قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح
ابن تيمية
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فهذا سفر جديد ومؤلف نفيس ينشر لأول مرة، للعلامة القرآني والمجاهد المرابط الرباني، شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، نقدمه للمسلمين في وقت هم أحوج ما يكونون فيه للشجاعة والتضحية والإقدام والثبات في مواجهة الهجمة الشرسة للصهيونية البغيضة على الإسلام والمسلمين. وشيخ الإسلام الذي جاهد "التتار" بسيفه وقلمه لا يألو جهدا في تعليم المسلمين ما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم لا سيما ما يتعلق بأمور الجهاد والمجاهدين، وذروة سنام الدين. فالمجاهد الحق: هو المتبع المهتدي {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) ، فلا يقدم على أي عمل بغير علم؛ حتى لا يفسد أكثر مما يصلح.
فالدخول في أمور الجهاد بجهل يحول الجهاد إلى إفساد، ويجر الفتن والشرور على الإسلام والمسلمين. والمجاهد المخلص: الذي لا يريد علوا في الأرض ولا فسادا لا يظلم ولا يعتدي ولا يبغي ولا يغدر، فكل من البغي والغدر سبب لانتصار المبغي عليه على الباغي؛ قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} (الحج: من الآية60) . والمجاهد المسلم: لا يجاهد في سبيل الله تشهيا في القتل وسفك الدماء وإهلاك الآخرين فهو يجمع في لقائه بعدوه لقصدين: بين إظهار كلمة التوحيد والغلظة على من خالفها ومنع المسلمين من إقامتها، وبين الإشفاق على الكفار من السيف أولا ومن عقبى النار آخرا بحيث يكون حبه وفرحه بإسلامهم أشد من الظفر بهم قتلى وأسرى؛ فإنهم عباد الله، قال سبحانه: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (النساء: من الآية94) 1. وأما تحقيق نسبة الكتاب للمؤلف: فقد أشار المصنف رحمه الله إليه عند كلامه على نفس المسألة؛ حيث يقول: "ولهذا جوز الأئمة الأربعة: أن ينغمس المسلم في صف
الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه؛ إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر"1. وهذا الموضع الآخر هو كتابنا هذا. وقد ذكره العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله في "العقود الدرية"2 بعنوان: "قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ ". وهو ما اعتمدته هنا. وقد ذكر المصنف رحمه الله في أوله أن هذه المسألة هي: "في الرجل أو الطائفة يقاتل منهم أكثر من ضعفيهم إذا كان في قتالهم منفعة للدين، وقد غلب على ظنهم أنهم يقتلون". وصف النسخة: فقد اعتمدت على نسخة وحيدة تقع ضمن "مجموع" لشيخ الإسلام، محفوظ بـ"دار الكتب المصرية" برقم 444 فقه تيمور. وتقع هذه النسخة في 48 صفحة، كما هو مرقم بالأصل. كل صفحة بها 13 سطر. وهي مكتوبة بخط رقعة جميل. وتم نسخها سنة 1319هـ، ولا يعرف ناسخها.
وأما عملنا في التحقيق: فقد اتخذت هذه النسخة أصلا؛ وصوبت ما فيها من أخطاء بالرجوع إلى كلام المصنف في كتبه الأخرى. كما قمت بضبط فقرات الكتاب كلها، ونسقت عباراتها ورقمت فقراتها برقم مسلسل ووضعت لها عناوين جانبية. كما قمت بعزو الآيات ووضع العزو بجوار الآيات، وخرجت الأحاديث والآثار وبينت مرتبتها من حيث القبول والرد. كما وضعت بعض التعليقات المهمة وأكثرها من كلام شيخ الإسلام من كتبه الأخرى، وبعض المصادر من كتب الفقه. كما صنعت له فهارس للآيات والأحاديث والآثار والموضوعات. هذا وقد اجتهدت في ذلك حسب الوسع والطاقة. والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع مجيب. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الإسماعيلية في 11محرم 1422هـ أبو محمد أشرف بن عبد المقصود غفر الله له
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المصنف الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: الحاجة إلى هذه المسألة. 1- فهذه مسألة يحتاج إليها المؤمنون عموما، والمجاهدون منهم خصوصا، وإن كان1 الإيمان لا يتم إلا بالجهاد2. 2- وكما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: من الآية15) . 3- ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضا. 4- كما قال تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: من الآية73) .
