قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق

ابن تيمية

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان و (بين) (¬1) عبادات أهل الشرك والنفاق تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ رحمه الله تعالى تحقيق سليمان بن صالح الغصن دار العاصمة للنشر والتوزيع ¬

_ (¬1) سقطت من المطبوع، وهي ثابتة في عنوان الأصل.

مقدمة الكتاب

/2أ/ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه: الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

فصل

«فصل» في الفرق بين عبادات أهل الإسلام، والإيمان، والهدى، والتوحيد، والإخلاص، والعلم، والشرع، المتبعين للأنبياء والمرسلين، وبين عبادات أهل الشرك، والنفاق، والجهل، والضلال، والبدعة، من المشركين، ومن ضاهاهم، من مبتدعة أهل الملل. فعبادات المسلمين مبنية على أصلين: أحدهما: أنهم لا يعبدون إلا الله وحده لا شريك له. والثاني: أنهم يعبدونه بما أمر وشرع لهم من الدين الذي بلغته رسله عنهُ. فهم يعبدون اللهَ، لا يشركون به شيئًا، ويتقونه، ويطيعون رسله كما أمرتهم الأنبياءُ بذلك. قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ • قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ • أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 1-3] . وكذلك ذكر عن هود وصالحٍ وشعيبٍ أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50] . وقال عن المسيح: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ، وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 36] .

/2ب/ وكل من الرسل يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] . وقال عن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] ، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ • وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51-52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فجعل الإيتاء لله ورسوله. كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] إذ كان الحلال ما حلّله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وجعل الحسب لله وحده، والرغبة إلى الله وحده، كما قال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] ، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] ، وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ

الكلام على قوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}

الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . فالله وحده هو حسب الرسول وجميع المؤمنين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: هو وحده يكفيك، ويكفي من اتبعك. هذا معنى الآية عند جماهير السلف والخلف. وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على محل الكاف وهو منصوب، كما تقول العرب: حسبك وزيدًا درهم. وقال الشاعر: ............................. فحسبك والضحاك سيف مهند /3أ/ وهذا هو دين الإسلام الذي لايقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا الآخرين، وهو أن يعبد الله في كل وقتٍ بما أمر به في ذلك الوقت، فهو المعبود وحده دائمًا. قال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ • وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 51-52] وواصبًا أي: دائمًا. هكذا قال جمهور المفسرين واللّغويين. ثم قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ • وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ • ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ

تنوع الشرائع

بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ • لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 52-55] . لكن قد تتنوع الشرائع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أولًا إلى البيت (¬1) المقدس، قبل الهجرة وبعد الهجرة بضعة عشر شهرًا، ثم حوّله الله، فأمره أن يصلي إلى الكعبة، فتنوعت الشريعة، وفي كلا الحالين الدين واحد، وهو دين الإسلام، عبادة الله وحده لا شريك له. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ، الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ» يعني: دينهم واحد وإن تنوعت شرائعهم. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] . وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ • مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ • مِنَ الَّذِينَ /3ب/ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30-32] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ • وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ • فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 51-53] . ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (بيت) .

كل الأنبياء كانوا على الإسلام

وكذلك قال في حق الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] والأمة قد فسروها بالملة والدّين، أي: ملتكم ودينكم واحد، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ • وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22-23] . وإذا قيل: المراد به الناس، فالمعنى واحد، أي: ادعوا جميع الناس إلى عبادة الله وحده، كما (قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ) (¬1) ، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] . وكل الأنبياء كانوا على الإسلام، كما ذكر الله عن نوح أنه قال: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] . /4أ/ وقال عن الخليل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ • إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ • وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132] . ¬

_ (¬1) ما بين القوسين سقط من المطبوع.

ذم الشرائع التي لم ينزلها الله

وقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] . وقال عن موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وقال تعالى عن السحرة الذين آمنوا بموسى إنهم قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] . وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] . وقال يوسف الصديق: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] . وقالت بلقيس: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . وقال عن أتباع المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ • إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18-19] . قال قتادة في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، ولا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به. وقد ذم في كتابه من شرع دينًا لم ينزله، أو حلل أو حرم بغير وحي من الله، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .

/4ب/ وذم المشركين على أنهم حرموا ما لم يحرمه، وأحلوا ما حرمه، وشرعوا دينًا لم ينزله، كما ذكر ذلك في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما. فقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ • قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 28-29] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ • قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32-33] . وقد قال في أول السورة: {المص • كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ • اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 1-3] .

فصل

«فصل» وأما دين أهل الشرك، ومبتدعة أهل الكتاب، فهو دين لم ينزل الله به سلطانًا، إما أن يدعوا مع الله غيره من المخلوقات، أو يقولوا (¬1) : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وإما أن يعبدوه بغير ما أمر وشرع، مما شرعه لهم شركاؤهم، أي الذين جعلوهم شركاء لله. كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ /5أ/ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ • وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79-80] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا • أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56-57] . أي: الذين يدعوهم المشركون هم يبتغون إلى ربهم ¬

_ (¬1) في الأصل: (يقولون) ، والتصويب من المحقق.

المخلوق لا يملك الضر ولا النفع

الوسيلة. قال ابن عباس ومجاهد: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم. وقال ابن مسعود: كان ناسٌ من الإنس يعبدون نفرًا من الجن فأسلم الجنيون، ولم يعلم الإنس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فعيَّرهم الله. وعلى كل قول ذم سبحانه من يدعوا مخلوقًا وذلك المخلوق يعبد الله؛ يتقرب (¬1) إليه، ويرجوه، ويخافه، فدخل في هذا جميع الملائكة، والأنبياء، والصالحون من الإنس والجن. فإذا كان المخلوق المعظم المقرب عند الله لا يجوز أن يدعى، فالعصاة لله من شياطين الإنس /5ب/ والجن أولى ألا يدعوا، فقد تضمنت الآية ذم من يدعو غير الله مطلقًا. وبين أن ذلك المدعو لا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله من موضع إلى موضع، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ • وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23] فبين تعالى أن المخلوق ليس له ملك، ولا شرك في الملك، ولا هو معين لله، ولكن غاية ما عنده الشفاعة، والشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (ويتقرب) .

هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وقال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] . وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] . وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ /6أ/ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .

فصل

«فصل» والضُّلاَّل يدعون إلى دين مجهول، ليس معهم به سلطان منزل من الله. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56] . وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ • تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ • لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 41-43] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71] والسلطان: هو الوحي المنزل من الله. قال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] . والدين الذي نزل به الوحي هو الدين الذي شرعه الله عزّ وجلّ، وأهل الضلال يتبعون دينًا ليس موافقًا للشرع المنزل، ولا لهم به علم، بل يتبعون

شيوخ أهل المعرفة يوصون باتباع الشرع والعلم

أهواءهم وما يذوقونه ويجدونه في أنفسهم، بغير شرع ولا علم. ولهذا كان شيوخ أهل المعرفة يوصون باتباع الشرع والعلم، /6ب/ ويذمّون أهل العبادات الذين لا يتبعون الشرع والعلم، كما قال [تعالى] (¬1) : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71] . ولهذا طالب الله أهل الضلال بالعلم والسلطان، فقال تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] فبين أن الصادق يكون معه علم بما قاله، فمن لا علم عنده فهو مفتر للكذب على الله. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ • إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168-169] . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] . وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ • وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 169-170] . # # #

فصل

/7أ/ «فصل» والذين يروون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: ثقات، وغير ثقات، وهؤلاء منهم من يتعمد الكذب، وأكثرهم لا يتعمدون الكذب، لكن يؤتى أحدهم من سوء حفظه، والعلماء تكلموا في هؤلاء، وهؤلاء؛ حفظًا للدين من الزيادة والنقصان. وكذلك الذين تكلموا برأيهم، ونظرهم، وفهمهم، وذوقهم، ووجدهم، وكلامهم نوعان: فما وافق فيه الرسول فهو حق، وما خالفه فهو خطأ، وأكثرهم لم يتعمد الخطأ، بل غلط، ومنهم يتعمد قول غير الحق، مع علمه بأنه غير الحق.

فصل

«فصل» وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وأكملهم علمًا، ودينًا، واعتصامًا بحبل الله، واتباعًا لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، وهم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وقد أخبر سبحانه أنه رضي عن السابقين الأولين، ورضي عن الذين اتبعوهم إذا اتبعوهم بإحسان. فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ /7ب/ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] . وهؤلاء السابقون هم الذين بايعوا تحت الشجرة، وهم الذين أنفقوا من [قبل] (¬1) ، وقاتلوا قبل الفتح، والفتح هو الحديبية، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ ¬

_ (¬1) في الأصل: (بعد) ، والتصويب من المحقق.

عقيدة الصحابة رضي الله عنهم

الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] . وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . وفي الصحيحين عن جابر قال: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ» وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَلَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ الْيَوْمَ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ. وقد وعد الله هؤلاء ومن تبعهم بالحسنى. وكانت طريقة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدون الله وحده بما أمرهم به نبيهم؛ فالحلال عندهم ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، يصلون الصلوات الخمس كما أمر الله في مواقيتها جماعة في المساجد، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت العتيق، ويؤدون الزكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، ويعبدون الله بسائر ما أمرهم به نبيهم، ولا يعبدون إلا الله، ولا يدعون غير الله، لا /8أ/ مما في السماء ولا مما في الأرض، لا (¬1) الملائكة، ولا الكواكب، ولا الأنبياء، ولا تماثيلهم، بل قد علموا أن هذا كله من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. ولا يدعون مخلوقًا، لا ملكًا، ولا جنيًّا، ولا بشرًا، لا نبيًا ولا غير نبي، لا عند قبره، ولا في مغيبه، لا (¬2) يستعينون إلا بالله، ولا يستنصرون إلا بالله، ولا يتوكلون إلا على الله، ولا يدعون مخلوقًا غائبًا، ولا ميتًا، ولا يستغيثون به، ولا يشكون إليه، ولا يطلبون منه مغفرة، ولا هدى، ولا نصرًا، بل يطلبون هذا كله ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (ولا) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (ولا) .

من الله. ولا يفعلون كما يفعل النصارى فيستشفعون بالملائكة، أو الموتى من الأنبياء والصالحين، عند قبورهم أو غير قبورهم، ولا يقول أحد منهم: يا جبريل، يا ميكائيل، اشفع لي إلى الله، ولا يقول: يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، اشفع لي إلى الله، كما يفعل النصارى، بل قد علموا أن الغائب لا يطلب منه شيء، والميت لا يُطلب منه شيء، وأن الملائكة لا يفعلون إلا ما أمرهم به ربهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وكذلك الأنبياء والصالحين، ولكن يطلب من أحدهم في حياته الدعاء والشفاعة، كما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكما يطلب الخلق منه الشفاعة يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.

فصل

«فصل» وكانوا يصلون الصلوات الخمس خلف /8ب/ النبي صلى الله عليه وسلم وخلف غيره من الأئمة. كان لكل دار من دور الأنصار مسجد، ولهم إمام يصلي بهم، إلا في الجمعة والأعياد، فإنهم كانوا يصلون ذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم. هؤلاء أهل المدينة، وكانت المدينة كبيرة ولا سور لها، وإنما هي أماكن متفرقة، كل قبيلة لهم حدائق، ومسجد، ومقبرة، ومساكن يتميزون بها عن القبيلة الأخرى. واسم المدينة يتناول ذلك كله، لا يخرج عنها إلا الأعراب أهل العمود، كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] والذين يفلحون الأرض هم من أهل المدينة، وهم الأنصار، ويسمى مسكن القبيلة دارًا، ويراد بلفظ الدار: القبيلة نفسها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد في الدور، وأن تنظف، وتطيب. وفي الحديث الصحيح: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ» وعير هو: الجبل الذي عند ذي الحليفة، ظهره كظهر العير وهو الحمار، وثور هو: جبل صغير بجنب أحد، وهذا غير جبل ثور الذي بمكة، وقد اشتبه ذلك على بعض العلماء، وقد سمى ذلك كله مدينة وقال: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ

كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم كما أمرهم

لَابَتَيْهَا» . واللابة: الأرض التي تركبها حجارة سود، وقال له الأعرابي: ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا. فما بين لابتيها: هو الحرم وهو من المدينة، /9أ/ وهو ما بين عير إلى ثور، وهو بريد في بريد. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليه في صلاتهم، كما أمر الله ورسوله، فيقولون في التشهد: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ» ويصلون عليه كما علمهم، مثل أن يقولوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» ، وقد روي: «كَمَا صَلَّيْتَ (¬1) عَلَى إِبْرَاهِيمَ» وقد روي: «عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» . ¬

_ (¬1) أشار ناسخ الأصل في الهامش إلى أنها وردت في نسخة أخرى بلفظ: (باركت) . أقول: ولعلها الأصوب؛ إشارة إلى الرواية التي يذكر فيها لفظ الآل في الأول، ولفظ إبراهيم في الآخر. والله أعلم.

استمرار الصحابة بعد موته على مثل ما كانوا عليه في حياته

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وروي مثله في السلام: أنه من سلم عليه مرة، سلم الله عليه عشرًا. فهم إذا صلوا عليه وسلموا عليه، صلى الله عليهم وسلم عليهم. ولم يكن هذا السلام في الصلاة مما يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه السلام، إنما كان ذلك إذا حيوه تحية يسمعها، فإذا سلموا عليه ردّ عليهم السلام، وأما سلام الصلاة فهو كالصلاة عليه، الله هو الذي يصلي عليهم بالمرة الواحدة عشرًا، ويسلم عليهم بالمرة الواحدة عشرًا. ولمّا قبض الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانوا على ما كانوا عليه في حياته، هم والتابعون يصلون خلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، في مسجده، وخلف /9ب/ غيرهم، لكن هؤلاء الأربعة أمّوا الناس في مسجده، فأبو بكر وعمر صليا بالنّاس حتّى ماتا، وعثمان صلى بالناس حتّى حصر، وعلي صلى بالناس مدة مقامه بالمدينة قبل أن يذهب إلى العراق، وهؤلاء الأربعة بويع لهم في مسجده، ولهذا قال (¬1) أحمد بن حنبل: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة. وكان خلفاؤه الراشدون، هم ومن يصلي خلفهم في مسجده، يفعلون بعد موته كما كانوا يفعلون في حياته، يصلون الصلوات الخمس، وهم في الصلوات يصلون عليه، ويسلمون عليه، ويدعون الله تعالى في الصلاة ¬

_ (¬1) أضاف المحقق هنا كلمة: (الإمام) . وليست في الأصل.

تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد

وخارج الصلاة، وقد علموا أن ذلك يكفيهم، ويغنيهم عن غيره، مما لم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشرعه لهم. وكان صلى الله عليه وسلم لمّا مات قد دُفن في حجرة عائشة، وفيها كان مرضه، وكانت حُجَرُ أزواجه شرقي المسجد وقبلته، وهي متصلة بالمسجد، يخرج منها إلى المسجد، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وهي بيوته وبيوت أزواجه، أضافها إليه في قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 35] وإلى أزواجه في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الذِّي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وفي طريق أخرى: «غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ -[أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا] (¬1) » . قالت عائشة: /10أ/ «وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» وفي لفظ للبخاري: «غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» . وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين لم يظهر في هامش مصورة الأصل، وهو إضافة من المحقق.

أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي (¬1) أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا (¬2) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . وفي رواية لمسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه قال: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وفي موطأ مالك عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (فإني) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (صنعوا) .

وفي سنن أبي داود وغيره عن /10ب/ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فِإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» . وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن [علي بن] (¬1) أبي طالب - وهو أجل الشرفاء الحسنيين في زمن تابعي التابعين - أنه رأى رجلاً ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إِلَّا سَوَاءٌ. ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

وصول الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم من القريب والبعيد

وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ - أَيْ بَلِيتَ - فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِياءِ» . وفي النسائي وابن حبان وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» . فقد أخبر أن الصلاة والسلام عليه يصل إليه من البعيد والقريب بقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» وقوله: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا» ، وكذلك السلام يصل إليه من القريب والبعيد بقوله: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ /11/ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» فكل مسلم قال في صلاته: السلام عليك أيها النبي ورحمة [الله] (¬1) وبركاته؛ وصل ذلك إليه. وكان أصحابه والتابعون لهم بإحسان يعلمون أن هذا السلام أفضل من السلام عليه عند قبره الذي يرد جوابه، فإن سلام التحية شرك فيه جميع المؤمنين (¬2) ، كما في الحديث: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي ¬

_ (¬1) إستدراك من المحقق، وليس في الأصل. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (المسلمين) .

الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وأمّا السلام إذا تعبد (¬1) به في الصلاة وغيرها فإن هذا السلام قد أمروا به في كل صلاة، وهذا السلام يسلم الله على العبد بكل مرة عشرًا، وذلك السلام هو صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، كما كان يرد السلام على من سلّم عليه في حياته. وكان الصحابة كلهم يسلمون عليه في كل صلاة، وإنما يأتيه من يأتيه منهم بعض الأوقات فيسلم عليه إذا أتاه، فذاك السلام في الصلاة أمر الله به في كل صلاة، بخلاف هذا، فإنه إنما يشرع عند لقائه، وأجر ذلك أعظم، فإن الله يسلم على العبد بالمرة الواحدة عشرًا، وهذا إنما يرد عليه الرسول. وقد علّمهم أيضًا إذا دخلوا المسجد أن يقول الرجل: «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» ، وإذا خرج أن يقول: «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي [ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» . وكثير من الناس اتخذوا قبور أنبيائهم] (¬2) /11ب/ أعيادًا، وأوثانًا، وأشركوا بها ¬

_ (¬1) كذا قرأها المحقق، والأظهر لي أنها: (تقيد) . (¬2) زيادة من المحقق، وليست في الأصل.

