمل تراث ابن العربي فيدرسه دراسة تحقيق وتمحيص، إلى جانب دراسة الآثار التي خلفها معاصروه من الفلاسفة والمتكلمين فيوازن بينها، وينظر في كل واحدة منها نظر تحليل للمعاني والأغراض، ورجوع إلى المفاسد والظروف، ثم ينظر فيها مجموعة نظرة مقارنة من جميع هذه النواحي، قاصداً بهذا العمل مرضاة الله، فعندئذٍ يمكننا أن نحكم على قيمة هذا التراث أو ذاك بالحق المنزَّه عن الهوى. أعود من هذا الاستطراد إلى موضوع الكتاب فأقول: ليست غايتي في هذا المدخل المختصر لكتاب "قانون التأويل" أن أذكر أبواب الكتاب بالتفصيل، وما اشتمل عليه من فصول واستطرادات، فذلك أمر لا يتسع له هذا المدخل، ولكني أحاول قدر استطاعتي أن أعرض لأهم ما جاء فيه، ليكون القارئ على بيّنة من أمره. اشتمل الكتاب على حوالي نيف وخمسين عنواناً بما في ذلك خطبة الكتاب وخاتمته. أما الخطبة فصدرها بذكر الأسباب التي دعته إلى وضع قانون التأويل (¬2). ثم شرع - رحمه الله - في ذكر مرحلة طلبه للعلم في الأندلس وخارجها (¬3)، وثمة فضائل يستخرجها النظر والتمحيص في هذا الفصل، فإن ابن العربي حيث تعمّد تخيّر الأخبار المصورة لشخصيات من ذكرهم، أمدّنا ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب "الحدائق" لابن السيد البَطَلْيَوسي، وكتاب "فصل المقال" لابن رشد. (¬2) صفحة: 411. (¬3) انظر صفحة: 414 وما بعدها.

بقدر وافر من الوثائق النافعة في الاستدلال على الحياة الاجتماعية والثقافية في عصره، سواء بالمشرق أو بالمغرب، وبخاصة أنه -رحمه الله- أرسل سجيته في هذا الفصل بلا محاكاة ولا تكلف، فنطق مزاجه بما ينم عن ضميره وخلجات إحساسه في أمثال تلك المواقف. فهو يبدي في تناول الشخصيات وفي وصفها وتحليلها مقدرة فائقة تجعله يحتل مكانة مرموقة مع كبار كتّاب التراجم والطبقات، فغزارة المادة مع التنويع والابتكار في التنقل في نواحي الوصف من الأخلاق الشخصية إلى المواهب الأدبية إلى الحوادث الجارية قد أكدت لنا أهمية هذه القطعة القيّمة من "القانون" والتي هي خلاصة لكتاب قدّر الله أن يضيع في حياة مؤلفه وهو "ترتيب الرحلة في الترغيب إلى الملّة" (¬1). ثم بعد الانتهاء من عرض رحلته إلى المشرق واتصاله بالعلماء والساسة، ينتقل إلى الغرض الثاني من الكتاب وهو المخصص للتوحيد (¬2)، لأنه هو المطلوب الأول من العلم، وبه يُعرف الله سبحانه وتعالى. وبدأ في هذا القسم بمعرفة النفس، وذكر المرآة لأنها تعكس كل ما يقع عليها، ولها اتصال بالنفس الإنسانية من حيث تجلي الصور فيها، وتجلي الحقائق للنفس بما تلقي إليها الحواس من المعاني (¬3). وذكر حقيقة النوم (¬4)، وتحدث عن المثل "وهو باب في التأويل عظيم، وقانون إلى المعرفة مستقيم" (¬5) وذات الله سبحانه منزهة عن الأمثال. وقدم أنموذجاً لتفسير الآية: 39 من سورة النور، على القانون (¬6). ¬

_ (¬1) هذا ما صرّح به ابن العربي في القانون. (¬2) صفحة: 454. (¬3) صفحة: 468. (¬4) صفحة: 469. (¬5) صفحة: 473. (¬6) صفحة: 475.

وفي ذكر "تمام الوصول إلى المقصود من معرفة النفس والرب" (¬1) تحدث عن النفس وتفاصيلها، وأحوالها وصفاتها وأصول فضائل النفس الأربعة. ثم اعتذر للعلماء في عدولهم عن أدلة المنقول إلى أدلة العقول (¬2). ثم تعرض للباطن من علوم القرآن وحذر مما وقع فيه الباطنية من سخافات وكفر بواح (¬3)، وتطرق إلى الحروف المقطعة في أوائل السور واعتبرها من علم الباطن (¬4). ثم ربط خلق الكلام وتسخير القلم بالدلالة على التوحيد، حيث إن الله سبحانه وتعالى "نصب المخلوقات عليه دليلاً، كما وضع الحروف والأصوات دليلاً على كلامه، وكما أن ذاته العلية مخبوءة تحت أستار الدلائل، فكذلك كلامه العظيم مخبوء تحت أستار العبارات، فلا ينال بالعبارات من كلامه إلاَّ ما ينال بالدلائل من ذاته" (¬5). ثم مثّل للتفسير الإشاري بتفسير قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وكنا نود لو نزه "قانونه" هذا عن كل ما عسى أن يشينه من صرف لفظ عن ظاهره، أو تفسير آية بطريق الإشارة، وأعتقد أن ابن العربي بِإدْخَالِهِ هذه الأفكار في كتابه قد خرج عن منهجه المعتاد والذي يحث فيه دَوْماً على الالتزام بمنهج السلف والابتعاد عن مناهج الباطنية والإسماعيلية وأضرابهم من الزنادقة والملاحدة، على أننا لو فرضنا أن هذه الهنات كانت ناشئة عن تقليد لشيوخه أو تساهلات رآها غير ذات بال، فلا ينبغي أن يقلل هذا الخروج الاختياري عن منهجه من قيمة ¬

_ (¬1) صفحة: 480. (¬2) صفحة: 501. (¬3) صفحة: 518. (¬4) صفحة: 527. (¬5) صفحة: 536.

"قانون التأويل" وما أقل الكتب التي لقيت تقديراً وعناية وحظوة، كذلك التقدير وتلك العناية والحظوة التي لقيها كتابه عند العلماء، سواء كان ذلك بالتنويه بشأن الكتاب، أو بنقده والرد عليه، أو الاقتباس منه والاعتماد على ما ورد فيه من معلومات. فابن العربي مع الأخطاء التي يمكن أن نأخذها عليه، خليق بالإِعجاب جدير بالإعظام، لا ينبغي أن تقف هذه الهنات دون تقديره والرفع من شأنه. أعود إلى موضوعنا فأقول: وقسّم ابن العربي -على عادته في باقي كتبه - علوم القرآن إلى ثلاثة أقسام: توحيد، أحكام، تذكير، ونبه على كل ما يدخل في كل قسم من هذه الأقسام، وأتى بآيات ركب عليها هذا التقسيم كتطبيق لما ذهب إليه (¬1). ثم أتى بخلاصة لاستيفاء الغرض من تقسيم العلوم والمعلوم، فعلوم القرآن ثلاثة، والمعلومات أربع: النفس، الرب، العمل النافع والضار، وهنا تخلّص للكلام عن العمل، وأكد أن العلم قبل العمل، وناقش الصوفية والفلاسفة في قولهم بالكشف فأجاد وأفاد رحمه الله (¬2). وابن العربي عندما ينتقد الصوفية لم يأب صحة الزهد والتزكية، ولم ينكر مكان الحاجة إليهما في الطريق إلى الله عز وجل، وإنما أنكر أشياء ابتدعوها، وفضول أقوال تكلفوها، ومسائل عويصة تجشموا الفكر فيها، فأصبح صنيعهم هذا أشبه بأن يكون صدّاً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه، لذلك نرى ابن العربي يُغْلظ القول في الصوفية والفلاسفة معاً، وينكر القول بالكشف جملة وتفصيلاً، وفي اعتقادي أن ابن العربي لم يبلغ في إنكاره لمذهب الكشف والإشراق ما بلغه، إلاَّ لأن الخطأ فيه عظيم، يفضي بصاحبه إلى أن ينكر النبوة ويبطل الرسالة. ثم تحدث - رحمه الله - عن آية التوحيد {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا ¬

_ (¬1) صفحة: 542. (¬2) صفحة: 555.

هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] (¬1) وأورد فيها اثنين وعشرين سؤالاً وأجاب عليها. وهنا تستوقفنا طريقة المؤلف في المسائل التطبيقية التي عرض فيها لآيات الذكر الحكيم ونحن نجيل النظر في الآيات التي فسرها، ذلك أنه سلك في معالجة الموضوع الذي يريد تفهيمه للقارىء طريقة "المسائل" فكان يأتي بالآية ويطرح حولها جملة من الأسئلة، تليها إجابات عنها، وهو أسلوب تعليمي سديد، ويستفيد المؤلف من ثقافته المتنوعة في هذا الميدان، فينوع الإجابات على أنواع عديدة من المعارف والفنون. ثم تكلّم عن النوع الثاني وهو علم التذكير، وشرح فيه سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}. وتطبيقاً لكل القوانين التي ذكرها في علوم القرآن، بسط ابن العربي أمام طلابه ومريديه سورة تجمع كل تلك العلوم، وهي "الفاتحة" فوضع مخططاً محكماً لها قصد تأويلها على القانون (¬2)، وهو منهج تعليمي يعتمد على التطبيق العملي. فالغاية من هذه الطريقة تعليمية، تقود الطالب إذا وعى -بعد النظر في الموضوع- إلى التمرس بتفسير القرآن وقياس الأشباه بنظائرها. ثم بعد ذلك تحدث - رحمه الله - عن نظريته التربوية المشهورة (¬3)، وأثار مشكلة العقل والشرع، وقد تكفلنا ببيان الرأي الحق في المسألة في دراستنا لأهم الجوانب العقدية الواردة بالقانون. وابن العربي ممن يستغلون الحكاية في المجال التعليمي والتربوي، فنراه لا يُخفي على طلابه ما حدث له مع شيخه الغزالي (¬4)، بل نعتبر مقدمة "القانون" كلها خدمة لهذا الهدف التربوي النبيل. ¬

_ (¬1) من صفحة: 597. (¬2) صفحة: 642. (¬3) صفحة: 646. (¬4) صفحة: 648.

ثم عنون لفصل من أواخر فصول كتابه بـ "خاتمة الكتاب" وهدفه من هذه الخاتمة تربية أرواح طلابه ومريديه وتنقية باطنهم، فلم يعد يخاطب عقولهم، بل أصبح يخاطب أرواحهم ووجدانهم (¬1). يقول رحمه الله: "فإذا وصلتم إلى هذا المقام من اليقين بصحة الاعتقاد .. فقد خرجتم عن عهدة الجهل التي لزمتكم في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وتعين عليكم الخروج من عهدة الخدمة بشكر النعمة فيما أسدى إليكم، وأنعم به عليكم، حسبما توجه في التكليف إليكم .. " (¬2). ثم عاد فتكلم عن المحكم والمتشابه، وقد تكفلنا ببيان رأي أهل السنة والجماعة في دراستنا لأهم المسائل العقدية الواردة في "القانون". ثم تحدث عن تيسير العمل بالعلم (¬3)، وختم الكتاب بتعديد الكبائر وقسمتها على الجوارح (¬4). ودعا إلى ذكر الله بما يصح من الأدعية، لأن هناك طوائف من المتصوفة انحرفت عن هذا القصد، يقول رحمه الله: "فإن الشيطان إذا لم يقدر عن صرف العبد عن ذكر الله، أقبل عليه، فجعل يشغله بالأذكار والأدعية التي لا تصحّ، فيربح معه العدول عن صحيح الحديث إلى سقيمه" (¬5). ثم أوصى - رحمه الله - طلابه بالتقيد بالسنة الصحيحة وقال: "فإذا التزمت هذا كلّه -وهو يسير بتوفيق الله وتيسيره- فتح الله لك أبواب الرحمة، وجرت على لسانك ينابيع الحكمة، وقرب لك امتثال ما بقي عليك من ¬

_ (¬1) استفدت في هذا العرض من رسالة الأستاذ مصطفى صغيري: 1/ 134. (¬2) صفحة: 661. (¬3) صفحة: 669. (¬4) صفحة: 677. (¬5) صفحة: 679.

6 - مصادر الكتاب

المأمورات، ويسر عليك اجتناب سائر المنهيات ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين" (¬1). قلت: تلك هي الصورة التي انتظمت موضوع كتاب "قانون التأويل" وجعلته بهذه الهيئة بناء عضوياً متكامل الأجزاء، يفضي كل قسم منه إلى الذي يليه، ويرتبط كل عضو منه بالذي يحاذيه، وقد تخيّر -رحمه الله- المواضيع المهمة -في نظره- فأوردها على نحو يتلاءم مع الصورة التي رسمها، والموضوع المتشعب الذي تناوله بالتحليل. 6 - مصادر الكتاب: كان المؤلف في بعض الأحيان- يعتمد المنهج الانتقائي، فيستمد مادّته من عدة مصادر، ثم يلائم بين أجزائها بدقة تجعل القارئ يحس بمدى ما يبذله في سبيل الانتقاء والدقة معاً من جهد. وباستعراض موضوعات الكتاب نجده قد استفاد من عدة مصادر أهمها: 1 - "حقائق التفسير" للسُّلَمِي (¬2). 2 - "اللطائف والإشارات" للقُشَيْرِي (¬3). 3 - كتب الغزالي بعامة كالإِحياء، ومقاصد الفلاسفة، ومعيار العلم وغيرها (¬4). 4 - كتب الحديث بعامة، كجامع عبد الرزاق الصَّنْعَاني وموطأ مالك وغيرهما. ¬

_ (¬1) صفحة: 679. (¬2) وقد نقل عنه أغلب ما فسره عن طريق الإشارة. (¬3) طريقة المؤلف في الاستفادة من هذا التفسير عجيبة غريبة، فهو ينقل منه أحياناً بالنص دون الإشارة إليه، وأحياناً ينقل مع تصرف واختصار، وقد نبهنا على بعضها في الهوامش. (¬4) قد نبهنا على اعتماده عليها في الهوامش.

7 - قيمة الكتاب

وحسبنا هذه الكتب والمصادر مثالاً، ويمكن للقارىء أن يقف على مواطن نقله عنها أو استفادته منها خلال قراءته الكتاب، وقد نبهنا على بعضها في الهوامش. وتبقى أغلب أقسام الكتاب هي من بنات فكره وعصارة ذهنه وتأملاته، إلى جانب -كما سبق أن أوضحت- ما قرأه وصاغه في أسلوبه الخاص من آراء العلماء السابقين وابن العربي لا يأخذ آراء الأعلام من العلماء سهلةً موفورةَ الكرامة، بل يناقش قائلها مناقشة قوامها النصفة والعدل الذي لا يبالي على من وجبت عليه الحجة. 7 - قيمة الكتاب: إن قيمة "قانون التأويل" متعددة الجوانب، فأولها أنه يكشف عن وجه جديد من شخصية ابن العربي الفقيه صاحب كتاب "الأحكام" فهو في القانون مربي متكلم نظار، صاحب آراء في التربية والسلوك والكلام. وثاني تلك الجوانب، الجانب الأدبي من تعبير رفيع وأداء راق، فالكتاب يمتاز بأسلوب رصين مشرق، ولفظ جزل مختار، خال من روح التكلف الذي يجني أحياناً على الأسلوب والمعنى، كما يلاحظ أن له براعة خاصة في تخيّر الألفاظ وإبراز المعاني، لا يجاريه فيها كثير من كبار الكتّاب، كما له مقدرة فائقة على تخير أساليب المدح والذم، ومديحه غالباً من النوع الرفيع الذي لا يشوبه التنزل الوضيع (¬1)، بل تطبعه دائماً نزعة من الاعتزاز والكرامة، وهنا أود أن أشير إلى أمر طالما شعرت به وأنا أطالع كتب ابن العربي، وهو مبالغته -أحياناً- في الاعتزاز بكرامته وعلو منزلته، ويذهب في ذلك إلى حدود العجب والكبر، وهو لا يحجم أحياناً عن أن يذكرنا بأنه ¬

_ (¬1) وابن العربي في مجال القدح هجاء من الطراز الأول، وهو في ذلك يلجأ أحياناً إلى الأساليب المضطرمة والعبارات القاذفة العنيفة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في الأحكام والسراج والعواصم.

8 - وصف المخطوطات المعتمدة في التحقيق

أعظم شخصيات عصره في العلم والأدب (¬1). وقد لاحظت أنا أسلوبه في "القانون" بخاصة لا يخلو -في بعض الأحيان- من الضعف والتفكك، وهذا قليل جداً، وهو ناتج -في تقديري- عن طريقة التأليف المتبعة عند ابن العربي وهي الإملاء، كما أن طابع النقول التي تحكمت في عباراته قد حالت دون أحكام صياغتها على شكل مطرد في سائر أقسام الكتاب. وثالث هذه الجوانب، الجانب الثقافي، وأعني بذلك أن الكتاب يعكس لنا ثقافة القرن السادس، وما كان يسودها من قيم وآراء، سواء في النظر والاعتقاد، أو الذوق الأدبي وطرق التعبير. ورابع هذه الجوانب الجانب الصوفي، إذ يعكس لنا هذا الكتاب بداية دخول التفسير الإشاري إلى مدرسة التفسير بالأندلس، كما يأتي بالجديد حقاً عندما يضع التصوف بإزاء المذاهب الباطنية، ويصف أهله بأنهم غالون، فبفضل هذه المقارنة، تحددت -على الأقل بالنسبة لي- عدة أمور كانت مبهمة حول فترة مبكرة من تاريخ الفكر الإِسلامي بالأندلس. وآخر هذه الجوانب، الجانب الشكلي أو الفني في التأليف، فطريقة ابن العربي في التنسيق بين فروع هذا الموضوع الواسع ومزجها بمعطيات الكلام، وجعلها ضمن بناء عضوي محكم الأجزاء، طريقة بديعة شيّقة لم يُسبق إليها والله أعلم. 8 - وصف المخطوطات المعتمدة في التحقيق: وقد اعتمدت في تحقيق كتاب "قانون التأويل" على أربع مخطوطات هي كالتالي: ¬

_ (¬1) هذه الأحكام التي أوردناها هنا هي نتيجة مطالعاتنا المستمرة في تراث ابن العربي المطبوع والمخطوط.

وصف المخطوطة: "ب"

1 - مخطوطة أحمد بن منصور بـ "إبزو" بالمغرب الأقصى ورمزت لها بحرف "ب". 2 - مخطوطة المرحوم الشيخ عبد الحي الكتاني، والموجودة بالخزانة العامة بالرباط، تحت رقم: 251 ك، ورمزت لها بحرف "ك". 3 - مخطوطة الأستاذ الشيخ محمد المنوني -حفظه الله- ورمزت لها بحرف "م". 4 - مخطوطة مكتبة الحاج سليم آغا بأسكدار بتركيا تحت رقم: 499، ورمزت لها بحرف "أ". وصف المخطوطة: "ب" مكتوبة بخط مغربي متوسط الجودة (¬1)، كتبت عناوينها بخط بارز، خالية من السماع والتمليك والتاريخ، 25 سطراً، من القطع المتوسط، تقع في 98 صفحة. راجعها ناسخها فأثبت بعض التصحيحات في الهامش. ويوجد (ميكروفيلم) لها بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 595. تبتدىء بـ "بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، قال الإِمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي رضي الله عنه: هذه رسالة من المستبصر ... ". وأول عنوان ذكر فيها هو: "ذكر ابتداء طلب العلم". وآخر عنوان هو: "تعديد الكبائر من مجموع الأخبار وقسمتها على الجوارح". وختمت بقول الناسخ: "كمل كتاب قانون التأويل لأبي بكر بن العربي رحمه الله". ¬

_ (¬1) هذا بالنسبة لنا نحن المغاربة، أما بالنسبة للمشارقة فهو خط رديء.

وصف المخطوطة "ك"

ونلاحظ في هذه النسخة بعض البياضات التي نشأت عن الرطوبة، وسجل الناسخ عنوانات لبعض المباحث الفرعية التي أثارت انتباهه وإعجابه. وصف المخطوطة "ك": تقع هذه المخطوطة ضمن مجموع تحت رقم: 251 ك في الخزانة العامة بالرباط، وهي من تركة شيخ شيوخنا عبد الحي الكتاني رحمه الله. وهي مبتورة الأخير، سليمة من الخرم والطمس، كتبت بخط مغربي معتاد خال من الشكل، وميزت فيها العناوين بالخط العريض. تقع في 32 صفحة، تبتدىء صفحاتها ضمن المجموع المشار إليه من 364 وتنتهي في: 396. في كل صفحة (31) سطراً، ويشتمل السطر على (16 - 18) كلمة تقريباً. تبتدىء بـ "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، كتاب فيه رسالة المستبصر تأليف الفقيه الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري رضي الله عنه، قال الإِمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي قدس الله روحه ونوّر ضريحه: هذه رسالة المستبصر ... ". وتنتهي هذه النسخة في أثناء موضوع "ذكر استيفاء الغرض في التقسيم" وآخر جملة وردت هي: "وتبين لك أن معرفة الرب تكون بالعلم" وكتب في الهامش بخط مغاير للناسخ الأصلي: "هذا ما وجدناه في الأم". ويبدو أن ناسخ هذه المخطوطة قد قابلها مرة ثانية على المخطوطة التي وصفها "بالأم" ويتضح ذلك من التصحيحات والتعليقات الوارة في الحواشي، وبالرغم من كل هذا فقد شاع فيها التصحيف والتحريف وسقوط الألفاظ والجمل.

وصف المخطوطة "م"

وصف المخطوطة "م": هذه المخطوطة من مخطوطات خزانة المؤرخ الثبت الأستاذ محمد المنوني -حفظه الله تعالى- تحت رقم 378، وهي مبتورة الأول والأخير. كتبت بخط مغربي في القرن العاشر ظناً، ميزت عنوانات المباحث والمسائل والفوائد والتنبيهات بخط عريض. وتقع في حوالي 40 ورقة كل صفحة (18) سطراً، ويشتمل السطر على حوالي (12) كلمة. يبدأ الموجود من هذه المخطوطة بالعبارة التالية: "عليها كالسيل في الانحدار .. إلخ"، ثم العنوان التالي: "ذكر ابتداء طلب العلم وتنتهي هذه النسخة في أثناء موضوع: "ذكر استيفاء الغرض في التقسيم" وآخر جملة وردت هي: "وتبين لك أن معرفة الرب تكون بالعلم"، وكتب في الهامش بخط دقيق: "هذا ما وجدناه بالأم". ويبدو أن هذه النسخة قد اعتمد ناسخها على نفس الأصل الذي اعتمده ناسخ "ك" إذ أنهما يكادان يتفقان في كل شيء. وصف المخطوطة "أ": وتوجد هذه النسخة بمكتبة الحاج سليم آغا بأسكدار في إستانبول تحت رقم 499، ضمن مجموع (136/ أ-186/ ب) خطها، مشرقي جميل (¬1)، سطورها حوالي (25) سطراً كل سطر يشتمل على (12 - 15) كلمة. كتب في أول صفحة: "كتاب القانون تصنيف الشيخ الإِمام العالم العلامة الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري رضي الله عنه وأرضاه" وفي الصفحة الثانية كتب ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، رب أعن بفضلك وكرمك، قال الشيخ الفقيه الإِمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري رحمة الله عليه: هذه رسالة من المستبصر .. ". ¬

_ (¬1) على ما يبدو لي والله أعلم.

وكتب الناسخ في خاتمة الكتاب: "تم القانون بحمد الله وحسن عونه وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً مؤبداً". وكان الفراغ من نسخ هذه المخطوطة كما جاء في آخرها: "فرغ من نسخه في العشر الأول من شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة غفر الله لمصنفه ولمالكه وكاتبه وقارئه ومستمعه ولجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين". ونقرأ تحت هذه الخاتمة عبارة ختم الوقف وهي: "قد وقف هذا الكتاب المستطاب لوجه الله الملك الوهاب الحاج سليم آغا وشرط بألا يخرج ولا يرهن ومن بدله بعدما سمعه .. الخ". ملاحظة: كما اعتمدت في الصفحة الأولى من المخطوط على نسخة الأستاذ سعيد أعراب بواسطة ما نقله عنها الأستاذ عبد السلام أحمد الكنوني (¬1). وقد وصفها بأنها تقع في 88 ورقة وتشمل على ثلاثين عنواناً. وصدّرها الناسخ بالعبارة التالية: "قال الِإمام أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري قدس الله روحه ونوّر ضريحه: هذه رسالة من المستبصر .. " ولا ذكر لتاريخ النسخ، ويفهم من عبارة الناسخ في ختام النسخة أنه نقلها وجادة عن نسخة أصلية وصفها بأنها "الأم"، قال: "انتهى ما وجدناه من الأم .. ". كما اعتمدت في المقارنة في بعض المواضع من المخطوط على كتاب ابن العربي "واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل" (¬2) نسخة دار الكتب ¬

_ (¬1) في كتابه "المدرسة القرآنية في المغرب من الفتح الإِسلامي إلى ابن عطية": 1/ 249. (ط: مكتبة المعارف- المغرب). (¬2) إذ أن ثمة نصوص متشهابة أوردها ابن العربي في مختلف كتبه.

منهج التحقيق

بالقاهرة رقم: 184 تفسير (¬1)، وقد رمزت إليها "بقانون القاهرة" كما اعتمدت على نسخة مكتبة دير الأسكريال بإسبانيا رقم: 1264 (¬2)، وقد رمزت لها "بمعرفة قانون الأسكريال" أو "قانون الأسكريال" (¬3). منهج التحقيق: تعارف المحققون المعاصرون على خدمة النص بحل إشكالاته والتعريف بأعلامه من رجال ومواضيع، وشرح الغريب من ألفاظه ومصطلحاته، تيسيراً على القارئ لئلا يضطر إلى مراجعة مصادر عديدة وهو يقرأ فيه، ولكن حصل تباين كبير بين المحققين في ضابط التعليق وقدره، فذهب المستشرقون وجماعة من الباحثين العرب والمسلمين إلى الاقتصار على إخراج النص مصححاً مجردًا من كل تعليق، واكتفوا بالإشارة في الحواشي إلى اختلاف النسخ للكتاب الواحد في بعض الألفاظ. وذهبت طائفة أخرى من الباحثين إلى أنه من الواجب زيادة على الإشارة على اختلاف النسخ الخطية- توضيح النص بالهوامش والتعليقات والترجيح بين الآراء، أو تفنيد بعضها. وقد آثرنا أن نتبع في تحقيق كتاب "قانون التأويل" الطريقة الثانية لأسباب توكدت قيمتها عندنا، وآمنا بأهميتها وجدواها، ويدركها كل من اطلع على نص "القانون". ومن هذا المنطلق قمت بخدمة الكتاب بأقصى ما استطعت من قوة، وبما توفر لديّ من الكتب المطبوعة والمخطوطة، فجمعت نسخ الكتاب المبعثرة في خزائن الكتب العالمية، وهذا العمل لم يكن سهلاً ميسوراً، ولما كنت مؤمناً بضرورة مقارنة النص الذي ينقله ابن العربي من غيره، بأصول ¬

_ (¬1) انظر قائمة مؤلفات ابن العربي رقم: 9 من هذا البحث. (¬2) م، ن. (¬3) هذه النسخة اعتمدتها في نقل بعض النصوص المختارة.

الكتب الأصلية، فقد بذلت جهدي وطاقتي للوقوف على هذه الكتب، وقد وُفِّقْتُ في عزو بعض النصوص ولم أُوَفَّق في أخرى. أما سيرتي في العمل فتتلخص في الخطوات التالية: 1 - تقويم النص وإظهاره بأفضل عبارة تتفق مع المعنى ومع مقتضى الأسلوب، وذلك باعتمادي على المنهج الانتقائي المقارن، الذي أثبت فيه ما صح في النسخ الأربع، وأشير إلى القراءات المرجوحة في الهامش، وهذه هي الطريقة المثلى -في نظري- فإذا ما شعر القارئ في بعض المواطن بأن العبارة قلقة واضطر إلى التقدير والترجيح، فيجب حينئذٍ أن يعود إلى الحواشي التي فيها فروق النسخ بالتفصيل، فيختار القارئ لنفسه الوجه الذي يرتضيه، ويعرف المحققون المشتغلون بهذا الفن الصعوبات الكثيرة المتأتية من رداءة خط الناسخ- ناهيك عن الخطوط المغربية التي كتبت بها أغلب النسخ التي اعتمدتها في التحقيق .. كما وردت نصوص المخطوطات الأربع وهي مليئة بفوضى التنقيط وغياب الضوابط، فكم عانينا من كتابة الهمزة ومن ضبط النقاط على الحروف (¬1) متوقفين حائرين معيدين قراءة النص مرات للتثبت من المعنى قبل تثبيت اللفظ، وأسأل الله أن أكون قد وفقت إلى إصلاح بعض الخلل في هذا المضمار، وقد اهتممت بتنقيط النص تنقيطاً مشرقياً عصرياً على الصورة التي نقرأ بها اليوم. إضافة إلى عمل الفواصل وعلامات الاستفهام والتعجب وغير ذلك بما يزيد النص وضوحاً، ولكننا لم نقسم النص مع ذلك إلى فقرات على طريقة بعض المحققين، لأن المؤلف في هذا الكتاب قد قسمه إلى أقسام، وكل قسم تحت عنوان خاص، وفق التصميم الدقيق الذي بناه عليه. 2 - أشرت إلى أرقام الآيات القرآنية الكريمة، وموردها في السور. ¬

_ (¬1) فالناسخون يسهلون الهمزة المكسورة، والساكنة الواقعة بعد كسر فيرسمانها ياء، نحو (يبتيس، مسايل)، كما أنهم يغفلون كتابة الهمزة المتطرفة بعد الألف نحو (أشيا، الأمرا) وربما أسقطوا الألف من بعض الكلمات فلفظ (ثلاثة) مثلاً يرسمونه (ثلثة).

3 - قمت بتخريج ما تمكنت من تخريجه من الأحاديث والأخبار الممكن تخريجها وذلك ببيان مظان الحديث، وربما أشير إلى درجته من حيث الضعف والحسن والصحة، بالاستعانة برجال هذا الفن. 4 - عرّفت بكثير من التراجم الواردة في الكتاب عند أول ورودها في الغالب الأعم، وتركت المعروف المشهور منها، وقصرت تعريفي على الضروري من سيرهم مع ذكر تاريخ الوفاة، خوفاً من التطويل الذي أخشى أن أتهم به، وأحلت على مجموعة مختارة من المصادر والمراجع من غير استقصاء لها. وكرهت أن أحشد عند كل مكان مراجع كثيرة لا ينتفع بها قارئ الكتاب، اقتناعاً مني بأن القدر البسيط من المراجع قد يفيد الطالب والمثقف العادي، أما أهل العلم والتحقيق والتدقيق فهم أقدر مني على استيعاب ما يشاؤون من المراجع، وهم لذلك في غنى عن إدلائي عليهم بكثرة مراجعي وتنوعها. 5 - عرفت بالمغمور من مواضع البلدان. 6 - صححت كثيراً من أخطاء النحو أو أخطاء النسخ الواضحة، ولم أشر -في غالب الأحيان- إليها، وهذه الأخطاء النحوية موجودة في جميع الأصول، وهي من النساخ لا من المؤلف بطبيعة الحال. 7 - تحقيق المسائل العلمية وذلك بأمرين: أ- بيان المراجع المعتمدة في المسألة. ب- بيان رأي السلف في أهم المسائل العقدية الواردة. وكان في الإمكان أن أختصر كثيراً من التعليقات التي علقتها على أصل الكتاب، غير أن الذي بعثني على التبسيط فيها هي توصلي إلى مخطوطات لابن العربي نادرة جمة الفوائد، قد يستبعد الحصول عليها، ولا يؤمل طبعها، منها "سراج المريدين" و"المتوسط" و "معرفة قانون التأويل" وغيرها. وأخيراً، فإنني بذلت جهدي في إخراج النص صحيحاً، ومع ذلك

فالمشتغل بتحقيق المخطوطات القديمة لا يستطيع مهما أوتي من علم وإحاطة وتبصر أن يجزم بكمال النص الذي حققه، وإني لآمل أن أجد من آراء الزملاء والأساتذة الدارسين ممن ينظرون في هذا الكتاب؛ ما يعين على استكمال أسباب التحقيق، من تقويم معوج، أو تصحيح خطأ أو تلافي نقص، وفوق كل ذي علم عليم. المحقق

كتاب "قَانون التَّأويل"

[مقدمة الكتاب]

بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن بفضلك وكرمك قال الشيخ الفقيه الإِمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري رحمة الله عليه: هذه رسالة من المستبصر بنقصه، المستقصر لنفسه، المضطرِّ إلى ربه، المستغفر لذنبه، إلى جميع الطالبين، والراغبين، والسَّالكين سبيل المهتدين. إلى من صدقت إليه رغبته، واستمرت عليه عزيمته في تحرير مجموع في علوم القرآن، يكون مفتاحاً للبيان، ولج (¬1) عند التوقف عن ذلك في العتاب (¬2)، وطمس في وجه الأعتاب (¬3)، وأغلق إلى المعذرة كلّ باب. ¬

_ (¬1) لجّ في الأمر: تمادى عليه وأبى الانصراف عنه. (¬2) العتاب جمع عتبة، وهي أسكفة الباب التي توطأ. (¬3) الأعتاب هو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب.

واحتج بما شاهد من كلامي عليه إبّان كنت أليح (¬1) إلى من حضر من المسلمين بأنوار الفجر في مجالس الذكر. وجذب مع نفسه جماعة لجُّوا بلجاجه، وعجُّوا (¬2) بعجاجه .. وصمَّمُوا على أن العذر لا يلوح في هذا، لأن تلك الأقوال التي كنا نسمع، لو تقيدت في قراطيس، لكانت رحضاً لو ضر الجهالة، وحسماً لداء الحسادة، وَبَهْتاً لمن أحظر عناده، ولعمّت منفعتها من تقبلها وردّها، ومثلها كالغيث إذا همع (¬3) أصاب الأباطح والرياض، وصاب (¬4) على الحدائق والغياض. فيكون منها طائفة تمرّ عليها كالسيل في الانحدار، وأخرى تقبلته فحفظته على من يرد مع مرور الأعصار، وثالثة صرفته بوجوه التفطن والاستبصار، ورابعة جمعت فيه بين العلم به والعمل في الأذكار. قالوا: ولو لم نشاهد إيرادك فيه لما يعجز أهل الوقت، ويوجب عليهم في ترك الاعتراف لك بالمقت، ولا سمعنا منك تلك الدرر، ¬

_ (¬1) أبدى. (¬2) من العجيج وهو رفع الصوت والصياح. (¬3) سال. (¬4) نزل.

والجواهر منظومة في سلك الأبداد (¬1)، قاضية لك بالانفراد في العلم والاستبداد، وبالغة من البيان إلى غاية المراد، لكنا نغبر في وجه الاعتراض عليك، ونلقي بمقاليد القول إليك .. فأما وقد كان من بيانك ما كان، وبان للخلق منه ما بان، فلا يسعك والحالة هذه إلاَّ أن تقوم بهذا الحقّ المتعيّن عَلَيْكَ، أو تخرج عن ذلك بعذر يُقْبِلُ وجه القبول إليك (¬2): فقلت: معاشر المريدين، أبلعوني ريقي، تعرفوا تحقيقي، وخذوا خاتمة كلامي يتبين لكم الفصل بين مرامكم ومرامي، واجمعوا ساعة على إسعادي، فربما ساعدتموني بَعْدُ على مرادي. إنَّ الله سبحانه -له الحمد وله الشكر، وبيده الخير والشر (¬3)، ومنه ¬

_ (¬1) جمع بدّ وهو المثل. (¬2) هكذا الوارد في الأصول والعبارة قلقة. (¬3) أفادني شيخي الدكتور سليمان دنيا -حفظه الله- بالتعليق التالي: هذا التعبير غريب؛ لأن الوارد هو ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " ... والخير كله في يدك، والشر ليس إليك ... ". قلت: وقد نَبَّهَ الشاطبي في الموافقات: 2/ 105 على هذا المعنى فقال: ... (ينبغي) الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشَرِّ إلى الله تعالى، وإن كان هو الخالق لكُل شيء، كما قال بعد قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ .... إلي قوله ....... بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل =

ذكر ابتداء طلب العلم

النفع والضر -يَسَّرَ لي طلب العلم على الوجه الذي كنا رتَّبنا بيانه في كتاب "ترتيب الرحلة للترغيب في الملة" (¬1)، فلما شذّ في معرض المقادير، واستلبته الحوادث بما سَبَقَ في علم الله من التدبير، رأينا أنْ نُجَدِّدَ مَا سَلِمَ في الرقاع الموجودة، مع ما حضر في الذكر، ليكون عنواناً لما جرى، وتنبيهاً على فضل من تَأوَّبَ، وَسِرّاً وحجّة لمن قال: قد تعدى من تمنّى أن يكون مثل من تعنى (¬2)، ونقرن به من نُكَتِ المعارف، ما يقوم به مائلُ العذر، ويتضح منه ما استبهم لكم من الأمر، ونشير إلى الممكن من "قانون في التأويل لعلوم التنزيل" يرشد المبتدىء إلى ضالة الطِّلاب، ويفتح على المنتهي ما أُرْتِجَ (¬3) من الأبواب. ذكر ابتداء طلب العلم عجباً لقوم يقادون بالحَكَمَةِ (¬4) إلى الحِكْمَةِ، وإلى العلم بالسلاسل، وآخرين مهمِلِينَ بالعدل على الاسترسال في الشهوات، والتخلِّي في غمرة ¬

_ = عمران: 26] ولم يقل بيدك الخير والشر، وإن كان قد ذكر القسمين معاً؛ لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر، نعم قال في أثره: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} تنبيهاً في الجملة على أن الجميع خلقه ... ". (¬1) انظر عن هذا الكتاب دراستنا لمؤلفات ابن العربي، رقم: 56. (¬2) لم أعثر على هذا المثل في كتب الأمثال التي استطعت الوقوف عليها. (¬3) ما أغلق إغلاقاً وثيقاً. (¬4) ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه.

البطالات، ولما خلق الِإنسان من نَتَنٍ وَقَذَرٍ بسابق القَدَرِ، ثم حُلِّي بعقل وسمع وبصر، كانت الرذيلة صفة لازمة، وعادت الفضيلة مكتسبة، وقد خلق على الفطرة، وصار من أصل يكون عليه، وفرع يعاد إليه. وكان من حسن قضاء الله أني كنت في عنفوان الشباب وريان (¬1) الحداثة، وعند ريعان (¬2) النشأة، رتب لي أبي (¬3) - رحمه الله - معلماً لكتاب الله، حتى حذقت (¬4) القرآن في العام التاسع، ثم قَرَنَ بي ثلاثةً من المعلمين، أحدهم هو لضبط القرآن بأحرفه السبعة التي جمعها الله فيه، وَنَبَّهَ الصادق - صلى الله عليه وسلم - عليها في قوله: "أُنْزِلَ القرآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرفٍ" (¬5) في تفصيل فيها. ¬

_ (¬1) غلبة. (¬2) أول. (¬3) هو الوزير أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي (ت: 493)، وقد سبقت ترجمته صفحة (75) من الدراسة. (¬4) أي مهر فيه. (¬5) روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة في أغلب كتب السنة، منها الإِمام أحمد في مسنده: رقم 158، 277، 278 ... (ط: شاكر) والبخاري في عدة مواضع منها في فضائل القرآن: 6/ 338، ومسلم في صلاة المسافرين: 1/ 301، ومالك في الموطأ في كتاب القرآن: 1/ 201، وأبو داود في الصلاة رقم: 1475، والترمذي في القراءات رقم: 2944، والنسائي في الصلاة: 2/ 150، وقد أفرده ابن العربي بالتأليف في رسالة خاصة.

والثاني لعلم العربية. والثالث للتدريب في الحُسْبَانِ. فلم يأت على ابتداء الأشد في العام السادس عشر من العدد، إلا وأنا قد قرأت من أحرف القرآن نحواً من عشرة، بما يتبعها من إدغام، وإظهار، وقصر، ومد، وتخفيف، وشد، وتحريك، وتسكين، وحذف، وتتميم، وترقيق، وتفخيم. وقد جمعت من العربية فنوناً، وتصرفت فيها تمريناً، منها كتاب "الإيضاح" للفارسي (¬1)، والجمل (¬2)، وكتاب النّحاس (¬3)، و "الأصول" ¬

_ (¬1) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفَارِسِي، أحد أئمة اللغة، ولد في "فسا" ببلاد الفرس، اتهم بالاعتزال والتشيع والله أعلم بحاله، توفي سنة: 377، أما كتابه الإيضاح فقد طبع بمصر سنة 1969 بتحقيق الأستاذ حسن شاذلي فرهود. طبقات النحويين للزبيدي: 120، إنباه الرواة للقفطي: 1/ 273 - 275، معجم الأدباء لياقوت الحموي: 7/ 232 - 261، وانظر كتاب "أبو علي الفارِسِي حياته وآثاره" لعبد الفتّاح شَلَبي. (¬2) كتاب الجُمَل للزجَّاجِيّ وهو عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي، شيخ العربية في عصره توفي في طَبَرِيَّةَ سنة: 337. وقد اهتم الأندلسيون بكتاب "الجُمَل" وكتبوا عليه عدة شروح، انظر: تاريخ العلماء النحويين للتنوخي: 36، طبقات النحويين للزبيدي: 119، نزهة الألباء لابن الأنباري: 206، إنباه الرواة للقفطي: 2/ 160، وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 136. (¬3) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، مفسر ونحوي ولغوي، أخذ عن الأخفش =

لابن السَّرَّاج (¬1)، والدُّرَيْوَد (¬2) وسمعت كتاب الثُّمَالِي (¬3)، وكتاب الصناعة الأصلي الذي أنهى الخليل (¬4) إلى سيبويه (¬5) تصنيفه، ثم تولى سيبويه ¬

_ = الصغير وغيره، وروى الحديث عن النَّسائي، ولد وتوفي بمصر سنة: 338، وله مصنفات كثيرة منها شرح أبيات سيبويه، ولعل هذا الكتاب هو المعني عند ابن العربي. انظر: إنباه الرواة للقفطي: 1/ 101، وفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 21 (ط: محيي الدين عبد الحميد) شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 2/ 346. (¬1) هو أبو بكر محمد بن السَّري النحويّ البغدادي، المجمع على فضله ونُبله وجلالة قدره في النحو والأدب، توفي ببغداد سنة: 316، ولكتابه "الأصول" منزلة خاصة في نفوس النحاة وفي تاريخ النحو العربي، وذلك لأنه جمع واختصر فيه اصول العربية، وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب حتى قيل فيه: ما زال النحو مجنوناً حتى عقله ابن السَّرَّاج بأصوله. وطبع الجزء الأول منه في بغداد سنة: 1973 بتحقيق عبد الحسين الفتلي، انظر: طبقات النحويين للزبيدي: 120، إنباه الرواة للقفطي 3/ 145، نزهة الألبَّاء: 312 معجم الأدباء: 18/ 198، سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 483. (¬2) هو عبد الله بن سليمان المكفوف من أهل قرطبة يقال: "دَرْوَد"، و "دُرَيْوَد" على التصغير، كان من أهل العلم بالعربية والآداب، شاعراً، له كتاب فى العربية هو الذي يعنيه ابن العربي توفي سنة 325. انظر: التكملة للمراكشي: 2/ 778 رقم 1910. (¬3) الثُّمَالِي هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزْدِي المعروف بالمُبَرد أديب نحوي لغوي، ولد بالبصرة وتوفي ببغداد سنة: 285، وكتابه المشار إليه هو "المقْتَضَب" فيما أرجح، انظر طبقات النحويين للزبيدي: 108، نزهة الألِباء: 279، معجم الأدباء: 19/ 111. (¬4) هو الخليل بن أحمد الفَرَاهِيدِي، أبو عبد الرحمن: من أئمة اللغة والأدب وأول من استخرج العروض وَحَصَّنَ به أشعار العرب، توفي بالبصرة سنة: 170. الفهرست لابن النديم: 48 إنباه الرواة للقفطي: 1/ 341، نزهة الألِبَاء للأنباري: 54، معجم الأدباء: 11/ 72 وحول كتاب الصناعة الأصلي الذي أنهاه إلى سيبويه انظر مقدمة الدكتور عبد الله درويش لكتاب العين: 7 - 49 (ط: العاني- بغداد 1967). (¬5) هو عمرو بن عثمان بن قنْبَر، أبو بشر، الملقب بِسِيبَويه، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو وصنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" مطبوع، وتوفي سنة: 180. إنباه الرواة للقفطي: 2/ 346، نزهة الألبّاء للأنباري: 71، معجم الأدباء: 16/ 114.

نظمه وترتيبه، وقرأت من الأشعار جملة، منها الستة (¬1)، وشعر الطَّائِي (¬2)، والجُعَفِيّ (¬3)، وكثيراً من أشعار العرب والمُحْدَثِينَ. وقرأت في اللغة كتاب ثَعْلَب (¬4)، و "إصلاح المنطق" (¬5) و"الأمالي" (¬6) وغيرها. وسمعت جملة من الحديث على المشيخة. وقرأت علم الحسبان: المعاملات، والجبر، والفرائض عملاً، ثم كتاب ¬

_ (¬1) الأشعار الستة: شعر امرىء القيس والنابغة وعلقمة وعنترة وزهير وطرفة، وقد صنع دواوينهم الأصمعي. ورواها عنه أبو حاتم السجستاني، ونقلها أبو علي القالي إلى الأندلس (انظر فهرست ابن النديم 388) وقد شرح هذه الأشعار عدد كبير من العلماء منهم الأعلم الشنْتَمَرِي (ت: 476) انظر: فؤاد سزكين: تاريخ التراث 2/ 109 (ط: الألمانية). (¬2) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، شاعر العصر، كان نصرانياً وأسلم، مدح الخلفاء والكبراء وشعره في الذروة، له ديوان مطبوع. توفي سنة: 231. انظر: ابن النديم: الفهرست: 190، الخطيب: تاريخ بغداد: 8/ 248، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 2/ 11، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 11/ 63، البغدادي: خزانة الأدب: 1/ 172. (¬3) هو أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجُعَفِي، من أعظم الشعراء الإِسلاميين، ولد بالكوفة سنة 303، قتل سنة 354، وله ديوان شعر مطبوع، الفهرست لابن النديم: 195 نزهة الألباء: 366، وانظر الدراسة النقدية الممتازة لأستاذنا السيد محمود محمد شاكر عن المتنبي (ط: المدني القاهرة: 76). (¬4) هو أبو العباس أحمد بن يحيى الشيْبَاني، إمام الكوفيين في النحو واللغة كان راوية للشعر محدثاً. توفي ببغداد سنة: 291، والكِتَاب الذي يعنيه ابن العربي هو "الفصيح" مطبوع. الفهرست لابن النديم: 80، إنباه الرواة: 1/ 138، معجم الأدباء: 5/ 102. (¬5) إصلاح المنطق مطبوع بتحقيق أحمد محمد شاكر، وهو لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن السكيت، إمام في اللغة والأدب، قتل ببغداد سنة 244، الفهرست لابن النديم: 79، نزهة الألباء لابن الأنباري 238 ومقال الدكتور محمد بن أبي شَنَب في دائرة المعارف الإِسلامية: 1/ 200. (¬6) الأمالي تنصرف إلى كتب كثيرة ولعل المقصود هنا أمالي أبي علي القالي (ت: 356) وانظر ترجمته في: بغية الملتمس للضبي: 216، إنباه الرواة: 1/

إقْلِيدِس (¬1) وما يليه إلى الشَّكْلِ القَطَّاعِ (¬2)، وعدلت بالأزْيَاجِ الثلاثة (¬3)، ونظرت في الأُسْطُرْلَابِ (¬4)، وفي مسقط النقطة ونحوه. يتعاقب على هؤلاء المعلمون من صلاة الصبح إلى أذان العصر، ثم ينصرفون عَنِّي، وآخذ في الراحَةِ إلى صبح اليوم الثاني، فلا تتركني نفسي فارغاً من مطالعة، أو مذاكرة، أو تعليق فائدة، وأنا بغرارة الشباب أجمع من هذه الجُمَلِ ما يَجْمُلُ وما لا يجمل، والقَدَرُ يخبِّؤُها عندي للانتفاع بها في الرد على الملحدين، والتمهيد لأصول الدين. ثم حالت هذه الحالة الخاصة بالاستحالة العامة عند دخول المرابطين ¬

_ (¬1) من أكبر الشخصيات اليونانية في مجال الرياضيات لا سيما الهندسة (ظهر حوالي سنة 300 ق. م) وإليه تُعْزَى الهندسة الإقْلِيدِية، وكتابه المشار إليه هو: "كتاب الأصول" انظر: الفهرست لابن النديم: 325. (¬2) الشكْلُ القَطاع: قطعة في دائرة رأسها إما على مركزها وإما على محيطها (مفاتيح العلوم للخوارزمي: 120 (ط: القاهرة 1342). (¬3) لم أجد ما يساعد على تحديد هذه الأزياج ونسبتها إلى مؤلفيها فقد دخلت الأندلس أزياج كثيرة، ووضع الأندلسيون أزياجاً أخرى منها: زيج ابن السمْحِ الذي قال فيه ابن حزم: "سمعت ممن أثق بعقله ودينه من أهل العلم أنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج ابن السمح"- رسالة فضل الأندلس لابن حزم 2/ 185 وانظر: طبقات الأمم لصاعد: 70 (تحقيق شيخو بيروت 1912)، والزيج هو صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته، يعرف به موضع الكواكب في أفلاكها بحسبان حركاتها على وفق قوانين تستخرج من كتب الهيئة- انظر مقدمة ابن خلدون: 1/ 907. (¬4) الأسْطرْلَاب معناه مقياس النجوم وهو آلة ابتدعها اليونانيون. للتوسع انظر: مفاتيح العلوم للخوارزمي: 134 (ط: القاهرة: 1342) كتاب التفهيم لصناعة التنجيم لأبي ريحان البيروني: 194 (ط: لندن: 1934)، كتاب الأسطرلاب لكوشْيَار بن لَبَّان- مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس (رقم 2487 عربي) وقد عرفه كوشيار فقال: الأسطرلاب كلمة يونانية أشهر ما قيل في معناها أنها ميزان الشمس.

ذكر الرحلة في طلب العلم

بلدنا سنة أربع وثمانين وأربعمئة (¬1)، ووقع علينا من تلك الحوادث ما كان مدة أسفَّ (¬2) فوقنا، وصاب بأرضنا شؤبوب فتنة يا طال ما دارت سحابة بنا، فانصدع الالتئام، وتعدد ذلك النظام، وكان لنا خيرةً وللِإسلام، ولم يكن بأرضنا المُقَام. ذكر الرحلة في طلب العلم فدعت الضرورة إلى الرحلة، فخرجنا والأعداء يشمتون بنا، وآيات القرآن تَنْزعُ لنا، وفي علم الباري جلت قدرته أنه ما مر عَلَيّ يوم من الدهر كان أعجبَ عندي من يوم خروجي من بلدي، ذاهباً إلى ربي، ولقد كنت مع غزارة السبيبة (¬3)، ونضارة الشبيبة، أحْرصُ على طلب العلم في الآفاق، وأتَمَنَّى لَهُ حَالَ الصَّفَّاقِ الأفَّاقِ (¬4)، وأرى أن التمكن من ذلك في جنب ذهاب الجاه والمال، وبُعْدِ الأهل بتغير الحال، ربح في التجارة، ونُجح في المطلب. وكان الباعث على هذا التشبث -مع هول الأمر- همة لزمت، وعزمة لجمت (¬5)، ساقتها رحمة سبقت. ¬

_ (¬1) كان دخول المرابطين للعاصمة العبّادية "إشبيلية" يوم الأحد 20 رجب: 484 علي يد القائد الكبير الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني الذي عقد له يوسف بن تاشفين على الإمارة بسبتة. انظر: تاريخ ابن خلدون 6/ 385 والمعجب للمراكشي: 140. (¬2) أي دَنَا. (¬3) السبيب هو شعر الناصية أو الخصلة من الشعر. (¬4) أي يتمنى حال من يضرب آفاق الأرض مكتسباً للعلم والمعرفة، والصفات هو كثير الأسفار، وقيل الصفيق والأفق متقاربان، انظر: ابن الأثير: منال الطالب: 124. (¬5) أي عقد العزم.

ولقد كنت يوماً مع بعض المعلمين، فجلس إلينا أبي -رحمة الله عليه- يطالع ما انتهى إليه علمي في لحظة سرقها من زمانه مع عظيم أشغاله، وجلس بجلوسه من حضر من قاصديه، فدخل إلينا أحد السماسرة وعلى يديه رِزْمَةَ كُتُب، فَحَلَّ شِنَاقَهَا (¬1) وأرسل وِثَاقَهَا، فَإذَا بها من تأليف السِّمْنَانِيّ (¬2) شَيْخِ البَاجِيّ (¬3). فسمعت جميعهم يقولون: هذه كتب عظيمة، وعلوم جليلة، جلبها الباجيّ من المشرق، فصدعت هذه الكلمة كبدي، وقرعت خلدي، وجعلوا يوردون في ذكره ويصدرون، ويَحْكُون أن فقهاء بلادِنا لا يفهمون عنه ولا يعقلون، وناهيك من أمة يجلب إليها هذا القدر الطفيف، فلا يكون منهم أحد يضاف إليه، إلاَّ بصفة العاجز الضعيف، ونذرت في نفسي طية، لئن ملكت أمري لأهاجرن إلى هذه المقامات، ¬

_ (¬1) الشِّنَاقُ هو الخيط الذي تشد به الرزمة. (¬2) هو القاضي العلامة أبو جعفر أحمد بن محمد السَّمْنَانِي، كان مقدم الأشعرية في وقته، شنع عليه ابن حزم كعادته في الانتقاص من الأشاعرة. له تصانيف مفيدة في الفقه والكلام، توفي رحمه الله عام: 444 انظر: الخطيب: تاريخ بغداد: 4/ 382 ابن الجوزي: المنتظم: 8/ 287، ابن عساكر: تبيين كذب المفتري: 259، الصفدي: نكت الهميان: 237، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 18/ 304. (¬3) هو الإِمام الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف التُّجيبِيّ الباجي، يعتبر من الذين جددوا مناهج البحث وطرق التفكير في الأندلس، له تصانيف كثيرة في الفقه والكلام والزهد. توفي رحمه الله سنة: 474. انظر: ابن خاقان: قلائد العقيان: 215، القاضي عياض: ترتيب المدارك: 7/ 117 (ط: الرباط)، ابن بشكوال: الصلة: 1/ 200، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 18/ 535.

ولأفدن على أولاء الرجالات، وَلأتَمَرَّسنَّ بما لديهم من المعاقد والمقالات واكْتَتَمْتُهَا عزيمة غير مثنوية، فلما وقعت هذه الحال، كنت مع تفاقم الخَطْب، وتعاظم الأمر الواردين عليَّ، نِعْمَة سابغة، ونَعْمَة بالغة، أتسلّى بما كان في طَيَّتي من الرحلة، فترى كل من فقد نعمة يبتئس، وإذَا نَظَرْتَ إليَّ وَجَدْتَنِي أتَأنَّس. فخرجنا (¬1) مُكْرَمِينَ، أو قل مكرهين، آمنين وإن شئت خائفين، وفررت منكم لما خفتكم، فوْهب لي ربي حكماً وجعلني من العالمين. وكتبني في أتباع من قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. ¬

_ (¬1) تطرق المؤلف - رحمه الله - في كتابه "سراج المريدين" لرحلته فقال: "خرجت سنة خمس وثمانين وأربع مئة في طلب العلم، وبرد الشباب قشيب، وكأس الفتُوةِ نضيب، وغصن الأماني رطيب. ودوخت من الأندلس إلى العراق فعل الصفاقِ الأفّاق، وأنخت بكل حضرة في عيشة نضرة، دين قائم، وبؤس نائم، وأكل دائم، وأمن متصل، وبر وإكرام غير منفصل، وعلم جم وإقبال عم، وعلماء رفعاء، بحور زاخرة، وأنجم زاهرة، وملوك جمع الله فيهم الدين والدنيا .. تفيض بركاتهم على الضيف، ويأمن جارهم من الحيف، أبصارهم عن المعايب مغضوضة، والمحاسن بعين المبرة لديهم ملحوظة. فأقمنا مع كلتا الطائفتين في دوح وَارِفَةِ الظلال، وقطفنا ثمر الأماني متصلة الإقبال، وقطعنا الزمان بالنظر في العلم، فجمعنا فنونه، وانتقينا عيونه، ونثلنا مكنونه، وفضضنا ختامه، وملكنا زمامه، فصرفناه تصريف الأفعال، ودفعنا به في سر المحال، وشددنا عليه يد المحال، ورجعنا منه بملء الحقائب ومنية الراغب وحسرة الغائب وغصة المجانب، ونحن نسأل الله أن يرزقنا العمل ويبلغنا فيه الأمل برحمته .... ": 152/ أ- ب. أما عن سنه يوم خروجه فيقول: " ... وعجلت عَلَيَّ الغربة ابن ستة عشر عاماً فكنت فيها نحو الأحد عشر عاماً كأني في أهلي ومالي، طيباً عيشي، ناعماً بالي، ميسراً لي في جميع آمالي ... ". السراج: 240/ ب.

ذكر ما لقيته في العلم من المترسمين والعلماء الراسخين في أثناء رحلتي المشار إليها

ذكر ما لِقيتُه في العلم من المترسمين والعلماء الراسخين في أثناء رحلتي المشار إليها فكان أول بلدة دخلت مَالَقَة (¬1)، فألفيت بها أمةً رأسهم الشعْبِي (¬2) أشهر ما عنده نسبهُ، وعنده رواية ومسائل، ولديه حشمة، وله عند الأمراء قدم وجاه. ثم طفرت من أغَرْنَاطَة (¬3) إلى المَرِيَّة (¬4)، فرأيت بها رجالات ¬

_ (¬1) مدينة أندلسية على شاطئ البحر ترجع إلى أصول رومانية وفينيقية، وقد كانت أيام الدولة الإِسلامية من أقدم وأهم الثغور الأندلسية، سقطت في يد الإسبان في شعبان سنة: 892 بعد دفاع مجيد، وهي اليوم عاصمة الولاية الإسبانية التي تسمى بهذا الاسم " MALAGA". نزهة المشتاق للإدريسي: 297 (ط: الجزائر)، رحلة ابن بطوطة: 669، معجم البلدان: 5/ 43، الروض المعطار للحميري: 517، الآثار الأندلسية لعنان: 232. (¬2) هو أبو المطرف عبد الرحمن بن قاسم، كان فقيهاً ذاكراً للمسائل، شُووِرَ ببلده في الأحكام ت: 497. الصلة لابن بشكوال: 1/ 329 (ط: مصر 1955) المرقبة العليا للنُّبَاهِي: 107 (ط: مصر 1948) قال النبَاهِي: "وجرت بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي عند اجتيازه على مالقة مناظرات في ضروب العلم". وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء: 19/ 227. (¬3) مدينة أندلسية معناها بالإسبانية "الرُمَّانَة" وهي آخر القواعد الأندلسية سقوطاً في يد الإسبان وذلك في ربيع الأول سنة 897، وهي اليوم عاصمة ولاية " GARANADA" وتقع في واد عميق يمتد من المنحدر الشمالي المغربي لجبال سيرانيفادا، وبها آثار أندلسية عظيمة، الروْضُ المِعْطار للحِمْيَرِي: 45، نُزْهَةُ المشْتَاقِ للإدْرِيسِي: 203 (نشرة دوزي ودي فويه بأمَسْتَرْدَام: 1969) معجم البلدان: 4/ 195، الآثار الأندلسية لعبد الله عنان: 160. (¬4) مدينة أندلسية على شاطئ البحر، أمر ببنائها الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد سنة: 344، وكانت من أهم ثغور الأندلس الجنوبية، سقطت بيد الكفار سنة: 895، وهي الآن عاصمة الولاية المسماة بنفس الاسم: " ELMERIA" ويقال إن اسمهما مشتق من كلمتين عربيتين هما مرآة البحر. كتاب الجغرافية المنسوب للزهْرِي: 151 نصوص عن الأند

في المسائل والقراءات، وأدباء متوسطي المنزلة بين دَرَجَتَي التقصير والكمال، في أيام قلائل لبثت بها لَمْ أخْبُر بها حالَهُم، فربك أعلم بهم، إِلاَّ أني جالست قاضيَها ومقرئَها ابن شَفِيع (¬1). وركبت البحر محفوزاً، فَأرْفَأنَا (¬2) إِلى بِجَايَة (¬3)، فرأيت فيها جماعةً من أهل المسائل، ولقيت بها محمد بن عمار الميورقي (¬4) رأساً فيهم، مشاركاً في مَعَارِفَ حَدِيثٍ وَمَسَائِلَ وَأدَبٍ، وربما كانت عنده في الأصول إِشارة لا تُومِىءُ إلى المراد، منسوجة على منوال الباجي ونظرائه. ولقيت خاصة دولتها، ورأيت رأس وزعتها (¬5): القاسم بن عبد الرحمن (¬6)، رواء ورويّة، وإتقان في الأدب، وقوة على الصناعة الكتابية، جمالُ قطره، أو قل جلال عصره، ¬

_ = للعُذْرِيّ (تحقيق عبد العزيز الأهواني): 86، نزهة المشتاق للإدريسي: 289، معجم البلدان: 5/ 119، الآثار الأندلسية لعنان: 265. (¬1) هو عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع المقرىء، وكان شيخاً صالحاً ت: 514، الصلة: 1/ 355 (ط: مصر: 55) بغية الملتمس للضبيّ: 386. (¬2) أي لجأنا. (¬3) مدينة على ساحل البحر بالقطر الجزائري، أول من اختطها الناصر بن زيري بن مناد في حدود سنة 457. وهي الآن عاصمة الولاية المسماة بنفس الاسم، انظر: الاستبصار في عجائب الأمصار لمؤلف مجهول: 180، نُزهَة المشتاق للإدريسي: 160 (ط: الجزائر) معجم البلدان: 1/ 339، الروض المعطار للحميري: 80. (¬4) الكِلاَعِي يكنى أبا عبد الله، كان عالماً متفنناً له قصيدة طويلة في السنة والآداب الشرعية والديانات قال ابن الأبار: سمع منه أبو بكر بن العربي في رحلته إلى المشرق سنة 485. التكملة: 403 (ط: مصر 1955) المدارك للقاضي عياض: 4/ 826. (¬5) الوزعة جمع وازع وهو الموكل بالصفوف العسكرية يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر. (¬6) لم أعثر على ترجمة له فيما رجعت إليه من كتب التراجم.

قَصَدَنَا إلى منزلنا وهو على محل من الدولة عظيم، وفي رؤسائها مقدم زعيم، في حجرة بخان (¬1) السلطان كنا تبوأناها، ولم ير عليه في ذلك غَضَاضَةً، كما يفعله من كان في المعلومات قُرَاضَة (¬2). فسألنا عن حالنا وطريقنا وَمَقْصِدِنا، وتفاوضنا معه، والحديث يَسْحَبُ ذيلَهُ، ويولج في نهاره ليله، وهو في أكثر كلامه ينتحى قيلة، والكلام -كما جاء في المثل- ذو شجون (¬3)، وفيه الصفاء والأجون، ولا يستنكر فيه الجد والمجون، حتى وقعنا في حديث جُرَيْج (¬4)، فقلت له: سمعت التَّنُوخِيّ (¬5) شيخ العربية عندنا يقول: ليس في كلام العرب اسم فيه فاءُ الفعل حرفاً واحداً إلا قوله في هذا الحديث: يا بابوس (¬6). فقال على البديهة: وأين هو من دَدٍ (¬7)، فأعجبني ¬

_ (¬1) الخان هو الفندق، انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1364. (¬2) القُراضة: فضالة ما يقرضه الفئر من خبز أو غيره، يعني المؤلف أنه ليس له في المعلومات إلا نصيب يسير. (¬3) لفظ المثل: "الحَدِيثُ ذو شُجُونٍ" وهو لضَبَّة بن أدَّ، انظر: الفاخر فيما تلحن فيه العامة للفَضْل ابن سَلَمَة: 59، جمهرة الأمثال العسكري: 1/ 377، المستقصى في أمثال العرب للزمَخْشَرِي: 1/ 169، أمثال العرب للضبي: 4، مجمع الأمثال للميداني: 1/ 197. (¬4) أخرجه البخاري في أواخر كتاب الصلاة: 2/ 80 وفي المظالم: 3/ 179 والأنبياء: 4/ 201، ومسلم في البر: 4/ 1976، وعبد الرزاق في مصنفه: 11/ 135 بألفاظ متقاربة. (¬5) هو علي بن عبد الرحمن بن مهدي التنُوخِي (ت: 514) من أهل إشبيلية يعرف بابن الأخضر، كان من أهل المعرفة باللغة والآداب، ابن بشكوال: الصلة: 404 (ط. القاهرة: 55)، الضي: بغية الملتمس: 424. (¬6) يشير إلى قصة جُرَيْج الراهب التي رواها أبو هريرة، ومضمونها أن امرأة اتهمت الراهب بأنه والد الطفل الذي وضعته، فجيء بمهد الصبي فخاطبه جريج قائلاً: يا بابوس من أبوك؟ ففتح الصبي حلقه وقال: فلان الراعي. والبابوس هو الصبي الرضيع. انظر: الخطابي: غريب الحديث: 3/ 7، الزمخشري: غريب الحديث: 1/ 72، ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 1/ 90. (¬7) يشير إلى الحديث النبوي الشريف: "ما أنا من دَدٍ ولا الدد منِّي" والدد هو اللعب واللهو، انظ

استدراكه في بلده وهو فتى، على شيخ بلدي في معرفته وسنه. وكان ذلك بما رغبني في تحصيل العربية وضبط غريب الحديث. وقرأنا فيها كتاب أبي داود برواية التمار (¬1). ثم خرجت عنها تارة متساحلين نقطع البحر قطع القفر، وحالة مُصحِرِينَ نطوي السباسب (¬2) طيّ التجار للسَّبَائِب (¬3)، فلقيت ببُونَة (¬4) فقيهَها المسمى بسعد (¬5) من أصحاب السُّيُوريّ (¬6) شيخ متوسط في الطريقة. ودخلنا تُونُسَ فكان بها قوم دون هذا الشيخ في المرتبة، وعندهم صلاح وإقبال على الأعمال. ثم دخلت سُوسَةَ والمَهْدِيَّة (¬7)، فلقيت بها جملة من أصحاب السيوري، ¬

_ = تهذيب اللغة للأزهري: 14/ 222 - 223، غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام: 1/ 40، الفائق للزمخشري: 1/ 420، النهاية لابن الأثير: 2/ 109. (¬1) يعني سنن أبي داود، وقد رواها عنه ثمانية أحدهم التمار، وهو محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق المشهور بابن داسة، وقد وصلت إلينا بعض المخطوطات بروايته، اعتمد على واحدة منها صاحب عون المعبود: 4/ 547، وانظر فهرست ابن خير: 103، تهذيب التهذيب لابن حجر: 4/ 170. (¬2) أي القفار. (¬3) أي للكتان الرقيق. (¬4) بونة أو (عَنابَة) مدينة ساحلية بالقطر الجزائري، وتعد أكبر الموانيء الشرقية، ورابع المدن الجزائرية حجماً، ومن أشهر المراكز الصناعية. معجم البلدان: 1/ 512. (¬5) لم أتمكن من الوقوف على ترجمته فالله أعلم به. (¬6) هو أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث التيميمي المعروف بالسيوري القَيْروَانِي (ت: 460) كان زاهداً دَيِّناً نَظَّاراً آية في الدرس والصبر عليه. ترتيب المدارك للقاضي عياض: 4/ 770 (ط: بيروت: 1976) معالم الإيمان للدبَّاغ: 3/ 181 - 184، الديباج لابن فرحون 158، سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 213. (¬7) سُوسَة ثالث مدن تونس، تقع على الساحل الشرقي على الجانب المغربي من خليج الحَمامات، =

وغيرهم من فقهاء القيروان (¬1) كابن حبيب (¬2) وحسان (¬3) واللبيدي (¬4)، وأبي الحسن بن الحداد (¬5) في القراءات والأدب والكلام، ومن أصحاب ابن القديم (¬6) جملة، وكان متكلماً مخصوصاً به، فلما لمح لي هذا الكوكب بطريقة القيروان (¬7)، واستنارت لي فيها بنوع من البرهان، واستبرأتها بواضح من الدّلالات غَضِّ النبات والأفنان، قلت: هذا مطلبي. ¬

_ = وتبعد عن تونس جنوباً حوالي: 90 كلم، وتقع "المهدية" إلى الجنوب الشرقي منها على بعد: 43 كلم، وقد بناها عبيد الله الشيعي الملقب "بالمهدي" صاحب دولة العبيديين سنة: 300. انظر عن سوسة: نُزْهَةُ المشتاق للشريف الإدريسي: 203، المغرب في ذكر إفريقية والمغرب للبَكْرِيّ: 34، معجم البلدان: 3/ 281، الرَّوْض المِعْطَار للحِمْيَرِي: 331. وعن المهدية انظر: الاستبصار في عجائب الأمصار: 117، المغرب للبكري: 29، معجم البلدان: 5/ 299، الروض المعطار: 561. (¬1) من أعظم المدن التونسية، افتتحها جيش معاوية رضي الله عنه سنة: 50 للهجرة، وكانت مركزاً مهماً في نشر الإِسلام بإفريقيا. المغرب للبَكْري: 24، معجم البلدان: 4/ 420. (¬2) هو محمد بن حبيب المهدوي القلانسي، فقيه أصولي متكلم. خريدة القصر للأصفهاني: 1/ 162، رحلة التجاني: 320. (¬3) هو أبو علي حسان البَرْبَرِي المَهْدَوِي، مفتي المهدية وفقيهها، الإِمام العُمْدة، شجرة النور الزكية لمخلوف: 1/ 126. (¬4) هو أبو بكر محمد بن أبي القاسم اللبيدي. كان من أهل العلم والأدب والفهم الحسن. ترتيب المدارك لِعياض: 4/ 773 والغنية له: 228، شجرة النور الزكية: 1/ 109. (¬5) هو أبو الحسن علي بن محمد الخَوْلَانِي المَهْدَوِي المعروف بالحَدَّاد، المقرىء، فيه أصولي بارع، قال عنه ابن العربي: "كنت أحضر عليه كتابه المسَمَّى" بالإشارة وشرحها" وغيرها من تآليفه، وكان ذلك بالمهدية في شهور سنة: 485" شجرة النور الزكية: 1/ 118، وانظر رحلة التيجاني: 320. (¬6) هو أبو سليمان بن القَديم، أصولي متكلم، كان يُدَرس كتاب التمهيد للبَاقِلانِي: فهرست ابن عَطِية: 43، 55، الغُنْيَة لعياض: 190. (¬7) طريقة القيروان تمتاز بالتخريجات والإيرادات وإثراء الموضوع بالصور والتمثيل، عكس طريقة العراقيين التي تمتاز بالمناظرة والاستدلال واستخراج العلل وأصول الأدلة. (عن الأستاذ مصطفى صغيري: 2/ 3

فأخذت في قراءة شيء من أصول الدين، والمناظرة فيها مع الطالبين، ولزمت مجالس المتفقهين، وكان فيها الأدب على حالة وسطى. فلما حان وقت إقلاع المركب في البحر إلى ديار الحجاز، اعتزمنا فركبناه بعد أن وعيت جملاً من المعلومات، تفسيرها في موضعها مسطور، فركبناه، وقد سبق (¬1) في علم الله أن يُعْظِمَ علينا البحر بِزَوْله (¬2) ويغرِقَنَا في هَوْلهِ. فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كَعْب مِنْ سُلَيْم (¬3)، ونحن من السغب (¬4) على عطب، ومن العُرْيِ في أقبح زي، قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة هيئَتها، ودسمت الأدهان وبرها وَجِلدتها، فاحتزمناها أزُراً، واشتملناها لَفَفاً، تمجنا الأبصار، وتخذِلُنَا الأنصار، فعطف أميرهم علينا لعرق كان فيه من الحَضَرِ، وَخَفَرَنَا (¬5) بحرمة أورثتها عنده سجية مصرية، إذ كان نشأ في ¬

_ (¬1) النص التالي نقله المِقرِي في كتابيه نفح الطيب 2/ 13 وأزْهَار الرياض 3/ 89 والرُّهُوني في شرحه لمتن خليل 7/ 361 (نقلاً عن ابن غازي في التكميل)، ومخلوف في شجرة النور الزكية: 137. (¬2) أي بعجائبه وهو المعنى الذي ارتضاه الشيخ الرهوني في حاشيته: 7/ 361. (¬3) الكعُوبُ: بطن كبير، من سُلَيْم بن منصور، من العَدْنَانِية، كانت مساكنهم ببرقة (ليبيا)، وكانوا رؤساء البدو بتلك الديار. انظر عنهم: ابن خلدون: العبر: 6/ 73، 7/ 273، القلقشندي: صبح الأعشى: 1/ 345 وقلائد الجمان له: 123، النويري: نهاية الأرب: 1/ 341. (¬4) وهو الجوع مع التعب. (¬5) أي أجارهم ومنعهم وأصبحوا في ذمته.