جهاد النفس والمال 5- ويكون الجهاد بـ: النفس والمال1. 6- كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية41) 2. 7- ويكون بـ: غير ذلك وبنفقة. 8- لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" 3.
جهاد اليد والقلب واللسان 9- ويكون الجهاد بـ: اليد والقلب واللسان. 10- كما قال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم" 1. 11- وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" 2.
12- فهؤلاء كان جهادهم بقلوبهم ودعائهم. 13- وقد قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:95) . 14- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الساعي1 على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله" 2.
15- وقال أيضا: "المجاهد من جاهد نفسه في الله"1. 16- كما قال: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" 2. 17- والجهاد في سبيل الله أنواع متعددة ... 3
18- ... سبيل الله، ويفرق بينهما النية وإتباع الشريعة. الغزو غزوان 19- كما في "السنن" عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة واجتنب الفساد؛ كان نومه [ونبهه] 1 كله أجر. وأما من غزا فخر ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكفاف" 2.
20- وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية؟ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 1. 21- وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: من الآية193) .
عنوان المسألة وصور لها
عنوان المسألة وصور لها: 22- وهذه المسألة هي في: "الرجل أو الطائفة يقاتل منهم أكثر من ضعفيهم2 إذا كان في قتالهم منفعة للدين، وقد غلب على ظنهم أنهم يقتلون". الصورة الأولى 23- كالرجل: يحمل وحده على صف الكفار ويدخل فيهم. ويسمي العلماء ذلك: "الانغماس في العدو"؛ فإنه يغيب فيهم كالشيء ينغمس فيه فيما يغمره.
الصورة الثانية 24- وكذلك الرجل: يقتل بعض رؤساء الكفار بين أصحابه. مثل أن يثب عليه جهرة إذا اختلسه، ويرى أنه يقتله ويغتفل1 بعد ذلك. الصورة الثالثة 25- والرجل: ينهزم أصحابه فيقاتل وحده أو هو وطائفة معه العدو وفي ذلك نكاية2 في العدو، ولكن يظنون أنهم يقتلون. 26- فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم3. اتفاق المذاهب الأربعة على جواز هذه الصورة 27- وليس في ذلك إلا خلافا شاذا4.
نص الشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومالك على الجواز 28- وأما الأئمة المتبعون كـ: "الشافعي"1 و"أحمد"2 وغيرهما3 فقد نصوا على جوز ذلك. 29- وكذلك: هو مذهب: - "أبي حنيفة"4.
30- و"ملك"1 وغيرهما.
أدلة الكتاب والسنة والإجماع 31- ودليل ذلك: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة
أدلة من الكتاب
أدلة من الكتاب ... الآية الأولى 32- فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) . سبب النزول 33- وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية1: أن صهيبا خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلحقه المشركون وهو وحده. فنشل كنانته، وقال: والله لا يأتي رجل منكم إلا رميته. فأراد قتالهم وحده، وقال: إن أحببتم أن تأخذوا مالي بمكة فخذوه، وأنا أدلكم عليه. ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحي".
34- وروى أحمد بإسناده: أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: كلا بل هذا ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) .1 35- وقوله تعالى: {يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيع نفسه، فيقال شراه وبيعه سواء، واشتراه وابتاعه سواء، ومنه قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف: من الآية20) أي باعوه. فقوله: {يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه، وإن قتل أو غلب على ظنه أنه يقتل.
الآية الثانية 36- كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة:111-112) . 37- وهذه الآية وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} يدل على ذلك أيضا. أفضل الشهادة 38- فإن المشتري يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غلب على ظنه أن النفس تقتل والجواد يعقر، فهذا من أفضل الشهادة. 39- لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها [أحب] 1 إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم
لم يرجع من ذلك بشيء" 1. 40- وفي رواية: "يعقر جواده وأهريق دمه" 2. 41- وفي "السنن" عن عبد الله بن حبشي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: طول القيام. قيل: أي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل. قيل: فأي الهجرة [أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عليه. قيل: فأي الجهاد أفضل؟] 3 قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله. قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه، وعقر جواده4.