الصحابة والتابعون متبعون للتوحيد مجتنبون للشرك

بعد موتهم، وإلا ففي حياتهم ما كانوا يمكنون أحدًا أن يشرك بهم ويتخذهم أربابًا. فلهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان متبعين للتوحيد الذي بعث الله به رسوله، مجتنبين لما نهاهم عنه من الشرك وأسبابه، واتبعوا أمره في منع الناس من قبره، فصار الشرك به، وفهل المنكر عنده، ممتنعًا بعد موته، كما كان ممتنعًا في حياته. وهذا من فضائله، وفضائل أمته، فإنه لا نبي بعده، وأمته لا تجتمع على ضلالة، ولو كان قبره بارزًا؛ لكان كثير من الجهال يريد أن يتخذه مسجدًا، ووثنًا، وعيدًا، كما فعل ذلك بقبر من ليس مثله، بل ينسب إليه، [تقربًا به] (¬1) ، أو طاعة له، لكن دفن في الحجرة محجوبًا عن الناس، فلم يقدر أحد (على) (¬2) أن يشرك به، ولا يتخذه وثنًا، ولا يفعل عند قبره منكرًا، فصار له خاصة لا يشركه فيها غيره، فيما يأمر (¬3) به، وينهى عنه، فإن مسجده أسس على التقوى، والسفر مشروع إليه، [و] (¬4) العبادة فيه فاضلة، وليس عند قبر غيره مسجد يسافر إليه، بل كثير من تلك المساجد بنيت لأجل القبور، وذلك حرام، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك تحذيرًا لأمته. وأما مسجده فهو مؤسس على التقوى، وهو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، وقيل: بل أفضلها مطلقًا، والصلاة فيه خير من ألف ¬

_ (¬1) رسم الكلمة لم يتبين للمحقق، وهكذا استظهرها. (¬2) سقطت من المطبوع. (¬3) في الأصل: (يؤمر) ، والتصويب من المحقق. (¬4) زيادة من المحقق، وليست في الأصل.

أصل الشرك

صلاة فيما سواه، والسفر إليه مشروع /12أ/ مستحب. وأما النهي فإنه لا يمكن أن يفعل عند قبره شيء من المنكر، ولا يتمكن أحد من زيارة قبره، والوصول إليه، كما يتمكن من زيارة قبر غيره، والوصول إليه، حتى يفعل عنده ما يفعل. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد كما تقدم، ونهاهم عن الصلاة إليها، فنهاهم أن يجعلوها مساجد، أو قبلة؛ وهذا لأن أصل الشرك في بني آدم إنما كان من الشرك بأصحاب القبور، فإن أول الشرك كان في قوم نوح. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وقد ثبت في الصحيح أنهم يقولون يوم القيامة (¬1) : «يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ» . ولهذا لم يذكر الله في القرآن رسولاً قبل نوح، ولا أمة أهلكها الله قبل أمته، وقد قال تعالى في قصته: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا • وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح: 23-24] . ¬

_ (¬1) علق في هامش الأصل بقلم مغاير: (قف على هذه اللطيفة) .

قال طائفة من السلف، منهم محمد بن كعب القرظي: «هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فلمّا ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم (¬1) في العبادة، فجاءهم إبليس، فقال لهم: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم. فعبدوهم» . رواه عبد بن حميد في تفسيره عن محمد بن كعب. فابتداء عبادة الأوثان /12ب/ كان ذلك، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء؛ لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين. وذكر البخاري في صحيحه عن عطاء عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح، في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأمما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (مأخذهم) .

وذكر [ابن جرير] (¬1) في تفسيره: روى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس يعني ابن مخرمة بن نوفل قوله: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال: كانت أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت. وروي عن ابن عباس: أن تلك الأوثان دفنها الطوفان، وطمسها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. وقد قيل: شابهتها في الأسماء والجنس، ولم تكن أعيان هذه أعيان ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق، وليست في الأصل.

سد النبي صلى الله عليه وسلم ذريعة الشرك

تلك، وكانت للعرب أصنام أخر؛ فاللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة. وقد ذكر مثل هذا غير واحد من السلف. وهذا /13أ/ الذي ذكروه أنه كان ابتداء عبادة الأوثان هو مبدأ الشرك من مبتدعة أهل الملل كالنصارى، فإنهم صوروا تماثيل الصالحين والأنبياء، وقالوا: هذا فعلناه تذكارًا لنتذكر بصورهم أحوالهم، فتكون أنشط وأشوق لنا إلى التشبه بهم. ثم صاروا يدعونهم ويطلبون منهم الشفاعة، ويقولون: نحن نطلب من هذه التماثيل أن يشفعوا لنا والمقصود: طلبنا من أصحابها أن يشفعوا لنا. ولما كان هذا مبدأ الشرك في النصارى، وفي القبور؛ سد النبي صلى الله عليه وسلم ذريعة الشرك، ففي صحيح مسلم عن أبي هيّاج (¬1) الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ» . فلم يكن على عهد الصحابة، والتابعين، بل وتابعي التابعين، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما في ديار الإسلام، قبر يُتخذ مسجدًا، ولا يصلى إليه، ولا كان في عهدهم في بلاد الإسلام قبر ولا مشهد يسافر إليه، وإنما حدثت المشاهد على القبور بعد القرون الثلاثة، فلم يكن يصلى عندها لله، ولا يقصد الدعاء عندها، فضلاً عن أن يكون يقصد أن يدعى صاحبها أو ¬

_ (¬1) تغيرت في المطبوع إلى: (الهياج) .

قبر دانيال

يسأل، ويقال: إنا نستشفع به، كما يفعله النصارى، بل لما فتح المسلمون العراق وجدوا قبر دانيال، وعنده مصحف، قال أبو العالية: أنا قرأته، /13ب/ وفيه أخباركم، وكان أهل المكان يستسقون به، فكتب فيه أبو موسى إلى عمر، فكتب إليه عمر يقول: احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، وادفنه بالليل في واحد منها؛ لئلا يفتتن به الناس. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسافرون إلى المساجد الثلاثة لأجل الصلاة فيها، وللدعاء ونحو ذلك، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» . أخرجاه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. حتى كان ابن عمر يأتي إلى بيت المقدس فيصلي فيه، ويخرج ولا يشرب فيه ماء، رجاء أن تصيبه دعوة سليمان عليه السلام: اللهم لا يأتي هذا البيت أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

حقيقة المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم

ولم يكونوا يتخذون ذلك وقت الحج، بل كانوا يحجون ويأتون إلى بلادهم، وكان عمر يقول: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق عراقكم. ولكن كانوا يأتون مسجد المدينة والمسجد الأقصى بحسب ما تيسر، ليس لذلك وقت، ومنهم من يتيسر له ذلك وقت الحج. وكان الصحابة يتحرّون متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فما فعله على وجه العبادة فعلوا كما فعل، وإذا خص مكانًا أو زمانًا بالعبادة فيه خصوه هم أيضًا بالعبادة، كما كان يخص مشاعر الحج مثل عرفة ومزدلفة /14أ/ ومنى، بما شرع فيها من العبادة، وقد قال لهم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فكانوا يقصدون أن يفعلوا كفعله. وكذلك كان يقصد تخصيص المسجد الحرام، ومسجده، ومسجد قباء؛ فيخصونها، لكن مسجد قباء؛ لم يشرع السفر إليه، ولكن شرع إتيانه من القرب، كما قال: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ لَهُ كَعُمْرَةٍ» . وكذلك كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة في مكان من مسجده، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة فيه عند اسطوانة فيه.

وكذلك يعظمون شهر رمضان، وعشر ذي الحجة، ويوم الجمعة، ونحو ذلك مما كان يخصه صلى الله عليه وسلم بالتعظيم. وما فعله على وجه الاتفاق، مثل سيره في طريق، وصلاته فيه إذا نزل، وصبّ ماء فضل معه في أصل تحت شجرة، - وكان ابن عمر رضي الله عنه يحب أن يفعل كفعله، وأما أكثر الصحابة فلم يكونوا يقصدون ذلك؛ لأن المتابعة هي أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فلا بد أن نشاركه في القصد والنيّة فإنما الأعمال بالنيّات، فإذا قصد العبادة بالعمل، فقصدنا العبادة به؛ كنا مقتدين، متبعين، متأسين به، وأما إذا لم يقصد به العبادة، بل فعله على وجه الاتفاق لتيسره عليه، فإذا قصدنا العبادة به؛ لم نكن متبعين له - ومشي ناقته في الطريق، وصب ماء فضل من وضوئه في شجرة هناك، ونحو ذلك، هو لم يقصد به مكانًا معينًا بقصد العبادة بصبّ الماء /14ب/ في تلك الشجرة دون غيرها، أو قصد العبادة بمشي راحلته (¬1) في ذلك الجانب دون غيره، بل قصد أن يمس بالماء ما قرب منه من (¬2) الشجر ولا يضيع، ففعل ما يسره الله له من الفعل، كما كان يأكل ما تيسر، ويلبس ما تيسر، فكان لا يعيب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وكان يأكل من تمر مدينته كالرطب، وأما ما لم يوجد فيها فلم يكن يأكله؛ لأنه لم يوجد ولو وجده لأكله، فاتباعه في ذلك أن يأكل الرجل من طعام بلده ما تيسر، لا يقصد من ليس ببلده رطب أن يأكل الرطب، فإن هذا ليس بمتابعة. وهذا كما أمر أهل المدينة أن يخرجوا صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو ¬

_ (¬1) تحرفت في المطبوع إلى: (رجليه) . (¬2) في الأصل: (في) ، والتصويب من المحقق.

حكم تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم

شعير؛ لأنه كان قوتهم، فمن كان قوته القمح فهو مأمور أن يخرج قمحًا عند جماهير العلماء - وإن قال بعضهم: إن التمر أفضل - وليس له أن يخرج الشعير عند الجمهور، وفي إخراج التمر نزاع أيضًا. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رأى قومًا ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسفر، ومكان حلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال عمر] (¬1) : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب. وهذا نهي عن مثل ما كان يفعله /15أ/ ابن عمر، مع أن ابن عمر لم يكن يقصد لا هو ولا غيره من الصحابة إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء للعبادة، بل إنما قصد متابعته في صورة الفعل. وأما الأمكنة التي كان يقيم بها، ويجلس فيها، وينزل بها ليلاً ونهارًا، والطُرق التي كان يسير بها، والمواضع التي كان ينزلها في أسفاره، فلم يكن أحد من الصحابة يقصدها لصلاة فيها ولا دعاء ولا غير ذلك، مثل حُجَر أزواجه التي كان يقيم بها ليلاً ونهارًا، فلم يكن أحد منهم يقصد زيارة تلك البقاع، أو الصلاة (¬2) فيها، أو الدُّعاء (¬3) . وكذلك غار حراء الذي كان يتحنث فيه، وغار ثور الذي كان فيه هو وأبو بكر، وغار المرسلات الذي نزلت عليه فيه {وَالْمُرْسَلاَتِ} (¬4) ، ومثل منزله لما حاصر قريظة والنضير، ومثل طرقه في أسفاره، فلم يكن أحد من الصحابة ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين لم يظهر في هامش مصورة الأصل. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (والصلاة) . (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (والدعاء) . (¬4) غيرت في المطبوع إلى: (المرسلات) .

يقصد زيارة هذه الأمكنة، ولا الصلاة فيها، والدُّعاء، وإذا لم يكونوا يفعلون هذا بالبقاع التي حلّ بها أفضل الخلق؛ فهم لغيرها أترك، فلم يكن أحد منهم يقصد شيئًا من البقاع لا بالشام ولا بغير الشام، إلا المساجد التي للصلاة، لا يقصدون بقعة لكونه نزل بها إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، لا بالبيت المقدس، ولا غيره، بل كانوا يسافرون لإتيان البيت المقدس. ولما فتحه المسلمون وكان على الصخرة زبالة عظيمة جدًا كانت النصارى تهينها بغضًا لليهود، فطهّرها عمر بن الخطاب، وقال /15ب/ لكعب الأحبار: أين ترى أن أبني مصلّى المسلمين؟ قال: خلف الصخرة. قال: يا ابن اليهودية خالطتك يهودية، بل أبنيه في صدر المسجد، فإن لنا صدور المساجد. فبنى مصلّى المسلمين في قبلي المسجد - وهو الذي يسميه بعض الناس: الأقصى، والمسجد الأقصى يتناول المسجد كله - ولم يبنه خلف الصخرة؛ لئلا يتشبه المسلمون بمن يصلّي إلى الصخرة، مع أنها كانت قبلة منسوخة. وإبراهيم عليه السلام لمّا بنى البيت، ودعا الناس إلى الحج، فأمر الله تعالى أن نجيب دعوة إبراهيم، ونفعل كما فعل، فنعبده في الأماكن التي قصد العبادة فيها، ولهذا قال غيرُ واحدٍ من السلف: مقام إبراهيم هو: المشاعر: عرفة، ومزدلفة، ومنى، وإن كان المقام الخاص أخصّ من غيره، ولهذا صلّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف عنده، ثم إذا كانت سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وأصحابه، وما عليه علماء أمته: أنه لا يسنّ استلام مقام

لم يكن الصحابة يسافرون لزيارة قبر إبراهيم

إبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهما، وهما أفضل الخلق؛ فغيرهما أولى أن لا يسن استلام مقامه، فإن الاستلام إنما هو بركن بيت الله عبادة لله، كما أن الطواف إنما هو ببيت الله عبادة لله، لا يكون ببيت مخلوق. ولم يكن الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، يسافرون إلى قبر الخليل عليه السلام، /16أ/ ولم يكن ظاهرًا، بل كان على المغارة بناء، وليس له باب مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نقب عليه بابًا النصارى الكفار، لما استولوا على تلك البلاد، وجعلوه كنيسة، وعلى مثل ذلك لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتخذوا قبور الأنبياء مساجد. فلم يكن أحد من الصحابة يسافر لزيارة قبر إبراهيم وأهل بيته، وأكثر الناس لم يكونوا يعرفون أن هناك قبر الخليل، ولهذا تنازع الناس فيه، بل كانوا يأتون إلى المسجد الأقصى، ولا يذهبون إلى تلك القرية، وكان ذلك قربه، ولم يكن قبر الخليل ظاهرًا يدخل إليه، فإن سليمان عليه السلام بنى عليه حجرة فكان مسدودًا، وليس عليه علامة يعرف بها، وقد قيل: إنه أول ما أظهر في سنة بضع وثلاثمائة في خلافة المقتدر، لما حدث في الإسلام حوادث كثيرة، واستطال الكفار والمنافقون على أهل الإسلام في ذلك الوقت. والأحاديث التي رويت في ليلة المعراج أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: انزل فصلّ، فهذا يثرب، أو فهذا طور موسى، أو قبره، أو هذا قبر الخليل، كلها كذب، قد بين الحفاظ كذبها، وإن كان قد خفي حال بعضها على بعض

حكم استلام وتقبيل أركان الكعبة

العلماء، بل الذي في الصحيح أنه صلى في بيت المقدس بالأنبياء ولم يصل في غيره، ولهذا كانت الصلاة فيه والسفر إليه للصلاة فيه مستحبة. وقد اتفق المسلمون على ما هو سنة بينهم، أن من حج البيت فإنه /16ب/ يستحب له أن يستلم الحجر الأسود، ويقبله، وأما اليماني فإنه يستلمه، وتنازعوا في تقبيله، فقيل: يقبّله، وقيل: يقبّل يمينه التي استلمه بها، وقيل: لا يقبّله ولا يقبّل يمينه، وهذا أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه واستلم الحجر الأسود، وقبل الحجر، ولم يقبّله، وأما الركنان الشاميان فلم يستلمهما ولم يقبلهما. ومقام إبراهيم الذي قال الله فيه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] لم يستلمه ولم يقبله، واتفق العلماء على أنه لا يستلم ولا يقبّل، فإذا كان هذا مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى، اقتداءً بإبراهيم خليله، فمقام لم نؤمر (¬1) أن نصلي فيه، أولى أن لا نستلمه ولا نقبّله، مثل مقامات تضاف إلى إبراهيم، وغيره، بالشام، وغير الشام. ويقال: في هذا المكان قتل فلان النبي، وبهذا المكان نزل فلان النبي، ونحو ذلك، وتقبّل تلك الأمكنة، وتستلم، وتقصد للصلاة فيها، وهذا لو كان صحيحًا لم يكن أفضل من المواضع التي صلى فيها النبي ¬

_ (¬1) في الأصل: (يؤمر) ، والتصويب من المحقق.

لا يطاف بغير الكعبة

صلى الله عليه وسلم، مثل حُجَره التي كان يقيم بها ليلاً ونهارًا، ومثل الغيران الني حلّ بها، كغار ثور، وغار حراء، وغير ذلك من البقاع، فإذا لم يكن الصحابة يقصدون هذه البقاع للدعاء والصلاة؛ فغيرها أولى أن لا يقصد. وجوانب البيت لا تستلم، ولا تقبّل، وقد طاف ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما، فكان معاوية يستلم الأركان الأربعة، فقال له ابن عباس: إن رسول الله /17أ/ صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له معاوية: ليس من البيت شيء مهجور، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. فسكت معاوية، ووافق ابن عباس لما بين له السنة. وعلى هذا فقهاء المسلمين قاطبة، فما سوى الكعبة، كالصخرة، وغيرها، لا تستلم، ولا تقبّل، كما لا يطاف بها، وليس في الأرض مكان يطاف به إلا الكعبة، كما أنه لا قبلة إلا الكعبة، مع أن الصخرة كانت قبلة، فمن اتخذها اليوم قبلة فهو كافر، والطّواف بها، وبأمثالها، أعظم من اتخاذها قبلة؛ فإن الطّواف لم يشرع قطّ إلا بالبيت العتيق، ولا حرم يحرم صيده ونباته إلا حرم مكة، وكذلك حرم المدينة عند الجمهور، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة. ووادي وَج بالطائف حرم عند الشافعي، لحديث روي فيه، وأكثر العلماء يقولون: ليس بحرم، وضعف أحمد حديثه، وما

سوى الثلاث ليس بحرم باتفاق المسلمين، لا البيت المقدس، ولا قبور الأنبياء، ولا غير ذلك. # # #

فصل

«فصل» ولم يكن أحد من الصحابة يقصد شيئًا من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لا يصلي عنده ويدعو عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، ولا يقولون: إن الدعاء عنده أفضل، ولا الدعاء عند شيء من القبور مستجاب، بل قد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم /17ب/ لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد لله فيصلّى عندها لله، والمصلي لله إنما يدعو الله، ويتضرع له، ويستغيث به، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن من فعل هذا عندها لئلا يتشبه بمن يقصد دعاءها، فالذي يقصد دعاءها قد فعل نفس الشرك الذي لأجله نهي عن اتخاذها. ومن العجب أن كثيرًا من الناس نهي عن الصلاة //148ب// عندها، ثم يقصدون الدعاء عندها، ويقولون: إنه يستجابُ الدعاء هناك، فهل يقول مسلمٌ أو عاقل إن مكانًا نهينا أن نعبد الله فيه بالصلاة لله يكون الدعاء فيه مستجابًا، ويكون مقصودًا للدعاء؟! وهذا بمثابة من قال: أنا لا أصلي عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ولكن أسجد للشمس حينئذ. وهو إنما نهي عن الصلاة لئلا يتشبه بمن يسجد للشمس.