ديار الإسكندرية، وَدَرَّت عليه هناك الدرَةُ الدينية، فآوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمر حقير طفيف، وفن من العلم طريف، وشرحه: إنا لما وقفنا على بابه، ألفيناه وهو يدير بأعواد الشاه (¬1)، فعل السامد (¬2) اللاه. فدنوت منه في تلك الأطمار (¬3)، وسمح لي بيادقته (¬4)، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقف بإزائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في مجلس البطالة، مع غَلَبَةِ الصَّبْوَة والجهالة. فقلت للبيادقة: ¬

_ (¬1) أي ما يسمى "بالشطْرَنج" وانظر حكم اللعب بهذه الأعواد في أحكام القرآن: 1053، والقبس في شرح موطأ مالك بنَ أنس: 353 - 354 (مخطوط الخزانة العامة بالرباط: 25 ج) وكلاهما لأبي بكر بن العربي، وينبغي التنبيه على أن الحافظ ابن قَيم الجَوْزِية قال في "المنار المنِيف": 134 " .. أحاديث الذهب بالشطرنج -إباحةً وتحريماً- كلها كذب علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يثبت فيه المنع عن الصحابة". ولمعرفة آراء الفقهاء بالتفصيل انظر: كتاب "تحريم النرد والشطرنج والملاهي" للآجري (ت: 360) (ط: الرياض 1982)، وكتاب "الشطرنج"، لبرهان الدين الفزاري (ت: 729) مخطوط بدار الكتب مصور بالجامعة الإسلامية تحت رقم: 144، وكتاب "عمدَة المحْتَج في حُكمِ الشطْرَنجِ" للسخاوِي (ت: 902) مخطوط بالمكتبة الظاهرية تحت رقم: 1064. (¬2) الساهي المتحير. (¬3) جمع طِمْر بالكسر، وهو الثوب الخَلِق الَبالِي. (¬4) بيادقة الجيش هم الرجالَة.

الأمير أعلم من صاحبه، فلمحوني شزراً، وَعَظُمْتُ في عيونهم بعد أن كنت نزراً، وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام، فاستدناني، فدنوت منه، فسألني: هل لي بما هم فيه بصر؟. فقلت: لي فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر: حرك تيك القطعة، ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى حتى هزمه الأمير، وانقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير، وكان في أثناء تلك الحركات قد تَرَنَّمَ ابن عم الأمير منشداً: وَأحْلَى الهَوَى مَا شَكَّ في الوَصْلِ رَبُّهُ ... وَفِي الهَجْرِ فَهْوَ الدهْرُ يَرْجُو وَيَتقِي (¬1) فقال: لعن الله أبا الطيب، أو يشك الرب؟. فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير، إنما أرَادَ بالرب ها هنا الصاحب، تقول: ألذُّ الهوى ما كان العاشق فيه من الوصال وبلوغ الآمال على رَيْب، فهو في وقته كله، بين رجاء لما يؤَمِّلُه، وتقاة لما يقطع به، كما قال: ¬

_ (¬1) هذا البيتْ للمُتَنبي من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة الحمداني. ديوان المتنبي: 3/ 49 (ط: بشرح عبد الرحمن البرقوتي) وانظر شرح هذا البيت في شرح الواحدي: 498 (ط: برلين 1861).

إِذا لم يكن في الحب سَخَط وَلَا رِضَى ... فَأيْنَ حَلَاوَاتُ الرسَائِلِ والكُتْب (¬1) وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الِإبرام والانتقاض، ما حرك فيهم إلى مبرتي داعي الانتهاض، وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألون كم سني، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (¬2)، وأعلمت الأمير بأن أبي معي، فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى ماواه، فخلع علينا خِلَعَهُ، وأسْبَلَ أدمُعَهُ، وجاء كل خِوَانٍ (¬3) بأفنان الألوان (¬4)، فقال لنا: لا تسرفوا فإن الشبَعَ بأثَرِ الجوع معطب، وكأني بكم لم ينزل بكم سغب. وأقمنا عنده حتى ثابت إلينا نفوسنا، وذهب عنا بؤسنا، وَسَألَنَا الإقامة عنده على أن يُصَيِّرَ إلينا صدقات بني سُلَيْم كلها، فأبينا إلاَّ الاستمرار على العزيمة الأولى، والتصميمَ إلى المرتبة الكريمة التي كانت بنا أولى، ففارقناه على ضنانة بنا وحرص علينا، وإلى الآن يرد عَلَيَّ ذِكْرُهُ ¬

_ (¬1) البيت لأبي حفص الشَّطْرَنْجِي كما في شرح ديوان المتنبي للواحدي: 498 (ط: برلين 1861) وينسب إلى أبي العباس بن الأحنف كما في "التبيان في شرح الديوان" للعكبري: 2/ 305 (ط: بتحقيق مصطفى السقا وآخرين: بيروت) و "زهر الآداب" للحصري 1/ 11 (ط: دار إحياء الكتب العربية بتحقيق: علي بيجاوي). (¬2) النجيث هو السر المخفي. (¬3) الخِوَانُ هو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل. (¬4) هنا ينتهي النص المنقول في النفح والأزهار والرهوني وشجرة النور.

وَسَلَامهُ، وينال كل من ذكرني عنده بره وإكرامه. فانظر (¬1) إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذت من العطب، وهذا الذكر يرشدكم -إِنْ عَقَلْتُمْ- إلى المطلب. وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر، فألفينا بها جماعةً من المُحَدثِينَ والفقهاء والمتكلمين، والسلطان عليهم جَرِي (¬2)، وهم من الخمول في سرب خفي، ومن هِجْران الخلق بحيث لا يرشد إليهم جَرِيء، لا ينسبون إلى العلم ببنت شفة، ولا يَنْتَسِبُ أحَدٌ منهم في فن إلى المعرفة، بَلْهَ الأدب، فنظرنا فيه مع قوم، منهم أبو عبد الله محمد بن قاسم العثماني (¬3)، والسالمي (¬4)، وشعيب العَبْدَرِي (¬5) وآخرون سواهم ذكرناهم في موضعهم وسميناهم (¬6). وترددت في لقاء الناس بين أسفل وفوق، بما كنت فيه من المعارف ¬

_ (¬1) استأنف المِقرِي النقل حتى قوله ... ديار مصر. وكذا الرهوني ومخلوف. (¬2) الجَرِيُّ هو الوكيل، والسلطان الذي يعنيه ابن العربي هو معد بن الظاهر بن الحاكم بأمر الله، خامس خلفاء مصر من بني عبيد (420 - 487) انظر: النجوم الزاهرة لابن تغري: 5/ 140. (¬3) لم أعثر على ترجمة له فيما رجعت إليه من كتب التراجم والتاريخ، وقد ذكره المؤلف في العارضة: 4/ 44، وابن خير في الفهرست: 414. (¬4) لم أتمكن من معرفته. (¬5) هو أبو محمد شعَيْب بن سعيد العَبْدَرِي من أهل طَرْطوشَة، سكن الإسكندرية، ابن بَشْكُوَال الصلة: 1/ 234، ابن الأبار: التكملة: 1/ 213 (ط: القاهرة). (¬6) في كتاب "ترتيب الرحلة" و "عيان الأعيان".

ذكر دخول بيت المقدس

من التوق، وناظرت الشِّيعَة (¬1) والقَدَرِيَّة (¬2)، وتدربت في جمل من الجدل، ونظرت في نبذ من علم الكلام، وتفطنت من سخافة هذه الطائفة بنفسي، إلى معان تممها لي النظر في المعارف والتمرس بالمشايخ. أمة غلب عليها سوء الاعتقاد، وَنُشِّئَتْ من غير فطم بلبن العِنَادِ، واستولى اليأس منهم بما هم فيه من الفساد. ذكر دخول بيت المقدس ثم رحلنا عن ديار مصر إلى الشام، وأملنا الِإمام، فدخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدر المعرفة، فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام، وحين صليت بالمسجد الأقصى فاتحة دخولي له، عَمَدْتُ إلى مدرسة الشافعية (¬3) بباب الأسْبَاطِ (¬4)، فألفيت بها جماعة من علمائهم ¬

_ (¬1) قال الشريف الجرجاني في التعريفات: 68: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه، وقالوا أنه الإِمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولادها. قلت: وثمة عقائد كثيرة وغريبة يعتقدها الشيعة كنفي الصفات الإلهية وعصمة الأئمة وغيرها من الضلالات، انظر كتاب شيخ الإِسلام ابن تيمية "منهاج السنة النبوية" (ط: القاهرة 1321، الأشعري: مقالات الإِسلاميين: 1/ 65 (ط: محيي الدين)، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 2/ 113، الشهرستاني: الملل والنحل: 149. (¬2) عرفهم الجرجاني فقال: "القَدَرِية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى" التعريفات: 92. قلت: وقد عرف هؤلاء القائلون بحرية الإرادة والاختيار باسم "القدرية" وهذا من قبيل الاشتقاق من الضد، فهم سموا قدرية لأنهم أنكروا القدر الإلهي، بمعنى أنهم أثبتوا للعبد قدرة تُوجِدُ الفِعْلَ بانْفرادِهَا واستقلالها دون مشيئة الله تعالى. (¬3) المسماة بالمدرسة الناصِرية، وتقع على برج باب الرحْمَة، نسبة إلى الشيخ نَصْر المَقْدسِي، ثم عُرِفَت بالغَزَالِية نسبة لأبي حامد الغزالي. الآنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: 2/ 34. (¬4) هو الباب الشرقي في سور المدينة، الأنس الجليل: 2/ 28.

في يوم اجتماعهم للمناظرة عند شيخهم القاضي الرشيد (¬1) يحيى الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإِمام الزاهد نصْرُ بنُ إبراهيمَ النابلسي المقدسي (¬2)، وهم يتناظرون على عادتهم، فكانت أول كلمة سمعتها من شيخ من علمائهم يقال له مَجَلِّي (¬3): "بُقْعَةٌ لَوْ وَقَعَ القتل فِيهَا لاستُوفِيَ القِصَاصُ بهَا، وَكَذَلِكَ إذا وَقَعَ في غَيْرِهَا أصْلُهُ الحِل". فلم أفهم من كلامه حرفاً، ولا تحققت منه نكراً ولا عرفاً، وأقمت حتى انتهى المجلس، فكررت راجعاً إلى منزلي وقد تَأوَّبَنِي حرصي القديم، وغلبني على جدي في التحصيل والتعليم، فقلت لأبي رحمة الله عليه: إنْ كانت لك نية في الحج، فامض لعزمك، فإني لست برائم عن هذه البلدة حتى أعلمَ علمَ من فيها، وأجعل ذلك دستوراً للعلم وسلماً إلى مراقيها، فساعدني حين رأى جِدَّي، وكانت صُحبته لي من أعظم أسباب ¬

_ (¬1) هو القاضي يحيى بن المفرج، أبو الحسن اللخمي المقدسي، كان من أسَنِّ أصحاب نصر المقدسي. العواصم من القواصم: 499، طبقات الشافعية للسبكي: 4/ 324. (¬2) أبو الفتح، الإِمام الزاهد، فقيه الشافعية ببلاد الشام (ت: 490)، ابن عساكر، تبيين كذب المفتري: 268، السبكي: طبقات الشافعية 4/ 351 الذهَبِي: العِبَرُ، 3/ 329. (¬3) هو مَجَلّي بن جميع القرشي المَخْزُومي أبو المعالي صاحب كتاب "الذخائر في فروع الشافعية"، إليه كانت ترجع الفتوى بمصر (ت: 550)، طبقات الشافعية 7/ 227، شذرات الذهب: 4/ 157.

جِدِّي. ونظرنا في الإِقامة بها وخزلنا أنفسنا عن صحبة كنا نظمنا بهم في المشي إلى الحجاز، إذ كانوا في غاية الانحفاز. ومشيت إلى شيخنا أبي بكر الفِهْرِي (¬1) رحمة الله عليه، وكان ملتزماً من المسجد الأقصى -طهره الله- بموضع يقال له الغوير بين باب الأسباط ومحراب زكريا عليه السلام (¬2) فلم نلقه به، واقتفينا أثره إلى موضع منه يقال له السكينة فألفيناه بها، فشاهدت هديه، وسمعت كلامه، فامتلأت عيني وأذني منه، وأعلمه أبي بنيتي فأناب، وطالعه بعزيمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كل باب، ونفعني الله به في العلم والعمل، ويسر لي على يديه أعظمَ أمل، فاتخذت بيت المقدس مباءة، والتزمت فيه القراءة، لا أقْبِل على دنيا، ولا أكلم إنسياً، نواصل الليل بالنهار فيه، وخصوصاً بقبة السلْسِلَة (¬3)، منه تطلُعُ الشمس على الطُورِ (¬4) ¬

_ (¬1) هو محمد بن الوليد الطرطُوشي، ويعرف بأبي رندة، فقيه واعظ زاهد، صحب الباجي، ورحل إلى المشرق، وتفقه ببغداد، وسكن الشام، وتوفي بالإسكندرية: 520. الصلة: 575، بغية الملتمس للضبي: 135، الديباج المُذْهَبُ لابن فرحون: 376. (¬2) من المشاهد التي بالمسجد الأقصى، وهو الموضع المعروف اليوم بالمهد، ومنه يهبط الدرج إلى القسم السفلي من الحرم، ويعرف سطحه عند العامة بسطوح المهد. معجم البلدان: 5/ 170. (¬3) هي القبة الصغيرة الواقعة إلى شرق مسجد الصخرة، وهي على مثاله معجم البلدان: 4/ 170، الإنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: 2/ 18. (¬4) هو طُور زيتا، وهو في اصطلاح اليوم جبل الزيتون، وتقع عليه قرية الطور، وهو إلى المشرق من قبة السلسلة، انظر عارضة الأحوذي: 9/ 40 الأحكام: 524.

وتغرب على محراب داود (¬1)، فيخلفها البدر طالعاً وغارباً على الموضعين المكرمين، وأدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم، لحضور التناظر بين الطوائف، لا تُلْهِينَا تِجَارَة، وَلَا تَشْغَلُنَا صِلَةُ رَحِم، ولا تَقْطَعُنَا مُوَاصَلَةُ وَلِي، وَتُقَاةُ عَدُو. فلم تمر بنا إلاَّ مدة يسيرة حتى حضر عندنا بالغوير ونحن نتناظر فقيه الشافعية عطاء المقدسي (¬2) فسمعني وأنا أستدل على أن مُدَّ (¬3) عَجْوَةٍ (¬4) ودرهم، بِمُدي عَجْوَة لا يجوز، وقلت: الصفقة إذا جمعت مالي ربا ومعهما أو مع أحدهما ما يخالفه في القيمة سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه، فإن ذلك لا يجوز، لما فيه من التفاضل عند تقدير التقسيط والنظر والتقويم في المقابلة بين الأعواض، وهذا أصل عظيم في تحصيل مسائل الربا (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن العربي في الأحكام: 1598 "شاهدت محراب داود في بيت المقدس بناء عظيماً من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول، طول الحجر خمسون ذراعا وعرضه ثلاثة عشر ذراعاً، وكلما قام بناؤه صغرت حجارته، ويُرَى له ثلاثة أسوار لأنه في السحاب أيام الشتاء كلها لا يظهر لارتفاع موضعه، وارتفاعه في نفسه، له باب صغير ومدرجة عريضة، وفيه الدور والمساكن، وفي أعلاه المسجد". قلت: وهو المعروف اليوم بمسجد النبي داود، إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس. (¬2) فقيه القدس وقاضيها انظر: العارضة: 8/ 139، ويسميه المِقرِي: ابن عطاء، نفح الطيب: 2/ 247 (ط: محيي الدين عبد الحميد). (¬3) المُدُّ ربع الصاع وهو رطل وثلث، (المسالك شرح موطأ مالك لابن العربي لوحة: 277). (¬4) العَجْوَة ضرب من التمر. (¬5) انظر العارضة: 5/ 207، الأحكام: 241.

فأعجب الفهري ذلك، والتفت إلى عطاء وقال له: قَيَّضَت (¬1) فِرَاخُنَا! فقال له عطاء: بل طارت. وذلك في الشهر الخامس أو السادس من ابتداء قراءتي. وكنا نفاوض الكَرامِية (¬2) والمُعْتَزِلَة والمُشَبِّهَة (¬3) واليهود، وكان لليهود بها حَبْرٌ منهم يقال له: التُّسْتَرِي، لَقِناً فيهم، ذكياً بطريقهم. وخاصمنا النصارى بها، وكانت البلاد لهم، يأكرون (¬4) ضياعها، ويلتزمون أديارهم، ويعمرون كنائسها. ¬

_ (¬1) أي خرجت من البيضة، انظر ترتيب القاموس المحيط: 3/ 724. (¬2) الكَرامِية هم أتباع أبي عبد الله محمد بن كَرام السجسْتَانِي (ت: 255) يوافقون أهل السنة (السلف) في إثبات الصفات ولكنهم يبالغون في ذَلك إلى حد التشبيه والتجسيم، وكذلك يوافقون السلف في إثبات القدر والقول بالحكمة، ولكنهم يوافقون المعتزلة في وجوب معرفة الله بالعقل، وفي الحسن والقبح العقليين، وهم يعدون من المرجئة لقولهم بأن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب. الفِصَل لابن حزم 4/ 45، 204، 205، التبصير في الدين للإسفراييني: 65، الملل والنحل للشهرستاني: 111 - 117، وانظر كتاب الدكتور سهير مختار "التجسيم عند المسلمين" (ط: القاهرة: 1971). (¬3) يقول التهانوي في كَشَّاف اصطلاحات الفنون: 4/ 194 (ط: تراثنا) "المشبهة على صيغة اسم الفاعل من التشبيه، وهو يطلق على فرقة من كبار الفرق الإِسلامية شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالحادثات"، وانظر أصول الدين للبغدادي: 73، والفرق بين الفرق: 40 له، الشهرستاني: الملل والنحل: 111، دائرة المعارف الإِسلامية مادة "التشبيه" ومادة "جسم". قلت وينبغي أن ينصرف إطلاق لفظ "المشبهة" كذلك على من يُشَبهونَ المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به، والنذر والسجود له، والاستغاثة به، وغيرها من معاني الشرك، فهذا المصنف من الناس هم المشبهة حقاً كما قال ابن تيم الجوزية في إغاثة اللهفان 2/ 232، وانظر ابن تيمية: الفتاوى 4/ 146، وبيان تلبيس الجهمية: 1/ 476، الشهرستاني: الملل والنحل، 105، الأشعري: مقالات الإِسلاميين 1/ 4/ 2، البلخي: البدء والتاريخ: 5/ 148، ابن عساكر تبيين كذب المفتري: 149. (¬4) أي يحفرون الأرض ويحرثو

وقد حضرنا يوماً مجلساً عظيماً فيه الطوائف، وتكلم التستري الحبر اليهودي على دينه فقال: اتفقنا على أن موسى نبي مؤيد بالمعجزات، مُعَلم بالكلمات، فمن ادعى أن غيره نبي فعليه الدليل. وأراد من طريق الجدال أن يرد الدليل في جهتنا حتى يطرد له المرام، وتمتد أطناب الكلام. فقال له الفهري: إن أردت موسى الذي أُيِّدَ بالمعجزات وعُلِّمَ الكلمات وَبَشرَ بِأحْمَدَ، فقد اتفقنا عليه معكم، وآمنا به وصدقناه، وان أردت به موسى آخر فلا نعلم ما هو. فاستحسن ذلك الحاضرون وأطنبوا في الثناء عليه، وكانت نكتة جدلية عقلة قوية، فبهت الخصم وانقضى الحكم. ولم نزل على تلك السجية، حتى اطلعت -بفضل الله- على أغراض العلوم الثلاثة: علم الكلام وأصول الفقه ومسائل الخلاف التي هي عمدة الدين والطريق المَهْيَعُ إلى التَدَرب في معرفة أحكام المكلفين، الحاوية للمسألة والدليل، والجامعة للتفريع والتعليل، وقرأنا "المدونة" بالطريقتين القيروانية في التنظير والتمثيل، والعراقية على ما تقدم من معرفة الدليل. وفي أثناء ذلك، ورد علينا برسم زيارة الخليل صلوات الله عليه وسلامه وبنية الصلاة في المسجد الأقصى جماعة من علماء خُرَاسَان (¬1) كالزَوْزَنِي (¬2) ¬

_ (¬1) بلاد واسعة أول حدودها ما يلي العراق، وآخر حدودها بما يلي الهند، معجم البلدان: 2/ 350. (¬2) لم أتمكن من معرفته والترجمة له.

والصاغَانِي (¬1) والزنْجَاني (¬2) والقاضي الريْحَاني (¬3)، ومن الطلبة جماعة كالبسْكَرِي (¬4) وساتكين الترْكي (¬5)، فلما سمعت كلامهم رأيت أنها درجة عاليَة، ومزية ثانية، وَبَز (¬6) من المعارف أغلى، ومنزلة في العلوم أعلى، وكأني إذْ سمعت كلامهم ما قرأت ما يعْنِي، ولا يكفي في المطلوب ولا يُغني. وكان من غريب الاتفاق الإِلهي، أن المسألة التي سمعت أول دخولي بيت المقدس، ولم أفهم كلام القوم فيها، هي التى سمعت الصَّاغَانِي يتكلم عليها، فرأيت أنه أغْوَصُ على جَوَاهِرِ كتابِ الله، واستنباطٌ لا يُدْركه إلاَّ من اصطفاه الله، وكذلك سمعت كلام الزوْزَني في مسائل منها: قتل المسلم بالذمي، فرأيته يُقَرْطِسُ (¬7) على غَرَض الصَّاغَانِي، وينظرون إلى المطلوب من حدقة واحدة، ويلجون بيت المعارف من باب واحد، فاستخرت الله تعالى على المشي إلى العراق، وصورة المسألة، وتسطير الكلامين، يكشف لك قناع الطريقتين. ¬

_ (¬1) هو أبو علي الصاغاني ذكره المؤلف في الأحكام: 107، والعارضة: 6/ 17، والقبس: 152. (¬2) هو أبو سعيد الزنْجَاني ذكره المؤلف في الأحكام: 1442، وابن خير في الفهرست: 258، والضبي في بغية الملتمس: 93، وابن فرحون في الديباج: 281. (¬3) لم أتمكن من معرفته. (¬4) هو أبو محمد عبد العزيز قاضي مدينة بسْكَرَة كما ذكر المؤلف في العواصم 286. (¬5) هو أبو منصور ساتكين بن أرسلان التركَي، مالكي المذهب، أديب بارع، له مقدمة لطيفة في النحو، توفي رحمه الله سنة: 488، وكان مقيماً قبل وفاته بالقدس. ابن عساكر: تاريخ دمشق: 6/ 44. (¬6) أي سلاح. (¬7) أي يصوب للغرض المطلوب.

قال مجلي في أول مجلس: من قتل في الحرم، أو في الحل، فلجأ إلى الحرم قتل، لأن الحرم بقعة لو وقع القتل فيها لاستوفي القصاص بها، فكذلك إذا وقع القتل في غيرها، أصله الحل. فقال له خصمه (¬1): لا يمتنع أن يقع القتل فيها ولا تعصمه، وإذا قتل في غيرها ولجأ إليها عصمته، كالصيد إذا لجأ إلى الحرم عصمه، ولو صال على أحد في الحرم لما عصمه، وهذا الفقه صحيح (¬2)، وذلك أن القاتل في غير الحرم إذا لجأ إليه فقد استعاذ بحُرْمَته واستلاذ بأمَنَتِه وقد قال سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. وإذا قَتَلَ فيه فقد هتك حرمته، وضيع أمنته، فكيف يعصمه؟. فقال له مَجَلِّي: هذا الذي ذكرت لا يصح ولا يَلْزَمُنِي لأن الحرم لم يحترم بحرمة القاتل، ولا باعتقاده واحترامه، وإنما احْتُرم بحرمة الله سبحانه التي جعلها الله فيه وحكم بها له، فسواء أقام القاتل هذه الحرمة أم لم يقمها لا يسقط شيء منها، فكان من حقك أن تعصمه على كل حال، لقيام الحرمة في الحرم لنفسه، وحكم الله بها له، ويخالف الصيد، فإن الله حرّم الصيد علينا ما دمنا حُرُماً، أي محرمين أو كائنين في الحرم، لكن الصيد إذا صال على أحد لم يجز قتله ولكنه يدفعه عن نفسه وإن أدى إلى قتله، كالمسلم فإنه احترم بحرمة الإِسلام، وعُصِمَ دمه بالشهادتين، فإذ صال على أحد وجب دفعه وإن أدّى ذلك إلى ذهاب نفسه. ¬

_ (¬1) الخصم حنفيّ المذهب. (¬2) في هامش أ: قوله: وهذا الفقه صحيح من كلام الخصم لا من كلام ابن العربي.

وأما قوله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فإنما عني به ما كان عليه الحرم في الجاهلية من تعظيم الكفار له، وأمن اللائذ منهم به. ودار الكلام على هذا النحو (¬1). ثم دخل علينا مدرسة أبي عقبة الحنفية ببيت المقدس بعد ذلك بمدة الصاغاني في جبة راع، وسلم واخترق الحلقة إِلى أن قعد بإزاء الشيخ وعليه سيماء الثروة وأسمال الرغبة، ففطن الشيخ -وهو القاضي الريحاني- له فقال: لعل الشيخ من أهل هذه الرفقة المسلوبة بالأمس. فقال له الصاغاني: نعم. فاسترجع له ودعا بالخير، ثم قال له: وهو من أهل العلم والله أعلم؟. فقال: ما أنا إلاَّ قرأت شيئاً يسيراً. فقال القاضي للأصحاب مبادراً: سلوه؟. فسألوه عن هذه المسألة فقال: إذا الجاني لجأ إِلى الحرم لا يقتل. ففرح القاضي وقال: وكأن الشيخ حنفي! ¬

_ (¬1) انظر صُوَر من هذه المناظرات في كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي: 1/ 219 - 220، 349 - 350.

قال له: نعم. فسئل عن الدليل: فاستدل بقوله سبحانه: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]. ثم قال: قُرِىء: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ} و {لا تَقْتُلُوهم} (¬1)، فإن قلنا بقراءة من قرأ {ولا تَقْتُلُوهُمْ} * فهو نَص في مسألتنا، وإذا قلنا: بقراءة من قرأ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ} * كان تنبيهاً، لأنه إذا نهى عن القتال -وهو سبب القتل- فالنهي عن المسبّب الذي هو القتل أولى. قال له القاضي الريحاني: هذه الآية منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. قال له الصَّاغاني: القاضي أجل قدراً من أن يتكلم بهذا، وكيف ينسخ الخاص العام؟ وإنما ينسخ القول القول إذا عارضه. فبهت القاضي، وهذا ما لا جواب عنه لأحد. وأعجب لبعض المغاربة (¬2) ممن قرأ الأصول يحكي عن أبي حنيفة إن العام ينسخ الخاص إذا كان متأخراً عنه، وهذا ما قال به قط، ولولا أن أبا حنيفة ناقض فقال: لا يبايع في الحرم، ولا يكلم، ولا يجالس ولا يعان بمأكل ولا بمشرب ولا بملبس حتى يخرج عنه فتؤخذ العقوبة منه، ما قام له في هذه المسألة أحد (¬3)، إلى مناظرات كثيرة ومسائل من التحقيق عديدة. ¬

_ (¬1) هذه قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالألف، انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة في القراءات: 179 - 180، ابن زنجلة: حجة القراءات: 127، ابن خَالَويه: الحجة في القراءات: 94، ابن الباذش: الإقناع في القراءات السبع: 2/ 607. (¬2) الظاهر -والله أعلم- أن ابن العربي يقصد ببعض المغاربة ابن حزم الأندلسي وقد رجعت إلى كتبه الأصولية فلم أعثر على هذا القول المنسوب إلى أبي حنيفة. فالله أعلم به. (¬3) قارن هذه المناظرة بما في الأحكام: 107 - 108.

وخرجت حينئذٍ إلى عسقلان (¬1) متساحلاً، فألفيت بها بَحْرَ أدَب يَعُبُّ عُبَابُهُ، وَيغُبُّ (¬2) مِيزَابُهُ، فأقمت بها لا أرتوي منه نحواً من سِتةِ أشهر، فلما كان في بعض الأوان، كنت منقلباً عن بعض الإخوان إلى أن جئت لَقَم (¬3) طريق وقد امتلأ بالناس وهم مُنْقَصِفُونَ (¬4) على جارية تغنِّي في طاق (¬5)، فوقفت أطلب طريقاً أو أفكر في المشي على غيره وهي تترنَّمُ للتِّهَامي (¬6): أقُولُ لَهَا وَالعِيسُ تَحْدِجُ لِلنوى ... أعِدي لِفَقْدي مَا اسْتَطَعْتِ مِنَ الصبْر ألَيْسَ مِنَ الخُسْرَانِ أن لَيَالِيَا ... تَمُرُّ بِلَا نَفْعٍ وتُحْسَبُ مِنْ عُمُرِي فقلت لنفسي: محمد، هذا بشهادة الله وحي صوفي وهاتف ديني، ¬

_ (¬1) مدينة بفلسطين على شاطئ البحر، فتحها معاوية رضي الله عنه سنة: 23 هـ، انظر معجم البلدان: 4/ 122، الروْضُ المِعْطَار للحميري: 420. (¬2) يعب: يتتابع ويكثر موجه ويرتفع، ويغب: يسيل يوماً بعد يوم، والجملتان كناية عن كثرة العلم ووفرة المشتغلين به. (¬3) وسط. (¬4) مندفعون ومزدحمون. (¬5) الطاق هو ما عطف من الأبنية. (¬6) التهامي هو أبو الحسن علي بن محمد بن فهد شاعر مجيد، قتل في سجون مصر سنة (416) له ديوان شعر مطبوع. وهذان البيتان لم أجدهما في ديوان التهامي، ونسبهما ياقوت الحموي في معجم الأدباء: 10/ 88 وابن خلكان في وفيات الأعيان: 2/ 173 إلى الوزير أبي القاسم المغربي.

أنت المراد وعليك دار هذا الترداد، ارحل من حينك إلى نيتك الأولى، وخذ بنفسك إلى ما هو الأحرى بك والأولى. وبادرت إلى داري وقلت لأبي: الرحيل الرحيل، فليس هذا المنزل بمقيل، فسر بذلك، إذ كان من قبل يراودني عليه، وأنا أمانعه عليه. ودخلنا البحر في الحين إلى عَكَّا (¬1)، وأنجدنا (¬2) إلى طَبَرِيةَ (¬3) وَحَوَرَان (¬4)، وصمدنا دمشق، وفيها جماعة من العلماء رأسهم شيخ الوقت سناء وسنا، وعلماً وديناً نصر بن إبراهيم المَقْدِسِي (¬5) النابلسي، وأصحابه. متوافرون، وهم على سبيل أهل الأرض المقدسة سائرون، وفي مدرجتهم سالكون، وبتلك الدرجة متمكنون. فَلَزِمْنَا شَيْخَنَا نَصْرَ بنَ إبراهيمَ في السماع وانتهينا إلى سماع "كتاب البُخَاري" بعد تقدم غيره عليه، وكان يقرؤه علينا بلفظه لثقل سمعه، فلما ¬

_ (¬1) بلدة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بفلسطين، وهي من أحسن بلاد الساحل، معجم البلدان: 4/ 144. (¬2) أي خرجنا، انظر ترتيب القاموس: 4/ 326. (¬3) وصفها المؤلف في العارضة: 9/ 89 فقال "ووقفت عليها (أي طَبَرِية) في جمادى الأولى سنة 489، وأقمت عليها أياماً، والبلدة من بنيان طبارا ملك الروم والنسبة إليها طَبَراني، والنسبة إلى طبرستان طبري، وهي كالبركة بين الجبال، فإذا صعدت العقبة خرجت إلى حَوَران وبسرى أوسط الشام". وانظر معجم البلدان 4/ 17، المسالك والممالك للاصطخري: 44. (¬4) مكان قرب دمشق. انظر: معجم البلدان: 1/ 317، المسالك والممالك: 48. (¬5) هو شيخ الشافعية في وقته، كان يعرف بابن أبي حافظ له مؤلفات كثيرة ومشهورة (ت: 490)، طبقات الشافعية للأسْنَوي: 2/ 389، طبقات الشافعية للسُّبْكِي 5/ 351، العبر للذهبي 3/ 329.

بلغنا حديث أمِّ زَرْع قال لي: كنت أسمع الخطيب أبا بكر البغدادي (¬1) يقول في هذا الحديث (*): إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخره لعائشة: كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أنه طلقا وأنا لا أطلقك (¬2). فحفظتها سريرةً وطويتها ذخيرة حتى دخلت مدينة السلام فذاكرت بها أحفظ من لقيت فيها محمد بن سعدون (¬3) فقال: لا أعرفها، ولقي أبا الحسين الطُّيُورِي (¬4) قبلي فسأله عنها فقال: نعم أعرفها، فأخرجها إليه وفيها حديث أم زرع كاملاً بأسماء النسوة ونسبهن وفيها هذه الزيادة بعد ذكرهن، فقرأ ذلك عليه وأخبرني به عنه، ثم لقيت أبا ¬

_ (¬1) هو أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي، من كبار الحفاظ والمؤرخين الأثبات له عدة مصنفات في علوم الحديث والرجال جلها متداول مطبوع (ت: 463)، تذكرة الحفاظ للذهبي: 1312، طبقات الشافعية للسبكي 3/ 16، وفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 32. (*) انظر بشأن هذا الحديث عند الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: 8/ 246 (ترجمة حاتم بن ليث). (¬2) حديث "أم زرع" صحح متفق عليه أخرجه (بدون الزيادة المشار إليها) البخاري في النكاح: 9/ 220، ومسلم في فضائل الصحابة رقم: 2448، وأبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث" 2/ 286، والترمذي في كتابه "الشامل": 2/ 59 (بشرح ملا علي القارئ) والرَّامَهُرْمُزِي في "أمثال الحديث" 144. أما بزيادة: "كنت لك كأبي زرع .. " فقد أخرجه الطبراني (انظر نور الدين الهيثمي: مجمع الزوائد في النكاح: 4/ 317، وفي المناقب: 9/ 240) كما رواها عياض في "بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد" (ط: وزارة الأوقاف بالمغرب: 1975) عن ابن العربي أملاءً بلفظه سنة 495. وينبغي التنبيه على أن ابن العربي قد أفرد هذا الحديث بالتأليف. وللتوسع في معرفة طرق هذا الحديث ومَنْ شَرَحَهُ مِنَ المُحَدَّثِين والأدباء. انظر: فتح الباري: 9/ 254، عمدة القارئ للعيني 20/ 169، المُزْهِرُ للسيوطي: 2/ 532. (¬3) هو أبو عامر محمد بن سَعْدون بن مُرَجِّي العَبْدَرِي، من أهل مَيُورقة رحل إلى المشرق ودخل بغداد وتوفي بها سنة 524، قال عنه الإِمام أبو بكر بن العربي: هو ثقة حافظ مقيد، لقيته فتي السّنّ، كهل العلم. الصلة لابن بشكوال: 564، تذكرة الحفاظ: 4/ 1272 شذرات الذهب 4/ 70. (¬4) هو أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي، عالم محدث راوية (ت: 500)، الكامل لابن الأثير 8/ 245 مرآة الجنان لليافعي: 3/ 163.

ذكر الرحلة إلى العراق

الحسن فكتبتها عنه وقرأتها عليه من طريق الزبير (¬1)، ثم قرأتها بعد ذلك على أبي المطهر القاضي (¬2) الوافد علينا من أصبهان حاجاً سنة تسعين -من طريق الحارث بن أبي أسامة (¬3) وفيها حتى ذكر كلب أم زرع، وقرأتها بعد ذلك على أبي عبد الله محمد ابن أبي العلاء (¬4) من طريق الخطيب التي كان الشيخ نصر ابن إبراهيم أشار إليها. ذكر الرحلة إلى العراق ثم خرجنا إلى العراق، فلما نزلنا ضُمَيْراً (¬5) آخر السَّوَاد (¬6) وأول السَّمَاوَة (¬7)، ¬

_ (¬1) انظر في شأن هذه الزيادة: الأخبار المُوَفَّقِيَات: 462 لابن عبد الله الزبير بن بَكَّار وهو من أهل المدينة، يروي عن الإمام مالك، وكان أخبارياً نساباً، ولِّيَ قضاء مكة ومات بها سنة: 256، خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي: 120، نذكرة الحفاظ: 2/ 528، مقدمة العلامة محمود محمد شاكر لجمهرة نسب قريش (ط: مصر). (¬2) هو القاضي أبو المطهر سعد بن أثير الدولة محمد بن عبد الله بن أبي الرجاء الأصبهاني، لم أعثر له على ترجمة فيما رجعت إليه من كتب التراجم والطبقات، وقد ذَكرهُ المؤلف في السِّرَاج: 224/ ب، وابن رشيد السبتِي في "ملء العيبة": 264 وقال محقق هذا الكتاب الأخير شيخنا الدكتور محمد الحبيب بالخوجة، إن اسمه لم يرد في المصادر التي وقف عليها. (¬3) هو الحارث بن محمد بن أبي أسامة، أبو محمد التميمي، الحافظ الصدوق، مسند العراق، صاحب "المسند" المشهور الذي جرد زوائده ابن حجر في "المطالب العالية" (ت: 282) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد: 8/ 218، الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 442، والعبر: 2/ 28، وتذكرة الحفاظ: 2/ 619. (¬4) من شيوخ ابن العربي. (¬5) موضع بالشام على خمسة عشر ميلاً من دمشق مما يلي السَّمَاوَة، الروض المعطار للحميري: 377، معجم ما استعجم للبكري: 3/ 882، معجم البلدان: 3/ 462. (¬6) يراد بالسواد ضياع العراق التي افتتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار، وحد السواد من المُوصِل طولًا إلى عبادان ومن العُذَيْب بالقَادِسِية إلى حلوان عرضاً، فيكون طوله: 160 فرسخاً. معجم البلدان: 3/ 272، الروض المعطار: 332. (¬7) أرض بين الكوفة والشام، وقيل بين الموصل والشام، معجم ما استعجم: 3/ 754، معجم البلدان: 3/ 245، الروض المعطار: 3

سقينا واستقينا، ثم خرجنا عنه مُصْحِرينَ في السمَاوَة عَشِيَّ يوم الأحدِ منسلخَ شَعْبَانَ سنة تسع وثمانين وأربعمائة. فبينا نحن نقطع المفازة إلى ماء يقال له الأطْوَاء (¬1)، أهَلَّ علينا هلال رمضان، فكبَّر الناس والتَفَتَ إِليَّ أبي رحمة الله عليه يُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِم، فما صرفت بصري إليه كراهة في جهة المغرب التي كان بها وتشوقاً إلى جهة المشرق التي كنت أؤملها .. واستمر بنا المسير تظلنا السماء، وتقلنا السمَاوَة حتى بلغنا بغداد فنزلنا بها، وخرجت إلى جامع الخليفة يوم الجمعة فصليت وجلست إلى حلقة حسين الطَّبَرِي (¬2) النائب في ولاية التدريس بالدارِ النِّظَامِيةِ في ذلك الوقت، فسمعتهم يتكلمون في مسألة إجبار السيد عبده على النكاح، ولا يفوتني من كلامهم شيء من الفساد والصلاح، ونظرت إلى حالي أول دخولي بيت المقدس وأنا أسمع كلام مجلي في مسألة الحرم، وحالي حين دخولي بغداد وسماعي مسألة إجبار العبد على النكاح، فَهَمَّ قلبي يغيظ وَكَادَ لِسَاني يفيض، ثم تماسكت وليتني تكلمت، وعلى هذه الحال فإني قلت لبعض الطلبة الذي كان يجاورني: كلام المستدل أقوى من كلام المعترض، ¬

_ (¬1) الأطْوَاء من مياه عَمْرو بن كِلَاب في جبل يقال له الشَّرَاء. انظر: معجم البلدان: 1/ 219، 3/ 329. (¬2) هو الحسين بن علي الفقيه الشافعي، محدث مكة، رحل إلى بغداد وَدَرَّسَ بالنِّظَامِيةِ منفرداً ثم اشترك مع محمد الفامي ثم أصبح معيداً بها بعد أن ترك الغزالي التدريس بها، (ت: 489) العبر: للذهبي 3/ 301 وتذكرة الحفاظ: 3/ 160 طبقات الشافعية للسبكي: 4/ 349.

فرمقني منكراً! وقال لِمَا رأى عَلَيَّ من صغر السنن متعجباً: أنَّى لك هذا؟. فقلت: أمر ظهر إِلَيَّ، وأعرضت عنه لئلا يتصل الكلام فيفطن لي. وخرجت بعد ذلك إلى مجلس مسجد الإِسلام مؤيد السنة أبي سعد الحُلْوَاني (¬1) بدرب الجاكرية، ولما دخلت عليه جلست في مجلس متوسط منه وهم يتكلمون، فلما فرَغُوا من تلك المسألة وأخذوا في أخرى وهي البكر الزانية هل تستنطق في النكاح، فاستدل شافعيّ منهم على أن حكمها حكم الثيبِ، فقال لي الحُلْوَاني: أيها الشيخ، إن كان عندك علم فتكلم. وَخَصَّنِي حين رآني ارتقيت إلى مجلس رفيع، وتهمم بي، فقلت: إن أذن سيدنا فعلت. فقال: نعم. فقلت: استدل الشيخ الِإمام بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الثيبُ يُعْرِب عَنْهَا لِسَانهَا" [وهذه ثيب، وهذا لا حجة فيه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثَّيب يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا]، وَالبِكْرُ تُسْتَأمَرُ في نَفْسِهَا" (¬2) فعلق الحكم على الثيوبة والبكارة، ¬

_ (¬1) هو يحيى بن علي البزاز، من كبار الأئمة الفقهاء له كتب في الفقه والأصول تولَّى التدريس بالنِّظَامِية (ت: 529) طبقات الشافعية: 7/ 337، العبر: للذهبي: 3/ 301. (¬2) رُوِيَ بِنَحْوِهِ في مسلم في النكاح رقم: 1321، والموطأ في النكاح: 2/ 524، والترمذي في النكاح رقم: 1008، وأبو داود في النكاح رقم: 2098، والنسائي في النكاح: 6/ 84.

وهما اسمان مشتقان، وإذا علق الشارع الحكم على اسم جامد أفاد ما تفيده الإِشارة وهي بيان المحل خاصة، وإذا علق الحكم على اسم مشتق أفاد تعليل الحكم بمعنى الاسم، وهذا بين في الأصول معلوم بالدليل، والثيوبة والبكارة اسمان مشتقان، فعلق الحكم بمعنى البكارة وهو الاستحياء، ولذلك قال في الحديث: "وَالبكْرُ تُسْتَأمَرُ في نَفْسِهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنَّهَا تَسْتَحِي، قَالَ: إِذْنُهَا صمَاتُهَا". فعلل الصمات بالحياء، وَهِيَ بَعْدَ الزنَا أشَدُّ حياء منها قبل الزنا، مع ما في النطق من إشاعة الفاحشة (¬1)، فأعجب الحُلْوَانيَّ كلامي وقال: وكذلك والله أعربت عن نفسك وأبنت عن مكانك، وأدنى مجلسي، وبقيت لديه مكرماً حتى فارقته. ثم فاوضت بعد ذلك العلماء، وواظبت المجالس، واختصصت بفخر الإِسلام أبي بكر الشاشي (¬2)، فقيه الوقت وإمامُه، فطلعت لي شموس المعارف، فقلت: الله أكبر هذا هو المطلوب الذي كنت أصمد، والوقت الذي كنت أرقب وأرصد (¬3)، فدرست وقَيَّدْتُ وارتويت وسمعت ووعيت ¬

_ (¬1) انظر العارضة: 5/ 28. (¬2) هو محمد بن أحمد، رئيس الشافعية المعروف بالمُسْتَظْهِري، كان يلقب بالخبير لدينه وورعه وعلمه وزهده (ت: 507)، طبقات الشافعية: 6/ 70، تذكرة الحفاظ: 4/ 1241، شذرات السنة: 4/ 16 - 17. (¬3) أي الوقت الذي كان يُعِدُّ له.

حتى (¬1) ورد علينا دَانِشْمَنْد (¬2)، فنزل برباط (¬3) أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية (¬4) معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الله تعالى، فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا الذي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه علي ابن العباس (¬5) لما قال: إذا ما مَدَحْتَ امْرَءاً غَائِبا ... فلا تغل في مدحه واقصد فإنك إن تغل تغل الظنو ... نُ فيه إلى الأمد الأبعد فيصغر من حيث عظمته ... لفضل المغيب على المشهد (¬6) فإنه كان رجلاً إذا عاينته رأيت جمالاً ظاهراً، وإذا عالمته وجدت بحراً زاخراً، وكلما اختبرت احتبرت. فقصدت رباطه، ولزمت بساطه، واغتنمت ¬

_ (¬1) هذا النص نقله المقري في النفح: 2/ 33 وأزهار الرياض: 3/ 91 - 92 وكذا الرهوني: 7/ 361 - 362، ومخلوف: شجرة النور: 138. (¬2) معناه بالفارسية الحكيم أو الماهر على ما أخبرني الدكتور سيد حسين نصر مدير جامعة آريا مهر بطهران سابقاً، والمقصود بِدَانِشْمَنْد هو الإِمام الغزالي رحمه الله. (¬3) الرباط هو دار يسكنها المتصوفة للعبادة وهو مركز للاجتماعات ومقبرة لأصحابه، وتسدد نفقاته مما أوقف له، انظر مقال د. مصطفى جواد: "الربط البغدادية وأثرها في الثقافة الإسلامية" مجلة "سومر" جـ 2، م: 10 (العراق 1954). (¬4) أنشأ هذه المدرسة الوزير السلجوقي نظام الملك (ت: 486) وافتتحت رسمياً سنة 459 هـ، وتقتصر مناهجها الدراسية على دارسة الفقه الشافعي، وفن الكلام على طريقة الأشعري وما يتبعهما من أصول وفروع، فمن أهم أهداف هذه المدرسة مناهضة المذاهب الأخرى ولا سيما المعتزلة والإمامية. انظر: الكامل لابن الأثير: 15/ 204، وفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 395، طبقات الشافعية: 4/ 309. (¬5) هو الشاعر العباسي المعروف "بابن الرومي" (ت: 283) له ديوان شعر مطبوع، انظر ترجمته عند الزبيدي: طبقات النحويين واللغوين: 115، المرزباني: معجم الشعراء: 145. (¬6) هنا ينتهي نقل المقري والرهوني، وانظر هذه الأبيات في ديوان ابن الرومي: 2/ 688 (ط: دار الكتب العربية: 19

خلولته ونشاطه، وكأنما فَرَغَ لي لأبلُغَ منه أملي، وأباح لي مكانه، فكنت ألقاه في الصباح والمساء والظهيرة والعشاء، كان في بَزَتِّهِ (¬1) أو بَذْلَته (¬2)، وأنا مستقل في السؤال، عالمٌ حيث تؤكل كتفُ الاستدلال، وألفيته حَفِيّاً بي في التعليم، وفياً بعهدة التكريم (¬3). وكان من صنع الله الجميل بي توفيقُه لي إلى الإِقامة بأرض الشام، في بقعة مباركة وبين علماء حتى صار ذلك دَرَجاً للقاء المحققين الذين ينتقدون ما جهلت، ويفسرون ما أجملت، ويوضحون ما أبهمت، ويُكَملون ما نقصت، وصار ما حصل عندي من تلك المقدمات، استعداداً لقبول الحقائق فيها، وتقييد الشارد من معانيها، وصار ذلك كمن يدخل المعدن فيجمع النُّضَارَ (¬4) بِرَغَامِهِ (¬5)، ويحمله إلى دار السبك لتخليصه. ثم شرعت في القراءة عليه والسماع، والمباحثة والتتبع للمشكلات بالكشف عن خباياها، والدخول إلى زواياها، واشتفاف رواياها، ¬

_ (¬1) أي في ثيابه. (¬2) أي في أثوابه القديمة البالية. (¬3) قال الإِمام الغزالي في رسالته المشهورة إلى الأمير يوسف بن تاشفين: 32/ ب "مخطوط الرباط رقم 1020": "والشيخ الإِمام أبو بكر بن العربي قد أحرز من العلم في وقت تردده إليَّ، ما لم يحرزه غيره. مع طول الأمد، وذلك لما خص به من صفاء الذهن، وذكاء الحسّ، واتّقاد القريحة، وما يخرج من العراق إلاَّ وهو مستقل بنفسه، حائز قصب السبق بين أقرانه". (¬4) الجوهر الخالص. (¬5) الرَّغَام هو الرمل المختلط بالتراب.

واستطعمته التحقيق، وباحثته عنه خالصاً من غير مشارك، واستقصيته عن ما كان إمام الحرمين (¬1) رحمه الله يحوم في كتبه عليه، ويشير في أثناء كلامه إليه، فواساني مواساةَ الوالد، وآساني بل لم تنله قط الجماعة ولا الواحد. فلما طلع لي ذلك النور، وانجلى عني ما كان يغشاني من الديجور. قلت: هذا مطلوبي حقاً، هذا بأمانة الله منتهى السالكين، وغاية الطالبين للعلم المبين، إني تارك لما تطلبون، ونابذ ما كنتم تقولون، وقد علم الِإمام أني من السالكين في سبيل المهتدين، فَسَدَّدَنِي إلى سوائها، وأوجد لي معلوم دليلها، وأرشدني إلى لَقَم ظاهرها وتأويلها، وليس التحصيل بطول الصحبة، وإنما هو فضل من الله وموهبة، فقد صحب النَّضْر بن شُمَيِّل (¬2) الخليل بضع عشرة سنة، وصحبه سيبويه سنوات، فانظر إلى ما بين التحصيلين في المدتين، والمنزلتين فيما بين وبين. ولقينا شيخ الشيوخ وصاحب الباب في العلم والرسوخ إسماعيل الطوسي (¬3)، وقد بينا شرح ذلك في كتاب "عيان الأعيان" (¬4). ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينِي، من أعظم أئمة الأشاعرة، تتلمذ عليه الإِمام الغزالي، ورجع في آخر حياته إلى عقيدة السلف الصالح (ت: 478) انظر ترجمته: ابن عساكر: تبيين كذب المفتري: 278، السبكي: طبقات الشافعية: 4/ 249. (¬2) هو النضْر بن شُمَيِّل -مُصَغَّراً- بن خرشة بن زيد المازني، ثقة ثبت، من أهل "مرو" وأول من نقل الحديث إليها، وهو من تابعي التابعين (ت: 203) انظر ترجمته: الزبيدي: طبقات النحويين: 55، أبو الطيب: مراتب النحوين: 108، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 314. (¬3) هو أبو القاسم إسماعيل بن عبد الملك الحاكمي الطُّوسِي، من تلاميذ الجُوينِيّ، كان إماماً بارعاً في الفقه وغيره من العلوم، وكان الإِمام الغزالي يجله ويقدره ويقدمه على نفسه (ت: 529) انظر ترجمته: السبكي: طبقات الشافعية: 7/ 47، ابن الأثير: الكامل: 8/ 351. (¬4) انظر دراستنا لمؤلفات ابن العربي.

ذكر المعرفة بأمير المؤمنين حين كان عونا على طلب علم الدين

ذكر المعرفة بأمير المؤمنين حين كان عوناً على طلب علم الدين وكان أبو الحسن المبارك بن سعيد البغدادي (¬1) قد ورد علينا تاجراً سنة ثلاث وثمانين وأربعمئة، فأنزله المعتمد بن عباد (¬2) عندنا، فأكرمه أبي غاية الِإكرام، وعقد عليه مجلسنا في السماع، وتخلى له عن مناظرته في مسجده، وصدر الرجل عنا راضياً، فبينا نحن نمشي بعد ورودنا مدينة السلام بأيام قلائل في سوق الريحانيين (¬3) بها، إذ لقينا أبا الحسن بن الخشاب المذكور فعانقنا ودعا لنا وقال: ها هنا أنتم، وكيف جئتم؟ فرس له أبي الحديث وبقر له عن النجيث، فمشى إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير (¬4)، فأعلمه بنا، وكنا قد حملنا من دمشق كتاب واليها وجماعة من رؤسائها إلى الوزير عميد الدولة، وكتاب القاضي نجم القضاة الشهرستاني (¬5). بالتقريض لنا والتنبيه على مكاننا، فدخلنا الديوان إلى الوزير، ووقف على ما كان عندنا، ورفع ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن الأسدي، ويعرف بابن الخَشّاب، من العلماء الذين اشتغلوا بالتجارة، وكان من أهل الثقة والصدق والثروة، حدث عن كثير من العلماء في الأندلس ومصر والعراق. وتوفي ببغداد سنة: 490، انظر ترجمته: ابن بشكوال: الصلة 2/ 634، الضبي: بغية الملتمس: 467. (¬2) هو محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل اللَّخْمِي، الملقب بالمعتمد، صاحب إشبيلية وقرطبة وما والاهما. ويعتبر من أعظم ملوك الطوائف، استوزر المثقفين والأدباء ومنهم والد فقيهنا ابن العربي، (ت: 488)، انظر ترجمته: الضبي: بغية الملتمس: 118، ابن الأثير: الكامل: 8/ 177. (¬3) أعظم سوق بمدينة بغداد في الجهة الشرقية منها. رحلة ابن بطوطة: 225. (¬4) هو أبو منصور محمد بن محمد بن جهير، استوزر لخليفتين، وكان نظام الملك يُعظِّمُه ويُجِله كثيراً، وزوجه ابنته زُبَيْدَة، كانت نهايته مؤسفة سنة: 492. انظر ترجمته: ابن خلكان: وفيات الأعيان: 5/ 131، ابن الأثير: الكامل: 8/ 195. (¬5) لم أتمكن من معرفته فالله أعلم به.

ذكر التوصل إلى المطلوب من العلم

إلى أمير المؤمنين (¬1) أمرنا، فأمر بتكرمتنا وإدنائنا (¬2)، وأجرى معروفاً كبيراً لنا، وأباح الديوان لمدخلنا ومخرجنا، فَوَقَّرَتْنَا العلماء، وأكرمتنا المشيخة، وأظهرت الجماعة لنا المزيّة، ونعم العون على العلم الرئاسة (¬3). ذكر التوصل إلى المطلوب من العلم وكنت إبَّان طلبي في الأقطار، ودرسي آناء الليل والنهار، ولقائي أولي البصائر والأبصار، لا أمل لي إلاَّ التشوف إلى المقصد الأسنى، المنتحى في كل معنى، وهو معرفة الله تعالى؛ لأنا إن نظرنا في العالم لم ننظر فيه من حيث إنه متقن الصنعة، أو جميل المنظرة، أو عام المنفعة، أو كبير الجِرْم، وإنما نبتهل به، ونُقْبِلُ بوجه النظر إليه، من حيث إنه صنعة الله. وإن نظرنا في النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ننظر فيه من حيث أنه آدمي أو قرشي أو ذو منظر بهي، وإنما ننظر فيه من حيث أنه رسول الله. ¬

_ (¬1) الخليفة المستظهر بالله العباسي ولي الخلافة بعد أبيه الخليفة المقتدي بالله: 487 هـ، وعمره سبعة عشر عاماً، توفي سنة: 512، قال ابن العربي في العارضة: 9/ 68 - 69 "أدركت المقتدي سنة 484 وعهد إلى المستظهر أحمد ابنه، وتوفي في المحرم سنة: 486، ... وخرجت عنهم سنة: 495". (¬2) وذلك بخطاب أميري في: 12 رجب 491، قال الوزير محمد بن جهير في حقهما: " ... وكذلك هذا الفقيه (أي والد ابن العربي) وولده ممن شاهدنا من خلالهما وحسن هديهما، بما يقتضي تقريبهما وإدناؤهما، فرأيناهما واعتمدنا برهما وإكرامهما إحساناً وتعطفاً عليهما وامتناناً" شواهد الجلة: 30/أ. (¬3) قال المؤلف في كتابه "ترتيب الرحلة في الترغيب إلى الملة": " ... نعمت المعرفة التعرف بالسلطان، والتشوف به عند التغرب من الأوطان، ونعم العون على العلم الرئاسة بالأمن والاستيطان". عن كتاب "المَنُّ بِالإمَامَةِ" لابْنِ صَاجبِ الصلاَة: 258 - 259.

وإن نظرنا في أعمالنا لم ننظر فيها من حيث أنها حركات تجلب منفعة أو تدفع مضرة، وإنما ننظر فيها من حيث أنها خدمة الله أو تخالف أمر الله، فالمقصود بكل نظر وفي كل قول وعمل إنما هو الله سبحانه. وحين استنورت الطريق، ولاحت لي جادةُ التحقيقِ، وتحقَّقَ عندي أن كتاب الله هو المرشدُ إليه، والدليلُ عليه، لم آل في الترقي إلى دَرَجِ المعرفة، وإذا لم يأت العبدَ من الله سداده، ولا كان من بحره استمداده، لم يغن عنه اجتهاده. فقرأت (¬1) من كتب التفسير كثيراً، ووعيت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيوناً، كتفسير الثعَالِبِي (¬2) الذي كان وقفاً في كتب الصخرة المقدسة، ونسخة الطرْطُوشِي (¬3)، فزاد فيه ونقص فجاء تأليفاً له، وكتاب المَاوَرْدِي (¬4) ومختصر (¬5) ¬

_ (¬1) جلّ هذه الكتب قرأها المؤلف - رحمه الله - كما صرح بذلك في العواصم: 97 في دار الكتب بالمدرسة النظامية التي أنشأها الخليفة الناصر لدين الله سنة 589، ونقل إليها عشرة آلاف مجلد. انظر: مرآة الزمان لليافعي: 8/ 421، الكامل لابن الأثير: 12/ 104. (¬2) المسمى "الكشف والبيان" والثعَالِبِي أو الثَّعْلَبي (انظر تبصير المنتبه لابن حجر: 1/ 208) هو أحمد بن محمد (ت: 427)، وقد عني في تفسيره هذا باللغة والقراءات والحديث والآثار والأحكام الفقهية، بالإضافة إلى العناية بأقوال الصوفية، ومن أهم مميزات هذا التفسير العناية بالسند في نقل الأخبار والآثار، وتوجد منه عدة نسخ في مختلف مكتبات العالم منها: في دار الكتب بالقاهرة رقم: 797 تفسير. (¬3) هو أبو بكر محمد بن الوليد القُرَشي الفِهْري الأندلسي الطرْطُوشِي الأديب الفقيه الحافظ (ت: 520)، لم يصل إلينا هذا التأليف الذي أَشار إليه ابن العربي، ولكن ابن خير: 59 ذكره تحت عنوان "مختصر الكشف والبيان". (¬4) المسمّى "النُّكَت والعُيُون" والماوردي هو أبو الحسن علي بن محمد البَصْري المعروف بالمَاوَرْدِي. (ت: 450) وطُبِعَ تفسيره المذكور في الكويت: 1983 تحت إشراف وزارة الأوقات. (¬5) لأبي يحيى محمد بن صُمَادح التُّجِيبِي (ت: 419) طُبِعَ بتحقيق محمد حسن أبي العزم الزفيتي 1970 بالقاه

الطبري، وكتاب ابن فُوْرَك (¬1) وهو أقلها حجماً وأكثرها علماً وأبدعها تحقيقاً، وهو ملامح من كتاب "المُخْتَزن" الذي جمعه في التفسير الشيخ أبو الحسن في خمسمائة مجلد (¬2)، وكتاب النَّقَّاش (¬3) وفيه حشو كثير، ومن كتب المخالفين كثيراً، ومن المسانيد جمّاً غفيراً، وأكثر ما قرأت للمخالفين كتاب عبد الجبار الهَمَدَاني الذي سماه بـ "المحيط" (¬4) مئة مجلد، وكتاب الرُّمَّانِي (¬5) عشر مجلدات، وفاوضت فيه علماء المؤالفين والمخالفين وأهل ¬

_ (¬1) هو الإِمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فُوْرَك الأنْصَاري الأصبهاني (ت: 406) المتكلم المشهور على مذهب الأشعرية، وتفسيره للقرآن لم يصل إلينا كاملاً، وفي مكتبة الوالد -حفظه الله- مصورة لجزء من تفسيره عن مكتبة فيض الله أفندي بتركيا. (¬2) هذا التفسير هو لأبي الحسن الأشعري (ت: 324) مؤسس المذهب الأشعري، ويُسمَّى هذا التفسير "بالمُخْتَزن في تفسير القرآن والرد على من خالف البيان من أهل الإفك والبهتان" وذكر ابن العربي في العواصم: 97 - 98 "أن الصاحب ابن عباد انتدب له فبذل فيه عشرة آلاف دينار للخازن في دار الخلافة، فألقى النار في الخزانة التي تضم هذا التفسير فاحترق، وكانت تلك نسخة واحدة لم يكن غيرها ففقدت من أيدي الناس". (¬3) المسمى "شفاء الصدور المهذب في تفسير القرآن" والنقاش هو أبو بكر محمد بن الحسن النقاش (ت: 351) وتوجد منه عدة نسخ محفوظة في مختلف مكتبات العالم منها: نسخة بدار الكتب بالقاهرة: 145 تفسير، قال عنه ابن العربي: "إنه حاطب ليل لجهله بالحديث" قانون الأسكريال: 41/أ. (¬4) لم يصل إلينا هذا الكتاب بقلم عبد الجَبَّار، وإنما وصل إلينا بتهذيب تلميذه الحسن بن مَتَّوَيه (عاش في القرن: 5) بعنوان "المجمع المحيط بالتكليف" ويوجد مخطوطاً بمكتبة برلين بألمانيا الغربية تحت رقم: 5149، وهناك نسخ أخرى، وقام بنشره في مصر: 1965 الأستاذ عمر السيد عزمي، كما نشر المستشرق "هوبن" الجزء الأول منه ببيروت: 1965. والقاضي عبد الجبار هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهَمَذاني (ت: 415) قاضي القضاة وآخر المعتزلة النابهين المكثرين في التأليف، وكان شافعي المذهب. تاريخ الخطيب: 1/ 113، طبقات المعتزلة لابن المرتضى: 112 (ط: سوزانا فلزر: بيروت). (¬5) هو أبو الحسن علي بن عيسى الرُّمَّانِي، المتكلم على طريقة المعتزلة كان محباً للعلم، واسع الاطلاع، متقناً للأدب وعلوم اللغة والنحو لذلك لقب بالنحوي المتكلم، ويبدو أنه تأثر بالمنطق والفلسفة، ولذا نرى ابن العربي يحذر من كتبه، توفي سنة 386، وكتابه المشار إليه هو "التفسرٍ الكبير" أو "الجامع في علوم القرآن" انظر عنه بروكلمان: تاريخ الأدب: 1/ 175.

ذكر معرفة النفس

السنة والمبتدعين، فاستفدت من أهل السنة، وجادلت بالتي هي أحسن أهل البدعة، وأفنيت عظيماً من الزمان في طريقة الصوفيين، ولقيت رجالاتهم في تلك البلاد أجمعين، وما كنت أسمع بأحد يشار إليه بالأصابع أو تُثْنى عليه الخناصر، أو تُصِيخُ إلى ذكره الآذان، أو ترفع إلى منظرته الأحداق، إلاَّ رحلت إليه قصياً، أو دخلت إليه قرياً. وقد كان تأصل عندي بما قدمتُه تثقيف الدليل وقانون التأويل، فولجت من ذلك جنة لا يتكدر تسنيمها (¬1)، ولا يتغير نعيمها. وقد كان دَانِشْمَنْد - رحمه الله - حين عرضي عليه، زَيَّفَ مَا زَيَّفَ، وعَرَّف ما عَرف، فتخلَّص الاعتقاد، وتحصل المراد، ووقف الأمر على قسمين: أحدهما معرفة النفس، والثاني معرفة الرب. ذكر معرفة النفس اعلموا -أنالكم الله آمالكم في المعلومات- أن معرفة العبد نفسه من أوْلَى ما عليه وأوْكَده، إذ (¬2) لا يعرف ربه إلاَّ من عرف نفسه: قال الله سبحانه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] ¬

_ (¬1) التَّسْنِيمُ عين في الجنان يتنزل ماؤها من علو. (¬2) من هنا يبتدىء قانون التفسير 64/أنسخة دار الكتب بالقاهرة رقم: 184 تفسير.

ولو شاء ربنا لخلق المعرفة لعبده ابتداءً من غير أن يَنْصُبَ لَهُ عليه دليلاً، ويُعَرّفَهُ بوجه الدليل، ولكنه بحكمته خَلَقَهُ غَيْرَ عالِم، ثم رَتبَ فيه العلم درجات (¬1)، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] (¬2). فلا إخراج أنفسهم علموه، ولا وصف ربهم عَرَفُوه، ولا شاورهم فيه، ولا علموا بحالة من أحواله. فخلق السمع لخطابه، والبصر للاعتبار به، والأفئدة لِمَقَر عِلْمِهِ (¬3). وعرف العبد نفسه في قوله: {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] لئلا يعجب بنفسه ولئلا يتعجب أحد أيضاً من سوء فعله، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]. ليعرفك أن الشرف والقَدْر إنما هو للترْبِيةِ لا للتُرْبة (¬4). فإذا نظر العبد في نفسه علم أنه موجود لغيره، وتحقق أن ذلك الغير لا ¬

_ (¬1) قال المؤلف في الأمد الأقصى 89/ أما نصه: "الباري تعالى هو العالم الأعظم، وهو المعلم الأكبر، فإنه أوصل العلم إلى العالمين من عباده، وذلك بخمس طرق: الأول: أن يكون ما يخلق ابتداء في النفس كعلم المبتدأ والعاقبة إلى آخر العلوم الضرورية. الثاني: تعليم النظر والتركيب في المعارف حتى يعلم ممَّا عُلِّمَ ما كان به جاهلاً. الثالث: تعليمه التكلم باللسان والعبارة عما في الجنان من الكلام. الرابع: تعليمه الكتابة. الخامس: خلق العلم بالإلهام وذلك جائز إلا في باب الفرق بين الحق والباطل فلا يثبت". (¬2) انظر: الأحكام: 1956، حيث أحال على القانون. (¬3) قارن هذه العبارات بكلام الإِمام القشيري في الإشارات 2/ 311، فلا شك أن ابن العربي قد استفاد منه. (¬4) هذه العبارة مقتبسة من القشيري في الإشارات 2/ 569.

يصح أن يوجده غيره؛ لأنه لو كان أيضاً موجوداً لغيره لافتقر ذلك الغير الي مثله، وتسلسل (¬1) الأمر ولم يتحصل، وعنه وقع البيان بقوله سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]. فإنك بأي شيء بدأت، فعند الباري تعالى تقف، ابتداء خلق الأشياء من عنده، وانتهاؤها إليه، وفاتحةُ العلوم من قبله، وغايتها عنده، لا معلوم بعده، فصح أنه لا بد من الوقوف بالعلم على مُوجِدٍ، لا مُوجِدَ سواه. وإذا رأى العبد ما هو عليه من الخروج من حالة عدم إلى حالة وجود، والانتقال من صفة إلى صفة، والاختصاص بحالة دون حالة، بالمزايا الشريفة من العلم والنطق والتدبير والحياة والقدرة، علم أنه موجود لموجد (¬2) قادر، وعليه دل بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1] (¬3). ¬

_ (¬1) لفظ التسلسل يُرادُ به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات بأن يكون الفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية، وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء، درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: 1/ 321، وانظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 74 - 76. (¬2) هذا الدليل هو الذي اعتمده مؤسس المذهب الأشعري في كتابه: اللمع: 17، ولخصه الشهرستاني في: الملل والنحل: 1/ 119، ونهاية الأقدام: 12 له. وقال عنه شيخ الإِسلام ابن تيمية ما يلي: "الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دَلَّ القرآن عليها وهدى الناس إليها" النبوات: 48. (¬3) للتوسع في صفة "القدرة" انظر: الوصول إلى معرفة الأصول: لوحة 26، والمتوسط في الاعتقاد: لوحة 27، والأمد الأقصى: 59/ أ، وسراج المريدين: 149/ أوكل هذه المؤلفات السابقة لابن العربي. الأشعري: اللمع 25، التمهيد: 26، والأنصاف: 35 وكلاهما للباقلاني، وأصول الدين للبغدادي: 93، والشامل في أصول الدين للجويني: 621، ولمع الأدلة له كذلك: 62 والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي: 119، وانظر رأي أهل السنة -السلف- في: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية: 25.

ويدلّ إتقان جبلّته وإحكام صنعته على أنه عالم (¬1)، إذ لا يصح تقديرُ موجد لا علم له ولا قدرة ويتحقق بعد أنه حَيٌّ، إذ القدرةُ والعلم يستحيل وصف الموات بهما. قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قال سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ} [غافر: 65] (¬2). ويثبت عنده أنه مريد لأنه يرى نفسه على أحوال وصفات تقرر عنده أن كون المحل على غيرها بدلاً منها ممكن، فلا بدّ والحالة هذه من معنى تستند إليه هذه الخصيصة، وهي صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وهي الإرادة، عبر عنها قوله سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] (¬3). ليس عليه حَجْرٌ، ولا فوقه أحد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الأمد: 64/ أوالسراج: 44/ أ، واللمع 24، التمهيد: 26، الإنصاف: 35، الشامل: 621، الاقتصاد 130، ولمعرفة رأي أهل السنّة (السلف) انظر: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية 24. (¬2) هذا الطريق في إثبات كون الصانع حياً هو الذي صار إليه معظم أئمة الكلام كما قال الجويني في الشامل: 622. وللتوسع في هذه الصفة انظر: الأمد: 72/ أ، اللمع: 25، الإرشاد للجويني: 63، الاقتصاد: 131. (¬3) للتوسع في صفة "الإرادة" انظر: الوصول إلى معرفة الأصول للمؤلف لوحة 26، المتوسط: 32 - 39، الأمد: 73/ أ، اللمع: 37، 47، التمهيد: 27، الإنصاف: 36، أصول الدين: 102، الإرشاد: 63 وفي مواضع أخرى، نهاية الأقدام: 107، الاقتصاد: 131. (¬4) ولخص ابن العربي أوصاف الباري تعالى في عبارة جامعة هي قوله: "لا إشكال في دلالة العقل على وجوب هذه الأوصاف، فالوجود يدل على القدرة، والإتقان على العلم، وتعيين أحد جائزي الوجود من صفة وهيئة على الإرادة، وأيضاً فإن الفعل لا يتحصل للفاعل على ما لم يقصده ويؤثره، هذا هو المعقول فيه، وذلك لضمن العلم بكونه حياً، لأن العالم القادر المريد يستحيل ألاَّ يكون حيا". المتوسط 30.

ولا بدّ من الاعتقاد بأنه سميع بصير، وقد اختلفت أغراض (¬1) العلماء في الدليل على ذلك، فقال الأستاذ أبو إسحاق (¬2): لأنه قد خلقهما للعبد (¬3) ومحال أن يخلق ما لا يعلم، وعليه نبه بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] (¬4). وَعَوَّلَ الجويني على أن الأمةَ قد أجْمَعَت على نفي الآفات عن الباري تعالى، ولا مستند إلا السمع، وما قاله المتكلمون لا يرتضيه (¬5). ¬

_ (¬1) يقصد بالأغراض المنحى الذي سلكه كل في الاستدلال على الصفتين. (¬2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني الملقب بركن الدين، أصولي متكلم، شافعي المذهب له مصنفات في علم الكلام (ت: 418) تبيين كذب المفتري لابن عساكر 243، العبر للذهَبِي 3/ 128 - شذرات الذهب لابن عماد: 3/ 209. (¬3) هذا يدل على علمه بهما، إذ المخلوق لا بدّ أن يكون معلوماً، ولا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر زائدتين على العلم مغايرتين له. (¬4) قال المؤلف في المتوسط: 40: " .. ويجب أن يكون سميعاً بصيراً لثلاثة طرق: أحدهما: أن الحيّ يجوز أن يتصف بكونه سميعاً بصيراً، وإذا خرج عن ذلك لزم اتصافه بكونه مؤوفاً فإن كل موجود يقبل ضدّين على البدل يستحيل فرض سواهما لا يجوز أن يقدر في العقل خلوه عنهما جميعاً، وقد تقدم استحالة الآفات عليه فوجب إثبات كونه سميعاً بصيراً. والطريق الثاني أن الباري يخلق للعبد الإدراك الحقيقي بالمسموعات والمبصرات، فكيف يصح أن يخلق للعبد ما لا يدرك حقيقته. والثالث أنه يخلق الأصوات والألوان ولا بدّ من التمييز بين المخلوقات منها، فلا بد من السمع والبصر للتَمَّييز بينهما .. " وللتوسع انظر: الوصول إلى معرفة الأصول: 27 وقد اعتمد فيه اعتماداً كلياً على الجويني في عقيدته النظامية: 22 قارن بالأمد الأقصى: 65/ أ، اللمع 25، التمهيد 26، الإنصاف: 37، أصول الدين 96، الإرشاد 72، الاقتصاد: 137، وانظر رأي السلف في: شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية: 73 - 88. (¬5) نص الجويني كما جاء في الإرشاد: 74 هو كالتالي: "فإن قيل: من أركان دليلكم استحالة اتصاف الباري تعالى بالآفات المضادة للسمع والبصر، فما الدليل على ذلك؟. قلنا: هذا مما كثر فيه كلام المتكلمين، ولا نرتضي بما ذكروه في هذا المدخل إلا الالتجاء إلى السمع، إذ قد أجمعت الأمة (في الأصل: الأئمة) وكل من آمن بالله تعالى على تقدس الباري تعالى عن الآفات والنقائص". قلت: انظر بسط هذا الدليل في لباب العقول للمكلاتي: 217.