الآية الثالثة 42- وأيضا: فإن الله سبحانه قد أخبر1 أنه أمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يقتل ولده في محبة الله وطاعته؟! 43- وقتل الإنسان ولده قد يكون أشق عليه من تعريضه نفسه للقتل، والقتال في سبيل الله أحب إلى الله مما ليس كذلك. امتحان إبراهيم بذبح ابنه 44- والله أمر إبراهيم بذبح ابنه قربانا؛ ليمتحنه بذلك ولذلك نسخ ذلك عنه لما علم صدق عزمه في قتله؛ فإن المقود لم يكن ذبحه لكن ابتلاء إبراهيم2.
ابتلاء الله للمؤمنين ببذل أنفسهم 45- والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم، ليقتلوا في سبيل الله ومحبة رسوله؛ فإن قتلوا كانوا شهداء، وإن عاشوا كانوا سعداء. 46- كما قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: من الآية52) .
الآية الرابعة 47- وقد قال لبني إسرائيل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} (البقرة: من الآية54) . 48- أي: ليقتل بعضكم بعضا. 49- فألقى عليهم ظلمة، حتى جعل الذين لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه. 50- هذا الذي كان في شرع من قبلنا من أمره بقتل بعضهم بعضا1 قد عوضنا الله بخير منه وأنفع، وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوهم وتعريضهم أنفسهم لأن يقتلوا في سبيله بأيدي عدوهم لا بأيدي بعضهم بعضا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرا.
51- وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:66-68) .
ذم الفرار من الموت 52- وأيضا: فإن الله أمر بالجهاد في سبيله بالنفس والمال مع أن الجهاد مظنة القتل بل لا بد منه في العادة من القتل. الآية الخامسة 53- فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} إلى قوله: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} النساء:77-78) . الآية السادسة 54- وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (الأحزاب:15-17) . 55- فأخبر سبحانه: * أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع بل لا بد أن يموت العبد وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل، وما أكثر من ثبت فلا يقتل1. * ثم قال: ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا. * ثم أخبر أنه لا أحد يعصمهم من الله؛ إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم، فالفرار من طاعته لا ينجيهم.
* وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير. مايوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر 56- وقد بين في كتابه: أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة للنار1، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال:15-16) .
57- فأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون فقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (التوبة:56-57) . 58- وفي "الصحيحين" عن النبي أنه عد الكبائر؛ فذكر: "الشرك بالله وعقوق الوالدين، والسحر واليمين الغموس وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وذكر منها: "الفرار من الزحف في الصفين"1. 59- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شر ما في المرء: شح هالع، أو جبن خالع"2.
أدلة من السنة
أدلة من السنة ... فمن وجوه كثيرة: عدد الكفار في بدر بقدر المسلمين ثلاث مرات 60- أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر1، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها. 61- فعلم: أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم، ولا فرق في ذلك بين الواحد والعدد، فمقاتلة الواحد لثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة. المسلمون في أحد كانوا ربع الكفار 62- وأيضا: فالمسلمون يوم أحد كانوا نحو من ربع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها2، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها3.
المسلمون في الخندق دون الألفين والأحزاب عشرة آلاف 63- وأيضا: فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، كان أكثر من عشرة آلاف1، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من قريش وحلفائها وأحزابها الذين كانوا حول مكة وغطفان2 وأهل نجد واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو قريظة جيران3 أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين. حمل الرجل وحده على العدو وبمرأى النبي صلى الله عليه وسلم 64- وأيضا: فقد كان الرجل وحده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم4 يحمل على العدو بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، وينغمس فيهم، فيقاتل حتى يقتل وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
قصة خبيب بن عدي وأصحابه 65- وقد روى البخاري في صحيحه1 عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب2. فنطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة 3 بين عسفان4 ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان5. فنهذوا إليهم بقريب من مائة رجل رام. وفي رواية: مائتي رجل. فاقتفوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: هذا تمر يثرب 6.