فصل

«فصل» ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين يسافر إلى قبرٍ، لا قبر نبي، ولا غيره، بل كان عامتهم يأتون المدينة النبوية، ويصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، ويَرَون ذلك هو غايةُ المطلوب، فلم يكونوا يذهبون إلى قبره، لم يكن أحد منهم يدخل إلى قبره، لا للسلام، ولا للصلاة، ولا للدعاء، ولا غير ذلك، إلا من دخل على عائشة لأنه بيتها، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يردّ عليه، كما جاء في الحديث. وأما السلام عليه في المسجد، فهو مثل الصلاة عليه في المسجد (¬1) ، يفعل في جميع جوانب المسجد، وفي جميع الأرض، واستقبال القبلة به أولى. وقد اتفق العلماء على أن أهل المدينة /18أ/ لا يُستحبُّ لهم ذلك (¬2) إذا دخلوا و (¬3) خرجوا أن يأتوا لقبره (¬4) ، ولكن هل يُستحب لهم ذلك إذا قدموا من سفر (¬5) ، أو يستحب للغرباء، عند الدخول والخروج؟ هذا فيه قولان، لكن قد ساغ بعده (¬6) ؛ لأن ابن عمر فَعَلَه، وتابعه على ذلك كثيرٌ من علماء السلف والخلف، وإن [لم] (¬7) يكن هذا عندهم من السنن المشهورة، إذ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم به كما أمرهم أن يسلموا عليه في الصلاة، بل أخبرهم أنه من سلم عليه ردّ عليه السلام، وهذا يتناول من (¬8) سلم عليه من القرب ¬

_ (¬1) (في المسجد) ليست في خ2. (¬2) (ذلك) ليست في خ2. والأولى حذفها. (¬3) في المطبوع: (أو) ، وناسخ الأصل قد كتبها أولاً (أو) ثم ضرب على الألف. وفي خ2: (وخرجوا) . (¬4) في خ2: (القبر) . (¬5) في المطبوع: (السفر) ، وناسخ الأصل كتبها أولاً (السفر) ثم ضرب على (ال) التعريف. وفي خ2: (سفر) . (¬6) في خ2: (فعله) ، وهو أصح. (¬7) إضافة من المحقق، وليست في الأصل. وهي ثابتة في خ2. (¬8) في الأصل وخ2: (لمن) ، والتصويب من المحقق. ولعل الصواب: (متناول لمن) ، والأمر قريب.

مقصوده صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"

في بيته، وأما البعيد فلا يدخل فيه بالاتفاق، لكن من كان في المسجد عند الحائط، هل هو قريب أو بعيد؟ على قولين (¬1) . وهكذا أخبرهم عن سائر المؤمنين فقال: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهُ السَّلَامَ» . وكان هو صلى الله عليه وسلم مدفونًا في حجرة عائشة، وقد قالت عائشة إنه قال في مرضه الذي مات فيه (¬2) : «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» قالت عائشةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. فبينَتْ أنه دُفن في الحجرة ولم يظهر قبرُهُ؛ لئلا يتخذ مسجدًا يُصلى عنده، وإن كان المصلي إنما يصلي لله، ويدعو الله، فإنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ونهى أمته أن يتخذوا القبور مساجد، فإذا كان /18ب/ هو صلى الله عليه وسلم لعن من يصلي عندها لله، ويدعو الله //149أ// - لأن ذلك ذريعة إلى الشرك - فكيف بمن يصلي لها، ويسجد لها، أو يدعوها (¬3) ، ويستغيث بها، ويطلب منها ما يطلب من ربّ العالمين، فإن هذا من أعظم الشرك، وجعلها أوثانًا وأندادًا لله رب العالمين، كما فعل قوم نوح، ومن ضاهاهم من مشركي أهل الكتاب. فمقصودُهُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ (¬4) » بيان حياتِه، وأنه يَسمع السلام من القريب، ¬

_ (¬1) في الأصل وخ2: (القولين) ، والتصويب من المحقق. (¬2) (الذي مات فيه) ليست في خ2. (¬3) في خ2: (ويدعوها) . (¬4) (السلام) ليست في خ2.

هل يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

ويبلَّغ السلامَ من البعيد، ليس مقصودُهُ أمر الأمة بأن يأتوا إلى القبر ليسلموا عليه عند قبره (¬1) ، فإنه لم يأمرهم بذلك، إنما أمرهم بالسلام عليه في الصلاة، وذلك أفضل وأكمل له ولهم؛ وذلك لأن سلام التحية مشروع لمن أتى لحاجة كما كانوا يأتونه في حياته فيسلّمون عليه، وكذلك من دخل (¬2) إلى بيته يسلّم (¬3) عليه، وأما أن يقصد إتيانه لأجل ردّه، فهذا غير مشروع، لا في حياته، ولا بعد موته. ولهذا اتفقوا على أنه لا يشرع لأهل المدينة إذا دخلوا وخرجوا، ولو كان (¬4) هذا كالسلام في الصلاة لكان مستحبًّا لأهل المدينة، ولكن السلام عليه لمن قدم جائزٌ مشروعٌ باتفاق العلماء، وإنما النزاع: هل يستقبل به الحجرة، أو القبلة؟ وهل هو السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه، أو هو سلام /19أ/ التحية، الذي يشترك فيه جميع المؤمنين، الأحياء، والأموات؟ وقد تنازع العلماء: هل يُكره أن يُقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ على قولين: فكره ذلك مالك وغيرُهُ، بل وكره أن يقال: طواف الزيارة. وللناس في تعليل ذلك أقوال: قيل: لأن الزائر أفضل (¬5) ، وقيل: لكراهة زيارة القبور، وقيل: يكره أن يُقال: زرت قبره، ولا يكره أن يقال: زرته، وقيل: لأن زيارة قبره ممتنعةٌ، فإن زيارة قبره إنما تكون إذا دخل إلى بيته، حيث دفن، وهذا ممتنع، وإنما الممكن أن يأتي مسجده، ومسجده يؤتَى لكونه مسجدًا، لا لأجل القبر، لكن يسلّم عليه في مسجده كما كان يُسلّم عليه في مسجده في حياته؛ ¬

_ (¬1) في خ2: (عنده) بدل (عند قبره) . (¬2) في خ2: (يدخل) . (¬3) في خ2: (سلم) . (¬4) في خ2: (أن) . (¬5) علق في هامش الأصل بقلم مغاير: (قوله: لأن الزائر أفضل. انظر ما وجه أن الزائر أفضل من المزور، وهل هذا على إطلاقه؟) .

هل يستقبل القبر أو القبلة في السلام؟

كان (¬1) يسلم عليه [فيه] (¬2) في الصلاة ويسلّم (¬3) عليه سلام التحية، فالسلام المأمور به مشروع فيه باتفاق العلماء، وسلام التحية فيه قولان. وهل يستقبل القبر أو القبلة؟ [فيه] (¬4) قولان، ومالك يرى استقبال القبر، وأبو حنيفة يرى استقبال القبلة. # # # ¬

_ (¬1) في الأصل وتبعه المطبوع: (كما كان) ، بزيادة (كما) ، وهي زيادة مقحمة من الناسخ، ليست في خ2، والعبارة دونها أسلم. (¬2) إضافة من خ2. (¬3) في الأصل: (السلام) ، وعدلها محقق المطبوع إلى: (والسلام) ، والمثبت هو ما في خ2. (¬4) إضافة من خ2.

فصل

«فصل» فإن قيل: إذا كان زيارة قبر غيره مستحبًّا، ولا يكره أن يقال: زرت قبره، فهو صلى الله عليه وسلم أحقّ بأن يكون زيارة //155ب// قبره مستحبًّا، ولا يكره أن يقال: زرتُ قبره، وقد ثبت لفظ زيارة القبور في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ /19ب/ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» . وما في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» وفي لفظ: «ويَرْحَمُ (¬1) اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا (¬2) وَالْمُسْتَأْخِرِينَ» . وثبت في الصحيح أنه خرج إلى أهل البقيع فدعا لهم، وكذلك خرج إلى شهداء أحد. (¬3) قيل: الكلام في مقدمتين: في زيارة سائر القبور، ثم هل هو مثل غيره أو بينه وبين غيره فرقٌ؟ أما المقدمة الأولى: فقد اختلف العلماء في زيارة القبور على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) في الأصل وتبعه المطبوع: (يرحم) . والمثبت من خ2، والرواية التالية لنفس الحديث ص65، وهو الموافق لما في «صحيح مسلم» . (¬2) في الأصل وتبعه المطبوع زيادة: (ومنكم) . وهي ليست في خ2، ولا الرواية التالية لنفس الحديث، وليست في رواية «صحيح مسلم» ، ولعلها من تصرف ناسخ الأصل، فتم حذفها. (¬3) في خ2 بيض الناسخ هنا بمقدار سطر ونصف، وكتب: (بياض) ، ولعله يشير للأصل الذي نقل عنه.

تفصيل القول في زيارة القبور

قيل: إن ذلك مستحبٌّ، وهو قول الأكثرين. وقيل: إنه مباحٌ وليس (¬1) بمستحب، وهو قول في مذهب مالك وأحمد. وقيل: بل ذلك منهيٌّ عنه، روي هذا عن طائفة من السلف، وهؤلاء يقولون: نهي (¬2) عن زيارة القبور، ولم يثبت عندنا أنه نسخ ذلك. وقد اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور، قيل: لأن ذلك مظنة الشرك، وقيل: لأنه مظنة النياحة. واختلفوا: هل نسخ ذلك؟ فقال الأكثرون: إنه نسخ، وقيل: لم ينسخ، /20أ/ والذين قالوا: إنه نُسخ، قال بعضهم: إنه صيغة افْعَلْ بعد حظر، فلا تفيد إلا الإباحة، فإنه قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا //156أ// فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» وقال الأكثرون: إن زيارتها على الوجه الشرعي مستحبةٌ، وهذا هو الصحيح. وجماع الأمر، أن زيارة القبور ثلاثة أنواع: منها: ما هو منهيٌّ عنه باتفاق العلماء كالزيارة التي تتضمن محرمًا، إما (¬3) من الندب والنياحة المحرّمة، وإما من الشرك والبدع المحرمة، فهذان النوعان (¬4) حرام باتفاق العلماء. ومنها: ما هو مباح، كزيارة القريب، وإن كان كافرًا؛ (¬5) للرقة عليه، لا للدعاء له، فهذا مثل البكاء على الميت بغير ندب، ولا نياحة، لا (¬6) بأس به. والثالث: أنه يزار ليدعى له، كما كان يزور أهل البقيع، والشهداء، وهذا مستحب، لكن لم يقل أحدٌ من العلماء: إنه يستحبُّ السّفرُ إليها لزيارتها، فتنازعوا في زيارتها من المكان القريب: هل هو مستحبٌّ، أو ¬

_ (¬1) في خ2: (ليس) دون الواو. (¬2) في خ2 ضبطت: (نَهَى) ، وبعدها (نَسَخ) . (¬3) (إما) ليست في خ2. (¬4) في الأصل: (فهذا النوعين) ، وفي خ2: (فهذا النوعان) ، والتصويب من المحقق. (¬5) في خ2 هنا زيادة كلمة لم أجزم بها، كأنها: (لكونه) . (¬6) غيرت في المطبوع إلى: (ولا) .

زيارة مسجد قباء

مكروهٌ، أو مباحٌ؟ ولم يتنازعوا في السّفر إليها أنه ليس بمستحب، فإن المسافر إليها إنما يسافر لفعل ما هو منهي عنه من الشرك وغيره، ولهذا يسمونه حجًّا إليها، لا يسافر أحدٌ لمجرد الدعاء للميت، وإن قدّر أنه سافر لذلك فلا تقوم فضيلة الدعاء عند القبر بكلفة السفر الذي هو قطعة من العذاب، تفوت معه مصالح أنفع من ذلك، وهو /20ب/ مظنة المفسدة. بخلاف المساجد، فإن المسلمين متفقون على أنه يشرعُ إتيانُ المساجد من المكان القريب، وإتيانها إما فرض عين، وإما فرض كفاية، أو (¬1) مستحب، إذا كان يأتيها للعبادة الشرعية، كالصلاة المشروعة فيها، والاعتكاف، والقراءة، وتعلم العلم، وتعليمه، ومع هذا فلا يُشرع السفر إليها، بل الأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه لو نذر السّفر إليها لم يوف بنذره؛ لأن في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (¬2) » . حتى نص عامة العلماء على أنه لو نذر السفر إلى مسجد قباء، لم يوف بنذره، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وأتباعهم، لكن فيه نزاع شاذ في مذهب مالك؛ لأنه نهى عن السفر إلى غير المساجد (¬3) الثلاثة، وإنما يستحب إتيانه من قريب، مثل أن يكون بالمدينة، فيذهب إليه، كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبًا، وماشيًا. وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويقوم في قباء يوم السبت؛ لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} ¬

_ (¬1) في خ2: (وإما) . (¬2) في خ2: (والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) . (¬3) (المساجد) ليست في خ2.

[التوبة: 108] //47ب// وهذا يتناول مسجده، ومسجد قباء، ومسجده أحق بذلك من مسجد قباء. كما ثبت في الصحيح أنه سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» أي: هو أحق بهذا الوصف /21أ/ من غيره، كما قال لأهل الكساء: علي، وفاطمة، وحسن، وحسين: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» أي: هم أحق بذلك من غيرهم، والحصر يكون حصرًا للكمال كما تقول: عبد الله العالم. وإلا فالقرآن يدلّ على أن مسجد قباء (¬1) أسس على التقوى، وعلى (¬2) أن أزواجه من أهل بيته. وإذا كانت المساجد التي يشرع إتيانها من غير سفر بالنص والإجماع لا يشرع السفر إليها، بل (¬3) يجب إتيانها (¬4) ، فما لا يجب إتيانه (¬5) بالاتفاق، وفي استحبابه نزاع، أولى أن لا يشرع السفر إليها. والجمهور على أن زيارة القبور المأذون فيها نوعان: نوع يباح في حقّ الميت الكافر والمسلم، فهذا جائز، لما فيه من تذكر الآخرة، كما ثبت في الصحيح أنه قال: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» . ¬

_ (¬1) في خ2: (أهل قباء) . (¬2) (على) ليست في خ2. (¬3) أضاف المحقق هنا حرف (لا) النافي، ولا وجود له في الأصل ولا خ2، والأولى عدم إثباته؛ فالمعنى مستقيم من دونه. (¬4) الضمير يعود على المساجد التي لا يشرع السفر إليها ولكن يجب إتيانها من قريب للصلوات المفروضة. (¬5) الضمير يعود على القبور، يعني زيارة القبور.

الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدفن والسلام

والنوع الثاني: زيارتها للسلام على الميت، والدعاء له، فهذا مستحب في حق المؤمنين خاصة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بُكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» وفي رواية: «وَيَرْحَمُ (¬1) اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ» ، //48أ// وكما ثبت في الصحيح: أنه كان يخرج إلى أهل البقيع فيدعوا لهم ويستغفر لهم، /21ب/ وكما ثبت (عنه) (¬2) في صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم صلّى على قتلى أحد (¬3) بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، فهذه الزيارة من جنس الصلاة على الجنازة، ومن جنس الصلاة على قبر الميت، وهذا مشروعٌ لأهل المصر، وأما سفر الإنسان إلى قبرٍ يصلي عليه، فهذا ليس بمشروع. ومن هنا يظهر الكلام على المقدمة الثانية، وهي الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فيقال: هذا كالفرق بينه وبين غيره في الدفن، فإن سنة المسلمين أن يدفنوا في الصحراء تحت السماء، كما كان هو صلى الله عليه وسلم يَدفِنُ أصحابَه في البقيع، ولم يدفن أحدًا منهم تحت سقف في بيت، ولا بنى على أحدٍ منهم سقفًا، ولا حائطًا. بل قد (¬4) ثبت عنه في الصحيح أنه نهى أن يُبْنى على القبور (¬5) ، وهو صلى الله عليه وسلم دُفِن في بيته، تحت السقف؛ وذلك لما بَيَّنَتْهُ عائشة رضي الله عنها من أنه لو دفن في الصحراء لخيف أن يتخذ قبره مسجدًا، فإن عامة الناس لما في قلوبهم من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، قد يقصدون الصلاة عنده، بل قد يَرَوْنَ ذلك أفضل لهم من الصلاة في مكان آخر، كما فعل أهل الكتاب حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ورأوا الصلاة عندها أفضل ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (يرحم) بحذف الواو. (¬2) سقطت من المطبوع. (¬3) في خ2: (وكما ثبت في صحيح البخاري عن عقبة بن عامر أنه قال: [صلى رسول الله] صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد) . اهـ. وما بين المعقوفتين استدراك من صحيح البخاري. (¬4) (قد) ليست في خ2. (¬5) في خ2: (القبر) .

الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته

من الصلاة عند غيرها؛ لما في النفوس من الشرك، والذين يفعلون ذلك /22أ/ يرون أنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى (¬1) ، وأن ذلك من أفضل أعمالهم، وهم ملعونون، قد لعنهم الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى // اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وهم من شرار الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وفي الصحيحين أنه ذُكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فلما كان دفنه في بيته من خصائصه؛ لئلا يتخذ قبره مسجدًا، فهو صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يتخذ قبره عيدًا، أي يجتمع عنده في أوقات معتادة، فقال: «صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» فكذا زيارة قبر غيره من عموم المؤمنين للسلام عليه والدعاء له، لا يفضي إلى أن يتخذ قبره مسجدًا، وعيدًا، ووثناً، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد دفن في بيته؛ لئلا يتخذ قبره مسجدًا. ومقصود الزيارة في حق غيره إنما هو السلام عليه، والدعاء له، كالصلاة على جنازته، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نسلم عليه في صلاتنا، ونصلي عليه، وصلاتنا وسلامنا يصل إليه حيث كنا، وهذا لم نؤمر به في حق غيره على الخصوص، فغيره إذا /22ب/ زرنا قبره قد يحصل له من دعائنا له ما ¬

_ (¬1) في خ2: (تبارك وتعالى) .