قال الإِمام الحافظ أبو بكر محمد بن العربي رضي الله عنه: وإنما ذكرنا لكم هذا لتتخذوه قانوناً، وتعجبوا من رأس المحققين يُعَوِّلُ في نَفْي الآفات على السمع، ولا يجوز أن يكون السمعُ طريقاً إلى معرفة الباري ولا شيء من صفاته، لأن السمع منه، فلا يعلم السمع إلا به ولا يعلم هو إلا بالسمع، فيتعارض ذلك ويتناقض (¬1)، وقد مهدناه في المقسط وغيره. وقد رام الجويني أن يتخلص من ذلك بأسئلته وأجوبته فلم يستطع (¬2). وعَوَّلَ الطُّوسي على أن الكمال واجب لله تعالى ومن المحال أن يكون للعبد صفةُ كمال ليست للخالق تعالى (¬3)، وهو أقوى من كلام الجويني، ولكن المُعَوّل على ما سبق للأستاذ وفيه تتبع عظيم يتبين في موضعه. وكذلك لا يجوز أن يُشَبَّهَ بشيء من خلقه؛ لأنه لو كان مثله، لما كان أحدهما أولى بأن يكون الموجد من الآخر. ¬

_ (¬1) لا يلزم التناقض لأن السمع يثبت بصدق الرسول الثابت بالمعجزة، وحينئذٍ يكون السمع طريقاً لمعرفة الله تعالى. (¬2) الإرشاد 72 - 76. (¬3) وتعبير الإِمام الغزالي في هذا المقام هو هكذا: "وكل كمال وجد للمخلوق، فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى". وبخصوص صفتي السمع والبصر يقول في الاقتصاد: 138، والإحياء: 1/ 138 (ط: الشعب)، معلوم أن الخالق أكمل من المخلوق، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر، والسميع أكمل ممن لا يسمع، فيستحيل أن يثبت وصف كمال للمخلوق ولا نثبته للخالق". وانظر نقد الفخر الرازي لمسلك الغزالي هذا في: محصّل أفكار المتقدمين: 172.

ولا يجوز أن يكون له شبه في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل من أضاف ذلك إليه فهو مُشَبِّهٌ، ولذلك كان جميع من يخرج عن رسم المُوَحِّدِينَ مُشَبِّهاً (¬1)، وقد أحكم الله بيان ذلك بقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 94 - 99]. ومن أئمة المجرمين القدرية (¬2) الذين ساووا الثَّنْويَّة (¬3)، فقالوا: "إن العباد يخلقون الشر دون الله"، فسووا بينهم وبين الخالق، وأخذوا منه ما أثبته لنفسه في قوله: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. فأخبر سبحانه أنه خلق أعمالهم كخلقه لهم. ألا ترى كيف زاده بياناً ليثبته برهاناً فقال عنهم وعن أمثالهم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ في ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 47 - 49] (¬4). ¬

_ (¬1) يوضح المؤلف هذه الفكرة في كتابه "المتوسط": 9 فيقول: إذا ثبت أنه واحد، فمن الواجب فيه المعرفة باستحالة أن يكون له شبه ومثل، ولا تتم المعرفة إلاَّ بعد المعرفة بحقيقة المثلين. وها هنا زلّت الملحدة حين قالوا ليس بموجد ولا عالم لأن في ذلك تشبيهاً له بخلقه، وهذا يجرّ من المحالات إلى عظائم، منها اشتباه السواد بالبياض وكونها مثلين. وزلت المشبهة فأثبت للباري مماثلاً لخلقه في صفاته وذاته، وزلت المعتزلة فأثبتت للباري تعالى مثلاً في أفعاله يخلق كخلقه، وذلك يقتضي تناهي مقدوراته، وبهذا نطلق على الطوائف كلها -خلا أهل السنة- المشبهة". (¬2) أمثال مَعْبَد الجُهَنِي وَغَيْلان الدمَشْقي ومن تبعهما، ومن المعلوم أن من أصول أهل السنّة والجماعة -كما يقول المَلْطِي في التنبيه: 12 - وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره. كما أجْمَعَ أهل السنة على أن "ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون" انظر الأشعري: مقالات الإِسلاميين 294 باب جملة أقوال أهل السنة. (¬3) هم فرقة من الكفرة يقولون بإثْنِينيَّةِ الإله، إله للخير، وإله للشر، انظر التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون: 1/ 255، 4/ 150 (ط/ تراثنا). (¬4) هنا ينتهي نص قانون القاهرة 64/ ب.

وهكذا تستدل أيها العبد بنفسك على ربك، حتّى لقد غلا في ذلك بعضهم فقال: إن الِإنسان هو العالم الأصغر، والسموات والأرض بما تشتمل عليه هو العالم الأكبر، وأفرط في التشبيه بينهما والمناسبة لهما، وليس ذلك بُمعْتَرض على الدين، ولا قادح في عقيدة المسلمين، ولا بعيد من حكمة الملك الحق المبين. فلا معنى لِإنكاره، فإنك لا تنظر إلى معنى في نفسك إلا ولله فيك دليل شاهد على أنه واحد. وإن العبد منا ليؤلف كتاباً مُوعباً في علم، ثم يختصره في طريق، ثم يشير إلى نكته في آخر، فيأتي عمله بسيطاً ووجيزاً وخلاصة، ويدل الأول على الآخر، ويقتضي القليل الكثير. وإذا تأملت هذا تأملًا محققاً، وأمعنت النظر، لم يبعد أن يخلق الباري سبحانه الجنة والنار وهو الخلق الأعظم، ثم خلق السموات والأرض بما فيهن وبينهن، وهو الخلق الأوسط وخلق الإنسان آخراً، وخاتمة بعد تمام المخلوقات كلها، وهو الخلق الأصغر (¬1). ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن خلق العالم الأكبر كله للعالم الأصغر نعيماً للطائع وعذاباً للعاصي، ولذلك جعل العالم الأصغر فريقين، لما خلق العالم الأكبر دارين، وبهذه المعاني سمي الخالق البارىء المصور، فإن الخالق هو الموجد المُقَدِّر، والباري هو الموجد المصور، والمصور هو ¬

_ (¬1) قارن بالغزالي في ميزان العمل: 200 الذي يقول: "ومن رحمة الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان على صغر حجمه من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم، ليتوصل الإنسان بالتفكر فيها إلى العلم بالله". قلت: وقارن كذلك كلام الإمامين الجليلين بما جاء في رسائل إخوان الصفاء: 2/ 462.

المظهر لتركيبها وصورها، والخالق أيضاً هو المخترع، والباري هو المصور على مثال، والمصور هو الجاعل له على هيئات وليس إيجاده لما أوجده على مثال للحاجة إليه، ولكنه سبحانه هو القادر المريد، إن شاء أن يوجد ابتداءً أوجد، وإن شاء أن يوجد على مثال أوجد، وله في ذلك القدرة الواسعة والحكمة البالغة. وقد خلق أصول العالم أولاً من غير شيء، ثم رتب بعضها على بعض، ومن جملة ذلك ترتيب "آدم" على خلق "حواء" منه على ما ورد به الأثر الصحيح في قوله: "إن المرأة خلقت من ضِلَع إن ذهبت أن تقيمها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عِوَجٍ" (¬1). ولهذا منع العبد من التصوير لئلا يضاهي خلق الله (¬2)، وقد ارتبطت هذه الأسماء الثلاثة في حق الباري سبحانه بجميع المخلوقات ارتباطاً عاماً على اختلاف متعلقاتها كلها عموماً وخصوصاً حسبما رتبناه مبيناً في كتاب "الأمد الأقصى في الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال العدلى" ¬

_ (¬1) نحوه في البخاري كتاب النكاح: 7/ 33، ومسلم في الرضاع: 2/ 1090 والدّارمي في النكاح: 2/ 148. (¬2) فَصَّلَ المؤلف في الأمد: 115/ أ، ب ما أجْمَلَهُ هنا فقال: "ووردت الرخصة في كل ما لا روح فيه من نبات أو جماد، ووقف النهي على ما فيه الروح لحكمة بديعة، وذلك أن كل مخلوق سوى الآدمي فإنما له صورة ظاهرة لا باطن لها، والآدمي خُلِقَ خَلْقاً بديعاً بأن جعلت له صورة ظاهرة وهي الخَلْق، وصورة باطنة وهي الخُلُق، ومدار الأمر فيه على الصفة الباطنة ... فإذا تعاطى العبد تصوير ما لا باطن له مُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ رُخْصة، وإذا تعاطى تصوير ما له صورة باطنة مُنِعَ من ذلك لثلاثة أوجه: الأول: ارتباط الصورة الباطنة بالظاهرة. والثاني: كونها طريقاً إلي المعجزة الظاهرة على يد عيسى ... الثالث: كونها حمى للصورة الباطنة المعجوز عنها، وحكم الحمى حكم المحمي في الامتناع منه".

فلينظر (¬1) ففيه العجب العجاب من لباب الألباب، ومنه يفتح إلى المعرفة في ذلك كلُّ باب. وهذا تحقيق عظيم فيه كلام طويل تنفجر منه ينابيع معارف لا تحصر، هذا قانون فيها. وقد رُوِيَ أن العَالَمَ الأصغر إذا انتهى إلى العَالَم الأكبر تَمَنَّى أخيراً أن يرى منه ما رأى في الأولى، فَرُوِيَ أنه يتمنَّى في الجنة أن يكون له ولد (¬2) وإبل، وفرس (¬3)، وسوق (¬4)، وزرع (¬5)، وقيل لهم: قولوا ما تريدون فإنه كائن. ¬

_ (¬1) الأمد: من 107/ أ-112/ أ. (¬2) روى ابن ماجه في أبواب الزهد رقم: 4394 (ط: الأعظمي) عن أبي سعيد الخُدْرِي قال: "قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن إذا اشتَهَى الولد في الجنة كان حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ يَتِمُّ في ساعة وَاحِدَةً كَمَا يَشتَهي" ورواه الترمذي في صفة الجنة رقم: 2566، وَنَحْوُهُ في صحيح ابن حبان (موارد الظمآن للهيثمي: 655)، وقال ابن قيم الجوزية في الحكم على إسنَادِ هذا الحديث بأنه على شرط الصحيح: حادي الأرواح: 167. (¬3) أخرج الترمذي في صفة الجنة رقم: 2546 عن بُرَيْدَةَ أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل في الجنة خيل؟ فقال: "إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت ... وقال آخر هل في الجنة من إبل؟ فلم يقل له ما قال لصاحبه، فقال: إن يدخلك الله الجنة، يكن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك"، انظر مناقشة ابن قيم الجَوْزِية لسند هذا الحديث في حادي الأرواح: 177. (¬4) أخرج ابن ماجه في أبواب الزهد رقم 4392 (ط: الأعظمي) عن سعيد بن المسيِّب أنه لقي أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال سعيد: أوَ فيها سوق؟ "قال: نعم أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم ... الحديث، ورواه الترمذي في صفة الجنة رقم: 2552، وقال: هذا حديث غريب، وذكره الحافظ ابن كثير في كتابه" الفتن والملاحم: 2/ 360 - 361، وابن قيم الجوزية في حادي الأرواح: 182. (¬5) أخرج البخاري في التوحيد: 8/ 206 عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَوْماً يحدِّث وَعِنْدَه

ذكر معرفة الرب

{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. ولدينا مزيد مما لا تعلمون. ذكر معرفة الرب قد سردنا من معرفة الرب في معرفة النفس أنموذجاً يتبين به المطلوب، ويظهر منه وجهُ الدليل، ويحكم به لمن قال "من عرف نفسه عرف ربه بالعلم" (¬1). وإذا أضاء لك الفجر على الطريق فاسلكه، حتى تطلع الشمس فيرتفع اللبس، وقد قال العلماء قولاً متفرقاً نظمنا من كلامهم فائدةً مجموعةً: إن الله خلق العبد جسماً مواتاً، ثم نفخ فيه الروح، فإذا به قد صار ¬

_ = رَجُلٌ مِنْ أهْل البَادِيَة أن رَجُلًا مِنْ أهْلِ الجنةِ اسْتَأذَنَ رَبّهُ في الزرْعِ، فَقَالَ: أوَ لَسْت فِيمَا شِئْتَ؟ قالَ: بَلى وَلَكِني أحِبُّ أن أزْرَعَ ... الحديث. ورواه أحمد في مسنده: 2/ 511 - 512، قال ابن قيم الجوزية: "ولا أعلم ذكر الزرع في الجنة إلا في هذا الحديث والله أعلم". حادي الأرواح: 121. (¬1) أغلب المتكلمين ينسبون هذا القول -مع اختلاف في الألفاظ- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (انظر على سبيل المثال الجويني في العقيدة النظامية: 15)، والحق أن إسناده إلى رسول الله باطل، وقد سئل عنه الإِمام النووي في فتاويه فقال: "إنه ليس بثابت" (فتاوى النووي لابن العطار: 274، ط: حلب)، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "موضوع"، وذكر ابن السمعاني أنه من كلام يحيى بن معاذ. انظر: الصاغاني: الموضوعات: 4 (ط: البارونية مصر) السخاوي: المفاسد الحسنة: 419، ابن الديبع: تمييز الطيب من الخبيث: 17، ابن عراق: تنزيه الشريعة: 2/ 402، ملا علي القاري: الأسرار المرفوعة: 351، والمصنوع: 189، القاوجي: اللؤلؤ المرصوع فيما قيل لا أصل له أو بأصله موضوع: 89 (ط: البارونية مصر)، العجلوني: كشف الخفاء: 2/ 262، السيوطي: "القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه" ضمن الحاوي للفتاوى: 2/ 238 - 239.

ذكر المرآة

حياً عَالِماً، قادراً، سميعاً، بصيراً، حكيماً، مُدَبِّراً. فَإِذَا رَدَّ العَبْدُ نظره إلى نفسه، ورآها على هذه الصفات، متمكناً في هذه المرتبة باقتران معنىً موجود بالذات سماه الله روحاً تارة، وسماه نفساً أخرى، ولم يقدر العبد على إدراك حقيقةِ هذا المعنى الذي اقتضى اقترانَهُ بالذات وجودُ هذه الصفاتِ، كان ذلك دليلًا على صحة الاستدلال على وجود الله تعالى بأفعاله، وإن لم تدرك ماهية ذاته، ولا يقدر عاقل أن ينكر وجود الروح مع نفسه لوجود أفعاله، وإن كان لم يدرك حقيقته، كذلك لا يقدر أن ينكر وجود الباري سبحانه الذي دلت أفعاله عليه وإن لم يُدْرِكْ حقيقَتَهُ. ذكر المرآة قالوا: وكذلك خلق الله المرآة يتشكل فيها لصفائها ما قابلها، فيرى العبد نفسه فيها، ولا يقدر أن يقول رأيت شخصي في المرآة، ولا مثالي؛ لأن المرآة قشرةٌ رقيقةٌ لَا تَحْمِلُ طُول الصورة ولا عَرْضَهَا، ولا تتسع لِإقبالها إذا أقبلت على المرآة، ولا تتسع أيضاً لإدبارها إذا أدبرت عنها. فثبت أن الذي يُرَى في المرآة نَفْسُهُ بواسطة مقابلة المرآة له، ويستحيل أن يكون الِإنسان من نفسه في جهة (¬1)، وقد أطنبنا القول في ذلك في كتاب "المقسط" وغيره (¬2). وبذلك يعلم بواسطتها وتَجَلَّي الصور فيها تجلي الحقائق للنفس مما ¬

_ (¬1) لعله يريد أن الشيء الواحد لا يُنسب إلى نفسه، ويعقد بينه وبين نفسه نسبة، فيقال هو أصغر من نفسه أو أكبر من نفسه، أو على يمين نفسه أو على يسار نفسه. وعليه يستحيل أن يكون ما في المرآة هو نفس الإنسان لأنه منه في جهة، فيكون أمامه، ويكون خلفه، ويكون أصغر منه ويكون أكبر منه وهكذا ... (¬2) قال المؤلف في كتابه "المسالك في شرح موطأ مالك": 740 - 741 (مخطوط: القاهرة: 218275 ب) " .. فقد خلق الله المرآة دليلاً على غيب القدرة، فانظر ترى فيها نفسك، وترى فيها ما وراءك، ولي الذي تراه في المرآة مثالاً، بل هو نفس المرء بعينه، والدليل على ذلك =

ذكر حقيقة النوم وحكمته

تلقي إليها الحواس من المعاني، وهي تطّلع عليها من حيث لا تشعر النفس بها، ولا يتفطن العبد لوجهها، وقد يشعر إذا كان مقبلاً على الحقائق وطريق تحصيلها، وعلى النظر في الأدلة وتفاصيلها، وَلَمْ تَشْغَلْهُ العوائق، ولا صرفته الخواطر، ولا شعبت عليه الأطماع، ولا جذبته علائق الآمال (¬1). ذكر حقيقة النوم وحكمته وكذلك خلق الله للعبد النوم، ليعلم به كيفية الانتقال من حال إلى حال، وصفة الخروج من دار إلى دار، فإنه موت أصغر، وقد يقال بنظر آخر أنه يَقَظَةٌ صغرى، فإن نظرنا إليه من حيث عدم الحركة والحس والتصرف بالأفعال معه، قلنا هو موت (¬2) لعدم ذلك كله به، وقد قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أخَذَ بِنَفْسِكَ" (¬3). وإن نظرنا إليه من حيث إنه انقطاع عن عالم التصرف الأدنى مع الآدميين والإكباب على الدنيا ومعانيها، وأنه إقبال على الملائكة المقربين، ¬

_ = أن المرآة تكون في غلظ قشرة البيضة، ثم تقابل فتدنو من المرآة، فترى الدنو فيها، وتبتعد منها فترى البعد فيها، ومحال أن يكون ذلك الدنو والبعد الكثير في غلظ قشرة البيض، فدل على أن الذي يدرك إنما هو حقيقة المرئي. (¬1) قارن الغزالي في مقاصد الفلاسفة: 376 - 377. (¬2) انظر القول في الموت: "المتوسط في الاعتقاد" للمؤلف: 120 - 121. (¬3) هو عند مسلم في المساجد رقم: 680 من حديث ابن شِهاب عن سعيد عن أبي هريرة أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَه حَتى إذا أدْرَكهُ الكَرَى (النعَاس) عَرَّسَ (نزل للاستراحة والنوم) قَالَ لبلاَلٍ: اكْلأ لنَا الليل، فَلَما تَقَارَبَ الفَجْر اسْتَنَدَ بلاَلٌ إلى رَاحلَتِه فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاة فَلَم يَسْتَيْقِظْ وَلَا أحدٌ مِنْ أصْحَابهِ، حَتى ضَرَبَتْهمُ الشمْسُ، فَكَان رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ أولَهُم اسْتِيْقَاظاً، فَقَالَ: أي بلاَلُ؟ فَقَالَ بلاَل "أخَذَ بِنَفْسِي الذِي أخذ بنَفْسِكَ" ... الحديث. وانظر هذا الحديث في الموطأ كتاب وقوت الصلاة: 1/ 13 - 14، أبو داود في الصلاة رقم: 436، الترمذي في التفسير رقم: 31

وتفريغ القلب لإدراك الحقائق بطريق الأمثال، واطلاع على ما يكون غداً (¬1)، رأينا أنه حياة صحيحة، ويقظة محققة بدلاً عن موت مفقد، ونوم مفسد. وقد يرى نفسه في الرؤيا كبيراً، وهو صغير، وصغيراً وهو كبير، وطائراً وهو يمشي، وبهيمة وهو آدمي، وقريباً وهو بعيد، وبعيداً وهو قريب، ومدركاً لما لا يناله في يقظته بحال، فلا يستنكر أن يكون له حالةُ وجود أخرى، يوجد ذلك كله فيها وهي الجنة، فيرتقي فيها إلى درجة عظيمة بتسخير الباري سبحانه له جميعَ الموجودات فيقول للشيء كن فيكون كما قال وأراد. وقد يرى ذلك في منامه متفرقاً ومجتمعاً، وكذلك لا يبعد أن يكون جبريل عليه السلام تارة كبيراً حتى يملأ بجسمه الآفاق (¬2)، وتارة صغيراً ¬

_ (¬1) نلاحظ أن المؤلف رحمه الله قد تأثر تأثراً بالغاً بشيخه الغزالي الذي قال في معرض كلامه عن النبوة: "وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه أن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير" المنقذ من الضلال: 146 وقارن كلام الغزالي بما جاء في الإشارات والتنبيهات لابن سينا: 4/ 119. (¬2) إشارة إلى الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فتر عنه الوحي كان يجاور بحراء فلما هبط سمع صوتاً فرفع رأسه فإذا الملك الذي جاءه بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض قد سَدَّ الأفق بأجنحته ... الحديث، البخاري في بدء الخلق: 1/ 26، 27 ومسلم في الإيمان رقم: 161.

حتى يكون على قَدْرِ دِحْيَة (¬1)، ويأتي مرة في صفة طائر (¬2) وأخرى في هيئة آدمي (¬3)، وربما ظن جاهل (¬4) أن حالة النوم (¬5) حالة تخيل، وهذا جهل عظيم، وقد بينا الكلام عليه في كتبنا وخاصة في رسالة "محاسن الإحسان في جوابات أهل تلمسان" (¬6)، والمشاهدةُ تدفع قولَهُ، فإن المرء يرى الرؤيا نائماً ¬

_ (¬1) هو الصحابي الجليل دِحْية بن خليفة الكَلْبي القضاعي، ورسول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم، روى قَتَادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "يأتيني جبريل في صورة دِحْيَة، وكان دِحْية جميلاً" رواه الطبراني في الأوسط (الهيثمي: مجمع الزوائد: 9/ 378) وأورده الحافظ ابن حجر في الإصابة: 3/ 191 عن النسائي وصحح إسناده. وللتوسع في ترجمته انظر: ابن سعد: الطبقات: 4/ 249، خليفة ابن خياط: التاريخ: 79، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 3/ 439. (¬2) لم أهتد إلى الحديث الذي يشير إلى هذه الصفة. (¬3) إشارة إلى الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: "كَانَ النبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ بَارِزاً يَوْماً لِلنَّاسِ، فَأتَاهُ جبْريلُ فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ ... الحديث " البخاري في الإيمان 1/ 20. (¬4) الظاهر -والله أعلم- أن المؤلف يقصد بهذا الكلام العنيف شيخه الغزالي الذي قال في كتابه "إحياء علوم الدين": 2938 (ط: الشعب) ما نصه: " ... إلا أن النوم مانع سائر الحواس عن العمل، وليس مانعاً للخيال عن عمله وعن تحركه، فما يقع في القلب يبتدره الخيال في الحفظ، فإذا انتبه لم يتذكر إلّا الخيال، فيحتاج المعبر أن ينظر إلى هذا الخيال حكايته أي معنى من المعاني، فيرجع إلى المعاني بالمناسبة التي بين المتخيل والمعاني ... ". (¬5) عرف الشريف الجرجاني النوم فقال "هو حالة طبيعية تتعطل منها القوى بسبب ترقي البخارات إلى الدماغ". التعريفات: 129، وانظر الكليات لأبي البقاء: 4/ 368، كشاف الاصطلاحات: 1430 (ط: خياط). (¬6) أحال المؤلف في العارضة: 3/ 123، على نفس الكتاب والذي اعتبره جزءاً من كتاب: "العوض المحمود". وتكلم المؤلف رحمه الله في كتابه القبس عن الرؤيا فقال: " .. خلق الله العبد حَيْاً دَرَّاكاً مفَكراً قادِراً في أحْسَن تَقْويم، ثم ردده أسفل سافلين، ثم سَلَّطَ عليه السهو والغفلة، ليتبين قصور هذه الفضائل التي فيه حتى لا يقول: أنا، أنا، وَسَلَّطَ عليه النوم وهذه آفة تدرك الحواس، وركود يقوم بالجوارح لا يلحق القلب ولا الروح ولا النفس منها شيء، ولذلك فإن الرؤيا إدراك حقيقة وعلم صحيح، والمرء في يقظته ومنامه لا ينفك عن حاله التي هو عليها، إن كان في اليقظة في تخليط وتلاعب مع البطالين، انتقل إلى مثل ذلك في المنام، وإن كان في يقظته في =

ويرى تَفْسِيرَهَا يَقَظَة، وهذا مما يدركه المتقي، وَيتَأتَّى مِنَ الكَافِرِ كما يَتَأتَّى من المؤمن. ومن الغريب أنا كنا نحاصر بلداً من بلاد الروم، وكان معنا ذمي معاهدٌ حضر في غُمَارِ العسكرية بذمة سبقت له، فقاتلنا ذلك اليوم حتى كدنا نيأس منه، فلما كان صبيحة يوم جاءنا فتكلمنا في هذا الغرض، فقال لي: أظن البلد مأخوذاً، فإني كنت أرى البارحة حيةً تلسع الناس فكنت آخذها وأفتح بطنها ويخرج أولاد صغار فأرمي بهم في كِظَامَةٍ؟. فقلت لترجمان بيني وبينه: رؤيا صحيحة، وسأنظر. فقال الكافر: قد فَسَّرْتُهَا: الحية التي تلسع الناس هذه البلدة، وهي مأخوذة، وسيرمى بأهلها فيخرجون إلى بلادهم، فإنها مزابل عندكم، والرؤيا لكم ليس لنا فيها حظ. فعجبت من صدق رؤياه، وتفسيره لما رآه، وكذلك كان، فتحناها بعد يومين وَمَنَّ الأمير على مَنْ كان بها فخرجوا إلى بلادهم. ¬

_ = العلم والتحقيق، انتقل إلى مثل ذلك في المنام ولففه (كذا) ملك الرؤيا إلى نفسه وألقى إليه مثل ما كان فيه من التحقيق، لكن الرؤيا أقرب حقاً؛ لأنها أقرب إلى الله تعالى ولأنها تأتي بواسطة الملك، وليس عنده إلاّ الحق، فلذلك كانت جزءاً من النبوة؛ لأن الملك يلقيها إلى العبد، ولأجل ذلك كانت بشرى لأنها خبر من الملك عن الله تعالى ... " القبس شرح موطأ مالك بن أنس: 8 (مخطوط الرباط: 25 ج).

ذكر حقيقة المثل

وقد اتفقت العقلاء في كلّ ملة عليها، وقام الدليل القاطع شرعاً وعقلاً على صحتها، وقد استدل النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وأخبرنا عنها تارة يقول: رأيت ربّي، وأخرى، رأيت نفسي وثالثة رأيت أصحابي، ورابعة رأيت أمتي، وخامسة رأيت الدنيا، وسادسة الدار الأخرى، وقال ما لا يحصى: رأيت من الأحوال كذا ... فقد ثبت والحالة هذه صحة ذلك، وهذا قانون من التأويل على جهة التمثيل، وعلم خفي من الدليل على صحة الحقائق من المخلوقات، ووجود الباري وما هو عليه من الصفات. ذكر حَقِيقَةِ المَثَل (¬1) وهو باب من التأويل عظيم، وقانون إلى المعرفة مستقيم. إن الله -سبحانه وله الحمد- لو شاء لَتجَلَّى لعباده حتى يعلموا حقيقة ذاته، ولكنه احتجب عنهم بعظمته وكبريائه، وعرفهم نفسه بالأدلة، ولو شاء أيضاً لجعل الأدلة باباً واحداً، حتى يصل الخلق إلى العلم به من طريق واحدة، ولكنه بحكمته نصبها جليّة وخفية حتى يَرْفَع اللهُ الذين آمَنُوا منكُمْ وَالذينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ، ويسفلَ المعرضينَ، وأهلَ الجهل ¬

_ (¬1) انظر في حقيقة المثل في القرآن: الزركشي: البرهان: 1/ 488، ابن قيم الجوزية: كتاب "أمثال القرآن" (ط: د. ناصر الرشيد)، السيوطي: معترك الأقران: 1/ 165، والإتقان: 4/ 44، والتحبير في علوم التفسير: 314 (ط: الرياض).

درجَاتٍ، ليأخذ فريقاً حكمُ الهدى والنجاة، وآخرَ قضاء الضلال والهلكة، لتحق الكلمةُ، وتمتلىءَ جهنمُ والجنة. فمن خَفِيِّ أدلته ضربُ الأمثال، وهو سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. والمِثْلُ بكسر الميم وفتحها وإسكان الثاء وفتحها عند قوم بمعنى واحد، كقولهم: شِبْهٌ وَشَبَهٌ، وعند المحققين (¬1): المِثْلُ بكسر الفاء وإسكان العين، عبارة عن شَبَهِ المحسوس، وبفتحها عبارة عن شبه المعاني المعقولة، فالإنسان مخالف للأسد في صورته، مشبه له في جرأته وحدته، فيقال للشجاع أسد أي يشبه الأسد في الجرأة، وكذلك يخالف الإنسان الغيث في صورته، والكريم من الإنسان يشابهه في عموم منفعته (¬2). وأنتم عارفون بشبه المعاني، فلا معنى للإطناب معكم فيه، وإذا عرفتم هذه الحقيقة، فقد ضرب الله لنفسه الأمثال في مواضع كثيرة من كتابه في معاني توحيده وربانيته، قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله: تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]. ¬

_ (¬1) النص التالي -إلى قوله ... عموم منفعه، نقله الزركشي في البرهان: 1/ 490. (¬2) انظر: ابن سيده: المخصص: 12/ 153، ابن فارس: مقاييس اللغة 5/ 296. (*) وللتوسع في معرفة آراء المؤلف في هذا الموضوع، انظر: قانون الأسكريال 32/ ب، العارضة: 15/ 295 (حيث أحال على قانون التأويل)، العواصم: 365.

ذكر قانون من التأويل في آية معينة

ذكر قانون من التأويل في آية معينة وهذه آية من التوحيد كريمة، وعلى مرتبة في العلم عظيمة، ضربها الله مثلاً للعلم والإيمان، كما ضرب للجهل والكفر مثلاً ما بعدها في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ -إلى قوله- فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] قال علماؤنا: أراد الله مُنَوِّر السموات بما خلق فيها من الأنوار المحسوسة كالكواكب، ومنور القلوب بما خلق فيها من الهدى، ولذلك قالوا: نور بمعنى: هَادِي (¬1) التفاتاً إلى هذا المعنى (¬2). ¬

_ (¬1) من القائلين بهذا المعنى القشيري في الإشارات: 4/ 283، ولا يخفى ما فيه من الباطل. (¬2) قال ابن العربي في الأمد الأقصى: 91/ أ- ب: " ... اعلموا أرشدكم الله أن الناس بعد معرفتهم بالنور اختلفوا في وصفه تعالى بأنه نور على سبعة أقوال: الأول: أن معناه هادي، قاله ابن عباس. الثاني: أن معناه منور، قاله ابن مسعود، وروي أن في مصحفه: "الله منور السموات والأرض". الثالث: أنه مزين، قاله أُبيّ بن كعب. الرابع: أنه ظاهر. الخامس: أنه ذو النور. السادس: أنه نور لا كالأنوار. السابع: أنه لا يقال فيه أنه نور إلا بالإضافة، قالته المعتزلة .... ". قلت: وبعد أن سرد هذه الأقوال عقب عليها بقوله: " ... والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار لأنه حقيقة، والعدول عن الحقيقة إلى أنه هادي أو مُنَوِّر وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل فلا يصح .... " الأمد: 92/ ب. وانظر: واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل (مخطوط =

وقالوا: مثل نوره يعني في قلب المؤمن (¬1)، تأكيداً للمعنى المذكور، ولا يستقيم التنوير بالهدى إلا بعد العلم والعقل، ونهايته اليقين، ومن شروطه العمل الصالح. فقال قوم: نَوَّرَ السموات بالعقل، وقيل بالعلم، وقيل باليقين، وقيل بالقبول، ويرجع معناه إلى أهل السموات والأرض، وكلها ترجع إلى هادي لاستعمام الهدى لذلك كله، ولكل نور من هذه الأنوار مطرح شعاع، ومنتهى استضاءة، فالنهايات فيها هو الكمال، والتقصير عنها هو النقصان، ويكون ذلك على وجه لا يعترض على الأصل، وقد يعترض عليه. ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن" (¬2). ¬

_ = مكناس): 71/ ب. ونلاحظ أن ابن العربي قد أثبت في كتابه "الأمد الأقصى صفة النور لله كما هو مذهب السلف، أما هنا "بقانون التأويل" فقد تَأثر بالمعطلة في حملهم للنور على المجاز، وهذا التفسير فيه غرابة وبعد عن الحقيقة، وإلا فإن "النور" جاء في أسمائه تعالى وتلقته الأمة بالقبول، وأثبتوه في أسمائه الحسنى، ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة. ولمعرفة أدلة أهل السنة بالتفصيل، انظر: ابن قيم الجوزية في مختصر الصواعق المرسلة: 2/ 188 - 204. (¬1) هذا هو القول المعتمد عند المفسرين، انظر: ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن: 328. (¬2) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في المظالم: 5/ 86، ومسلم في الإيمان رقم: 57، وأبو داود في سننه رقم: 4689، والنسائي في قطع يد السارق: 8/ 64، وابن ماجه في الفتن رقم: 3984 (ط: الأعظمي).

فإن الشعاع المنبثّ من النور لم يصل إليه، فلم ير ما في الزنا من الفحشاء، وكذلك جميع المحرمات. وقال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتى أكُونَ أحَب إِلَيْهِ مِنْ أهْلِهِ وَمَالِهِ وَالناسِ أجْمَعِينَ" (¬1). وهذا مطرح للشعاع ضيق، ونقصان مؤثر ذاهب إلى العدم، وتحقيق للظلمة في القلب وقال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" (¬2). فهذا محل من المعرفة، ومجال للتكليف لم ينته إليه الشعاع، ولا كانت للنور فيه إضاءة، فلما أظلم عليه اقتحم الإِذَايَةَ للجار، وهي حالة نقصان لا تقتضي عدم الإيمان. وهكذا تركب عليه جميع أنواع التوحيد، من معرفة ذات وصفات وخصائص الرسول وجميع أعمال الطاعات، وتدريج بعضها على بعض في المراتب فيما تقدم، وفيما يتعلق به من كفر وَفِسْقٍ وتبديع، ومقابلة ظاهر بتأويل، ويدخل في مهامه من التفسير لا عمارة لها (¬3)، وتركب بحوراً من المعارف لا ساحل لها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الإيمان: 1/ 55، ومسلم في الإيمان رقم: 44، والنسائي في الإيمان: 8/ 114، وابن ماجه في المقدمة رقم: 55 (ط: الأعظمي) مع اختلاف في الألفاظ. (¬2) نحوه في البخاري كتاب الأدب: 7/ 87، والإمام أحمد في المسند رقم: 7865 (ط: شاكر) والحاكم في المستدرك: 1/ 10، وانظر كتاب "حق الجار" للإمام الذهبي (ط: عالم الكتب- الرياض: 1985). (¬3) في العبارة اضطراب.

ذكر تنزيه الذات عن الأمثال

ثم قال سبحانه: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35]. فقال قوم: إن هذا مثل لذاته وضلوا. وخذوا مني نكتة هي خير لكم ما طلعت عليه الشمس. ذكر تنزيه الذات عن الأمثال اعلموا -أفادكم الله علمَه، وأوسعكُم حلمه- أن الباري تعالى نصب الأدلة على معرفة صفاته، وحجب الخلق عن ماهية ذاته حتى يعلموه إذا شاهدوه، فللعيان مزيةٌ في البيان، أنشدني القاضي الرشيد (¬1) رحمه الله بالمسجد الأقصى طَهرَه الله (¬2): لَئِنْ أصْبَحْتُ مُرْتَحِلًا بشَخْصِيِ (¬3) ... فَرُوحِي عِنْدَكُمْ أبَداً مُقِيمُ وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنى ... لَهُ سَألَ المُعَايَنَةَ الكَلِيمُ فَخَبَّأ -والله أعلم- معرفة ذاته لمشاهدته، وأقام الأدلة على صفاته بمخلوقاته، ولذلك إذا نظرت إلى الأمثالِ في الكتاب والسنة وجدتَها على الصفات محالة، وفي بيانها واردة، والذاتُ مخبوءة تحت أستار الجلال والعظمة، يُخْبِرُ عنها بالتقديس، فَتَبَيَّنَ أن هذا المثلَ وغيرَه لصفاته. فضرب الله المثل في هذه الآيةِ لعَشْرٍ بعشر: ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته. (¬2) هذان البيتان لأبي محمد بن حزم، انظر ابن خلكان في وفيات الأعيان: 3/ 327، وابن عماد الحنبلي في شذرات الذهب: 3/ 300، وابن الدَّبَّاغ في مشارق أنوار القلوب: 88 - 89. (ط: ريتر). (¬3) في الشذرات والمشارق: بجسمي.

نور، مشكاة، مصباح، زجاجة، كوكب، إضاءة، إيقاد، بركة، شجرة، زيت، مُرَتِّباً على حذف واختصار، واستدلال بمذكور على متروك، وسبب على مسبب، وحالٍّ على محَلٍّ. والعشرة اللواتي في جانب المَثَلِ: هدى، قلب، إيمان، صدر، صفاء، انشراح، الاستضاء به في المعارف والأعمال. فضرب مثلًا للهدى (1) النور، وللقلب المشكاة، وللإيمان المصباح، وللصدر الزجاجة، ولصفاء الصدر وانشراحه الكوكب المضيء، وللاستضاءة سداد المعارف وصلاح الأعمال، وللإيقاد من الزيت الاستمداد من بحر المعارف، وللشجرة انقسام القلوب. والمعارف من أصل العلم الأول، على أغصان إلى أوراق إلى ثمار على اختلاف أنواع الشجر وصفات الأغصان واختلاف حال الثمار في الهيئات والطعوم، وإمكان الجني وتعذره، وحلوه ومره، إلى غير ذلك من معان لا تبلغها القدرة البشرية، ولا تنتهي إليها العلوم الجزئية، فبها تمام العشرة في المثل، وتشعبت، فلم يمكن إيرادُها في هذه العجالة، وامتزجت فلم يمكن تخليصُها مع هذه الحالة. وقد مهدنا لكم في سبيل هذه الآية في أمالي "أنوار الفجر" وكتاب "المشكلين" ما تستدلون به على أساليب كثيرة من الكلام في علوم القرآن. ووراء هذا وجوه من التأويل في الظاهر، ومعان في الباطن، هذا وسط منها في الحالين، فخذوها دستوراً، واتخذوها قانوناً.

ذكر تمام الوصول إلى المقصود من معرفة النفس والرب

وخص الشجرة بالبركة، لأن العلم يدعو بعضه إلى بعض، ويدل معنى منه على معنى، والبركة هي النماء والزيادة (¬1). وإنما أردنا أن نريكم نوعاً من التفسير، ونشرع لكم سبيلاً في فن من فنون التأويل، ونوضح لكم عن مشكل من التوحيد، ونعقد عندكم وصلًا من ربط المعاني بعضها إلى بعض، ونخلع لكم قشراً من الظواهر عن لباب الباطن. ذكر تمام الوصول إلى المقصود من معرفة النفس والرب وهيهات عنكم من هذا المطلوب إن كنتم تظنون أنه يكفيكم ما تقدم فيه، حتى يكونَ كل منكم جدَّ بصير بنفسه وتفاصيلها وأحوالها وصفاتها، فبقدر ما يحصل لك منها في معرفة نفسك بذلك القدر، يحصل لك من معرفة ربك، وفي هذا المقام زَلَّ مَنْ زَلَّ عن معرفة نفسه، فَضَلَّ عن علم ربه، ولا تتم معرفتك لنفسك إلا بعد أن تنعم النظر في عجائب صنع الله فيها، فهيت لكم. إنه تعالى خلقك -كما أشرنا إليه- على نوعين: مدرك بالبصر وهو الجسد، ومدرك بالبصيرة وهو الروح، وجعل ما بين الجسد والروح رابطة الحواس، وبذلك انتظم الخلق وقام الدليل على وجود الحق، وقد قال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الأحكام للمؤلف: 1388. (¬2) عَلَّقَ المؤلف على هذه الآية فقال: "يعني خلق ذلك لها من غير نظر ولا استدلال" كتاب "الأفعال": 214/ ب.

فَدَلَّ على التوحيد بتسويتها حسنةَ الخلقة في أحسن تقويم من اعتدال الصفة، ونبه على العلم والعمل، وذكر نكتة ينبغي أن تزدادوا بها تبصيراً، ولا تألوا في كل آية لها تذكيراً، وهي قوله: {فَأَلْهَمَهَا}: والإِلهام (¬1) هو الذي يخلقه الله ابتداءً في النفس، ويأتي للعبد من غير نظر، فجاء بلفظ الإِلهام حين أراد العموم في الآدمي والبهيمة، ولما ذكر الآدمي وحده قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] (¬2). وهكذا متى جاء ذكر الآدمي وحده على الاختصاص، ذكر الهدى، ومتى جاء مضافاً إلي غير جنسه، ذُكِرَ من الألفاظ ما يعمّ الجنسين من حقيقة ما هما عليه من المُتَعَلَّقَيْنِ. ثم بين الفجور والتقوى، وشرح النفع والضر، وأمر ونهي، ووعد وأوعد، ودبّر وقدّر، ونبّه على الفضيلة التي بها ينتظم حال الرد على الرذيلة ويتيسر بها جمع شملها في الوجودين، وللتقوى والفجور بواعث وعليها روادع وحثائث، ولهذا معين، ومن تلك قاطع، وجند الله منقسمة على ¬

_ (¬1) انظر تعريف الإلهام في: بيان كشف الألفاظ لأبي المحامد اللاّمشي: 254 التعريفات للجرجاني: 19، كشاف اصطلاحات الفنون: 1308 (ط: خياط). (¬2) انظر في التعليق على هذه الآية الكريمة: الأفعال: 214/ ب، والسراج: 76/ ب، 77/ أ.

الوجهين، والعبد من حكم الله بين لِمَّتَيْنِ، ومن كل شيء خلق سبحانه زوجين، وهذا بحر آخر من التأويل لا ساحل له. وأصول الفضائل التي هي علامات النجاة للنفس باكتسابها لها، واكتسابها بخلع الله عليها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة (¬1). أما الحكمة (¬2) فهي العلم الذي تنزه عن تطرق الجهل والشك إليه والعمل بخلافه قال الله سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ -إلى قوله- كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وبها (تتطهر النفس عن البله والخبث، وذلك بأن تطيع داعي الحق وتعصي داعي الهوى، وأن تَحْكُمَ نفسك، ولا تُحَكِّم نفسك عليك، فتميل إلى رعونات البشرية، وتزيغ عن مقتضى الصفات الإلهية، وتركب عليها معنى الحكمة وتفسيرها وصواحباتها الثلاثة ومعانيها. ووصف الله بالحكيم (¬3) الذي هو أصل هذا العلم والتعليم، وكيف ¬

_ (¬1) لا شك أن المؤلف رحمه الله قد تأثر بطريقة الفلاسفة والحكماء في محاولتهم حصر الفضائل الأخلاقية في الأمهات الأربعة: الحكمة، الشجاعة، العفة، والعدالة، ولكن الجديد عند ابن العربي أنه يستخرج أصول هذه الفضائل من الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، وبذلك يجعلها أموراً شرعية، بل نراه في العواصم (252 - 259) - يتتبع معانيها عند الفلاسفة بالنقد والتزييف. (¬2) انظر: العواصم: 252، السراج: 15/ أ، بيان كشف الألفاظ: 256، التعريفات: 49، الكليات: 2/ 222 - 224، كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 223 - 229 (ط: تراثنا). (¬3) انظر: شرح اسم الجلالة: "الحكيم" من الأمد: 98/ أ- ب، 99/ أ.

تتعلق هذه المعلومات بعضها ببعض، وترجع إلى وصف الله العلي واسمه الحسن. وأما الشجاعة (¬1) فهي ثبوت القلب عند تعارض المضادات من المخاوف والمرجوات، ولم يحز أحد في الإِسلام هذه الصفة حاشا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه كان أشجع الأمة (¬2) بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ثبت قلبه في مواضع زاغت فيها القلوب، وذلك إذ نزلت المصيبة العظمى بموت (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختلط عمر (¬4)، وخرس عثمان (¬5)، واستخفى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، واستسلم سائر الخلق، فكان من أبي بكر في ذلك ما قصرت عنه جميع الأمة، قال (¬6) للناس: "ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما واعده الله كما واعد موسى (¬7)، وَلَيَرْجِعَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقطعن أيديَ الناس وأرجلَهُمْ، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وكان غائباً في منزله بالسُّنْح (¬8)، فدخل منزل ابنته عائشة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى بثوبه، ¬

_ (¬1) انظر: العواصم: 255، العارضة: 9/ 139، التعريفات: 67، كشاف اصطلاحا الفنون: 2/ 229 (ط: تراثنا). (¬2) انظر هذه المواقف في العواصم: 373، الأحكام: 867 - 869، العارضة: 9/ 144، ففيها تفصيل لبعض ما أجمله هنا. (¬3) انظر سيرة ابن هشام: 4/ 1069، تاريخ الطبري: 3/ 207، السيرة النبوية لابن كثير: 4/ 470، الإمتاع للمقريزي: 1/ 548. (¬4) العواصم: وأما عمر فأهجر. (¬5) العواصم: وأما عثمان فسكت، الأحكام: فبهت. (¬6) أي عمر رضي الله عنه انظر العواصم: 374. (¬7) إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]. (¬8) طرف من أطراف المدينة المنورة بينها وبين منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميل. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 3/ 256.

فكشف عن وجهه وقبله، وقال بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً ... الحديث (¬1). إلى أن خرج وصعد المنبر فقال: أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ..... الآية} [آل عمران: 144]. فخرج الناس في سكك المدينة يتلونها كأنها لم تنزل إلاَّ ذلك اليوم (¬2). واختلف الناس أين يدفن؟ فقال قوم: يدفن بالبقيع، وقال قوم: بمكة، وقال قوم: ببيت المقدس إذا فتحت يحمل إليها. فقال لهم أبو بكر: سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا دُفِنَ قَط نَبِي إلا حَيْثُ مَاتَ" (¬3). واختلفوا في ميراثه، فقال أبو بكر: سمعته يقول: "لا نورِّثُ" (¬4) فتذكروا قوله ورضوا حكمه، وارتدت العرب بمنع الزكاة فجزع جميع الناس وأشاروا عليه بترك الزكاة حتى يتمكن الإِسلام فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة (¬5). وأرسل جيش أسامة (¬6) على ما كان بَعَثَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته. فقالوا: كيف تترك المدينة والعرب قد ارتدت حولها؟ فقال: والله لو لعبت ¬

_ (¬1) انظر البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: 5/ 8، والنسائي في الجنائز: 1/ 270 رقم 1466، ومسند أبي بكر للسيوطي رقم: 494 (ط: الغماري). (¬2) انظر البخاري في الجنائز: 2/ 91، الإِمام أحمد 6/ 220. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الجنائز، بَلَاغاً: 2/ 231. (¬4) هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي 8/ 185، ومسلم في الجهاد رقم: 1760، والترمذي في السير رقم: 1610، وأبو داود في الخراج رقم: 2963، والنسائي في قسم الفيء: 7/ 132، وانظر السيوطي: مسند أبي بكر: 102. (¬5) رواه البخاري في استتابة المرتدين 9/ 191، ومسلم في الإيمان: 1/ 52، ومالك في الموطأ كتاب الزكاة: 1/ 269، والترمذي في الإيمان رقم: 261، وأبو داود في الزكاة رقم 1556، والنسائي في الزكاة: 5/ 14، وانظر مسند أبي بكر للسيوطي: 45. (¬6) هو الصحابي الجليل أسامة بن زيد بن حارثة، حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه وابن مولاه، توفي رضي الله عنه في خلافة معاوية رضي الله عنه حوالي: 54 هـ. انظر ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 57، والإصابة لابن حجر: 1/

الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشاً أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبداً، فقيل له: ومع من تقاتل العرب؟ قال: وحدي حتى تنفرد سالفتي (¬1). وهمت الأنصار بالاستبداد بالبيعة، فبادر إليهم، ودخل مجلسهم عليهم، وخطب خطبته المشهورة (¬2) فيهم ثابت القلب، حاضر العلم، ذلق اللسان، بصيراً بمقاطع الأدلة والبيان، حتى انقادوا إلى خلافته، واختاروا أمراء الأجناد في الأقطار، فما وجد بعدهم أحد ينوب منابهم، هذا وفي نزعه ضعف، فكيف لو كانت فيه مرة؟. وبفضيلة الشجاعة تتطهر النفس من رذيلة الهلع والتهور. وأما العفة (¬3): فهي كف النفس عن المكروه، وبها يكون الحياء والصبر والسخاء والورع والقصد والتؤدة وحسن السجية، وبها تتنزه النفس عن الشره والجمود. وأما العدالة (¬4): فهي انتظام العلم والعمل على وفق المقصود من الخصال الثلاثة المتقدمة، وهي المراد عند بعضهم (¬5) بقوله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في جمع الجوامع (مسند أبي بكر: 155) وعزاه إلى البيهقي وأشار إليه برمز "الحسن" ومعنى تنفرد سالفتي، أي يفرق بين رأسي وجسدي. (¬2) حديث السقيفة رواه الإِمام أحمد في مسنده: 1/ 213 (ط: المعارف) وحكم عليه الشيخ أحمد شاكر بصحة الإسناد. (¬3) انظر العواصم: 256 - 258، العارضة: 9/ 145، التعريفات 81، الكليات: 3/ 282، كشاف اصطلاحات الفنون 2/ 229 (ط: تراثنا). (¬4) انظر: الأمد: 106/ ب، العواصم: 258، بيان كشف الألفاظ: 156، التعريفات: 79، الكليات: 3/ 253، كشاف اصطلاحات الفنون: 4/ 1015 (ط: خياط). (¬5) العبارة كما وردت عند الغزالي كما يلي: =

ذكر أقسام حال النفس

المنام لمن رآه "شيبتني هود" لقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. وهي العدالة والصراط المستقيم الذي حملنا الله عليه، ودعانا إليه، وتركب ذلك كله من حال النفس وأحكامها وتصرفها على الآيتين، وتردُّ ذلك كلَّه إلى العدالة وتبين فضيلتها. وبهذه الفضيلة تتطهر النفس عن الجور، وهو الخروج عن المعنى الملائم للعقل والشرع. ذكر أقسام حال النفس وقسم الله حال النفس (¬1) قسماً به يتبين أمرها وتزيد المعرفة بها، ويدل ¬

_ = "وقد رأى بعض المشايخ رسول الله في المنام فقال: ما الذي أردت بقولك: شيبتني هود وأخواتها؟ فقال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}. يعني الاستمرار على الصراط المستقيم، وطلب التوسط بين هذه الأطراف شديد، وهو أدق من الشعرة". ميزان العمل: 268، وانظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس للغزالي أيضاً: 88. قلت والحديث الشريف "شيبتني هود وأخواتها" أخرجه الترمذي في التفسير رقم: 3293، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ورجاله رجال الصحيح، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 37، وحَسَّنَهُ السخاوي في المقاصد الحسنة: 255، وصححه الشيخ الألباني في الجامع الصغير: 3/ 231 رقم 3614 انظر العجلوني: كشف الخفاء: 2/ 15، السيوطي: الدرر المنتثرة: 133، ابن الدبيع: تمييز الطيب من الخبيث: 92. (¬1) وقد تعرض المؤلف رحمه الله إلى هذا الموضوع في سراج المريدين فقال: "اعلموا وفقكم الله أنّ بناء (ن ف س) في لسان العرب يتصرف على معان قد بيناها في الأمد (18/ أ- وما بعدها) وغيره، أصلها أنها ذات الشيء وروحه ورفيقه ودمه، ويرتبط بهذه الأربعة غيرها، وربما رجعت إلى اثنين، وقد تكون ممدوحة وقد تكون مذمومة. والنفس حيث ما ردَّدْنَاهُ نريد به الجملة الآدمية بذاتها وصفاتها وروحها وجيمع ما تشتمل عليه ظاهراً وباطناً. =

على وجود ربها، وصفاته، وحكمته في أحكامه، وذلك على ثلاثة أقسام لثلاثة أحوال: أمّارة بالسوء ولوّامة، ومطمئنة. فالأمّارة بالسوء (¬1) هي التي لا يلوح لها طمع إلاَّ تعرضت له، ولا تبدو لها شهوة إلاَّ اقتضتها، لم تسلك سبيل الرشاد، ولا استضاءت بنور السداد، ولا أحكمتها الرياضة، فهي تهيم من البطالة في كل واد، وذلك الذي يُعبّر عنه بالهوى. وأما اللوّامة: فإن الله كتب على ابن آدم حظه من المعصية، وأدرك ما قدره الله تعالى لا محالة، وخلق له الشهوة تقتضيها المعصية، وخلق له العقل يقتضيه الكف عنها، وخلق المَلَكَ معيناً للعقل، وخلق الشيطان معيناً للشهوة، ولكل واحد منهما إليه لمة، والقدر فوق ذلك كله فإن كف عن المعصية بسابق الفضل له بالعصمة فبها ونعمت، وإن وقع فيها بنافذ القدر، وأدركته رحمة، فأعقب ذلك ندامة على ما فعل، وملامة لنفسه فتلك حالة محمودة ولها -إن شاء الله- عاقبة جميلة لخلوص التربة، وهي حالة أكثر الخلق. ¬

_ = وللآدمي ثلاث حالات أخبر الله سبحانه عنها بثلاثة أخبار: أحدها: أن تكون المعصية شأنه كله. الثانية: أن يكون مطيعاً من وجه وفي حال، عاصياً من وجه وفي حال. الثالثة: أن يكون مطيعاً في كل حال، أو في أكثر الأحوال، بحيث يغلب خيره شره، فالنفس الأولى هي الأمارة بالسوء، والنفس الثانية هي اللوامة، والثالثة هي المطمئنة". السراج 76/ أ. وقال في موضع آخر 75/ أ: "وللنفس ثلاثة أعوان: إبليس، والدنيا، والهوى، وليس لها إلاَّ ناصر واحد وهو العقل، والكل من حزب الشيطان والعقل من حزب الرحمن، والقضاء يسيطر على الكل يفصل بين تنازعهم ويمضي كل أحد إلى ما كتب له". (¬1) انظر: التعريفات: 137، كشاف اصطلاحات الفنون: 6/ 1402 (ط: خياط).

ولفضل هذه الحالة، أقسم الله سبحانه بها فقال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]. وقيل التي أقسم الله بها هي التي تلوم على التقصير في الطاعة (¬1). وقيل: لم يقسم الله قط بنفس، وإنما نفى القسم بها، وقوله: {لَا أُقْسِمُ} أصلية في النفي، وقيل: هي زائدة ولكن القسم على تقدير محذوف كأنه قال: أقسم برب يوم القيامة ونحوه (¬2). وأما النفس المطمئنة (¬3) فهي التي استقرت وتمكنت، ولها في الاستقرار منازل (¬4) لم يحط بها العلماء. المنزلة الأولى: الطمأنينة بالتوحيد، حتى لا يكون بها انزعاج بريب. المنزلة الثانية: الطمأنينة بذكر الله، حتى لا يكون لغيره عندها (¬5) قدر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "سِيرُوا هذا جُمدان، سَبَقَ المُفَرِّدُونَ قَالُوا: وَمَا المُفَردُونَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الذاكِرُونَ الله كَثِيراً والذاكِرَاتُ" (¬6). المنزلة الثالثة: الطمأنينة باليقين حتى لا يجري عليها وسواس، وهذا ليس لأحد (¬7)، قال الله سبحانه لنبيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ ¬

_ (¬1) عرفها المؤلف في السراج: 75/ أفقال: "هي التي إذا عثرت استقلت، وإذا طغت رجعت، وإذا عصت استغفرت، وهي أبداً في اضطراب". انظر: التعريفات 127، كشاف اصطلاحات الفنون: 6/ 1402 (ط: خياط). (¬2) انظر أقسام القرآن لابن قيم الجوزية: 15 - 11. (¬3) عرفها المؤلف في السراج: 75/ أ، فقال: "هي التى سارت على الجَادَّة واستقرت في موطن الطاعة". وانظر: التعريفات: 127، كشاف اصطلاحات الفنون: 6/ 1402 (ط: خياط). (¬4) انظر هذه المنازل في السراج: 76/ ب. (¬5) في السراج: حتى لا ترى لسواه لذة. (¬6) أخرجه مسلم في الذكر رقم: 2676 عن أبي هريرة. (¬7) في السراج: وهذا للأنبياء، فَإنْ تَطَرَّقَ دَفعَهُ بالتوحيد. وهذا للأولياء، فإنْ تَطَرَّقَ دفعه بالمجاهدة، وهذا للمؤمنين.

بِاللَّهِ} [فصلت: 36]. وقال الصحابة يا رسول الله إِنا نَجِدُ في أنْفُسِنَا شَيْئاً لأنْ نَخِرَّ مِنَ المَاءِ فَتَخْطَفنَا الطَّيْر أخَفُّ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ: أوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الِإيمَانِ (¬1). يعني مجاهدة دفعه، إذ لا بد من وقعه، فرحم الله الخلق حين ابتلاهم به بأن جعل مجاهدتهم في دفعه إيماناً صريحاً. المنزلة الرابعة: الطمأنينة بطاعة الله، حتى لا يكون له في المعصية حظ، وهذا ممكن في الكبائر لكل أحد، وفي الصغائر للأنبياء -صلوات الله عليهم- والأولياء. المنزلة الخامسة: الطمأنينة بالتوبة، حتى لا يبقى للمعصية في النفس أثر. المنزلة السادسة: الطمأنينة بالبشارة، كقول الصادق - صلى الله عليه وسلم -: فلان في الجنة، أو قد غفر له (¬2). المنزلة السابعة: الطمأنينة بالبشرى عند الموت، كقول المَلَك للميت (¬3) اخرجي أيتها الروح المطمئنة إلى رحمة الله ورضوانه، وذلك ¬

_ (¬1) نحوه في مسلم كتاب الإيمان رقم: 132 عن أبي هريرة، وأبي داود في الأدب: رقم 5111، وأحمد في المسند رقم 2097 (ط: شاكر). (¬2) انظر أحاديث المَبشَّرِينَ بالجنة: أبو داود في سننه رقم: 4648 - 4650، الترمذي في المناقب رقم: 3749. (¬3) في السراج: "الطمأنينة بالبشارة عند الموت من جهة الملك القابض لروحه".

قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64]. وترَتبُ عليه سائرُ البشارات المترادفة في القبر والنشر والعرصات عند نزول المخاوف بما يشاهد من عظيم الهول وشدة الكَرب وجواز الصراط وتطاير الصحف ونصب الميزان وزفرةِ جهنمَ ونداءِ اَلرب المتحابين والمقسطين. فهذه أقسام النفس وأحوالها، وأصولُ مراتب كل قسم منها، ووجه ترتيبها في العلم وذكرها عند التعليم وما يرتبط بها، وسوقُها عند التعبير والتأويل، وتركيبُها على الآيات حيث ما وردت في كتاب الله، وضمُّ نشرها بذكر ما يتصل بها، وينفصل عنها، وإذا عرفت معنى النفس وحالها، وانقسامها في صفاتها، ونقصانها أو كمالها، وتصرفها في أفعالها، وأحكامها في انكفافها واسترسالها، وتوصلها إلى بارئها باستدلالها، فقد اختلف الناس كما قدمنا في القَسَمِ بِهَا: وتحقيق ذلك أن المخلوقاتِ منها ما عَظَّمَ اللهُ، -وَكُل عَظِيمٌ-، لأن الله خلقه، ومنها ما صَغَّرَهُ، لأن الله ذَمَّهُ وَحَقَرَهُ، أو يقال فيه أنه صغيرٌ بمعنى أن قُدْرَةَ الله أعظم منه. ولقد كنت يوماً في جامع الخليفة ببغداد لصلاة الجمعة، وإذا بصبي واقف عند حائط المقصورة لم يبلغ ثمانية أعوام بحال، وهو يتكلم في التوحيد ويورد فيه مسطوراً بديعاً، تعجز المشيخة عنه قد كان لُقِّنَهُ، فذكر أن عبد الله ابن المبارك سئل عن التوحيد فقال: هو ترك التعجب، ومعنى هذا: ألا ترى شيئاً بديعاً متقناً فتعجب منه لأن قدرة الله أعظم منه، فجعلت أنا أعجب وأطرق مدة متفكراً في جودة حفظه، وحسن إيراده على فرط صغر سنه. قلنا: أن نعظم ما عظم الله لأنه خلقُ الله، ولنا أن نصغره لأن الله أعظم

منه، أو بإضافةٍ إلى غيره. وعلى هذا المعنى خرج قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَيْر" (¬1). ليس لنا نحن تصرف في الاعتقاد والقول في هذا إلاَّ هكذا. فأما الرب سبحانه فله أن يعظِّم ما شاء من مخلوقاته، ومن تعظيمها عنده أن يقسم بها، ألا ترى أنه أقسم بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - إكراماً له وتشريفاً فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] (¬2). ثم زاده تشريفاً بأن أقسم بخيله وضباحها، وضربها في الأرض وانقداحها وغاراتها في صباحها، وإذا قال ذلك سبحانه وعظم وأقسم بها وتكلم فيكون هذا مخصوصاً بالباري على قول (¬3)، وفي آخر يكون لنا أن نقسم بما أقسم به خاصة دون غيره من المخلوقات، وذلك لأن القسم بغير الله كان ممنوعاً في صدر الإِسلام قطعاً، لذريعة تعظيم الخلق لغير الله، واعتقادهم أن لهم أثراً في نفع أو ضر، فنهوا عن ذلك حسماً للباب، حتى استقر التوحيد في القلوب وقدر الكل الله حق قدره، ولذلك روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أفْلَحَ وَأبِيهِ إِنْ صَدَقَ، دَخَلَ الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب: 10/ 436 (من الفتح)، ومسلم في الآداب: رقم: 2150 من حديث أنس بن مالك، والنُّغَيْرُ تصغير النُّغَر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار، ويجمع على نِغْرَان. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 5/ 86. (¬2) قارن بالقشيري في الإشارات: 3/ 277. (¬3) انظر أقسام القرآن لابن قيم الجوزية: 7. (¬4) الذي في مسلم: "أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق" كتاب الإيمان: رقم: =

وقيل إنما أقسم بها لِمَا فيها من عظيم القدرة لله، وكل قَسَمٍ أقسم الله به في كتابه فإنه بمخلوقاته، إلاَّ في خمسة مواضع فإنه أقسم فيها بنفسه. الأول: قوله {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الذاريات: 23]. الثاني: قوله {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]. الثالث: قوله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65]. الرابع: قوله {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]. الخامس: قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40]. والنكتة العظمى والفائدة الكبرى في ذكره لهذا القسم الخامس بإدخال حرف "لا" فيه أن يكون مساق قسمه فيه بنفسه مساق قسمه بمخلوقاته، لئلا يظن مقصر أنها زائدة، وذكر القول في تلك الأقسام على تقدير محذوف كما تقدم، فإن هذا كله ممتع في قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} وهو شاف كاف لكل متكلف رمى بالقول في تلك الآيات من حيث لم يعلم، فافهموه ترشدوا، وَتَيَقَّنُوا أنها ليست بنفي، ولا برادّة لكلام متقدم، فقد رده قوله: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39]. ثم وقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}. ¬

_ = 11، وانظر: البخاري في الإيمان 1/ 97، ومالك في قصر الصلاة في السفر: 1/ 175، وأبو داود في الصلاة، رقم: 391، والنسائي في الصيام: 4/ 121.

ذكر المنازعة بين الجسد والنفس

وأنا أقول إنه لو أقسم بها مقسم لما أقسم بها إلاَّ بالصيغة التي ذكر الله، مثل أن يقول: لا أحْلِف بمواقع النجوم أنه لقد كان كذا وكذا ... والصحيح الاقتداءُ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ باللهِ أو ليَصْمُت" (¬1). فقد أقسم الله بما أقسم، فقوله الحق، وَأمرَ النبي بما أمرَ، وَشَرْعُهُ متبع، وَيَحِقُّ للنفس أن تُعَظَّمَ فَإِنَ لها خصالًا وصفاتٍ، وهي جادة المعرفة وطريق التوحيد، وبينها وبين الجسد منازعات. ذكر المنازعة بين الجسد والنفس وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أصْبَحَ ابنُ آدَمَ كَفَّرَتْ أعضَاؤُهُ اللَّسَانَ تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنكَ إِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِذَا اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" (¬2). فظاهر هذا أن الجسد تحت حكم النفس، وأنه يتقي الهلاك منها بما تلقي إليه، وَكَفَّرَ الجسد اللسان أي سَلَّمَ عليه بالخضوع والانحناء وهو ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في الشهادات: 3/ 162. (¬2) لفظ الحديث كما ورد عند الترمذي في الزهد رقم: 2409: "إِذَا أصْبَحَ ابنُ آدَمَ، فَإِن الأعْضاءَ كُلهَا تُكَفرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتقِ الله فِينَا، فَإِنمَا نَحْنُ بكَ، إن اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإن اعْوَجَجَتْ اعْوَجَجْنَا" وأخرجه ابن خُزيمة في "صحيحه" والبيهقي في "شعب الِإيمان" وقال عنه شيخنا ناصر الدين الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير: 1/ 156. والتكفير هو أن ينحني الإنسان ويطاطىء رأسه قريباً من الركوع، انظر الزمخشري: الفائق في غريب الحديث: 3/ 268، وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 4/ 188.

سلام الأعاجم، وَعَبَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السلام بتكفير الأعاجم؛ لأنهما أعجميان، ولأنه الغاية في الخضوع، فضرب المثل به لعظيم التقية فيه. وفي الحديث حِكَم استوفينا شرحها في "مختصر النيرَيْنِ". ومنها أن يقول: كيف كَفَّرَ الجسد اللسان دون النفس وهي الحاكمة للسان؟. لأنها ملك البدن أو فارسه على اختلاف المقاصد في ضرب الأمثال، وبهذا استقرت في البدن استقرار الملك، والحواس جواسيس لها، ولكل واحد مطلع، فمطلع البصر الألوان، ومطلع السمع الأصوات، وهكذا إلى آخرها، فينهون إلى النفس ما يطلعون عليه. وعن كَعْب (¬1) "إن الإنْسَانَ عَيْنَاة هَاد، وَأذُنَاهُ قُمْعٌ، وَلِسَانُهُ تُرْجُمَان، وَيَدَاهُ جَنَاحَانِ، وَرِجْلَاهُ بَرِيدَانِ، وَالقَلْب مَلِك، فَإذَا طَابَ المَلِكُ طَابَتْ جُنُودُه" (¬2). ¬

_ (¬1) هو كعب بنْ مَاتِع الحمْيَرِي اليَمانِيُّ العلامةُ الحَبْر، كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَحسُنَ اسلامه، وكان يحدث كثيراً من كتب الإسرائيليات. ابن سعد: الطبقات: 7/ 445، ابن الأثير: أسد الغابة. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 489. (¬2) تمام الحديث أن كعب الأحبار قال: دَخَلْتُ عَلى عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا فقلت: إنَّ الإنْسَانَ عَيْنَاهُ ... الحديث، فقالت: هَكَذَا سَمِعْت رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: قلت أورد هذا الأثر الغزالي في الإحياه: 3/ 13، وعلّق العراقي عليه بقوله: "أخرجه أبو نعيم في الطب النبوي، والطبراني في "مسند الشاميين". والله أعلم بدرجته.

ذكر الآيات الواردة في النفس والقلب والجوارح

وفي جامع عبد الرزاق (¬1) عن أبي هريرة (¬2) قال: "القَلْبُ مَلِك وَلهُ جُنُود، فَإذَا أصْلَحَ الله المَلِكَ صَلُحَتْ جُنودُهُ، وَإذَا فَسَدَ فَسَدَتْ جُنُودُهُ، الأذُنَانِ قُمْعٌ، وَالعَيْنَانِ مسلحة، واللسان ترجمان، واليدان جناحان، والرجْلَانِ بَرِيدَانِ، الكَبدُ رحمة، والطحَالُ ضحك، والكليتان مكر، والرئةُ تنفس، فَإذا صَلَحَ المَلِكُ صَلُحَتْ جُنُودُهُ" (¬3) وَتَصَرف في ذلك كله. ذكر الآيات الواردة في النفس والقلب والجوارح وإذا ذكرت الفلاسفة معنى هذه الأمثال، ففيها حجة عليها في قولها إن النفس تتجلّى لها الحقائق دون نظر، وإذا كان اللسان خادماً للنفس فكيف تكفِّره الأعضاء دونها؟. ونحن نقول: إن هذه التمثيلات الواردة في القرآن والحديث لا مطمع في الإحاطة بمتعلقاتها، وإنما يأخذ كل واحد منها بمقدار ما تفيض رحمة الله عليه منها، ولعل الجسد إنما يقصد اللسان لأنه الأدنى إليه والظاهر له. ¬

_ (¬1) هو الإمام الحافظ عبد الرزاق بن همام الحِمْيَرِي مولاهم، أبو بكر الصنعاني، روى عن الأوزاعي والإمام مالك وخلق كثير، ولد سنة 126، وتوفي سنة 211، انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 366. (¬2) هو الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وهو أشهر من أن يترجم له، قال عنه الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، توفي رضي الله عنه سنة: 59، انظر في ترجمته، ابن قتيبة: المعارف 120، ابن عبد البر: الاستيعاب: 4/ 202، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 32. (¬3) أورد المؤلف هذا الحديث في سراج المريدين: 66/ أوعقب عليه بقوله: وهذا لا يحتاج إليه مع كلام النبوة وينبوع الحكمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألاَ إن في الجَسَدِ مضْغَة ... الحديث". قلت: وحديث أبي هريرة أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه: 11/ 221 رقم: 20375، ورواه البيهقي في الشعب كما ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: 1/ 241. وثمة اختلاف يسير في ألفاظ الحديث.

وقيل المعنى أنه يورّعه بالله تعالى كما فعلت الصديقة حين قالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. وهذا مثل ضربه الله لجناية اللسان على البدن، فإنه يتكلم بما فيه هلاكه وهلاك البدن معه. ومن الرباط الذي بين الجسد والنفس مثال غريب ضربه العلماء، وأسنده بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى ابن عباس (¬1) ولم يصح، قالوا: "بَلَغَ مِنَ الخُصُومَةِ بَيْنَ الخَلْقِ يوم القيامة إلَى الروح وَالجَسَدِ، فيَقُولُ الرَّوح: رَبَ هَذَا الَّذِي عَمِلَ العَمَلَ، فَخَلدْ عَلَيْهِ العَذَابَ، فيَقُولُ لَهُ الجَسَد: وَمَا كُنْتُ أنَا؟ إِنَّمَا كُنْتُ أبْسُطُ بِهِ، وَأقْبضُ بهِ، وأعْمَلُ بهِ، وَأقُومُ بهِ وَأقْعُدُ، فَيُقَالَ لَهُمَا: أرَأيْتُمَا لَوْ أنَّ أعْمَى وَمُقْعَداً أُدْخِلَا حَائِطَاً مُثْمِراً، فَقًالَ البَصِيرُ لِلأعْمَى: أنَا لَا أنَالُهُ، فَقَالَ لَهُ الأعْمَى: أنَا أحْمِلُكَ عَلَى عُنُقِي حَتَّى تُدْرِكَهُ، فَأخَذَهُ فَحَمَلَهُ حَتَّى أخذ مِنَ الثمَرِ وَأكَلَا جَمِيعاً، عَلَى مَنْ يَكُونُ العَذَاب؟ فيقول: عَلَيْهمَا جَمِيعاً (¬2). ولعظيم موقع معرفة النفس من معرفة الرب قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. ¬

_ (¬1) هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، حَبْرُ الأمة وتُرجُمَان القرآن، توفي رضي الله عنه سنة: 63، انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب: 2/ 350، ابن حجر: الإصابة 2/ 330، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 40. (¬2) لم أعثر على هذا الحديث الباطل المكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصه كما ذكره ابن العربي، وإنما وجدت في الموضوعات لابن الجَوْزِي: 3/ 249 حديثاً يشبهه عن أنس بن مالك، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، كما أورده السيوطي في اللآليء المصنوعة: 2/ 449 - 450 وعزاه إلى الدارقطني، وحكم عليه بالوضع كذلك، انظر الفتني: تذكرة الموضوعات: 224.