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى موضع. وفي رواية: إلى فدفد1- أي: مكان مرتفع - وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق، لا يقتل منكم أحد. مقتل عاصم بن ثابت في جملة سبعة من أصحابه فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم! أما أنا فو الله فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة2. فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ نفر على الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وزيد َابْنُ الدَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ. غدر الكفار بالثلاثة الآخرين فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ3 فربطوهم بها. قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ لِي بهَؤُلاَءِ أسْوَةً؛ يُرِيدُ الْقَتْلَى. فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ، فأبى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُو
وقوع خبيب وزيد بن الدثنة في الأسر بِخُبَيْبٍ وَزيد ابْنِ الدَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ خُبَيْبًا، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عمرو يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حتى أجمعوا على قتله. تورع خبيب عن الغدر وقتل أولاد المشركين فاسْتَعَارَ مِنْ بعض بنات الحارث مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا1، فَأَعَارَتْهُ فدرج بنيلها وهي غافلة حتى أتاه2 مجلسه على فخذه والموسى بيده؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ، مَا كُنْتُ لأفعل ذَلِكَ؟ كرامة لخبيب قالت: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، فوَ اللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفِا من عِنَبٍ3 فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ4 مِنْ ثَمَرٍ. وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رزقه اللَّهِ خُبَيْبًا.
فَلَمَّا خَرَجُوا به مِنْ الْحَرَمِ1 لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ. خبيب أول من سن الركعتين عند القتل قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دعوني أصلي رَكْعَتَيْنِ. فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ. فقَالَ: والله لَوْلاَ أَنْ تحسبوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لزدت، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، واقتلهم بددا2 ولا تبقي منهم أحدا. قال: فلست أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ3 ثم قام إليه أبو سروعة عقبة ابْنُ الْحَارِثِ فقتله، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصلاة4.
وأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أصيبوا خَبَرَهُمْ. وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قد قُتِلَ أن يؤتى بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ. حماية الله لجسد عاصم ابن ثابت من المشركين فَبُعِثَ الله لعَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ [مِنْ الدَّبْرِ] فَحَمَتْهُ1 مِنْ رَسُولِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا2"3.
وجه الدلالة من قصة خبيب وأصحابه 66- فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المائة أو المائتين، ولم يستأسروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من إتباعهم حتى قتلوه. من فضائل عاصم 67- وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم؛ وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر 1، وعاصم بن محمد جد عمر بن عبد العزيز؛ فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع2. 68- كذلك في مراسيل الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك3.
69- لأنه يفضي إلى غش لا يعلم به المشتري؛ فإن البائع وإن أخبر المشتري بأنه مغشوش؛ ولكنه لا يتميز قدر الغش ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك1. 70- فبينما عمر ذات ليلة يعس2 إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قومي فشوبي اللبن. فقالت: إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك؟! فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: لا والله لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر. فعلم عمر على [الباب] 3 فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت فإذا به "أهل بيت عاصم" هذا أمير المؤمنين المستشهد والمرأة المطيعة إبنته فخطبها وتزوجها4. 71- وقد روي: أنه زوجها ابنه عاصم هذا. وإن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصم ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم.
دليل آخر من السنة 72- وأيضا: ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه من بين حيه أهله إلى صلاته. فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه ومن أهله وحيه إلى صلاته، رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله عز وجل، فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الإنهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه. فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أهريق دمه" 1. 73- فهذا رجل انهزم هو وأصحابه ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل.
وجه الدلالة من الحديث 74- وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يعجب منه؛ [و] 1 عجب الله من الشيء يدل على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته. 75- وهذا يدل على: أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه يقتل فترك ذلك أفضل. 76- بل الحديث يدل على: أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه ومعلوم أن مثل هذا الفعل يقتل الرجل فيه كثيرا أو غالبا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرم؛ فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة. 77- قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:110) . 78- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" 2.
79- فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله ثم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلا في هذه الآية. 80- وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو اسرائيل في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: من الآية54) . 81- وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} (النساء: 64-66) . 82- وذلك يدل على: أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة. شبهات وجوابها وتوضيح لمعاني بعض الآيات 83- فإن قيل: قد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} (لأنفال: 65، 66)
84- وقد قالوا: إن ما أمر به من مصابرة الضعف1 في هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك من مصابرة عشرة الأمثال2. 85- قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف ليس في الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز.
86- وأيضا: فلفظ الآية إنما هو خبر عن النصر مع الصبر وذلك يتضمن وجوب المصابرة للضعف ولا يتضمن سقوط ذلك عما زاد عن الضعف مطلقا بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم تجب عليهم أن يصابروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالهم قتال وقع عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم المصابرة يوم أحد ويوم الخندق مع أن العدو كانوا أضعافهم. 87- وذم الله المنهزمين يوم أحد والمعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب؛ بما هو ظاهر معروف.