لا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تزار سائر القبور

لا يحصل بدون ذلك من غير مفسدة فيه، كالصلاة على جنازته، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحصل له بزيارتنا فائدة، بل ولا تمكن زيارة قبره، فإنه دُفن في بيته، وحجب قبره عن الناس، وحيل بين الزائر وبين قبره، فلا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تُزار سائر القبور، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده، ومسجده مبني قبل القبر، والعبادة فيه عبادة لله في بيته، ليس ذلك زيارة للقبر. ولهذا لم ينقل عن أحدٍ من السلف أنه تكلم بزيارة قبره فإن ذلك غير ممكن، ولهذا كرهها من كرهها؛ لأن مسماها باطل، وإنما الممكن الصلاة والسلام عليه في مسجده، وذلك مشروع في جميع البقاع، ليس هو من زيارة القبور، فأما إذا صلينا عليه، وسلمنا عليه في مسجده وغيره من المساجد، لم نكن (¬1) زرنا قبره. (¬2) ولكن كثير من المتأخرين صاروا يسمون الدخول إلى مسجده مع السلام عليه عند الحجرة: زيارة لقبره، وهذه تسمية (¬3) مبتدعة في الإسلام، ومخالفة للشرع، والعقل، واللغة، لكن قد شاعت، وصارت اصطلاحًا لكثير من العلماء، وصار منهم من يقول: زيارة قبره مستحبة بالإجماع، والزيارة /23أ/ المستحبة بالإجماع هي الوصول إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه فيه، وسؤال الوسيلة (له) (¬4) ونحو ذلك، فهذا مشروع بالإجماع في مسجده، فهذه هي الزيارة لقبره المشروعة بالإجماع، فالمعنى المجمع عليه حق، ولكن تسمية ذلك زيارة لقبره هو محل النزاع. وكذلك تنازعوا: هل يستقبل الحجرة أو يستقبل القبلة؟ كما (قد) (¬5) ذكر في موضعه. فإنا مأمورون بالصلاة والسلام عليه وسؤال الوسيلة له في كل مكان، وذلك يحصل به أعظم من مقصود الزيار لقبره، لو كانت ممكنة، مع أنها مظنة اتخاذ قبره مسجدًا، وعيدًا، ولما كانت مظنة اتخاذ قبره عيدًا ¬

_ (¬1) في الأصل: (يكن) ، والتصوبب من المحقق. (¬2) (هناك كلمة في هامش الأصل لم تظهر كاملة في المصورة. (¬3) تغيرت في المطبوع إلى: (التسمية) . (¬4) سقطت من المطبوع. (¬5) سقطت من المطبوع.

الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره حسن

ومسجدًا؛ حجب قبره عن الناس، ومنعوا من هذه الزيارة، فما بقي يمكن أن يتخذ قبره لا مسجدًا، ولا وثنًا، ولا عيدًا، فلما كان الخير الذي يقصد بزيارة القبور، والمصلحة، يحصل بالصلاة والسلام عليه، وطلب الوسيلة له، في أي مكان، أفضل مما يحصل عند القبور؛ لم يكن في الزيارة فائدة تخصّ بها، وفيها مفسدة، وهو كونها ذريعة إلى الشرك، فلهذا فرّق بنيه وبين غيره، كما نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن اتخاذ قبره عيدًا، مع أن المساجد يعبد الله فيها، لكن إذا كانت على القبور كانت مظنة الشرك. والصلاة والسلام عليه عند قبره حسن، لكن لو تمكن الناس من ذلك اتخذوه عيدًا، وصاروا ينتابونه بجماعاتهم (¬1) في أوقات كالأعياد، /23ب/ وأفضى ذلك إلى الشرك، فلهذا نهى عنه، ولما نهى عنه منع أصحابه الناس من ذلك، فما بقي أحد يمكنه أن يزور قبره، كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن دخول مسجده، وهذا هو الذي يعنيه الناس بزيارة قبره، وهي تسمية غير مطابقة. وهذا من أحسن ما يعلل به كراهة من كره أن يقال: زرت قبره، فإن الزيارة المعروفة للقبور هي في قبره مما ليس بمقدور، ولا مأمور، بل قد فرّق الله بين قبره وبين سائر القبور من جهة المأمور به، ومن جهة المنهي عنه، فقبره عنده مسجده المؤسس على التقوى، الذي شرع للناس السفر إليه، وغيره ليس عند قبره مسجد يسافر إليه، بل قد يكون عنده مسجد ينهى عنه. وأما النهي: فقبره لا يمكن أحدًا أن يفعل عنده منكرًا، بل ولا يصل إليه، بخلاف قبر غيره. وقد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكره ذلك ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (بجماعتهم) .

المشركون يحجون إلى القبور

في حق غيره، وقد علل ذلك بأنواع من العلل، منها: (تعذر) (¬1) ذلك في قبره، ومنها: أن في (¬2) إطلاق هذا اللفظ عليه إجمالاً يتناول الزيارة البدعية، زيارة أهل الشرك، الذين يزورون القبور للسجود لها، ودعاء أهلها، واتخاذها أوثانًا من دون الله، واتخاذها مساجد، وما هو أعظم من اتخاذها مساجد. وكثير من الناس لا يقصد بزيارة قبور الأنبياء والصالحين إلا مقاصد أهل الشرك، الذين (¬3) يجعلونهم أوثانًا، وأندادًا لله، وهم شر من الذين اتخذوها مساجد، فإن أولئك يقصدون /24أ/ أن يصلوا فيها لله، ويدعون الله، وهؤلاء إنما يقصدون دعاءهم، والحج إليهم، فيجعلون صلاتهم، ونسكهم، للمخلوق، لا للخالق. يقصد أحدهم في زيارة قبر من يعظمه ما يقصده الحاج في الحج إلى بيت الله، وما يقصده المصلي الذي يقصد مساجد الله، فالحاج والمصلي مسلم حنيف متبع لملة إبراهيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ • قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ • لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 161-163] . فالمسلم صلاته ونسكه لله، والمشرك يصلي لغير الله، وينسك لغير الله، ويدعو المخلوق، ويستغيث به، ويتضرع إليه، كما يفعل بالخالق، ويحج إلى قبره، كما يحج إلى بيت الخالق، ويسمون ذلك نسكًا، ويصنفون كتبًا يسمونها: مناسك حج المشاهد، كما صنّف محمد بن ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (بعدم ورود) ، بسبب خطأ في قراءة الكلمة. (¬2) في المطبوع: (يتوقى في) . و (يتوقى) قد ضرب عليها ناسخ الأصل، وأظن أن الناسخ قصد الضرب عليها وعلى (في) أيضًا؛ فالعبارة مرتبكة بإثباتها، والأولى حذفها. والله أعلم. (¬3) في الأصل: (الذي) ، والتصويب من المحقق.

تعظيم المشركين للقبور

النعمان الملقب بالمفيد، وغيره، مناسك حج المشاهد، ومنهم من يفضل الحج إلى بيوت المخلوقين على الحج إلى بيت الخالق، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وحج البيت هو الحج الأصغر، ومن الناس من يقول: وحق النبي الذي تحج المطايا إليه، فيجعلون الحج إلى المخلوق. ولمّا كان السفر إلى المساجد الثلاثة مشروعًا، والمسجدان الأفضلان في الحرمين: الحرم المكي، والحرم المدني؛ صار الناس يقولون لمن حج إلى بيت الله: فلان حج الحرمين، فإن السفر المشروع إلى المدينة من جنس الحج /24ب/ المشروع، لكنه مستحب، والمنهي عنه من جنس الحج المنهي عنه، وهذا موجود في المنتسبين إلى السُّنّة والشّيعة، ومنهم من يقال له: أتبيع زيارتك لشيخك بحجة، أو ثنتين أو ثلاثة، أو عشر حجج؟ فيقول: لا، ويعتقد أن زيارة شيخه مرة أفضل من عشر حجج. ومنهم من يحج فيأتي إلى المدينة، ثم يرجع ولا يذهب إلى مكة، ويقول: حصل مقصودي من الحج، ومنهم من إذا سافر إلى مكان يضاف إلى نبي، كالمكان المضاف إلى يوسف بمصر، يُحْرِم إذا ذهب إليه كما يحرم الحاج، ومنهم من يستقبل قبر شيخه إذا صلى، ويستدبر الكعبة، ويقول: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا موجود في كثير من أعيان العباد والزُّهاد وممن له قصد وعلم. وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له،

حكم من يعظم القبور

ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير، وليس كذلك، كما يوجد مثل هذا في مصر، والشام، والعراق، وغير ذلك. ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك /25أ/ كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون (¬1) بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر من لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين، قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وفي الحديث: «إِنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» . والذين يؤمنون بالرسول، إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسول، وتبين أنه مشرك، فإنه يتوب إلى الله، ويجدد إسلامه، فيسلم إسلامًا يتوب فيه من هذا الشرك، ولم يكن في الصحابة والتابعين من يقصد زيارة أحد لأجل هذا، لا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره، ولا كان أحدٌ منهم بعد السلام على ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (معذورين) .

لم يكن الصحابة يدعون الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا كانوا يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يطلبون منه الحوائج بعد موته

النبي صلى الله عليه وسلم يقف يدعو لنفسه ولغيره، بل ولا كانوا يطيلون القيام عنده للدعاء له، بل كما كان ابن عمر يسلم وينصرف، يقول: /25ب/ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت (¬1) ، ثم ينصرف، ولما حدث قوم يطيلون القيام يدعون للنبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا: هذا بدعة لم يفعلها السلف، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وكان الصحابة إذا أرادوا أن يدعوا، دعوا في المسجد، واستقبلوا القبلة، ودعوا الله في بيته، لا يستقبل أحدهم القبر ويدعو، هذا وهم يدعون الله تعالى وحده، وأما دعاء الرسول، أو طلب الحوائج منه، فهذا لم تكن الصحابة تعرفه البتة، وقد أصابهم ضرورات في الدين والدنيا، مثل الجدب الذي أصابهم عام الرمادة، وغيره، ومثل الخوف الذي كان يصيبهم في قتال الكفار، فيخافون أن ينتصر الكفار على المؤمنين، ومثل الذُّنوب التي يصيبها من يصيبها منهم. ولا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته حاجة، لا زوال الجدب، ولا النصر على العدو، ولا غفران الذنوب، لا يطلبه منه، ولا يشكيه إليه، ولا يقول: ادع الله لنا، /26أ/ بل قد ثبت في الصحيح: أنهم عام الرمادة لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا. فيسقون. ¬

_ (¬1) في الأصل: (يا أبه) .

طلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته

وكانوا في حياته إذا أجدبوا؛ توسلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم، توسلوا بدعائه، وطلبوا منه أن يستسقي لهم، كما في الصحيح عن ابن عمر قال: رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي عَلَى الْمِنْبَرِ، فَمَا نَزَلَ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ. وفي الصحيحين عن أنس قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ (¬1) [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» ، وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ. فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ، فَمُطِروا أُسْبُوعًا لَا يَرَوْنَ فِيهِ الشَّمْسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: انْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَتَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ» . فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَنْجَابُ الثَّوْبُ] (¬2) . /26ب/ فكانوا في حياته يتوسلون بدعائه، ويستسقون به، فلما مات توسلوا ¬

_ (¬1) في المطبوع استبدل المحقق كلمة (أعرابي) بكلمة (رجل) لتوافق الرواية التي اختارها من «صحيح البخاري» . (¬2) في الأصل ابتدأ الحديث بـ: (جاء أعرابي) ، ثم بعده بياض كبير إلى آخر الورقة. وقد أكمله محقق المطبوع من أحد روايات البخاري في «صحيحه» لهذا الحديث، ولكني رأيت أن الأولى إكماله من رواية شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه لهذا الحديث في كتاب «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة» ص269.

الكلام على حديث الأعمى الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له

بدعاء العبّاس، واستسقوا به؛ لكونه عمّه. وكذلك الحديث الذي رواه الترمذي، والنّسائي، وابن ماجه، وغيرهم، عن عثمان بن حنيف: أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ (¬1) أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قَالَ: فَادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَحْمَةِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فهذا طلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ليرد الله عليه بصره، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو هو أيضًا ويسأل أن يقبل الله شفاعة نبيه فيه، وقوله: «أتوجه إليك بنبيك» أي: شفاعة نبيك بدعائه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم شافعًا له، وهو سائل قبول شفاعة الرسول، فهذا كان توسل الصحابة به في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، كدعاء العبّاس، وكما استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي. /27أ/ ولم يكونوا في الاستسقاء وغيره بعد موته يقولون: اللهم إنا ¬

_ (¬1) أضاف المحقق هنا كلمة: (لي) ، وليست في الأصل.

سؤال الميت فيه أنواع الظلم الثلاثة

نستشفع، أو نتوسل، أو نتوجه؛ لأنه لن (¬1) يشفع لهم في ذلك، وإنما يتوسل، ويستشفع ويتوجه به، فيما (¬2) كان شفيعًا فيه صلى الله عليه وسلم، ولا طلبوا منه بعد موته أن يشفع لهم، ويدعو لهم، كما تفعله النّصارى، فيطلبون الشفاعة من الموتى، الأنبياء وغيرهم، فإن الميت قد انقطع عنه التكليف، ليس هو كالحي الذي يطلب منه ما هو مأمور به من عبادة وطاعة ونفع الغير، فإن الحي إذا طلب منه أن يعين غيره بدعاء، أو شفاعة، أو نفع، أو صدقة، فقد طلب منه ما يأمره الله به من الإحسان، والميت ليس مأمورًا بشيء أمر تكليف؛ لانقطاع التكليف بالموت، بل هو بمنزلة أهل الجنة، والملائكة، يفعل ما أريد منه، فما أراده الله منه حصل، سواء طلب ذلك منه الحي أو لم يطلبه، وما لم يرده منه لم يحصل، فليس في سؤال الحي للميت فائدة للحي، ولا للميت، بل فيه شرك بالميت، وإيذاء له، فإن دعاءه يؤذيه، وليس فيه فائدة للحي، بل فيه ظلمه لنفسه، وشركه بربه، وإيذاؤه للميت، ففيه أنواع الظلم الثلاثة. وهؤلاء الذين يزورون زيارة أهل الشرك والبدع، /27ب/ هم الذين يسافرون إلى قبورهم لذلك، وهو حج لهم، والله سبحانه يحرّم أن يحج إلى بيت غيره. ولا يحجّ إلى جميع بيوته، بل لا يسافر إلا إلى ثلاثة مساجد، والسفر إلى المسجد الحرام للحج (¬3) واجب، [وإلى] (¬4) كل واحد من الثلاثة ¬

_ (¬1) في الأصل: (لم) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (فما) ، والتصويب من المحقق. (¬3) في الأصل: (حج) ، والتصويب من المحقق. (¬4) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

سفر إلى بيت الله الذي بناه نبي من أنبيائه، لعبادته، ودعائه. فهؤلاء إذا زاروا القبور هذه الزيارة المحرمة، فهم منهيون عن ذلك من القرب ومن البعد. وأما الذين يزورون زيارة شرعية؛ للسلام على أهلها، والدعاء لهم، فهذا هو الذي يفرق فيه بين القريب والبعيد، وهذا قليل جدًّا أن يقصد بالسّفر مجرد السّلام، والدُّعاء للميت. وقد يأتي الرّجل القبر محبّة وشوقًا لا لقصد سلام، ولا دعاء لله، ولا لقصد دعائه (¬1) ، فهذا يقال له: إذا صليت وسلّمت حيث كنت؛ وصل صلاتك وسلامك، وكان ذلك أنفع لك عند الله، وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحب من (¬2) يصلّي عليه، ويسلّم عليه، ويسأل الله له الوسيلة، وهو لا يحبّ من يخالف أمره، ويفعل ما نهاه عنه، ويتّخذ قبره عيدًا، ويسافر إليه، كما يسافر إلى بيوت الله الثلاثة، ويطلب منه ما يطلب من الله، ويؤذيه بسؤاله، ورفع صوته. بل لو كان حيًّا مأمورًا بأن يعطي السائل؛ لكان من لا يسأله أحبّ إليه، /28أ/ ولكان سؤاله منهيًّا عنه، إلا لأجل الضرورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَيَتَأَبَّطُهَا نَارًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَلِمَ تُعْطِهِمْ؟ قَالَ: «يَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ» وقال: «مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ، وَمَنْ لَا يَسْأَلُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلَنَا» هذا وهو ¬

_ (¬1) في الأصل: (لدعائه) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (لمن) ، والتصويب من المحقق.

مكلف في حياته، قد قيل له: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] . وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فليس هو مكلفًا، ولا مأمورًا بما كان مأمورًا به في الدنيا من إعطاء السائل، وتأمير الأمراء، وأمر الناس، ونهيهم، بل قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حقّ جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه، ونحن علينا أن نطيعه، فبطاعته تنال سعادة الدنيا والآخرة. # # #

فصل

«فصل» ومما يبيّن الفرق بينه وبين غيره مع ما تقدّم: أنّا مأمورون أن نسلّم عليه في كل صلاة، فنقول: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» وليس هذا لغيره، ومأمورون أن نصلّي عليه إذا دعونا، نقدمه في الدعاء على أنفسنا، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وفي الصحيح عنه أنه قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] » . فقد بيّن أنه أولى بكلّ مؤمن من نفسه في الدنيا والآخرة، ولا يؤمن عبد /28ب/ حتى يكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين، أخرجاه في الصحيحين. وقال له عمر: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: «لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي، قَالَ: «الْآنَ يَا عُمَرُ» . رواه البخاري. ونحن أيضًا مأمورون بأن نسأل له الوسيلة عند الأذان، كما في الصحيح لمسلم أنه قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ

السلام عليه في الصلاة أفضل

سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي صحيح البخاري أنه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إِلَّا حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فهذه الأنواع من الأدعية هي حقّ له علينا نفعله في كل صلاة، وعند كل أذان، وفي كل مكان، وليس هذا لغيره من الأنبياء والصالحين، والمشروع عند القبر إنما هو السّلام عليه، فإن هذا مشروع لمن كان يصل إلى قبره، لما كانوا يدخلون على عائشة، كما يشرع السّلام على سائر موتى المؤمنين، وأما من لم يدخل إلى قبره، فإن كان بعيدًا فقد تعذر عليه هذا السّلام، ثم قيل: كل من خرج /29أ/ عن الحجرة فهو بعيد، وقيل: بل القريب إليها كالداخل فيها (¬1) . والسّلام عليه في الصّلاة أفضل، وأكمل، وأشمل، والسّلام عليه في المسجد في غير الصّلاة، كما يصلي عليه في المسجد في غير الصلاة، هو مشروع باتفاق العلماء، لكن قيل: إنه يستقبل الحجرة، وهو سلام التحية، وقيل: بل يستقبل القبلة، وإن ذلك ممتنع لا يمكن إلا إذا وصل إلى القبر، وذلك ممنوع منه بالحجاب؛ لأنه يفضي إلى المفسدة، فلهذا ¬

_ (¬1) في حاشية الأصل كلمة مبتورة، لم تظهر كاملة في المصورة.