نكتة في الباب

فَإنَّكَ لا تغفل عن شيء من نفسك إلاَّ وقد تَرَكَّبت عليه غفلة بربك، لأن كل شيء منك دليل عليه، وطريق مهيع إليه، والباري سبحانه يبصرك نفسه بنفسك، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]. وفي كل شيء له آية، في السموات والأرض، وما بينهما، وفي النفس، ونفسك أقرب إليك وأقعد بك. فهذا طريق وأصل في التفسير، وقانون من التأويل، فخذ به، وركّب عليه ما في ابن آدم من الآيات، وقد قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. قيل: تستدل بكل شيء من المخلوقات على الباري، فإذا عرفته، استدللت به على كلّ شيء، وقوله: "في الآفاق": من تغير الأحوال، وتبديل الدول، واختلاف الليل والنهار، والغيم والصحو، وظهور الإِسلام، وخمول الكفر، إلى غير ذلك من بحار التأويل، ومهامه التفسير، وتركب عليه ما يليق به من التنظير. نكتة في الباب: ولا يخفى فضلُ الروح على الجسد، فإن الله سبحانه لما ذكره قال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71]. فأضاف الجسد إلى الطين، ولما ذكر الروح أضافها إلى نفسه تشريفاً

فقال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72]. وقد قام الدليلُ على أن الجسد يفنى والروح يبقى، والباقي أشرف من الفاني، وحقيقة التفضيل انما يكون عندنا بالصفات لا بالذوات، فإنَّ الدليل قد قام على أن الذوات متجانسة. مزيد بيان فيه: قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .... الآية} [الإسراء: 85] (¬1). فحجبها عن الخلق، فتسلطوا عليها، وتابعت الصوفيةُ الفلاسفةَ (¬2) في ¬

_ (¬1) قد أجاد المؤلف رحمه الله تحقيق هذا الموضوع -قضية الروح- في تفسيره الكبير الجامع المانع "معرفة قانون التأويل": 59/ أ- 66/ ب فقد ذكر فيه أقوال العلماء وَالفِرَقِ وتحرير آرائهم ومذاهبهم على أفضل وجه وأجمعه فَرَاجِعْهُ. وانظر المتوسط: 121، المسالك في شرح موطأ مالك لوحة: 72، القبس شرح موطأ مالك بن أنس: 10، العواصم: 35، العارضة 7/ 42، الأحكام: 1224. (¬2) على رأس الصوفية المتأثرين بالفلاسفة، شيخه الإِمام الغزالي والذي عناه بقوله: "قالوا" فقد صرح باسمه في المسالك: 79 حيث قال: "وأما الذي ذهب إليه الطُّوسِي فهي عبارة فلسفية وهي عن سُبُلِ الشرْع قَصِية، وقد حام عليها في أكثر كتبه". قلت: وهذه العبارة الفلسفية هي التي أوردها ابن العربي هنا بقانون التأويل، وهي عند الغزالي في "روضة الطالبين": 70 كالتالي: ( ... فإن قيل فما معنى قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وما معنى عالم الأمر وعالم الخَلْق؟ فيقال: إن كل ما يقع عليه مساحة وتقدير فهو من الأجسام وعوارضها، فهذا هو عالم الخَلْق، والخَلْق ها هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث، يقال خَلَق الشيء: قدّره، وكل ما لا كميةَ له ولا تقدير يقال انه أمر ربانيّ ... فكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشرية وأرواح الملائكة يقال أنه من عالم الأمر، وعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير، لانتفاء الكمية عنه، فإن قيل: فهذا يُوهِمُ أن الروح قديم ليس بمخلوق، فيقال: قد توهم هذا قوم ضلال، فمن قال إنه ليس بمخلوق بمعنى أنه غير مقدر بكمية لأنه لا يتجزأ أو لا يتحيز فهو مصيب، إلا أنه مخلوق بمعنى أنه حادث وليس بقديم ... ) ". وانظر مثل هذا الكلام في كيمياء السعادة له: 506، وللتوسع في معرفة آراء المتصوفة انظر

شيء من أغراضها فيها، قالوا: العالمُ عالمان، عالم الخلق، وعالم الأمر، والروح (¬1) من عالم الأمر، وأشاروا إلى أن الخلق من العالم ما كان كَميّاً (¬2) مُقَدَّراً، والأمرَ ما لم يكن مقدّراً، والروح عندهم حادث ولا يكون عندهم محدث في احترازات من مقاصدَ لا خير فيها قد بيناها في كتب "الأصول"، وأوضحنا أن العَالَمَ وكل ما سوى اللهِ مخلوقٌ داخل في الكميةِ مقدرٌ، وإنما الذي يتقدس عن الكمية ويتعالى عن التقدير هو الله وحدَهُ، ويكاد يكون هذا القولُ تحليقاً على مذاهب الحلولية، واعتصاماً بمذهب النصارى في عيسى، والقول مستوفىً في كتب "الأصول" على فساد ذلك كله بالدليل وما أبعده عن التحصيل وأفسده في التأويل، ولقد عجبت من حكايته الطوسي (¬3) له، ولقد تأملته معه مذ فارقته، تأمل المنصف له، المجتهد في بيانه، فما وجدت له في الثبوت قدماً، ولا استمر على سبيل التحقيق لقاصد أمماً. وكذلك تسور القاضي عليها، وأطنب القول فيها، وأبان بالدليل أنها مخلوقة، وإذا ثبت ذلك، فلا يخلو أن تكون جوهراً أو عرضاً، وأشار إلى أنها عرض على الوجه المعلوم في كتبه (¬4)، ومال الجُوَيني إلى أنها ¬

_ = الرسالة القشيرية 1/ 49، 2/ 308، اللمع للطوسي: 554 عوارف المعارف للسهْرَوَرْدِي: 443 - 452، كشاف اصطلاحات الفنون: 3/ 18 - 28 (ط: تراثنا) وانظر نقد وتقويم هذه الآراء من وجهة شرعية كتاب "الروح": 144 لابن قيم الجوزية ففيه تتبع عظيم. (¬1) الكلام التالي أورده المؤلف في قانون القاهرة 60/ ب-61/ أمع اختلاف في الألفاظ. (¬2) في قانون القاهرة 60/ ب: كثيفاً. (¬3) انظر تعليقنا السابق. (¬4) لم أتمكن من معرفة آراء الباقلاني في الروح، فهو لم يتطرق لهذا الموضوع في كتبه التي بين أيدينا، والذي عثرت عليه هو ما نقله ابن العربي عنه في "قانون القاهرة" لوحة 63/ ب: قال: "إن الروح عرض يحدث في ظاهر الأجسام الكثيفة".

جسم تعويلاً على ظواهر الشرع فيما أضاف إليها من الأفعال، وأخبر عنها من الأحوال، وخاصة في العروج والانتقال والأكل في الجنان، وذلك من خصائص الأجسام (¬1). وأشار جماعة إلى أن الروح تفارق البدن، وهي عرض فتقوم بجزء من الجسم تضاف إليه هذه الأوصاف كلُّها التي تستحيل على الأعراض، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أشار إلى هذا المعنى بقوله في الحديث الصحيح: "كُل ابْنِ آدَمَ يَفْنَى تَأكُلُهُ الأرْض إلا عَجْبُ الذَنَب مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكبُ" (¬2) فتعارضت هذه الأعراض المشار إليها، فتوقف قوم عنها، والذي يتحصل من ذلك كله أمران: أحدهما: أن الروح بالدليل القاطع العقلي مخلوق من غير إشكال، يكفر جاحد ذلك. الثاني: أن الروح بالدليل القاطع الشرعي باقيةٌ لا فناء لها، والنظرُ ¬

_ (¬1) قال الجويني ما نصه: "الأظهر عندنا أن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة، أجرى الله تعالى العادة باستمرار حياة الأجسام ما استمرت مشابكتها لها، فإذا فارقتها يعقب الموت الحياة في استمرار العادة. ثم الروح من المؤمن يعرج به ويرفع في حواصل طيور خضر إلى الجنة، ويهبط به إلى سحيق من الكفرة (هكذا بالأصل وهو تحريف) كما وردت به الآثار، والحياة عرض تحيا به الجواهر، والروح يحيى بالحياة أيضاً وإن قامت به الحياة، فهذا قولنا في الروح" الإرشاد: 377. قال ابن العربي في قانون القاهرة: 60/ ب "ألف الجويني ثلاثة مجلدات في الكلام على حقيقته ولم يصف (كذا) فيه شيئاً غير أنه حكى أقوال الناس وجميع الفرق". قلت: وإلى هذا التأليف أشار الجويني في العقيدة النظامية: 59، حيث قال: "ولو ذهبتُ أتكلم في الروح لطال المرام، وقد جمعت كتاباً سميته "كتاب النفس" وهو يشمل قريب من ألف ورقة". (¬2) أخرجه البخاري في التفسير: 8/ 424، ومسلم في الفتن رقم: 2955، ومالك في الموطأ كتاب الجنائز: 1/ 239، وأبو داود في سننه رقم: 4743، والنسائي في الجنائز: 4/ 111، كلّهم عن أبي هريرة بلفظ: كُل ابْنِ آدَمَ تَأكُلُهُ الارْض" ولم ترد كلمة "يفنى" فالله أعلم بها.

ذكر الاعتذار عن عدول العلماء عن الكتاب إلى أدلة العقول

بعد ذلك في أنها عرض لوجود أو جوهر؟ فهذا موضع الِإشكال، ومحل الاجتهاد، وسبيل العذر في ذلك ممهد لمن اضطرب فيه قوله، واختلف عليه رأيه، والأقوى أنها عرض لا جوهر، وصفة غيرُ مَوْصُوف، فإن التحامل على الألفاظ في تأويلها وصرفها من الحقيقة إلى المجاز، أقرب في النظر من الاضطراب فيكم، الأدلة العقلية التي توجب أنها لا تقوم بنفسها حسب ما سطرناه في كتب "الأصول" من كلامنا ونقلناه منتحلاً عن علمائنا (¬1)، وهو قانون عظيم، فتمسكوا به في الأغراض العلمية، وصرّفوه في الِإبرام والانتقاض عند التصرف في وجوه التأويل. ذكر الاعتذار عن عدول العلماء عن الكتاب إلى أدلة العقول فإن قيل فما عذر علمائكم في الِإفراط بالتعلق بأدلة العقول دون الشرع المنقول في معرفة الرب، واستوغلوا في ذلك (¬2)؟. قلنا: لم يكن هذا لأنه خفي عليهم، إن كتاب الله مفتاح المعارف، ومعدن الأدلة، لقد علموا أنه ليس إلى غيره سبيل، ولا بعده دليل، ولا وراءه للمعرفة معرس ولا مقيل، وإنما أرادوا وجهين: ¬

_ (¬1) هنا ينتهي نص قانون القاهرة 61/ أ. (¬2) قال المؤلف حول هذا الموضوع في سراج المريدين: 52/ ب ما يأتي: " ... نشأت المبتدعة من القدرية وأترابهم، فتكلموا بألفاظ الأوائل من عرض وجوهر وحامل ومحمول، وخاضوا في أن العرض يتعدد، وأن الجوهر الفرد لا يتعدد، وركبوا عليه أدلة التوحيد، وهذا وإن كان يفضي إلى تحقيق، ولكنه خروج عن سيرة السلف، ويصلح للغلبة في الجدال، وإلاّ فقد أغنى الله في كتابه بما وضع من أدلته، "وَلَيْس مِنا مَنْ لمْ يَتَغَن بِالقُرْآنِ". ولو لم يمكنوا أنفسهم من هذه الألفاظ معهم ولا انقادوا في تَرْدَادِهَا في النظر إليهم، لكانوا قد سدّوا من البدعة باباً، وطمسوا وجهاً، فإن المداخلة لهم، فيها إطالة النفس، وما حلت عقدة الحبس".

أحدهما: أن الأدلة العقلية وقعت في كتاب الله مختصرة بالفصاحة، مشاراً إليها بالبلاغة، مذكوراً في مساقها الأصول، دون التوابع والمتعلقات من الفروع، فَكَمَّلَ العلماء ذلك الاختصار، وَعَبَّرُوا عن تلك الِإشارة بتتمّة البيان، واستوفوا الفروع والمتعلقات بالإِيراد. الثاني: أنهم أرادوا أن يُبصَّروا الملاحدة، ويُعَرِّفُوا المبتدعة أن مجرد العقول التي يَدَّعُونَهَا لأنفسهم، ويعتقدون أنها معيارهم، لا حظ لهم فيها، وزادوا ألفاظاً حرروها بينهم، وساقوها في سبيلهم، قصداً للتقريب ومشاركة لهم في ذلك من منازعتهم، حتى يتبينَ لهم أنه كيف دارت الحالُ معهم من كلامهم بمنقول أو معقول، فإنهم فيه على غير تحصيل (¬1)، وذلك يتبين بتتبع أدلتهم في الفصول. فقد علمتم أن الله سبحانه قد أوعب القول في حدث العالم، ونبه باختلاف الأعراض عليها في الانتقالات (¬2)، وكذلك كرر ¬

_ (¬1) انظر هل يرضى هذا الاعتذار علماء السلف؟ في رأينا أنه لا يرضيهم ومن أراد الوقوف على ذلك فليرجع إلى ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل: 7/ 144، ابن أبي العز: شرح عقيدة الطحاوي: 152 - 159. (¬2) هذا الدليل هو المعتمد عند ابن العربي رحمه الله، فهو يقول عنه: " ... الاستدلال بالتغير على الحدوث إليه يرجع كل بسيط وموجز من الأدلة، وعليه عَوَّلَ الخليل إبراهيم عليه السلام ... " المتوسط في الاعتقاد: 7. وقال في واضح السبيل: 65/أ (مخطوط مكناس: 926 تفسير): " ... الدليل على حدث العالم قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} وللعلماء في إثبات حدث العالم طرق كثيرة منها بسيطة، ومنها وجيزة، وأبسطها ما انعقد عليه القول وذكر فيه الدليل مرتباً على أربع مقدمات: المقدمة الأولى: إثبات الأعراض. الثانية: إثبات حدثها. الثالثة: إثبات استحالة تعري الجواهر عنها، إذ الجواهر لا تسبق الحوادث. الرابعة: إثبات استحالة حوادث =

القول في دلالة التوحيد بالتمانع (¬1) في قوله: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]. وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. وهذان الدليلان همان اللذان بسط العلماء ومهدوا بما يتعلق بهما من فصول وتوابع، ثم تكلموا مع المخالفين بمجرد الأدلة العقلية غير هذين ليرى الملحد أنه محجوج بكل طريق، وقد مهدنا ذلك في كتب "الأصول"، فلينظر فيها ولينقل منها. ¬

_ = لا أول لها، فإذا ترتبت هذه الأربعة صحّ المطلوب .. " للتوسع في معرفة هذا الدليل انظر: "الوصول إلى معرفة الأصول" للمؤلف: 17، ابن فورك "رسالة التوحيد" 3/ ب-4/ أ (مخطوط عارف حكمت: 926 تفسير) الجويني "لمع الأدلة" 76، البيهقي: "الاعتقاد": 38، وقال عنه شيخ الإِسلام: "إن هذا الأصل في إثبات وجود الله ليس من أصول الدين، وهذه الطريقة مما يعلم بالأضطرار أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه، ولهذا اعترف حذّاق أهل الكلام كالأشعري وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها باطلة عندهم، وإن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعى بها مطلقاً ... " درء تعارض العقل والنقل: 1/ 39. (¬1) وطريقة الأشاعرة في تقرير هذا الدليل كالتالي: "لو افترضنا وجود إلهين قادرين على الفعل والتَّرْك أمكن التمانع بينهما بأن يريد أحدهما؛ تحريك الجسم، ويريد الآخر تسكينه، ويقصد كل منهما إلى تنفيذ مراده، فلا يخلو الأمر من وقوع أحد الاحتمالات الثلاثة الآتية: الاحتمال الأول: تقدير حصول مراد كل منهما وذلك محال، لما يلزم عليه من اجتماع الضدين. الاحتمال الثاني: تقدير ارتفاع مراد كل منهما، وذلك محال أيضاً لامتناع خلو الجسم عن الحركة والسكون، ولو صح وقوع هذا التقدير لما استحق كل منهما أن يكون إلهاً لعجزه عن تنفيذ مراده. الاحتمال الثالث: تقدير نفاذ مراد أحدهما دون الآخر، وحينئذ فالذي نفذ مراده هو الإله آلْقَادِرُ دون غيره". قلت: هذا الدليل هو الحجة المعتمدة عند جلّ علماء الكلام في الاستدلال على وحدانية الله عزّ وجلّ، ونحن نوافقهم على أن دليل التمانع دليل عقلي وبرهان تام على امتناع صدور العالم عن فاعلين قادرين صانعين له، ولكن الاعتراض عليهم يَكْمُنُ في معرفة مطلوب هذه الآية

ذكر الخبر عن علوم القرآن

وقد غلا بعض الناس فقال: ليس من كلام الناس شيء إلاَّ وهو في القرآن، وتكلف سرد ذلك، فما ظنك بأدلة العقول وما سطّره العلماء، إنه بذلك لأجد وفيه لأوحد. ذكر الخبر عن علوم القرآن وقد تحقق كل عالم أن كتاب الله وسنة نبيه بيان لكل معلوم، فإن العقول وإن كانت خلقت مستعدة لقَبُول المعارف وتمييز الحقائق، فليس في الإِمكان إحاطتها بجملتها، فإن الإِحاطة لا تكون إلا للمحيط، وذلك معلوم قطعاً، حتى أن الأوائل قالوا: إن الجزء يستحيل أن يكون مسيطراً على ¬

_ = فهل الآية المذكورة تشتمل على دليل التمانع؟ في نظري أن مطلوبها ليس تقرير دليل التمانع، ولا سيقت لِيُستدَل بها على نفي أن يكون هناك شريك لله في خلق العالم وإيجاده، وإنما جاءت الآية لتقرر مطلوب الأنبياء في قضية التوحيد، وهو نفي الكثرة في الألوهية، بمعنى أنه لا يوجد من يستحق العبادة سوى الله، فهو استدلال على وحدة الألوهية بفساد العالم لو وجد من يستحق العبادة مع الله. انظر بسط هذا الدليل في كتب الأشاعرة: الأشعري في "اللمع": 20 وفي "رسالته إلى أهل الثغر": لوحة: 3 (المخطوط المصور بالجامعة العربية رقم: 105 توحيد) "رسالة التوحيد" لابن فورك: 4/أ- ب، 5/ أ (مخطوط عارف حكمت بالمدينة رقم (936 تفسير) "أصول الدين للبغدادي": 75، التمهيد: 25. الإرشاد: 35. وعند المعتزلة "المغني" للقاضي عبد الجبار: 4/ 241، 275، 300 أما نقد هذا الدليل من وجهة نظر كلامية فانظر: غاية المرام للآمدي: 152، ومن وجهة نظر فلسفية كلامية: ابن رشد في مناهج الأدلة: 157 (مع ضرورة الرجوع إلى مقدمة محمود قاسم)، والطوسي في شرحه على تحصيل الرازي: 140. ومن وجهة نظر صوفية: ابن العربي في الفتوحات المكية: 2/ 289. ولمعرفة رأي السلف في المسألة انظر: كتاب التوحيد لابن تيمية: 75. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 25، 32.

الكل، واستحسنه إمام الحرمين (¬1)، وليس ذلك بحسن، فإنه أمر معلوم من طريق العادة، ليس من طريق الوجوب العقلي، إذ من الجائز أن ييسر الله للعقول إدراك كل معقول، كما يتيسر بإذنه في الدار الآخرة (¬2)، وقد بينا ذلك في كتب الأصول. وإيجاز شرحه: أن المعلومات على قسمين معدوم وموجود، والموجودات على قسمين: خالق ومخلوق، والأوقات قسمان: دنيا وأخرى، والأعمال قسمان: نافع وضار. وعلى هذا تُخَرَّجُ جميع علوم القرآن، وهو مما اتفق عليه العقلاء من المتشرعين، وإنما اختلف المختلفون وتشبث الملحدون بتفسير هذه المعاني، فَفَسَّرَها قوم بمعاني فارغة، وآخرون بمعاني باطنة، وطائفة بظاهر، وجملة بتأويل مجازي، ولمة برد كلي، واستيفاء القول في هذه المعاني في كتب "الأصول"، وبيانها كلها على ما هي عليه من حقائق الصفات في كتاب الله تعالى. ¬

_ (¬1) عبارة الجويني في البرهان: 1/ 142 - 143 كالآتي: "فأما الموقف الذي يحكم به (العقل) ويحيل تعديه، فهو الإحاطة بأحكام الإلهيات على حقائقها وخواصها، فأقصى إفضاء العقل إلى أمور جملية منها، والدليل القاطع في ذلك على رأي الإِسلاميين أن ما يتصف به حادث موسوم بحكم النهاية، يستحيل أن يدرك حقيقة ما لا يتناهى، وَعَبَّرَ الأوائل عن ذلك بأن قالوا: "تصرف الإنسان في المعقولات يفيض ما يحتمله من العقل عليه، ويستحيل أن يدرك الجزء الكل، ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع". وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإِسلام فهي محومة على الحقائق، ولكن لا يعدم العاقل بكل ما وراء عالم الطبائع، فأما الاحتواء على الحقيقة فهو حكم سلطنة الكل على الجزء". (¬2) قلت: إن المعوّل في أمور الدار الآخرة إنما يتوقف على النقل، ولم يقدم ابن العربي دليلًا نقلياً على أن الإنسان في الدار الآخرة يحيط بجميع المعلومات، ولذا فإني أتوقف في هذه المسألة حتى يظهر الدليل.

ذكر أقسام العلوم

بلى: إن علماءنا -رحمة الله عليهم- قالوا: "ليس يمكن بالعقول إدراك كل معقول". بيد أن الباري سبحانه وتعالى يصطفي من عباده من يطلعه على العلوم (¬1)، فيصل إلى الخلق بواسطة، وذلك المصطفى منه يكون التعليم، وعنه يؤخذ القانون، وعليه يكون التعويل، وبه يتوصل إلى الدليل، ووحي الله هو تبيان لكل شيء، وهدى لكل مشكل، إلا أن المرء لا تمكنه الِإحاطةُ بجميع العلوم، فإن العمر الطويل لا يتسع لها، فكيف أعمارنا القاصرة، وهذه الدار لم تخلق له، والآدمي لم يُعَدَّ لها كما هو عليه، وإنما الممكن الاطلاعُ على جمل العلوم، والإشراف على مقاصدها دون درك التفاصيل، فإذا وصل إلى هذه المرتبة، وقف عندها، وعطف على المقصود الأوفى، وتعرض للمطلوب الأعلى، ولو أن عبداً تجرد لعلم واحد ليدرك تفاصيله، ويضاعف له عمره ما أحاط به. بلى: إنه إذا بلغ مرتبة الِإشراف يجد من نفسه مُنَّةَّ على درك التفاصيل، حتى إذا تعرض لذلك نالها بالقانون، فإذا وَصَلْتَ هذه المرتبة، فاجْتَهِد لنفسك أن تكون من العاملين، فإن لم تقدر فمن المبلِّغين فكلاهما في نضرة ونعيم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نضَر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هوَ أفْقَهُ مِنْهُ، وَرب حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيهٍ (¬2). ذكر أقسام العلوم وإذا كانت العلوم مطلوبة للتوصل إلى العلم الأقصى، وهو معرفة الله ¬

_ (¬1) التي يحتاج إليها الناس في هدايتهم إلى الله سبحانه، والتي يعجز البشر عن إدراكها تفصيلاً. (¬2) هذا الحديث صحيح متواتر رُوي في معظم كتب السنة المعتمدة بألفاظ متقاربة، وهو في الترمذي كتاب العلم رقم: 2658، وأبو داود في العلم رقم: 3660، وابن ماجه في المقدمة رقم: 250 (ط: الأعظمي) وألف حول هذا الحديث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري كتاباً سماه "المسلك التبتي بتواتر حديث نضر الله امرءاً سمع مقالتي".

تعالى، فَلْتُقَدَّم على طلب العلوم معرفةُ أقسامها، وهي على طريق التفصيل لا تُحصى، وإنما مُدْرَكُهَا الجمل، والذي يعلمها على التفصيل والجملة هو الله وحده. قال الله سبحانه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ..... } [الكهف: 109]. وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ..... الآية} [لقمان: 27]. وليست الكلمات ها هنا المعلومات (¬1) كما ظنه أهل الجهالات، وإنما المعنى فيه ما سردناه في كتاب "المشكلين" لبابه: أن العلم لا بد أن يقوم عنه في النفس خبر، وذلك الخبر هو الكلام (¬2)، وهو من الله صدق لموافقته العلم، ويتصور أن يكون في العبد صدق، وهو ما وافق علمه، ويكون كذباً، وهو ما جاء بخلاف العلم، والكذب مستحيل على الله تعالى؛ لأن العبد له حالة علم وشك، وظن وجهل ووسواس، فكل معنى من هذه المعاني قام عنه خبر في نفسه، والصدق منها ما وافق العلم، واستحال على الله كل هذه الحالات إلا العلم فإنه له واجب، فخبره صدق قطعاً، لاستحالة وجود أحدهما دون الآخر، فلهذه القربى والملازمة بين العلم والكلام في الحقيقة، جاز بأن يعبر بأحدهما عن الآخر. وقد زل الجويني في هذه المسألة زلة عظيمة لا تقوم بها استقامة العمر كله، وذلك أنه أشار في كتاب ¬

_ (¬1) انظر: القاضي عبد الجبار: تنزيه القرآن: 243. (¬2) هذا كلام الأشاعرة الذين أثبتوا الكلام النفسي، مع أن المعروف أن الكلام لا يكون إلاّ حروفاً وأصواتاً دالة على معانٍ.

"البرهان" (¬1) إلى استحالة تعلق علم الله بالمعلومات على طريق التفصيل، وقال فيما أخبرني الطوسي والزنجاني عنه -"الذي يُقْطَعُ به، انحصارُ ¬

_ (¬1) 1/ 145 - 146، ونصّ عبارته كما يلي: "تردد المتكلمون في انحصار الأجناس كالألوان، فقطع قاطعون بأنها غير متناهية في الإمكان كآحاد كل جنس، وزعم آخرون أنها منحصرة، وقال المقتصدون لا ندري أنها منحصرة أم لا. ولم يثبتوا مذهبهم على بصيرة وتحقيق. والذي أراه قطعاً أنها منحصرة، فإنها لو كانت غير منحصرة، لتعلق العلم منها بأجناس لا تتناهى على التفصيل، وذلك مستحيل، فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا: الباري سبحانه عالم بما لا يتناهى على التفصيل، سَفهْنَا عقولهم ... وبالجملة علم الله إذا تعلق بجواهر لا تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل الآحاد، مع نفي النهاية، فإن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود، يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم، والأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال العلم عليها فإنها متباينة بالخواص، وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال، وإذا لاحت الحقائق فليقل الأخرق بعدها ما شاء". قلت: صَرَّح الجويني في الإرشاد: 98 بأن الله عالم بالكليات والجزئيات فقال: "الباري تعالى متصف بعلم واحد متعلق بما لم يزل ولا يزال، وهو يوجب له حكم الإحاطة بالمعلومات على تفاصيلها". ويقول الشيخ الكوثري في تعليقه على العقيدة النظامية للجويني: 32 ما يلي: "صرح المؤلف في مواضع من هذا الكتاب (أي العقيدة النظامية) بضرورة سبق علم الله التفصيلي، فيكون هذا مذهبه الذي استقر عليه رأيه لتأخر تأليف النظامية عن باقي مؤلفاته، فما في البرهان مما ينافي ظاهره لما هنا -وطال الجدل حوله في شرح المازري ومنتظم ابن الجوزي وطبقات السبكي وغيرها- يكون فلتة بدرت ثم انطوت عفا الله عما سلف". قلت: شرح المازري على البرهان مفقود، وقد وقفت على شرح عَلِي بن إسماعيل الأبياري (مخطوط في مكتبة مراد ملا بتركيا رقم: 670) الذي علق على كلام الجويني المذكور بالتعليق التالي: "قول الإِمام بانحصار الأجناس واستدلاله على ذلك بأنها معلومة على التفصيل وذلك مستحيل في غير المتناهي، كلام باطل وقول غير صحيح، والذي عليه أهل الإِسلام أن الله تعالى عالم بالمعلومات على التفصيل، فَاقتَصَرَ عَلَى الدعْوَى في مثل هذا الأمر العظيم ولم يأت بدليل" 28/ ب، 29/ أ. وانظر ابن الجوزي في المنتظم: 7/ 2، والسبكي في طبقاته الكبرى: 3/ 266 (ط: الحسينية).

الأجناس كالألوان، فإنها لو كانت غَيْرَ منحصرة لتعلق العلم بآحاد لا تتناهى على التفصيل. وذلك محال، ولا يقال الباري عالم بما لا يتناهى. فمعنى ذلك من غير تفصيل الآحاد، فإن من يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم ... " (¬1). وكان "أبو حامد" صاحبه يعظم هذا عليه، ولا يلتفت إليه، وهي هفوة عظيمة، يُجَهَّلُ بها ولا يكفر على مذهب المأولة، فإن الذي قاله محال كله، وقد بيناه في كتب "الأصول" (¬2)، إيجازه: إن تعلق العلم بآحاد لا تتناهى على التفصيل جائز، ونسبة المحال إليه دعوى لا مساعد فيها، ولا برهان عليها، والباري سبحانه عالم بالجملة عالم بالتفصيل، يُعلم ذلك بدليل العقل، فإن قِدَمَ عِلْمِهِ وَعُمُومَهُ واستحالةَ الجهل عليه وتقدسَهُ عن الغفلة ووجوبَ علمه لما خلقه على التفصيل، معلوم قطعاً، مبين في القرآن في مواضع شتى شرعاً. وقوله: "إن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود، يحيل وقوع ¬

_ (¬1) منها كتاب "التمحيص" مفقود، والعواصم من القواصم: 134 - 145، وللتوسع في صفة العلم عند ابن العربي، انظر: المتوسط: 32، الأمد الأقصى: 64/ أ- 65/ ب. وانظر رسالة شيخ الإِسلام ابن تيمية "مسألة علم الله" ضمن كتاب "جامع الرسائل": 176 - 183 ففيها فوائد عظيمة. والواقع أن قضية كيفية تناول العلم القديم لمعلومه، قضية شائكة لا يرقى العقل الإنساني إلى إدراك كنهها، وهذا ينطبق على جميع الكيفيات المضافة إلى القديم، ولا قياس في العلم القديم الذي لا يتناهى على العلم الحادث المتناهي، لا سيما والعلم المخلوق قاصر متعدد بتعدد المعلومات والعلم القديم واحد عام، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما لا يتناهى بعلم لا يتناهى. (¬2) منها كتاب "التمحيص" مفقود، والعواصم من القواصم: 134 - 145، وللتوسع في صفة العلم عند ابن العربي، انظر: المتوسط: 32، الأمد الأقصى: 64/ أ- 65/ ب. وانظر رسالة شيخ الإِسلام ابن تيمية "مسألة علم الله" ضمن كتاب "جامع الرسائل": 176 - 183 ففيها فوائد عظيمة. والواقع أن قضية كيفية تناول العلم القديم لمعلومه، قضية شائكة لا يرقى العقل الإنساني إلى إدراك كنهها، وهذا ينطبق على جميع الكيفيات المضافة إلى القديم، ولا قياس في العلم القديم الذي لا يتناهى على العلم الحادث المتناهي، لا سيما والعلم المخلوق قاصر متعدد بتعدد المعلومات والعلم القديم واحد عام، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما لا يتناهى بعلم لا يتناهى.

تقديرات غير متناهية في العلم". لأن العلم يتعلق بالمعدوم الذي يستحيل وجوده فلا يمتنع تعلق العلم بتقديرات لا توجد، ومن أفسد دليل اعتبار المعدوم بالموجود، وقد قال قبل هذا بأسطر "أنه لا قياس في العقليات، وإنما تثبت كل مسألة بدليلها، فإن قام فيها -يريد قياسه على الثابت- دليل مثل ما قام في الثابت، فالدليل أثبته ليس القياس، فالآن نريد اعتبار تعلق العلم بما لا يتناهى تقديراً باستحالة وجود ما لا يتناهى تحقيقاً" (¬1) وما أفسد هذا التنظير في الفقهيات! فضلاً عن العقليات وما هذا إلا هيام في الغفلات. عدنا إلى منتحانا فقلنا: أما معرفة العلوم لنا على الجملة فممكن، وضبطها بالتقسيم جامع لنشرها. وهي من وجه على ثلاثة أقسام: علم باللفظ، وعلم بالمعنى، وعلم بوجه دلالة اللفظ على المعنى. وهي تنقسم من وجه آخر على أقسام أخر، والتقسيم نوع من العلوم، فإن الشيء ينقسم من ذاته ومن صفاته، ومن متعلقاته، وقد لا ينقسم من الذات بطريق (¬2). ¬

_ (¬1) لم أعثر على هذا النص في كتاب "البرهان" وأشبه العبارات بالعبارة التي نقلها ابن العربي هي قول الجويني: "إنه إن قام دليل على المطلوب في الغائب فهو المقصود، ولا أثر لذكر الشاهد، وإن لم يقم دليل على المطلوب في الغائب، فذكر الشاهد لا معنى له، وليس في المعقول قياس" البرهان: 1/ 130، 751. (¬2) قال المؤلف في السراج: 50/ أ- ب: "والعلم وإن كان معنى واحداً، وحقيقة واحدة، ولكنه =

وقد كنت أضرب لكم في ذلك الأمثال، وأشير إلى جمل من الاستدلال، إلاَّ أني لم أقصد للتوابع وإنما انتحيت المقاصد. وتنقسم (¬1) أيضاً إلى خالق ومخلوق، فالخالق هو المقصود، والمخلوق هو منهاج السالكين. ¬

_ = ينقسم أقساماً كثيرة: من جهات مختلفة، من جهة صفاته واختلاف متعلقاته وما يتصل به ويرتبط معه. فأما انقسامه من جهة صفاته فأمر يختص به أهل السنّة، فإنهم يقولون إنه على قسمين: قديم، ومخلوق. فعلم الله هو الذي لا أول له يتعلق بالمعلومات كلها على اختلاف أنواعها من قديم ومُحْدَث، وموجود ومعدوم، على الجملة والتفصيل، لا يعزب عنه معنى يصح أن يتعلق به علم، ولا يتقرر في وهم، فهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والمقصود من العلوم العلم بالله تعالى، وبه يتعلق جميع المعلومات فإنا نفتقر إلى أن نعلم ذاته وصفاته ومخلوقاته، ونعلم من ذلك جملة من تفصيل، وقليلاً من كثير، إذ لا إحاطة له خاصة، ونعلم من وجه، ونجهل من وجه، ويطرأ علينا السهو والذهول والشك ويعدم علمنا، وهو القدوس من ذلك كله، وجبت له صفات الكمال، وتفرد بنعوت الجلال. وتنقسم العلوم من جهة طرقها إلى ثلاثة أقسام: قسم يثبت في النفس ابتداء، وقسم يعلم بالحواس، وقسم يعلم بالقياس على هذين القسمين وهو الأكثر، وهو المأمور به وهو العلم المسمى بالنظريّ. وينقسم من جهة متعلقاته إلى ثلاثة أقسام: الأول: معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وهو المطلوب. الثاني: معرفة أفعال المكلفين. الثالث: معرفة الجزاء في الآخرة. ولو قلت: إنه قسم واحد: معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله لدخل ذلك كله فيه وانتظم به. وينبني ذلك على معرفة المرء بنفسه فمن لا يعرف نفسه لا يعرف ربه، إذ لا سبيل إلى معرفة الله إلا بالاستدلال عليه، وهذا مسطور موضح في كتاب الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وأما أحكام أفعال المكلفين ففي القرآن الإيضاح لها، والإحالة أيضاً على بيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتزكية النفس وتطهيرها والخروج عن آفاتها بالقلب والجوارح، علم محكم في القرآن والسنة وهو نصف من جهة أن للعلم وجهان معرفة الخالق ومعرفة الخلق. فَتَنخَّلَ لك أن علوم الشريعة الإِسلامية ثلاثة: التوحيد والأحكام والتذكير ويدخل عليها الناسخ والمنسوخ وهو منها .. ". (¬1) أي المعلوم

وينقسم العلم بالمخلوق إلى قسمين: علم دنيا، وعلم آخرة. فتناول علم الدنيا قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]. وتنقسم العلوم من وجه آخر إلى ظاهر وباطن، وفي الأثر: "لِكُل آيَةٍ ظَهْر وَبَطْن، ولِكُل حَرْف حَد، وَلِكُلَ حَدٍّ مَطْلَع" (¬1). وتنقسم من وجه آخر إلى نظري وعملي. وتنقسم من وجه آخر إلى علم عقد، وعلم عمل. فأما انقسامها إلى ثلاثة، وهو علم باللفظ إلى آخره، فهو فن لغوي، وذلك بمعرفة وقوع العبارة على المعنى المراد، كعلمك بالبيان أنه الدليل (¬2)، وبالنسخ أنه الإزالة (¬3)، وهذا يقرب تارةً ويبعد أخرى. وأما معرفة وجه دلالة اللفظ على المعنى، فينقسم إلى ثلاثة أقسام: (¬4) ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الإتقان: 2/ 184 (ط: الحلبي) وعزاه إلى الفريابي. (¬2) انظر المحصول في علم الأصول للمؤلف: 15/ ب. (¬3) م، ن: 62/ أ-65/ أ. (¬4) انظر الغزالي في معيار العلم: ص 72، وفي مقاصد الفلاسفة قسم المنطق: 39، ومحك النظر: 15. وحول أصالة هذه الفكرة المنطقية، يَرَى الدكتور علي سامي النشار (ت: 1400) أن هذا التقسيم لم يعزفه المنطق الأرِسْطُطَالِيسي. على هذه الصورة، كما لم يعرفه منطق الشراح اليونانيين، وَرَجَّحَ أن يكون الإِسلاميون قد استمدوا فكرة الدلالات من المذهب الروَاقي مع وجود فكرة أخرى عن هذا البحث لديهم. انظر مناهج البحث ص 41، قلت: ويحتمل أن يكون العلماء المسلمون قد ابتدعوا هذه التقسيمات من وحي اللغة ومباحثها.

الأول: دلالة المطابقة، كقولك: "بيت" (¬1). ودلالة التضمن، كدلالة البيت على السقف. ودلالة الالتزام، كدلالة السقف على الحائط (¬2). الثاني: أن الألفاظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وعمومه تنقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة كقولك: هذا زيد، وسواد، وإلى ما يدل على أشياء متعددة كقولك: السواد ولنسمه المطلق (¬3). الثالث: أن الألفاظ إذا تعدت بالإِضافة إلى المسميات على أربع مراتب: المترادفة (¬4): كالليث والأسد. والمتواطئة (¬5): كالرجل والجسم. ¬

_ (¬1) أي كدلالة لفظ "البيت" على معناه. (¬2) هذا المثال أصبح غير منطبق على الواقع في حياتنا، فإنه في القديم كان الذي يحمل السقف هو الحيطان، فأما الآن فإن الأعمدة في البناء بالمسلحات هي التي تحمل السقف، والحيطان إنما هي فقط للستر، فالأولى أن يمثل لدلالة الالتزام بالزوجية اللازمة للأربعة. (¬3) عبّر علماء المنطق عن هذه النسبة بعبارة أخرى ملخصها، أن اللفظ ينقسم إلى جزئي وكلي. فالجزئي هو ما يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة في مفهومه، فالمتصور من لفظ زيد شخص معين. والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور معناه عن وقوع الشركة فيه، فإن امتنع امتنع بسبب خارج عن نفس مفهومه ومقتضى لفظه. انظر الغزالي في معيار العلم: 73، وَمِحَك النظر: 16. ويرى الدكتور النشار أن تقسيم اللفظ إلى جزئي وكلي تقسيم أرسططاليسي بحت. مناهج البحث: 42. (¬4) المترادفة: هي الألفاظ المختلفة الدالة على معنى يندرج تحت حد واحد. (¬5) المتواطئة: هي التي تدل على أعيانٍ متعددة بمعنى واحد مشترك بينهما.

المشتركة (¬1): كالعين تطلق على مسميات كثيرة. المتباينة (¬2): كالعلم والقدرة، وهي أكثر في الألفاظ. وهذا أنموذج لا غنى عنه في معرفة التأويل، وهو أصل ينظم الدليل ولا غنى للناظر عنه. وأما علم المعنى فهو المطلوب الذي يوصلك إليه هذان العلمان. وأما انقسامها إلى ظاهر وباطن. فالظاهر كاللغات وتفسيرها والقراءات وتقييدها، والباطن كعلم أصول الفقه مثلًا. وفي تحقيق الظاهر من الباطن كلام وَرِجَام بيانه في كتاب، "شرح المشكلين". ونعني بالظاهر الآن ما تبادر إلى الأفهام من الألفاظ ونعني بالباطن ما يفتقر إلى نظر، فإذا تأملنا الألفاظ التي هي طريق العلم بالمعنى، فهي متعلقات كثيرة جداً، متشعبة. وتحصيل القراءات والروايات علم اللغة، علم النحو وقد نقل القرآن نقل تواتر يوجب العلم، ويقطع العذر، وقراءاته (¬3) نقلت نقل آحاد، وقد بينا ذلك في تفسير قوله: "أُنزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ" (¬4). وعلم الحروف (¬5) فإن الكلمة منه تتركّب، والكلام يتركّب من ¬

_ (¬1) المشتركة: وهي اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة بالحد إطلاقاً متساوياً. (¬2) وهي الأسماء المتباينة التي ليس بينها شيء من هذه النسب، فهي ألفاظ مختلفة تدل على معان مختلفة بالحد والحقيقة. (¬3) أي قراءاته الشاذة، انظر موقف ابن العربي من القراءات التي دُونت بطريق الآحاد في المعيار المُعْرب للوَنْشَرِيسِي: 12/ 92 - 94. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) انظر: التعريفات: 46، الكليات: 2/ 241 - 248، كشاف الاصطلاحات: 2/ 66 - 77 (ط تراثنا).

الكلمات، وهو أيضاً متشعب إلى معرفة مخارجه وفوائده، وروابطه ومتعلقاته، ولم يكن أحد أعلم به من "سيبويه"، وأبرزه من مخبآت إشارات "سيبويه" "الفارسي" و"ابن جِنِّي" (¬1)، وذلك أن الباري تعالى خلق الكلام في النفس لزيم، العلم وقرينه كما بيناه (¬2)، فيجد المرء نفسه عالماً مخبراً عن علمه، كل ذلك في نفسه، ثم افتقر إلى إعلام الغير بما هو به عالم، لأجل ضرورات الاصطحاب والاجتماع والتعاون على الانتفاع، فجعل اللسان دليلًا على الفؤاد، وخلقه رطباً ذلقاً ليقطع بعده الأصوات المخلوقة لأداء المعاني المفهومة، وجعلت الأسنان له سنداً، والشفتين قادة ليعتمد في التقطيع عليها فيكون ذلك أثبت في التقطيع، وأبين عند الجمع وموالاة تَرْدَادِ القطع والاتصال بين الحركات، وخلق من الحروف ما لا يفتقر إلى اللسان وما معه، وهي التي تُسَمى حروف الحلق، ولاستبدادها جعل لها قوة القلب فيما يخرج من الأسنان والشفتين، فيقولها اللسان مفردة، ويقولها إذا شاء مجموعة، فيقول "ألف" "لام" "هاء" ثم يقول: "الله" فيكون ذلك مطابقاً للمعنى القائم بالنفس الملائم للعلم، فيعبر عنه في كتاب الله قراءة، ويعبر عن غيره بأسمائه، كالإنشاد في الشعر، ويعم هذا اللفظ لكتاب الله وغيره (¬3). ¬

_ (¬1) هو أبو الفتح عثمان بن جِنِّي أديب نحوي من أصحاب أبي علي الفارسي له عدة مؤلفات (ت / 392) فهرست ابن النديم: 128؛ إنباه الرواة للقفطي 2/ 335، معجم الأدباء: 12/ 81. (¬2) في الأمد الأقصى: 87/ أ- 88/ ب. (¬3) انظر الأحكام: 1956 - 1957.

فإذا كانت قراءة، اختلفت جهة التعبير فيها باختلاف اللغات، فلم يكن بُدٌّ من ضبط الأمرين لاختلاف المعنى باختلافهما، حتى يترتب المعنى على اللغات، وقانونها وهو النحو لتغير المعنى بتغيرهما. وكذلك "علم الحديث" (¬1) يفتقر المحدث فيه إلى هذا. وعلوم الحديث ستون علماً، وعلوم القرآن (¬2) أكثر، ومن علوم القرآن ما لا مدخل له في الحديث، ومن علوم الحديث ما لا مدخل له في القرآن، وهذا يتبين بتتع الآيات والأحاديث حتى تظهر لك ما ألقي إليك علمه عيناً. ألا ترى إلى قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]. فقد اختلف العلماء في المقتول عمداً، هل يكون لوليه القتل خاصة؟ أم هو مخير بين القتل والدية؟ ومبنى هذا الاختلاف على معرفة معنى العفو، فإنه في اللغة على سبعة معاني، منها البدل، ومنها الإِسقاط، فلا بدّ من تركيب الآية على جميع معاني العفو حتى يبقى معنى البدل والإِسقاط تحت النظر والترجيح، فتقابله بمعنى "بدل" وتقابله بمعنى "إسقاط"، فأيهما كان به ألوط ولمعانيه أضبط فقل به، وأسقط الآخر، وبيانه في كتاب "أحكام القرآن" (¬3). وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (¬4). يقال أحرم الرجل إذا دخل في الشهر الحرام، ولا شيء على من قَتَلَ ¬

_ (¬1) انظر في تعريف "علم الحديث" مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة: 2/ 60 - 62، 128 - 149، كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 13 - 17 (ط: تراثنا)، أبجد العلوم لصديق خان: 219. (¬2) انظر مفتاح السعادة 2/ 62 - 128، 369 - 377، 380 - 595. (¬3) صفحة: 62 وما بعدها. (¬4) انظر الأحكام: 664 - 670.

فيه، ويقال أحرم إذا تلبس بالإحرام، ومن قَتَلَ فيه، عليه الجزاء اتفاقاً، ويقالُ أحرم الرجل إذا دخل في الحرم، واختلفوا في جزاء ما قتل فيه؟ وهذا مدرك اللغة فليطلب منها. وكذلك اختلفوا فيمن قتل صيداً، هل عليه القيمة، أو المِثْل من النّعَم؟ لأجل اختلاف القراءات في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} [المائدة: 95] بإضافة الجزاء إلى المثل، أوْ وَضْعِهِ نَعْتاً لَهُ (¬1)، فلم يكن بُد من معرفة القراءات واللغات وقانونها النحو، وتركيب الأحكام على ذلك مما اضطر الناس إليه حين فسد عليهم الكلام العربي وافتقروا إلى تحصيله بالتعليم الصناعي. ولَمَا أرَادَ الله مِنْ حِفْظِ دينه وضبط شريعته وإنجاز وعده في إكمال دينه اختار "الخليل" نشأة فارسية، وأمر فاخْتُطِفَ من بينهم، ويسر له ضبط اللغة، وترتيب قوانينها، وجاء بالمعجز للعالَم في ذلك، وألقى ما علم منه إلى حذّاق من أصحابه فلم يكن فيهم من لقنه إلاَّ "سيبويه" وزاد "الخليل" بأن أخذ في علم الألحان ليضبط على العرب الأوزان التي لا يتم الشعر إلا بها، ¬

_ (¬1) قال المؤلف في الأحكام: 670. "قرئ بخفض مثل على الإضافة إلى "فجزاء" وبرفعه وتنوينه صفة للجزاء، وكلاهما صحيح رواية، صواب معنى، فإذا كان على الإضافة اقتضي ذلك أن يكون الجزاء غير المثل، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه وإذا كان على الصفة برفعه وتنوينه اقتضى ذلك أن يكون المثل هو الجزاء بعينه، لوجوب كون الصفة عين الموصوف". قلت: قراءة الرفع بالتنوين قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي (الكوفيون) وقرأ الباقون من غير تنوين مع خفض "مثل". انظر: ابن مجاهد: السبع في القراءات: 247 - 248، ابن زنجلة: حجة القراءات: 235، ابن خالويه: الحجة في القراءات السبع 134، ابن باذش: الإقناع في القراءات السبع: 636.

ذكر الباطن من علوم القرآن

وهو ديوانها، وقد كانت تسترسل والماء في كلامها نَمِيرٌ (¬1)، والغصن نضير، فكيف، وقد كدرته الدلاء، وجففته حرارة الانتواء (¬2). ذكر الباطن من علوم القرآن وأما علم الباطن، فقد ضلّت فيه الأمم فأوغدوا (¬3) في هذا الباب وأوعدوا (¬4)، حتى كفرت منهم طائفة لا يحكى قولها الآن لسخافته، وتسورت عليه أخرى، وادعى كل واحد منهم أن علمه في كتاب الله، ليحرص عليه من يطلبه. وإنما عني العلماء بقولهم: "إن العلوم كلها في كتاب الله" ما كان علماً لذاته، لا ما وقعت الدعوى فيه أنه علم وهو جهل، وذلك يرجع إلى العلوم الشرعية، والحقائق العقلية، فإن جميعها مضمّن في كتاب الله، والدليل عليه مبين، وكل جهالة وسخافة ادعتها طائفة فالرد عليها في كتاب الله موجود أيضاً مبين. وتكلفت طائفة ما يُستغنى عنه وهم جماعة من الصوفية أنحاء غريبة ¬

_ (¬1) قال الجوهري في الصحاح: 2/ 838 "ماء نمير، أي ناجع، عذباً كان أو غير عذب". (¬2) الانتواء هو الارتفاع. (¬3) أي جاءوا بحمق لا سداد فيه. (¬4) وهي من وعيد الفحل أي هديره إذا همّ أن يصول. لسان العرب مادة "وعد" والكلمتان بمعنى صالوا وجالوا دون طائل.

منها قولهم "إن الله لما خلق آدم قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] (¬1) ولم يقل: إني خالق عرشاً ولا سماء ولا أرضاً ولا جنّة ولا ناراً ولا شجراً ولا حيواناً، حتى خلق آدم، وقال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فما الحكمة فيه؟ ". ثم اختلفت مدارك خواطرهم في بيان ما تكلفوا سؤاله، فَرَكَّبَ كل واحد منهم على ذلك فناً من فنون المقاصد عظيماً، وولجوا مفازة لا تقطعها المهارى ولا يزال الفكر فيها حيارى، حتى أدخلها المتأخرون في كل آية وحرف، وغادروا في سبيلها رَذِيَّة كُل جَلَدِيَّةٍ وَحَرْفٍ (¬2)، ولم أزل أطلب هذا الفن في مظانه، وفي مراجعة شيوخه حتى وقفت على حقيقة مذهبه. ولقد سألني بعض أصحابه من السالكين عن قول صاحب الحقائق (¬3): ما الحكمة في قول الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ ¬

_ (¬1) انظر تفسير هذه الآية في معرفة قانون الأسكريال: 38/ ب، 39/ أ- ب، ولم يتعرض لهذا الإشكال الذي طرحته الصوفية بالرغم من تعرضه لتفسيرها بطريق الإشارة. أما القشيري في الإشارات: 1/ 86 - 87 فقد تطرَّق لهذا الإشكال وأبان الحكمة فيه فقال: "وإنما قال الله تعالى إنِّي جَاعِل، تشريفاً وتخصيصاً لآدم". (¬2) الرذية الناقة المهزولة من السير، والجلدية هي الكبار من النوق التي لا أولاد لها ولا ألبان، أما الحرف فهي الناقة الضامرة المهزولة، ومراد المؤلف هنا الإشارة إلى مشاق السفر الذي يتحملونه في طلب معرفة ذلك، والله أعلم. (¬3) هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلَمِي (ت: 412) من كبار المتصوفة له تآليف عديدة في التصوف والتفسير والحديث، وكتاب "الحقائق" الذي أشار إليه ابن العربي هو تفسيره الصوفي للقرآن الكريم والمسمى بـ "حقائق التفسير" وتوجد منه عدة نسخ مخطوطة في مختلف مكتبات العالم وللوقوف على أماكنها انظر: تاريخ التراث لسزكين 2/ 468 - 499، ولم أتمكن من مراجعة نص السلمي في المخطوطات الأصلية، وإنما وقفت على مقتطفات نشرها القس بولس نويا اليَسُوعِي -هداه الله إلى الإِسلام- في كتاب تحت عنوان "نصوص صوفية غير منشورة" دار المشرق ببيروت صفحة: 58، وللتوسع في ترجمة أبي عبد الرحمن السل

لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ... } [يونس: 107]. فأضاف الضرّ إلى المسّ، والخير إلى الِإرادة؟. فأمليت في ذلك على طريقة القوم ما نصه: سألتني -وَفَقَكَ الله- عن قوله سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]. وقال في الآية الأخرى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. ما الحكاية على مذهب الأشياخ في ذكره المس في الضر، والإرادة في الخير؟. فقلت: فيه إشارة للقوم لا يحتملها أهل هذا القطر، منها ما فيه إشكال، ومنها ما هو داخل في قسم الاختلال، والذي حضر منها الآن سبعة أقوال: الأول: قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ في (سورة الأنعام) في الموضعين، وتفرقته بينهما في (سورة يونس) بيان؛ لأنه سبحانه خالق الضر ومنشئُه ومبدعه ومخترعه على الانفراد، فذكر بأبلغ أنواع الخلق وهو الِإيصال له إلى العبد والاتصال به ردّاً على من يقول: إنه لا يخلق إلا الخير والضر الذي لا كسب فيه للعبد، فأما المضرة التي يكتسبها العبد لنفسه ¬

_ = انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 248، والمنتظم لابن الجوزي: 8/ 6، وطبقات الشافعية للسبكي: 3/ 60.

فلا يخلقها عند المبتدعة (¬1) إلاَّ العبد، والضَّرر عندنا هو الألم الذي لا نفع يوازيه أو يوفى عليه، ويقع جزاءً أو قصاصاً أو عقاباً. وهذه الآية رد على هؤلاء المبتدعة، فإنه أضافه إلى نفسه، وأخبر أنه متصل بالعبد بفعله، فهو المنفرد بخلق الضرر من غير شريك يعضده، وكذلك ينفرد بكشفه من غير نصير ينجده، فإن خصصوا الأول، خصصنا الثاني، وعاد الكلام إلى فنِّ الأصول، والأدلة فيه قاطعة. الثاني: أنه أراد أن يضيفه إلى نفسه باللفظ الأخص الأقرب ليكون أهون على الحبيب وأعذب (¬2)، ألا ترى إلى قولهم: "الحَنْظَلَةُ مِنْ كَف مَنْ تُحِب مُسْتَعْذَبَة" (¬3). وقال الناظم في المخلوق: أسْتَودع الله في أبْيَاتِكُمْ قمراً ... تَرَاهُ بِالشَّوْقِ عَيْني وَهُوَ مَحْجُوبُ أرْضَى أوْ أسْخَطُ أوْ أنْوِي تَجَنُبَه ... فَكُلُّ مَا يفْعَلُ المَحْبُوبُ محبوبُ فاللهُ أحق. الثالث: أراد بقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} من السرور والطرب فإن ¬

_ (¬1) يقصد بالمبتدعة المعتزلة ومن وافقهم. (¬2) الكلام السابق جلّه مستفاد من القشيري في إشاراته: 3/ 119. (¬3) عند القشيري: 3/ 119 "الحنظل يُسْتَلَذ مِنْ كَفَّ مَنْ تحِبُّهُ".

الركون إلى ذلك غفلة وغرور وأمن من المكر، وإنما ينبغي للمحب أن يكون مع حبيبه متدرجاً على بساط الوصل الظاهر بتحفظ وتيقظ وتوقف وتشوف. الرابع: أنه قال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْر} والِإرادة أحد أسباب التقدير والِإيجاد، فربما اقترنت بما هو في ذلك معها معجلاً أو مؤجلاً حسبما وقع به العلم، والِإمساس إيجَاد وَقَع بِالقُدْرَةِ وَالِإرَادَة وسائر الأسباب والشروط، فعلق الخير المتركب بالِإرادة، وعلق الضر المتوقع المغفول عنه بالإِيجاد، ليعلم العباد أنهم وإن غفلوا عنه فهو أقرب إليهم. والخامس: أنه عرّف التفسير بإضافته إليه كما قدّمناه، فلما أوجب عين الضر من الخوف، أبدل مكانه بقوله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ} ما لا يُقَدَّر قدرُهُ من السرور والطرب كأنه قال: إن كان الضر يخلقه فِيَ أو ينزله بي، فذلك من الذكرى والاهتمام فغشيهم لذلك طرب حيث ذكرهم مولاهم وإن كان بما ساءهم كما قال الناظم في المخلوق: لَئِنْ سَاءَنِي أنْ نِلْتِنِي بِمَسَاءَةٍ ... لَقَدْ سَرَّني أنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ (¬1). السادس: أن الضر عبر عنه بالِإمساس لما فيه من عظيم الِإحساس، ¬

_ (¬1) البيت لابن الدُّمَيْنَة في ديوانه: 17 (ط: دار العروبة بالقاهرة 1959 بتحقيق أحمد راتب النفاخ) من قصيدة مشهورة له مطلعها: "قفي يا أمَيْمَ القلب نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك" وقد وردت هذه القصيدة في كثير من كتب الأدب، وأدخلها الأدباء في اختياراتهم في شعر النسيب. وانظر تخريج هذه القصيدة باستيفاء في ملحق ديوان ابن الدمينة: 217 - 219.

فإن الخير لا يحس بذواته ولا بأوقاته، بل يذهب معجلًا وتمر أوقاته سريعة، والضر يؤلم موقعه، ويرى موضعه، ويطول وقته، وَيمْنَعُ المَنْزُولَ به عن كل شيء سواه، فعبر بحاله الواقعة وصفته اللازمة، ألا ترى إلى قول العبد الصالح {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فعبر عنه بأبلغ صفاته، وأعظم مواقعه وهي الإمساس لما فيه من عظيم الإحساس، ولم يعن في قوله بالضر ما نال جسمه من البلاء، وإنما أراد ما ناله به الشيطان من الوسوسة في نفسه باستطالة النبلاء وعظيم الضراء، وما ناله في أهله بما كان قد فاوضها فيه إذ لقيها في صورة رجل في الطريق على ما ورد في الأخبار (¬1)، ولذلك نسبه إلى الشيطان فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]. وقيل لم يُضِفْهُ إلى الباري سبحانه أدباً كما فعل "إبراهيم الخليل" في قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وأضاف الأفعال كلَّها إلى الباري سبحانه وهي به ومنه، وأضاف المرض إلى نفسه وهو من فعل الله حقيقة أدباً لئلا يكون في معرض التشَكِّي، فآثرا جميعاً الاستسلام إلى الله سبحانه، وتأدّباً بإضافة الضرر إلى نفسهما، وهو من الله خلق، وفيهما حق. السابع: أن الألفاظ كلها سواء لو وضع كل واحد منهما موضع الآخر لأجزأ، فقد قال في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]. وفي سورة يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ ¬

_ (¬1) انظر السيوطي: الدر المنثور: 4/ 317، والقشيري: لطائف الإشارات: 2/ 517 (ط: الثانية).

يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ... } الآية. وقال في سورة الزمر: 38: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}. فتارةً أضاف الإرادة إلى الخير والضر، وتارةً أضافهما إلى الِإمساس، وتارةً غاير، وكل صحيح فصيح، وهذا هو المختار وأطيب ما يجلب في الإيثار، وهو قولي من جملة الأقوال (¬1). وقد سمعت بعض شيوخ الزهاد يقول: إن الله ردّ "موسى" على أمه في لحظة، ورد "يوسف" في مدة، فيه سبعة أوجه من الحكمة: الأول: أن أم موسى كانت ضعيفة بالأنوثة، وكان يعقوب قوياً بالذكورة. الثاني: أن رمي موسى كان من الله، وذهاب يوسف كان من الناس باستحفاظه لإخوته، فخانوا فيه، فأدب لئلا يستحفظ أحد غير الله. الثالث: أن أم موسى وثقت بوعد الله، ورجا يعقوب شفقة الإخوة. الرابع: أن أم موسى وعدها الله فأنجز وعده، ويعقوب لم يكن له من الله وعد، وإنما بقي بين الأسباب متردداً حتى ساقته إليه المقادير على كلمة وتقدير. الخامس: أن "موسى" رمي صغيراً فسبب الله له كفيلاً. السادس: أن "يوسف" لو قال حين أُخرج من الجب: أنا حر وابن نبي وهؤلاء إخوتي وهذه قريتي، لما اشتروه، ولكنه استسلم، فأسلمه الله إلى الحكمة حتى يجعله سنة لمن بعده، وموسى صغير فتولى الله سلامته ورده في الحال. ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الأفعال" للمؤلف: 192/ ب.

السابع: أن إخوة "يوسف" قالوا اطرحوه أرضاً، والأرض أم الآدمي ومقره، فلم يلق بمضيعة، وموسى رمي في البحر فلم يكن له بد من هلكة أو نجاه، فكانت النجاة السابقة في علم الله. وأقرب منه أنا كنا يوماً بمحرس الكومين بالثغر (¬1) حرسها الله، فسئل "الفهري" (¬2) عن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} في سورة الأنعام (165). وقال: {لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} في الأعراف (167) بزيادة اللام، فما الحكمة في ذلك؟ فقال: "الفهري" إن الله سبحانه أخبر في سورة الأنعام أنه جعل الخلق خلائف الأرض ليبتليهم، ووعدهم وتوعدهم، وأمهلهم إلى الدّار الآخرة ولم يهملهم، وأخبر في سورة (الأعراف) عن بني إسرائيل وما اقتحموه وما نزل بهم في الحال، وعجل لهم من العذاب فأكده باللام لما كان فيه من سرعة الجزاء وتعجيل العذاب (¬3). وقد أخذ قوم هذا القصد في طريق السؤال، وعلى فنّ من الفقه فقالوا ما الحكمة في أن الله تبارك وتعالى بدأ كتابه بحمد نفسه، وقد نهى أن يحمد أحد نفسه؟. وهذا قشر من لباب هذه الأسئلة، وفن فقهي في جمع المتعارض ¬

_ (¬1) أي بثغر الإسكندرية. (¬2) هو أبو بكر الطرطوشي وقد سبقت ترجمته في صفحة: 435 تعليق رقم: 1 و455 ت 3. (¬3) انظر: الأمد: 95/ أ، السَّراج: 130/أ.

من الألفاظ، والسؤال في نفسه فاسد لأنه متناقض، إذ معناه أن الله حمد نفسه ونهى المخلوق عن حمد نفسه، وأي تعارض في هذا؟ وأصل التعارض بين الشيئين، إنما ينبني على تساويهما في المرتبة، ولا مساواة بين الله والخلق، فلا معارضة. تحقيقه: أن التعارض بين الشيئين إنما يكون إذا تعلقا بمعنى واحد من جهة واحدة في حق شخص واحد في وقت واحد، والذي ينبغي أن يعول عليه في هذا الباب كتاب "ابن فورك" في "مشكل القرآن" (¬1) فإنه لم يؤلف مثله، وقد جمع على نحوه "الرُمَّانِي" في "تفسير القرآن" عشر مجلدات حسناً في وصفه، باطلاً في مقطعه، فإنه مبتدع لا ينبغي لأحد أن يقرأ كتابه إلا أن يكون سبوحاً في لُجَّةِ بحَارِ الشُّبَهِ، لئلا تتعلق بقلبه شبهة يظنها شَهْداً وهي صبِر، ويرى فيه ما يعجبه فإذا به قذارة وهلكة. وقد كنت في إملاء "أنوار الفجر في مجالس الذكر" أسلك هذا الباب كثيراً، وأورد فيه عظيماً كما سمعتم، وكانت اللواقط تكثر في مجلسي، فما ظَفِرْت قط بشيء من السواقط، لأن طرق كلامي كانت محفوظة بالحرس، محققة بين النفس والنفس، وهو معنى عظيم، وقد فتحت لكم بابه، وهتكت حجابه، وشرعت سبيله، وأوضحت دليله، فمن كان له منكم قلب فقد وعاه ومن علم الباطن أن تستدل من مدلول اللفظ على نظير المعنى، وهذا باب جرى في كتب التفسير كثيراً، وأحسن ما ألف فيه "اللطائف والإشارات" للقشيري (¬2) رضي الله عنه، وإن فيه لتكلفاً أوقعه فيه ما سلكه من مقاصد الصوفية، فخذوا ما تعلمون وقفوا دون ما تجهلون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. ¬

_ (¬1) لم يصل إلينا هذا الكتاب. (¬2) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن النيسابوري، الملقب بزين الإِسلام، صوفي معتدل له مصنفات كثيرة (ت: 465) انظر ترجمته في السبكي طبقات الشافعية: 5/ 153، وابن خلكان: وفيات الأعيان: 3/ 205، والداودي: طبقات المفسرين 1/ 338.

ذكر الحروف المذكورة في أوائل السور

ذكر الحروف المذكورة في أوائل السور (¬1) ومن الباطن (¬2) علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد قيدت فيها أزيد من عشرين قولاً (¬3)، ولم يخلق الله أحداً يحكم عليها بعلم، ولا يدعي في المراد منها فهماً، بله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بيد أني أذكر لكم فيها قولًا بديعاً لم أسبق إليه، ولا زوحمت عليه في أسباب سلوكي إلى الله سبحانه، وذلك أن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق بمعجز تحدى به العرب خاصة وهو القرآن، واستفتح بعض سوره بهذه الحروف المقطعة، والعرب قد شنفت (¬4) له، وقومُه جراءَةٌ عليه، يرقبون منه زلةً، ¬

_ (¬1) انظر في هذا الموضوع: الطبري: التفسير: 1/ 67 - 74، ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن: 299، القشيري: الإشارات: 1/ 65، و"العقل وفهم القرآن" له: 329، الزمخشري: الكشاف: 1/ 12 - 19، ابن عطية: المحرر الوجيز: 1/ 94 (ط: المغرب)، ابن حيان: البحر المحيط: 1/ 34، القرطبي: جامع أحكام القرآن: 1/ 154. (¬2) الذي نقله السيوطي في الإتقان: 3/ 30 وفي معترك الأقران: 1/ 156 عن ابن العربي في فوائد رحلته هو: "ومن الباطل (باللام) علم الحروف المقطعة ... ". قلت: ولا يخفى أن هذا النقل فيه تحريف؛ لأن سياق الكلام لا يفيد معنى (الباطل) فابن العربي ما زال يتحدث عن الباطن في علوم القرآن، وأتى بنماذج من ذلك، ومن جملة هذه النماذج الحروف المقطعة في أوائل السور، إضافة إلى أن هذا العلم لو كان من العلوم الباطلة فكيف يخوض فيه ابن العربي ويقيد فيه أزيد من عشرين قولاً!. انظر الشاطبي في الموافقات: 3/ 396. وقد ترتب على هذا التحريف نتائج غير مرضية، فنجد د. عائشة عبد الرحمن تقول في كتابها "الإعجاز البياني للقرآن": 136: "ويئس بعضهم من كل الجدل المثار في الحروف واختلاف الأقوال في تأويلها، منهم القاضي أبو بكر بن العربي الذي قال -فيما نقل السيوطي من كلامه في فوائد رحلته- ومن الباطل علم الحروف المقطعة ... ". (¬3) وقفت على هذه الأقوال في تفسيره: "معرفة قانون التأويل": 27/ أوما بعدها (مخطوط الأسكريال رقم: 1264) حيث أورد اثني عشر قولاً لعلماء التفسير، وسبعة أقوال للصوفية. (¬4) أي نظرت له في اعتراض، انظر الجوهري في الصحاح: 4/ 1383.

ذكر دخول الاجتهاد في علوم القرآن بطريقة

ويتربصون به سقطةً، فلو كانت هذه الحروف سالكةً سبيل الإِشكال غير داخلة في فن من فنون فصاحتهم، لا تهتدي إليها معارفهُم، ما تركوه أن ينتقل عنها شبراً حتى يحدث لهم فيه ذكراً، ويظهر إليهم بها علماً، وقد قال للمبتدئين منهم بالإذاية، المشتهرين بالنكاية، المستهزئين بكل دليل وآية: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]. {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2]. والأندية حافلة بالأعادِ، والنفوس متشوقة إلى عثرة من الحساد، فأذعنوا لفصاحة القول باتفاق، ولم يقولوا: هذا اختلاط، بل قالوا هذا اختلاق، وليس يقدح في علم من علوم الدين جهلُ من جهله من المسلمين، ولو كان هذا مما ينال بالاجتهاد، ويجرى عليه بالظن لقلت لكم فيه: إن الأقرب إلى الصواب قول من قال: إنه إشارة إلى تعجيز العرب على ما يأتي بيانه إن شاء اللُه. ذكر دخول الاجتهاد في علوم القرآن بطريقة اعلموا -أوصلكم الله إلى درجته وبوأكم مقعد صدق في مرتبته- أن مدارك العلوم تنقسم من وجه إلى ثلاثة أقسام: مدركة ضرورية (¬1): كعلوم الحواس، وما ثبت في النفس ابتداءً، كعلم الِإنسان بنفسه وصحته وسقمه، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان. ومدركة بالأدلة، والأدلة على قسمين: عقلية وسمعية. ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد للباقلاني: 35 (ط: القاهرة 1947)، والإنصاف: 14، الحدود للباجي: 25 - 27.

والدليل: كل ما يوصل إلى اليقين (¬1)، وبعد ذلك أمارات (¬2) تفيد غلبة الظن في النفس لأحد المحتملين على الآخر لا يمكن سواه. فأما العلم الضروري والبديهي فقد عرفتموه. وأما العلم النظري (¬3) ففيه تاهت الفرق، وجار من جار، وقصد من قصد، ولا يمكن بيانه في التفصيل إلاّ بذكر كل مسألة بما يتعلق به من الدليل. والأمارات أعظم في الإشكال، وما يفيد الظن أقرب إلى الاختلاف وأدعى إلى الاختلال. والذي أفتقر إليه الآن: أن تعلموا أن كل ما كان المطلوب منه حصول العلم فلا تسلك إليه إلا جادّة الدليل الموقفة بك عليه، ولا تستعد لسواه فإنك تقع في مهواة لا قعر لها، وتسلك مغواة لا هداية فيها. وكل ما كان المطلوب فيه الظن، فاطلب له أمارته، ولعلي أستغني عن ¬

_ (¬1) انظر تعريف الدليل في: المحصول في علم الأصول لابن العربي: 2/ أ، رسالة التوحيد: لابن فورك: 4/ أ، بيان كشف الألفاظ: 265، التمهيد للباقلاني: 13 - 14، والإنصاف له 15، الحدود للباجي: 37، والمنهاج له: 11، الكافية للجويني: 46 - 47، التعريفات: 55، الكليات: 2/ 320، سعد الدين التفتازاني: الحدود: 3 (مخطوط خاص)، كشاف اصطلاحات الفنون: 292 - 298) (ط: تراثنا). (¬2) عرف الشريف الجرجاني الأمارة فقال: " ... هي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالغيم بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر ... " التعريفات: 20، وانظر أبو حامد اللامشي: بيان كشف الألفاظ: 265 - 266. (¬3) عرف الباقلاني العلم النظري في كتابه الإنصاف: 14 بقوله: "ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية، وكان طريقه النظر والحجة". وانظر التمهيد: 8، الباجي: الحدود: 27 - 28، والمنهاج: 11، الجويني: الكافية: 30.

التوصية في هذا الموضع بالتثبت، فإن الدليل القطعي لا يمكنك من الظن ولا يمر بك عليه، فكيف ينهيك إليه؟. والأمارة الظنية هي التي ينخدع بها الشادي، والذي يضبط هذا الأصل أن ما كان من باب التكليف، فإنه تارةً يعلم قطعاً بدليل القطع وتارةً يفيد ظناً بأمارة الظن، ويجوز أن يسمى دليلًا. وأما ما خرج عن باب التكليف والعمل فطريقه القطع، والمطلوب فيه العلم، فلا تسلك إليه على منهج الظن، ومن ذلك أخبار الآخرة من كيفية الميزان وأحوال الصراط وترتيبه على الحوض ونحو ذلك. ومنه ما تقدم من القول في كيفية تأويل أوائل السور فإنه ليس من باب التكليف، وإنما هو من باب العلم فلا سبيل إلى الظن فيه، ولا يوجد دليل القطع عليه فوجب التوقف. ومن جملة العشرين قولًا ما لا سبيل إلى معرفته بالعقل، وإنما يعلم بالنقل الشرعي ومنها ما يعلم بالنقل اللغوي لو وجد من طريق صحيحة ولكنهما معدومان. فلو جاء خبر صحيح بأنه اسم من أسماء الله (¬1) أو من أسماء السور (¬2) أو القرآن (¬3) لاخترناه واعتقدناه، وكما أنه لو جاءنا من طريق اللغة أن {يس} ¬

_ (¬1) روي أن الحروف المقطعة هي اسم الله الأعظم وهو قول السُدَّي والشعبي، الماوردي: النكت والعيون: 1/ 61، الطبري: التفسير: 1/ 67. (¬2) ونسب هذا القول إلى زيد بن أسلم، الماوردي: النكت والعيون: 1/ 61، الطبري: التفسير: 1/ 67، ابن عطية: المحرر الوجيز: 1/ 95 (ط: المغرب). (¬3) نسب هذا القول إلى قتادة ومجاهد وابن جريج، المصادر السابقة وابن حيان: البحر المحيط: 1/ 34.