88- وإذا كانت الآية لا تبقي وجوب المصابرة ما زاد على الضعفين في كل حال، فإنه لا يبقى الاستحباب الجواز مطلقا أولى وأحرى. آية أخرى وتوضيح معناها الصحيح 89- فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) . وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يقتل فقد ألقى بيده إلى التهلكة. 90-[قيل] 1: تأويل الآية على هذا غلط! إنكار الصحابة على من يتأول معنى الآية خطأ 91- ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون على من يتأول الآية على ذلك كما ذكرنا2: أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. إنكار عمر فقال عمر بن الخطاب: كلا ولكنه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية207) . إنكار أبي أيوب الأنصاري 92- وأيضا: فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي من حديث يزيد بن أبي حبيب - عالم أهل مصر من التابعين – عن أسلم أبي عمران قال: " غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصِقُو
ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى النهلكة؟! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإِسلام، قلنا: هلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) . فالإِلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية ". قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"1 من فضائل أبي أيوب الأنصاري 93- وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قدرا وهو الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لما قدم مهاجر من مكة إلى المدينة، ورهط بنو2 النجار هم خير دور الأنصار كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقبره بالقسطنطينية.
94- قال مالك: "بلغني أن أهل القسطنطينية إذا أجذبوا كشفوا عن قبره فيسقون"1. إنكار أبي أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة 95- وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه، فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. توضيح معنى الآية بما قبلها من الآيات 96- والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يصد عنه، والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 190-191) .
97- وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:193-195) . 98- فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تناسب ما يضاد ذلك عن النهي عما يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض للنفس للشهادة، إذ الموت لا بد منه، وأفضل الموت موت الشهداء. 99- فإن الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يضل عنه؛ والمناسب لذلك: ما ذكر في الآية من النهي عن العدوان، فإن الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: من الآية190) . 100- فنهى عن العدوان، لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: من الآية194) .
101- وإذا كان الله معهم1 نصرهم وأيدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود الجهاد به. 102- وأيضا فإنه في أول الآية قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وفي آخرها قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) . إمساك المال والبخل هو التهلكة 103- فدل على ذلك ما رواه أبو أيوب من أن إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله واشتغال به هو التهلكة. 104- وأيضا: فإن أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه، وهذا من ثاني روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حجة يجب إتباعها. من أسباب التهلكة والهلاك 105- وأيضا: فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه.
من أسباب الذل في الدنيا وقهر العدو 106- فإذا ترك العباد الذي أمروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه؛ من عمارة الدنيا هلكوا في دنياهم بالذل1 وقهر العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذ عن العمل بالدين، بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. 107- قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: من الآية217) . 108- إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة. 109- فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء
العدو عليها وتسلطه على النفوس والأموال. ترك الجهاد يوجب الهلاك 110- وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشهده الناس وأما في الآخرة فلهم عذاب النار. المؤمن لا ينظر إلا إحدى الحسنيين 111- وأما المؤمن المجاهد؛ فهو كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (التوبة:52) . فأخبر أن المؤمن لا ينظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن [حيا] 1 حي حياة طيبة، وإن قتل فما عند الله خير للأبرار2.
112- وأيضا: فإن الله قال في كتابه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (البقرة: من الآية154) . 113- وقال في كتابه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169) . 114- فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد أنه ميت. 115- قال العلماء: وخص الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفر عن الجهاد خوفا من الموت. وصف الشهادة تهلكة بهتان عظيم 116- وأخبر الله أنه حي مرزوق؛ وهذا الوصف يوجد أيضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ينكل1 عن الجهاد لفرار النفوس من الموت، فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا؛ لئلا يكون ذلك منفرا عن الجهاد فكيف يسمي الشهادة تهلكة واسم الهلاك أعظم تنفيرا من اسم الموت. 117- فمن قال قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) . يراد به الشهادة في سبيل الله فقد افترى على الله بهتانا عظيما!!
الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان 118- وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان: أحدهما: أن يكون هو طالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد. 119- ويكون قتال هذا: إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه. 120- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد" 1. قال الترمذي: "يكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته"2. 121- وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان القتال يحصل المقصود وإما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه3.
حكم الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل 122- ومن هذا الباب: الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولا يستأسر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه من قلبه مؤمن بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو1. 123- فإن كان هو الآمر الناهي ابتداء كان بمنزلة المجاهد ابتداء. 124- فإذا كان الأول أعز الإيمان وأذل الكفر كان هو الأفضل. 125- وقد يكون واجبا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإن الفتنة أشد من القتل. 126- فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه: ترجح القتل واجبا تارة ومستحبا أخرى. 127- وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به فيجب الصبر على ذلك. 128- قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:217) 129- فأخبر أن الكافرين لا يزالون بقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم. 130- وأخبر أنه من ارتد فمات كافرا خالدا في النار. 131- ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه: كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} إلى قوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر:26- 28) . 132- وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (لأعراف: 127، 128) . 133- وقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (البقرة: من الآية87) . 134- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران:21) . 135- وقال تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة: من الآية61) . 136- وقال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} إلى قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 110-112) .
137- وقال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} إلى قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (البروج: 4-7) . قصة الغلام والساحر 138- وقد روى مسلم في صحيحه1 عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر. فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت. فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. تعليم السحر للغلام فبعث إليه غلاما يعلمه. تعرف الغلام في طريقه على الراهب وكان في طريقه، إذا سلك راهب. فقعد إليه وسمع كلامه. فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه. فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب؟. فقال: إذا خفت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خفت أهلك فقل: حبسني الساحر. اختبار الغلام أيهما أفضل الساحر أم الراهب فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
مقتل الدابة وعلو شأن الغلام فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها. ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني. قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس [من] سائر الأدواء. دعاء الغلام لجليس الملك برد البصر فشفي فآمن وأصبح جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل. فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله، فشفاه الله عز وجل. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟
قال: ربي وربك الله. جليس الملك يعذب فيدل على الغلام فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام. فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب1. فجئ بالراهب؛ فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمنشار. فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبى. فدفعه إلى نفر من أصحابه
محاولة طرحه من فوق الجبل ونجاته فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به إلى الجبل. فإذا بلغتم ذروته1، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل2 فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. محاولة إغراقه في البحر ونجاته فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قرقور3، ثم توسطوا به البحر فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة4 فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به.
فقال: ما هو؟ دلالة الغلام للملك لكيفية قتله قال: أنك تجمع الناس في صعيد1 واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس2. ثم قل: باسم الله رب الغلام. ثم ارم. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني3. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع. ثم أخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس مقتل الغلام سبب في إيمان الناس وظهور الإيمان ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه4 في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك1. قد آمن الناس. حفر الأخدود لتحريق المؤمنين فأمر بالأخدود2 بأفواه السكك3 فخدت. وأضرم فيها النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها4. أو قيل له: اقتحم. غلام يتكلم في المهد ليثبت أمه على الحق ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست5. فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق" 139- ففي هذا الحديث: أنه قتل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعا عن الإيمان.
صبر أهل الأخدود 140- وكذلك: أهل الأخدود صبروا على التحريق بالنار ولم يرجعوا عن الإيمان. 141- وأما الغلام فإنه أمر بقتل نفسه لما علم أن ذلك يوجب ظهور الإيمان في الناس، والذي يصبر يقتل أو يحمل حتى يقتل؛ لأن في ذلك ظهور الإيمان من هذا الباب1.
مدح من يصبر على الإيمان حتى يقتل 142- وفي صحيح البخاري1 عن قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرث قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ؟ قُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فقَالَ: قد كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يؤخذ الرجل فيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِا ثم يؤتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فيجعل نصفين وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ عَظْمه2 [وما] يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْرَ3 حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ4 وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".
143- وفي رواية1: " أَتَيْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ: أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ. فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ". وجه الدلالة من الحديث 144- والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم ذلك آمرا لهم بالصبر على أذى الكفار، وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا، كما قتلوا المؤمنين صبرا؛ ومدحا لمن يصبر على الإيمان حتى يقتل. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل تمت بعون الله تعالى في 25 محرم 1319هـ