استغنى بهذا عن ذاك. ولهذا كان عامة الصّحابة يقدمون المدينة على عهد الخلفاء الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، يأتون إلى الخليفة لبعض مصالح المسلمين، ويصلُّون خلفهم في مسجده، ويسلّمون خلفهم في مسجده، ويسلّمون عليه في الصّلاة، كما شرع لهم ذلك، ولم يكونوا يذهبون إلى قبره لا لسلام، ولا دعاء، ولا غير ذلك، وهذا مما يعلم بالضرورة أنهم لم يكونوا يفعلونه، فإنهم لو فعلوه لنقل نقلاً متواترًا لظهور مثل هذا لو فعل في مسجده. ولهذا اتفق العلماء على أنّه لا يشرع لأهل المدينة إذا دخلوا المسجد وخرجوا أن يقفوا عند الحجرة، وإنما رخص من رخص عند السفر لأجل فعل ابن عمر، وللغرباء؛ لأنه كثر في التّابعين ما لم يكن مشهورًا في الصّحابة من الوقوف عند القبر للسّلام، وإن كان كثير من التابعين لا يفعلون ذلك، بل إذا سلّموا عليه استقبلوا القبلة، كما كان جمهور الصحابة يفعلون، فإن الصّحابة لم يكونوا يقفون في المسجد بجانب القبر، ولا كانوا يكثرون من /29ب/ الدخول، بل ولا كانوا يكثرون من الدخول إلى عند القبر، بل دفن في الحجرة، ومنع النّاس أصحابه، وغير أصحابه، من الدخول إلى عند قبره، وإنما كان يدخل من يدخل إلى عائشة رضي الله عنها وكانت ناحية في الحجرة عن القبر، وربما طلب منها أحيانًا بعض التابعين أن تريه القبر، فتريه إياه، ليعرف السُّنة في القبور وأنها تكون لاطية، لا مشرفة. فلمّا ماتت عائشة، منع الناس منعًا عامًّا، وكان الدخول ممكنًا مع وجود الباب، فلما سدّت الحجرة، وبني الحائط البرَّاني؛ صار الدخول إلى قبره، والزيارة له كما يزار قبر غيره، غير مقدور، ولا مأمور.

لو كان إتيان قبره مشروعا لكانت الحجرة مشرعة

ولو كان إتيان قبره لصلاة أو دعاء، أو سلام، أو طلب حوائج، مما سنّه لهم؛ لكان يكون باب الحجرة مفتوحًا لجميع المسلمين، وكانوا يقصدونه لذلك، كما أن مسجده لمّا كان إتيانه للصّلاة، والدُّعاء، والسّلام عليه، في الصلاة، وغير الصّلاة، مشروعًا، كان مفتوحًا للمسلمين يقصدونه في كل وقت، ويسافرون إليه من الأمصار، ولهذا لما كانت الصّلاة عليه بعد الموت، وقبل الدفن، - صلاة الجنازة - مشروعة؛ فتحوا باب الحجرة لجميع الصّحابة، فكان كل منهم يدخل فيصلي عليه، ثم يخرج، وصلّوا عليه أفذاذًا، لم يؤمهم في الصّلاة عليه أحد، وعائشة رضي الله عنها في ناحية الحجرة. فلو كان إتيان قبره بعد دفنه كإتيانه قبل الدفن؛ /30أ/ لكانت الحجرة مشرَّعة للمسلمين، كلّهم يأتي قبره ليفعل ما سنّه للمسلمين، فلمّا اتفق الصّحابة على أنهم يدفنونه في الحجرة، ولا يمكن النّاس من الدخول عليه، فلم يمكن أصحابه، ولا غير أصحابه، من الدخول إلى الحجرة إلا صاحبة الحجرة، ومن دخل إليها؛ علم أن إتيان قبره لم يكن مما سنّه لهم وأمرهم به، بخلاف السّلام عليه في الصّلاة، وخارج الصّلاة، في مسجده، وغير مسجده، فإنه مما سنّه لهم، وأمرهم به، كما أمروا بالصلاة عليه، والسّلام عليه من جنس الصلاة عليه، وقد أمروا في القرآن بهذا وهذا، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] . وهو لم يكتف بأنه لم يأمرهم بإتيان قبره، وزيارته في حجرته، والدعاء عنده، والصلاة؛ بل نهاهم عن ذلك، فقال في مرض موته: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ

كل حديث روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف أو موضوع

وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وقال لهم قبل موته بخمس: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وقال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» . وقال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . ومالك وغيره /30ب/ من أئمة المسلمين علموا أنه لم يأمر بزيارة قبره، فلم يقل: زوروا قبري، ولا رغّب في زيارة قبره، بل كل حديث روي في زيارة قبره فإنه ضعيف، بل كذب موضوع، ولهذا لم يرو أئمة المسلمين منها شيئًا، ولا اعتمدوا على شيء منها، فلم يخرج أصحاب الصحيح منها شيئًا، ولا خرج أهل السنن المعتمدة - كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي - منها شيئًا، ولا روى أحمد بن حنبل وأمثاله في مسنده منها شيئًا، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا نحوهم، وإنما يرويها مثل الدارقطني، وهو يعلم أنها ضعيفة. وقد روى البزار في مسنده منها حديث عبيد الله بن عمرو، وهو ضعيف باتفاقهم، ولفظه: «من زارني بعد مماتي كنت له شفيعًا يوم القيامة» وعن ابن عمر لفظًا آخر. وهم يروون أنه قال: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في

حياتي» وهذا انفرد به حفص القاري عن ليث بن أبي سليم، وقد اتفقوا على ضعفه في الحيث، وأنكروا عليه هذا الحديث، وكذلك الأول، أنكروا على من رواه عن عبد الله بن عمر أخي عبيد الله، مع ضعف في عبيد الله، كما قد بسط هذا في مواضع. وهذا أيضًا كذب مخالف لدين الإسلام، فإن الذين كانوا يزورونه (¬1) في حياته، هم الذين هاجروا /31أ/ إليه، وبايعوه على الإسلام، كالوفود الذين كانوا يقدمون إليه، وأولئك من أصحابه، فلو أنفق الرجل مثل أُحُد ذهبًا، ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان بالأعمال الواجبة لا يصير مثل ¬

_ (¬1) في الأصل: (يزوروه) ، والتصويب من المحقق.

لم يكن الصحابة يأتون القبر حال إقامتهم بالمدينة

أحدهم فكيف يصير بعمل ليس بواجب، بل ولا مسنون؟ وأما من يروي أنه قال: من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة. فهذا أعظم كذبًا من غيره، وقد قيل: إن هذا لم يسمع حتى استنقذ المسلمون القدس من أيدي الفرنج، ونقل هذا ابن الصّلاح عن شيوخه وغيره، ولم ينقل عن أحدٍ من الصّحابة استحباب زيارة قبره، بل قد علم بالنقل المتواتر أنه كان يكون في حجرته، وهم لا يزورون قبره، لا من داخل الحجرة، ولا من خارجها، والعلماء متفقون على أن أهل المدينة لا يزورون قبره إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولكن ابن عمر كان يقف عند القبر، ويسلم عليه، وعلى صاحبيه، إذا قدم من سفر، فأخذ بفعل ابن عمر طائفة من العلماء، وآخرون لم يأخذوا بفعله، بل بفعل جمهور الصحابة. ولا كانوا إذا كانوا مقيمين بالمدينة يزورون القبر ولا يأتونه، لا لدعاء، ولا غيره، بل كانوا يأتون إلى مسجده، وهم في كل صلاة في مسجده، وغير مسجده، يقولون: السّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله /31ب/ وبركاته، ويصلون عليه، ويسألون له الوسيلة إذا سمعوا الأذان، كما سنّه لهم، وهذه المصالح العظيمة يحصل بها أضعاف ما يحصل في زيارة قبره، مع أن

كانت الحجرة خارجة عن المسجد

ذاك كانوا يخافون أن يصير ذريعة إلى الشّرك، واتخاذه مسجدًا، وعيدًا، ووثنًا، وهذا الخوف كان لما كان الدخول إليه ممكنًا، ولما سدوه، ومنعوا الناس من الدخول إليه؛ ما بقي يمكن أحد (¬1) الزيارة المعروفة، ولا الشرك، ولا اتخاذه وثنًا، ولا يقدر أحد أن يصلي إلا إلى مسجده، ومسجده ليس هو قبره وبيته، بل مسجده بني للصلوات الخمس، وغيرها. وكان يعتكف فيه، ولا يعتكف في بيته، فحكم هذا غير حكم هذا بالنص والإجماع، ولهذا إنما كان ابن عمر يأتي القبر فيسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه، إذا قدم من سفر، وكانت الحجرة إذ ذاك خارجة عن المسجد، ملاصقة له، وإنما أدخلت في المسجد من (¬2) خلافة الوليد بن عبد الملك، وأدخلت بعد انقراض الصّحابة من المدينة، فإن آخر من مات بها جابر بن عبد الله، وجابر مات سنة بضع وسبعين في خلافة عبد الملك، وابنه الوليد إنما تولى سنة بضع وثمانين، والمسجد أخر بناءه بعد ذلك بمدة، وعبد الله بن عمر مات في خلافة أبيه عبد الملك سنة ثلاث وسبعين عقب فتنة ابن الزبير بمكة. وكان ابن عمر إنما يسلّم عليهم من جهة الرؤوس، من جهة المغرب، إذْ كانت جهة القبلة متصلة بغيرها من الحجر، وكان يسلّم عليهم على الترتيب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المقدم إلى ناحية /32أ/ القبلة، وأبو بكر خلفه، وعمر خلف أبي بكر، ورأس أبي بكر عند منكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند منكبي أبي بكر، كالدرج، هذا أشهر الأقوال. وقيل: إن رؤوسهم مستوية، وقيل: بل اثنان منهما متحاذيان فقط. ولا يعرف من أين كان ابن عمر يسلم، هل كان يستقبل الحجرة أو ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (أحدًا) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (في) .

كيفية الوقوف للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

القبلة؟ والفقهاء متنازعون: فمنهم من يقول: يستقبل القبلة عند السّلام، ويكون عن يسار الحجرة، أو أمامها كما ينقل عن أبي حنيفة. ومنهم من يقول: بل يستقبل الحجرة، وهؤلاء يقول كثير منهم: إنه يستدبر القبلة، ويستقبل الحجرة، فيأتيهم من جهة وجوههم، ويسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينحرف قليلاً إلى جهة الشرق، فيسلم على أبي بكر، ثم ينحرف قليلاً فيسلم على عمر، وهذا إنما يجيء على قول من جعل ترتيبهم كدرج المنبر، وهؤلاء استحبوا هذا؛ لأن قصد التحية من جهة الوجه أحسن، وإذا سلّم عليهم من جهة الرؤوس، كما فعل ابن عمر، كان حسنًا، ويحصل الترتيب على قول من يقول باستواء الرؤوس. ولما لم يكن معهم سنة عنه في التحية من خارج بيته، اضطربوا في الوقوف، وأما تحيته من داخل، فإنما كانت ممكنة من جهة القفا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبره متصل بالجدار القبلي، فلم يمكن أحدًا /32ب/ أن يقف هناك إذا دخل ويسلم عليه، وهذا مما قد يحتج به من يستقبل القبلة فيقول كما لو كان داخل الحجرة، لكن هذه حجة ضعيفة فإن مقتضى هذا أن يسلم عليه خلف الحجرة، وهذا لم يعلم به قائلاً. وكان الصّحابة دائمًا يقصدون المدينة على عهد الخلفاء الراشدين، من الشام، والعراق، ومصر، واليمن، وغيرها، كما تقدم، ولم يشتهر عنهم أنهم كانوا إذا أتوا المسجد فصلّوا فيه، وسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الصّلاة، يذهبون بعد ذلك إلى قبره، وإنما روي هذا عن ابن عمر، أو عن غيره في قضايا معينة، ولو كان هذا عملاً معروفًا لعامة الصحابة القادمين، كالصلاة

الصحابة يفعلون ما أمرهم به من الصلاة والسلام عليه دون ما نهاهم عنه من اتخاذ قبره عيدا

في مسجده؛ لكان هذا ينقل عنهم نقلاً شائعًا متواترًا، لكثرة ما كانوا يقدمون المدينة من الأمصار، أضعاف أضعاف ما يقصدها الناس في هذه الأوقات؛ لأنها كانت دار الخلافة، فجميع أمور أهل الأمصار متعلقة بها، تقصد من جميع النواحي، في جميع العام، ومع هذا فأصحابه أفضل الخلق، وأعلمهم بدينه وما أمرهم به من توحيد الله وحقه، كانوا يفعلون ما أمرهم به وسنّه لهم من الصّلاة في مسجده، /33أ/ ومن الصّلاة والسّلام عليه، وطلب الوسيلة له كما أمر. ولم يكن كل من قدم المدينة ذهب إلى القبر، فلم يكن هذا من عملهم الشائع العام، ولا كانوا يأمرون الناس بذلك؛ لعلمهم أن هذا ليس مما حضهم عليه، ورغبهم فيه، بل نهاهم أن يتخذوا قبره عيدًا، ومسجدًا، ولعن من يفعل ذلك، فكانوا يفعلون ما أمرهم به دون ما نهاهم عنه، وما نهاهم عنه من اتخاذ قبره عيدًا ومسجدًا لم يبق ممكنًا البتة، بل لا يقدر أحد على ذلك، ومن استقبل الحجرة إذا سلم عليه لم يقل: إنه اتخذ قبره عيدًا ولا مسجدًا، فإنه لم يصل إلى قبره البتة، بل إنما فعل ذلك في المسجد. لكن يقال: هذا الفعل مشروع أم لا؟ وهل هو مما يسنّ في المسجد أم هو من أحكام المسجد، ليس من أحكام القبر؟ ولكن كثير من الناس ما بقي يعرف زيارة القبر، إلا ما يكون في المسجد، وهو اسم لا يطابق مسماه، بخلاف أهل البدع الذين يقصدون ما نهى عنه، وقد يجعلون ما نهى عنه أفضل مما أمر به، كما فعلته //50ب// النصارى وأشباههم. ولكن أهل البدع لا يتمكنون من فعل بدعة عند قبره، ولا من الوصول

إلى قبره (¬1) ، ولا يقدر أحد أن يتخذه عيدًا ولا مسجدًا، ولا وثنًا (¬2) ، ولله الحمد والمنّة؛ فهذا ما فعل بقبره قط، بل كان الصّحابة يمتنعون منه مع قدرتهم عليه، ومن بعد الصحابة مُنعوا منه، فلو طلبوا فعله /33ب/ لما قدروا عليه؛ لأن الصحابة أعلم بدينه، وأتبع له. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من سائر المؤمنين إذا زير قبره، فإنه (¬3) يزار قبره فيوصل إليه، فيسلّم (¬4) عليه، ويدعى له هناك، ومثل هذا لا يشرع في مغيبه، فلم يشرع أن يقال في (¬5) الصّلاة: السّلام (¬6) على فلان وفلان، وإنما قيل على سبيل العموم: «السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ، فتبين أنه يحصل لغيره في زيارة قبره من المنفعة ما لا يحصل بدون ذلك، بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الذي يحصل له مع عدم الزيارة أكمل، وأفضل، وأنفع. # # # ¬

_ (¬1) عبارة (ولا من الوصول إلى قبره) ليست في خ2. (¬2) في خ2: (بناء) . (¬3) (فإنه) ليست في خ2. (¬4) في خ2: (فإنه يسلم) . (¬5) (في) ليست في خ2. (¬6) غيرت في المطبوع إلى: (والسلام) .

فصل

//51أ// «فصل» فهذا فرق من جهة انتفاء المصلحة. وفرق آخر من جهة حصول المفسدة، وهو أن: لفظ الزيارة للقبور (¬1) قد صار في عرف النّاس متناولاً للزيارة الشرعية المأمور بها، والبدعية (¬2) المنهي عنها، بل كثير منهم إذا أطلق زيارة قبور الأنبياء والصالحين، إنما يفهم منها: الزيارة البدعية، المنهي عنها، كاتخاذ قبورهم مساجد، وأعيادًا، واتخاذ قبورهم أوثانًا، ومشابهة أهل الكتاب فيما لعنهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل ما نهى عنه الرسول بقوله (¬3) : «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، /34أ/ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» رواه مسلم في صحيحه (¬4) ، وغيره. ويقصدون الحج إلى قبورهم، واتخاذ ذلك نسكًا، والدُّعاء، والصلاة لهم، فمنهم من يسجد للقبر، ومنهم من يطلب منه كما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي وارحمني، وعامتهم يصلُّون عنده، ويطلبون منه الدعاء لهم، أو يدعون به، أو يشتكون إليه، ويطلبون منه قضاء الحاجة في الجملة، فيقول هذا (¬5) : أشكو إليك ذنوبًا (¬6) أنت تعلمها، كأنه يخاطب ربّ العالمين، ويقول هذا: أشكو إليك دَيْني وعيالي، //156ب// وهذا يقول (¬7) : أشكو إليك الجدب، والقحط، ويقول هذا: أشكو إليك ظهور العدو، فيخاطبونه كما يخاطب ربّ العالمين، ويشتكون (¬8) إليه ما لا يشتكى إلا إلى الله (¬9) ، كما قال يعقوب (¬10) : {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وكان عمر بن ¬

_ (¬1) في خ2: (لفظ الزيارة؛ زيارة القبر) . (¬2) في خ2: (والزيارة البدعية) . (¬3) في خ2 زيادة: (صلى الله عليه وسلم) . (¬4) (في صحيحه) ليست في خ2. (¬5) (هذا) ليست في خ2. (¬6) في خ2: (ديونًا) . (¬7) في خ2: (ويقول هذا) . (¬8) في خ2: (ويشكون) . (¬9) في خ2 زيادة: (تعالى) . (¬10) في خ2 زيادة: (عليه السلام) .