معناه: يا سيد، أو "طه" معناه: يا رجل (¬1)، أو "حم" معناه "يا سلام" لسلمناه له، غير أن الإنصاف دين فنقول: لما رأينا العرب الأعادي والأولياء والشادين والعلماء لم يقدحوا فيه ولا مالوا عنه قطعنا على أنه كان مفهوماً عندهم جارياً على سبيل العربية، وهذا مقام علم، فإما أن يكون بعض حرف يستدل به على باقي الكلمة، وإما أن يكون استفتاح كلام، وإما أن يكون إشارة إلى وجه التعجيز، كأنه قال لهم: هذا كلام عربي فصيح مؤلف من {المص} [الأعراف: 1] ومن {كهيعص} [مريم: 1] و {حم (1) عسق} [الشورى: 1 - 2] فإن كان عندي منظوماً، ومن تلقاء نفسي مقولاً فشأنكم والحروف، تجردوا للنظم والتأليف بها في معارضتي، وأنتم جماعة وأنا واحد ولا أملك إلا عمري ولكم في المعارضة الدهر كله إلى يوم الدين. فتخصيص بعض الأغراض والزيادة عليها مقام ظن، والظن لا مدخل له في هذا، لأنه ليس من باب التكليف، فالأولى التوقف دونه. أوَلَا ترون إلى نكتة بديعة وهي أن الله سبحانه لما أمر رسوله بكتابة القرآن وجرد له النبي - صلى الله عليه وسلم - حذاق أصحابه من الكتاب، ونقلته الصحابة عند الحاجة إلى إرساله إلى البلدان، وانتقوا كتابه، فاتفقوا على أن أفصحهم "سعيد بن العاص" (¬2) وأحفظهم "زيد بن ثابت" (¬3) فانتدبا لذلك، ونقلوه كما ¬

_ (¬1) هذا التأويل رواه الطبراني عن ابن عباس، وفيه الكلبي وهو متروك، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 56. (¬2) هو الصحابي الجليل ابن أبي أُحَيْحَة سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، أبو عثمان، قال عنه سعيد الدمشقي: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عنه الحافظ الذهبي: كان سعيد بن العاص أحد من ندبه عثمان لكتابة المصحف لفصاحته ... توفي رضي الله عنه: 53 هـ. انظر في ترجمته: ابن سعد: الطبقات: 5/ 30، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 292، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 4/ 48، الذهبي سير أعلام النبلاء: 3/ 444. (¬3) هو الصحابي الجليل أبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي الأنصاري، الإِمام الكبير شيخ المقرئين والفرضيين، مفتي المدينة وكاتب الوحي، أكمل رضي الله عنه حفظ القرآن في =

وقع (¬1)، وقيّدوه بلغة قريش واختلفوا في التابوت (¬2)، قال زيد: يكتب بالهاء، وقال سعيد: بالتاء فقال عثمان: يكتب بالتاء فإن القرآن نزل بلغة قريش، يريد وهي لغة قريش. وقد اتفقوا على قراءته بالتاء لا خلاف بينهم فيه، فأراد زيد أن تكون قراءته بالهاء، وكتبته مثله، وهي لغة الأنصار، فآثروا لغة قريش إذ بها نزل القرآن. وكتبوا (كهيعص) الخمسة الأحرف موصولة، وكتبوا {حم (1) عسق} الخمسة الأحرف مفصولة، وكتبوا {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] حرف صوت لا حرف هجاء، أي: لم يكتبوه "قاف" ولا كتبوه "نون" ولو كتبوه هجاء لكان الأصح من الأقوال فيه قول من قال: إنه الحوت الذي تحت المخلوقات كلها، والقلم الذي فوق المخلوقات كلها (¬3)، ولو كتبوه "قاف" حرف هجاء لظهر قول من قال: إنه الجبل المحيط بالأرض (¬4)، ولو كان المعنى فيه ما قاله بعضهم من أنه شطر كلمة لكتب أيضاً ¬

_ = حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي رحمه الله سنة: 42 وقيل 43 أو 45، انظر ترجمته: ابن سعد: الطبقات: 2/ 385، خليفة بن خياط: التاريخ: 99، 207، 223، ابن قتيبة: المعارف: 260، 355، ابن الجزري: طبقات القراء: 1/ 296. (¬1) ينبغي التنبيه على أن جمع أجزاء المصحف كان في عهد أبي بكر، والنسخ في مصحف واحد والاقتصار على قراءة معينة كان من توجيه سيدنا عثمان رضي الله عنه، انظر حول جمع القرآن: ابن العربي: معرفة قانون التأويل: 5/ أ (مخطوط الأسكريال: 1264) أبا طالب المكي: الإبانة عن معاني القراءات: 44 - 52، 68 - 77، الباقلاني: الانتصار: 354 وانظر نقد ابن العربي لكلام الباقلاني في العارضة: 11/ 258. (¬2) قال الباقلاني في الانتصار: 386 " .. فإن قيل لم كتبوا التابوت بلغة قريش، ولم يكتبوه بلغة زيد؟ قيل: لأنها قراءة النيي - صلى الله عليه وسلم - المشهورة، ولو كانت "التابوه" هي المشهورة لأثبتوها، ولو تساوتا في الاشتهار لأثبتوهما وخبروا بهما. فإن قيل كيف يكون "التابوت" قراءة ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم زيد؟ قيل بل قد علم ذلك وإنما أراد "التابوه" لأنه توهم صحة نقل من نقل إليه ... " انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 441. ابن عطية المحرر الوجيز: 2/ 359 (ط: الأنصاري)، القرطبي جامع أحكام القرآن: 2/ 248. (¬3) لمعرفة الروايات التي قيلت في تفسير "ن" انظر السيوطي: الدر المنثور، 6/ 250. (¬4) هذا أثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن مجاهد كما ذكر السيوطي في الإتقان: 3/ 33، والدر المنثور: 6/ 101.

ذكر دلالة العلم على الكلام وربط ما بين اللسان والقلب

"قاف" حرف هجاء كما كتبوا قولهم: قُلْتُ لَهَا: قِفِي، فَقَالَتْ لِي: قَاف (¬1). كلمة هجاء من ثلاثة أحرف. فهذا كله يفتح لك أبواباً من التفسير إلى ما لا يحصى من المعارف، ويعطيك قانوناً في مأخذ التأويل. ذكر دلالة العلم على الكلام وربط ما بين اللسان والقلب إن الله سبحانه لما خلق العبد ناطقاً، وعلم أنه لا بد له من غيره، خلق له الأصوات والحروف ليلقي بها إلى من سواه ما عنده من علم، بعبارة عن كلامه الموافق لعلمه حسبما بيناه من قبل، وخلق له الأصوات والحروف على جهة تستوفي بيان ما عنده، تقطيعها كما سلف، وقسم تقطيعها الدال على النطق ثمانية وعشرين قسماً، منها واحد مركب، والباقي أصول فأوصل العلم بهذا التقطيع، وهو الحروف للبيان إلى من داناه، وعلم الحكيم أنه محتاج الى أن يوصل ما عنده من العلم إلى من نأى عنه، فخلق القلم، وعلم به الِإنسان ما لم يعلم، وشر له معرفة الحروف، ورتب صورها على هيئات تلائم في العدد صفة الحروف في الكلام، فيلقى العلم ما يقتضيه الصوت، ويلقى الصوت ما تضمنه الحروف. ¬

_ (¬1) هذا أول رجز للوليد بن عقبة، والشطر الثاني هو: لا تسحبينا قد نسينا الإيجاف، انظر الأصفهاني، الأغاني: 5/ 181، شرح شواهد الشافية: 271، وقد ورد غير منسوب في مصادر كثيرة منها: ابن حيان، البحر المحيط: 1/ 35، لسان العرب 11/ 275.

ويدل الحرف على ما أحس في القلب، ووقع ما في القلب موافقاً للعلم، فكلم الله موسى في طور سيناء بغير صوت ولا حرف، وكلمه في موطن آخر على لسان جبريل بصوت وحرف، وكتب له في مواطن أُخر في الألواح بقلم، فاجتمعت له الحقائق كلها. واجتمع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن كلمه ليلة الِإسراء (¬1) بغير صوت ولا حرف ودون واسطة، وكلمه على لسان جبريل بصوت وحرف (¬2)، وكتب له كتاباً بقلمه الذي لا يشبه الأقلام، وكتابته التي لا تشبه هذه الكتابة، فَخَرَجَ النبي صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ يَوْماً عَلَى أصحَابهِ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: وَأشَارَ بِالذِي فِي يَمِينِهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبي فِيهِ أسْمَاء أهْلِ الجَنةِ وَأسْمَاء آبَائِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَأشَارَ إلَى الذِي فِي يَدِهِ الشمَال فَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبَي فِيهِ أسْمَاء أهْل النَارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ (¬3). ولا يخفى عليكم لو أن أهل بلد كتبوا بأسمائهم وأسماء آبائهم في مهاريق لملأت الأفق ولضاق بها الفضاء، فكيف بأسماء الخلق كلهم؟!. وبهذه الفضيلة وغيرها، تميز محمد - صلى الله عليه وسلم - على إخوته من الأنبياء صلى ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث الإسراء المعروف الذي أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ذكر الملائكة: 6/ 217 - 219، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله رقم: 164، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة ألم نشرح رقم 3343، والنسائي في الصلاة، باب فرض الصلاة: 1/ 217 - 218. (¬2) إذ كان جبريل يتمثل له على صورة رجل كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الإيمان رقم: 8 وفيه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَن السَّائِلُ؟ قُلْتُ: الله وَرَسُولهُ أعْلَمُ، قَالَ: فَإنه جِبْرِيلُ أتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكمْ". (¬3) هذا جزء من حديث طويل رواه -مع اختلاف في الألفاظ- الترمذي في القدر رقم: 2142، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه أحمد في المسند: 2/ 167.

ذكر الحكمة العظمى في خلق الكلام وتسخير القلم

الله عليهم أجمعين، وإليه وقعت الإِشارة بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]. فأقرنه بنظيره يحصل لك منه باب من التفسير عظيم، واستعن عليه بما جمعناه في "خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته الألف" التي أمليناها عليكم في مجالس "أنوار الفجر" (¬1). وهذا الكتاب بالقلم والدواة والقراءة بالصوت على كل لغة وعند كل أمة وفي كل معنى، معلم لآدم صلى الله عليه، وبهذه المزية في رأي جماعة ماز آدم الملائكة، فإنهم خلقوا للطاعة التي لا تتعداهم وهي التسبيح، وأعطي آدم العلم الذي يتعدى والمتعدي أفضل من اللازم (¬2)، وذلك محقق فيما أمليناه عليكم في "أنوار الفجر" في ذكر التفضيل بين الملائكة والأنبياء، وقد ذكره العلماء (¬3)، ولنا فيه فضل الترتيب والاستيفاء، والحكمة العظمى في ذلك كله، والفائدة الكبرى فيه، ما نذكره لكم ونستوفيه، وبه تتم جميع معانيه. ذكر الحكمة العظمى في خلق الكلام وتسخير القلم إن الخلق قصروا عن فهم كلام الله قصورهم عن فهم معرفة ذاته، فإن ذاته وصفاته مقدسة عن أن تنال بوهم، أو تعلم بغير واسطة، مع ما هم ¬

_ (¬1) انظر قائمة مؤلفات ابن العربي في دراستنا. (¬2) إلى هنا ينتهي نص قانون القاهرة: 119/أ. (¬3) انظر فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب: 2/ 215 - 235، ابن حزم: الفصل: 5/ 126 (ط: الرياض).

الخلق عليه من القصور، فنصب المخلوقات دليلًا عليه، كما وضع الحروف والأصوات دليلاً على كلامه، وكما أن ذاته العلية مخبوءة تحت أستار الدلائل، فكذلك كلامه العظيم مخبوء تحت أستار العبارات، فلا ينال بالعبارات من كلامه إلا ما ينال بالدلائل من ذاته، وهو العلم المطلق الجملي دون التفاصيل المحيطة بالجلي، وهذا معنى قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7]، وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ... } [البقرة: 231]، فإنه سبحانه وصفاته في علو التقديس عن الإدراك، فأنزله من علو التقديس ورياضه إلى بقاع العلم -مَنّاً بِه- وحياضه، فمن الناس من يشربه بكأس الصفاء، ومنهم من تكدر عليه وحالت الحجب دونه، وهي كثيرة أمهاتها أربعة: الأول: عدم الهادي، فلا غنى عن معلم عالم ليكون ما يلقيه ألقن إلى القلب، وأدخل في النفس. الثاني: الابتداء بمعنى الحروف والأصوات، كالمقرئين في هذا الزمان، فإنهم يقبلون على الحروف ويضيعون العلوم. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، يعني "تلاوة" في أحد الأقوال (¬1)، وَفي الحديث: يأتي على الناس زمان يحفظون فيه حروفه ويضيعون حدوده (¬2). ¬

_ (¬1) في اللسان: 20/ 164 "قال أبو منصور الأزهري: والتلاوة سميت تلاوة لأن تالي القرآن إذا مر بآية رحمة تمناها". وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 364 (ط: الأنصاري) تمنى: أي تلى، قال الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخِرُهُ لاقى حمام المقادير قلت: هذا البيت لحسان بن ثابت في رثاء عثمان، ونسب إلى كعب بن مالك انظر: التسهيل: 1/ 90. (¬2) نحوه في موطأ مالك: 1/ 173 من كلام عبد الله بن مسعود.

الثالث: الاقتناع بقول من مضى دون أن تتحرى في النظر، وتكون ممن حكم بعلمه وقضى. الرابع: الالتباس بالمعاصي، وما أعظمها من حجاب. تتميم: ومن علم الباطن عندهم معرفة الله وصفاته، والدار الآخرة، ومنه معرفة الأدلة في الرد على جميع المخالفين للملة من القرآن والسنة وقواعد العقائد واستنباط أحكام أفعال المكلفين الخمسة، ومناط متعلقها في أدلتها وهي "أصول الفقه" (¬1). فإن أراد هؤلاء بحسبان هذه من الباطن أنها تفتقر إلى نظر وتأمل وتأويل، وبخلاف دلالات الألفاظ على المعاني اللغوية، فإنه معنى يقف عليه المرء من غير تأمل، وبخلاف معرفة النصوص من الأدلة الشرعية، والبداية من الأدلة العقلية. أو أرادوا بأنه باطن أنه لا يوصل إليه إلاّ بعد معرفة غيره، فهو باطن بالإضافة إليه، فهذا كلّه ممكن صحيح القصد لا مشاحة فيه، بيد أنه قد صار اليوم معرفة النحو واللغة عندنا باطن، لأنه يفتقر إلى تعلم، حتى قد صنف في غريب القرآن ونحوه كتب كثيرة استغرقت العمر، وأتعبت النفس فصارت باطناً، وقد كان عند الصحابة ظاهراً يقيناً. ولما قال المتقدمون من السلف: لكل حرف ظاهر وباطن، وحد ¬

_ (¬1) قال المؤلف في المحصول: 2/ أ: "وأفعال المكلفين هي حركاتهم التي تتعلق بها التكاليف من الأوامر والنواهي وهي على خمسة أضرب: واجب وفي مقابلته محظور، ومندوب وفي مقابلته مكروه، وواسطة بينهما وهو المباح".

ومطلع (¬1)، نصبنا له مثالًا يتبين فيه قانونه: قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]. فحدّ البيت أنه مركب من الباحة والحائط والسقف. ومطلعه اقتضاؤه اللبن والخشب بطريق، وبأقصى منه، اقتضاؤه البنّاء والنجّار ونحوه. وظاهره: قوله في الكعبة "بيتي" يعني الذي كرمته بأن دحوت منه الأرض، وجعلته مثابةً للناس وأمناً، وقياماً للخليقة وحصناً، وبعثت منه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمرت الخلق بقصده، وأضفته إلى نفسي دون غيره إلى سائر فضائله، وأسرد ذلك كله (¬2). وباطنه: قلب عبدي المؤمن الذي كرمته بأن جعلته محل معرفتي وشرحته بنور هدايتي، وملأته حكمة من علمي، وخصصته بأن أحييته بروحي (¬3). قال علماؤنا: ونحن نقطع على أن المراد بخطاب إبراهيم هذا الكعبة، ولكن الناظر العالم يتجاوز من الكعبة إلى القلب بطريق الاعتبار (¬4) عند قوم، وبطريق الأولى عند آخرين، ولهذا إذا جاء النائم إلى المعبّر فقال: رأيت في ¬

_ (¬1) وأصل هذا القول حديث ابن مسعود مرفوعاً عند البزار وأبي يعلى في الكبير والطبراني بنحوه كما عزاه إليهم الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 152). (¬2) قارن بلطائف الإشارات للقشيري: 2/ 538 - 539. (¬3) استشكل أبو إسحاق الشاطبي مثل هذه المعاني الباطنة فقال: " ... إن هذا التفسير يحتاج إلى بيان، فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب، ولا يلائمه مساق بحال، فكيف هذا؟ والعذر فيه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن، فزال الإشكال ... " الموافقات: 3/ 401. (¬4) يقسم الشاطبي هذا الاعتبار إلى قسمين: اعتبار قرآني، واعتبار وجودي، والأول مقبول لأنه فهم للقرآن يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن، والثاني مردود لأنه اعتبار وجودي خارج عن القرآن الموافقات: 3/ 404.

منامي بيتي مملوءاً تعشيشاً أو أدناساً يقول له: طهر قلبك من شَغُوبِ الدنيا، وأرحاض المعاصي التي هي العجب والحسد والحقد ونحوه، وكما تطهّر الكعبة من القمامة والنخامة والمشركين كذلك، يلزم أن يطهّر القلب من علائق الدنيا القاطعة عن الله تعالى، وعن المعاصي التي تفترس الحسنات كما يفترس الذئب الشاة. ومن باطنه أيضاً إلحاق سائر المساجد به في التطهير لاستوائها في حرمة المسجدية معه، وقد أضافها الباري إلى نفسه فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. وهذا باطن فقهي ونظر عملي. ومن باطنه عند قوم العبور به -بعد تقريره- من المشركين الذين قيل فيهم: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، إلى غير ذلك من الأجناس بتأميل أحد من الناس وتعظيمه. ولذلك قال العلماء: "مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِي ذَهَبَ ثُلثَا دِينِهِ" (¬1). لأن الدين اعتقاد وقول وعمل، فإذا هش إلى الغني لغناه، وسلم عليه لدنياه، وأعرض عليه بهواه، ذهب ثلثا دينه في الهش والسلام، وبقي له الثلث في الاعتقاد. ولو هديت لهذه الفرقة الضالة من الشيعة والباطنية لما كانت عن ¬

_ (¬1) هذا القول أسنده بعض العلماء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرجه الديلمي من حديث أبي ذر بلفظ "لَعَن اللهُ فَقِيراً تَواضَعَ لِغَنِيٍّ مِنْ أجْلِ مَالِهِ، مَنْ فَعَل ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلثَا دِينِهِ" ونحوه في شعب الإيمان للبيهقي وهذه الأحاديث كلها ضعيفة بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات: 3/ 139، انظر: فتاوى ابن الصلاح: 18، السخاوي: المقاصد: 408، الزرقاني: مختصرة المقاصد: رقم: 406، السيوطي: اللآليء المصنوعة: 2/ 318، ملا علي القارئ: الأسرار المرفوعة: 339، العجلوني: كشف الخفاء: 2/ 241، ابن الديبع تمييز الخبيث من الطيب: 160.

ذكر العلم النظري والعلم العملي

سبيل الحق ناكبة، وقالت إن المراد بقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} القلب، وَلَا حَظَّ للكعبة فيه (¬1)، ولكنه كما أخبر تعالى عنه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وقد ركب العلماء على هذا كلاماً، فقالوا (¬2): إن علوم القرآن خمسون علماً وأربعمئة علم، وسبعة آلاف، وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن، مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة منها ظاهر وباطن، وحد ومطلع، هذا مطلق دون اعتبار تركيبه، ونضد بعضه إلى بعض وما بينها من روابط على الاستيفاء في ذلك كله، وهذا مما لا يحصى، ولا يعلمه إلا الله تعالى. ذكر العلم النظري والعلم العملي وقد تردّد في أثناء التقسيم الانتحاء إلى هذين القسمين، حتى قلنا: إن النظر في الوحي يكون فيما يفضي إلى العلم، وفيما يفضي إلى الظن. والنظري: معرفة الله وصفاته وأقواله، والمعاد فاحكمه بالأصول. ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرآن المنسوب لمحيي الدين بن العربي (ت: 638): 1/ 102 - 102. (¬2) هذه الفقرة إلى قوله: "ولا يعلمه إلا الله"، نقلها الزركشي في البرهان: 1/ 16 - 17 والسيوطي في معترك الأقران: 1/ 23، والإتقان في علوم القرآن: 4/ 37، وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة: 1/ 75، 2/ 536، والكَتَّانِي في التراتيب الإدارية: 2/ 175. ويحتمل أن يكون هذا النص قد نقله ابن العربي عن الإِمام الغزالي فقد ورد في "إحياء علوم الدين" ما نصه: " ... وقال آخرون: القرآن يحوي على سبعة وسبعين ألف علم ومئتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع" الإحياء: 1/ 290 (ط: الحلبي). وهذه العبارة الأخيرة أوردها المؤلف في معرفة قانون التأويل: 7/ أونسبها إلى بعض الصوفية.

ذكر القسم الخاص

والعملي: أحكام أفعال المكلفين واحكمه بأصول الفقه، ويكفي في الأول "المتوسط"، وفي الثاني "المحصول". وكذلك قولنا في انقسامها إلى عقد وقول وعمل يندرج تحت هذا. فإن العقد فيه علم وهو معرفة الله، وفيه عمل وهو معرفة الجسد والغرور والنية والتوكل، وما ضارع الجنسين. والقول فيه علم وهو الإيمان بالله وصفاته وما يرتبط بذلك، وإلى عمل وهو الذكر ونحوه. وكذلك العمل فيه ما هو معلوم الطريق، فيكون حكمه قطعياً كالنصوص فيما تقتضيه والإِجماع فيها تكون عليه، ومنه ما يكون من طريق الآحاد فيكون ظنياً وهو غالبه (¬1). ذكر القسم الخاص (¬2) والذي أختاره من هذا التقسيم في طريق البيان، وعليه كنت أعول في طريق الإِيراد قديماً، أن علومه على ثلاثة أقسام: توحيد، وتذكير، وأحكام. فقسم التوحيد فيه تدخل معرفة المخلوقات بحقائقها (¬3)، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله. ويدخل في علم التذكير: الوعد والوعيد، والجنة والنار، والحشر، وتصفية الباطن والظاهر عن أخلاط المعاصي. ¬

_ (¬1) قارن كلام المؤلف بكلام الغزالي في ميزان العمل: 230، فلا شك أنهما ينظران من كوة واحدة. (¬2) انظر نقول متفرقة من هذا الفصل أوردها كل من الزركشي في البرهان: 1/ 16 - 18، والسيوطي في معترك الأقران: 1/ 23 - 24، والإتقان: 4/ 37، وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة: 2/ 536 - 537. (¬3) علم التوحيد لا يتعرض لحقائق المخلوقات، وإنما يتعرض لها من حيث أحوالها في المبدأ والمعاد.

ويدخل في الأحكام: التكليف كلّه من العمل في قسم النافع منه والضار، وحظ الأمر والنهي والندب. فالأول: كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] فركب عليه قسم التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال. الثاني: قسم التذكير قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وهذا مخصوص بالعظة في المتعارف، متناول للكل بالحقيقة. الثالث: قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49]. كما ترجع علوم القرآن إلى آيتين كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .... إلى ... عِلْمًا} [الطلاق: 12]. الثانية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقد ترجع إلى آية واحدة كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38]. وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ولذلك قال جماعة من العلماء في تفسير قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إنها تعدل ثلث القرآن (¬1) في الأجر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقالت جماعة: تعدل ثلث القرآن في المعنى لأن القرآن ثلاثة أقسام ¬

_ (¬1) جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صلاة المسافرين رقم: 812 قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... إلاَّ أنها تعدل ثلث القرآن ... الحديث".

كما قدمنا (¬1)، فقسم التوحيد اشتملت عليه هذه السورة على الخصوص، وبهذا صارت الفاتحة أم الكتاب لأن فيها الأقسام الثلاثة. فأما قسم التوحيد فمن أولها إلى قوله: {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. وأما القسم الأحكام فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. ومن قوله: {اهْدِنَا} [الفاتحة: 6] إلى آخرها تذكير. فصارت بهذا أماً يتفرع عنها كل بنت. وقيل: صارت أماً لأنها متقدمة على القرآن بالقبلية، والأم قبل البنت. وقيل: سميت فاتحة لأنها تفتح أبواب الجنة على وجوه بيانها في موضعها، ألا ترى إلى قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]. فسميت المحكمات أمّاً للمتشابهات، لأن المتشابهات إذا أشكل أمرها ردّت إلى المحكمات فعرف تأويلها، كما ترد البنت إلى "الأم" فيعرف نسبها، وخص الأم دون الأب لأنها التي يعلم كون الولد منها قطعاً، ثم يضاف إلى الأب ظناً بواسطة الوجود الكافي في الأم قطعاً، وبذلك فضلت جميع سور القرآن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب: لأعَلمَنَكَ سُورَةً مَا أنْزلَ في التَّوْرَاةِ وَلَا في الإنْجِيلِ وَلَا في القرآن مثلُها .. وَذَكَرَا لَه (¬2). وليس في الفاتحة حديث صحيح إلاَّ هذا، وقوله: "قسمتُ الصلاةَ بَيْنِي ¬

_ (¬1) انظر مناقشة هذه الأقوال في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى: 17/ 103. (¬2) أخرج الترمذي في ثواب القرآن: 2878 وقال عنه: حديث حسن صحيح. وانظر المنار المنيف لابن قيم الجوزية: 113.

وَبَيْنَ عَبْدِي" (¬1) فلا يلتفت إلى سواهما (¬2)، فإن شغل القلب واللسان بما لا يصح إثم في الآخرة وتضييع للزمان. كما أنه ليس في سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حديث صحيح إلاَّ المتقدم (¬3)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي سمعه يقراها "وَجَبَتْ، (¬4) يعني الجنة. أما إن فيها خصيصة ليست في السور، وذلك أن بعضها يفسر بعضاً، لأنك تقول: من هو؟ فيقال لك: الله. ويقال لك من الله؟ فيقال لك: الأحد، فتقول: من الأحد؟ فيقال لك: الصمد. فتقول: من الصمد؟ فيقال لك: الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد. ثم ترجع إلى أولها، فإنك إذا قلت: ومن الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد؟ فيقال لك: الله. وهذا أيضاً -بهذا الترتيب- فن من فنون الفصاحة غريب، يعزّ وجوده في القرآن، وَنَظِيرُهُ من السنة في المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَل مَا قُلْتُه أنَا وَالنبيونَ مِنْ قَبْلِي، لَا إِلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَىَ كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ" (¬5). ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث صحيح رواه مسلم في الصلاة رقم: 395، ومالك في الموطأ كتاب الصلاة: 1/ 84، وأبو داود في الصلاة رقم: 819، 820، 821، والترمذي في التفسير رقم: 2954، 2955، والنسائي في الافتتاح: 2/ 135، 136. (¬2) الظاهر أن ابن العربي قد خالف منهجه هذا في كتابه سراج المريدين: 54/ ب حيث أورد عدة أحاديث في فضل الفاتحة منها الصحيح والحسن والضعيف. (¬3) وهو الذي ذكرته في تعليقي السابق، وينبغي التنبيه على أن الأحاديث التي تفيد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن كثيرة منها ما رواه البخاري في فضائل القرآن 9/ 53، ومالك في الموطأ: 1/ 208، وأبو داود في الصلاة رقم: 1461، والنسائي فى الافتتاح: 2/ 171. (¬4) رواه الترمذي في ثواب القرآن رقم: 2899 وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح، ومالك في الموطأ: 1/ 208 بزيادة، والحاكم في فضائل الصحابة: 1/ 566 من حديث أبي هريرة، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬5) رواه مالك في الموطأ: 1/ 214، 215 في القرآن، باب ما جاء في الدعاء، وأول الحديث هو =

وهي كلمات يسيرة تضمنت التوحيد كله لله سبحانه. وأخبرنا أبو الفضائل بن طوق المعدل (¬1) قال: أخبرنا الأستاذ أبو القاسم القشيري قال: سمعت الِإمام أبو بكر بن فورك يقول -وكان من عظماء الصوفية والعلماء-: إن كلمة "هو" مستقلة بنفسها في العبارة عن توحيد الباري سبحانه، تدلّ على أن ابتداء الأشياء منه وانتهاؤها إليه وكلها به، لأن الهاء من حروف الحلق وهو الابتداء في الكلام، والواو من حروف الشفتين وهي الانتهاء في الكلام، وما بينهما حروف الكلام (¬2)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب (¬3): أيُّ آيَةٍ في كِتَاب اللهِ أعْظَم؟ قَالَ لَهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] قالَ لَهُ النَّبِيّ: لِيَهْنَكَ العِلْم يَا أبَا المُنْذِر" (¬4). وإنما صارت أعظم بعظم مقتضاها، فإنّ الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته، وهي في آي القرآن كقل هو الله أحد في سُوَرِهِ، إِلا أن سورة الِإخلاص تفضلها بوجهين: ¬

_ = قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلته ... الحديث" ورواه الترمذي كذلك في الدعوات رقم: 3579. (¬1) هو أبو الفضائل محمد بن أحمد بن عبد الباقي الموصلي، من العلماء العاملين، تفقه على الماوردي وأبي إسحاق الشيرازي والقشيري، توفي سنة: 494 انظر: ابن الأثير: الكامل: 8/ 225، ابن كثير: البداية والنهاية: 12/ 161. (¬2) أورد المؤلف هذا القول في الأمد: 14/أونسبه إلى ابن فورك، وعقب عليه بقوله: "وهذه أغراض صوفية محومة على الحقائق، وإن كان لم يقع بها أنس لكم، وابن فورك شيخ من شيوخهم، وإمام مقدم فيهم". (¬3) هو أبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو المنذر، سيد القرّاء وكاتب الوحي، شهد بدراً، توفي رضي الله عنه حوالي سنة 22 انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب: 1/ 47، ابن حجر: الإصابة: 1/ 19. (¬4) رواه مسلم في صلاة المسافرين رقم: 810، وأبو داود في الصلاة رقم 1460.

أحدهما: أنها سورة وهذه آية، والسورة أعظم؛ لأنه وقع التحدي بها، والسورة إذا وقع بها التحدي أفضل من الآية التي لم يقع بها التحدي. الثاني: أن سورة الِإخلاص اقتضت التوحيد في خمس عشرة كلمة، وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين حرفاً. فظهرت القدرة في الِإعجاز، بوضع معنى يعبر عنه مكتوب مدده السبعة الأبحر ولا ينفذ، عدد حروفه خمسون كلمة، ثم يعبر عن معنى الخمسين كلمة خمس عشرة كلمة، وذلك كله بيان لعظيم القدرة والانفراد بالوحدانية (¬1). تنقيح: قال أبو حامد: "إن أم القرآن إنما صارت فاتحة الكتاب لأنها مفتاح الجنة، والجنة ثمانية أبواب، وفاتحة الكتاب ثمانية معان: ذات، صفات، وأفعال، الصراط المستقيم بجميع طرقه، التزكية، التعلية، ذكر نعمة الأولياء، وغضب الأعداء، ولم يخرج عنها إلاَّ محاجّة الكفار وهو علم الكلام وأحكام الفقه .. " (¬2) إلى آخر قوله. ¬

_ (¬1) قارن بالزركشي في البرهان: 1/ 442، والسيوطي في الإتقان: 4/ 142 وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة: 2/ 560. (¬2) عبارة الغزالي كما جاءت في كتابه جواهر القرآن: 43 هي كالتالي: "إن هذه السورة فاتحة الكتاب ومفتاح الجنة، وإنما كانت مفتاحاً لأن أبواب الجنة ثمانية، ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية، فاعلم قطعاً أن كل قسم منها مفتاح باب من أبواب الجنة تشهد به الأخبار ... ". وقال في موضع آخر: 43. "وقد اشتملت الفاتحة على ثمانية أقسام: الذات والصفات والأفعال وذكر المعاد والصراط المستقيم بجميع طرفيه، أعني التزكية والتعلية، وذكر نعمة الأولياء، وغضب الأعداء، وذكر المعاد، ولم يخرج منه إلا قسمان، محاجة الكفار، وأحكام الفقهاء، وهما الفَنان اللذان يتشعب منهما علم الكلام وعلم الفقه". قلت: ونسب ابن العربي هذا القول في كتابه السراج: 195/ ب إلى الصوفية وانتقده بعنف قائلاً: =

قال الإِمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: قد بينا -وهو الصحيح- أن فاتحة الكتاب أم القرآن، وحققنا أن علوم القرآن فيها، وساعدنا على ذلك جماعة من العلماء وهو منهم، فكيف يرجع فيحذف منها ما ذكر أنه فيها، بل لو قلنا أن القرآن كله مفتاح الجنة لكان أصوب، فكيف وقد بين صاحب الشريعة خاصية الأبواب وأسماءها فقال: "مَنْ كَانَ مِنْ أهْل الصلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصلاة ... الحديث" (¬1) فبين - صلى الله عليه وسلم - جنس الأبواب وأنها أبواب عمل تطلب في فروع الشريعة وأنواع الأفعال. وقد كملها قوم فقالوا: إنها ثمانية أبواب: باب الِإيمان. باب الصلاة. باب الصدقة. باب الصيام. ¬

_ = " .. وهذا كله تعد على القرآن وعلى الشريعة وعلى العلم، وطريق الحق فيه أنه ثبت في الكتاب العزيز أن لجهنم سبعة أبواب، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للجنة ثمانية أبواب، ولم يصل إلينا العلم بوجه التقدير ولا نقله محقق ... " إن الحرز والظن والقياس لم يجز (في الأصل: يجوز) لنا إلا في باب الأحكام التي المطلوب منها العمل، فأما ما خرج من الأحكام فليس للقياس فيه مدخل، حتى قال علماؤنا من الأصوليين ولا لخبر الواحد، ولست أقول به، بل أقضي بالخبر الواحد الصحيح في الشريعة كلها أحكامها وكل ما أخبرنا عنه من أمر الدنيا والآخرة، والسموات والأرض". قلت للتوسع في معرفة رأي المؤلف رحمه الله في موضوع الخبر الواحد راجع المحصول: 48/ أ-51/ أ. (¬1) رواه البخاري في الصوم: 4/ 96، ومسلم في الزكاة رقم: 1027، ومالك في الموطأ، كتاب الجهاد: 2/ 469، والترمذي في المناقب رقم: 3675، والنسائي في الجهاد: 6/ 48، وتمام الحديث كما هو عند مسلم هو أن رسول الله قال: "مَنْ أنفَقَ زَوْجَيْنِ في سبيل الله نودِيَ في الجَنةِ: يَا عَبْدَ الله، هَذَا خَيْر، فَمَنْ كَانَ مِنْ أهْل الصلاة دُعِيَ مِنْ بَابِ الصلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الجهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصدقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصدقَةِ، وَمَنْ كَان مِنْ أهلِ الصيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الريانِ ... الحديث".

باب الحج. باب الجهاد. باب العدل. باب التوبة. ولو قال قائل: إنها مفتاح الجنّة، لأنها سبع آيات تنغلق أبواب النار السبعة دونها، وليس بعد النار دار إلاَّ الجنة، لم يبعد نظراً، لكنه لا يعلمه، إذ لا طريق إلى العلم به كما بَيّناه. وقد عدّدوا أبواب النار فقالوا: باب الشرك. باب الإثم. باب الفساد. باب العدوان. باب الفحشاء. باب المنكر والبغي. تجري على الجوارح السبعة، وهي الحواس الخمس، منها اليدان والرجلان، وسابعها القلب (¬1)، وهذا كله تحكم لأنه قول بالظَّنِّ في معنى لا يعلم بالقياس، ولا يجري فيه إلاَّ القطع. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِجَهَنمَ سَبْعَةُ أبْوَابٍ، بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أمَّتِي" (¬2). ¬

_ (¬1) في السراج: 195/ ب: وقد قالوا: إن أبواب النار السبعة للجوارح السبع، السمع والبصر والشم والذوق واللمس واللسان والقلب. (¬2) أخرجه الترمذي في التفسير رقم: 3123 عن ابن عمر. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْوَل، وذكره المباركفوري في تحفة الأحوذي: 8/ 522 وعزاه إلى =

وهذا فن لم ينتبه هؤلاء له، وكل ما قالوه -كما قدمنا- لا دليل عليه. وقد أبهم الباري سبحانه أبواب الجنة في الطاعات ليلتزم الراجي لدخولها جميعها، كما أبهم ساعة الجمعة في اليوم، وليلة القدر في الشهر، وأبهم الكبائر في المعاصي كلها، ليكون ذلك أدعى لعموم فعل الذكر والطاعة في اليوم كله والشهر كله في اجتناب المعاصي، ولو أخذ رجل يطلب أمهات الطاعات فيرتب الأبواب لكان ذلك استعمالاً للظن في مواضع القطع وهو إتيان البيوت من أدبارها، وربما دخل في قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، ولم يترك الشيطان الناس مع هذا الحديث ولا مع هذه الآية -وذلك كاف- حتى أضل من عمل لهم الأحاديث في فضائل الآيات والسور (¬1)، فروى لهم في "آية الكرسي" أنها سيدة آيات القرآن (¬2)، و {يس} ¬

_ = البخاري في تاريخه: 2/ 235، وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بالضعف. انظر ضعيف الجامع الصغير وزيادته: 5/ 10. (¬1) قال المؤلف -رحمه الله- في السراج: 55/ ب، وقانون الأسكريال: 7/ ب، 8/أ: " ... وقد أقحم (في الأصلين: اقتحم) الناس في فضائل القرآن وسوره أحاديث كثيرة منها ضعيف لا يعول عليه، ومنه ما لم ينزل الله به من سلطان، وأشبه ما جمع في ذلك "كتاب ابن أبي شيبة" وكتاب "فضائل القرآن" لأبي عبيد القاسم بن سلام وفيها باطل عظيم وحشو كثير، وانتقى الأئمة من ذلك الحشو جملة، واستخرجوا من ذلك المنتقى الصحيح .. " وقد أورد هذا النص القرطبي في "التذكار في أفضل الأذكار" 210 (ط: الأرناؤوط). (¬2) حُكْمُ المؤلف -رحمه الله- على هذا الحديث بالوضع فيه نظر، فقد اعتبر الحافظ ابن قيم الجوزية هذا الحديث من جملة الذي صح في أحاديث السور، المنار المنيف: 114، وأخرجه الترمذي في ثواب القرآن رقم: 2881 عن أبي هريرة بلفظ: "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة القرآن: هي آية الكرسي" وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه. قال الأرناؤوط في تعليقه على هذا الحديث في التذكار في أفضل الأذكار للقرطيي: 216: وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه يُقَوَّى بِه

ذكر استيفاء الغرض في التقسيم

قلب القرآن (¬1)، وأمثالها، فلا تحفلوا بذلك كله، وأقبلوا على ما صحّ ففيه الغنية. وكما أنه "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" (¬2) فليس منا من لم يتغن بصحيح الآثار، وَطَلَبُ سقيم الآثار مضافاً إلى صحيحها، يقرب من قراءة الإنجيل والتوارة مضافاً إلى القرآن. ذكر استيفاء الغرض في التقسيم قد علمتم -في الجملة- أن العلوم ثلاثة أقسام، وأن المعلومات أربعة: النفس، والرب، والعمل النافع، والضار. وأن معرفة النفس تكون بالنظر في ذاتها وصفاتها، وانتقالاتها في أحوالها وابتدائها وانتهائها واستعلائها في شرفها، واستقلالها في نقصها، حسب ما وقع التنبيه عليه في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4 - 5] وذلك أنه خلقه سميعاً بصيراً حياً متكلماً قادراً مريداً، وهذه نهاية في مراتب الشرف، وخلقه من نطفة مدرة، ويصيره جيفة قذرة، ويحمل بعد ذلك عذره. أنشدنا ابن طوق (¬3)، قال: أنشدنا القشيري: ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في ثواب القرآن رقم: 2889، والدارمي في فضائل القرآن: 2/ 456، وفي سنده هارون أبو محمد شيخ مجهول، قاله عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على هذا الحديث في جامع الأصول لابن الأثير: 8/ 481. (¬2) هذا حديث شريف أخرجه البخاري في التوحيد: 13/ 418 عن أبي هريرة، وأحمد في المسند رقم: 1476، 1513، 1549، (ط: شاكر) وأبو داود في الصلاة رقم: 1469، والدارمي في فضائل القرآن: 2/ 471 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬3) إلى هنا تنتهي مخطوطة المرحوم عبد الحي الكتاني وكذا مخطوطة الشيخ محمد المنوني وكتب بهامش كل منهما: "هذا ما وجدناه في الأم".

ذكر معرفة ركني الحياة

كيف يزهى من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه فهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه وهو يدعو إلى الحشر ... بصغر فيطيعه وتبين لك أن معرفة الرب تكون بالعلم (¬1) بذاته العظمى وصفاته العلى وأسمائه الحسنى وأفعاله العدلى، وقد بيناه في كتاب "الأمد الأقصى" فمن أراد أن يعرف الله تعالى كذلك فعليه به، فإن عرضه إشكال فحله في كتاب "المتوسط". وفي كتاب "الأمد الأقصى" ما للعبد من حالة في هذه الأسماء، والفرق بينه وبين الرب في كل اسم انطلق على الله بالكمال، فأطلق على العبد بلفظه وبيان المنزلة العليا للرب فيه، والسفلى للعبد فيما يعطيه لفظه من معانيه. ذكر معرفة ركني الحياة وتبين أن معرفة العمل النافع هو ما يحصل به المطلوب في تزكية النفس بمعاشها، وما ينال به المرغوب، مع صفة السلامة في دوام النقاء من الآفات، ومعرفة العمل الضار وهو ضده، فإذا تمّ له ذلك أو بعضه، فهنالك ركنان وهما: العمل النافع في جلب النعيم الأكبر في البقاء الدائم بالعلم الذي هو ¬

_ (¬1) راجع المصدر السابق.

ذكر بيان أن العلم قبل العمل

أصله. وعليه مبناه، لأن العلم أول، والعمل ثان، ولا يَتَأتَّى العمل إلا بالعلم، إذ لا تتفق عبادة إلا بعد معرفة المعبود. وقد زلت في هذه طوائف يهولك أمرهم فقالوا: "إن العمل قبل العلم". وغلت أخرى فقلبت القوس ركوة وقالوا: "إنما يتوصل إلى العلم بالعمل" (¬1). ذكر بيان أن العلم قبل العمل لأن محل العلم وهو القلب، خلق مستعداً للعلوم، وهو صقيل يصدأ بالذنوب، فإن أحجم العبد عن الذنوب بقي بصفائه، وإن أقلع عن الذنوب بالتوبة فهي صقالة، فيتجلى حينئذ فيه العلم (¬2). وتشبثوا بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] (¬3). وقالوا: ذَكَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن فقال: "تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوب عُوداً عُوداً، فَأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء، وأيُّ قَلْبٍ أنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ ¬

_ (¬1) اعتبر المؤلف الإِمام الغزالي من جملة هذه الطائفة الغالية التي قلبت القوس ركوة. انظر العواصم: 20. والركوة هي حوض الماء وفي المثل: صارت القوس ركوة، يضرب في الإدبار وانقلاب الأمور. انظر الجوهري: الصحاح: 6/ 2361. (¬2) توسّع المؤلف رحمه الله في عرض آراء الصوفية ومناقشتها في العواصم: 13 وما بعدها، السراج: 231/ ب-232/ أ، 236/ ب، وقانون القاهرة رقم: (184 تفسير) وصفحاته غير مرقمة، وقد تكلم في هذا الموضوع بمناسبة شرحه للآية الكريمة {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. (¬3) علّق المؤلف على هذه الآية في كتابه سراج المريدين: 199/ أ- فقال: قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: يعني في مجاوزة حدود المعاملة الدينية التي بيّنا، ومنها فرض ومنها ندب. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}: يعني ما ألزمكم به من العمل وندبكم إليه وجعل إخلاصكم فيه".

نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أبْيَضَ مِثلَ الصَفَا، فَلَا تَضُرهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السمَوَاتُ وَالأرْضُ، والآخَرُ: أسْوَدُ مُرْبَادّاً (¬1)، كَالكُوزِ مجُخِّيَا (¬2)، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَراً" (¬3). وهذا كلام يحوم على مقاصد الفلاسفة، فإنهم يَدَّعُونَ أن العبد إذا أقبل على الله بالكلية، واشتغل بمحو ما ينبغي عن النفس، وواظب على اكتساب ما ينبغي، ولازم الذكر حتى يجري منه مجرى النفس، صفا قلبه، فتجلت فيه جميع المعلومات، إذ خُلِقَ القلب صقيلًا كالمرآة (¬4)، فإذا قابلته المعلومات تجلت فيه ما لم يصدأ، فإذا طهر بدفع المعاصي والفضول، بَقِيَ صقيلًا فتجلت فيه الحقائق ولا يفتقر إلى تعلم. تبصير: تأملوا -وفقكم الله وبصّركم- ما أبسطه لكم ها هنا من الكلام، فإنه وإن كان صعب المرام يفضي بكم إلى أرحب مقام. ¬

_ (¬1) المُرْبَادُّ وَالمُرْبَدُّ: الذي في لونه رُبْدَة، وهي بين السواد والغُبْرَةِ. (¬2) المُجَخِّي: المائل عن الاستقامة والاعتدال. (¬3) هذا جزء من حديث طويل رواه مسلم في الإيمان رقم: 144 باب بيان أن الإِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً. (¬4) يقول المؤلف في العواصم: 42: "وأما المرآة فلا يصح التمثيل بها في هذه القضية، وأنا أعلم بسرهم فيها واعتقادهم في حقيقتها، فإنهم بنوها على أن الإدراك فيها إنما يكون بانعكاس الأشعة على زوايا في مرايا، وذلك مذكور في كتب المناظر وخاصة المنسوبة إلى ابن الهيثم". قلت: ابن الهيثم هو أبو علي الحسن بن الحسن (354 - 430) وهو من أعظم علماء الطبيعة المسلمين والباحثين الأفذاذ في البصريات واشتهر في الكتب اللاتينية باسم AVENTAINI انظر: دائرة المعارف الفرنسية 3/ 811 (ط. الثانية: باريز) وعيون الأنباء لابن أبي أصبيعة: 3/ 149، وكتاب المناظر يحتوي على سبع مقالات وهو من أهم كتبه، وكان المرجع المعتمد عند أهل أوروبا حتى القرن 16 للميلاد وترجم إلى لغات عديدة، ويوجد مخطوطاً بمكتبة الفاتح بإستانبول رقم: 3213 - 3216، وفي آية صوفيا رقم: 2448.

هذا القول الذي أملت الفلاسفة (¬1)، وانخدع به زمرة من الصوفية (¬2)، فيه نظر من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) يحسن بنا في هذه التعليقة أن ننقل كلام الفيلسوف "ابن سينا" في مثل هذا الموضوع الخطير، فإنه سيساعد -بإذن الله- على توضيح فكرة الفلاسفة حول الرياضة والمجاهدة ثم الاتصال بالملكوت والتي أثرت تأثيراً قوياً على المتصوفة منذ القدم إلى يومنا هذا، يقول ابن سينا: " ... والعارفون المنزهون إذا وضع عنهم مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتعشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذة العليا ... ثم إنه (أي الفيلسوف العارف) إذا بلغت به الرياضة والإرادة حداً ما، عنت له خلسات من نور الحق عليه، ... ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه غير الارتياض ... يكاد يرى الحق في كل شيء .. ثم لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفاً، والوميض شهاباً، وتحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمتع بها ببهجته .. " الإشارات والتنبيهات: 198 (ط: د. دنيا: 1957) وانظر مثل هذا الكلام: الفارابي: آراء المدينة الفاضلة: 112 (ط: الكاثوليكية: 79). (¬2) وعلى رأسهم حجة الإسلام الغزالي كما ذكر المؤلف في العواصم: 31، حيث أورد نفس القول -مع اختلاف في اللفظ يسير- وزعم أن الغزالي قاله بلفظه وَكَتَبهُ لَهُ بخطه أيام لقائه ببغداد في جمادى الآخرة سنة 490، ولمعرفة رأي الغزالي انظر الإحياء: 1/ 12، وقانون التأويل: 245 (ط: الجندي) له، وكيمياء السعادة: 516 - 517. وقد تعقب شيخ الإِسلام ابن تيمية كلام الغزالي فقال: "وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن أهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالأخلاق المحمودة قد يعلمون حقائق ما أخبرت به الأنبياء من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الأنبياء، هو بناء على هذا الأصل الفاسد، وهو أنهُم إذ صَفّوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك، إما من جهة العقل الفعال أو غيره، وأبو حامد يكثر ذكر هذا، وهو مما أنكره عليه المسلمون وقالوا فيه أقوالاً غليظة بهذا السبب الذي أسقط فيه توسط الأنبياء في الأمور الخبرية .. ولهذا قالوا: كلامه يقدح في الإيمان بالأنبياء"، الرد على المنطقيين: 509 - 510. قلت: ويرى شيخ الإسلام أن كثيراً من الصوفية كمحيي الدين بن العربي (ت: 638) وصدر الدين القُونَوِي (ت: 673) وعفيف الدين التِّلِمْسَانِي (ت: 690) وغيرهم قد بنوا أصولهم الفكرية والعقدية على أصول الفلاسفة ومناهجهم، ولكنهم غَيرُوا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعُبَّادِهَا وَمَنْ دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض (ت: 178) ومعروف الكرخي (ت: 200)، والجنيد البغدادي (ت: 297) وغيرهم. أخذوا معاني أولئك لملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين، فيظن من سمع ذلك أن أولئك =

النظر الأول: إن هذا الذي قالوه من طلب تصفية القلب وتطهيره، إلى قولهم: "صفا قلبه"، كلام صحيح موافق للشريعة، لا درك فيه. وقولهم بعد ذلك: "إنه إذا صفا قلبه تجلّت فيه المعلومات" خطأ بحت، ودعوى عريضة لا برهان عليها من العقل، ولا من جهة السمع (¬1). وقد كان ذلك جائزاً لو فعله الباري سبحانه ودَلَّ عليه، وأخبر عنه، فلا معنى لإِنكاره جملة، وهذا التقصير هو الذي يزل فيه المدّعون للعلم، فإنهم ينكرون القول كله لامتزاجه بالباطل، وإنما ينبغي أن يفرق بينهما ويخلّص أحدهما من الآخر، والِإنصاف دين. النظر الثاني: هو أن الصوفية لما وجدت كلامهم (¬2) إلى قوله: "صفا قلبه" سليماً تركت ما بعده وركبت عليه. فقالت: "صفا قلبه فيتفكر في ملكوت الله وآلائه حتى تنكشف له أسرارها". فقولهم: "فيتفكر في ملكوت الله وآلائه" صحيح، وهو النظر المفضي -بشروطه- إلى العلم، وكأنهم أرادوا أن سلوك الطريق إلى الله تعالى بالنظر في آلائه والتفكر في ملكوت أرضه وسمائه ليوصل إليه، ويقف بالناظر عنده، لا يكون إلا للمتقين، فأما المذنبون المنهمكون في الشهوات المقبلون على الدنيا، فليسوا في جملة السالكين، ولا يعدونهم -بما حصل عندهم- من ¬

_ = المعظمين إنما عنوا بهذه العبارات الموجودة في كلامهم ما أراده هؤلاء الملحدون، وهكذا وقع الخلط وعظم الخطب ووقع المسلمون في مكائد الشيطان، فلا حول ولا قوة إلا بالله. انظر: الرد على المنطقيين: 281، 488. (¬1) قال المؤلف في العواصم: 22 - 23 ما نصه: لا ينكر أحد من الإِسلاميين لا من الفقهاء ولا من المتكلمين أن صفاء القلب وطهارته مقصود شرعي، وإنما المستنكر أن صفاءه يوجب تَجَلي العلوم فيه بذاته". (¬2) أي كلام الفلاسفة.

جملة العالمين بالله، وهذا أيضاً كلام صحيح، فقد نفت ظواهر الشريعة عن العاصي الإِيمان والعلم في الِإطلاق، كما نفته عن الكافر أيضاً في الإِطلاق، وهذا القول بإطلاقه لا يرده ظاهر الشرع، ولكن يفتقر إلى مزيد تحقيق. النظر الثالث: قولهم: "حتى تنكشف له أسرارها" فينبغي أن يكاشفوا عن هذا السر، ولهم فيه ثلاث طرق: الطريقة الأولى: أن يقولوا: هو معرفة الله والملائكة، والأنبياء وآيات الآفاق والسموات والكواكب والآثار العلوية وأقسام الموجودات وكيفية وجودها وارتباط بعضها ببعض حتى تنتهي إلى الله، ومعرفة القيامة والحشر والجنة والنار والجن، وتحقيق أن ما سبق إلى أفهام العامة من أن الله فوق العرش في مكان، وما اعتقدوه في أحوال الآخرة، هل هي خيالات؟ أو لَهَا مَعَان سوى الفهوم؟ وهذا قول خلف. أما معرفة الله: فهي بالتفكر في آياته. وأما معرفة الأنبياء: فإنها تقع بمعجزاتهم. وأما معرفة الملائكة والشياطين: فلا سبيل لدخول دليل العقل فيه، وإنما هو الشرع، لأن طريقه الخبر. وأما حقائقهم: فإنهم أجسام خلقهم الله على صفة يَتَأتَّى معها التصور في الهيئات، كما خلقنا على هيئة يَتَأتَّى لنا بها التصرف في الحركات. وأما آيات الآفاق: فهي دحو الأرض وتباين مناكبها، وإرساؤها بالجبال واتساع القفار بها، واختصاص بعضها دون بعض بما خصت به من منفعة أو حالة.

وقيل آيات الآفاق: اختلاف الدول، وغير ذلك مما طريقه معلوم للعامة والخاصة. وأما السماء: فمعلوم أنها أجسام، وكذلك الأرض. وأما الكواكب: فهي أجسام نورية مشاهدة. وأما مسيرها وتصرفها في أفلاكها: فيعلم مشاهدة للأنبياء، أو بالحساب في جزء يسير منها، لا بالطاعة والعبادة. وأما الآثار العلوية: فإن أرَادُوا به الغيث والسحاب والرعد والبرق، فذلك كله مشاهد محسوس، وإن أرادوا كيفية نشأته وصفة سياق وجوده وكونه في الحساب وصونه حتى يقع علينا، فلا يعلم ذلك بدليل العقل، وإنما طريقه الخبر بعلم ذلك قطعاً، وقد بيناه في كتب "الأصول". وما جرى في أشعار العرب من استمداد السحاب من البحر، فإن ذلك مما تلقفته من أقوال العامة الجاري على ألسنتهم بما سمعته من سواقط كلام الأوائل (¬1). وعجباً ممن يأخذ الحقائق من الأشعار، أو من متردد الألسنة العامية بالآثار. وأما أقسام الموجودات: فمنه ما يعلم بالمشاهدة، ومنه ما يعلم بالنظر، ومنه ما يعلم بالخبر. ¬

_ (¬1) انظر في هذه المسألة الرازي في مفاتيح الغيب: 19/ 29، 24/ 13، وأبو العباس التيفاشي في سرور النفس بمدارك الحواس الخمس: 290، ورسالة "الآثار العلوية" ضمن مجموع رسائل إخوان الصفا: 2/ 62، ورسائل الكندي: أ- في العلة التي لها تكون بعض المواضع لا تكاد تمطر: 70، ب- في علة كون الضباب: 76، جـ- في علة الثلج والبرد والبرق والصواعق والرعد والزمهرير: 79. (جمع وتحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة).

وأما كيفية ارتباط بعضها ببعض حتى تصل إلى الله تعالى، فمنه ما يعلم بالمشاهدة وبالنظر وبالخبر، وليست الطاعات إليه طريقاً، ولا شرطاً، بل يحصل ذلك كله دونها (¬1). فإن أرادوا أن صفاء القلوب يكشف هذه العلوم فباطل قطعاً. وإن أرادوا أن الفكر في المخلوقات والآيات يوصل إليها فباطل أيضاً قطعاً، وما أعلمني بما يحومون حوله ويسفون عليه. الطريقة الثانية: قولهم: "وتحقيق ما سبق مما تخيلته العوام ... " كما سردناه عليكم، وليس يخفى أن من اعتقد أن الباري يحويه المكان أو يشتمل عليه زمان، باطل بالأدلة المعلومة فيه القاطعة عليه، وقد كفينا شأنه معكم (¬2). وأما من اعتقد في الدار الآخرة أنها خيالات وتمثيلات، فلا يخلو أن يريد به أنه لا معنى لها، ولا حقيقة وراءها، فهذا مذهب النصارى والفلاسفة (¬3) وهو باطل قطعاً، لأن فيه تكذيب الرسل، والحكم عليهم بالاستخفاف بالناس والتغرير بهم. ¬

_ (¬1) انظر تعليقنا رقم: صفحة: (¬2) انظر: المتوسط: 20. (¬3) يذهب الفلاسفة إلى أن ما ورد في الشرع من الصور الحسية والتمثيل بالمحسوسات، القصد بها ضرب الأمثال، لقصور الأفهام عن درك هذه اللذات العقلية، ومن ثم فقد مثل الشرع للبشر ما يفهمون، مقرباً ما لا يفهمونه إلى أفهامهم بالتشبيه والتمثيل، يقول ابن سينا في كتابه "رسالة أضحوية في أمر المعاد": " ... أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد، وهو أن الشرع =

وأما من اعتقد أن لها معاني سوى المفهوم منها، فهو عدول عن الظاهر لغير ضرورة، وما أخبر الله عنه من البعث والحشر والصراط والحوض والجنة ونعيمها والنار وعذابها، كل ذلك ممكن في القدرة، فلا شيء يرد ظاهره، وإنما يطلب تأويل الخبر إذا عارض ظاهره دليل من الأدلة العقلية، وهذا يتبين لكم بتتبع الآيات والأخبار، فإنه لم يرد منها شيء يرد ظاهره العقل حتى يفتقر فيه إلى تأويل. فإن قيل: بل قد ورد في الخبر ما يعترض على العقل في مواطن كثيرة من أدناه قول الصادق: "إِنَّ أقَل أهْلِ الجَنَةِ مَنْزِلَة يُؤْتَى مثل الدُنْيَا وَعَشْر أمْثَالِهَا" (¬1) وهذا بعيد عقلاً. قلنا: من أي طريق يبعد وخالق الدنيا مرة يجوز أن يخلقها ألف مرة، وليت شعري ما الذي أحرج بعض الأشياخ إلى أن يقول (¬2): إنه يؤتى مثل ¬

_ = والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة": 44، ويقول عَمَّا ورد في الشرع من أمور الآخرة: " ... بل التعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الأفهام". ويقول في كتابه "النجاة": القسم الثاني: 298 (ط: السعادة: 1938): " (إن النفس) تتخيل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخروية، وتكون الآلة التي يمكنها بها التخيل شيئاً من الأجرام السماوية، فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الردية أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه ... ". قلت: انظر في نقد هذه السخافات: الغزالي: تهافت الفلاسفة: 287، ابن تيمية: الرد على المنطقيين: 281. (¬1) نحوه من حديث طويل رواه الإِمام أحمد: 3/ 26 - 27 والبخاري في الرقائق: 8/ 146 والترمذي في أبواب صفة جهنم: 4/ 112 (ط: عبد الرحمن محمد عثمان) وابن ماجه في الزهد رقم: 4395 (ط: الأعظمي). (¬2) القائل هو الإِمام الغزالي، إذ صرح المؤلف في العواصم باسمه وزعم أن هذا الكلام قاله له الإِمام، وقد توسع المؤلف في الرد عليه انظر: العواصم: 333 - 335.

عشرة أمثال الدنيا قيمة، كما يقال: الياقوتة عشرة أمثال الدنيا أي: في القيمة وإن كانت أقل منه في الوزن، والمخبر عن ذلك قادر على أن يجعلها عشرة أمثال الدنيا قيمة ووزناً ومساحة، وخلقه وعطاؤه وإحياؤه وإماتته ومنعه كلام كله إِذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ، فَيَكُونُ (¬1) بغير روية ولا مثنوية ولا كلفة ولا معونة، فماذا يقف عليه؟ أو يمتنع منه؟ وقد قام الدليل الشرعي على بطلان هذا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الجنة: "قَابَ قَوْس أحَدِكُمْ في الجَنةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالنَّصِيفُ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الَدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (¬2). فالذي أعطي عشراً من الحور أو عشراً من غيرهن فقد أوتي مثل الدنيا عشراً، وبهذا القدر كانت المنة تقع لمن له القدرة. هيهات لقد عظمت هذه وهلة، وكأني بمن طالع شيئاً من علوم الأوائل إذا بلغ هذا المنتهى، وقرأ كلامنا ها هنا، زَوَّى حَاجِبَيْه تقبّضا، أو أوحى بشفتيه تبسّما، فإن كان عني راضياً، أو كنت عنده عالماً قال: داهن فلان، وإن كان عني ساخطاً وكنت عنده جاهلاً قال: ما أجهل هذا الإنسان. انتصاف: فأنا أجادله بالحسنى حين عجزت عن عقوبة الدنيا، وأقول: يعلم الله وتشهد كتبي ومسائلي وكلامي مع الفرق، بأني جدّ بصير بأغراض القوم ومقاصدهم، فإن معلمي (¬3) كان فحلاً من فحولهم وعظيماً من عظمائهم، ¬

_ (¬1) الآية: 81 من "يس". (¬2) نحوه في البخاري كتاب الجهاد: 8/ 145 - 146، والترمذي في أبواب فضائل الجهاد: 5/ 287 - 288 (تحفة الأحوذي). (¬3) يقصد الإِمام الغزالي.

وتالله إني كنت محتشماً له غير راض عنه، وقد رددت عليه فيما أمكن، واحتشمت جانبه فيما تيسّر، وقد كنت أقبل على هذا المنكر، وأتتبع الرد على هذا المعترض من جميع جوانبه، إلا أنه مسطور في سائر كتب العلماء، فلا يمكن أن أخرج عن الغرض إليه، ويكفي ما نبهتكم منه عليه. الطريقة الثالثة: قولهم "إن الخبر وإن كان ورد بهذه المعاني كلها والأسماء بجملتها وهي محمولة على ظاهرها، فلها عبرة إلى سواها مما في معناها". ونحن نقول: إنه يمنع الاعتبار بالافتكار والتجاوز بالدليل من نظير إلى نظير، وهذا كلام صحيح للصوفية، وعلم بديع من علومهم، ومنهم من غلا (3) فيه، ومنهم من اقتصد، ولكنه معروض على قوانين الشريعة، فما لم يعترض عليها، ولا قاد إلى مناقضتها فهو صحيح. النظر الرابع: هو أنا نقول: قد قام الدليل العقلي على أن العلم قبل العمل كما قام الدليل الشرعي على أن العالم بالله هو الذي لا يعصي، قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فكل من علم أن الملكوت كله لله، وأن بدنه ونفسه من جملة ملكوته، وهو ملك له، لم يصرفه إلا بأمره، فإن عصاه فما قَدَّرَهُ حق قَدْرِهِ، ولا تحقق ما بلغ إليه من تحذيره. فإن في: قد رأينا جماعة من المتبحرين في الفقه تعصي؟ قلنا: هذا الذي حصل له نوع من المعرفة، لا يختص بالباري تعالى

ولا يرتقي به إلى الدرجة العليا، وقد يتفق أن يحسن فيه النية، فيكون قربة، لكنه دون العلم الأفضل الذي هو معرفة نفسه وربه بدوام حضوره في القلب، وحسن الحال في اكتسابه كما جاء في بيانه، والمشتغل بهذا العلم وحده من العاكفين على الدنيا، لم يختصوا بالمولى، فذلك الذي أوقعهم في الترخص بالذنوب، والتَّرَخُّصِ بالعيوب. فإن قيل: فإن لم يكن عالماً، أيكون جاهلاً؟ أو تحكمون عليه بالكفر كما قالت فرقة (¬1)؟. قلنا: لما كان هذا موضع إشكال على العامة، اضطربت فيه آراؤهم، وقد أوردنا تحقيقه بالغاية في كتاب "المشكلين". وهذه نكتة منه يسيرة بحسب ما يحتمله هذا "القانون" وهي أنا نقول: إذا واقع العبد المعصية فلا يخلو إما أن يكون لاهياً عن الوعيد أو ذاكراً له، فإذا كان لاهياً عنه لم يحضره ذكره فهو من {الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} (¬2). وممن آتاه آياته فأعرض عنها، لأنه يجب عليه أن يحضر ذكر التحريم في هذا المقام العظيم، فإذا لم يخلق الله الذكر له فقد أراد هلكته، وعليه إثم ¬

_ (¬1) وهم الخوارج إذ أجمعوا -كما قال الإسفراييني في التبصير في الدين- 46، والرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: 46 - على أن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، انظر: الأشعري مقالات الإِسلاميين: 1/ 168، الشهرستاني: الملل والنحل: 119، والواقع أن الباحث الذي يدرس مقالات كُتَّاب الفرق عن آراء الخوارج، دراسة مقارنة مع آرائهم كما هي في كتبهم يرى أن الخوارج لم يُجْمِعُوا صراحةً إلاَّ على إكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل أما ما عدا ذلك فقد اختلفت فرق الخوارج فيه اختلافاً كثيراً. (¬2) الآية 19 من "الحشر".

الذاكر، لأن أمره لم يكن بأول مرة، ولكنه كان بالانهماك في أسباب المعاصي، والإكباب على الشهوات المباحة أولاً، ثم المشتبهات ثانياً، ثم المحرمات المحضة ثالثاً، ثم تغلبه الشهوة، وتجره العادة، فيقع من غير إرادة، وهذا هو حقيقة الاستدراج الذي قال فيه سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44]. فتذكر ذلك في تفسير الآية، وتركّب عليه استدراج الكفار وتممه واستوفه. وأما إذا كان ذاكراً، وحضرت المعصية، وحضر ذكر المحرم والتحريم وعقوبته، وصدق المخبر بالعقوبة في خبره، وقدرته على إنفاذ حكمه، فلا بد أن يكف عن الإقدام، أو يدخله الشك في واحد من هذه الوجوه أو ما يرتبط بها، فإن داخله شك فهو كافر. وإن قال: ليس عندي تكذيب، وإنما عندي تسويف أقضي شهوتي وأنتظر توبتي، أو تسعفني رحمة ربي، فهذا مغرور، وهو أحد أقسام المغرورين، بل ينبغي أن يقوم بحق الطاعة بملازمتها، ويعصي النفس الأمارة بالسوء دائماً، فيرشد الله أقواله ويسدد أعماله، والخير إلى الخير ولاية، والشر إلى الشر غواية، واتباع الشهوات عماية، والعفة هداية، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (¬1). فقد ثبت أن العلوم إنما تحصل بالنظر، وأن القلب الصافي من كدورات المعاصي شرط لبقائها واتصالها، وإن من اتقى الله علمه، أي أبقى له ما علم، أو نفعه به، فإن لم ينتفع بعلمه كمن لم يكن معه، بل هو شر منه، على أن أرباب الظاهر من الفقهاء قالوا: إن معنى قوله: ¬

_ (¬1) الآية: 72 من الإسراء.

ذكر علم الأنبياء عليهم السلام

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] (¬1). معناه: كيف تتقوه، فإن الآية هي آية الدين فبصرهم أحكامها وأمرهم بامتثالها وحذرهم عن مخالفتها، مع ما سبق من الربا قبلها، ثم قال: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} يعني ما نهيتكم عنه {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 282] في اجتناب ما نهيتكم عنه {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما تفعلون وما تتركون (¬2). وقد قيل: إنهم إذا أكلوا الربا عَزَبَت أحلامهم، واسترسلت أفعالهم، وتحيروا {كالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬3). ذكر علم الأنبياء عليهم السلام فأما الأنبياء فالذي علمته ليس بصفاء قلب منهم قَابَلَهُ مقر العلوم فتجلت فيه، وإنما يتوصلون إلى المعرفة بتعليم جبريل، وهو المعلم الثاني. وقد فضلت الأنبياء الخليقة في علومها بوجهين: ¬

_ (¬1) أعتقد -والله أعلم- أن ابن العربي لم يوفق في رأيه هذا، فحماسه الشديد في النكير على الغزالي ومن اعتقد مذهبه من الفيضيين والإشراقيين، قد أدى به إلى المغالاة في إنكار ما هو معلوم وَمُسَلَّم لدى علماء السنة من أن تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ سبب من جملة الأسباب التي تساعد على تحصيل العلم والمعرفة، ويبدو أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد اطلع على مقالة ابن العربي هذه فرد عليه وعلى من ارتضى مذهبه قائلاً: "وقد أنكر عليه (أي على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي مما قاله من الحق، وزعموا أن طريق الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم، وأخطؤوا أيضاً في هذا النفي، بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم" الرد على المنطقيين: 511. وقال في موضع آخر: "وأما العلم اللّدني فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه، واتباعهم لما يحبه، ما لا يفتح به على غيرهم .. " رسالة "في علم الظاهر والباطن" ضمن مجموعة الرسائل المنيرية: 1/ 237. (¬2) لم أعثر على هذا القول المنسوب إلى الفقهاء في كتب التفسير التي استطعت الرجوع إليها. (¬3) الآية: 275 من "البقرة".

الأول: أنهم علموا علمهم ضرورة بما شاهدوا من الملكوت واطلعوا عليه من أمور الآخرة. الثاني: توالي الأدلة عليهم باتصال المعارف وتتابع الطاعات، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل بيته وعافس أهله: "فَإِنهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأسْتَغْفِرُ الله" (¬1) فكان يعتقد أن تلك الفترة لا يجبرها إلاَّ استغفاره، وهي عندنا نحن عبادة لما فيها لنا من العون على الطاعة، فإن الراحة بين العبادتين طاعة لنا لعجزنا عن الموالاة في الطاعة، وضعف أبداننا عن توالي العبادة، ولذلك نهانا النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّ هَذَا الدينَ مَتِينٌ فَأوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ" (¬2). وقال: "إنَّ الله لَا يَمل حَتَّى تَمَلوا" (¬3). فأما نحن فقد دعينا إلى النظر والاعتبار على مناهج مشروعة، ونحن مأمورون بها، فمن قصد لَقَمَهَا فهو واصل، ومن حاد عنها فهو ناصل. وأما الأولياء فهم أمثالنا في المعرفة، ولكنهم قوم واصلوا الطاعة فوصلوا، وقد بينا أن مواصلة الطاعة سبب لكل فضيلة. ¬

_ (¬1) جز من حديث رواه مسلم في الذكر رقم: 2702، وأبو داود في الصلاة رقم 1515. قال ابن الأثير في جامع الأصول: 4/ 386 في شرح معنى "إنه ليغان على قلبي" أي: لَيغَطى ويغشى، والمراد به: السهو؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سهى عن شيء منها في بعض الأوقات، أو نسي، عدَّه ذنباً على نفسه ففزع إلى الاستغفار. انظر: ابن سلام: غريب الحديث 1/ 136، الزمخشري الفائق: 3/ 82، ابن الأثير: النهاية: 3/ 403. (¬2) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه إلى البزار والبيهقي، وقال عنه شيخنا ناصر الدين الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح الجامع الصغير: 2/ 256. (¬3) هذا بعض حديث رواه البخاري في التهجد: 3/ 279، ومسلم في صلاة المسافرين رقم: 785، والموطأ في صلاة الليل 1/ 118، والنسائي في صلاة الليل: 3/ 218. وعلق ابن العربي على هذا الحديث فقال: "المعنى فيه لا يترك ثوابكم حتى تتركوا العمل، وهي عبارة بديعة"، قانون الأسكريال: 32/ أ، وانظر: المتوسط: 19.

ذكر حكمة الأمثال

تكملة: ولا تستبعد على القوم أن يضربوا الأمثال في كلامهم لعلمهم بالدرر في البحار وأنواع الثمار، فإن الله مرج البحرين، وخلق من كل شيء زوجين، وخاصة صنف الثمار، فإنه على ثلاثة أقسام: صنف يؤكل كله، وصنف يؤكل داخله، وصنف يؤكل خارجه. والذي يؤكل باطنه منه ما له ظاهران: أحدهما وسط بين الظاهر الأظهر وبين الباطن الأبطن، فأي مانع من أن يقال: إن من العلم ما يكون على ثلاث مراتب بعضها أجلى من بعض، وهي درجات تمثيلًا. وكذلك البحر فيه منافع وينطوي على جواهر، ولكل شيء من ذلك متعلق بالقدرة، وحظّ من الحكمة. وضرب الأمثال جائز كما ضربها الله في القرآن، ووكل الملك بضربها أيضاً في المنام. ونحن نذكر إن شاء الله منها ما يستدل به على الغرض، ويكون عوناً على ما يعن من ذلك ويعرض بفضل الله ورحمته. ذكر حكمة الأمثال ليس كل أحد يدرك حقيقة الأمثال، ولا ينال رتبة التشاكل والمثال على وجه تصديق الله لهذا المقال، كما أخبر وهو الكبير المتعال حين قال:

{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. ولا يصغي لها كل نفور القلب نكود الحال، والذي تضمّنت من الحكمة كثير، يكفيكم منها ظاهر واحد وباطن. أما المعنى الظاهر فإن الفصاحة العربية والبلاغة السليقية، وهي التي يتميز بها القرآن، وَعَنْهَا وصلت المعاني إلى القلوب، فإن القول إذا كان بديع النظم حسن الرصف، ألوط بالنفس، وأسرع إلى القبول والفهم، وبهذا كانت العرب تتبالغ في خطابها، وتتبارى في كلامها، فجاءهم الله من ذلك بما لا طاقة لهم به وإن جرى في أساليبهم. وأما الباطن فإن الله أراد أن يعلم الخلق كيف يتجاوزون في العبرة من المشاهدة إلى الغيب. وزعمت طائفة من الصوفية أن الباري إنما ضرب الأمثال في المنام لانتقاش العلوم في اللوح المحفوظ دون الكشف الصريح "والناسُ نِيَامٌ، فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا" (¬1) فتظهر لهم عند الموت حقائق كانت عندهم مشروحة ¬

_ (¬1) قال ابن العربي في العواصم: 16 معلقاً على هذا الأثر: "وهذا الحديث ليس له أصل في الدين، ولا يدخل في منزلة من منازل السقيم"، وقال في موضع آخر: 17 "وليس بخبر، وإنما هو مثل ضربه بعض الحكماء لِيُظْهِرُوا بذلك فضل الآخرة على الدنيا". وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة": 442 "إنه من قول عَلِي" وقال شيخنا الألباني في "الأحاديث الضعيفة": 1/ 137 رقم: 102: "لا أصل له" انظر: الزرقاني: مختصر المقاصد الحسنة: 205، ملا علي القاري: المصنوع في الحديث الموضوع: 199، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 367، ابن الديبع: تمييز الطيب من الخبيث: 177، العجلوني: كشف الخفاء: 2/ 312.

ذكر نموذج من الأمثال تمهيدا لما تقدم

بالمثال (¬1)، وهذه نزعة فلسفية، وأغراض عن الحق قصيّة، بل نحن الآن في حقائق واضحة، وأمور عبرت عنها عبارات لائحة، وقد بينا فساد هذا الغرض (¬2). ذكر نموذج من الأمثال تمهيداً لما تقدم مثل قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]. فضرب فيه لأربعة بأربعة: منافق آمن بلسانه، ذهب الله بنوره وبقي في ظلمات الكفر، بأربعة: موقد النار أطفأ ناره ضعفها وما هب عليها، فوقع في ظلمة الليل. فالمنافق في مقابلة الموقد، شخصاً بشخص، ونار الموقد الذي استضاء بها، بنور المنافق الذي استفاده من كلمة الإِسلام الجارية على لسانه في عصمة ماله ودمه، لحظة، ثم هبت عليه ريح المنية فأطفات ذلك النور ووقع في ظلمة الكفر (¬3). ¬

_ (¬1) عبارة الغزالي في هذا المقام هي كالتالي: "إن النائم لم ينكشف له الغيب من اللوح المحفوظ إلا بالمثال دون الكشف الصريح، وذلك يعرفه من يعرف العلاقة الخفية التي بين عالم الملك والملكوت، ثم إذا عرفت ذلك، عرفت أنك في هذا العالم نائم وإن كنت مستقيظاً، فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فينكشف لهم عند الانتباه بالموت حقائق ما سمعوه بالمثال ... " جواهر القرآن: 31. (¬2) في العواصم: 41. (¬3) قارن بالقشيري في لطائف الإِشارات: 1/ 77.

ذكر الاستطراد من كلام رب العالمين إلى كلام المخلوقين في هذا الغرض

ذكر الاستطراد من كلام رب العالمين إلى كلام المخلوقين في هذا الغرض وقد زاد بعض الناس في هذا المعنى صلة له، وهذا كما قال الشاعر (¬1): حين تم (¬2) الهوى وقلنا سررنا ... وحسبنا من الفراق أمنا بعث البين رسله في خفاء ... فأبادوا من شملنا ما جمعنا وَرَكَّب معنى البيتين على حال المنافق المذكورة، وهذا فن من توابع التفسير اعتنت به الصوفية حتى غلب في بلاد المشرق من تركستان (¬3) إلى الشام، فلا يقدر أحد على دفعه، وإنما رَكَّبْتُهُ على مذهبها في أن كل شيء إنما هو لله، قصد ذلك صَاحِبُهُ أو لم يقصده، وأن العباد بأقوالهم وأفعالهم لله، حتى إذا قال الكافر: الله ثالث ثلاثة -تعالى (¬4) - فهذا القول لله خلقاً، وعلى نفوذ إرادته ومشيئته دليلاً، وبوحدانيته شاهداً، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬5)، يُسبّح الجماد بحاله، والحي بمقاله، كيف ما كان من إيمان أو كفر أو صدق أو كذب، لا يخرج شيء من ذلك عن ملكه، ولا يدل على غيره، وهذا وإن كان يتعلق من التوحيد بحبل، ويرجع إليه بوجه، فإني لا أرى لأحد أن يشتغل به، فإنه فضول، وكأن الشيطان قصد به القطع عن كتاب الله بمقدار يربح فيه من العبد الانتقال ¬

_ (¬1) هذان البيتان أوردها القشيري في الإشارات: 1/ 78 (ط: أولى) ولم ينسبهما. (¬2) في لطائف الإشارات: قر. (¬3) تركستان اسم لجميع بلاد الترك، انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان: 2/ 23 - 26. (¬4) انظر كتاب شيخ الإِسلام "ابن تيمية" (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وكتاب الإِمام ابن قيم الجوزية "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، وكتاب الجويني: "شفاء الغليل". (¬5) الآية: 44 من الإسراء.

من كلام الله إلى كلام الناس، والشيطان بفسقه إن قدر أن ينقل العبد من طاعة إلى معصية فعل، فإن غلبه، خدعه بأن ينقله عن طاعة إلى أدنى منها، فيربح معه ذلك المقدار، وأكثر ما يحفل بهذا الوعّاظ لاستجلاب قلوب العوام واستدرار خلف أموالهم. ولقد سمعت بعض كبير المتصوفة يتكلم عن قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقد رتب الكلام وساقه أحسن مساق في أجمل نظام، ثم جعل يمسح أعضاءه، ولوى أعطافه حتى ركب عليه قول الشاعر: كتابي إليكم بعد موتي بليلة ... ولم أدر أني بعد موتي أكتب (¬1) بكلام غريب على طريقتهم لست له، ولا أنتم فأعرضنا عنه. مثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ .... } الآية [إبراهيم: 24]. فتلك الشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين. فضرب الله المثل بسبعة لسبعة: "الشجرة" للإيمان. "وأصلها" للتوحيد. "وثبوته" استقراره في القلب حتى لا تزعزعه رياح الشكوك، وترحضه أدناس الوساوس. ¬

_ (¬1) لم أتمكن من معرفة قائل هذا البيت.

"وفرعها" العمل. "وسماؤها" ظهور العمل. "واعتلاؤه" {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1). "وأُكلها": حلاوة الطاعة (¬2). وبقى مما لم يجر له ذكر في المثل، أوراق الشجر، ومثالها الأخلاق الجميلة للعبد، فإن الورق كما يستر الثمار ويحجبها عن الآفات حتى تتمكن من الطيب على قدر، كذلك الأخلاق الجميلة تحجب الأعمال الصالحة عن أسباب المعاصي. وقيل أُكلها ثمرات الجنة، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة ولا ذات آفة. ثم تركب عليه أيضاً وتقول: والشجرة لا بد لها من ماء يسقيها لتدوم نضارتها، وتزيد أجزاؤها، وغير ذلك من صفاتها، فتطلب له نظيراً من الدين. ثم تقول: وللشجرة آفات، فتعدد آفات الشجرة في أصلها وأغصانها وأوراقها وثمارها. وتركب عليها نظيراً من المعاصي بحسب قوتك في العلم ووعيك للمحفوظ، فإن اتفق عالم يجتمع له الحفظ والفهم، ركّب الدين كلّه على هذا المثل علماً وعملًا. وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه المثل بهذه الشجرة (¬3) فقال: "إِنَّ مِنَ ¬

_ (¬1) الآية: 10 من "فاطر". (¬2) انظر ابن قيم الجوزية في "أمثال القرآن": 37 - 41. (¬3) وهي النخلة.

الشَّجَرِ شَجَرَة لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، مَثَلُهَا مَثَلُ المُؤْمِنِ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ (¬1)؟." وذكر من التمثيل خصالاً، فإذا يسر الله للعالم الحفظ، رَكَّب أحوال المؤمن على أحوال الشجرة، ودعا متعلقاتها فجاء بجميعها، فتفطّنوا لضم هذا النشر فإنه يستغرق الأعمار لا أقول العمر. مثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29]. اختلف الناس في تأويله على أربعة أقوال (¬2): الأول: أنه مثل للمشرك الكافر مع الشياطين (¬3) وللمؤمن مع الله .. الثاني: أنه مثل للكافر مع الأصنام. الثالث: أنه مثل للصنم يدعيه جماعة يقول هذا أنا صنعته ويقول الآخر أنا جلبته (¬4). الرابع: أنه مثل للحق والباطل، والشركاء في الباطل هم الأوثان، والمؤمن لله وحده في قول (¬5). ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث رواه -بألفاظ مختلفة- البخاري في العلم: 1/ 22، ومسلم في صفات المنافقين رقم: 2811، والترمذي في الأدب رقم 2471، والإمام أحمد في المسند: 2/ 31، 61، 157. (¬2) انظر كلام المؤلف حول هذا الموضوع في العواصم: 266 - 268 ففيه فوائد جليلة، كما ينبغي الاطلاع على أمثال القرآن: 53 لابن قيم الجوزية. (¬3) هذا القول أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه. السيوطي: الدر المنثور: 7/ 224 (ط: دار الفكر 1983). (¬4) قارن بالقشيري في اللطائف والإِشارات: 5/ 279، فلا شك أن ابن العربي قد استفاد من إشارته الصوفية كثيراً. (¬5) م، ن: 5/ 280.

زادت الصوفية فيه. الخامس: وهو أن الأول مثل للمقبل على الدنيا المشتغل بزخرفها وطلبها، والعيال ومؤنتهم، والأهل ولذتهم، ولمؤمن أخلص لله وحده ذو حظ من صلاة وصيام (¬1). وهذه الزيادة قريبة من رسم التفسير. وفي هذا المثل بديعة من التوحيد وهي أن الله سبحانه قال: {وَرَجُلًا سَلَمًا} [الزمر: 29] يعني به المؤمن. وقال "لِرَجُلٍ" كناية عنه سبحانه وتعالى وهو العظيم المبين، كيف أنعم علينا وقرب البيان لنا، حتى كنى برجل محدث مخلوق ناقص، عن قديم خالق عظيم كامل على سبيل البلوغ إلى غاية البيان كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]. ولا يستقرض إلا محتاج وَهُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا في السًمَوَات وَمَا في الأرْض (¬2)، ولذلك قال المفسرون معناه "من ذا الذي يقرض عبد الله الفقير" (¬3). وليس يفتقر إلى هذا التأويل، فإنه سبحانه قد ردّد هذا المعنى في أمثلة كثيرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله: عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطشْتُ فَلَمْ تسْقِنِي، فَيَقُولُ: وَكَيْفَ تَجوعُ وَتَمْرضُ، وَتَعْطش وَأنْتَ رَب العَالَمِينَ، فَيَقولُ: مَرض عَبْدِي فُلَان، وَجَاعَ عبْدِي فُلَانٌ، وَعَطشَ عَبْدِي فلَان، فَلَوْ عُدْتَهُ وَسَقَيْتَهُ وَأطْعَمْتَهُ، لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) م، ن: 5/ 280، والدر المنثور: 7/ 224 (ط: دار الفكر: 83). (¬2) الآية: 68 من "يونس". (¬3) انظر: ابن عطية: المحرر الوجيز: 2/ 160 (ط: القاهرة، 79)، القرطبي: الجامع: 3/ 237 - 243. (¬4) نحوه في مسلم: كتاب البر والصلة رقم: 2569، وفي مسند أحمد: 2/ 404. =

وقال: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَه الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ" (¬1). فَكَنَّى بنفسه عن الجارحتين المصونتين عن المعاصي، وكنّى بلطفه بعيادة المريض الجائع العاطش بنفسه، وهو المُقَدَّس عن الآفات، المتعالي عن النقائص (¬2). وركب عليه قوله: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ في كَف الرحْمَنِ قَبْلَ أن تَقَعَ في كَف السائِلِ" (¬3). وقوله: {يَدُ اللَّهِ} (¬4). ¬

_ = يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية في تعليقه على هذا الحديث: .. فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولا سمع، إِلا من يظن أنه قد دل على جواز المرض والجوع على الخالق سبحانه وتعالى، ومن قال هذا فقد كذب على الحديث، ومن قال إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب، فإن الحديث قد فسَّرهُ المتكلم به، وبين مراده بياناً زالت به كل شبهة، وَبَيَّنَ فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العوّاد، وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يُعَد". درء تعارض العقل والنقل: 1/ 150. (¬1) هو جزء من حديث طويل رواه البخاري في الرقائق: 7/ 190 (من فتح الباري)، وانظر بحث شيخ الإِسلام الموسع في معاني "القرب" بمجموع الفتاوى: 6/ 5 وما بعدها، وشرح حديث النزول: 103، 124. (¬2) قال المؤلف في المتوسط: 18 ما نصه: "ولا يجوز وصفه تعالى باللون والطعم والرائحة، ولا شيء من اللذات والآفات، ولا نوع من أنوع المحدثات ومن الحركات والسكنات، أو الاجتماع أو الافتراق، ولا بالنقص والحاجات، بل هو القدوس الغنيّ عن الأرض والسموات". (¬3) لم أقف على نص الحديث كما أورده المؤلف، وهناك عدة أحاديث في معناه أخرجها مسلم في الزكاة رقم: 1014، والترمذي في الزكاة رقم: 661، 662، والنسائي في الزكاة: 5/ 57، والدارقطني في كتابه "الصفات": 67 رقم: 55، 56. وقد علق ابن العربي في السراج: 92/ ب على هذا الحديث فقال: "المعنى عبارة عن القبول، فإن السائل إذا قبل مدّ يده وأخذ الصدقة وجمع عليها كفّه، فكان ذلك علامة على قبولها، وحوزه ملك لها، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبوله وادخاره لها عنده لصاحبها بحال القبض لها، والاحتياز في الكف هو هيئة التمليك والقبول، والإِخبار بلسان الحال عن المقال، والمقال عن الحال أصل الفصاحة، وهو كثير متقرر في العربية". قلت: هذه التأويلات بعيد كل البعد عن فهم السلف الصالح، فالواجب قصر اللفظ على مورده من دون تكييف ولا تعطيل. (¬4) جاء ذكر يد الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] =

وقوله: "حَتَّى يَضَع الجَبّار فِيهَا قَدَمَهُ أوْ رِجْلَهُ " (¬1). وقوله: "قَلْبُ المُؤْمِن بَيْنَ اصبعَيْنِ مِنْ أصَابع الرحْمَنِ" (¬2) وتخلص من علم التوحيد الذات عن الآفات، وتقدس بالدليل الباري عن الجوارح، وتبين من علم التذكير على طريق التأويل في التوحيد وجه ¬

_ = كما جاء ذكرها في كثير من الأحاديث "الصحيحة" منها ما رواه البخاري في التفسير: 5/ 213، والترمذي في الفتن رقم: 2167. ويذهب أهل السنة والجماعة إلى حمل اليد على الصفة، إذ أن قولهم في آيات وأحاديث الصفات هو: "أمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ" بمعنى أنها تجري على ظاهرها من غير تأويل وهذا هو اعتقاد الإِمام مالك وسُفيان الثوري وسفيان بن عُيَيْنَة وغيرهم من أئمة الإِسلام، يقول ابن عبد البر القرطبي في كتابه "التمهيد": 7/ 145: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإِيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلّها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مُشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة". وقال الإِمام الخَطَّابِيّ فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: 13/ 417 "وليس اليد عندنا الجارحة، إنما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة". قلت: وللتوسع في معرفة رأي السلف في هذه الصفة انظر: ابن قيم الجوزية في مختصر الصواعق المرسلة: 1/ 42، 2/ 171 والتفسير القيم: 421، وابن خزيمة في كتاب التوحيد: 37 وابن تيمية: مجموع الفتاوى: 6/ 362. (¬1) هذا الأثر النبوي هو جزء من حديث صحيح رواه الثقاة بألفاظ مختلفة، منهم البخاري في التفسير: 6/ 47، ومسلم في الجنة رقم: 2187، والدارقطني في كتابه "الصفات" صفحة: 26 الأحاديث من رقم 1 - إلى- 12، وابن خزيمة في كتابه "التوحيد": 62، واستدلال ابن العربي بهذه الأحاديث المشكلة -في نظره- على التأويل أمر مجانب للصواب، فالحق الذي عليه أهل السنة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ومن تبعهم بإحسان، الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، فيقولون: "إن لله يَدَيْنِ وَقَدَمَيْنِ وأصَابع وغير ذلك من الصفات التي لا تشبه صفات الخلقِ"، وهو الذي نعتقده وَنَدِينُ الله بِهِ حتى نلقاه عليه إن شاء الله. (¬2) قلت: حديث "قَلْبُ المُؤْمِنِ ... " أخرجه -مع اختلاف في الألفاظ- الإِمام مسلم في القدر رقم: 365، والترمذي في القدر رقم: 2141 وقال عنه: حديث حسن صحيح، والدارقطني في كتابه الصفات صفحة: 45 رقم الحديث: 29، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال: 1/ 233 وعزاه إلى ابن جرير والدَّيْلَمِي، وللوقوف على رأي السلف، انظر تعليقاتنا السابقة.

الاستنباط الذي اقتضاه قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] وسبيل الاستنزال من الكناية بالمرض والجوع والعطش المستحيلة عليه، كما قال: "يَنْزِلُ رَبنا كل لَيْلَةٍ إلَى السمَاءِ الدُّنْيَا" (¬1). واسرد الأقوال في ذلك بقدر حفظك، وأبطل المستحيل عقلاً بأدلة العقل، والممتنع لغة بأدلة اللغة، والممتنع شرعاً بأدلة الشرع، وأبق الجائز من ذلك كله بأدلته المذكورة، ورجّح بين الجائزات من ذلك كله إن لم يمكن اجتماعها في التأويل، ولا تخرج في ذلك عن منهاج العلماء، فقد اهتدى من اقتدى، ولن يأتي أحد بأحسن مما أتى به من سبق أبداً. ¬

_ (¬1) قال المؤلف في القبس: 62 (مخطوط الخزانة العامة: 25 جـ). "وهذا الحديث أم من أمهات الأحاديث المتشابهة، وقد ذهب كثير من العلماء وخاصة من السلف إلى أنه يؤمن بها ولا يخاض في تأويلها، فأما مالك فقد بدع السائل عن أمثاله، وصرف عن إشكاله. ووقف عند الإيمان به، وهو لنا أفضل قدوة". قلت: حديث النزول حديث صحيح رُوِيَ بألفاظ مختلفة عند البخاري في التهجد: 2/ 47، ومسلم في صلاة المسافرين رقم: 758، ومالك في الموطأ كتاب القرآن: 1/ 214، والترمذي في الدعوات رقم: 80، وأبي داود في الصلاة رقم: 1315، والدارمي في الصلاة: 1/ 346،347، وابن خزيمة في كتاب "التوحيد": 127. ولمعرفة رأي السلف (أهل السنة والجماعة) في هذا الموضوع، يحسن بالمسلم الحريص على عقيدته، المحتاط لدينه، أن يدرس بإمعان وتدبر كتاب شيخ الإِسلام ابن تيمية -رضي الله عنه - المُسَمَّى "بشرح حديث النزول" فإنَّهُ أتَى فيه بفوائد عظيمة تزيل -بإذن الله- كل الشبهات التي أثارها أرباب التأويل، للتوسع في هذا الموضوع انظر: تبيين تلبيس الجهمية لابن تيمية: 1/ 22، كتاب "النزول" للدارقطني: 83 - 175، كتاب "ردّ الإِمام الدارمي على عثمان المريسي: 377 (ضمن عقائد السلف)، الرد على الجهمية للدارمي: 384 (ضمن عقائد السلف)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني: 1/ 111 (ضمن الرسائل المنيرية)، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 434، الجويني (والد إمام الحرمين): رسالة في الاستواء والفوقية والحرف والصوت: 1/ 174 (ضمن الرسائل المنيرية)، ابن قيم: مختصر الصواعق: 2/ 232.

وخلص من علم اللغة معرفة الكف، والقدم، والرجل، والقلب، وانظر في وجه الاستعارة لذلك بين الشيئين عند استوائهما في روح المعنى المعبّر به عنهما. واعلم أن روح الكف القبض والتحصيل، وأن روح القدم السعي عليها تارة والرفس بها أخرى عند الغضب، وأن روح النزول إحياء البقعة بالتحسين والتحصين بتفقد الأحوال وإصلاح الاختلال، فهو سبحانه الذي تنزل وينزل وهو خير المنزلين (¬1). والكل فعله لا وصف يقوم بذاته، وإلى هذا المعنى أشار الأوزاعي (¬2) -حبر الشام- رضي الله عنه حين سئل عن قوله: "يَنْزِلُ رَبُّنَا" قال: "يَفْعَلُ الله مَا يَشَاء" (¬3). ورتب على هذا لطائف الباري بعبده بحسب ما تنتهي قوّتك في الحفظ والتركيب. وإن عجزت، أو خفت وعر الطريق وخطر المشي، وما يحدث في ¬

_ (¬1) انظر الاسم التاسع والستون "خير المنزلين" من الأمد الأقصى: 129/ ب. (¬2) هو الإِمام أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي، ولد ببعلبك سنة: 88 وتوفي ببيروت سنة: 157، عُرِضَ عليه القضاء فامتنع، انظر ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: ق 2/ جـ 1/ ص 266، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي ق 1/ جـ 1/ ص 298، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 178. (¬3) أورد هذا القول ونسبه إلى الأوزاعي شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول: 41 - 42، والاستقامة: 1/ 76. وقول الإِمام الأوزاعي في نزول الرب سبحانه وتعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قول حق، فالنزول صفة فعل لله تعالى، ينزل كيف يشاء ومتى شاء، لا يشبه نزول الرب نزول المخلوقين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما قاله الإِمام الأوزاعي هو رأي السلف في صفات الفعل الاختيارية لله تعالى. لكن قول ابن العربي في الكف والقدم والرجل والنزول: والكل فعله لا وصف يقوم بذاته" واستشهاده بقول الأوزاعي استشهاد في غير محله، لأن الِإمام الأوزاعي إنما قال ذلك في صفة النزول خاصة وهي صفة فعل اختيارية، ولا يخفى على الباحث الفرق الشاسع بين صفات الذات وصفات الفعل.

المفازات من الآفات، وَزَادُكَ في الحفظ طفيف، ومطيتك التي هي فكرتك نِضْوٌ، فقف عند الإيمان والتسليم بما ورد له، واعتقد التقديس لمن قال وصمم على أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] (¬1) فإنها مهيع نجاة، إليها لجأ السلف لوجهين: أحدهما: تقية التغرير بالعامة. والثاني: خطر الطريق، ومعاينتهم لما جرى فيها من الابتداع لمن سلكها نضواً بغير زاد، فأفضوا إلى البدعة. وإن أردت أن تسلك في قانون التأويل طريقة أخرى، فالطرق إلى الله كثيرة، فانظر في مورد القول قرآناً وسنة، فإن كان قرآناً فقد سقط عنك النظر في طريقه، وتجرّد النظر في المورد. وإن كان سنة تعيّن عليك النظر في طريقه أولاً كما ثبت في كتب "الأصول"، ثم تقرن كما بيناه في سلوك طريق العلم إلى العلم، والظن إلى الظن، وتنظر في دلالة اللفظ على المعنى، ثم تنظر هل هو اعتقادي أو عملي؟ في رب أو مربوب؟ وتأخذ لكل واحد قانونه من مواضعه التي بيناها في "المتوسط" (¬2) وغيره، وإن تعذّر عليك شيء في طريق النظر فالمعيار الأكبر كتاب "المشكلين". ¬

_ (¬1) تعرض المؤلف رحمه الله في المتوسط: 11 - 12 لتفسير هذه الآية الكريمة باستفاضة، مع إيراد الاعتراضات التي يمكن للمخالف أن يعترض بها، والجواب عليها، ولكن يتعذر قراءة بعض الألفاظ لتآكل المخطوط. (¬2) لوحة: 15 وما بعدها، وانظر المحصول في علم الأصول: 50/ أ- ب.

مثل قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... إلى قوله ... كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]. قال الإِمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: ها هنا خمسة معان: الأول: ضرب المثل بالماء كناية عن الوحي، وضرب المثل بالمعادن الجوهرية في حلية أو متاع كناية عن الحق. الثاني: ضرب المثل بالزبد كناية عن الباطل. الثالث: ذكر تقسيم الماء، وذكر تقسيم الجواهر. الرابع: تخصيص الماء وحكمته. الخامس: تخصيص النار وذكرها. مقدمة: لو ذكر الله {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... إلى ... الْأَرْضِ} ولم يقل {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} لجَرى الكلام على ظاهره، ولم نتعرض لتأويله، ولا قَرَّرْنَاهُ دلالة على التوحيد؛ لأنه تنزيل لا يفتقر إلى تأويل، وإنما هو مجرد إنعام وخبر عن امتنان بما ذكر من تعديد النعم في الماء والمعادن، فلما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} علمنا أنه في مقتضاه ضرب مثل للحق والباطل، فَفَهِمْنَا مَا فَهَّمَنَا رَبُّنا. وشيوخ الصوفية تسلك هذا في كل آية، فربما أوقعهم ذلك في غواية، لأنه تكلّف ليس له نهاية.

مقدمة ثانية: فإذا عرفتم هذا، فلا بد من معرفة الحق والباطل أولاً، وقد بيناهما في كتب "الأصول" وأحسن بيان في كتاب "الأمد الأقصى" (¬1) لاختصاره لفظاً واستيفائه معنى، فالحق ما فيه فائدة مقصودة، والباطل ضدّه (¬2)، وفي ذلك تقابلات بين المثل والممثل به. فضرب الله للحق والباطل الماء مثلاً، فإنه خلقه حياة للأبدان، كما أنزل القرآن حياة للقلوب، وهو التقابل الأول. كما ضرب امتلاء الأودية بالماء امتلاء القلوب بالعلم، وهو التقابل الثاني. ¬

_ (¬1) من لوحة: 22/ أ- إلى-24/ أ. (¬2) توسع المؤلف - رحمه الله - في بيان معاني هذه الألفاظ في كتابه الأمد: 23/ أفقال: "اعلموا وفقكم الله أنا إذا استقرينا معاني الحق من جميع وجوهه، ومعاني الباطل من كل جهاته، ألفينا أن الحق هو ما له فائدة مقصودة، والباطل ما لا فائدة فيه، سواء كان معدوماً أو موجوداً، فقد تتعلق بالمعدوم فائدة كما تتعلق بالموجود، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] أي لفائدة مقصودة وهي الثواب والعقاب، يؤكده قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] أي ما خلقتهما لأنفسهما دون فائدة تتعلق بهما وهي الحشر والثواب والعقاب، يحققه قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] فقد تتعلق بالعلم فائدة، كما تتعلق بالوجود، فيكون العدم حقاً بهذا المعنى، وقد تتعلق بالمعنى فائدة من وجه فيكون حقاً، ويُعَرَّى عن الفائدة فيكون باطلاً". قلت: وللتوسع في معرفة مصطلح الحق؛ انظر الكافية للجويني: 43 المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي: 74، التعريفات: 48، كشاف الاصطلاحات: 80 - 82 (ط: تراثنا) ولمعرفة مصطلح الباطل؛ انظر: الكافية: 44، المبين: 75، التعريفات: 24.

وضرب الأودية الجامعة للماء مثلاً للقلوب الجامعة للعلم، وهو التقابل الثالث. وضرب قدر الأودية في احتمال الماء لسعتها وضيقها وصغرها وكبرها مثلاً لقدر القلوب في سعتها بانشراحها، وضيقها بالحرج فيها، وهو التقابل الرابع (¬1). وضرب مثلاً للسيل واحتماله ودفعه ما يلقى في طريقه من الحصيد والهشيم وما يجري به من الجميل، لما يدفعه القرآن من الجهالة والزيغ ووسواس الشيطان والشكوك، وهو التقابل الخامس. وضرب مثلاً رمي الزبد وذهابه جفاء عالياً، لما يدفعه القرآن من ذلك الفاسد كله إذا جرى عليه، ويقذفه عن العلم اليقين الثابت فيه، لأنه في جريان مستمر، والعلم له في قذف دائم، وهو التقابل السادس. وضرب مثلاً لمكث العلم واستقراره في القلوب للانتفاع والحمل والِإبلاغ، استقرار الماء ومكثه لانتفاع الناس به في السقي والازدراع، وهو التقابل السابع. وأما المثل ففيه مقابلات بين المثل والممثل: ضرب الله المثل بما توقد عليه النار في ابتغاء الحلية والمتاع، لما في القرآن من فائدة العلم والعمل، فالحلية المتخذة من معدن الذهب والفضة ¬

_ (¬1) قارن بالقشيري في الِإشارات: 3/ 224.

مثل للعلم الواجب اعتقاده في القرآن، وهو التقابل الأول. والمتاع مَثَلٌ ضُرِبَ لما في القرآن من العمل المنتفع به كالانتفاع بالمتاع في جميع تصرفات أنواع العالم، وهو التقابل الثاني. وكما أن الذهب والفضة موضوعة في العالم لمعرفة مقادير الأشياء، فكذلك القرآن منزل لمعرفة العلوم في العقائد والأعمال، وهو التقابل الثالث. وكما أن المعادن من الحديد والرصاص والنحاس موضوعة للانتفاع، وكذلك الأعمال موظفة للانتفاع، وهو التقابل الرابع. وكما أن هذه المعادن لها زبد وخبث، فكذلك الأعمال، وهو التقابل الخامس. وكما أن النار يتميز -إذا عرضت عليها هذه المعادن- الطيب من الخبيث، فكذلك نور الإِسلام وهو القرآن إذا عرضت عليه العلوم ميّز الحق من الباطل فيها، أو الأعمال ميز النافع من الضار منها، وهو التقابل السادس. فكل آية من القرآن في العقائد فهي وزان الذهب والفضة، وكل آية في الأعمال فهي وزان المعادن، ويحتمل أن يقال: الذهب والفضة مثال القرآن والسنة، وهو التقابل السابع. ويبقى وراء هذين القسمين اللذين أشرنا إليهما وبينا التقابل عليهما جواهر من الياقوت والدر والزبرجد والمرجان. واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أطلق القول، وجعل الكل باباً واحداً، لقوله تعالى: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]. وهذه كلها حليّ، ودخلت فيه لأنه يتحلى بها معه، فجعل ذكره أحدهما، والتنبيه على وجه ذكره يوجب دخول هذه معه.

ومنهم من جعلها أمثالًا لعلوم متعددة ومعاني لحكم منفردة فقال: "إن الياقوت الأحمر معرفة الله، وما يليه منها معرفة صفاته، وما يتلوهما في النفاسة معرفة أفعاله، وما يلحق بذلك معرفة رسله، وما يتبع الكل معرفة الأعمال، وما يرتدف عليها معرفة المعاد". وإذا عرفتم هذه الأنموذجات التي ذكرنا لكم لم يخف عليكم قانون التأويل في التنزيل لجميع علومه. مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .... } الآية [يونس: 24]. هذا (¬1) مثل ضربه الله للإنسان في ذاته وتصرفه وزينته وطمعه وجمعه، ثم كبر سنه وتعجيز أحواله وهجم المنية عليه وتبدد أشلائه وذهاب أحواله، كالماء ينزل من السماء فتنبت به الأرض، ويخضرّ الصعيد، وتظهر الثمار فتسكن إليها نفوس أربابها، فإذا بالجائحة قد أتت عليها، فلم تبق لها أثراً وجعلتها غبراً، وتركتها بعد أن كانت معاينة خبراً. وقد سمعت بعض الشيوخ يسوق الكلام على هذه الآية سوقاً يصف به حال الإِنسان من ابتدائه إلى انتهائه ثم ينشد: ¬

_ (¬1) العبارات التالية تلخيص لما في لطائف الإشارات للقشيري: 2/ 88 - 89 لم ينقل فيها ابن العربي كلام القشيري بنصه وفصه، وإنما تصرّف بعض الشيء فقدم وأخر، وأضاف في مواضع واختصر في أخرى، وللتوسع في شرح هذه الآية انظر: ابن ناقيا: الجمان في تشبيهات القرآن: 117 - 127، الحكيم الترمذي: الأمثال في الكتاب والسنة: 18.

فَقَدْنَاهُ لَما تَمَّ واعْتَزَّ بالعُلاَ ... كَذَلِكَ فَقْدُ البَدْرِ عِنْدَ تَمَامِهِ (¬1) والبدر مثل الِإنسان في أحواله، به شبهه المتطببون والمحسنون لوجهه، المحملون والمرفعون لمكانه والمعظمون، وتأخذ المعاني هكذا إلى آخرها على قدر الحفظ وسعة الباع في التركيب، وبحسب ذلك نقول: إن قَدَّرْتَ أن الماء الذي به كان في الدنيا ما كان، لا يستنزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تستنزل إلاَّ بالقسمة، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] (¬2). وأبدع من ذلك: إن المطر وإن كان لاَ يَتَأتَّى إلا بالتقدير، فقد يستسقى على الرزق وإن كان بالقسمة، فإنه يتعرض فيه للكسب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أنَكُمْ تَوَكلْتُم عَلَى الله حَق تَوَكُلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطيْر تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا البيت أورده القشيري في الإشارات 2/ 98 بالألفاظ التالية: فَقَدْنَاهُ لَما واخْتَمَ بِالعُلَى ... كَذَاكَ كُسُوفُ البَدْرِ عنْدَ تَمَامِهِ (¬2) الاستدلال بالآية من إضافة ابن العربي على نصوص، القشيري في الإِشارات: 2/ 89. (¬3) أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه في الزهد رقم: 4216 (ط: الأعظمي) وكذلك الترمذي -مع اختلاف في الألفاظ- في الزهد رقم: 2345، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى خماصاً أي جياعاً جمع خميص، وبطاناً أي ممتلئة الأجواف جمع بطين.

فيعترض لك ها هنا مقام التوكل فتقتصر فيه على قدر طاقتك ومقام التفويض فاذكر منه ما يحسن، وركِّب عليه الاستسقاء بمَجَادِيحِ (¬1) السماء، والاكتساب للمعيشة التي بها قوام الحوباء (¬2). وتزيد عليه إن استطعت فتقول: بأن الماء فيه حكمة عظيمة، وهو أنه سبب الحياة في حين، فإذا طغى كان سبب الهلاك في الحين، وكذلك المال في المعنى، إذا ملكه العبد على قدر قام به معاشه، ويتفرغ لعبادة ربه، وإذا طغى عليه أهلك دينه. وتتسع فتضرب الأمثال وتسوق الأخبار، وتبدأ بما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثعلبة إلى آخر زمانك. وتذكر عليه كما حديث ينظر إليه كقوله: "إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حلْوَةٌ" (¬3). وكذلك: "إِنَّ الخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلا بِالخَيْرِ" (¬4). وإن المال قد يكون شراً، وتجمع في ذلك بين الأثر والنظر، وتنشد إن كنت صوفياً: نِعَمُ الله لَا تُعَاب وَلَكِن ... رُبمَا استقبحت عَلَى الأصْحَاب ¬

_ (¬1) المَجَادِيحُ جمعْ مِجْدَح، وهو نجم من النجوم، قال ابن الأثير: "وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر" قلت: وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: "اسْتَسَقَيْت بمَجَادِيحِ السمَاءِ"، وقال ابن الأثير: "فجعل (أي عمر) الاستغفار مُشَبهاً بالأنواء، مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولاً بالأنواء، وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر" النهاية: 1/ 243، وانظر الزمخشري في الفائق: 1/ 195. (¬2) الحوباء: النفس. (¬3) هذا جزء من حديث طويل رواه بهذا اللفظ ابن ماجه في أبواب الفتن رقم: 4048، والبخاري في تاريخه: 1/ 1/ 190، والحافظ أبو بكر الشيباني في كتاب الزهد: 71رقم الحديث 154. (¬4) هذا جزء من حديث طويل تخريجه في صفحة: 588.

وتبين أن العيب إنما هو في العبد لا في المال، فإن المال آلة كالسيف يقتل به الكافر جهاداً ويقتل المؤمن به فساداً في الأرض وعناداً. وأغرب من ذلك أن الماء إذا كان جارياً طاب، وإذا لبث أجن، وكذلك الدنيا، والمال إن جدت بالعطاء طاب ولم ينقطع، وإن حبست بالبخل أنتن. وأغرب منها أن الماء إذا كان طاهراً حلّ للشرب والطهارة، وإذا كان نجساً فبالعكس منه، فكذلك المال إذا كان من حله طابت نفقته وقبلت صدقته، وإذا كان حراماً فإنما يأكل في بطنه ناراً (¬1)، وكان كما قال الأول: كَمُطْعِمَةِ الرُّمَّانِ مِنْ كَسْب فرجها ... فَيَا لَيْتَ لَمْ تَزْنِ وَلَمْ تَصدقِ (¬2) وإذا زدت في التمثيل واستوغلت مع أرباب الإشارة، وأخذت من أقوالهم ما يقرب قلت: إن الربيع إذا تَم نورت أشجاره، وظهرت أزهاره، وتهدّلت ثماره، واخضرّت رباعه، وتزينت بالنّبات وهاده وتلاعه، فلا بد أن تنزل بذلك كلّه آفة من غير ارتقاب، ويأتي عليها ما لم يكن في حساب، كذلك الدنيا، بينما المرء يكون فيها مقبلاً في شبابه بين أترابه، إذا به قد استلب من أثوابه، فإذا رآه المعتبر أنشد: عَيْن أصَابَتْكَ إنَّ العَيْنَ صَائِبَة ... وَالعَيْنُ تسْرعُ أحْيَاناً إِلى الحُسْنِ (¬3) ¬

_ (¬1) قارن بلطائف الإشارات: 3/ 89. (¬2) مع شهرة هذا البيت فإنني لم أتمكن من معرفة قائله، أو موضعه في مصادر الأدب. (¬3) هذا البيت أورده صاحب لطائف الإشارات 3/ 89 ولم ينسبه، مع اختلاف في قافية البيت حيث وردت عند القشيري .. والعَيْنُ تسرع أحياناً إلى الحسد.

وبينما تكون للعبد أحواله الصافية وأعماله الزاكية، تدركه سوء الخاتمة، فتتكدر مشاربه، وتخبث مذاهبه، فإذا رآه العالم قرأ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ...... } الآية [الأعراف: 175]. ويأخذ في بيان حكمة الله سبحانه في إنفاذ إرادته، ووجوب تقديره، وحسن تدبيره وعدله في قضائه، وأنه الظاهر (¬1) بما ترى من الاستدراج لأعدائه، الباطن (¬2) بما يظهر من غيب قضائه، كما أنه الظاهر لأوليائه بما يظهر من بلائه، الباطن بما يعطي من ثوابه. وتسوق في ذلك كلّه ما يحضرك من أمثاله، وتختم القول بأن الهدى هدى الله، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} (¬3). وهذا قانون بديع مستوفى. تمثيل: ونحوه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّهَا الناس، وَاللهِ مَا أخْشَى عَلَيْكُم إِلا مَا يُخْرِجُ الله لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُنْيَا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا زَهْرَةُ الدنْيَا؟ قَالَ: بَرَكَاتُ الأرْض، فَقَالُوا أو قَالَ رَجُلٌ: أيَأْتِي الخَيْرُ بالشَر، قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْنَا: مَا شَأنُك تُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ وَلَا يُكَلمُكَ؟ قَالَ: وَرَأينَا أنَهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَأفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَقَالَ: أيْنَ السائِل وَكَأنَهُ حَمِدَهُ فَقَالَ: إِنَهُ لَا يَأْتِي الخَيْر إِلا بِالخَيْرِ ثَلَاثاً، وَإِنَ مِمَا يُنْبِتُ ¬

_ (¬1) انظر القول في اسم الجلالة "الظاهر" لوحة: 55/ أ-57/ أ- من الأمد. (¬2) القول في اسم الجلالة "الباطن" لوحة: 57/ أ- 58/ ب- من الأمد. (¬3) الآية: 97 من [الإسراء].

الربيعُ يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِم، إلاَّ آكِلَةَ الخَضِرِ، فَإنهَا أكَلَتْ، حَتى إذاً امْتَلأت خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشمْس فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُم رَتَعَتْ، وَإن هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلَم لِمَنْ أعْطَى مِنْهُ المِسْكِينَ وَاليَتِيمَ وَابْنَ السبِيلِ، وَإن مَنْ يَأخُذهُ بِغيْرِ حَقهِ، فَهُوَ كَالذِي يَأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ" (¬1). فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لستة: الربيع، البهيمة الهالكة بالأكل، آكلة الخضر، الشمس، ثلطت وبالت، عادت فأكلت لستة: لصاحب المال، الهالك بجمعه وإيعابه، المجتزىء منه باليسير الكافي، نور الإِسلام، إذا لحق عاد فاكتسب. فانظروا -رحمكم الله- كيف يتحصل هذا المثل للمعتبرين مع سلوك سبيل المهتدين، لكن بالِإيجاز مع هذا الاستيفاء. وذلك أن المال في لسان الشريعة خير محمود، ومعنى ممدوح، كما قال: "نِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ هُوَ" بعد ذلك، ومع أنه خير في القرآن، ونعم الصاحب في الحديث، فإنه مخوف العاقبة، لاحتماله النفع والضر، ووجود ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه -بألفاظ مختلفة- البخاري في الزكاة: 4/ 87، ومسلم في الزكاة رقم: 1052، والنسائي في الزكاة: 5/ 90، وابن ماجه في أبواب الفتن رقم: 4043 (ط: الأعظمي). ومعنى "زَهْرَةُ الدْنْيَا": حسنها وبهجتها، و"الرُّحَضَاءُ" العرق الكثير، و"الحَبَطُ" مَنْ حَبطَ بطنه إذا انتفخ وهلك، "أوْ يُلِم" ألم بهِ يُلِم: إذا قاربه ودنا منه، يعني: أو يقرب من الهَلاك، "فَثَلَطَتْ" ثلط البعير يثلط: إذا ألقى رجيعه سهلاً رقيقاً. انظر ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 2/ 40 وجامع الأصول: 4/ 502.

ذلك مشاهد فيه، والسائل في الحديث: أيكون الخير المرجو يأتي بالشر المخوف؟ سأل ذاهلاً عن انقسام حال المال، وعن غلبة الشهوة في اكتسابه، وتصرف النفس فيه بأنواع لذاتها. فبين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الخَيْرَ لَا يَأتِي إِلَا بِالخَيْرِ"، بالوحي المنزل عليه، وأكد ذلك ليقوي ثبوته في قلب السائل، ويتحقق أن ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عن علم أسمعه بيانه بعد ذلك. فوقع التمثيل في البيان بين المال والمكتسب له، والبهيمة ورتعها في زهرة الربيع، وهو التقابل الأول. وبين القتل حَبَطاً أو الِإشراف على الموت حساً، وبين الهلاك في الدين، أو مقاربته حكماً إِن لم يتداركه، وهو التقابل الثاني. وبين المقتصر على كسب المال بقدر الكفاية، وبين البهيمة المجتزئة بالخضر، وهو التقابل الثالث. وبين الاهتداء بنور الشريعة في المال، وبين استقبال الماشية الشمس على طريق الاستمراء والاستراحة مع الرتع، وهو التقابل الرابع. وبين الثَّلط والبول اللذين كان يعودان -لو بقيا- على الماشية بالهلكة، وبين أداء الحق، وهو التقابل الخامس. وبين العود إلى الأكل بعد الاستراحة، وإخراج الفضل، وبين العود إلى كسب المال بعد أداء الحق وهو التقابل السادس (¬1). وهذا التقسيم واجب في الحديث، ظاهر في التأويل، صحيح في ¬

_ (¬1) إلى هنا ينتهي نصّ سراج المريدين: 116/ ب.

التمثيل، لا غبار عليه، إلاَّ قولنا: إنّ الثلط والبول مثلين لممثل واحد، وقد يحتمل أن يكونا مثلين لممثلين وهو أظهر، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال في الصدقة: "إنمَا هِى أوْسَاخُ الناسِ" (¬1). ولذلك لم تحل لمحمد، وآل محمد في أحد القولين (¬2). ومثلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى برحاضة رجل بادن في يوم حار (¬3)، وتلك قذارة عظيمة. ولعله أراد به تمثيل مثلين وهما الزكاة والنفقة في سبيل الله، أو الزكاة والحقوق التي تعرف على قول من يقول: إن في المال حقاً سوى الزكاة والحقوق القريبة والمنافع البدنية المختصة بمنفعة الإنسان. ومما قيدناه في الحديث قوله: "إلاَّ آكلة الخضر" فإنها تقيد بفتح الخاء وكسر الضاد، وتقيد أيضاً برفع الخاء وفتح الضاد. واختلف الناس في تفسيره، فمنهم من جعل "الخَضِر" -بفتح الخاء وكسر الضاد- بعض الخُضَر -بضم الخاء وفتح الضاد-، والصحيح أنه واحد ¬

_ (¬1) هذه العبارة جزء من حديث طويل رواه مسلم في الزكاة رقم: 1072، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم وأنفسهم كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فهي كغسالة الأوساخ. (¬2) انظر في هذه المسألة: ابن عبد البر: التمهيد: 3/ 88، الحطاب: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل: 2/ 344، النووي: المجموع: 6/ 244، ابن حجر: فتح الباري 3/ 227، الشوكاني: نيل الأوطار: 3/ 227. (¬3) يشير إلى الحديث الذي رواه الإِمام مالك في الموطأ: 1/ 1001 موقوفاً في كتاب الصَّدَقة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال لي عبد الله بن الأرقم: ادْلُلْنِي عَلَى بعِيرٍ مِنَ المَطَايَا استَعْملُ عَلَيْهِ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْت: نعم جمل من إبل الصدقَةِ، فَقَالَ عَبْدُ الله بنِ الأرقم: أتحبُّ لَوْ أن رجُلاً بَادِناً في يَوْم حَار غَسَلَ لَكَ مَا تَحْتَ إزَارِهِ وَرُفْغَيْهِ، ثم أعْطَاكَهُ فشرِبْتَهُ؟ قَالَ: فَغَضِبْتُ، وَقلْتُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، لِمَ تَقُولُ مثل هَذَا لِي؟ قَالَ: فَإنمَا الصدَقَة أوْسَاخ النَّاس يَغْسِلُونَهَا عَنْه

كناية عن الشيء المعجب، وضرب مثل له، والذي قيده بفتح الخاء وكسر الضاد ذكر أنه نبات صيفي تجتزىء به الماشية (¬1). والصحيح في التمثيل أنه نبات معجب يحلو للماشية، فمنها ما يرتع حتى يحبط، ومنها ما يرتع حتى إذا امتلأ استراح إلى الثلط في عين الشمس ... الحديث إلى آخره ... فهذا نكتته، واستفاؤه على العموم مذكور في "شرح الصحيحين". وقد كنت في وقت قراءتي هذا الحديث على أبي بكر النجيب بن الأسعد ابن المبارز الزاهد (¬2) بمدينة السلام، أخبرني عن الأزهري (¬3) أنه قال: "في هذا الحديث مثلان ضربهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، أحدهما للمقتصد في جمع الدنيا، والثاني للمفرط فيها". ثم تَأمَلْتُهُ فَجَمَعْتُهُ على هذا الترتيب المستوفي للغرض المقصود. فإن قيل: لقد جلبت أمثالًا لا نعلم لها مثالاً، وسردت أقوالاً جدت فيها مقالاً، ورتبت فصولاً نظمتها تثقيفاً وتحصيلاً، فهل نسري بها في ليل الإشكال، ونضربها في جميع الأحوال؟. ¬

_ (¬1) قال الزمخشري في "الفائق في غريب الحديث": 2/ 140: "الخَضِرُ نوع من الجَنَبَة عامة الشجر ينزل في الصيف، واحدته خَضِرَة، وليس من أحرار البقول، ولا من بقول الربيع، وإنما هو من كلأ الصيف في القيظ". وانظر ابن الأثير: النهاية: 2/ 40. (¬2) ذكره المؤلف في الأحكام: 1449، والعارضة: 9/ 21. (¬3) لعله المحدث أحمد بن الحسن الأزهري، أبو حامد الشروطي المتوفى سنة 463 انظر ترجمته عند الذهبي: سير أعلام النبلاء: 18/ 254، والعبر: 3/ 252.

فالجواب أنا نقول: الأصل ألَاَّ نضرب للباري مثالاً؛ لأنه لا مثل له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقد قال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. وَتَمَّمَ المعنى في آية أخرى فقال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ومن أخذ معرفة الحق من الخلق بالمعنى المطلق فقد ألحد وأخفق. والقانون في ذلك يدور على ثلاثة أقطاب: القطب الأول: إن كل معنىً دار بين المخلوقين، فدونكم وإياه، واضربوا له الأمثال، وكَثَّرُوا فيه بالمثال، ونوِّعُوا فيه بالأقوال، واسترسلوا على نظام المعنى في المقال، وأما المعنى المتعلق بالباري سبحانه، فلا تضربوا لله الأمثال ابتداء، إلاَّ ما ضرب لنفسه، وغايتكم فهم المقصود. ومن هنا زاغت طائفة كثيرة من الصوفية، فاسترسلت في ضرب الأمثال واستعارت الألفاظ، ونقلتها من المخلوق إلى الخالق، وذلك ابتداع. القطب الثاني: الاستدلال على ذاته وصفاته من مخلوقاته بوجوه الأدلة التي رتبها العلماء وحصروها في أربعة أشياء:

"العلة والمعلول، والحقيقة والمحقق، والشرط والمشروط، والدليل والمدلول" (¬1). ونحن لا نراها، فإنها بحار لا ساحل لها، وإن كان ركّبها علماؤنا في سفائن نجاة، فما أراهم عن الوهم فيها بنجاة، والأولى بكم العدول عنها إلى وجوه الأدلة التي رتبناها في "المتوسط" (¬2) و"المقسط" و"المشكلين" وسائر العقائد والتأليفات، إلاَّ أن يجد المرء لُبَانَةً (¬3) في ذهنه، وفراغاً من وقته، وهمة تنتهي به إلى المقصود، فلا بأس بها له، ليرى فضل سائر الطرق عليها، ويشرف على المقصود منها. القطب الثالث: وهو الرد على المبتدعة في كل ما شبّهوا به ربهم ومثّلوه بخلقه، فتسامح العلماء إذا رأوا لها مثالاً أن ينشؤوا لهم تمثالًا ينقض مثالهم، ليضربوا بين أقوالهم حتى يظهر غلطهم، ويتضح سقطهم، وذلك بين في أمثلة الصّلاح ¬

_ (¬1) توسع المؤلف -بعض الشيء- في المتوسط: 28 - 29 فقال: " .... الكلام في إثبات الصفات بطريقين: أحدهما القول بالأحوال وتحقيق اعتبار الغائب بالشاهد في الطرق الأربعة وهي: العلة والمعلول كالعلم وكون العالم عالماً. والشرط والمشروط كالحياة والحلم، والدليل والمدلول كدلالة الحدث على المحدث، والحقيقة والمحقق كعلمنا بأن حقيقة العالم من قام به العلم، وهي سبيل لا تنال بالهوينى، ولا تدرك بالمعنى، وما وقعت عيني على من يتحققها في الأقطار التي تولجتها إلاَّ رجلين من الأشياخ من أهل السنة، وذلك لتشعب أصولها وتنائي مبادئها من فصولها. والطريقة الثانية وهي الأليق ... ". قلت: لم أتمكن من نقل بقية الكلام لتآكل المخطوط ورداءة خطه. (¬2) صفحة: 28 وما بعدها. (¬3) اللْبَانَة: الحاجة من غير فاقة ولكن من همة، انظر مادة "لبن" من لسان العرب.

والأصلح (¬1)، والتعديل والتجوير (¬2)، وهو جائز باتفاق من الأمة. ونضرب لكم منها مثالين: المثال الأول: قال القدرية (¬3): "الباري لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه وغناه عنه، بل يجب عليه فعل الحسن النافع المصلح للخلق". وضربوا لذلك مثالاً: "إن حَكِيماً لَوْ مَرَّ بِأرض مضيعة فيها غريب مهين، فالحكمة تستحثه على إنقاذه، والباري أحكم الحاكمين". قال لهم العلماء (¬4): الحكيم منا إذا علم من عبده أنه إذا أمده ¬

_ (¬1) قال المؤلف في المتوسط: 79 "الصّلاح عندنا وجوب المراد، والفساد فوات المقصود، وقالت القدرية: الصّلاح ما قصد به المنفعة، والفساد ما قصد به المضرّة، وقالوا: إنه يجب على الله فعل الأصلح لعباده، فليت شعري أي صلاح أو أصلح في تخليد الكفار في النار وتركهم تحت أطباق الجحيم، وليس لهم قول ينفع، وقد ألزمهم الأئمة صورة لا يمكن دفعها ثلاثة أطفال ... إلخ ... ". قلت: وللوقوف على مذهب المعتزلة في مسألة الصلاح والأصلح، انظر القاضي عبد الجبار في المغني: 13/ 3 - 226، 14/ 33 - 180، وانظر هذه المسألة عند الأشاعرة لدى الغزالي في الاقتصاد: 181، أما نقد هذه الفكرة عند ابن حزم ففي الفصل: 3/ 164 - 188. (¬2) انظر المتوسط في الاعتقاد: 77 - 78. (¬3) للوقوف على مقالة القدرية (المعتزلة) انظر: القاضي عبد الجبار في "المختصر في أصول الدين": 205 (ضمن رسائل العدل والتوحيد التي جمعها وحققها د. محمد عمارة)، وشرح الأصول الخمسة: 301 - 323، والمغني: 14/ 22 - 885. ولمعرفة آراء الأشاعرة في التحسين والتقبيح، انظر: الجويني: الإرشاد 258، البغدادي: أصول الدين: 131، الشهرستاني: نهاية الأقدام: 370، الآمدي: غاية المرام: 224. (¬4) أي علماء الأشاعرة.

بالعدد والعدة، ووسّع عليه في المال والنعمة عصاه وصرفه في مخالفته، لم يُؤْتهِ شَيْئاً من ذلك، وإن آتاه إياه سلبه إذا رآه عصاه، والباري يرى المردة وما يفعلون في نعمه عندهم، وقد علم ذلك منهم قبل فعلهم، وعلمه بعد فعلهم وتركهم، وهذا لأن الأفعال في حقه لا تتفاوت. والحكيم الذي يلقى الإِنسان بالمضيعة يحمله على استنقاذه رقّة الجنسية وطلب المحمدة، والرب يتعالى عن ذلك. المثال الثاني (¬1): قال المبتدعة: يجب على الله رعاية الأصلح. قال لهم علماؤنا: ما قولكم في ثلاثة أطفال، مات أحدهم صغيراً، وعمّر الآخر مسلماً مطيعاً، وأخر الثالث كافراً؟. فالعدل عندكم أن يُخَلَّد الكافر في النار، وأن تكون رتبة المسلم البالغ في الجنة أعظم من رتبة الصّبيّ. ¬

_ (¬1) هذا المثال هو محور المناقشة التي جرت بين الأشعري والجُبائِي (المعتزلي) وبموجبها انفصل الأشعري عن الجبائي، ويتردد هذا المثال في كتب الأشاعرة بصورة تختلف عن بعضها بعضاً بعض الشيء، انظر على سبيل المثال لا الحصر: الشهرستاني نهاية الأقدام: 409، السكوني: عيون المناظرات: 226، الغزالي: الاقتصاد: 181 - 182، غير أن ابن الوزير اليماني ناقش هذا المثال وبين وجه الخطأ فيه، إيثار الحق: 232 - 242. كما أن الباحث حمود غرابة شكك في كتابه "أبو الحسن الأشعري" في صحة هذه القصة، وللتوسع أكثر انظر مقال الراهب المسيحي المستشرق آلار ALLARD في مجلة TRAVAUX ET JOURS لشهر أبريل- جوان 1964.

فإذا قال الصّبيّ: يا رب لِمَ حططت رتبتي عن هذا؟. قال: لأنه أطاعني. فيقول له: أنت قطعت بي، لو عمرتني عمره لأطعتك طاعته، فلا جواب عندهم له، إلا أن يقول: علمت أني إن فعلت ذلك كفرت، فيناديه الكافر من أطباق الجحيم: فإن علمت بكفري لم عمّرتني؟. فلا جواب لله عندهم عنه -تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً-. وعندنا أن الباري يفعل ما يشاء من غير وجوب، ويحكم ما يريد سبحانه.

ذكر أمثلة من القانون عند الانتهاء إلى هذا المقام من بيان مقدماته

ذكر أمثلة من القانون عند الانتهاء إلى هذا المقام من بيان مقدماته وهي ثلاثة أنواع في العلوم، الثلاثة تنبهك على الغرض. النوع الأول: في الوحيد قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬1) [البقرة: 163] ¬

_ (¬1) علق المؤلف -رحمه الله- في معرفة قانون التأويل: 50/ ب (نسخة الأسكريال) على هذه الآية الكريمة بقوله: "جمعت هذه الآية غرائب: ترهيبين وترغيبين: فالترهيب الأول: قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وهو تحذير من التمثيل بالجواهر والأجناس، وتشبيه صفاته بشيء من صفات الناس، والترهيب الثاني وهو التحذير من الرياء في عبادته والشرك به، لانفراده بالإهية والربوبية والملك، ولَمّا كان واحداً لا شريك له يوازيه أو يدانيه لم يقبل من عمل العبادة له إلا ما لا حَظ لمخلوق فيه. والترغيبين قوله: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} لأن فعلان وفعيلان من أبنية المبالغة، فذكر تعالى صفتين موجبتين للترهيب ثم أتبعهما بصفتين موجبتين للترغيب لتعديل الترهيب و"الترغيب" فالترهيب ليجتهد العابدون في خدمتهم، والترغيب لئلا يقنط المذنبون من رحمته. وفي قوله: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} فوصف نفسه بالإلهية ما يقتضي استحقاق العبودية فدل أن صلاح التوحيد مرتبط بصلاح العبودية، وأن فسادها مرتبط بفسادها".

هذه الآية أصل في التوحيد فقصدنا إليه لبيان المطلوب، وذكرنا فيه اثنين وعشرين سؤالاً: الأول: علام عطف قوله: {وَإِلَهُكُمْ}؟ الثاني: ما معنى قوله: {إِلَهٌ}؟ الثالث: لم عدل عن قوله: {الله} إلى قوله: {وَإِلَهُكُمْ}؟. الرابع: ما وجه هذه الإِضافة؟. الخامس: أي الإضافتين أشرف، قوله: {وَإِلَهُكُمْ} أو قوله: {إِنَّ عِبَادِي} [الإسراء: 65]. السادس: ما وجه تكرار قوله: {إِلَهٌ} وكان يكفي أن يقول: وإلهكم واحد؟. السابع: ما معنى قوله: {وَاحِدٌ}؟ الثامن: ما معنى النفي في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؟ التاسع: ما المنفي بالنفي؟. العاشر: ما معنى قوله: {إِلَّا}؟. الحادى عشر: ما المثبت؟. الثاني عشر: ما المنفي؟. الثالث عشر: ما معنى قوله: {هُوَ}؟ الرابع عشر: وجه تكرار {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقوله: {وَاحِدٌ} يقتضيه؟. الخامس عشر: ما معنى قوله: {الرَّحْمَنُ}؟. السادس عشر: ما معنى {الرَّحِيمُ}؟

السؤال الأول

السابع عشر: ما متعلقهما؟. الثامن عشر: ما دليل التوحيد؟. التاسع عشر: ما دليل وجوبه؟. الموفي عشرين: ما وجه تكرار {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}؟ الحادي والعشرون: ما وجه الحجر بتسمية "الله" والِإذن في سواه؟. الثاني والعشرون: ما وجه الحكمة في أنه ختم الآية {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} دون غيره من الأسماء؟. وفيها أسئلة كثيرة هذه أمهاتها، وما يجري في إثباتها يدل عليها. فأما الجواب فتنفرج أبوابه، وتمتد أطنابه، وليس فيها سؤال إلاَّ ويحتمل مجالس وأقلّها مجلس واحد، ولكنا نليح لنكت من أغراض العلماء يسيرة تشير إلى ما وراءها من البيان فنقول: أما السؤال الأول: فإنما عطف قوله: {وَإِلَهُكُمْ} على ما سبق من ذكره سبحانه بالِإلهية والملك والخلق والعبادة والهداية والاختراع والتصريف والتقدير والتدبير والتكليف، ثم قال: وإلهكم الذي له ذلك كله، واحد ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا مشير. وأما السؤال الثاني: فقد بينا معنى "الإِله والإلهية" في كتاب "الأمد الأقصى" (¬1) و"شرح المشكلين" فلينظر فيه. ¬

_ (¬1) لوحة: 14/ أ- إلى-16/ ب.

السؤال الثالث

ونكتته: أن الإله هو المعبود، وهي الفائدة التي لأجلها خلق الخلق، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وأحد معاني قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. وهو الثابت وجوده ووجوبه، الزاهق ضده وهو الباطل المبين في قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]. مع فائدته الثانية وهي الثواب والعقاب. وأما السؤال الثالث: فإن قولنا: "الله" أكمل وأفضل من قولنا: "إِله" ولكنه لَمَّا أراد في ذلك الإضافة، عدل إلى الاسم الذي تنتظم معه الإِضافة ها هنا، هذا أقوى ما فيه، وقد أملينا غيره في "أنوار الفجر في مجالس الذكر". وأما السؤال الرابع: ففيه أجوبة أقواها أنهم كانوا يضيفون أنفسهم إلى اللات والعزى والكعبة وغيرها، فأضافهم إلى نفسه، كأنه قال: ومعبودكم ورازقكم وكافيكم ومبتليكم ومكلفكم ومصرفكم وهاديكم ومضلكم واحد، ليس له شريك، وهو الرحمن الرحيم. وأما السؤال الخامس: فإن إضافة الإِلهية أشرت من إضافة العبودية؛ لأن العبودية وصفك، والِإلهية وصفه، ولأن العبودية وصف خاص، والإِلهية وصف عام يتضمن العبادة وسواها.

السؤال السادس

وأما السؤال السادس: ففيه جواب أول في النظر وهو: التأكيد، وذلك مقصود في الفصاحة، كثير في الورود. وفيه جواب ثان بعد التأمل، وهو أنه لما أضافه إليهم ليعرفهم به، حدده ليفرده بالوحدانية حتى تبين الإِضافة، إلى غير ذلك من فنون المعنى وهي طويلة جداً. وأما السؤال السابع: فإن كلامه صعب عريض، هو عند العلماء مختصر أريض (¬1)، تقول هو واحد لا يتجزأ واحد لا نظير له، واحد لا يثنى، واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في مخلوقاته (¬2)، وابسطه فإنه يملأ الأرض. ¬

_ (¬1) أي زَكِي. (¬2) توسع المؤلف في بسط هذه الفكرة في الأمد الأقصى: 25/ ب بقوله: " ... فاعلموا أن الباري واحد في ذاته بالوجهين الحقيقة والمجاز، أما الحقيقة، فإنه لا ينقسم وبذلك صار واحداً، ولكن ما لا يتجزأ على قسمين: أحدهما يُثَنَّى كالجواهر والنقطة، والثاني لا يُثَنَّى وهو الله سبحانه فإنه لا يُثَنى، أي ليس بمفتتح للعدد، ولا يشبهه أحد، وأما المجاز، فلا نظير له لاستحالة الاتصال بالأشكال، ووجوب كونه متوحداً بصفاته ولا شريك له أيضاً فصار واحداً في ذاته بعدم التجزيء، واحداً في أفعاله ومخلوقاته، وكل واحد من هذه الأوجه الثلاثة واجب في وصفه، فلا قسيم له في الذات، ولا شبيه له في الصفات، ولا شريك له في تدبير المصنوعات ... ". قلت: الكلام السابق هو قول أغلب الأشاعرة ومن ارتضى مذهبهم في تفسير "الواحد"، وقد تعقب شيخ الإِسلام ابن تيمية هذا التفسير بقوله: " ... إن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن كان ما فيها ما هو داخل في الوحيد الذي جاء به الرسول، فهم مع زعمهم أنهم "الموحدون" ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة ... أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن "الواحد" ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب، ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون =

السؤال الثامن

وأما السؤال الثامن: فإن النفي هو عدم الموجود، أو ردّ المقول عن الصحة والقبول. وأما السؤال التاسع: فإن المنفي بـ "لا" هو الثاني أبداً في الجملة، وذلك لنكتة بديعة وهي أن النفي متى تعلق بالمقول فإنه يتعلق بالواحد والثاني وما بعده أبداً، ومتى تعلق بالقول لم يكن إلاَّ في الثاني وما بعده. وأما السؤال العاشر: فإن كلمة "إلا" موضوعة للاستدراك فيما فات بيانه بالقول الأول، فتخرجه عن ذلك إلى ضده، وفيها تطويل بيانه في كتب "أصول الفقه" (¬1). ¬

_ = ذلك جسماً، إذ المخلوقات إما أجسام أو أعراض ... وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في معنى اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم، وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء. وأما العقل، فهذا الواحد الذي وصفوه، يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقَدر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمي جسماً. وأما الشرع، فنقول: مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة، وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح، أو ذم، تعرف مسميات تلك الأسماء، حتى يعطونها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم "الواحد" في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات، وسلب إدراكه بالحواس، ولا نفي الحد وَالقَدْرِ وَنحْوِ ذَلِكَ من المعاني التي ابتدع نفيها الجهميّة وأتباعهم، ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين ... " بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية: 1/ 478 - 479، 481 - 484. (¬1) قال المؤلف في "المحصول في علم الأصول": 15/ أ: " .. إلاَّ وهي أم حروف الاستثناء، وهي عندنا لبيان مراد المخبر فيما سبق قبلها من الخبر، وذلك نوع من العموم والخصوص، وله أبواب يكثر تعدادها". وانظر مبحث "القول في الاستثناء" لوحة: 32/ ب- 34/ ب من المحصول.

السؤال الحادي عشر

وأما السؤال الحادي عشر: فإن المثبت بها هو الأول الذي قصد بالنفي بعده نفي الاشتراك معه، ولم يمكن النفي إلاَّ بأن يأتي بعده إثبات للحكمة التي بيناها. وأما السؤال الثاني عشر: فإن المثبت هو المنفي، لكن بأخص من لفظ النفي مع كمال المعنى. وأما السؤال الثالث عشر: فإن كلمة "هو" ضمير في اللغة صار بعرف الِإلهية والانفراد بالملك ظاهراً في الله، وقد قدمنا قول أهل الزهد فيه (¬1). وأما السؤال الرابع عشر: فالجواب مأخوذ فيه من فن الكلام مع الكفار بما نصب الله من الأدلة في كتابه عليه، وأعظم ما فيه ما قدمناه مما نبه عليه في قوله: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]. فتمسكوا به، فلا أبلغ منه، واذكر سواه، وابسط تمامه، واستوفي المقصود وقد وجدت مكان القول ذا سعة، فإن وجدت لساناً قائلًا فقل. وأما السؤال الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر: فقد بيناه في كتاب "الأمد الأقصى" (¬2) مختصراً، وفي كتاب "المشكلين" مستوفى. ¬

_ (¬1) صفحة 545، ولا شك أن أقوال أهل الزهد في الضمير "هو" فيها غرابة وبعد عن الحقيقة. (¬2) من لوحة: 75/ أ- إلى-79/ أ.

السؤال الثامن عشر

وأما السؤال الثامن عشر: وهو وجوب دليل التوحيد، فإنها دقيقة لم يتفطن لها العلماء، وقد مهدناها في موضعها، لبابه: إن ظاهر هذا الدليل يعطيك أنه لو كان في السموات والأرض، إلهان لفسدتا، وتمامه أن يقال: فهبكم فسدتا، فماذا يلزم عليه؟ وماذا يؤول إليه؟ وماذا ينبني على فساد المخلوقات كلها إذا لم يتعرض ذلك إلى الخالق، ولا عاد عليه؟. وهذا سؤال حادّ وجهته المعتزلة، إذ كرهت هذه الدلالة لأنها قرآنية وعدلت إلى دلالة الفلاسفة، وهي استحالة الكثرة في العلة (¬1). الجواب عنه ظاهر من طرق، أعربها ما قصد إليه لسان الأمة (¬2) من أن ذلك يؤدي إلى تناهي المقدورات، وإنما قصد ذلك لأنهم بقولهم: "إن العبد خالق" تتناهى مقدورات الله، فأراد أن ينكاهم في قرحتهم. ¬

_ (¬1) وتقرير هذا الدليل عند الفلاسفة هو كالتالي: "لو سلمنا جدلاً بوجود عدة آلهة للعالم، لوجب أن تشترك هذه الألهة في صفة واحدة، وهي أنها تستطيع الخلق جميعها، ولوجب أن يحتوي كل منها على صفة أو صفات خاصة تميزه عن غيره من الآلهة، ومتى قلنا بأن كل إله يحتوي على نوعين من الصفات، كان ذلك تسليماً بوجود الكثرة فيه، لأنه مركب من شيء عام مشترك معه غيره، وفي شيء خاص ينفرد به وحده، وعندئذ يجب أن نقف على العلة في وجود هذا التركيب في كل إله من هذه الألهة المتعددة، فإذا وجدنا علة على سبيل الفرض، وجب البحث عن علة لهذه العلة وهكذا دواليك، لكن لا يمكن الانتقال في سلسلة العلل إلى ما لا نهاية، فوجب الوقوف عند حدّ، أي يلزمنا القول بوجود الله بريء من كل كثرة أو تركيب". انظر: رسائل الكندي الفلسفية: 153 (تحقيق د. أبو ريدة، ط: 1950)، ابن سينا: النجاة: 223 - 228 (ط: الكردي 1938)، الفارابي: فصوص الحكم: 132 (ضمن مجموع (ط: السعادة 1907)، وانظر نقد هذا المسلك في مقدمة الدكتور محمد السيد الجَلْيَنْد لكتاب التوحيد لابن تيمية: 26 - 54. (¬2) أي الإِمام الباقلاني.

السؤال التاسع عشر

وأما أنا فأقول بقول غيره، وهو أنه يؤدي إلى سلب القدرة، وإبطال الإلهية، وذهاب الوجودية، وقد مهدناه في موضعه. وأما السؤال التاسع عشر: ففائدته أنه كما كرّر "إله" في الإثات لمزيد البيان، كرر النفي زيادة للبيان، فإن قوله: "واحد" إثبات ونفي، فأكد بقوله {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معنى النفي الذي اقتضاه قوله "وَاحِدٌ". وأما السؤال الموفي عشرون: فقد بلغنا من البيان فيه الأمد في كتاب "الأمد" (¬1) والرحمة باب واسع في المقال والفعال، والله يوجب لنا منه أفضل المنال، وفيه بيان "الرحيم" والمتعلق بهما وتكرارهما. وأما السؤال الحادي والعشرون: في الحجر والإذن، فهو غريب، وللعلماء فيه منازع، أقواها الآن عندي أن الباري سبحانه قبض العباد عن بعض الأفعال، وأرسلهم على جميع الأقوال، فجعل من أعظم دلالته عليه قبض أقوالهم عن اسم من أسمائه. وقال أهل الزهد: بدأ الآية باسم الإلهية، فلو ختمهما بها لهلكوا، ولكنه تداركهم بوصف الرحمة فبقوا. ¬

_ (¬1) لوحة: 75/ أ- إلى-79/ أ.

السؤال الثاني والعشرون

وأما السؤال الثاني والعشرون: فقد اندرج أحد الجوابين فيه الآن في السؤال الحادي والعشرين، وفيه جواب آخر وهو أنه ختمه بأعم الأوصاف في تناول الأفعال، وقد قيل غير ذلك. وفي هذا كفاية أنموذج القانون، ودستور في التأويل. وفي حديث أبي عاصم النبيل (¬1) أن هذه الآية وقوله: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1 - 2]، هو اسم الله الأعظم (¬2)، وذلك بما تضمنتا من أسماء الجمال، وصفات الكمال، ومتعلقات الأفعال لله سبحانه. وقد حضر عندي بعض المفتين في الوقت، وأنا أتكلم على هذه الآية في مجلس الذكر ثم كمل، وأتبعته القول في زكاة الفائدة وتفريقها في اجتماعها مع زكاة الدَّيْن وانفرادها، فلما أكملت قال لي: ما ظننت أن في الدنيا من يعلم هذا، ولكنه أمر لا يقدر عليه. وكان بعد ذلك اليوم معترفاً بالتقصير، مُسَلِّماً في العلم. ¬

_ (¬1) هو الضَّحَاكُ بنُ مَخْلَد الشيْبَانِي، الإِمام الحافظ الثقة، روى عن الأوزاعي والإمام مالك وخلق كثير، توفي سنة 212 انظر عنه: ابن سعد: الطبقات: 7/ 295، خليفة بن خياط: التاريخ: 474، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 366، وسير أعلام النبلاء: 9/ 480. (¬2) رواه أبو داود في الصلاة رقم 1496، والترمذي في الدعوات رقم: 3472 وقال: هذا حديث حسن، والدارمي في فضائل القرآن: 2/ 450.