الخطاب يقرؤها في الصلاة فيسمع (¬1) نشيجه من آخر الصفوف. وقال موسى (¬2) : اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، [وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك] (¬3) . وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الطائف: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي» . فالأنبياء، وأتباع الأنبياء، إنما كانوا يشتكون إلى الله، وله يدعون، ويتضرعون، وإليه يرغبون، وبهذا أمر الله رسوله (¬4) ، /34ب/ قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ • وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] وقال تعالى عند خوفهم من العدو: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] وقال (¬5) فيما يصيبهم من الضر: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] //157أ// وقال (¬6) : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وقال (¬7) : {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ (¬8) مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ ¬

_ (¬1) في خ2: (وينتشج حتى يسمع) . (¬2) في خ2 زيادة: (عليه السلام) . (¬3) إضافة من خ2. (¬4) في خ2: (ورسوله) . (¬5) في خ2 زيادة: (تعالى) . (¬6) في خ2 زيادة: (تعالى) . (¬7) في خ2: (وقد قال تعالى) . (¬8) في الأصل وخ2: (أرأيتم) .

هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] . وقد بيّن الله (¬1) كفر النصارى وغيرهم، حيث شبهوا المخلوق بالخالق (¬2) ، ودعوا المخلوق كما يدعون الخالق، وبيّن أن من دعا المخلوق - وإن كان نبيًّا، أو ملكًا - فإنه دعا ما لا ينفع، ولا يضر، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ • لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ • أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ /35أ/ غَفُورٌ رَحِيمٌ • مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ • قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 72-76] . فبين أن المسيح عليه السلام لا يملك ضرًّا ولا نفعًا (¬3) . وقد قال الله لمحمد (¬4) : {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ //149ب// أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] ، وقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ (¬5) ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ¬

_ (¬1) في خ2 زيادة: (تعالى) . (¬2) في الأصل وتبعه المطبوع تقديم وتأخير: (شبهوا الخالق بالمخلوق) ، وأثبت ما في خ2. (¬3) زيد في المطبوع هنا عبارة: (إلا ما شاء الله) ، وليست في الأصل ولا خ2، فحذفتها. (¬4) في خ2: (وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم) . (¬5) في خ2 كتب الناسخ فوقها اسم: (عيسى) .

ومن النّاس من عصى أمره، وغلا فيه (¬1) ، فكفر بما جاء به، وبَرِئ منه وهو يحسب أنه يتبعه، كما ظنت النصارى أنهم يتبعون (¬2) المسيح بغلوّهم فيه، وقد كفروا به، وبرئوا منه. فمن الناس من اعتقد في الرسول ما اعتقدته النصارى في عيسى (¬3) ، حتى صرحوا بأنه [هو] (¬4) الله، وأنه يعلم كل ما يعلمه الله، ويقدر على كل ما يقدر الله عليه، وهذا قاله لي غير واحد من هؤلاء، وحكوه عن شيوخ لهم كبارٍ، وهم يَرَون هذا من علوم الأسرار التي لا يُطْلِعُون عليها إلا الخواص، وهم يعتقدون /35ب/ هذا في شيوخهم أيضًا، وهؤلاء غير الغالين (¬5) من الشيعة الذين يعتقدون الإلهية فيه، وفي علي [بن أبي طالب] (¬6) ، وطائفة من أهل بيته، ومنهم من يعتقد الإلهية في بني عبيد الله القداح، كالحاكم، وأمثاله. وثَم (¬7) طائفةٌ من الشيوخ يعتقدون في العارفين الكمّل اتحاد الحقّ بهم، وأنه [تعالى] (¬8) هو الذي يتكلم على ألسنتهم وأن الموحِّدَ هو الموحَّدُ، وينشدون: ما وحّد الواحد من واحد ... إذ كل من وحّده جاحد //150أ// توحيد من يخبر (¬9) عن نعته ... عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد (¬10) ¬

_ (¬1) في الأصل وتبعه المطبوع تقديم وتأخير: (ومن الناس من غلا فيه وعصى أمره) ، ورأيت أن الأولى إثبات سياق خ2. (¬2) في خ2: (متبعون) . (¬3) في خ2: (المسيح) . (¬4) إضافة من خ2. (¬5) في خ2: (الغالية) . (¬6) إضافة من خ2. (¬7) في الأصل وتبعه المطبوع: (وغير) ، والمثبت من خ2. (¬8) إضافة من خ2. (¬9) في الأصل وتبعه المطبوع: (يخبر) ، وهي كذلك في خ2 إلا أن الناسخ كتب فوقها (ينطق) . وقد وردت باللفظين في مصنفات أخرى لشيخ الإسلام ابن تيمية. ووردت في «منازل السائرين» للهروي (ص139) -وهو صاحب هذه الأبيات- بلفظ: (ينطق) . (¬10) انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الأبيات في «منهاج السنة النبوية» ج5/ص370-372.

وقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من سلوك أمته سنن أهل الكتاب

وقد بُسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه قد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَتَسْلُكُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» . وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده (¬1) ، وبين (¬2) الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والرشد (¬3) من الغي، وحذر أمته هذه الأمور، ونهاهم عنها وعما يدعو إليها، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا (¬4) فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] . ¬

_ (¬1) قوله: (وجاهد في الله حق جهاده) ليس في خ2. (¬2) في خ2: (فبين) . (¬3) في خ2: (والرشاد) . (¬4) في الأصل وخ2: (توليتم) .

فصل

/36أ/ «فصل» //حاشية 51أ// فهذان فرقان من جهة حصول المصلحة، وانتفاء المفسدة. وفرق ثالث: أن زيارة غيره ممكنة؛ لبروز قبره، وإمكان مشاهدته، والوصول إليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقدر أحد أن يصل إلى قبره، لا لما يشرع عند قبر غيره ولا لما ينهى عنه، بل منعوا من الجميع، كما دفنوه في حجرته دون غيره؛ سدًّا للذريعة، فهو صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ بيته (¬1) عيدًا، ومسجدًا، وروي أنه إنما دفن في الحجرة بسنته، وأن أبا بكر روى لهم عنه أن الله لم يقبض نبيًّا إلا حيث يدفن (¬2) ، فرفعوا فراشه، ودفنوه تحتها بأمره، باتفاق أصحابه، بأمره على (¬3) جعل قبره محجوبًا غير بارز، بخلاف غيره من المؤمنين. //150أ// ومن الفروق (¬4) بينه وبين غيره: أنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، أنه قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» ورواه // أهل السنن، والمسند، من غير هذه الطرق أيضًا مثل حديث بصرة بن أبي بصرة الذي رواه مالك، وأبو داود، وأحمد، وغيرهم، ولفظه: «لَا تُعْمَلُ ¬

_ (¬1) قال المحقق: هكذا في الأصل، ولعلها (قبره) . اهـ. وفي خ2 كتبت أولاً: (قبره) ثم كتبت (بيته) . (¬2) في خ2: (دفن) . (¬3) (على) ليست في خ2. (¬4) في الأصل وتبعه المطبوع: (الفرق) ، والمثبت من خ2.

السفر إلى غير المساجد الثلاثة غير مشروع

الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» . فكان في (¬1) هذا بيان أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة غير مشروع، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، فإن قوله: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» استثناء مفرغ، فإما أن يكون التقدير: لا تشد إلى مسجد إلا إلى هذه الثلاثة، وإما أن يكون التقدير: لا تشد إلى مكان مطلقًا /36ب/ من الأمكنة التي تقصد، وتعظم، ويسافر لأجلها. فأما السفر لتجارة، أو جهاد أو طلب علم، أو زيارة أخ في الله، أو صلة رحم، ونحو (¬2) ذلك، فإنها لم تدخل في الحديث؛ لأن تلك لا يقصد فيها مكان معين، بل المقصود ذلك المطلوب حيث كان صاحبه، ولهذا لم يفهم أحد من هذا هذه الأمور. بخلاف السفر إلى البقاع المعظَّمة كطور موسى، وكقبور الأنبياء، والصالحين، فإن الصحابة، والتابعين، والأئمة، فهموا دخولها في هذا الحديث، ولم يكن في السلف من ينكر دخولها في الحديث، ودخولها على أحد وجهين: إن قيل: إن المستثنى منه: جنس البقاع المعظمة، فقد دخلت هذه، وإن قيل: إن المستثنى منه: هو المساجد، فلا ريب أنه إذا لم يشرع السفر إلى المساجد، فلا يشرع إلى هذه بطريق الأولى؛ فإن المساجد أفضل البقاع، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ» رواه مسلم. والمساجد يؤمر بقصدها، ويسافر إلى بعضها، ويجب السفر إلى ¬

_ (¬1) أضيف في المطبوع هنا كلمة: (بيان) ، وليست في الأصل. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (أو نحو) .

بعضها، فإذا كانت لا يشرع السفر منها إلى غير الثلاثة، فغير المساجد أولى أن لا يشرع السفر إليها، ولهذا /37أ/ لم يقل أحد من علماء المسلمين إنه يسافر إلى زيارة القبور، ولا يسافر إلى المساجد، وإنما حكي عن بعضهم العكس، فحكي عن الليث بن سعد أنه قال: إذا نذر السفر إلى سائر المساجد، وفى بنذره. وعن محمد بن مسلمة من أصحاب مالك أنه قال ذلك في مسجد قباء. ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إنه من نذر السفر إلى قبر نبي أو غير نبي وفى بنذره، بل نصُّوا على أنه لا يوفي بنذره، ليس بين الأئمة الأربعة وغيرهم من نظرائهم خلاف في ذلك، بل كلهم متفقون على أنه من نذر السفر إلى قبر نبي - أيّ نبيٍّ كان - أو قبر صالح، أنه لا يوفي بنذره. ومالك رحمه الله إذا كان قد نص على ذلك في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الأئمة يوافقونه وهم أولى بذلك منه، فإن مذهب مالك وأحمد: أنه من نذر السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى؛ وجب عليه الوفاء بنذره، وهو أحد قولي الشافعي، والقول الآخر له وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يجب الوفاء إلا إذا نذر المشي إلى الكعبة، فيذهب في حج أو عمرة. فهؤلاء إذا لم يوجبوا السفر إلى مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، مع أنهما سفران مشروعان مستحبان بنص الرسول (¬1) صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة، فأن لا يوجبونه إذا نذر السفر لزيارة القبر بطريق الأولى، /37ب/ فإن أصل أبي حنيفة أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان (¬2) جنسه واجبًا بالشرع، والسفر إلى مسجد المدينة، والأقصى، ليس من جنسه ما هو واجب بالشرع. ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (رسول الله) . (¬2) في المطبوع زيادة: (من) ، وقد كتبها ناسخ الأصل أولاً ثم ضرب عيها.

من نذر السفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لم يوف بنذره

لكن مالك، وأحمد، ومن وافقهما كالشافعي في أحد قوليه، لما كانوا يوجبون الوفاء بنذر كل طاعة، سواء كان من جنسها ما هو واجب بالشرع، أو لم يكن، فمن نذر السفر إلى مسجد الرسول مقصوده الصلاة فيه، فعليه أن يوفي بنذره، ومن نذر السفر إلى المدينة، فهذا مجمل، قد يكون مقصوده الصلاة في مسجده، وقد يكون مقصوده زيارة أهل البقيع، أو شهداء أحد، أو زيارة مسجد قباء، أو بعض المزارات، أو مجرد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا صرح هؤلاء بأنه لا يوفي بنذره، إلا إذا كان مقصوده الصلاة في مسجده، فمن قصد غير ذلك، من زيارة قبره، أو غير زيارة قبره، لم يوف بنذره. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» وقال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» وإعمال المطي إلى غير المساجد أولى بالنهي. فإذا كان مقصوده بإعمال المطي: زيارة (¬1) قبره، أو قبور أهل البقيع، أو شهداء أحد، أو مسجد قباء، فهو منهي عن هذا السفر، /38أ/ وما كان منهيًّا عنه لم يكن قربة، فلا يجب بالنذر باتفاق المسلمين، لكن إذا نذر لله معصية: فهل عليه كفارة يمين؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، وظاهر مذهب أحمد: أن عليه كفارة يمين، وكذلك مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب الشافعي إذا قصد بالنذر اليمين، وظار مذهب الشافعي أنه لا شيء عليه، وهو مذهب مالك. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» أو «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ» هو نهي عن ذلك عند السلف، والعلماء المتقدمين، ما علمت بينهم نزاعًا أن هذا نهي عن السفر، وهو قول مالك، وأصحابه، والمتقدمين (¬2) من أصحاب الشافعي، وأحمد، والصيغة نص في ذلك، ¬

_ (¬1) في الأصل: (لزيارة) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (والمتقدمون) ، والتصويب من المحقق.

كما في قوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وقوله: {وَإِنْ (¬1) تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، ونظائره كثيرة، كقوله: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» . ثم من الناس من يقول: أصل هذه الصيغة الخبر، لكن لما تعذر ذلك فيها؛ حُملت على النهي. ومنهم من يقول: بل النهي له صيغ متعددة، منها: صيغة: لا تفعل، بالجزم، لكن هذه يسميها النحاة: صيغة النهي، وأما: لا تفعل، بالرفع، فهذه لا تختص بالنهي، بل قد يراد بها النهي، وقد يراد بها غير النهي، وكذلك القولان في مثل قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] . لكن الناس متفقون على أن مثل هذه الصيغة إذا لم تكن خبرًا كانت أمرًا ونهيًا، وقال /38ب/ طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد: إن هذا ليس بنهي، بل هو نفي؛ لكونه مشروعًا، قالوا: وهذا يوجب أن يكون مباحًا، لا مستحبًّا، ولا مكروهًا، ولا محرمًا، ولهذا بنى هؤلاء على هذا: أنه إذا سافر إلى غير الثلاثة قصر الصلاة؛ لأنه مباح. وهكذا قال طائفة من أصحاب مالك، كابن عبد البرّ، وابن بطال، قالوا: الحديث محمول على أنه لا يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة، فلو نذر شيئًا لم يجب، وهذه الثلاثة تجب بالنذر، وإن كان المسجدان مستحبين، فاقتضى الحديث عندهم: أن المستحب يجب بالنذر، وغير ¬

_ (¬1) في الأصل: (فإن) .

الرد على من قال: إنه لم ينه عن السفر وإنما نفى استحبابه

الثلاثة: لا تجب بالنذر، فلا يكون مستحبًّا، هذا معنى الحديث عندهم. وأما أولئك الذين يقولون إنه منهي عنه، فمن قال: إن السفر المنهي عنه لا تقصر الصلاة فيه، فإنه لا تقصر الصلاة في مثل هذا، كما صرح بذلك من صرح به منهم، مثل ابن عقيل، وغيره، وكل من يوافقه على الأصلين يوفقه على ذلك، فأصحاب مالك، والشافعي، الذين يوافقونه على أن هذا محرم، وعلى أن المحرم لا تقصر فيه الصلاة، يوافقونه على أنه لا تقصر فيه الصلاة. والصحيح قول السلف والجمهور، وأن هذا نهي منه صلى الله عليه وسلم وذلك أن الصيغة صيغة خبر، وقد علم أنه لم يرد /39أ/ صيغة الخبر (¬1) ، فتعين أن يحمل على النهي، هذا إذا روي بصيغة الخبر، «لَا تُشَدُّ» بالضم، وأما إذا روي بصيغة النهي: «لَا تَشُدِّ الرِّحَالَ» ، و «لَا تُعْمِلِ الْمَطِيَّ» لم يبق فيه شبهة، وهذا كقوله: {لَا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقر: 233] على قراءة من قرأ بالرفع عطفًا على قوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] فإن هذه صيغة خبر، ومعناه النهي، كقراءة من قرأ: {لَا تُضَارَّ} بفتح الراء، فإن هذا نهي، لكنه فتح الراء لالتقاء الساكنين، كما في قوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وفي قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] . وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 217] وكذلك قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] أي: لا تجادلوا (¬2) في الحج، وقول من قال: لم ينه عن ذلك، وإنما نفى استحبابه؛ غلط من وجوه: منها: أن يقال: معلوم أن من سافر إلى مسجد غير الثلاثة، أو بقعة معظمة، فإنما يفع ذلك متقربًا به، ولا يفعله على أنه مباح مستوي ¬

_ (¬1) في حاشية الأصل تعليق مبتور يبدو منه بعض ألفاظ حديث «لا تشد الرحال ... » المتقدم. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (تجادلون) .

الطرفين، فإذا كان هذا عند صاحب الشرع ليس بمستحب، كما قد ذكرتم أنه أراده، لزم أن من فعله معتقدًا أنه مستحب، يطلب فيه الأجر، مخالف عاصٍ لصاحب الشرع، وهو منهي عن السفر بهذه النية، فقولكم متناقض حيث قلتم: إنه نفى الاستحباب، ولم ينه عنه، مع أن الذين يفعلونه، يفعلونه لأنه مستحب عندهم، وهم ينهون عن هذا، /39ب/ فإن الرسول إذا قال إنه غير مستحب، كان قد نهى أمته أن يظنوا أنه مستحب، أو يعملوه على أنه مستحب، فإذا كانوا لا يفعلونه إلا لأنه مستحب عندهم، وقد نهاهم عن هذا، فقد نهاهم عن فعله. فإذا قلتم: لم ينههم مع ذلك، جمعتم بين النقيضين، فحقيقة قولكم: إنه نهاهم وهو لم ينههم. ولهذا كان الذين ينازعون هؤلاء يحتجون عليهم بما سلموه من أنه ليس بمستحب، والذين يفعلونه إنما يفعلونه لأنه مستحب، فيجعلون قولهم: إنه غير منهي عنه، يقتضي أنه مستحب، لكن القول باستحبابه إلزام لهم، ونفي استحبابه نص قولهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكن إذا كان فاسدًا دلّ على فساد المذهب، فلما كان قولهم يستلزم الاستحباب، مع أنهم نفوا الاستحباب، ولا بد لهم من ذلك وإلا عطلوا النص؛ كان قولهم متناقضًا. ومنها: أن صيغة النفي، إذا لم يُرد بها النفي، كانت نهيًا، هذا هو المعهود في الخطاب، كما أن صيغة الخبر إذا لم يُرد بها الخبر كانت أمرًا، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] . {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أما كون صيغة النفي يراد بها الإباحة، ونفي الاستحباب، فهذا غير معلوم في خطاب الشارع، فالحمل عليه حمل لكلامه على غير لغته المعروفة، ولسانه الذي خاطب به الناس.