النوع الثاني: في الأحكام

النوع الثاني: في الأحكام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] (¬1). فيها سبع عشرة مسألة: المسألة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} يحتمل أن يريد به أزواجك اللاتي نكحت، وهن أربع وعشرون (¬2) بيانها في شرح الصحيح (¬3)، ويحتمل أن يكون المراد به من تنكح. المسألة الثانية: قوله: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} فسمى الصداق أجراً وجعله عوضاً كالبيع، وتحقيق ذلك قد مضى في سورتَي "النساء" (¬4) و"القصص" (¬5) من كتابنا أعني كتاب "أحكام القرآن". ¬

_ (¬1) انظر: ابن العربي أحكام القرآن: 1552، الماوردي: النكت والعيون: 3/ 332، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 241، القرطبي: الجامع الأحكام القرآن: 14/ 206. (¬2) انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 253. (¬3) أي شرح البخاري كما صرح المؤلف بذلك في الأحكام: 1554. (¬4) صفحة: 317، 389 من أحكام القرآن. (¬5) صفحة: 1466 من أحكام القرآن.

المسألة الثالثة

المسألة الثالثة: قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} يصح أن يكون خبراً عما مضى، ويحتمل أن يكون إذناً في المستقبل، فإذا كان خبراً عن المستقبل، ففائدته أن الله تعالى أباح نكاح من آتاه أجره من النساء، أو وهب له نفسه، وإن كان خبراً عن ما مضى، فتكون فائدته الامتنان عليه. المسألة الرابعة: قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أباح الله له ما شاء من الإماء من غير حجر ولا تعديد، فكان له منهن: مارية القبطية (¬1)، وريحانة اليهودية (¬2)، وصفية بنت حيي (¬3)، ثم تزوجها بعد فانتقلت إلى الأزواج. المسألة الخامسة: قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ}، النبي عليه الصلاة والسلام كل الخلق من النساء مباح له أن يتزوجه، وإنما خص القرابة لوجهين: أحدهما: به أمس وإليه أقرب. ¬

_ (¬1) هي مولاة رسول الله وأم ولده إبراهيم، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، توفيت رضي الله عنها سنة: 16، وصلّى عليها عمر بن الخطاب. ابن سعد: الطبقات: 8/ 153، النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 355، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 260. (¬2) هي ريحانة بنت شمعون، وقيل بنت عمرو، من بني قريظة، سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توفيت رضي الله عنها في حياته بعد رجوعه من حجة الوداع. ابن سعد: الطبقات: 8/ 92، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 120. (¬3) هي صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، من ولد هارون بن عمران أخي موسى عليه السلام، سبيت في غزوة خيبر، فأعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقها صداقها، توفيت رضي الله عنها سنة: 50، ابن سعد: الطبقات: 8/ 115، ابن خياط: التاريخ: 82، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 169، الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 231.

المسألة السادسة

الثاني: أن المفسرين قالوا: إن الآية نزلت على سبب، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أم هانىء (¬1) بنت عمه أبي طالب، فاعتذرت إليه، ثم أنزل الله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ ... الآية إلى قوله: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وكانت أم هانئ من الطلقاء فلم يحل الله له نكاحها (¬2). المسألة السادسة: قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وفي سبب نزول ذلك خمسة أقوال: الأول: أنها نزلت في شأن ميمونة بنت الحارث (¬3) خطبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب (¬4)، فجعلت أمرها إلى العباس (¬5) عمه (¬6)، وقيل وهبت ¬

_ (¬1) أخت علي وجعفر، أسلمت يوم الفتح. انظر ترجمتها عند: ابن سعد: الطبقات: 8/ 47، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 9/ 467، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 404، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 311. (¬2) أخرج هذه الرواية ابن سعد في الطبقات: 8/ 153، وابن جرير في تفسيره: 22/ 20، والترمذي في جامعه: 12/ 90 (عارضة الأحوذي) وقال: هذا حديث حس صحيح لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدِّي. وقد تعقبه ابن العربي في الأحكام: 1553 بقوله: وهو ضعيف جداً ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج في مواضعه بها. قلت: للوقوف على روايات هذا الحديث انظر: ابن كثير: التفسير: 3/ 499، السيوطي: الدر المنثور: 6/ 628 (ط: دار الفكر: 1983). (¬3) هي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنى بها في وقت فراغه من عمرة القضاء سنة سبع في ذي القعدة، توفيت رضي الله عنها سنة: 51، وقيل غير كذلك. انظر: ابن سعد: الطبقات: 8/ 132، ابن خياط: الطبقات 338، ابن الأثير: أسد الغابة: 2/ 277، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 238. (¬4) انظر ترجمته عند: ابن خياط: الطبقات: 4، والتاريخ له: 86، أبي نعيم: الحلية: 1/ 114، ابن الأثير: أسد الغابة: 1/ 341 الذهبي: سير أعلام النبلاء،: 1/ 206، ابن حجر: التهذيب: 2/ 98. (¬5) انظر ترجمته عند: ابن خياط: التاريخ: 168، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 6/ 210، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 78، ابن حجر: التهذيب: 5/ 214. (¬6) أخرج هذه الرواية ابن سعد في الطبقات: 8/ 1

نفسها له، قاله الزهري (¬1)، وعكرمة (¬2)، ومحمد بن كعب (¬3)، وقتادة (¬4). الثاني: أنها نزلت في أم شريك (¬5) الأزدية، وقيل العامرية (¬6) واسمها غُزَية وهو الصواب (¬7)، قاله: علي بن الحسين (¬8)، وعروة (¬9)، ¬

_ (¬1) هو الإمام العلم محمد بن مسلم، أبو بكر القرشي المدني، نزيل الشام، روى عن ابن عمر وغيره، توفي رحمه الله سنة: 124، انظر ابن خياط: الطبقات: 261، الفسوي: المعرفة والتاريخ، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 8/ 71، الذهبي: ميزان الاعتدال: 4/ 40. (¬2) هو الإِمام الحافظ أبو عبد الله القرشي، مولاهم، المدني، البربري الأصل، حدث عن ابن عباس وعائشة وغيرهما، توفي رضي الله عنه سنة: 105. انظر ترجمته عند: الفسوي: المعرفة والتاريخ: 2/ 5، ابن أبي حاتم الجرح والتعديل: 7/ 7، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5/ 12، ابن حجر: التهذيب: 7/ 263. أما رواية عكرمة عن الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجها ابن سعد في الطبقات: 8/ 138، وانظر السيوطي في الدر المنثور: 6/ 631 (ط: دار الفكر: 1983). (¬3) هو الإِمام العلامة أبو حمزة القرطبي المدني، من حلفاء الأوس، روى عن أبي هريرة وجماعة. توفي سنة: 120 وقيل غير ذلك، انظر: ابن خليفة: التاريخ: 264، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 563، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 8/ 67، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5/ 65. (¬4) هو الإِمام الحافظ أبو الخطاب ابن دعامة السدوسي البصري الضرير روى عن أنس وغيره، توفي سنة: 117، انظر ابن سعد: الطبقات: 7/ 229، ابن خياط: الطبقات: 213، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 2/ 277، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 7/ 133، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5/ 269. ورواية قتادة عن الواهبة نفسها أخرجها الطبري في تفسيره: 22/ 21، وانظر السيوطي في الدر المنثور: 6/ 631 (ط: دار الفكر: 1983). (¬5) انظر ترجمتها عند: ابن سعد: الطبقات: 8/ 154، ابن خياط: الطبقات: 335، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 9/ 464، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 255. (¬6) قال ابن حجر في الإصابة: 8/ 249 (ط: القاهرة: 1907) " ... والذي يظهر في الجمع أن أم شريك واحدة، واختلف في نسبها أنصارية؟ أو عامرية من قريش؟ أو أزدية من دوس؟ واجتماع هذه النسب الثلاثة ممكن، كأن يقول قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إليهم، أو لم تتزوج بل هي أنصارية بالمعنى الأعم". وانظر: ابن حجر: التهذيب 4/ 472. (¬7) انظر: ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 211. (¬8) هذه الرواية أخرجها ابن سعد في الطبقات: 8/ 155، وابن جرير في تفسيره: 22/ 23، وانظر السيوطي: الدر المنثور: 6/ 630 (ط: دار الفكر: 1983). أما علي بن الحسين فانظر ترجمته عند الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 360 - ، 544، أبي نعيم: حلية الأولياء: 3/ 133، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 70. (¬9) هذه الرواية ذكرها ابن حجر في فتح الباري: 8/ 404 وعزاها إلى النسائي، ولم أجدها في =

والشعبي (¬1). الثالث: أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين (¬2). الرابع: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (¬3) الخامس: أنها خولة بنت حكيم السلمية (¬4). تحقيق: أما نزول الآية فلم يرد من طريق صحيح، وهذه الأقوال ليس لها خطم ولا أزمة. ¬

_ = المجتبى من سنن النسائي، فلعلها في السنن "الكبرى" وقد أخرجها كذلك ابن جرير الطبري في تفسيره: 22/ 23. وعروة هو ابن حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام، الإِمام الحافظ، أبو عبد الله القرشي الأسديّ المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة توفي رضي الله عنه سنة: 94 وقيل غير ذلك. الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 364، 550، أبو نعيم: حلية الأولياء: 2/ 176، الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1/ 58. (¬1) هذه الرواية أخرجها ابن سعد في الطبقات: 1/ 155 بإسناد رجاله ثقات (كما قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية: 30/ 260)، والبيهقي في السنن: 7/ 55. والشعبي هو عامر بن شراحيل، أبو عمر الهمداني ثم الشعبي، الإِمام الحافظ، توفي رضي الله عنه سنة: 104 وقيل غير ذلك. انظر: ابن سعد: الطبقات 6/ 246، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 2/ 592، أبو نعيم: حلية الأولياء: 4/ 310، الذهبي: العبر: 1/ 127. (¬2) هذه الرواية أخرجها ابن سعد في الطبقات: 8/ 115. وزينب من أمهات المؤمنين، دُعيت أم المساكين لكثرة معروفها، قتل زوجها عبد الله بن جحش يوم أُحد، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لم تمكث عنده إلاَّ شهرين وتوفيت رضي الله عنها. انظر: ابن قتيبة: المعارف 87: 135، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 129، الذهبي: العبر: 1/ 5، وسير أعلام النبلاء: 2/ 218. (¬3) هي أخت سيدنا عثمان لأمِّه، أسلمت قديماً وبايعت، ولم تتهيأ لها الهجرة إلاَّ سنة سبع، تزوجها زيد بن حارثة فقتل عنها، ثم الزبير بن العوام، ثم طلقها، فتزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده، ولم أعثر على الروايات التي تفيد أنها وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: ابن سعد: الطبقات 8/ 230، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 386، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/ 276 ابن حجر: التهذيب: 12/ 477. (¬4) هذه الرواية أخرجها جمع من الحفاظ منهم: ابن سعد: الطبقات: 8/ 158، ابن جرير: التفسير: 22/ 23، وانظر السيوطي: الدر المنثور: 6/ 629. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها فأرجأها فيمن أرجأ من نسائه. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 93، الهيثمي: مجمع الزوائد: 9/ 259، ابن حجر: التهذيب: 12/ 415.

وقد روي عن ابن عباس ومجاهد (¬1) أنهما قالا: لم تكن عند النبي- صلى الله عليه وسلم - امرأة موهوبة (¬2). وروى مالك والأئمة أن امرأة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يَا رَسُولَ الله! إني قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ. فَقَامَتْ قِيَاماً طَوِيلاً، فَقَامَ رَجُل، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله زَوَّجْنِيهَا، إنْ لَمْ تَكُنْ لكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ الله: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا إياهُ؟. فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلاَّ إزَارِي هَذَا!. فَقَالَ رُسُولُ الله: إنْ أعطَيْتَهَا إياهُ بَقيتَ لَا إزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً. قَالَ: مَا أجِدُ شَيْئاً!. قَالَ: فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ. فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله: هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟. قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، سَماهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ: قَدْ أنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ (¬3). ¬

_ (¬1) هو الإِمام الحافظ، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج بن جبر المكِّي، روى عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما، توفي سنة: 104، وقيل غير ذلك. انظر: ابن سعد: الطبقات: 5/ 466، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 711، أبو نعيم: حلية الأولياء: 3/ 279، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 4/ 449. (¬2) رواية ابن عباس أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره: 22/ 23، والبيهقي في السنن: 7/ 55، انظر السيوطي: الدر المنثور: 6/ 630 (ط: دار الفكر: 1983). أما رواية مجاهد، فقد أثر عنه أنه فسر الآية الكريمة: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} بقوله: فعلت ولم يفعل. انظر: الطبري التفسير: 22/ 23 السيوطي: الدر المنثور: 6/ 631 (ط: دار الفكر: 1983). (¬3) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب النكاح: 2/ 526، والبخاري في النكاح: 6/ 134، وفي =

وقد تكلمنا على الحديث في سورة النساء (¬1) والقصص (¬2) بما يتعلق بالقرآن منه، واستوفيناه في شرح الحديث، وهذا هو المقدار منه في ذكر الموهوبة الذي صح نقله وثبت سنده. والغرض الأعظم منه ها هنا هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قالت له المرأة: "قَدْ وَهَبْت لَكَ نَفْسِي" سكت، فلو كان هذا مما لا يجوز، لما سكت عليه؛ لأن سكوته على الحرام محال كما بيناه في "أصول الفقه" (¬3). فإما أن يكون سكت لأن الآية قد كانت نزلت بالإِحلال، وإما أن يكون سكوته منتظراً بياناً، فنزلت عليه الآية والبيان بالإِحلال والتخيير، فاختار تركها، وزوجها من غيره. وروى مسلم (¬4) عن عائشة أنها قالت: كنْت أغَارُ عَلَى اللَائِي وَهَبْنَ أنْفسَهُنَّ لِرسولِ الله، قَالَتْ: أمَا تَسْتَحِي امْرَأةٌ أنْ تَهَبَ نَفْسَهَا؟. ¬

_ = مواضع أخرى، ومسلم في النكاح: 2/ 1040 رقم: 1425، وأبو داود في النكاح: رقم: 2111، والترمذي في النكاح: رقم: 1114، والنسائي في النكاح: 6/ 113، كلهم عن سهل بن سعد الساعدي. وانظر الدارمي في سننه: 2/ 65، وابن الجارود في المنتقى: 716، والطحاوي في مشكل الآثار: 2/ 9، والبيهقي في السنن: 7. (¬1) صفحة: 387 من أحكام القرآن. (¬2) صفحة: 1467 من أحكام القرآن. (¬3) قال المؤلف في المحصول في علم الأصول: 47/ ب. "إذا سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول سمعه، أو فعل عاينه، كان دليلاً على أنه حق، ولا خلاف فيه بين العلماء". (¬4) في "صحيحه" كتاب الرضاع، باب القسم بين الزوجات، وبيان أن السنة أن تكون لكل واحدة ليلة مع يومها، 2/ 1085، رقم: 1464. ومسلم أشهر من أن يعرف، انظر في ترجمته: ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 8/ 182، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد: 13/ 100، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 12/ 557، ابن حجر: التهذيب: 10/ 126.

المسألة السابعة

حتى أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51]. فَقَالَتْ: مَا أرَى رَبَّكِ إِلا يُسَارِع في هَوَاكِ. فاقتضى هذا اللفظ أن التي وهبت نفسها عدد من النساء، لكنا لا ندري هل نكح منهن واحدة أم لا من طريق صحيح؟. المسألة السابعة: قوله: {وَامْرَأَةً} معناه: وأحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق، فإنه أحلّ له في الآية قبلها أزواجه اللاتي آتى أجورهن، وهذا معنى يشاركه فيه غيره، فزاده من فضله على أمته فضلاً بهذه الآية، أن أحل الله له الموهوبة، ولا تحل لأحد غيره، وهذا إجماع من الأمة. المسألة الثامنة: قوله: {مُؤْمِنَةً} بيان، لأن الكافرة لا تحل له، لأن تخصيصها بالذكر تعليل للحكم، كما تقدم بيانه في سورة النساء (¬1). وقال الجويني: "اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه". والصحيح عندي تحريمها، وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل فحظه فيه أكبر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنه مطهر، يجوز لنا نكاح الحرائر الكوافر من أهل الكتاب، وأحل له المؤمنة خاصة، والذي يحقق ذلك أمران: ¬

_ (¬1) صفحة: 392 من أحكام القرآن.

المسألة التاسعة

أحدهما: أن نكاح الكافرة ومعاشرتها لا يليق بمنصبه الكريم. الثاني: أنا قد بينا أن من آمن ولم يهاجر لم تحل له لنقصان مرتبتها، فكيف تحل له من لم تؤمن؟ وهي أدنى مرتبة. المسألة التاسعة: قوله: {إِنْ} قراءة الجماعة بالكسر على معنى الشرط تقديره: "وَأَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ" لا يجوز تقدير سوى ذلك. وقد قال بعضهم: يجوز أن يكون جواب {إِنْ وَهَبَتْ} محذوفاً، وتقديره: "إن وهبت نفسها للنبي حلت له". وهذا فاسد من طريق العربية، وذلك بين في "الرسالة الملجئة". ويعزى إلى الحسن (¬1) أنه قرأ بفتح الهمزة (¬2)، وذلك يقتضي أن تكون امرأة واحدة حلت له لأجل أن وهبت له. وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري، الإِمام الحجة، توفي سنة 110، انظر: ابن سعد: الطبقات: 7/ 156، ابن خياط: المعرفة والتاريخ: 2/ 32، 3/ 338، أبو نعيم: حلية الأولياء: 2/ 131، ابن حجر: التهذيب: 2/ 263. (¬2) عزا ابن خالويه هذه القراءة إلى الحسن وعيسى وسلاّم: مختصر شواذ القرآن: 120 (ط: القاهرة: 1934) وزاد الكرماني على هؤلاء أبيّ والثقفي: شواذ القرآن واختلاف المصاحف: لوحة: 195 (ط: مكيروفيلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى تحت رقم: 202) وانظر النحاس: إعراب القرآن: 2/ 642.

المسألة العاشرة

أحدهما: لا يقتضي هذا الإِعراب المعنى، وقد بيناه في "الملجئة". الثاني: أنها على خلاف قراءة الجماعة، والشاذ من القراءة لا يجوز تلاوة، ولا يوجب حكماً. الثالث: أنه يوجب أن يكون إحلالها لأجل هبتها لنفسها، وهذا باطل فإنها حلال له قبل الهبة بالصداق. وقد نسب إلى ابن مسعود (¬1) أنه أسقط في قراءته {إنْ} (¬2) فإن صحّ ذلك فإنما كان يريد أن يبين ما ذكرناه من أن الإحلال لا يقف في الموهوبة على الهبة، بل هو ثابت فيها قبل ذلك، وسقوط الصداق مفهوم من قوله: {خَالِصَةً لَكَ} لا من جهة الشرط، وقد بينا أمثاله في سورة النور. المسألة العاشرة: قوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} معناه أن الخيار بعد هبتها نفسها للنبي، وهذا معلوم، ولكنه خصه بالبيان؛ لأن من مكارم الأخلاق بيننا قبول الهبة في الأموال المبتذلة، فكيف فيمن بذل نفسه، فجعل الله لرسوله الخيار ليرفع عنه هذه الكلفة، وينزهه عن هذه العادة، ويهون على الواهبة الردّ. المسألة الحادية عشر: قوله: {يَسْتَنْكِحَهَا} ولم يقل ينكحها، وكأن الاستفعال تكلف ¬

_ (¬1) انظر ترجمته عند: ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 5/ 149، ابن حبان: مشاهير علماء الأمصار: الترجمة: 21، أبو نعيم: حلية الأولياء: 1/ 124، ابن الأثير: أسد الغابة: 3/ 384. (¬2) انظر: ابن خالويه: مختصر شواذ القرآن: 120.

المسألة الثانية عشر

الفعل، فجعل الله لرسوله -كما قلنا- في هذه الكلفة الخيار. المسألة الثانية عشر: قوله: {خَالِصَةً لَكَ}، اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال (¬1): أحدها: أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي، قاله قتادة (¬2). الثاني: بغير صداق، قاله ابن المسيب (¬3). الثالث: بعقد نكاحها بلفظ الهبة، ولا يجوز ذلك لغيره (¬4). قال الِإمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه: القول الأول والثاني راجعان إلى معنى واحد، إلاَّ أن الثاني أصح لأن ذكر الصداق ورد مذكرراً في القرآن، ولم يجر للوليّ ذكر، إلاَّ أنه لما سكت عن الوليّ، وجرى ذكر الحكم بين الموهوبة والنبي، مع المعنى الذي قد بينا ¬

_ (¬1) انظر: هذه الأقوال في أحكام القرآن للمؤلف: 1560. (¬2) هذا القول أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره: 22/ 21، وانظر السيوطي: الدر المنثور: 6/ 631 (ط: دار الفكر: 1983). وقال ابن العربي في الأحكام: 1560 "وقد أنفذ الله لرسوله نكاح زينب بنت جحش في السماء بغير ولي من الخلق، ولا بذل صداق من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بحكم أنه أحكم الحاكمن ومالك العالمين". (¬3) هو سعيد بن المسيب، أبو محمد القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيِّد التابعين، روى عن عائشة وابن عمر وغيرهما، توفي سنة: 93 وقيل غير ذلك. انظر: ابن سعد: الطبقات: 5/ 119، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 468، أبو نعيم: حلية الأولياء: 2/ 161، ابن حجر: التهذيب: 4/ 84. وقد أورد هذا القول الماوردي في النكت والعيون: 3/ 333 ونسبه إلى أنس بن مالك وابن المسيب. (¬4) أورد ابن العربي هذا القول في الأحكام: 1561 ونسبه إلى الشعبي، ونسبه الماوردي في النكت والعيون: 3/ 333 إلى الشافعي.

في سورة البقرة (¬1) من أن الوليّ مشروط لفائدة ولسبب هو معدوم في النبي (¬2)، أشبه القول الأول أن يكون مراداً بها هذه القرينة. وقد خصّ الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الشريعة بثلاثة أنواع (¬3): الفرض، التحريم، التحليل، ومنها متفق عليه، ومنها مختلف فيه. الِإشارة إليه: أما قسم الفريضة فثمانية (¬4): الأول: التهجد بالليل. الثاني: الضحى. الثالث: الأضحى. الرابع: الوتر، وهو داخل في قسم التهجد. الخامس: السَّواك. السادس: قضاء دين من مات معسراً. السابع: مشاورة ذوي الأحلام. الثامن: تخييره النساء. ¬

_ (¬1) صفحة: 219 من أحكام القرآن. (¬2) حول حكمة زواجه - صلى الله عليه وسلم - بدون مهر قال المؤلف في الأحكام: 1561: "وإنما شرع لقلة الثقة. بالمرأة في اختيار أعيان الأزواح، وخوف غلبة الشهوة في نكاح غير الكفء، وإلحاق العار بالأولياء، وهذا معدوم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -". (¬3) ذكر المؤلف في الأحكام: 1561 أن هذه الخصائص النبوية قد أفَادَهُ بها دانشمند الأكبر (وهو أبو القاسم إسماعيل بن عبد الملك الحاكمي الطوسي ت: 529) عن إمام الحرمين الجويني. (¬4) انظر في هذه الأقسام: ابن الملقن: خصائص أفضل المخلوقين: 120 (رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة).

وأما قسم التحريم فجملته عشرة: الأول: الزكاة (¬1). الثاني: صدقة التطوع. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، ويخدع عما يحب. الرابع: إذا لبس لأمته حرم عليه نزعها حتى يباشر الحرب ويكافح العدو. الخامس: الأكل متكئاً. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدل بأزواجه. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحُرّة الكتابية. العاشر: نكاح الأمَة. وفي ذلك كلّه تفصيل واختلاف، وقد أشرنا إليه في موضعه. وأما قسم التحليل فخمسة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي، وقد تقدم (¬2). ¬

_ (¬1) في أحكام القرآن: 1562 (تحريم الزكاة عليه وعلى آله). (¬2) صفحة: 617.

السابع: نكاحه بغير شهود، وفيه خلاف. الثامن: نكاحه في حال الإحرام، وقد تقدم (¬1). التاسع: سقوط القسم عنه، ويأتي إن شاء الله. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها (¬2)، وهذا أمر بيناه في قصة زيد. ¬

_ (¬1) يشير رحمه الله، إلى زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث وهو محرم، وقد تقدم هذا صفحة: 609 بدون الإشارة إلى إحرامه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أورد ابن العربي هذا القول في أحكام القرآن: 1563، وقال في عقبه: "هكذا قال إمام الحرمين". وقد استنكر شيخنا العلامة المحقق السيد أحمد صقر -حفظه الله تعالى- هذا القول، وأفادني بالتعليق التالي: هذا هُراء من القول، ولغو من الكلام، ينبغي ألاَّ يقال مثله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي من كبوات إمام الحرمين غفر الله لنا وله. انتهى. قلت: معتمد قول إمام الحرمين هو بعض الروايات التي نسجت حول قصة الصحابي الجليل زيد بن حارثة، الذي قال الله تعالى فيه مخاطباً نبيه الكريم: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]. وقد ذهب المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} مذاهب شتى، معتمدين على بعض الروايات المنكرة التي لا تثبت أمام النقد والتمحيص، ومثال هذه الروايات الساقطة ما رواه ابن سعد في الطبقات: 8/ 101، والحاكم في المستدرك: 4/ 230 كلاهما من طريق الواقدي عن عبد الله بن عامر الأسلمي. أن ما أخفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبداه الله تعالى هو وقوع زينب في قلبه ومحبته لها وهي تحت زيد. وأنها سمعته يقول: "سبحان مقلب القلوب". وقد تصدى ابن العربي لحادثة زيد بن حارثة فكشف عن منبع الحق فيها، بأسلوب العارف الجهبذ البصير. ومما قاله في كتابه أحكام القرآن: 1542 "قد بينا في السالف من كتابنا هذا (أي أحكام القرآن) وفي كثير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك، وعهدنا إليكم عهداً لن تجدوا له رداً؛ أن أحداً لا ينبغي أن يذكر نبياً إلَّا بما ذكره الله، ولا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبيّ عن مقدارهم، وإما بدعيّ لا رأي له في برهم ووقارهم، فيدس تحت المقال المطلق الدوّاهي، ولا يراعي الأدلة ولا النواهي، وكذلك قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. =

الحادي عشر: أنه أعتق صفية ولزمها نكاحه وجعل عتقها صداقها، وفيه خلاف. الثاني عشر: دخول مكة بغير إحرام، وفيه خلاف. الثالث عشر: أنه لا يورِّث، وقد جعلناه في قسم التحليل لأن الرجل إذا ¬

_ = أي أصدقه على أحد التأويلات، وهي كثيرة بيناها في "أمالي أنوار الفجر"، فهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - ما عصى قط ربه، لا في حال الجاهلية ولا بعدها، تكرمة من الله وتفضلاً وجلالاً، أحلّه به المحلّ الرفيع ... وما زالت الأسباب الكريمة والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه ... والقرناء الأفراد يحيون له، والأصحاب الأمجاد ينتقون من كل طاهر الجيب سالم عن العيب بريء من الريب، يأخذونه عن العزلة وينقلونه عن الوحدة، فلا ينتقل إلاَّ من كرامه إلى كرامه، ولا يتنزل إلا منازل السلامة ... فلم يقع قط في ذنب صغير -حاشا لله- ولا كبير ولا وقع في أمر يتعلق به لأجله نقص ولا تغيير ... وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد، إنما الصحيح منها ما رُويَ عن عائشة أنها قالت: لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً من الوحي شيئاً لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ... إلى قوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. وإن رسول الله لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ... قال ابن العربي: وما وراء هذه الرواية غير معتبر، فأما قولهم: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها فوقعت في قلبه" فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلاَّ إذا كان لها زوج، وقد وهبته نفسها وكرهت غيره، فلم تخطر بباله، فكيف يتجدد له هوى لم يكن، حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة ... وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى إذا أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره، لأن الذي يخبر الله عنه أنه كائن لا بد أن يكون لوجوب صدقه في خبره، وهذا يدلّك على براءته من كل ما ذكره متسوِّر من المفسرين، مقصور على علوم الدين. فإن قيل فلأيِّ معنى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقد أَخبره الله أنها زوجته لا زوجة زيد؟. قلنا: هذا لا يلزم، ولكن لطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه، إنه أراد أن يختبر منه ما لم يُعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية منها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: فكيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أن الفراق لا بدّ منه، وهذا تناقض؟. قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحكماً، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه. انتهى.

المسألة الثالثة عشر

مات أو قارب الموت بالمرض زال عنه ملكه أو أكثره، وبقي ملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته على الوجه الذي قررناه في آية المواريث (¬1). الرابع عشر: بقاء عصمته بعد الموت. الخامس عشر: إذا طلّق امرأة، هل تنكح؟ أم حرمته باقية فيها؟ ويأتي ذلك مبيناً إن شاء الله. المسألة الثالثة عشر: إعراب قوله: {خَالِصَةً لَكَ} وقد بيناه في "الرسالة الملجئة" ونكتته: أنه حال من ضمير متصل بفعل مضمر دلّ عليه المظهر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة، وأحللناها خالصة بلفظ الهبة أو بغير صداق، وعليه انبنى معنى الخلوص ها هنا (¬2). فإن قيل: أراد به خلوص النكاح بلفظ دون غيره. فالجواب عنه بأربعة أوجه: أحدها: أنا نقول: إن نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بد فيه من الوليّ، وعليه يدلّ قوله لعمر بن أبي سلمة (¬3) ربيبه حين تزوج أمّه أم سلمة (¬4): قم يا غلام فزوج ¬

_ (¬1) صفحة: 330 من أحكام القرآن. (¬2) انظر: الزجاج: إعراب القرآن: 2/ 642، القيسي: مشكل إعراب القرآن: 2/ 579، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 242. (¬3) هو أبو حفص القرشي المخزومي المدني، الحبشي المولد. ولد قبل الهجرة بسنتين، توفي رضي الله عنه: 83، انظر: ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 6/ 117، ابن الأثير: أسد الغابة: 4/ 183، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 406، ابن حجر: التهذيب: 7/ 455. (¬4) هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية، من المهاجرات الأوائل، دخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة أربع من الهجرة، عاشت نحواً من تسعين سنة، انظر: ابن سعد: الطبقات: 8/ 86، ابن الأثير: أسد الغابة: 7/ 340، الذهبي سير أعلام النبلاء 2/ 201، ابن حجر: التهذيب: 12/ 455.

أمك (¬1). فلا يصح أن يكون المراد بهذه الآية هذا، لأن قول الموهوبة: "وهبت نفسي لك" لا ينعقد به نكاح، ولا بدّ له من عقده مع الولي، فهل ينعقد بلفظه وصفته أم لا؟ مسألة أخرى لا ذكر في الآية لها. الثاني: إن المقصود بالآية خلو النكاح عن الصداق، وله حالتان كما قدمنا، وإليه يرجع الخلوص. الثالث: أنه قال بعد ذلك: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فذكره في جنبته بلفظ النكاح المخصوص لهذا العقد، فهذا يدل على أن المرأة وهبت نفسها بغير صداق، فإن أراد النبي أن يتزوج تزوج، فيكون النكاح حكماً مستأنفاً لا تعلق له بلفظ الهبة إلا في المقصود من الهبة، وهو سقوط العوض وهو الصداق. الرابع: أنا لا نقول إن النكاح بلفظ الهبة في حقه - صلى الله عليه وسلم - جائز من هذا اللفظ، فإن تقدير الكلام على ما بيناه: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك المرأة الواهبة نفسها خالصة، فلو جعلنا قوله: {خَالِصَةً} حالاً من الصفة التي هي ذكر الهبة دون الموصوف الذي هو المرأة وسقوط الصداق: لكان اختلالاً من القول، وعدولاً عن المقصود، وذلك لا يجوز عربية ولا معنى. ألا ترى أنك لو قلت: أحدثك بالحديث الرباعي خالصاً لك دون أصحابك، لما كان رجوع الحال إلاَّ إلى المقصود الموصوف، وهو الحديث هذا، وهو على نظام التقدير. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في النكاح، باب إنكاح الابن أمّه: 6/ 81 وإسناده صحيح كما قال الحافظ في الإصابه: 4/ 459.

المسألة الرابعة عشر

فلو قلت على لفظه: أحدثك بحديث إن وجد بأربع رواة (¬1) خالصاً لك دون أصحابك، لرجعت الحال إلى المقصود الموصوف أيضاً دون الصفة، وهذا لا يفهمه إلاَّ المتحققون بالعربية، وما أرى من عزى إلى الشافعي أنه قال: قوله: {خَالِصَةً} يرجع إلى النكاح بلفظ الهبة (¬2) إلاَّ قد وهم، لأجل مكانته من العربية. والنكاح بلفظ الهبة جائز عند علمائنا، مأخوذ من دليله في موضعه حسب ما بيناه في "مسائل الخلاف" والله أعلم. المسألة الرابعة عشر: قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وقد علم كل سامع أن قوله: {خَالِصَةً لَكَ} تقتضي استبداده بذلك، وانفراده دون سواه، ولكنه أكد ذلك تبياناً أنه مختص به دون غيره من المؤمنين الذين يشركونه في النكاح وشروطه وكان يكفي أن يقول: دون غيرك من الناس، ولكنه لحرمة اشتراكهم معه وصف بوصف المدح الذي هو الإيمان. المسألة الخامسة عشر: قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قد بينا علم الله وحقيقته ومتعلقه من ماض ومستقبل وحال في ¬

_ (¬1) في أحكام القرآن: 1565 بأربع روايات. (¬2) الذي في الأم: وقال عز وجل: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ... } الآية قال الشافعي: خالصة بهبة ولا مهر، فاعلم أنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون المؤمنين، الأم: 5/ 59 (ط: بإشراف محمد زهدي النجار - دار المعرفة، بيروت: 1973).

موضعه (¬1) وشرحنا وجه التعلق بكل واحد منها منه. والمراد بقوله ها هنا: أن الله بين لرسوله حكمه في النكاح، وقرره عليه، وبين للمؤمنين حكمهم في النكاح وقرره لهم، وميّز كل واحد من الفريقين في حكمه، وفرضه، وشرطه، ووصفه، وعدده، وحاله. {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} المعنى: إنا وسعنا عليك في النكاح لاحتمالك المشقة فيه، وقدرتك على القيام بشروطه، ووفائك بما يتعين عليك فيه، ومع هذه الحال لو سوى بينه وبين غيره ممن لا يطيق طاقته ولا يكتفي بالوفاء بشروط النكاح ووفاه، لم يكن عدلاً، ولا كانت تسوية، ولكان حرجاً، والله تعالى قد رفع الحرج عن أهل الملة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، وأعظمهم حرمة ومنزلة، كما أنه سبحانه قصر الأمة عما أباح لرسوله في ذلك وجعلهم دون منزلته، وأحط من مرتبته لأنهم لا يطيقون طاقته كما تقدم، ولا يكتفون اكتفاءه، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]. ولم يجعل الله مرتبة النكاح سواء في حق المؤمنين، فكيف في حق الرسول معهم؟ ألا ترى كيف فاضل بين الحر والعبد في النكاح، فجعل مرتبة الحر فوق مرتبة العبد على تفصيل مختلف فيه بين العلماء، وإن كان ¬

_ (¬1) أحال في أحكام القرآن: 1565 إلى كتاب المشكلين، وكتاب الأصول، وللتوسع في صفة العلم انظر للمؤلف: الأمد الأقصى: 64/ أ، سراج المريدين: 44/ أ.

المسألة السادسة عشر

الكل منهم قد أجمع على أن الحر أوسع في باب التحليل، فإنه تطلّق عليه بالحرية ثلاثاً، وتطلّق على العبد بالعبودية طلقتين، فإذا تفاوت في ذلك مرتبة الأمة بين الرق والحرية، فأولى وأحرى أن يفضل في ذلك مرتبة النبوة لهم، وتكون أوفى من منزلتهم. المسألة السادسة عشر: قوله: {مَا فَرَضْنَا} وقد قدمنا قوله: {فَرَضْنَا} في موارد اللغة والشريعة بأبلغ بيان، ومنها أن معنى قوله: {فَرَضْنَا}: أوجبنا وألزمنا، ومنه قدرنا، وليس يتجه أن يكون معنى قوله تعالى ها هنا: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} بمعنى أوجبنا وألزمنا، لأن منه ما هو وجوب وإلزام، ومنه ما هو تحريم وحظر، وقد جرى ذلك، فلو قلنا أن معنى قوله: {فَرَضْنَا} أوجبنا وألزمنا، لرجع ذلك إلى بعض ما تقدم ذكره، واقتضى بيان بعض ما وقع التكليف به في المعنى، فوجب أن يرجع التفسير إلى معنى ينظم الكل ويتناول الجميع وهو قوله: (قدّرنا) فإن الذي كتب تعالى وأوجب وألزم مقدّر، والذي حرم وحظر ومنع مقدّر، والتقدير يأتي على ذلك كله، فيجب أن يقال أن معنى قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي قدرنا من فرض ومحظور وشرط ومشروط. المسألة السابعة عشر: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} تقدم تفسير قوله: {غَفُورًا} وتفسير قوله: {رَحِيمًا}، ووجه الِإخبار عنه بكان في كتاب "الأمد الأقصى" (¬1) و "المشكلين" فلا معنى لتكراره. ¬

_ (¬1) حول تفسير قوله: {غَفُورًا} انظر: الأمد الأقصى: 116/ ب. وحول تفسير قوله: {رَحِيمًا} انظر: الأمد الأقصى: 75/ أ، المتوسط في الاعتقاد: لوحة: 53.

والذي يتعلق به من البيان ها هنا وجه انتظامه مع ما سبق من بيان هذه الأحكام وهو ظاهر عند التأويل، ومعناه: أنه سبحانه لم يؤاخذ الناس بذنوبهم، بل غفر لهم ورحمهم، وشرف رسوله الكريم فجعله فوقهم، ولم يعط الخلق على مقدار ما يستحقون، فإنهم كانوا يجرمون، بل عاد عليهم بفضله ورحمته التي هي خير مما يجمعون، وعمهم برفقه ولطفه فأعطى الكل، ووسع على الجميع، وقدم منازل الأنبياء، وتلتهم الخليقة على مقاديرهم، والله أعلم.

النوع الثالث: علم التذكير

النّوع الثالث: علمُ التّذكير وهو معظم القرآن، فإنه ينبني على معرفة الوعد والوعيد، والخوف والرجاء والقرب، والذنوب وما يرتبط بها ويدعو إليها ويكون عنها، وذلك معنى تتسع أبوابه، وتمتد أطنابه. وحكمه: أن يؤخذ كلّ باب منه مفرداً، ثم يضاف في البيان إلى نظيره، ولا يمكن شرحه إلا بالمشافهة أو بسط البيان بالقلم، إلا أنا نذكر منها ها هنا أنموذجاً في سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فإنا قد كنا تكلمنا عليها وعلى معانيها في ستة أشهر (¬1)، وذلك النشر ينتظم لكم مجملاً في ثمان عشرة مسألة. المسألة الأولى: قوله: {أَلْهَاكُمُ} اللهْو (¬2): الاشتغال بالشيء عن الشيء بالقصد ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف رحمه الله في الأحكام: 1974 أنه أملى في شرح معاني هذه الآية مئة وثمانين مجلساً. (¬2) انظر تعريف "اللهو" في معجم الراغب الأصفهاني: 475 - 476.

المسألة الثانية

إليه، والاشتغال: هو الاشتغال المطلق بترك عمل بقصد وبغير قصد، وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "اذْهَبُوا بِهَذِهِ الخَمِيصَةِ (¬2) إِلَى أبِي جَهْمٍ (¬3)، وَائْتُوني بِتُرْكِيةٍ (¬4) فَإنهَا ألهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلَاتِي" وما يفعل ذلك بقصد إليه، ولكنه جرى كذلك فأطلق عليه اللفظ الخاص، كقوله: "لَا حَسَدَ إِلا في اثْنَتَيْنِ" (¬5) وإنما هو الغبطة الاسم الخاص. المسألة الثانية: قوله: {التكَاثُرُ} وهو التفاعل من الكثرة، يطلب كل واحد أن يكون أكثر من صاحبه في الأموال والأولاد والأحباب. قال أهل الإِشارة: اشتغلوا بالأموال عن الأعمال، وبالأولاد عن أهل الوداد، والأحباب عن دار الثواب، وإن القلب إذا كان فارغاً امتلأ من الله ¬

_ (¬1) تمام الحديث كما جاء في مسلم رقم: 556 كتاب المساجد ومواضع الصلاة عن عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشةَ قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ في خَمِيصَةٍ ذَاتِ أعْلَام، فَنَظَرَ إلَى عَلَمِهَا، فَلَما قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ: ... الحديث. انظر البخاري في الصلاة: 1/ 98. (¬2) الخميصة: مُلَاءَة من صوف، الزمخشري: الفائق: 2/ 176، 3/ 125، ابن الأثير: النهاية: 2/ 80. (¬3) هو الصحابي ابن حذيفة القرشي العدوي، قيل اسمه: عبيد، وهو من مسلمة الفتح، انظر في ترجمته ابن سعد: الطبقات: 5/ 451، ابن عبد البر: الاستيعاب: 4/ 1623، ابن الأثير: أسْد الغابة: 6/ 57. (¬4) الذي ورد في كتب الحديث "خميصة أنْبجَانِيَّة". (¬5) جزء من حديث رواه البخاري في العلم: 1/ 26، ومسلم في صلاة المسافرين: رقم 816، والإمام أحمد في مسنده: 5/ 237، 6/ 78، 79 (ط: المعارف).

المسألة الثالثة

بالكلَيَّة، وإذا اشتغل كله، خرج عن حبّ الله كله، وإذا اشتغل منه جزء فبذلك القدر يذهب من حب الله. وقد كانت مريم إذا سلّمت من صلاتها وجدت فطرها، فلما ولدت عيسى وأخذ جزءاً من قلبها قيل لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. ويتسع الكلام ها هنا في التكاثر بذكر الآيات والأخبار والآثار في ذكر الأموال والأولاد والأحباب. المسألة الثالثة: عدل عن قوله: "شغلكم" إلى قوله: {ألْهَكمُ} لأنه أخص به وأكثر ذَمّاً لهم. المسألة الرابعة: إن قيل عن أيِّ شيء ألهاكم؟. قلنا: عما قال أهل الإشارة. المسألة الخامسة: قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} يقال: زار الرجل إذا انضاف إليه ونزل به، ومنه قيل للضيوف زور. ومن غريب الفصاحة أن الزيارة تكون بالقصد، واستعملها ها هنا مع عدم القصد، وذلك لما علم من وجوب حلولها، وأن المصير الآخر إليها، وأن فائدة ما في الدنيا من أمر إنما هو عندها.

المسألة السادسة

المسألة السادسة: قوله: {الْمَقَابِر} وهي الدار الآخرة، والدنيا هي الدار الأولى، وهو حفرة من حفر النار أَو روضة من رياض الجنة (¬1)، وتسرد الأحاديث في هذا كله. المسألة السابعة: في عذاب القبر، فإن قوله: ({كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3]: معناه: إذا زرتم المقابر، وذلك تهديد عظيم، بما يدرك إذا حلّ فيه، وتذكر عذاب القبر كلّه، وأنواع الهول فيه الذي يتعلق بكل واحد منها تهديد. المسألة الثامنة: قوله: {كَلَّا} وقد اختلف فيها النحاة والمفسرون، وتذكر أقوالهم (¬2)، والصحيح أنه نفي، كأنه قال: كل لا، المعنى: ليس كما زعمتم أو أردتم، حيثما وقع وكثر استعماله، فجعلت الكلمتان كلمة واحدة، ونصبت الكاف لتدل الِإضافة على التغيير. المسألة التاسعة: قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، وقال في موضع آخر: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} ¬

_ (¬1) يشير إلى الحديث الشريف الذي جاء فيه " .. إنمَا القَبْرُ رَوْضَة منْ ريَاض الجَنَّةِ، أوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النارِ" أخرجه الترمذي من حديث طويل في صفة القيامة: رقم 2462 وقال عنه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، كما أخرجه البيهقي في إثبات عذاب القبر رقم: 50، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/ 46، وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أيوب بن سويد وهو ضعيف. (¬2) انظر باب "معنى كلا وتفسير وجوهها وأصلها وموضعها من الإعراب" من كتاب "شرح كلا وبلى ونعم" لأبي طالب القيسي: 22 - 70 (ط: أحمد فرحات 1978) وانظر الدراسة النقدية القيمة عن "كلا" التي قدم بها الدكتور حسين نصار للكتاب السابق الذي نشره في مجلة كلية الشريعة ببغداد: 1967.

المسألة العاشرة

[القمر: 26] بالسين وهما عند أهل العربية واحد، وعند أهل الإشارة أنهما بمعنيين، وكأن سوف أمد في المهل، كما قال سبحانه: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وتورد ما يناظره ويتعلق به. المسألة العاشرة: قوله: {تَعْلَمُونَ} كأنهم كانوا في جهالة وغمرة من البطالة، فانتقلوا إلى اليقظة، "والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" (¬1)، ومنه قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54]. وتذكر الاستغراق في الشهوات، وتستوفي آياته وآثاره، وتذكر تلبيس إبليس وتزيينه -إن قدر- أو تسويفه، وذلك معنى دقيق طويل. وقد قال لي شيخنا الطوسي: إن أمهلت فسأفرد كتاباً "لتلبيس إبليس" (¬2). المسألة الحادية عشر: في التكرار (¬3): قد قدمنا القول فيه فيما سبق من علوم القرآن في مواضعه وأشبعناه، ¬

_ (¬1) سبق تخريج هذا الأثر صفحة: 567 تعليق رقم: 1. (¬2) لا أعلم كتاباً للإمام الغزالي طبع بهذا العنوان، وقد ذكره السبكي في طبقات الشافعية: 4/ 116 (ط: الحسينية)، وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة: 2/ 208، أما حاجَّي خليفة فقد ذكرة في كشف الظنون: 2/ 254 بعنوان "تدليس إبليس". (¬3) انظر كتاب "أسرار التكرار في القرآن" للكرماني: 224 ففيه فوائد جليلة، والسيوطي في معترك الأقران: 1/ 341، والزركشي في البرهان: 3/ 11.

المسألة الثانية عشر

فلينقل من هنالك، ومن أحسن ما فيه عن الأستاذ أبي إسحاق (¬1) أنه قال: كرر الله قصص الأنبياء في غير موضع من كتابه ثم ساق قصة يوسف مساقاً واحداً إشارة إلى أن الله قد عجز به العرب وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: قد سقت قصة يوسف مساقاً واحداً، وكررت قصص الأنبياء، فإن كان من تلقاء نفسي مقدرة على الفصاحة، ودربة في البلاغة، فافعلوا في قصة يوسف ما فعلته في سائر القصص، وهو أعظم قد أوردناه في "المعجزات". المسألة الثانية عشر: قوله: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] قد قدمنا (¬2) أن الاختيار في "كَلَّا" أن يكون نفياً، فكيف جاء النفي بعد قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}؟. قلنا: عاد النفي إلى الأول تأكيداً له أيضاً، دلّ عليه ما بعده وهي: المسألة الثالثة عشر. المسألة الرابعة عشر: قوله: {عِلْمَ الْيَقِينِ} القول في العلم معلوم (¬3)، وأقسامه ومتعلقاته ¬

_ (¬1) هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وقد سبقت ترجمته صفحة: 461 التعليق رقم: 2. (¬2) صفحة: 613. (¬3) قال ابن العربي في سراج المريدين: 44/ أ " .. قد أرادت الملحدة أن تجعل العلم معنى مجهولاً أو خفياً، فسألت عنه سؤال الباحث عن حقيقته ليغمض، حتى إذا شككوا الخلق في العلم لم يبق لهم بعده ما يتعلقون به، ولا ينظرون فيه، وساوتهم على ذلك القدرية لموافقتهم لهم في قصد إضلال الخلق والتلبيس على العباد، فلا تلتفتوا إلى مقالتهم، ويكفيكم في بيان العلم علمكم بأنفسكم، ويكفيكم في شرفه أمران: أحدهما أنه صفة الرب التي ينشأ عنها كل فعل، والثاني: أنه مقدمة لكل معنى دنيوي وأخروي، ومن خلا عنه هلك في أمور دنياه ففاتته وتشعبت عليه، وهلك في آخرته فكفر ولم يعلم، وعصى ولم يشعر ... ".

معروفة، وأما اليقين، فقيل هو المشاهدة، وقيل العلم الذي لا يدركه رَيْبٌ وإن كان نظرياً، وقال أهل الِإشارة: اليقين هو العلم الحاصل عن العمل (¬1) وقد تقدم الكلام عليهم، وإنما أرادوا به انتفاء الريب فاساؤوا العبارة والطريق، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في عثمان بن مظعون (¬2): "أمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ" (¬3) والله ما أدري ما يفعل به فكشف - صلى الله عليه وسلم - عن معنى اليقين، والدليل عليه أن الله فسره فقال: {عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 5 - 6]. وإذا مات ابن آدم عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ (¬4)، فهو من يقينه، وهي المسألة الخامسة عشر. ثم قال: {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] وهي المسألة السادسة عشر: يريد عند الورود، وتفسره، وتورده، والقول فيه إِطنابٌ (¬5) وله أطْنَابٌ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر في تحريف "اليقين" الكفوي: الكليات: 12/ 89، 5/ 116 - 118، الجرجاني: التعريفات: 136، التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون: 1547 - 1548 (ط: خياط). (¬2) هو الصحابي الجليل عثمان بن حبيب بن مظعون الجمحي، أبو السائب، من سادة المهاجرين ومن أولياء الله المتقين، توفي في حياة النبي، وهو أول من دفن في البقيع، انظر عنه: ابن سعد الطبقات: 3/ 1/ 286، البخاري: التاريخ الصغير: 1/ 20، ابن عبد البر: الاستيعاب: 8/ 60، ابن حجر: الإصابة: 5/ 396. (¬3) هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الجنائز: 2/ 71، وعبد الرازق الصنعاني في المصنف رقم: 20422. (¬4) يشير المؤلف - رحمه الله - إلى ما أخرجه البخاري في الجنائز: 2/ 103 "عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن أحَدَكُم إذا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُة بالغَدَاةِ وَالعَشِي إنْ كَانَ مِنْ أهْل الجَنةِ فَمِنْ أهلِ الجَنةِ، وَإنْ كَان مِنْ أهْلِ النارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقعَدُكَ حَتى يَبْعَثَكَ الله إلَى القِيَاَمَةِ". (¬5) الإطْنَابُ: البلاغة في المنطق والوصف. (¬6) الأطْنَاب: جمع طُنْب، وهو الحبل الطويل الذي يشد به البيت والسرادق. والمراد القول به ضوابط وحدود.

المسألة السابعة عشر

المسألة السابعة عشر: قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وهو ظرف، قال بعضهم: لعين اليقين، وقال غيرهم: له ولليقين الأول، والسؤال يومئذ إنما يكون لعين اليقين، فأما اليقين فليس فيه إلاَّ السؤال عقد الإِيمان خاصة، وتورد ها هنا الأسئلة كلّها وتفاصيلها ومحالها. المسألة الثامنة عشر: عن النعيم (¬1): قيل: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، قاله أهل الِإشارة (¬2). وقيل: هو تخفيف التكليف بالشرائع (¬3). وقيل: الرخص (4). وقيل: هو الماء البارد في الصيف، والحار في الشتاء (¬4). وقيل: الصحة من البدن (5). وقيل: الفراغ (5). وقيل: سعة الرزق (¬5). وقيل: القناعة (6) وقيل: الرضاء بالقضاء (¬6). ¬

_ (¬1) قال المؤلف في السراج: 17/ ب "النعيم هو عبارة في اللغة عن الزيادة، وعليه بيان (ن ع م) كيف ما تردد". (¬2) ورد هذا القول في لطائف الإشارات 6/ 331. (¬3) ن، م، ونسبه إلى الحسن بن علي وكذلك الماوردي في النكت: 4/ 509. (¬4) لطائف الإشارات: 6/ 331. (¬5) انظر في هذه الأقوال: الماوردي: النكت والعيون: 4/ 508، القرطبي: الجامع 20/ 168 - 178، الرازي: مفاتيح الغيب: 32/ 75 - 83، السيوطي: الدر المنثور: 6/ 386 - 391 .. (¬6) انظر في هذين القولين لطائف الإشارات: 6/ 331. وزاد ابن العربي في الأحكام الصغرى لوحة: 510 ما يلي: =

ذكر وجه التبليغ إلى المرتبة المستولية على علوم التنزيل بالتجميل، وطريقة التوصل إلى الله سبحانه

وحقيقته: كل موافق للنفس والبدن ديناً أو دنيا، وإذا بسط هذا اتسع مقداره. فإن قيل: هذه طرق طويلة، وبحار متسعة، فكيف السبيل إلى سلوكها وركوبها؟ وأنَّي بالتبليغ نحوها حتى نبلغ إليها (¬1)؟ ومن أين يكون وجه القصد إلى هذا القانون؟. ذكر وجه التبليغ إلى المرتبة المستولية على علوم التنزيل بالتجميل، وطريقة التوصل إلى الله سبحانه اعلموا -نوّر الله بصائركم- أنا قد أوضحنا أن السبيل إلى معرفة العلوم هو التعليم، فإن التزمته بشروطه، وتماديت عليه، وصلت إليه. وشروط ذلك ووظائفه (2) تنيف على المئتين، لكن الأمهات التي ترجع إليها البنات سبعة شروط (¬2): الشرط الأول (¬3): إخلاص النية، فهو أصل الأصول، وشرط الشروط. ¬

_ = " .. وقيل النعيم: الأمْنُ والصحة، وقيل السلامة في الحواسّ، وقيل لذة المأكل والمشرب ... ". قلت: وقد رجّح ابن العربي القول المختار وذلك في أحكام القرآن: 1974 - 1975 حيث قال: وأعظمها موافقة ما قال مالك في رواية كادح بن رحمة أنه صحة البدن وطيب النفس. (¬1) هكذا الوارد في الأصليين، والعبارة قلقة. (¬2) تأثر ابن العربي تأثراً بالغاً بالإمام الغزالي في إحيائه: 1/ 49 وميزانه: 341، وجلّ هذه الشروط هي من وضعه. (¬3) انظر الغزالي: ميزان العمل: 341 - 342، وإحياء علوم الدين: 1/ 51 - 52. =

الشرط الثاني

الشرط الثاني: التواضع للعلم، فحيث علم العلم قصده، وممن سمعه أخذه، "فالحكمة ضالّة المؤمن" (¬1) ولا تستصغر كلمة، فإنه من تكبّر على العلم ذهب عنه، فإن: العلم حرب للفتى المتعالي ... كالسيل حرب للمكان العالي (¬2) الشرط الثالث: التواضع للمعلم، حتى لو تحقق خطؤه، فليعظمه، فلو لم يكن إلاَّ فضل المتقدم والتجربة، ألا ترى إلى حديث موسى والخضر (¬3). ويلزمه أن يعتقد له حق أبيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا أنَا لَكمْ مِثْل الوَالِدِ لِوَلَدِهِ أعلمكم" (¬4)، والمعلم خير من الأب. الشرط الرابع: ألاَّ يخالف معلمه فيما يشير به عليه إن ظهر إليه غيره. فاوضت يوماً الطوسي في ذكر تآليفه، فأعرض عن بعضها، ثم نظرت ¬

_ (¬1) روي هذا الأثر بألفاظ مختلفة فهو عند الترمذي في العلم رقم: 2688، وقال عنه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، أما الشيخ عبد القادر الأرناؤوط فقد ضعفه في جامع الأصول: 8/ 9، وهو عند ابن ماجه في الزهد رقم: 4221 وعلق عليه الشيخ د. محمد مصطفى الأعظمي فقال: إسناده ضعيف، انظر: السخاوي: المقاصد الحسنة: 191، الزرقاني مختصر المقاصد: 99، العجلوني كل الخفا: 1/ 363، الشوكاني: الأسرار المرفوعة: 284. (¬2) هذا البيت أورده الغزالي ولم ينسبه، ميزان العمل: 344، الإحياء: 1/ 50. (¬3) انظر قصة موسى والخضر عليهما السلام في البخاري كتاب العلم: 1/ 26، ومسلم في الفضائل رقم: 2380، والترمذي في التفسير رقم: 3148، وابن جرير الطبري في تفسيره: 15/ 278 - 279، والبغوي في تفسيره: 4/ 139 (بهامش الخازن) والبيهقي في الأسماء والصفات: 116 - 117. (¬4) أخرجه بهذا اللفظ من حديث طويل ابن ماجه في أبواب الطهارة رقم: 317 (ط: الأعظمي) وانظر مسند أحمد 2/ 250، وأبا داود في الطهارة: 1/ 2 (ط: أحمد سعد علي).

الشرط الخامس

في كتاب "المعيار" (¬1) فأعجبني فاستحسنته، وجئت إليه وعلى كمي كراسة منه، فقال لي: ما معك؟ فاستحييت ودفعته إليه فقرأه ملياً، وأنا أسارقه النظر وأرفض عرقاً، ثم رفع رأسه إليَّ وقال لي: كتاب حسن، ولكن لا تغتر بمخالفتنا فيه. الشرط الخامس: أن لا يخوض في التعليم دفعة، بل يقبل على الأهم، فإذا أكمله انتقل إلى غيره، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]. قيل فيه: لا ينتقلون عن فنّ حتى يحكموه علماً وعملاً (¬2). كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَر (¬3) أنهُ أقَامَ على سُورَةِ البَقَرَةِ ثَمَانِ سِنِينَ حَتى أحْكَمَهَا (¬4). وقيل: يتلونه حق تلاوته بحضور قلب. ¬

_ (¬1) طبع هذا الكتاب بتحقيق شيخنا فضيلة الدكتور سليمان دنيا -حفظه الله- (سلسلة ذخائر العرب رقم: 32 دار المعارف- مصر) قال عنه ابن العربي في العواصم: 106 "وأخذ في معيار العلم عليهم (أي على الفلاسفة) طريق المنطق فرتّبه بالأمثلة الفقهية والكلامية، حتى محى فيه رسم الفلاسفة، ولم يترك لهم مثالاً ولا ممثلاً، وأخرجه خالصاً عن دسائسهم، بيد أنه أدخل فيه أغراضاً صوفية، فيها غلو وإفراط". (¬2) هذا التفسير هو للإمام الغزالي، الميزان: 349. (¬3) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، ولد سنة ثلاث من البعث النبوي، وأسلم مع أبيه، له فضائل جمة، أفتى الناس ستين سنة، وغزى إفريقية مرتين، توفي سنة: 73. انظر: ابن سعد: الطبقات: 3/ 143، ابن عبد البر: الاستيعاب: 2/ 341، ابن حجر: الإصابة: 2/ 347. (¬4) لم أعثر على هذا الأثر في المصادر والمراجع التي اطلعت عليها فالله أعلم به، مع العلم أن المؤلف قد ذكره في الأحكام: 8 بدون سند.

الشرط السادس

الشرط السادس: أن يذكر ما حفظ وعلم، ولا ينبذه وراء ظهره. الشرط السابع: أن يعمل بما علم فذلك أثبت له حفظاً ونجاة. فهذه أمْهاتها (¬1)، وهي مفتقرة إلى الدؤوب عليها دون فتور، فإن عَلِمَ من نفسه منة واتساع باع، وقبولاً للبلوغ إلى النهاية، فليأخذ في معرفة الباري من أسمائه الحسنى، فإنها تحيطه بالكلّ، وبها يعرف العالم، فلكل اسم من أسمائه جزء مقسوم منه، وقد قيّدناه في "الأمد الأقصى" وهو الغاية، وبه يعرف الترقّي من درجة إلى درجة. وحذار من أن يطمع عبد في استقلاله بنفسه في العلوم، حتى يحتكّ بين يدي المعلم، فما ضلّ من ضلّ إلاَّ من الصحف، بل إذا وصل إلى درجة ¬

_ (¬1) كثيراً ما يتطرق المؤلف - رحمه الله - لموضوع "العالم والمتعلم" في مختلف كتبه، ومما قاله في "قانون القاهرة": 95/ ب هو كالتالي: " ... للعالم على المتعلم عشرة خصال، منها أربعة هي أمهاتها: أحدها أن يصغي إلى قوله ولا يقف في وجهه، ويأخذ ما يتيسر له منه، ولا يكلّفه إلّا ما أعطاه. الثانية: أن لا ينظر في المشكلات، وأن ينظر في المبينات، فإذا أحكمها وتخلصت له، نظر بعد ذلك في المشكلات فيكون أرجى لفهمها. الثالثة: أن لا يسأله سؤال معنف كما فعلت اليهود حين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - بجفاء وعنف. الرابعة: أن يسلم له، وأن يُطَهِّر نفسه ويزكيها من المعاصي والذنوب فلا شيء أنفع في التعليم من التقوى. وللمتعلم على العالم عشر حقوق منها: أن يرفق به ويعلمه برأفة ورحمة ولذلك قال عليه السلام: "إِنمَا أنا لَكمْ بمَنْزِلَةِ الوَالِدِ أعَلمكُمْ دِينكُمْ"، إليه الإشارة بقوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] والعَالِمُ الرباني هو الذي يربي المتعلم بصغار العلم في المسائل قبل كبارها، فهو مأخوذ من التربية، وإليه الِإشارة لبعض العلماء وقد سئل فقيل له: من أحبُّ إليك أبوك أم معلمك؟ فقال معلّمي لأنه سبب حياتي الباقية، وأبي سبب حياتي الفانية ... " قلت: وللتوسع في هذا الموضوع، انظر: السراج: 191/ أ- ب.

ذكر شرح الصدور

النظر، فله أن يستبد بنفسه، بل هو فرضه، وذلك موقوف على شرح الصدور، فمن يرد الله أن يعلمه يشرح صدره للتعليم وهما مصدران: ذكر شرح الصدور وهما صدران: صدر نبي، وصدر صدّيق. فأما النبي فشرح صدره بأن يرفع عنه الجهل بالعلم، والغفلة بالذكر، والمعصية بالطاعة، والوسواس بالعصمة. فإن قيل: وكيف هذا وقد قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ..... } الآية [فصلت: 36]؟ قلنا: ذلك في التعريض لا في التمريض. فإن قيل: فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ... " الحديث (¬1)؟. قلنا: ليست غفلته عن طاعة بمباح، إنما كان في ذكر دائم، وعلم قائم، فإذا عافس الأهل ثم فزع، رأى أنه في نقصان، حيث أقبل على غيره، ولكن ضرورة البشرية، فيعود إلى الاستغفار حتى يكون عمله البشري في حكم العمل التكليفي. وأما الصدّيق فهو من أسماء الكمال، ومعناه: الذي صدّق علمه بعمله (¬2)، وأعظم ذلك في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (¬3)، ألا ترى ¬

_ (¬1) تقدم تخريج هذا الحديث صفحة 565 تعليق رقم: (1). (¬2) قال الشريف الجرجاني في التعريفات: 70 "الصديق هو الذي لم يدع شيئاً مما أظهره باللسان إلا حققه بقلبه وعمله". (¬3) انظر سبب تسميته بالصديق في الرياض النضرة في مناقب العشرة للطبري: 1/ 48 - 50.

إلى قوله جواب من أخبره بأن النبي أسري به إلى بيت المقدس في ليلة فقال: "إِنْ كَانَ قَالَهَا فَقَدْ صَدَقَ، وَأنَا أصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أعْظَم" (¬1). وانظر إلى إقباله إليه بجميع ماله، وقوله: "أبْقَيْتُ لِنَفْسِي الله ورسوله" (¬2). ولما احتاج إلى عِلْمِهِ وَيقِينهِ وَجَدَهُ، ووجَدَ المُسَلمُونَ بركته. فإن قيل فقد أذعنا لك فزد بياناً، قلنا: "حَدّثْ حَدِيثَيْنِ امْرأَة، فَإِنْ أبَتْ فَأرْبع أوْ فَأرْبَعَة" (¬3) على اختلاف الرواية في هذا المثل عدوها أربعة على تأويل العامة في المثل. اعلموا -بصّركم الله الخفيّ وثبت لكم الجليّ- أن مساق الكلام في ¬

_ (¬1) نحوه في مستدرك الحاكم: 3/ 62 كتاب معرفة الصحابة، من حديث عائشة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) هذا جزء من حديث أخرجه الترمذي في المناقب رقم: 3676 بلفظ "عن عمر بن الخطاب قال: أمَرَنَا رَسُول اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ أنْ نَتَصَدّقَ، وَوَافَقَ ذَلِك مِني مَالاً، فَقُلْتُ: اليوم أسْبق أبَا بَكْر -إنْ سَبقْتُهُ- قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: مَاَ أبْقَيْتَ لأهْلِكَ؟ قُلْت: مِثْلَهُ، وَأتَى أبُو بَكْرٍ بكُل مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا أبَا بَكْر، مَا أبْقَيْتَ لأهْلِكَ؟ قَالَ: أبْقَيْت لَهمُ الله وَرَسُولَهُ، قُلْت: لَاَ أسْبقُهُ إلَى شَيْء أبَداً". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وأخرجه كذلك أبو داود في الزكاة رقم: 1678، والدارمي في باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده: 1/ 392. (¬3) يضرب هذا المثل في سوء السمع والإجابة، ويروى أن عامراً الشعبي هو الذي تمثل به، ونسبه ابن الأثير في النهاية 2/ 187 إلى شريح ومعنى فَأربع أي كفّ. انظر: المفضل بن سلمة: الفاخر: 76، ابن سلام: الأمثال: 54، العسكري: جمهرة الأمثال: 1/ 378، الميداني: في مجمع الأمثال: 1/ 92.

ذكر معاني الفاتحة

هذا القانون هو طريق التعليم، وقد أخذت عليكم في شرطه ألا تذهلوا عما تعلموا حتى تركبوا عليه ما تفهموا تفقهوا، ولكنكم تجدوني -إن شاء الله سبحانه- سمحاً ليناً، متخوناً (¬1) ليس خائناً، اسلكوا سبيلي، وتوضحوا دليلي، فإنكم تهتدون إلى سبيل السلام، وتستنيرون في غياهب الظلام. ولقد قلت لبعض أصحابي وقد فاوضني في هذه الأغراض: ذكر معاني الفاتحة إذا أردت تحصيل التفسير بالقانون: فاعمد إلى سورة "الفاتحة" بنية خالصة، ثم سطّر الحمد ومعناه، والشكر ومغزاه، وانفصالهما في متعلقهما، والرب وشرحه، والعالمين وما يتناول من الموجودين، وكيف صرّف العالمين وربى متولدات الموجودين، والرحمن ومتعلقه، والرحيم وفائدته، والجمع وتركيبه واستفتاح كتابه بذلك، ونعمته، والملك وخصيصته، والدين وحقيقته وماذا تناول، وعظيم ما اجتمع فيه، والعبادة وصفتها، والاستعانة وفائدتها، والصراط وزحمته، والنعمة وعمومها، والمعصية وخصوصها، والغضب ومعناه، والضلال وهو ضدّ الهداية، فإنك تعلم تفسير الفاتحة بحسب ما تنتهي إليك قدرتك، فاجتهد، وواصل السير بالجد فإن السبيل باد. فلقد رحلت طالب علم وحج فما عدمت قاطعاً يلويني، وشيطاناً يغويني ولا فقدت ناصحاً يقدمني، وعالماً يرشدني، حتى خلصت إلى المطلوب. ¬

_ (¬1) التخون هو التعهد.

ذكر ترتيب الطلب

V ذكر ترتيب الطلب ولكن ربما فات كثير من الناس كيفية الطلب: (¬1) وأولها المقصد إلى تعلم علم العربية والأشعار، فإنهما ديوان العرب التي دفعت إليها ضرورة فساد اللغات. ¬

_ (¬1) توسع المؤلف - رحمه الله - في بسط نظريته في التعليم وطرق تحصيله فقال في سراج المريدين: 59/ ب ما نصه: " ... وقد كان علم الألفاظ والمقاطع ومدلولاتها عند الصدر الأول، لأنهم كانوا عرباً عرباً، يعرفون معاني الألفاظ ومقاطع الكلام، ثم اختلط الخلق حتى فسدت الألسن، وضلت القلوب عن الحقائق حتى فسدت المعاني. فتعين علينا والحالة هذه أن نبدأ بعلم الألفاظ على وجه دلالتها على مدلولها، وأن نعلم مقاطع التعبير عنها، وهي الفصاحة التي تميّز بها لسان العرب الذي ورد القرآن به، وهو الذي نحاول معرفته. فينبغي أن ينشأ الطفل على تعلم العربية ومقاطع الكلام، ويحفظ أشعار العرب وأمثالها، ويلقى إليه من الحساب ما يقيم به دينه ويكون دستوراً لعلم الفرائض واستخراج المعلوم من المجهول، ففيه منفعة في الدين وتمييز للأفهام. ويدرس القرآن المفصل عند استقلاله ببعض هذه المقاصد، حتى إذا روى من هذا الغرض، مشى إلى العالم فأقرأه بتفسيره ودرسه إياه بمعناه، ويأخذه به من أوله، فلا يخطيء في وجهين: أحدهما: أن يعلمه القرآن منكوساً، ولا يقرأه كذلك إلاَّ منكوس القلب. الثاني: أن يحفظ الصبي كتاب الله وهو لا يعقل منه حرفاً، فيتكلف استظهار ما لا طاقة له به، وإنما يمر عليه كالعربي يحفظ التوراة بالعبرانية، إن عقل الصبي منه بما يتصل به، ولا فهم ما تقتضيه فيما انتظمت معه ... ". قلت: وكان رأيه هذا مثار جدل بين العلماء، فمنهم من استحسنه ومنهم من استبعد بإمكانية تطبيقه، يقول ابن خلدون: " .. وهو لعمري مذهب حسن، إلاَّ أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا عن الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن؛ لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشيبة فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر تحصيل القرآن لئلا يذهب خلواً منه، ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذه به أهل المغرب والمشرق، ولكن الله يحكم بما شاء، لا معقب لحكمه سبحانه" المقدمة: 4/ 1362 - 13

ثم تنتقل إلى الحساب، فتتمرّن فيه حتى ترى القوانين، فإنه علم عظيم، له خلفت السموات والأرض، وقد نبّه الله سبحانه على حكمة الأرض والسموات من المعاملات إلى منتهى الحركات. ثم انتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسّر لك بهذه المقدمات، ويا غفلة بلادنا في أن تأخذ الطفل بكتاب الله في أول أمره، فيقرأ ما لا يفهم، وينصب في أَمرٍ غيره حينئذ عنده أهم، ولا يبسط هذا المطلوب العظيم بساطه ويعد له نشاطه. ثم تنظر في أصول الدين، ولا أقل مما تضمّنه كتاب "المتوسط" ويطلع على شيء من أصول الفقه "المحصول" أو "نكته" إن استطاله. ثم تنظر في علم الجدل وهو في "المحصول" ولا تضيِّعه فإنه العلم الذي بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع العرب عشرة أعوام. ثم تروي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تشتغل بغير الصحيح، فيذهب عمرك ودينك ضياعاً، إلاَّ أن تحكم ذلك كلّه، فلا بدّ من الاطلاع على مهمات علوم الحديث ومنها معرفة السقيم من الصحيح (¬1). ثم تتعلم تركيب الجميع على آي القرآن، كما رتبناه لك في ¬

_ (¬1) يقول المؤلف -رحمه الله- في سراج المريدين: 239/ أ " ... والله كرم هذه الأمة بالإسناد لم يعطه غيرها، فاحذروا أن تسلكوا مسلك اليهود والنصارى، فَتُحَدِّثوا بغير إسناد، فتكونوا سالبين لنعمة الله عن أنفسكم، مطرقين للتهمة إليكم، وحافظين لمنزلتكم ومشركين مع قوم لعنهم الله وغضب عليهم، وراكبين لسنتهم .. ".

"المشكلين" و"الأحكام" تفصيلاً، وكما أشرنا إليه ها هنا مجملاً، وإن كان من جودة الذهن والجدة وفراغ الوقت للنظر في علمين من هذه العلوم في حالة يقرب عليه مدى التحصيل فليفعل. فقد عرّفنا كم القوانين، وبسطنا لكم في التمكين، فإذا لم تسمعوا، أو سمعتم فلم تفهموا، فلا رجاء في علم ما تعلموا. وَمَثَلُ من يعلم من نفسه قوة في التبسط على هذه العلوم ويقصر عنها، كمثل من يقف على النهر الأعظم فيترك الاغتراف منه، ويغترف من الجداول والخلجان، والمذانب (¬1) والماديانات والحياض والقِلاَت (¬2)، والنهر الأعظم هو الذي لا تكدره الدلاء، ولا يغيضه (¬3) الاستقاء. وهذه عرضة للنصب والمغيظ، بعيدة من المادة والمفيض. ومن تعذّرت عليه منكم الرحلة ببدنه، فليرحل إلى الله تعالى بقلبه، ولا يظن أحد أن الرحلة تفيد بصورتها، كم راحل قرأ وما قرأ، وروى وما درى، ولم يتحصل له كيف ولا أين؟ فعاد على ظهره بحُنَيْن، دع خُفَّيه الاثنين (¬4). ¬

_ (¬1) المَذْنَب هو المسيل بين تَلْعَتَيْن. (¬2) القِلَاتُ جمع قَلْت، وهو الحفرة التي يحفرها الماء الذي يقطر من سَقْفِ كهفٍ على حجر لَينٍ، فيستنقع فيها. (¬3) أي لا تنقصه. (¬4) يقول المؤلف - رحمه الله - في "شواهد الحيلة": 27/ ب مؤكداً هذه التوجيهات القيمة: "أما =

ذكر وجه الشبه القادحة في التأويل، وطريق الخلاص منه بهداية الدليل

فارحل من عالم الشهوات إلى عالم القربات، وسافر من المحسوسات إلى المعقولات، وانظر في الزاد فلا بد منه، والدليل وهو العلم، فلا غنى عنه، فمن وجد معلماً فهو النعيم يهدي إلى السبيل، وينظم الدليل، ويحمي عن البدعة والتعطيل، فإن لم تجدوه، فقد أبدينا لكم سبيل السلوك، فتنوروها، ولكنكم آمنون ما كنتم في الظواهر تجولون، حتى إذا سلكتم بحبوحة التوحيد ودلائله ومتعلقاته، فيعرض لكم مهاوي مظلمة، ومغويات ملبسة. ذكر وجه الشبه القادحة في التأويل، وطريق الخلاص منه بهداية الدليل قد قدمنا أن العقول لا تستقل بدرك العلوم حتى يَصْطَفِيَ الله من خلقه من يلقي إليه ما يَقْصُرُ العقل عن دركه، لكنه إذا عرضه عليه كالرجل ينسى الآية أو المسألة أو الشخص فإذا قرئت عليه أو ذكرت له أو رآه عرفه. ولا يصح أن يأتي في الشرع ما يضاد العقل، فإنه الذي يشهد بصحة الشرع ويزكيه من وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول، فكيف يأتي الشاهد بتكذيب المزكي (¬1)؟ هذا محال عقلاً، وعلى هذا الأصل انبنت مسائل ¬

_ = بعد، فإن الداخل في طلب العلم كثير، والسعيد قليل، وعدم الإنصاف بخطب جليل، وكم من حاضر بعرفة من غير معرفة، ونازل بمنى وما نال مني، وكم قارئ في بغداد خرج وما ظفر بزاد ... جميعهم يأمل الغاية وما حصل عليها، ويقصد النهاية وما انتهى إليها، فقد خلع ثياب الوطن، واستظهر على الغربة، واستوطن يجتهد بزعمه وهو لا يعلم كيف؟ ولا أين؟ يرجع بعد طول المغيب بخُفَّي حُنَيْن". قلت: والمثل: "رَجَعَ فُلَان مِنْ حَاجَتِهِ بخُفي حُنَيْنٍ" أورده القاسم بن سلام في "كتاب الأمثال": 245، والعسكري في "جمهرة الأمثال 1/ 433، والبكري في فصل المقال": 354. (¬1) للتوسع في معرفة آراء المؤلف في هذا الموضوع الخطير، انظر: المتوسط 11، سراج =

الدور (¬1)، أما إنه قد تأتي آيات متشابهات، وأحاديث مشكلات يعارض بعضها بعضاً، ويناقض بعضها دليل الشرع، وها هنا علم عقلي يستضاء به في هذه السُّرْيَةِ (¬2)، ودليل شرعي يرشد في هذه المَضِلَّةِ. إن العقل والشرع إذا تعارضا، فإنما ذلك في الظاهر بتقصير الناظر، وقد يظهر للناظر المقصر أن يجعل الشرع أصلاً فيرد إليه العقل. وقد يرى غيره أن يجعل العقل أصلاً فيرد الشرع إليه. وقد يتوسط آخر فيجعل كل واحد منهما أصلاً لنفسه. فالناظر الذي قدم المعقول سيأتيه من ظاهر الشرع ما يقلب حقيقة الشرع، ولا سبيل إليه. والذي يجعل العقل أصلاً، والشرع تبعاً، إن أخذه كذلك مطلقاً وَرَدَ ما ينكره القلب ببادىء الرأي في مورد الشرع مما يستحيل في العقل، فإن وقف في وجه الشرع فهو مكذب، وإن قال بما في الشرع فهو متناقض، وإن توسط فهو الناظر العدل، يجعل كل واحد منهما أصلاً، عقلاً ونقلاً، وينظم سلك المعرفة من دررهما. ¬

_ = المريدين: 45/ أ، المسالك في شرح موطأ مالك: 2، وينبغي التنبيه على أن الجويني قد سبق ابن العربي في تأصيل هذه القواعد العقدية وذلك في كتابه الإرشاد: 358 - 360، وكذلك الغزالي في رسالة "قانون التأويل" (ط: الكوثري) وقد بينا في دراستنا التمهيدية لهذا المخطوط الرأي الحق في مثل هذه القضايا، فانظره لزاماً. (¬1) قال الشريف الجرجاني: "الدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه" التعريفات: 56، وانظر تفصيل الكلام على الدور وأنواعه في منهاج السنة لابن تيمية: 1/ 308 - 309، والرد على المنطقيين: 257، ودرء تعارض العقل والنقل: 3/ 143 - 144، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 2/ 256 - 259 (ط: تراثنا). (¬2) قال الجوهري: سَرَيْت سُرىً وَمَسْرىً وَأسْرَيْتُ بمعنى إذا سِرْتُ لَيْلاً- الصحاح: 6/ 2376.

ذكر المعنى الذي أوجب العثور في النظر

ولا يعتقد أحد منكم أنه يأتي موضع يعسر فيه التأويل، أما إنه قد تأتي في الشريعة ألفاظ لا يبين الشرع معناها، ولا يهتدي العقل إلى معرفتها، فيلزم إثباتها عقداً، وأما العلم الشرعي، فإن الآية والخبر إذا تعارضا فالآية مقدمة لأنها مقطوع بصحتها، والخبر لا يقطع به (¬1). ذكر المعنى الذي أوجب العثور في النظر أما أنه نبعت طائفة أرادوا أن يلفقوا بين موارد الشرع وأغراض الفلاسفة، وادعوا أنها متلائمة، وأن كلام النبي مع كلام الفيلسوف يخرج عن مشكاة واحدة، ومن ها هنا دخلت المطاعن في التنزيل، ودرست على السالكين السبيل، وحار الناظرون في الدليل. وهذا باطل، فإن القوم تكلموا قابعقول صرة، في معان خفية، وذلك بين من كتاب الله بالكلام (¬2) في إيراد مجادلة الكفار للأنبياء، فما من أمة إلا والرد عليهم في كتاب الله. ولقد فاوضت في ذلك بعض العلماء (¬3) في مسائل أورد عليكم منها ما تجعلونه أصلاً لغيرها. ¬

_ (¬1) انظر في نقد هذه القواعد البدعية ما كتبه شيخ الإِسلام ابن تيمية في كتابه القيم: "درء تعارض العقل والنقل" فقد أتى فيه بالعجب العجاب الذي يحير العقول والألباب، فما من قاعدة من قواعد المؤولة إلا وأتى عليها بالنقض والتزييف، وقد لخص تلميذه الإِمام ابن قيم الجوزية أهم ما جاء في "درء التعارض" وأثبته في كتابه "مختصر الصواعق المرسلة": 1/ 133 فانظره ففيه فوائد جليلة. (¬2) دُوِّنَت بعض هذه المسائل وأوردها الونشريسي في "المِعْيَار المُعْرِب والجامع المُغْرِب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب": 11/ 18 - 27، كما نشر بعضها الشيخ الكوثري باسم "قانون التأويل" (ط: الحسيني 1940). (¬3) يقصد الإِمام الغزالي.

المسألة الأولى

المسألة الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ ... إلى قوله ... الْمَسِّ} [البقرة: 275]، هذا مثل ضربه الله للكفار الذين يسترسلون على التصرف في الأموال برأيهم، ولا يقفون عند حدود الشرع. فقال لي: هذا مثل ضربه الله للكفار الذين يتصرفون في وجوه الاستدلال بعقولهم دون القانون. فقلت له: لا أمنعك من هذا التأويل، ولا أبعده في طريق الدليل، وطال القول إلى أن كانت زبدته: إنه لا بد من إثبات الشياطين (¬1) أولاً وجوداً، وإثبات أنهم أجسام متغذية، وأن الله ملكهم تيسير التصوير كما ملكنا تيسير الحركات، وأن الله يخلق عند كلامهم خواطر في قلوبنا، وأفعالًا في أبداننا، فيقع للمرء بذلك خبط، كما يلحق عند كلام العائن في البدن، ما يلفظ به المرء، وتنهدم به الدار، ويتبدد به المال، وعن هذه عَبَّرَ بقَوْلهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ: "إِن الشَيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدمِ"، وكما يتصرف الدم فينا بالسريان، كذلك تتصرف ثمرة وسوسته فينا بالجريان، فيجري الدم فينا بحكم التغذية، ويجري الحكم المثمر للوسواس علينا بحكمة الله في المعصية. ولما جهلت الفلاسفة هذا قالت: "إِن الصرع أخلاط تدور فيثور في البدن منها ما يثور"، وهذا كان جائزاً غير منكر عندنا، فكذلك قد بينا أن خلقاً ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن العربي حول إثبات وجود الشياطين في كتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس": 9 (25 جـ).

حالهم ما وصفنا، يكون لهم فعل يترتب عليه حكم، وذلك جائز عقلاً، وله مثال من إصابة العين حساً. وفيه بيان من الله ورسوله دليلًا، فلا يقدر ذو لُبٍّ على إنكاره. فبهت حين سمع هذا، وانقاد بحزامة الدليل في أنف الأنفة إلى القبول. وفي لقاء جبريل للنبي وإلقائه الوَحْي إليه شبه بين الوحي والوسواس، حتى قال الجاحدون: "هذا مجنون"، ولكن لما عرضت هذه الشبهة رفعها الله بأن كان جبريل يفارق النبي فيبقى بعده قوياً نشيطاً ضاحكاً نير الوجه كالبدر، صحيح القول، لا خلل في كلامه، ولا كسل في قيامه، ولا ألم في بدنه، والمجنون كاسف اللون، مختل القول، كسلان النفس، مريض البدن. مثال آخر: في مسألة: جرى بيني وبين بعض الأشياخ (¬1) كلام في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث الكسوف حين قال (¬2) في عنقود العنب: "فَلَوْ أخَذْتُهُ لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا" ¬

_ (¬1) هو الإِمام الغزالي. (¬2) نرى من المستحسن في مثل هذا المقام أن نثبت جواب الإِمام الغزالي في هذه المسألة بقلمه كما جاء في "المعيار المعرب" للونشريسي: 11/ 24 - 27، وينبغي التنبيه على أن هذه القضية قد أثارت استنكار العلماء فيما بعد، فنرى الحافظ ابن حجر العسقلاني ينقل هذه الفقرة من القانون وذلك في فتح الباري: 2/ 541 - 542، وكذلك بدر الدين العيني في عمدة القارئ: 7/ 83 وعبد الباقي الزرقاني في شرح الموطأ: 1/ 377. وجواب الغزالي هو كالتالي: "وأما الحديث الثاني وهو العنقود المأخوذ من الجنة وبقاؤه ما بقيت الدنيا لو أخذه، فليس ينبغي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن يمثل ذلك بالبركة كطعام أم سليم ولا بأنه ينمو كما ينمو، ويجتني منه ما يقوت، فكل ذلك مقايسة لطعام الجنة بطعام الدنيا، ولا مناسبة بين فواكه الجنة وفواكه الدنيا في هذه المعاني، بل ينبغي أن يعلم أن فواكه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأن قطوفها دانية، وليس المعنى بقطعها أن تقطع بعينها، وتوصل إلى المعدة بالنقلة، بل تلك الفواكه تبقى ولا تنقص، ولا يتعرض لذواتها، وإنما ذواتها أسباب لحدوث أمثالها في ذات الإنسان، فيكون غذاء الأرواح في الجنة بما يحدث فيها من أمثال تلك الفواكه، ولا يفهم هذا إلاَّ بمثال، فلنمثل هذا في المعرفة فإنها غذاء القلب، ومعلوم أن وجودها في قلب المعلم سبب لوجودها في قلب المتعلم، وليس ذلك سبباً لانتقالها أو نقصانها بل يحدث عن تلك المعرفة في قلب المتعلم آلاف ولا ينقص منها شيء، ومثاله أيضاً الصورة التي تحدث في المرآة من الصورة المقابلة لها، فلو قابلت الصورة الواحدة ألف مرآة لحدث فيها ألف صورة من غير أن تنتقل الصورة وتنتقص، ولو تصور أن يكون للمرآة لذة بما يحدث فيها من أثر الفواكه، لقيل أنها تغذت وتنعمت وتفكهت، بل لو جعل غير المعرفة غذاء للقلب، ولذيذاً عنده لذة دائمة، من أسباب يستعار لها اسم الفواكه، وهي غير مقطوعة ولا ممنوعة، فقد ظن ظانون أن المعرفة هي عين الفواكه في الجنة، وأن الفواكه كناية عن المعارف التي تقوم مقام الفواكه في اللذة ولكن تلك اللذة تدرك بعد الموت، وأن اتساع صدره بالمعارف هو اتساع جنته وأن جنة كل إنسان بقدر سعة معرفته بالله تعالى وجل بجلاله وحكمته وأفضاله، ولذلك لا يضيق البعض من أهل الجنة عن البعض. وأما أهل الحق فإنهم جعلوا هذه المعارف سبباً لاستحقاق الجنة، لا عين الجنة، وعلى كل مذهب؛ ففواكه الجنة لا تعين بالطريق التي ذكرتها، وهذا التحقيق إذا كان لا تحتمله عقول الخلق وأفهامهم القاصرة، فينبغي ألاّ يتعرض له، فإنهم لما ألفوا في الدنيا أن الشيء لا يحصل في نفوسهم إلاَّ بالانتقال، لم يفهموا أمور الجنة إلّا كذلك، لا أن الشيء عندهم هو الأجسام، وذهلوا عن مثال المعرفة والمرآة كما ذكرت، وأما امتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخذه، وامتناع فواكه الجنة في الدنيا، فكامتناع صورة المرآة في الجهة بدلًا عن العين وذلك غير ممكن، لأن الصفة التي تتهيا بها الحدقة لقبول صور المرئيات لا توجد في الجهة، فكذلك الصفة التي بها يحصل إدراك عالم الآخرة غير حاصلة في النفس قبل الموت، وإن كانت حاصلة فهي محجوبة بالأجفان المغمضة بعضها ببعض، فإنه لا يتصور أن تقبل صور المرئيات ما لم يرتفع الحجاب وهذه الشهوات، وأما النفس في هذا العالم فهي حجاب عن إدراك عالم الآخرة وما فيها، وقد ينقشع هذا الحجاب على الندور بهبوب رياح العطف لمن تعرض لنفحات الرحمة بتصفية باطنه وقطع هَمِّهِ عن الدنيا، وإقباله على الله تعالى بكنه همّته، فيكون ذلك الانقشاع في لحظة كالبرق الخاطف، ثم يعود ولكن يظهر في تلك اللحظة ما ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرض الحائط، ومن انقشع عن هذا الحجاب فهو الذي سمي نبياً أو ولياً وقوله عليه السلام: "لَوْ أخَذْتُهُ لأكَلْتمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا" معناه أنه في نفسه مِمَّا لا يفنى، وليس الأكل منه بطريق نقلة وإفناء، بل بطريق أنه فياض بأمثاله على الأرواح فيضاً لا ينقطع، فلو انتقل إلى الدنيا لبقي على حاله، ولكن انتقاله غير ممكن". المعيار: 11/ 25 - 27.

المسألة الثانية

فأشار إلى أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وأن معنى أكلها: أن يخلق للعبد في نفسه مثلها، لا أن تنتقل من الغصن إلى البطن، كما ينتقل مثال العلم من النفس إلى النفس بوساطة التعبير، وهذا تقصير عظيم فإنه تمثيل أجساد بأعراض. واعجبوا لهذا الكلام، فإنه قلب للتأويل، وقد قام الدليل على أن ما في الجنة أجساد مخلوقة، بيد أنها معصومة عن الاستحالة والتعفن بدوام البقاء، وقد كان يجوز أن يكون طعام الدنيا كذلك، إلاَّ أن العادة جرت باستحالته، ولهذا خلق، وتلك خلقت للسلامة عن الآفات، ولذلك صارت دار السلام. فإذا قطعت ثمار دار الدنيا أخلقت بعد حول، وإذا قطعت: ثمار الجنة أخلفت في الحال، وبهذا كانوا يأكلون منه ما بقيت الدنيا، فلا مفارقة بين الطعامين إلاَّ في وجود الدوام، وعدم الاستحالة، وهذا أولى من قلبها من صفات الأجسام إلى حكم المعاني، فقلب الحقائق لا معنى له، وهو رأي فلسفي مبناه على أن الدار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال، وقد بينا فساد ذلك في كتب "الأصول". المسألة الثانية: في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] إلى آخر الآيتين، لما قرع هذا الكلام سمع العلماء قالوا: كلام الله صدق، ولا بد من وزن الأعمال، ثم اعترضتهم أنها أعراض، فكيف توزن؟.

فقالت طائفة: لا وزن، ويخلق الله في كل كفة من الاعتماد بحسب ما علم فيها من الِإخلاص والسواد (¬1). وقالت طائفة، لا كفة ولا شاهين، ولكن يعرف الله العباد بمقادير أعمالهم بما يخلق لهم في قلوبهم، فتقوم الحجة عليهم بما عملوا فيما علموا، قاله مجاهد، وعجب له. ولكن ليس في هذه المسألة تبديع ولا تكفير، وإنما هي جهل بوجه الدليل، إذ قد اتفق الكل على أنه لا بد من الاستعارة في هذه الآية. فأهل السنة تجاوزوا في الأعمال على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمعتزلة وضعوا المجاز في الوزن، فقالوا: يعبر به عن العلم، إذ فائدة الوزن العلم، والعرب تعبر عن الشيء بفائدته في سبيل المجاز، كما تعبر عنه بمقدمته. قال بعض علمائنا: فإن حكمنا في هذا الموضع بتغليب أحد الوجهين، كنا حاكمين في موضع المطلوب فيه القطع بالظن (¬2). ¬

_ (¬1) قال المؤلف في قانون القاهرة: 142/ أ: "ونفت الجهمية والمعتزلة والأباضية وبعض الملحدة والإسماعيلية الميزان وقالوا: لا ميزان إلاَّ العدل والقسط، وقيل: إنما يوزن ثوابها". قلت: وللتوسع في هذا الموضوع انظر: سراج المريدين: 40/ أ. (¬2) جواب الإِمام الغزالي لابن العربي هو كالتالي: "الوصية الثالثة": أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات، فإن الحكم على مراد الله سبحانه ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالظن والتخمين خطر، فإنما تعلم مراد المتكلم بإظْهَارِ مُرَادِهِ، فإذا لم يظهر، فمن أين تعلم مراده؟ إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات ويبطل الجميع إلا واحداً، فيتعين الواحد بالبرهان. ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها كثير، فمتى ينحصر ذلك؟ فالتوقف في التأويل أسلم. مثاله: إذا بأن لك أن الأعمال لا توزن، وورد الحديث بوزن الأعمال، ومعك لفظ الوزن ولفظ العمل، وأمكن أن المجاز لفظ العمل، وقد كنى به عن صحيفة العمل التي هي محله حتى توزن صحائف الأعمال، واحتمل أن يكون المجاز هو لفظ الوزن، وقد كنّى به عن ثمرته وهو تعريف مقدار العمل، إذ هو فائدة الوزن، والوزن والكيل أحد طرق التعريف، فحكمك الآن بأن المؤول لفظ العمل دون الوزن، أو الوزن دون العمل من غير استرواح فيه إلى عقل أو نقل حكم على الله وعلى مراده بالتخمين". قانون التأويل للإمام الغزالي: 240 - 2

وهذا العالم على علو مرتبته في التأويل غلبت عليه ها هنا دقيقة، وذلك أن الله سبحانه لما قال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} آمنا به وعرفناه، فتشوقت نفوسنا إلى الموزون، فأخبرنا أنها الأعمال المكتوبة في الصحائف، فقلنا في نظرنا، وكيف توزن الأعمال وهي أعراض؟ فقيل لنا (¬1): توزن صحفها وعبّر بها عنها لأنها محلّها، على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذلك في كلام العرب "أكْثَر مِنْ رَمْلِ بِيرِينَ وَمَهَى فلسْطِين" (¬2). قيل لنا: وكيف تعرف مقادير الأعمال من الصحف؟. قلنا: يخلق الله في صحيفة من الثقل بقدر ما علم من العمل، فنكون قد حملنا قوله: "وَالوَزْن" وقوله "ثَقُلَتْ" وقوله "خَفَّتْ" وقوله "مَوَازِينُهُ" وهي أربعة ألفاظ على الحقائق، ويكون المجاز في واحد، ولا يحمل جميعها على المجاز بسبب لفظ واحد، رأيُنا في ذلك أهدى سبيلاً، وأقوم قيلا. فناشدتكم الله، إلا ما تأملتم هذا الكلام بسياقه، وحكمتم فيه بيني وبين معلمي، فإني استجرأت عليه بما تعلمت منه، و"الحَدِيدُ بِالحَدِيدِ يُفْلَحُ" (¬3) وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] فكيف يجد عمله وقد فني عمله قبل أن يفنى، ولكنه مؤول ¬

_ (¬1) نقل المؤلف جواب أهل السنة والجماعة لمثل هذا الاعتراض في قانون التأويل: 41/ أفقال: " ... لعلمائنا جوابان: الأول: أن الصحائف هي التي يقع بها الوزن. والثاني: أن الله تعالى يخلق أجساماً على صورة الأعمال يقع بها الوزن، ويخلق الله فيها الثقل والخفة على حسب مقادير علمه فيها، ويكون ذلك علامة على النجاة أو الهلكة ... ". (¬2) لم أعثر على هذا المثل في كتب الأمثال التي استطعت الرجوع إليها، وقد ذكره المولف بهذا اللفظ في الأحكام: 1152، وبيرين قرية من قرى حمص بسوريا، الحموي: معجم البلدان: 1/ 526. (¬3) هذا المثل أورده العسكري في جمهرة الأمثال 1/ 345، وابن سلام في الأمثال: 96، والميداني في مجمع الأمثال 1/ 11، والبكري في فصل المقال: 134، وانظر مادة "فلح" في لسان العرب، ومعنى الفَلْحُ هو الشَّقُّ ومنه فلاحة الأ

قطعاً، فإما أن يكون معناه: يوم تجد كل نفس ما عملت مكتوباً، أو موزوناً، أو ثواباً، أو عطاء، وكله مجاز على الوجه الذي قدمناه فاحمله عليه. فإن قيل: فهلا جمعت في القرآن كتاباً على نحو ما ذكرته لنا ها هنا مثالاً (¬1)، فيكون لك أجراً جارياً بعدك، ومنفعة للناس في استبصارهم بك، فأما هذا القانون فإنما هو منهاج للعالم المستبصر، ووصية للذكي اللوذعي، والناس رجلان: عاجز بسوسه (¬2) أو بسبب من أسباب الدنيا، أو مقصر، وكلاهما كان يجد هذا الكتاب ملجأ وملاذاً وسلماً للمعرفتين: أحدهما: التوصل إلى الغاية. والثانية: إطلاع المقصر على طريق، إنْ لَمْ يَقْدِرْ على سلوكها أمِنَ بِهَا. فالجواب: إنا كنا أملينا في القرآن كما قدمنا كتاباً موعباً "أنوار الفجر في مجالس الذكر" قريباً من عشرين ألف ورقة (¬3)، في نحو من عشرين عاماً، ولكنه لم ينضبط للخلق، وإنما حصل كل واحد منهم جزءاً دون جزء، وفي وقت دون وقت، بحسب الفشل والنشاط، وعلى قدر عدم العوائق. ¬

_ (¬1) انظر نحو هذا القول في "القبس" شرح الموطأ مالك بن أنس: 317 - 318 (مخطوط الخزانة العامة رقم: 1916/ ك). (¬2) أيْ بِطَبْعِهِ. (¬3) الذي نقله ابن فرحون في الديباج: 283 عن المؤلف في كتابه "القبس" أن كتاب "أنوار الفجر" يقع في ثمانين ألف ورقة، وهذا يناقض ما معنا في "قانون التأويل" فهل أخطأ ابن فرحون في النقل؟ هذا ما تبادر إلى ذهني أول وهلة، ولكن بعد رجوعي إلى "القبس": 318 (المخطوط السابق) وجدت أن ابن العربي قال فيه: "وقد كنا أملينا فيه (أي في التفسير) في كتاب "أنوار الفجر" في عشرين عاماً ثمانين ألف ورقة، وتفرقت بين أيدي الناس، وحصل عند كل طائفة منها فن، وندبتهم إلى أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفاً، وهي أصولها التي ينبني عليها سواها، وينظمها على علوم القرآن الثلانة: التوحيد، الأحكام، التذكير ... " قلت: وبعد الاطلاع على هذا الكلام اتضح المبهم وزال الإشكال.

أما أنه قد تحصل منه، "أسماء الله تعالى" في أربعمئة ورقة، ويحصل منه كتاب "النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمائه ومعجزاته وجُمَلٍ من أخباره" في نحو من ألفي ورقة، وكتاب "المشكلين" من القرآن والحديث ألف ورقة وخمسمئة ورقة، رؤوس مسائله في كتاب "الأفعال" من "الأمد"، وتحصل منه "مختصر الأحكام" في ألف ورقة، فإذا وقفتم على هذه المجموعات، كنتم قد حصلتم كثيراً، وتوسلتم بها إلى باقيها، وقد كان يمكن ما ذكرت، ولكن وقفت عند مقام ترددت فيه، وهو أنه هل يصنف على السور؟ أو على الأبواب كما رتب الحديث على المسند؟ أو على التصنيف فيجعل من أسماء الصحابة مسنداً؟ أو على العبادات والبيوع والنكاح مُبوّباً؟ فإذا رتب تفسير القرآن على الأبواب كان للعلماء، وإذا رتب على السور كان لكافة الناس، لكنه يعرض فيه التكرار، ويعسر ضبطه على المؤلف، وفهمه على القارئ، فإن المعنى يكون في سورة كاملاً، ويكون في أخرى مفترقاً أجزاؤه على السور، فيفتقر إلى مزيد ضبط، ويتسع فيه الخرق، لأنك إذا شرحت في كل موضع وهو الحق، فإن الله لما كرَّرَهُ مطلقاً كررْهُ أيضاً أنت مطلقاً، وإذا كرَّره مقيداً، كرَّره أيضاً أنت مقيداً، يأتيك منه نشر يملأ الأفق، وإن اختصرت وأشرت، لم تبلغ رضا من سألك، ولا مهدت السبيل لمن سلك. هذا من إكباب الخلق على الدنيا، وقصورهم عن التعليم، وكسلهم عن السعي في الترقِّي إلى درجات الكمال، واقتناعهم بما يتألف من دنياهم، ويستعجلون به منفعتهم، فالنقد القليل عندهم خير من الكالئ الكثير، مع ما يعانون من درك المراتب الدنيوية بمسألة تقيد، أو عقد يعقد، أو رواية يجتزأ بها لقصد الناس إليه فيها، وتصدّره بينهم لأجلها، وهذا كله نظر للدنيا، وإعراض عن الدار الأخرى.

وما شغلني عن ذلك معاش أريشه، ولا ولاية استجدها، وإنما أقعدني ضعف الطالب لها، وكثرة المطالب عليها، وذلك الذي أدخلني في معرفة السلطان، فإن الجاهل أو الفقير لا يفتقر إليه، والغني قبل اليوم كان في غنى عنه. وأما وقد امتدت الأطماع إلى الأموال، وضاقت عن مآل الرجال، فتدعو الضرورة إلى السلطان لأكثر الأغنياء، ولا سيما أصحاب الضياع؛ لأن المملكة في كل أمة قد سحبت ذيلها على الضياع، وقويت على الأموال الأطماع، فصاحب الضيعة مدفوع إلى معرفة الأمير، ولا يرى ضرورة ليدفع عن نفسه معرة، ولتحقيق وعد الصادق صلوات الله عليه حين دخل دار رجل من الأنصار فرأى فيه آلة الحرث فنظر إليها وقال: "مَا دَخَلَتْ قَط دَار قَوْم إلاَّ وَأدْخَلَتِ الذل" (¬1)، وقد تدرك الآفة للمعتزل للعبادة من وجوه ذكرناها في "مسائل الصحبة والعزلة". وأما العلم المفتقر إلى السلطان، فإنه إن كان فقيراً أو غنياً وسكت عن العلم حصل أحد الرجلين المتقدمين، وإن تكلم بالعلم وأظهره حسده المقصرون عن درجته، إذ ليس لهم من الدين ما ينصفون به، فيقرون له بالشفوف (¬2) عليهم في مرتبته، إذ يتوقعون على دنياهم أن يحوزها دونهم أو ينقصهم، فينسبونه إما إلى البدعة، وإما إلى التخليط وهي سالمة، فذاك الذي دعاني إلى مداخله السلطان، ولنا في ذلك أعظم أسوة، فقد كان الأنبياء فيما سلف على قسمين: منهم من يعضده الله بالقوة والجند، ويأذن له في القتال. ¬

_ (¬1) نحو هذا الحديث رواه البخاري في الحرث والمزارعة: 3/ 66، وقال ابن الأثير في شرح غريب هذا الحديث إن أهل الحرث تنالهم المذلة بما يطالبون به من الخراج والعشر ونحوهما. جامع الأصول: 11/ 766. (¬2) الشفوف جمع شِفّ وهو الفضل.

ومنهم من يكون مخلّى مع الخلق، فيبعث الله إليه ملكاً من ملوك الدنيا يعضده على تبليغ أمر ربه، ويحميه وإن كان لا يعتقد ما يقوله. ومنهم من لا يعضده بجند ولا قوة، ولا يكيف له من البشر أحداً، فيجترىء عليه الملأ بالإهانة والقتل، فإن شاء حماه كما فعل بنوح، وإن شاء ابتلاه كما فعل بيحيى. وهذه كلها سنن الله في عباده، وأسوته في خلقه، فإنه خالف أحوال الأنبياء ونوَّعها بين النعمة والبلاء، لتكون سلوة لمن أتى، وإليه الِإشارة عند بعضهم بقوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]. قيل بمعبودهم، وقيل: برسولهم (¬1). وقيل: بمن قلدوا كمالك والشافعي (¬2). وقيل في طرف آخر بإبليس في الجن، وآدم في الإنس. وقيل في طريق آخر بإبراهيم في الموقنين، ويعقوب في المحزونين، وبيوسف في المسجونين، وبأيوب في الصابرين، وبموسى في المخلصين، وبعيسى في الزاهدين، وبمحمد إمام الخلق أجمعين. فإن قيل: فقد نهجت في التفسير سُبُلاً وأوضحت للسالك دَلَلاً، فكيف التخلص للسائر فيها مع الوعيد الوارد في تفسير القرآن بالرأي (¬3)، وأنى يسوغ التسور مع ذلك عليها بالأقوال من غير نقل. ¬

_ (¬1) أُثِرَ هذا القول عن أنس بن مالك ومجاهد، انظر: الماوردي "النكت والعيون": 2/ 446 البقاعي: نظم الدرر: 11/ 477، السيوطي: الدر المنثور: 5/ 316 (ط: 1983). (¬2) انظر لطائف الإشارات: 4/ 34. (¬3) أخرج الترمذي في التفسير رقم: 2953 عن جُنْد بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول =

ذكر القول في تفسير القرآن بالرأي

ذكر القول في تفسير القرآن بالرأي قلنا: ليس في الوعيد على ذلك حديث صحيح، لكنه معنى صريح في الملة حتى في الدين. والرأي مصدر رأيت بقلبي، كما أن الرؤية مصدر رأيت بعيني (¬1)، ومن رأي القلب ما يكون باطلاً، ومنه ما يكون حقاً. فأما الحق فكل رأي يكون عن دليل. وأما الباطل ما كان عن هوى مجرد. وتحقيق الغرض المطلوب أن للناظر في القرآن مآخذ كثيرة أمهاتها ثلاث: الأولى: النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الطراز الأول، لكن حذار أن تعَوَّلُوا فيه إلاَّ على ما صَحَّ، ودعوا ما سُوَّدَت فيه الأوراق، فإنه سواد في القلوب والوجوه (¬2). ¬

_ = الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ في كِتَابِ الله عَز وَجَل بِرَأيِهِ فَأصَابَ فَقَدْ أخْطَأ". قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود في العلم رقم: 3652، والنسائي في كتابه فضائل القرآن رقم: 111، والطبري في تفسيره رقم: 80 (ط: المعارف). قلت: ومدار هذا الحديث على سهيل بن مهران القُطعي وهو ضعيف، قال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقد نقل إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقد وثقه العجلي، انظر ابن حجر: تهذيب التهذيب: 4/ 261. (¬1) انظر: الأزهري: تهذيب اللغة: 15/ 316 - 326، ابن فارس: مقاييس اللغة: 2/ 72 - 473. (¬2) هذه القواعد المنهجية في دراسة العلوم الشرعية كثيراً ما يردّدها ابن العربي في كتبه، إذ يقول في الأحكام: 583، "وقد ألقيت إليكم وصيتي في كل وقت ومجلس، ألاَّ تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده" ويقول في سراج المريدين: 127/ ب " ... فلا تلتفتوا إليها (أي إلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة) فإن مثل من يطلب العلم بالحديث الضعيف والباطل، كمن =

الثانية: الأخذ بمطلق اللغة، فإن القرآن أُنْزِلَ بلسان عربي مبين. الثالثة: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضب من قوة المنزع، وهذا هو الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - تأويل دعائه الله في هبته لابن عباس فقال: "اللهُم فَقِّهْهُ في الدِّينِ، وَعَلمْهُ التأوِيل" (¬1) وهي أحد أقوال العلماء: الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء في قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. ومن ها هنا اختلف الصحابة في معنى الآية (¬2)؟ فأخذ كل أحد في رأيه على منتهى نظره في المقتضى. والضابط لهذا كله أن يكون الناظر في القرآن يلحظه بعين التقوى، ولا يميل به إلى رأي أحد للهوى، وإنما ينظر إليه من ذاته ابتغاء علم الله ومرضاته، وهو الأول. الثاني: أن يكون نظره بعد استقلاله بشروط النظر كما قدمنا، ولا يسترسل على جميعه، وهو لم يستوف شروط الناظر فيه، فَإِنَّ أصْلَ التخليط في تفسير من تسور -ممن لا يستكمل شروط النظر فيه- عليه. ¬

_ = يُصَلِّي بطهارة الماء المتغير والنجس، فلا يُطلب الحق إلاّ بالحق، ولا يُعضد الصحيح إلاّ بالصحيح". (¬1) أخرجه بهذا اللفظ الإِمام أحمد في مسنده: 4/ 127، 316 وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، والفسوي في كتابه "المعرفة والتاريخ": 1/ 494 وابن سعد في الطبقات: 2/ 365، والحاكم في المستدرك 3/ 534 وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) انظر أقوال الصحابة رضي الله عنهم في الدر المنثور للسيوطي: 2/ 66 (ط: دار الفكر: 1983).

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب فإذا وصلتم إلى هذا المقام من اليقين بصحة الاعتقاد، والنص بالنظر والاستبداد، فقد خرجتم عن عهدة الجهل التي لزمتكم في قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وتعين عليكم الخروج عن عهدة الخدمة بشكر النعمة فيما أسدى إليكم، وأنعم عليكم، حسب ما توجه من التكليف إليكم، وخذوا خبراً تستفيدون منه بصراً: دخلت يوماً على بعض الأشياخ (¬1) وعلى كمّي أوراق قد قيدتها، وكراريس قد استحسنتها، فقال لي: أراك تستكثر منها! واعلم أنك لا تقيّد حرفاً ولا تضبط كلمة، إلاَّ وأنت مطلوب على العمل بها، ويكون يوم القيامة حجة عليك، وأنى تطيق ذلك؟ فانظر لنفسك. وحملني الحرص على الطلب ¬

_ (¬1) وهو الإِمام الغزالي إذ قد صرح باسمه في أثناء ذكره لهذه القصة في سراج المريدين: 237/ أ.

على الاستكثار من التقييد، ووقعت الآن فيما حَذَّرني منه، فإني لا أقدر على العمل بما علمت، والله المستعان. فإن قيل: وهل يقدر أحد على العمل بما علم؟. قلنا: إن الله سبحانه لم يكلف عباده إلاَّ ما يطيقون (¬1)، وقد سألوه ألاَّ يحمّلهم ما لا طاقة لهم به فقالوا: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: نعم، وقد فعلت (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (¬3) ولكن هذا إنما يكون في الأوامر، فأما النواهي فالعبد مأمور بالانكفاف عنها على الإطلاق، إذ ليس فيه كلفة إِلا من جهة مجاهدة النفس، وحذف الشهوات، وذلك مُمْكِنٌ عادة، فأما القيام بحق الخدمة في باب الأوامر، فذلك القدر هو الذي وقع عنه العجز، وهو الذي كره النبي - صلى الله عليه وسلم - تعاطيه للخلق فقال: "عَلَيْكُمْ مِنَ الأعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَ الله لَا يَمَلُّ حَتى تَمَلُّوا" (¬4). وكما جعل العلم قسمين: منه ما يدركه الخلق، ومنه ما لا يدركه الخلق، وجعل الكتاب قسمين: منه محكم هو أم الكتاب، وآخر متشابه، ¬

_ (¬1) انظر هذا المبحث في المتوسط: 74 - 77. (¬2) أخرجه مسلم في الإيمان: رقم: 199، 200. (¬3) أقرب رواية إلى رواية المؤلف هي ما أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 2 (ط: الأعظمي) وانظر نحوه في مسلم كتاب الحج رقم: 1337، النسائي في الحج: 5/ 110، وابن حبان في صحيحه: 1/ 156 (ط: شاكر). (¬4) سبق تخريجه صفحة: 565 تعليق: 3.

ذكر المحكم والمتشابه

كذلك جعل العمل قسمين: منه ما يتأتى تكليفه، ومنه ما يعسر على جبلّة البشرية تعاطيه. فإن قيل: وعلى الذكرى فما معنى كونه محكماً ومتشابهاً؟. ذكر المحكم والمتشابه فقل: قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. قلنا: قد بيناه في كتاب "المشكلين" عند ذكر هذه الآية بياناً مستوفياً، لبابه: إن القرآن محكم كله، كما قال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]. وهو أيضاً متشابه كله كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]. ومنه محكم، ومنه متشابه، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، والمعنى الذي به صار القرآن كله محكماً، بذلك المعنى صار كله مشابهاً، والمعنى الذي به صار منه آيات محكمات، بذلك المعنى صار منه آيات متشابهات (¬1). ¬

_ (¬1) قال المؤلف رحمه الله في المحصول في علم الأصول: 34/ ب في بيان المحكم والمتشابه ما نصه: "اختلف الناس في ذلك على أقوال كثيرة ... فمنهم من قال إنها (أي الآيات المتشابهات) آيات الوعيد، ومنهم من قال إنها آيات القيامة، ومنهم من قال إنها أوائل السور، ومنهم من قال إنها الآيات التي تمتنع ظواهرها على الله كآية الإتيان والمجيء وغيرها، والصحيح أن المحكم ما استقل بنفسه والمتشابه ما افتقر إلى غيره وللتوسع في معرفة رأي المؤلف في هذا الموضوع، انظر: "القبس" في شرح موطأ مالك بن أنس: 320 (مخطوط =

فأما كونه محكماً كله فبمعانٍ كثيرة: منها اطراده في البلاغة، وانتظامه في سلك الفصاحة، واستواء أجزاء كلماته في أداء المعنى، من غير حشو يستغنى عنه، أو نقصان يخل به، واختصار القول الطويل الدال على المعنى الكثير. قال الأصمعي (¬1): كنت في بعض أحياء العرب، فإذا بجارية صغيرة السنن وهي تقول: قبلت محبوباً بغير حلة ... مثل الغزال قائماً في دلة (¬2) فقلت لها: ما أبلغ كلامك! وأفصح مقالك!. قالت: أبلغ من ذلك من جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين، وبشارتين، وذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى .... -إلى قوله- الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]. فقدله: {وَأَوْحَيْنَا} وقوله {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} خبران. وقوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} نهيان. وقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} بشارتان. وقد قال أهل الِإشارة: في القرآن ثلاث آيات جمعت بين عذرين ¬

_ = الخزانة العامة 25 جـ) لوحة: 268 (مخطوط الخزانة العامة: 1916)، ولمعرفة القول الفصل انطر "الإكليل في المتشابه والتأويل" لابن تيمية (ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ط: صبيح 1966). (¬1) هو عبد الملك بن قُرَيْب، إمام من أئمة اللغة، روى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره، توفي: 216، انظر عنه: ابن قتيبة: المعارف: 543، أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين: 80 - 105، التنوخي: أخبار العلماء النحويين: 218 - 224. (¬2) الدَلُّ هُوَ الغُنْجُ وَالشَكْلُ.

ونسخين وأمرين ونهيين ورخصتين وكرامتين: فأما العذران فقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183 - 184] كأنه قال لهذه الأمة: لم تختصوا بهذا، ولا ابتُدِئْتُمْ به، بل فرض على من كان قبلكم، ثم إنه لم يجعل الدهر كله، وإنما جعل أياماً قلائل. وأما النسخان فنسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]، ونسخ تحريم الوطء بعد النوم في أثناء الليل. وأما الأمران فالتكبير، وإكمال العدة، قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وأما النهيان: فالأكل والجماع وهو حقيقة الصوم. وأما الرخصتان: فالفدية للشيخ، والفطر في السفر. وأما الكرامتان: فإنزال القرآن في شهر رمضان، وليلة القدر. فترى كيف قصر القول وطال المعنى، وفيه أيضاً حسن التصريف بالعبارة في التصريح والإِشارة، ورصف الألفاظ المطردة، ورس المعاني، وربط المقاصد، وحسن الأداء إلى الأسماع. وأما كونه متشابهاً: فبمعنى واحد، وهو ما وصفناه به من الأحكام الذي يجري في جميع سوره بل في آياته. وأما الذي به كان منه آيات محكمات هي الأم، ومنه آيات متشابهات، فذلك في طريق البيان والعلم، إذ منه آيات محكمات يعلم معناها، ويفهم

المراد معها، ومنه آيات متشابهات لا يفهم معناها لاشتباهها بما يصح أن يكون موافقاً للمحكم، وربما لا يوافقه، أو لانغلاق باب المعرفة، فهذا أصل المحكم والمتشابه، فابن عليه، وله أمثلة كثيرة منها: قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقد ذكرنا فيها في "شرح المشكلين" خمسة عشر قولًا (¬1). واختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال تمر كما جاءت ولا يتكلم فيها (¬2). الثاني ومنهم من قال يتكلم فيها مع من يتحقق حسن عقيدته ويقين استرشاده، ألَا ترى إلى قول إمام الأئمة مالك: "الاسْتِوَاء مَعْلُومٌ وَالكَيْفِية مَجْهُولَة، وَالسؤَالُ عَنْهُ بِدْعَة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر هذه الأقوال في قأنون الأسكريال: 37/ أب-38/ أ، فقد توسع في إيراد الحجج والبراهين التي تثبت مذهب الأشعرية، وانظر: السراج: 166/أ، المحصول في علم الأصول: 35/ أ (وقد تأثر فيه بشيخه الغزالي في المنخول من علم الأصول: 286 - 287)، المتوسط: 20. (¬2) منهم سفيان بن عيينة، روى الدارقطني بإسناد صحيح عن سفيان أنه قال: "هِيَ كَمَا جَاءَتْ، نُقِرُّ بِهَا، وَنُحَدِّث بِهَا" كتاب الصفات: - 71 رقم: 63، وأورد هذا القول الذهبي في العلو: 165، وينبغي أن ندرك أن مثل هذه العبارات الصادرة عن بعض علماء السلف لا تتنافى مع ما قرروه من الإثبات، لأن مرادهم بمثل هذه الأقوال إنما هو ترك الكلام في معنى كيفيتها، لأن معرفة الكيفية لا سبيل إليه. (¬3) رَوَى هذا القول جمع غفير من أئمة الحديث وحفاظه منهم: الدّارمي في الرد على الجهمية: 280 (ضمن عقائد السلف)، والبيهقي في الأسماء والصفات: 291 بسند جيد (كمال قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 13/ 407)، وأبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة الإِمام مالك: 60/ 326، والصابوني في عقيدة أهل الحديث: 1/ 110 (ضمن الرسائل المنيرية). قال الإِمام الذهبي في العلو: 103 - 104 "إن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وإن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وإنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف"

الثالث: ومنهم من أطلق القول كسُفْيان بن عُيَيْنة (¬1) قال: وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: هي وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَا} نٌ [فصلت: 11] سواء (¬2). وأشبه قول فيه ثلاثة: قول سفيان هذا، وقول من قال إنه بمعنى استولى (¬3)، ¬

_ = قلت: وعليه فإن قول الإمام مالك هذا إنمَا نَفَى فيه علم الكيفية، ولم ينف حقيقة الصفة. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: "ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى علم الكيفية إذا أثبت الصفات، وأيضاً فإن من ينفى الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فمن قال: "إن الله ليس على العرش" لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، لما قالوا بلا كيف، وأيضاً فقولهم: "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" مجموع الفتاوى: 5/ 41 - 42. (¬1) هو سُفيان بن عُيَيْنَة بن أبي عمران، أبو محمد الهِلاَلي الكوفي ثم المكي الإِمام الكبير، حافظ العصر، روى عن ابن شهاب الزهري وغيره، قال الإِمام الشافعي: لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز، توفي رضي الله عنه عام 282. ابن سعد: الطبقات 5/ 497، البخاري: التاريخ الكبير: 4/ 94، الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/ 185 - 187، ابن حجر: تهذيب التهذيب: 4/ 117. (¬2) لم أعثر على هذا القول في المصادر التي استطعت الوقوف عليها. (¬3) قلت: وإلى هذا القول ذهب عامة المعتزلة، انظر القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن: 1/ 73، 351، وفي تنزيه القرآن: 176، 53، وفي شرح الأصول الخمسة: 226، وإلى نفس هذا القول ذهب أغلب الأشاعرة، منهم الغزالي في الاقتصاد: 104، والآمدي في غاية المرام 141، ورفضه البيهقي (وهو أشعري المذهب) في الأسماء والصفات: 412، وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية تأويل الاستيواء بالاستيلاء من اثني عشر وجهاً. وبين أن حجج المتأولين في ذلك متهافتة لا تنهض أن يعارض بها عقل صريح، فضلاً على أن تعارض المنقول الصحيح. مجموع الفتاوى: 5/ 136 - 153. وقال الإِمام الخطابي في كتابه "شعار الدين": (فيما نقله عنه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية: =

وقول من قال: فعل في العرش فعلًا سماه استواء (¬1). وقد قال لنا محمد بن طاهر المقدسي (¬2)، قال أبو المظفر شاهفور الإسفراييني (¬3) معناه: منع أن يكون فوق العرش شيء، وهو أحد معنى قولنا: استوى فلان على المرتبة (¬4)، وهو بديع عظيم، قد قررناه عنه بلفظه في "شرح المشكلين" واختصرناه ها هنا لطوله، وما ذكرناه دلالة على جميعه (¬5)، وإذا ¬

_ = 2/ 438): " ... ولو كان معنى الاستيواء ها هنا الاستيلاء لكان الكلام عدم الفائدة، لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل الأشياء، وبكل قطر وبقعة من السموات والأرض وتحت الثرى، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع عن الشيء، فإذا وقع الظفر قيل استولى عليه، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده"، وانظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم: 2/ 127. (¬1) هذا القول هو لأبي الحسن الأشعري، وقد حكاه عنه البغدادي في أصول الدين: 113 وذكره القرطبي في الأسنى: 226/ أ. (¬2) هو محمد بن طاهر المقدسي، أبو سعيد الزنجاني، لم أعثر له على ترجمة، وقد سبق ذكره في الصفحة: 439، كما ذكر ابن خير في الفهرست: 258 - 259 أن ابن العربي سمع عليه كتاب "الإرشاد" والشامل للجويني. (¬3) هو طاهر بن محمد الإسفراييني، من كبار أئمة الكلام على طريقة الأشعري، شافعي المذهب، له كتاب مشهور هو "التبصير في الدين" (مطبوع بتحقيق الكوثري) توفي رحمه الله عام: 471. السبكي: طبقات الشافعية: 3/ 175 (ط: الحسينية). (¬4) هذا القول هو لأبي الحسن الأشعري، نَسَبَهُ إليه القرطبي في "الأمد الأسنى": 226/ أ (مخطوط عارف حكمت). (¬5) قلت: كان الأولى لابن العربي وهو الإِمام القدوة أن يقتدي بسلفه الصالح من أئمة الفقه المالكي العظماء، فقد أجمع المحققون منهم على نهج طريق السلف في الاعتقاد والسلوك، يقول الإِمام أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي الأندلسي (ت: 429) في كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول". [قال أهل السنة في قول الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أن الاستواء من الله على عرش المجيد على الحقيقة لا على المجاز]. قلت: ذكر هذا النص ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: 6/ 250 - 251، وفي بيان تلبيس الجهمية: 2/ 38 وفي القاعدة المراكشية: 73، كما ذكره ابن قيم الجوزية في اجتماع الجيوش الإِسلامية: 48

ذكر تيسير العمل بالعلم

أردت الآيات فهي آيات الوعيد والقيامة، وكل آية عبر الله فيها عن نفسه بفعل يستحيل ظاهره عليه، والحروف المتشابهات في أوائل السور. ذكر تيسير العمل بالعلم وبعد البلوغ إلى هذا المنتهى من الحث على العمل بما علم، وكشف الغطاء عن فرضية ذلك، وتعلقه بالعلم، وتأثيره فيه، ومعونته عليه، والخلاص به منه، فالعمل له محلان: أحدهما القلب، والآخر الجوارح. وعلى القلب أمران: أحدهما الاعتقاد، والآخر الِإخلاص. فأما الاعتقاد الصحيح بتجريده عن الشبه، فممكن متيسر بتوفيق الله وَمَنِّهِ، وإجراء عادته فيه على خلقه، وقد شاهدنا ذلك في جماعة منهم لا تحصى. ¬

_ = وقال الإِمام أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي -الذي قدم الأندلس ودخل قرطبة سنة 487 - في رسالته التى سماها "الإيماء إلى مسألة الاستواء": " ... قول ابن أبي زيد القيرواني المالكي والقاضي عبد الوهاب المالكي وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب الباقلاني وأبي الحسن الأشعري وهو أنه سبحانه مستو على عرشه بذاته، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق على عرشه، وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان، ولا كون فيه ولا مماسة"، قلت: ذكر هذا النص ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية: 2/ 35 - 36، وابن قيم الجوزية في اجتماع الجيوش الإِسلامية: 48. وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت: 671) صاحب كتاب "الجامع لأحكام القرآن": "وأظهر الأقوال، ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، والفضلاء الأخيار بأن الله على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات". الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: لوحة: 226/ ب (مخطوط مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة).

وأما إخلاص (¬1) القلب في القيام بالأعمال فهو لعمر الله عسير، عنده وقفت الخليقة حين سمعت قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] (¬2) وكذلك أيضاً سمعوا قوله: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] والخلوص هو الصفاء، يقال لبن خالص، إذا لم يشب، وذلك يكون لصفائه في الابتداء، فيعقد عقداً سليماً ويعمل كذلك (¬3). وقد تشينه الذنوب، فتخلصه أيضاً التوبة، ويصفيه الندم. والإِخلاص درجة عظيمة في الدين، كما أن الزنا دركة عظيمة في المعاصي. وقد سطر علماء القلوب في الوجهين جميعاً بدائع، وأنا أشير لكم فيها إلى ما يسهل سبيله، ويقرب مجاهدة النفس الأمارة بالسوء والذي يجلبه إليك أن تقطع نيتك عن تعليق العمل بغير الله، فلا تقصد بعملك إلاَّ الذي أمرك به. مثل الذي يعمل لغير الله كما روي في الحديث الصحيح أن يحيى بن زكريا قال لبني إسرائيل: إن الله أمَرَنِي بخمْس كَلِمَاتٍ أنْ أعْمَلَ بها وَآمُرَكُمْ أنْ تَعْمَلُوا بِها: أوَّلُهُن: أنْ تَعْبُدُوا الله وَلَاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَإنَ مَثَلَ مَنْ أشرَكَ بالله كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْداً مِنْ خَالِص مَالِهِ بذَهَب أوْ وَرِقٍ وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي، فأدِّ كُل عَمَل لِي، فَكأنَ يَعْملُ ويؤَدي إلَى ¬

_ (¬1) انظر الاسم الحادي عشر "المخلص" من سراج المريدين: 64/ أوما بعدها. (¬2) علق المؤلف في السراج 64/ ب على هذه الآية فقال: قرن الله الإخلاص بالعبادة لأنه شرطها، والإخلاص: ألاّ يكون شيء من حركات العبد ولا من سكناته في جوارحه ومفاصله وكلامه وسكناته إلا لله، مصفى من الخلل (كذا بالأصل) حنيفاً إلي الحق من الباطل، غير خارج عن سنن الحق. (¬3) قال المؤلف رحمه الله في السراج 65/ أ: الإخلاص هو معنى يوجد بالقلب ويحصل في الباطن فتظهر آثاره.

غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأيكُمْ يَرْضَى أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؟ وذكر الخصال الخمس إلى آخرها (¬1) ... وتحقيقه: ألاَّ تقصد بعملك حظ نفسك المختصة بك، فكيف أن تعلقه بغيرك، فإن تطيبت مثلاً، فلا تقل هذا الطيب لعطري وعطر أهلي، ولكن قل: هو لملائكة ربي والاقتداء بسنة نبيي، وهذا الأكل ليس للذتي، وإنما للقوة على عبادة ربي. وفي الحديث الصحيح قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ الناسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْم القِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا فَيَقُول لَهُ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتى استشهدتُ، قَالَ الله: كذَبْتَ، وَلَكِنكِ أرَدْتَ أن يقَالَ فُلَان شُجَاعٌ، فَقَدْ قِيلَ، وَيُؤْمَرُ بِهِ في النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَه وَقَرأ ألْقُرْآنَ فَأتِيَ بهِ فَعَرفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلمْت العِلْمَ وَعَلمْتُهُ، وَقَرأتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَكَ أرَدْتَ أنْ يقَالَ فُلَانٌ قَارِىءٌ وَقَدْ قِيلَ، ثُم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ في النارِ"، وذكر في الجواد مثله (¬2). ومما يعينك على صحة الِإخلاص وتجريد النية من الشوائب لغير الله: الصدق (¬3): فإنك إن قررت السؤال عن علمك في دنياك وآخرتك، ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث طويل أخرجه أحمد: 4/ 130، والترمذي في الأمثال رقم 6863، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه شيخنا ناصر الدين الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 189. (¬2) أخرجه -مع اختلاف في الألفاظ- مسلم في الإمارة رقم 1905، والترمذي في الزهد رقم: 2383، والنسائي في الجهاد: 6/ 23، والخطيب البغدادي في كتابه "اقتضاء العلم للعمل": 107، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 2 - 3. (¬3) قال المؤلف في السراج: 69/ ب "حقيقة الصدق هو الثبوت في جميع الأعمال والأحوال على قدم الحق، والاستمرار في جميع الأحوال على حكم الشرع، وذلك في ثلاثة وجوه: صدق في =

وافتقرت أن تخبر عن باطن نيتك بخلاف ما هي عليه مقت ومقت نفسك كما تقدم في الحديث آنفاً. فاحفظ لسانك عن الكذب (¬1): واعلم أنه المعبر عنك، المعبر لك عن طريق العلم، ورأس العمل، وفيه خصلة واحدة وهي الصدق وفيه نحو من عشرين آفة (¬2) أمهاتها أربع وهي: الكذب، والغِيبَةُ، والمراء، والمزاح، وبكفِّك عن هذه الأربعة يهون عليك الكف عن باقيها. أما الكذب فحرام إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس (¬3)، والحرب، ووعد الرجل أهله. لكن جواز الكذب في هذه المواطن الثلاثة إنما يكون بالمعاريض، لا بالتصريح، إلاَّ أن لا يفهم مفاوضك فيه بالتعريض فتصرح بالكذب باللسان ¬

_ = القلب، وصدق في القول، وصدق في الفعل. فأما صدق القلب فهو بالنية الخالصة، وأما الصدق في اللسان فهو ألا يكون خبره بخلاف عمله في الماضي، وأما في المستقبل فيدخل في قسم الوفاء بالموعد ... وأما الصدق في الأعمال فهو أن يكون وفق الاعتقاد والقول". وانظر التعريفات للجرجاني: 69. (¬1) قال المؤلف في السراج: 226/ أ: "الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به" وللتوسع انظر: الأمد الأقصى: 89/ أ، والقبس: 365، (مخطوط الخزانة العامة: 25 جـ) والتعريفات للجرجاني: 97. (¬2) انظر هذه الآفات في إحياء علوم الدين للغزالي: 3/ 104. (¬3) قال المؤلف في السراج: 178/ ب: " .. فأما الإصلاح بين الناس، فلما يرجى من إطفاء الثائرة بين الرجلين، ولكن بالمعاريض، مثل أن يقول له: رأيته يدعو لك، إنْ جرى في كلمته دعاء له، وإن لم يسمعه، فإن صلى معه فقد دعا للمسلمين في صلاته، فيقول له: قد دعا لك، وينوي بقلبه ما كان من دعائه في صلاته للمسلمين الذي هو أحدهم، أو إذا سمعه يذكره بكلمة حسنة قالها، ويجتنب التصريح بالكذب، وإن لم يقصد بقلبه، وهي مسألة عظيمة من الفقه بيناها في كتب الخلاف في طلاق المكره، وصنف فيها علماء اللغة كتباً".

دون الاعتقاد، وذلك فيما يخاف الضرر منه في النفس والمال عليك وعلى غيرك، بل قد يكون الكذب فرضاً، وذلك إذا طلب الظالمُ العادلَ، وسأل المسلمَ عنه فيجب عليه أن يعميَ عليه طريقه بالكذب الصراح، ويخفي عنه موضعه، لأن الكذب لم يحرم لعينه، وإنما حرم لما فيه من المضرة، فإذا كان الصدق مضرة كان الكذب خيراً منه، وبهذا يتبين بطلان أصل القدرية في قولهم إن الحسن حسن لذاته، والقبيح قبيح لذاته، وقد قررنا الرد عليهم في كتب "الأصول" وحققنا أن العقل هو العلم (¬1)، وأنه لا يغير شيئاً مما يتعلق به عن صفته، وإنما يتعلق بالمعلوم على ما هو به. وأكدنا ذلك بأن القتل الواقع اعتداء يجانس القتل المستوفي قصاصاً في الصورة والصفة، بدليل أن الغافل المستند فيهما لا يميز بينهما، وهذا قاطع في فنه. وأما الغيبة فمحرمة قرآناً وسنة وبإجماع الأمة. وحقيقتها (¬2): أن يذكر عن المرء ما يكره أن يسمعه بما هو عليه، فإن لم يكن عليه فهو بهتان (¬3) وفيه الكذب والغيبة فتأكدت حرمته وعظم إثمه، وهي خصلة مذهبة للحسنات، ضرب الله لها مثلاً أكل الميت فقال: ¬

_ (¬1) هذا هو رأي أبي الحسن الأشعري وأبي إسحاق الإسفراييني كما نقله عنهم القرطبي في جامع أحكام القرآن: 4/ 316، انظر رأي شيخ الإِسلام ابن تيمية في العقل فى "الاستقامة": 2/ 161 - 162، والرسالة السبعينية: 38 - 39 (ضمن مجموعة الفتاوى الكبرى ط: كردستان: 1329) الرد على المنطقيين: 276، وانظر الجويني في الإرشاد: 15 - 16. (¬2) انظر الجرجاني: التعريفات: 87، وانظر الأحاديث الواردة في تحريم الغيبة صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة رقم: 2589. (¬3) زاد المؤلف في السراج: 178/ ب " ... فهو بهتان، إلا أن يكون كافراً".

{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] وكذلك فاكرهوا غيبته، وإن الاغتياب قرض في العرض، وهو أعظم من قرض اللحم بالمقراض أو مثله، ولذلك قال شاعر العرب: "وجرح اللسان كجرح اليد" (¬1) وحقق الله التشبيه في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} للغايب بالمَيت، لأنه غاب عن ذكره كما يغيب الميت عن ذكر كل أحد، والأكل إذاية، وبه يضرب ملك الرؤيا المثل للمغتاب، أما أنه رخص فيها في أربعة مواضع: منها التظلم عند من ترجى نصرته، بدعوة يدعو لك بها، أو بقضاء يقضي لك عليه، ومنها عند الاستياء كقول هند بنت عتبة (¬2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أبا سُفْيَان رَجُل مَسِيك" (¬3). ومنها تحذير المغتر به عنه إن أراد أن يصحبه، أو سألك عنه، ومنها اللقب الغالب عليه وفيه اختلاف (¬4). ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت لامرىء القيس صدره: ولو عن نثا غَيْرِهِ جاءني وهو من قصيدة له مطلعها: تَطاوَلَ لَيْلُك بالأثمُدِ ... وَنَامَ الخَلِيُّ ولم تَرقُدِ انظر ديوانه: 185 (ط: دار المعارف 1969 بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم). (¬2) هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها أبا سفيان بن حرب، توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب. ابن سعد: الطبقات: 8/ 170، ابن عبد البر: الاستيعاب: 4/ 424، ابن حجر: الإصابة: 4/ 425. (¬3) هو صَخْر بن حرب بن أمية رأس قريش وقائدهم يوم أحد ويوم الخندق، أسلم عام الفتح، وصلح إسلامه، وشهد حُنيناً وقتال الطائف، توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة: 31. الفسوي: المعرفة والتاريخ: 3/ 167، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل: 4/ 426، ابن عبد البر: الاستيعاب: 2/ 714. (¬4) هذا جزء من حديث صحيح رواه البخاري في المظالم والغصب: 3/ 101، ومسلم في الأقضية: 4/ 1339، وأبو داود في البيوع رقم: 3532، والنسائي في القضاء: 8/ 246.

وأما المراء (¬1) فهي المجادلة فيما تعلم أنه باطل، أو على معنى البدعة، فإن المبتدع يجادل في آي القرآن عن اعتقاد ونية في ذلك أنه حق وهو باطل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المِرَاءُ في القُرْآنِ كُفْر" (¬2) وإنما كان كفراً لأنه يكفي أن يعتقد هو بدعته في نفسه، حتى يَدَّعِي أن الله أرادها معه، وهذه جرأة على الله وكفر به سبحانه وتعالى، وهذا مما لا نظير له، وما وجدناه لغيرنا. وأما المزاح، فهو تكلم بما لا يعني، وتركه من محاسن الإِسلام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْء تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" (¬3). وقد سمعت الطرطوشي يقول: المازح جاهل، قال الله سبحانه مخبراً عن بني إسرائيل وموسى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]، قلت: والذي عندي أنه إذاً كان في جواب الدين كان جهلاً، وإذا كان في لهو الدنيا فهو بمنزلة الكلام حكمه حكمه، وصفته صفته. فإذا طهّرت قلبك من غير الله، ولسانك عن هذه الآفات، فقد أسست ¬

_ (¬1) عرفه الشريف الجرجاني بقوله: "المراء: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير" التعريفات: 110، وقال المؤلف في سراج المريدين: 179/ أ "المماراة: هي المنازعة في تصحيح الباطل وإبطال الحق". (¬2) أخرجه أبو داود في السنة رقم: 4603، والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير: 2/ 223 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه شيخنا ناصر الدين الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 61 ما أخرجه الإِمام أحمد في المسند 2/ 286، والآجري في الشريعة: 67، والنسائي في فضائل القرآن: 120، وأبو نعيم في الحيلة: 98، 213، وفي أخبار أصبهان: 2/ 123، والخطيب في ""تاريخ بغداد: 11/ 136. (¬3) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ: 2/ 903 كتاب حسن الخلق، والترمذي في الزهد رقم: 3218.

للولاية ركنين عظيمين، وبقيت سائر الأعمال التكليفية، فحافظ منها على ركنيين آخرين ليتأسس لك بيت الإسلام: الركن الأول: دعائم الدين الخمس. الركن الثاني: اجتناب الكبائر. قال الله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، ولا يعلمها أحد على التحقيق إلاَّ الله، خبَّأها الله بلطفه في المنهيات، كما خبّأ ساعة الجمعة في الساعات، وليلة القدر في الليلات. وقد جمعها بعض الأشياخ، ونظمها على الجوارح، وبلغها سبع عشْرة (¬1) كبيرة، فيا ليتكم تركتموها، فإنكم كنتم تكونون لغيرها أتْرَك، وكانت سائر الذنوب تكفر عنكم "بِالصلَوَاتِ الخَمْسِ وَالجُمُعَةُ إلَى الجُمُعَةِ كَفارَة لِمَا بَيْنهُن مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ" (¬2)، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن الصلوات تكفر ما بينهما ما لم تكن كبيرة، فإن كانت معه كبيرة فهل تكفر له الصغائر؟ أم يكون وجود الكبائر قاطعاً به في تكفير الصغائر بالصلوات حسبما يقتضيه ظاهر الحديث، وما فيه من شرط اليقين المطلق باجتناب الكبائر، هو موضع توقف يفتقر إلى دليل آخر من غيره، فوجدنا في ذلك آثاراً كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا تَوَضَأ العَبْدُ المُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ (¬3) ... " الحديث. ¬

_ (¬1) أغلب ظني أنه الشيخ "أبو طالب المكي" في كتابه "قوت القلوب" الذي قرأته منذ مدة طويلة، وهو الآن غير متوفر بين يدي. (¬2) أخرجه -مع اختلاف في الألفاظ- مسلم في الطهارة رقم: 233 والترمذي في الصلاة رقم: 214. (¬3) لم أعثر على نص الحديث كما هو عند ابن العربي وإنما وقفت على عدة أحاديث تؤكد هذا =

تعديد الكبائر من مجموع الأخبار وقسمتها على الجوارح قصد الضبط والاختصار

ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: فَضْلُ صَلَاةِ الجَمْعِ عَلَى صَلَاةِ الفَذ إلَى أنْ قَالَ: ذَلِكَ بِأنهُ لَا يَخْطُو خَطْوَةً إلاَّ كَتَبَ الله لَهُ بِهَا حَسَنَة وَمَحَا عَنْهُ سَيئَة، وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَة" (¬1). تعديد الكبائر من مجموع الأخبار وقسمتها على الجوارح قصد الضبط والاختصار (¬2) أربعة في القلب: الشرك، الِإصرار، القنوط، الأمن من المكر. أربعة في اللسان: شهادة الزور، القذف، اليمين الغموس، السحر (¬3)، وعند مالك رحمه الله أن السحر كفر (¬4)، فيدخل في قسم الشرك، وتعوض عنه النميمة. وثلاث في البطن: شرب الخمر، أكل مال اليتيم، أكل الربا. ¬

_ = المعنى منها ما رواه الإِمام مسلم في الطهارة رقم: 244: "عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا تَوَضأ العَبْدُ المُسْلِم (أو المؤمِن) فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وجْههِ كُل خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ المَاءِ (أوْ مَعَ آخر قَطْرِ المَاءِ) فَإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خرَجَ فِيْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ المَاءِ (أوْ مَعَ آخِرِ قطْرِ المَاءِ) فَإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُل خَطِيئَة مَشتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ المَاءِ (أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ) حَتى يَخْرُجَ نَقياً مِنَ الذنوبِ" قلت: انظر الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/ 221 - 225، والمنذري في الترغيب والترهيب: 1/ 95. (¬1) نحوه في البخاري: 1/ 158 - 159 في الأذان، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة رقم: 649. (¬2) لقد تحقق ظني من نسبة هذا التقسيم إلى أبي طالب المكي، إذ أن الإِمام ابن قيم الجوزية ذكر هذا التعديد للكبائر وقال: إن أبا طالب المكي جمعها من أقوال الصحابة، انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: 148. (¬3) انظر حول السحر: الجويني: الإرشاد: 321 - 323، ابن قيم: التفسير القيم: 563 - 573. (¬4) انظر الباجي: المنتقى شرح الموطأ: 7/ 116.

وإثنان في الفرج: الزنا واللواط. وإثنان في اليدين وهما: القتل والسرقة. وواحدة في الرجلين وهي: الفرار عند الزحف. وواحدة في جميع البدن: وهي عقوق الوالدين. وبحصرها من وجه آخر أن تجتنب ما بينك وبين العباد، فإنه عظيم لا جبر له، وأما الذي بينك وبين الله فإنه أخف. وأكْثِرْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تلاوة القرآن بتدبُّر، وإن لم يكن فتلاوة مجردة، فإن مثل الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كالذي جاء على ألسنة الحكماء، وهو بديع في الأمثال. قالوا: لو أن ملكاً أرسل إلى عُمَّالِهِ كتاباً يأمرهم فيه بتحصين البيضة وسد الثغور، والعدل في الرعية، والإِنصاف بين الناس، وإيصال الحقوق إلى أربابها، وسائر ذلك من وظائف الإِمارة، فلما وصل كتابه إلى عماله، كان منهم من تلقاه بالمبرة والتعظيم، وقرأه على غاية التفهيم، وجعل يمتثل ما أمره به، ويقيم حدود ما وظف عليه، وكان من العمال من تلقاه بالبر والتعظيم، وجعله نصب عينيه في مطالعته، والوقوف عليه، وأعرض عن امتثال ما فيه،

ثم اجتمعوا مع الملك فتخيل حال الرجلين، وتحقق الفرق بين المنزلتين. والزم بعد ذلك بالألفاظ الصحيحة ذكر الله والدعاء إليه بالأدعية الصحيحة، ولا تلتفت إلى ذكر الله بما لم يصح، ولا التضرع إليه بما لم يثبت، فإن الشيطان إذا لم يقدر عن صرف العبد عن ذكر الله، أقبل عليه، فجعل يشغله بالأذكار والأدعية التي لم تصح، فيربح معه العدول عن صحيح الحديث إلى سقيمه، فربما اعتقد في حديث أنه صحيح، وفي ذكر ودعاء أنه حق، وهو باطل (¬1)، فيدخل تحت وعيد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَدّثَ عَني حَدِيثاً يَرَى أنهُ كَذِب فَهُوَ أحَدُ الكَاذِبِينَ" (¬2). فإذا التزمت هذا كله -وهو يسير بتوفيق الله وتيسيره- فتح الله لك أبواب الرحمة، وجرت على لسانك ينابيع الحكمة، وقرب لك امتثال ما بقي عليك من المأمورات، ويسر عليك اجتناب سائر المنهيات، ودعيت عظيماً في ملكوت الأرض والسموات، والله سبحانه يجعلنا ممن طلب العلم والحكمة، ودأب على كتاب الله واحترمه، وألقاه إلى سواه، وأفهمه، فـ "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلمَهُ" (¬3). ويقربنا بعد ذلك من رضوانه ويبؤِّئنا الفردوس الأعلى من جنانه، ¬

_ (¬1) يكرر المؤلف هذه الوصية النفيسة في كتابه السراج فيقول: "فالزموا ألزمكم الله تحقيقه، ويسر لكم توفيقه، ما ألزمكم الشرع، وانهجوا السبيل التي شرع لكم، وخذوا من الذكر والدعاء الصحيح، وأعرضوا عما سواه، فالعمر أنفس من أن تنفقوه سدى في غير ما صح من وحي وقرآن" 90/ ب، وانظر باب الذكر في "القبس شرح موطأ مالك بن أنس": 95، وباب الدعاء: 96 (مخطوط الخزانة العامة 25 جـ). (¬2) أخرجه مسلم في المقدمة: 1/ 9 باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين. (¬3) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في فضائل القرآن: 6/ 108 عن عثمان بن عفان.

يفضله ورحمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كمل كتاب "قانون التأويل" لأبي بكر بن العربي رحمه الله. ¬

_ * هذا آخر ما جرى به القلم في دراسة وتحقيق "قانون التأويل" وتعليق ما رأيت تعليقه عليه من الحواشي والتعريفات، ولا أدعي أنني بلغت فيما قمت به نحو هذا الكتاب الممتع أقصى ما كنت أرجوه له من تحرير عباراته وتوضيح إشاراته وإبانة أغراضه؛ فهذا مطلب بعيد المنال، غير أنني على كل حال قد بذلت غاية جهدي على الوجه الذي يسره الله وأعان عليه. والحمد لله رب العالمين. قاله محقق الكتاب الفقير إلى الله تعالى محمد بن الحسين السلماني الحمودي الإدريسي الحسني غفر الله له ولوالديه.

§1/1