/40أ/ ومنها: أن هذا القول محدث لم يقله أحد من سلف المسلمين وأئمتهم. ومنها: أن السفر إلى غير الثلاثة إذا كان مباحًا مستوي الطرفين مع أن أصحابه يتخذونه قربة وطاعة، فإما أن يقال: إنهم يثابون، أو لا يثابون، فإن قيل: إنهم يثابون، فالمباح الذي ليس بمستحب لا ثواب فيه، وأيضًا فتلك مخالفة محضة للحديث، وإن قيل: إنهم لا يثابون مع أنهم لم يسافروا لمصلحة دنيوية، فقد سافروا سفرًا لا ينفعهم في دينهم ولا دنياهم، وهم يعتقدون أنهم يثابون، ويؤجرون، ومثل هذا لا يكون إلا منهيًّا عنه، لا يكون مباحًا مستوي الطرفين. ومنها: أن السفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، ولهذا يسمونها: حجًّا، ويسمون أعمالها: مناسك، ويسمون الكتب المصنفة في ذلك: مناسك حج المشاهد، ويقول بعض الناس: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا. ولكلّ أمة بقاع يعظمونها، يحجون (¬1) إليها، وكانوا في الجاهلية يحجون إلى بيوت الأصنام، وفي حديث أمية بن أبي الصلت لما اجتمع بالراهب، وأخبره أنه سوف يبعث نبي من العرب، فطمع أن يكون هو إياه، فقال له الراهب: إنه من أهل بيت تحجّه العرب، قال: فقلت له: ونحن معشر ثقيف فينا بيت تحجه العرب، قال: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم /40ب/ من قريش. فقال (¬2) : فينا بيت تحجه العرب؛ وهو اللات المذكور في القرآن في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] وكانوا يسمونها: الربة، وقرأ طائفة من السلف: اللاتّ، بالتشديد، وقال طائفة من السلف: إنه كان يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره. ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (ويحجون) ، بزيادة واو العطف. (¬2) عدلها المحقق في المطبوع إلى: (فقوله) .

وأهل الكتاب يحجّون إلى كنائسهم، ومنه قيل في قصة الفيل: إن صاحب الفيل أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف حجّ العرب إليها، فأحدث فيها بعض العرب، فجعل السفر إلى الكنيسة حجًّا كالسفر إلى الكعبة. والمقصود أنهم كانوا يسمّون السفر إلى مثل هذا: حجًّا، إذ الحج في اللغة هو القصد إلى معظَّم، كما قال: وأشهد من عوف حلولًا كثيرة ... يحجون سِبَّ الزبرقان المزعفرا ومشركو الهند يحجون إلى السمناة، والنصارى يحجون إلى بيت لحم والقمامة، وإنما يقصدون المكان الذي ولد فيه المسيح، والمكان الذي صلب فيه، فإنما عظموا تلك البقعة لأجل المخلوق.

من الناس من يعظم شيخه أكثر من الله

وهكذا الذين يسافرون لزيارة المقابر، والمشاهد التي يعظمونها هي عندهم مثل الحج، بل أعظم من الحج، ويسمونها الحج الأكبر، ويرون أن مرة واحدة منها أفضل من حجات إلى مكة، ويدعون عندها، ويتضرعون، ويخشعون، كما يفعله المسلمون في بيوت الله، ومشاعره، أو أعظم من ذلك، أو دون ذلك، كما كان المشركون يعظمون آلهتهم مثلما يعظمون الله، وقد يفضلونها على الله، /41أ/ كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] ، وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . ومثل هؤلاء موجودون في زماننا، يكون شيخ أحدهم في صدره أعظم من الله، بحيث يسب الله ويشتمه إذا فعل بشيخه مكروهًا، كما جرى مثل هذا لطائفة بعد طائفة، ومن سب شيخه حاربه، ومن سب الله سالمه، ويحلف بالله ويكذب، ولا يستجرئ (¬1) أن يكذب إذا حلف بشيخه. وإذا كان السفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن نسافر سفرًا يشبه الحج إلا إلى هذه المساجد، فالمسجد الحرام يكون السفر إليه واجبًا تارة، ومستحبًّا أخرى، والمسجدان الآخران يستحب السفر إليهما، فهذا هو المشروع من هذا الجنس، وما سوى ذلك غير مشروع، وما كان حجًّا غير مشروع فلا يكون إلا محرمًا، كالحجّ إلى بيت لحم، والقمامة، وسمناة، وغير ذلك. فإن قيل: هذه أوثان. قيل: والقبور قد اتخذت أوثانًا، وأصل الشرك ¬

_ (¬1) عدلها المحقق في المطبوع إلى: (يستجيز) ، وفي الأصل قد كتبت هكذا: (يستجر) ، ووضع الناسخ علامة الإهمال على الراء.

هو من تعظيم القبور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» وقد استجاب الله دعاءه، فلم يُتخذ - ولله الحمد - قبره وثنًا يعبد، ولا يمكن أن يفعل عنده ما هو دون هذا وذريعة إليه /41ب/ مما نهى عنه، فلا يستطيع أحد أن يفعل عند قبره منكرًا، ولا يزوره الزيارة المشروعة في غيره، بل قد منعوا من ذلك سدًّا للذريعة، وإنّما يمكن الوصول إلى مسجده. وقد يظنّ الظّانُّ أن ما يفعل في المسجد هو عند قبره، وهو غلط، المسجد مسجد قبل قبره، وليس شيء من المسجد من بيته، ولا من قبره، فلا يستطيع أحد أن يفعل هناك خيرًا، أو شرًّا، إلا في مسجده، وأما في بيته فلا يستطيع أحد أن يفعل فيها (لا) (¬1) خيرًا، ولا شرًّا، ولكن يتوهم أكثرهم أن هذا زيارة لقبره، وإنما زار مسجده، لم يزر قبره، ولا فعل هناك شيئًا (¬2) يختص بالقبور، بل لم يفعل هناك إلا ما يمكن فعله في غير القبور. ومن توهم أن الذي فعله.. فعله عند قبره؛ فهو غالط، وقيل له: ما الحدّ الفاصل بين قبره وغير قبره؟ أترى من فعل في الجانب الغربي من المسجد شيئًا، فهو أيضًا عند قبره؟ فإن قال: نعم، كان كل من صلّى في المسجد صلى عند القبر، وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وإن قال: لا، قيل له: فقبره وسط المسجد، فإن حدّ حدًّا بذراع، أو باع، أو رمح؛ كان متحكمًا، فعلم أنه ليس أحد ينهى في المسجد عند قبره، ولا زار أحد منهم قبره، ولا وصل إلى قبره. ولهذا لم يكن أحد من السلف يطلق على شيء من ذلك أنه زيارة لقبره، وقد كره كثير من العلماء أن يقال: زرنا قبره، ولا ريب /42أ/ أن هذا باطل، لم يزر قبره أحد قط، ولكن الذين أطلقوا ذلك أرادوا به الدّخول إلى المسجد بحيث يكون قريبًا من قبره، ولم يذكروا في ذلك حدًّا ¬

_ (¬1) سقطت من المطبوع. (¬2) في الأصل: (شيء) ، والتصويب من المحقق.

عصم الله نبيه أن يتخذ قبره مسجدا

فاصلاً، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. فالحمد لله الذي حفظ قبره عن أن يتخذ مسجدًا، أو وثنًا، أو عيدًا، ولم يمكن أحدًا أن يدخل إلى قبره بالكلية، بل سدّ هذا الباب، وأما غيره فقد يتخذ قبره مسجدًا، ويتخذ وثنًا، وليس على الأنبياء والصالحين الذين فعل ذلك بغير رضاهم درك، فإنهم يكرهون ذلك، ويتأذون بما يفعل عندهم، وهذا كما أن من عبد المسيح وغيره لا إثم عليه بما فعله به غيره بغير إذنه. لكن كان أهل الكتاب قبلنا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونبيّنا عصمه الله أن يتخذ قبره مسجدًا، كما عصم أمته أن تجتمع على ضلالة، فإن الأمم قبلنا كانوا إذا ضلوا أرسل الله نبيًّا يبيّن ضلالهم، ومحمد (¬1) صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده فلو اتخذ قبره - والعياذ بالله - مسجدًا، وجعل وثنًا؛ لكان ذلك من أعظم ظهور الضلال والشرك في أمّته، وهي آخر الأمم، وقد عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، ولهذا يوجد من هو دونه من أهل بيته، والمشايخ، عند قبره، أو قبر منسوب إليه، وهو كذب، من اتخاذه وثنًا ومسجدًا، ما لا يوجد عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم عصمة من الله، ورحمة، /42ب/ وعناية، بمحمدٍ، وأمته، والمتبعين لسنته. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ومحمدًا) ، والتصويب من المحقق.

فصل

«فصل» فلمّا كان السفر إلى غير المساجد الثلاثة غير مشروع، وليس عند قبر غيره مسجد يشرع السفر إليه، كان السفر إلى قبر غيره، أو إلى مسجد عند قبر غيره، غير مشروع، بل منهيًّا عنه، ولم يكن في ذلك شبهة. هذا إذا قدر أن ذلك القبر صحيح، أما قبور الأنبياء، فقالت طائفة، منهم مالك بن أنس: لا يعرف قبر نبي، إلا قبر نبيّنا خاصة، وقال هؤلاء: لا يعرف قبر الخليل ولا غيره. وطائفة أخرى قد يعرفون بعض القبور كقبر الخليل عليه السلام، لكن من هؤلاء من يثبت أمورًا مكذوبة، مثل قبر نوح الذي بقرية الكرك بجبل لبنان، وغيره من القبور المضافة إلى الأنبياء، فإنها كذب بلا ريب، وإن كان قبر الخليل صحيحًا، وكذلك قبور غير الأنبياء كثير منها كذب، أو مختلف فيه، مثل ما يقال: إن بدمشق قبر أم سلمة، أو أم حبيبة، أو غيرهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر أبي بن كعب، أو أويس القرني. وقد اتفق أهل العلم (¬1) على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن دُفنّ بالبقيع، إلا ميمونة، ولم يسافر منهن امرأة إلى غير الحج، إلا عائشة لما خرجت إلى البصرة، وأم حبيبة لم تقدم إلى الشام إلى أخيها معاوية، ولكن /43أ/ كان بالشام امرأة من الأنصار يقال لها أم سلمة: أسماء بنت يزيد بن ¬

_ (¬1) علق على الهامش بكلمة: قف.

السكن، وكان إذا حدث عنها شهر بن حوشب يقول: حدثتني أم سلمة، فيظنّ الجهال لاشتراك الاسم أنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك قبر خالد الذي عند حمص، قالوا إنما هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية، وأما خالد بن الوليد فمات بالحجاز في خلافة عمر بن الخطاب، ولم يكن بحمص، ومثل هذا كثير. وذلك أن معرفة هذه القبور لم تكن من الدين، فإن أصحابها يترحم عليهم، ويدعى (¬1) لهم إذا ذُكروا، وإن لم تعرف قبورهم، والذين يقصدون قبورهم، إنما يقصدونها للشرك، واتخاذها مساجد، وأوثانًا، فلا يقصدونها لما أمر الله به ورسوله، بل لما نهي عنه، فلذلك عمَّى الله أخبارها، فلا يكاد يصح منها إلا ما شاء الله. ومن أشهرها قبر علي بن أبي طالب، ولا ريب عند أهل العلم أنه ليس بقبر علي، وإنما دُفن عليٌّ في قصر الإمارة بالكوفة، ودُفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق، ومعاوية الذي دُفن بمقبرة باب الصغير هو معاوية ¬

_ (¬1) في الأصل: (يدعوا) ، والتعديل من المحقق.

ابن يزيد بن معاوية، ودُفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، لما تحالف الخوارج على قتل هؤلاء الثلاثة، فقتل ابن ملجم علي (¬1) بن أبي طالب، وجرح صاحب معاوية معاوية (¬2) ، وبرئ من جرحه، وصاحب عمرو /43ب/ قتل خارجة بن حذافة، وكان قد استخلفه عمرو في الصلاة، وقال: أردت عَمْرًا (¬3) وأراد الله خارجة، فدُفن الثلاثة في قصر الإمارة؛ لئلا ينبشهم الخوارج، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصورد هنا أن السفر لما كان غير مشروع إلى غير المساجد الثلاثة، كان السفر إلى مشهد، أو مسجد غير الثلاثة، غير مشروع بلا شبهة، وأما نبيّنا صلى الله عليه وسلم فإن السفر مشروع إلى مسجده، والحجرة التي دُفن فيها كانت بجنب مسجده إلى زمن الوليد بن عبد الملك، فلما كان في زمنه أمر بأن تشترى الحجر وكانت شرقي (¬4) المسجد وقبليه، فأمر أن تشترى وتزاد في المسجد، وكان نائبه على المدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز، فتولى عمارة المسجد، وبنى على الحجرة جدارًا وجعله مسنمًا محرفًا؛ لئلا يصلي أحد إلى الحجرة؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) في الأصل: (لعلي) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (لمعاوية) ، والتصويب من المحقق. (¬3) في الأصل والمطبوع: (عمروًا) . (¬4) غيرت في المطبوع إلى: (شرق) .

حكم قصر الصلاة في السفر إلى القبور

أنه قال: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» . فلما كان السفر إلى مسجده مشروعًا، مستحبًّا، وقبره قد صار في مسجده، صار في زيارة قبره من الاشتباه ما ليس في قبر غيره، فلهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبره؛ لئلا يظنّ أن السفر إلى هناك لأجل زيارة قبره، ولهذا ظهر الفرق بين السفر إلى مدينته، والسفر إلى غيرها، فالسفر إليها للصلاة في مسجده مستحب، والسلام /44أ/ عليه حينئذ حسن، يسلّم عليه في مسجده، ويصلي عليه إمّا مستقبل القبلة، وإمّا مستقبل الحجرة، كما فعل ذلك من فعله من الصحابة. وليس كذلك قبر غيره، فإنه لا يشرع السفر إلى المدينة التي هو بها بحال، إذ ليس فيها مسجد من المساجد الثلاثة، فالمسافر إلى تلك المدائن لزيارة مسجد، أو قبر، ظالم لنفسه، مخالف للشرع، بخلاف المسافر إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مطيع لربّه، متقرّب إليه، متبع للشريعة، ثم يفصل بين المشروع وغير المشروع، كما أن زيارة القبور التي في البلد مشروعة ثم تنقسم زيارتها إلى مشروعة وغير مشروعة (¬1) ، بخلاف السفر إلى مشهد، أو مسجد غير الثلاثة، فإنه كلّه غير مشروع، ولا تقسيم (¬2) (فيه) (¬3) . ولهذا تنازع الفقهاء المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم في قصر الصلاة في السفر إلى القبور، على أربعة أوجه: قيل: لا تقصر بحال، وقيل: تقصر بكل حال، وقيل: لا تقصر إلا في السفر إلى قبر نبيّنا. وقيل: يقصر فيه، وفي السفر إلى سائر الأنبياء، وهذا قول قاله بعض الشيوخ الذين أدركناهم، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم استثني لكونه نبيًّا، فعدّى ذلك إلى غيره، وليس كذلك، وإنما استثني؛ لأن السفر إلى مدينته سفر ¬

_ (¬1) في الأصل: (إلى مشروع وغير مشروع) ، والتصويب من المحقق. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (يقسم) . (¬3) سقطت من المطبوع.

حكم الحلف بالمخلوق

إلى مسجده، وذلك سفر مشروع تقصر فيه الصلاة، أو جعل ذلك من /44ب/ (جعل من) (¬1) خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، كما قيل [في] (¬2) الحلف به، فعن أحمد رواية أنه تنعقد اليمين به، اختارها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وغيره، وعدّى ابن عقيل ذلك إلى سائر الأنبياء. لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء، مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وغيرهم: هو الرواية الأخرى، أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق، لا النبي، ولا غير النبي، فقد يكون من استثنى من السفر إلى المقابر: السفر إلى قبر نبيّنا، سلك هذا المسلك. وكذلك ما ذكره ابن كج من أصحاب الشافعي، فإنه قال: إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعندي أنه يلزمه الوفاء، وجهًا واحدًا، ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان، نقله صاحب الروضة، ولكن الصواب أن الاستثناء إنما هو لأن السفر إلى مسجده مشروع تقصر فيه الصلاة باتفاق المسلمين. والعلماء المصنّفون في المناسك يذكرون السفر إلى مسجده، والصلاة فيه، ويذكرون مع ذلك زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم (والسلام عليه) (¬3) ، على الوجه المشروع، ومنهم من يقول أشياء باجتهاده، أو لما ظنّه صحيحًا من الأحاديث، والحكايات، وإن كان ذلك لا أصل له، لكن جميع العلماء متفقون على أنه يستحب لمن أتى المدينة أن يصلي في مسجده، ويسلّم عليه، لم يقل أحد من العلماء أنه يستحب السفر لمجرد زيارة قبره، ¬

_ (¬1) سقطتا من المطبوع. (¬2) إضافة من المحقق، وليست في الأصل. (¬3) سقطتا من المطبوع.

الفرق بين الزيارة الشرعية والبدعية

والرجوع بلا صلاة في مسجده، فهذا لم يقله أحد من العلماء، وعامة الحجاج لا بد أن يصلوا في مسجده، /45أ/ ثم يسلموا عليه. فهذا فرق بين هذا السفر إلى بلده وبين السفر إلى سائر المدائن غير مدينته، فهذا مشروع في الجملة بالنص والإجماع، بخلاف السفر إلى مدينة غيره، لكن من كان عالمًا بالشريعة إنما يقصد السفر إلى مسجده، وهؤلاء الذين لا يسافرون إلى قبر أحد، ولا يدعون إلا الله، وإذا زاروا القبور زاروها على الوجه المشروع، فيقصدون الدعاء للموتى، كما يقصدون بالصلاة على جنائزهم، فمقصودهم عبادة الخالق والدعاء للمخلوق، وأهل الجهل مقصودهم الشرك بالخالق، وظلم أنفسهم، وظلم المخلوق. فالزيارة الشرعية فيها القيام بحق الخالق تعالى، وبحق المزور، وبحق الإنسان نفسه، ففيها توحيد الله، وهو حقه، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا (¬1) يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» . وحق المزور: الدعاء له، كالصلاة على جنازته، وذلك سبب لزيادة الرحمة، والإحسان، والرضوان، والزائر يحصل له من الأجر والثواب على عبادة الله والإحسان إلى عباده ما يستحقه لقيامه بحق الله وحق خلقه. وأما الزيارة البدعية ففيها ظلم الإنسان نفسه، وظلم المزور، والظلم في حق الله، فـ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، /45ب/ والمزور لا ينتفع بها بل يتأذى، ويتضرر، فإن سؤاله ما لم يؤمر بطلبه منه، لا سيما مع رفع الأصوات عنده، ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (ولا) .

والشرك به، مما يؤذيه، وهذا معروف بالأدلة الشرعية، وبكشوفات أهل البصائر، مما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأما الزائر فإنه ظلم نفسه بتفريطه في حق الله، وحق عباده، وتعديه حدود الله، والشرك بالخالق، وظلم المخلوق. ثم الزيارة الشرعية هي من الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسوله، وهو واحد، وأما الزيارات البدعيّة فهي أنواع مختلفة من جنس سبل الشيطان، قال عبد الله بن مسعود: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . ولهذا كان المتبعون لشرعته وسنته - وهو سبيل الله - متفقين، وأما أهل السبل الشيطانية فمتفرقون، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ • مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ • مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30-32] . وهكذا أهل /46أ/ الزيارات البدعية، منهم من يطلب من المزور دعاءه وسؤاله لربه، واستغفاره، واستنصاره، ودعاءه له بالرزق، وشفاعته، ونحو ذلك، وهذا وإن كان قد ذكر بعضه طائفة من العلماء، وجعلوا قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا

حكاية العتبي

اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] يتناول من يأتيه بعد الموت، فيطلب منه الاستغفار له، كما كان أصحابه يطلبون منه الاستغفار في حياته، وذكروا في ذلك حكاية لبعض الأعراب، ومنامًا (¬1) رآه العتبي، وقيل: بل رآه محمد بن حرب الهلالي، وهم مختلفون في الشعر المذكور فيها، فجمهور الأئمة لم يستحبوا ذلك، وإنما ذكره بعض أصحابهم، ولم يكن الصحابة يفعلون مثل هذا، ولا هو أيضًا معروف عن التابعين، ومعلوم أن كل واحد من المسلمين يطلب مغفرة الله، وهو مأمور بالاستغفار، فإنه لا يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] . وفي حديث الاستفتاح الذي في الصحيح عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، /46ب/ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، فَإِنَّه لَا يَصْرِفُ عَنِّي ¬

_ (¬1) في الأصل: (منام) ، والتصويب من المحقق.

سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» . وفي حديث ركوب الدابة الذي رواه أهل السنن عن علي بن أبي طالب أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أُتي بدابة ليركبها إذا وضع رجله في الركاب قال: «بِسْمِ اللَّهِ» ثم إذا استوى على ظهرها قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» ثلاثًا. ثم يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ • وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13-14] ثم يكبر ثلاثًا، ويحمد الله ثلاثًا، ثم يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ثم يضحك ويقول: «أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ ضَحِكْتُ؟ إِنَّ الرَّبَّ لَيَعْجَبُ إِذَا قَالَ عَبْدُهُ: اغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، يَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنَا» . وكان أصحابه في حياته يأتيه أحدهم فيطلب منه أن يستغفر له كثيرًا، وقد قال تعالى في المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ • سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 5-6] . وقد قال تعالى في حق [غير] (¬1) المنافقين: {فَاعْفُ عَنْهُمْ /47أ/ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] . ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

لم يكن الصحابة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب الاستغفار

وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] ، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . والمؤمنون شرع لهم أن يستغفر بعضهم لبعض، وكان الصحابة أيضًا يستغفرون للرسول، ففي الحديث الصحيح أن الأنصار قالوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ، يُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا. وفي الحديث الآخر، أن عبد الله بن سَرْجس قال: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكَ» . فَقَالُوا: اسْتَغْفَرَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَلَكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] . فلما مات لم يكن الصحابة (¬1) يأتون قبره فيقولون: استغفر لنا. كما كانوا يأتونه في حياته، وكذلك لما أجدبوا لم يأتوا إلى قبره فقالوا: ادع الله لنا. كما كانوا في حياته إذا أجدبوا أتوا إليه فقالوا: ادع الله لنا، بل كانوا هم يدعون الله، ويستسقون تارة بالعباس، وتارة بيزيد بن الأسود الجرشي، فيقولون له: ادع لنا، ويقولون: اللهم إنا نتوسل (¬2) به، ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (أصحابه) . (¬2) أضاف المحقق هنا كلمة: (إليك) ، وليست في الأصل.

أي بدعائه وشفاعته، وكثيرًا من الأوقات لا يستسقون الله بأحد، بل يدعون الله تعالى. وكذلك في الاستنصار، كانوا في حياته يقولون: يا رسول الله، ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا؟ وأما بعد موته فلم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا هم يدعون الله تعالى، ويستنصرونه، يقتدون (¬1) به، وكان عمر لما غزا النصارى يقنت عليهم في الصلاة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت على الكفار، وكان عمر يدعو بدعاء يناسب ذلك فيقول: اللهم عذب /47ب/ كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويبدلون دينك، ويكذبون رسولك. ونحو ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار، ويدعو بدعاء يناسب ذلك مثل قوله: «اللَّهُمَّ نَجِّ (¬2) الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (يعتدّون) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (أنج) .

حكاية الرجل الذي أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم عام الرمادة

الْمُؤْمِنِينَ» ومثل قوله: «اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ» . وكذلك لما استسقى [عمر] (¬1) بالعباس قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا، فيسقون. رواه البخاري في صحيحه. وكان توسلهم به في حياته توسلاً بدعائه، وشفاعته، واستسقائه لهم، فلما مات لم يطلبوا ذلك منه بعد موته، ولا قالوا: ادع لنا، بل توسلوا بدعاء العباس. فإن قيل: فقد روي أن رجلاً أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم عام الرمادة، فقال: يا رسول الله، هلكت أمتك، فادع الله لنا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال: ائت عمر فقل: عليك بالكيس، ومره أن يستسقي بالناس، واستسقى عمر فسقي الناس. ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

قيل: هذه الحكاية حجّة على المنازع، فإن هذا الرجل لما طلب منه، ما قال له: أنا أدعو لكم، بل أمرهم بما شرعه لهم، وسنه لهم، وهو أنهم يدعون الله، ويستسقون به. وفي الحكاية أنه قال /48أ/ له: قل لعمر: عليك بالكيس، أي بالاستقامة، فلما قال لعمر قال: ما آلو جهدي. فهذا فيه أنه أمرهم بطاعة الله ورسوله وأمرهم بالاستسقاء، وهذا هو شرعه الذي شرعه لهم في حياته، فلم يأمرهم بعد الموت إلا بما أمرهم في حياته، وهذا الرجل الذي قال له: ادع لأمتك، مجهول، ما هو من المهاجرين، والأنصار، الذين يقتدى بهم، ويكفيك أنه لم يأت أحد منهم إلى قبره يطلب منه الدعاء إلا رجل مجهول، لا يُعرف، فأما المهاجرون والأنصار الذين هم أعلم الناس بدينه، وأتبعهم له، فلم يأت أحد إليه، ولم يطلب منه الدعاء، ثم هذا الطالب للدعاء لم يُعط طلبته (¬1) ، ولا قال: أنا أدعو لكم، بل قال: أطيعوا أمري، وادعوا أنتم الله يجيبكم. وهذا هو الحق الذي بعثه الله به، فإن سعادة الدنيا والآخرة في طاعته، واتباعه، والاقتداء به، وفعل ما أمر، وترك ما حظر، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وتحليل ما حلّل، وتحريم ما حرّم، وتصديقه في كل ما أخبر به عن الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وغير ذلك من أنباء ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (طلبه) .

الغيب، بل هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به، وهو الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى • إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقد استأذنه عبد الله بن عمرو في أن يكتب ما يسمع منه، وقال له بعض قريش: إن رسول الله /48ب/ صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب والرضا، فقال: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إِلَّا حَقٌّ (¬1) » . ولو كان قد شرع للمسلمين أن يطلبوا منه الاستغفار، والاستنصار، والاستسقاء، وغير ذلك من أنواع الأدعية، والرغبات، كما كانوا يطلبون ذلك منه في حياته، وكما يطلب منه الخلق يوم القيامة أن يشفع لهم، لكان أمره بذلك معروفًا، منقولاً عنه، كما نقل سائر ما أمرهم به، فإنه قد قال: «مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ (¬2) » وقال: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» . ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (الحق) . (¬2) في الأصل: (حذرتكم منه) وهو خطأ، وقد صححها المحقق في المطبوع إلى: (حدثتكم عنه) ، ثم عدلتها أنا إلى ما يوافق معظم روايات شيخ الإسلام لهذا الحديث في كتبه الأخرى، وهو: (حدثتكم به) .

وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا (¬1) منه علمًا. فلو كان سنّ لهم أن يطلبوا منه الأدعية بعد موته لكان هذا معروفًا عندهم منقولاً عنه، ولكان أصحابه أعلم بذلك من غيرهم، وهم أطوع له، وأتبع لسنته، فكانوا بعد موته يأتون قبره فيطلبون منه أن يدعو لهم بالمغفرة، ويدعو لهم بالهداية، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو لهم بالرزق، ويدعو لهم بقضاء الديون، ويدعو لهم بكشف الضُّر، وغير ذلك كما كان بعضهم /49أ/ يطلب منه الدعاء في حياته، مع أن أجِلائهم كأبي بكر وأمثاله قد تعلموا منه أنهم لا يسألون إلا الله، ولا يدعون إلا الله، فكان الصديق يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا. رواه أحمد في المسند. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» . وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك: أَنَّهُ بَايَعَ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَسَرَّ إِلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: «أَنْ لَا (¬2) تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا» . قَالَ: فَلَقَدْ ¬

_ (¬1) في الأصل: (ذكرنا) ، والتصويب من المحقق. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (ألا) .

لم يكن الصحابة يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ما كانوا يطلبونه في حياته

رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِي إِيَّاهُ. وقد ثبت في الحديث المتفق على صحته أنه قال: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ؛ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فهؤلاء لا يقولون لأحد: ارقنا، وقد كان جماعة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه الرقية ويطلبون ذلك من بعض أصحابه، وهذا وإن كان جائزًا لكن أولئك لا يسألون إلا الله، فدرجتهم أعلى، وأما بعد موته، فلم يكن الصحابة يطلبون منه ما كانوا يطلبون منه في حياته، لا من دعاء، ولا من غير دعاء البتة، ولا كان السلف في القرون الثلاثة يأتون إلى قبر أحدٍ من الأنبياء، والصالحين، يطلبون منه حاجة، ولا دعاء، ولا غيره، ولا يسافرون إلى قبره، بل إذا /49ب/ زاروا قبور المؤمنين كان مقصودهم الدعاء لهم كالصلاة على جنائزهم، لا دعاؤهم، ولا الدعاء بهم. فتبين أن قول جمهور العلماء الذين لا يستحبون أن يطلب منه بعد موته استغفار، ولا غيره، هو المشروع الذي كان عليه الصحابة. وأيضًا فلو شرع أن يطلب من الميت الدعاء، والشفاعة، كما كان يطلب منه في حياته؛ كان ذلك مشروعًا في حق الأنبياء، والصالحين، فكان يسنّ أن يأتي الرجل قبر الرجل الصالح، نبيًّا كان، أو غيره، فيقول

ادع لي بالمغفرة، والنصر، والهدى، والرزق، اشفع لي إلى ربك، فيتخذ الرجل الصالح شفيعًا بعد الموت، كما يفعل ذلك النصارى، وكما تفعل كثير من مبتدعة المسلمين، وإذا جاز طلب هذا منه، جاز أن يطلب ذلك من الملائكة، فيقال: يا جبريل، يا ميكائيل، اشفع لنا إلى ربك، ادع لنا. ومعلوم أن هذا ليس من دين المسلمين، ولا دين أحد من الرسل، لم يسنّ أحد من الأنبياء للخلق أن يطلبوا من الصالحين الموتى، والغائبين، والملائكة، دعاء، ولا شفاعة، بل هذا أصل الشرك، فإن المشركين إنما اتخذوهم شفعاء، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ /50أ/ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] . وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ • وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22-23] . وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] .

لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه

وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} (¬1) [السجدة: 4] . وقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] . فهذه الشفاعة التي كان (¬2) المشركون يثبتونها أبطلها القرآن في غير موضع، وهي كشفاعة المخلوق عند المخلوق بغير إذنه، فإن هذا الشافع شريك للمشفوع إليه، فإنه طلب منه ما لم يكن يريد أن يفعله، فيحتاج لقضاء /50ب/ حق (¬3) الشفيع أن يفعله، فالشفيع بغير إذن المشفوع إليه شريك له، والله تعالى لا شريك له، ولهذا قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . فلو شفع أحد بغير إذنه شفاعة نافعة مقبولة كان شريكًا له، وهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وهذا من وجهين: أحدهما: أنه هو الذي يخلق أفعال العباد، فلا يفعل أحد شيئًا إلا بمشيئته. والثاني: وهو المقصود: أن الملائكة، والأنبياء، لا يشفعون عنده إلا بإذنه، فلا تكون شفاعتهم مقبولة نافعة إلا إذا كانت بإذنه، وما وقع بغير إذنه لم يقبل، ولم ينفع، وإن كان الشفيع عظيمًا، فالكفار، والمنافقون، لا يغفر لهم ولو استغفرت لهم الأنبياء، كما في قصة آزر أبي الخليل، وفي ¬

_ (¬1) في الأصل كتبت الآية هكذا: ( {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] ) ، فخلط الناسخ بين آيتين متشابهتين. والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (كانت) ، والتصويب من المحقق. (¬3) في المطبوع زيادة: (من) ، وليست في الأصل.

ذكر حديث الشفاعة الطويل

قصة الاستغفار للمنافقين، وفي دعاء نوح لابنه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» . ومعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الشفعاء، وسيد ولد آدم، وأكرم الخلق على ربه، وأعظمهم جاهًا عنده في الدنيا والآخرة، وهو صاحب لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة، وهو صاحب المقام المحمود؛ وهو الشفاعة التي يرغب إليه فيها الأولون والآخرون. /51أ/ ففي الصحيحين من حديث أنس قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ (¬1) ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ (¬2) مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ (¬3) عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا الْآنَ، يُلْهِمُنِيهَا اللَّهُ، ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ ¬

_ (¬1) في المطبوع من الصحيحين: (إبراهيم) بدل (نوح) ، صلى الله عليهما وسلم. (¬2) في الأصل: (فيأتوا) ، والتصويب من المحقق. (¬3) في الأصل: (فيأتوا) ، والتصويب من المحقق.

إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي أَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، /51ب/ فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: انْطَلِقْ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيْمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنِا هَذَا، قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ، أَبُو الْخَلْقِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنِا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي (¬1) رَبَّهُ مِنْهَا - وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَيَأتون نوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي (¬2) رَبَّهُ مِنْهَا - وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي (¬3) رَبَّهُ مِنْهَا - /52أ/ (وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) (¬4) وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا، عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ يُسْمَعْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى (فيستحي) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى (فيستحي) . (¬3) غيرت في المطبوع إلى (فيستحي) . (¬4) ما بين القوسين سقط من المطبوع.

يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» قال قتادة: أي وجب عليه الخلود. وفي حديث أبي هريرة: «يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ /52ب/ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ: عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، (¬1) ¬

_ (¬1) أضاف المحقق هنا جملة: (اذهبوا إلى غيري) ، وليست في الأصل وليست كذلك في رواية مسلم لهذا الحديث، فتم حذفها.

اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ (¬1) : أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ - نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لمَ ْيَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ /53أ/ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، - وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا - اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِي، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتِ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ، وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحِدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ، مِن بَابِ (¬2) الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، ¬

_ (¬1) تحرفت في المطبوع إلى: (فيقول) . (¬2) غيرها المحقق في المطبوع إلى: (الباب) .

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» . فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا أتى لا يبدأ /53ب/ بالشفاعة؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] بل يبدأ بالسجود لربه، والحمد له، والثناء عليه، فإن الله يسمع لمن حمده، كما قال على لسان نبيه: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . والحمد أحق ما قال العبد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ، أي: تحميدك، والثناء عليك، وتمجيدك، أحق ما قال العبد. وهو أول ما أنطق الله به آدم، وهو الذي أمرنا أن نفتتح به كل كلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» . فلهذا ابتدأ بالسجود وما يفتحه الله عليه من محامده لربه، فإذا سجد وحمد قيل له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تُشفع، وإذا شفع حدّ له حدًّا فيدخلهم الجنة، فالرب عزّ وجلّ يأذن فيمن شاء (¬1) ، ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (يشاء) .

أهل التوحيد هم أحق الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْكَ؛ /54أ/ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» . فأهل التوحيد المخلصون لله هم أحق الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، فمن كان لا يدعو إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يدعو (¬1) مخلوقًا، لا ملكًا، ولا بشرًا، لا نبيًّا، ولا صالحًا، ولا غيرهما، كان أحق بشفاعته ممن يدعوه، أو يدعو غيره من المخلوقين، فإن هؤلاء مشركون، والشفاعة إنما هي لأهل التوحيد. وإذا كان كذلك فالذين يدعون المخلوقين، ويطلبون من الموتى، والغائبين، من الملائكة، والبشر، الدعاء، والشفاعة، هم أبعد عن الشفاعة فيهم، والذين لا يدعون إلا الله هم أحق بالشفاعة لهم، والله تعالى قد جعل الملائكة يدعون، ويستغفرون لأهل التوحيد، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ • رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ • وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9] وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ /54ب/ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] . ¬

_ (¬1) في الأصل: (يدعون) ، والتصويب من المحقق.

الناس إذا فعلوا ما أمروا به فتح الله عليهم أبواب رحمته

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. مَا لَمْ يُحْدِثْ» . وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» وفي حديث آخر: «إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى حِيتَانَ الْبَحْرِ» . فالناس إذا فعلوا ما أمروا به فتح الله عليهم أبواب رحمته من ملائكته وغير ملائكته، وقد روي أن أعمال الأحياء تعرض على الموتى، وأنهم إن وجدوا شيئًا استغفروا لصاحبه، وروي أن أعمال الأمة تعرض على الرسول كذلك، كما رواه الطبري عن أبي هريرة قال: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقْرِبَائِكُمْ مِنْ مَوْتَاكُمْ، فَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا فَرِحُوا بِهِ، وَإِنْ رَأَوْا شَرًّا كَرِهُوهُ، وَإِنَّهُمْ يَسْتَخْبِرُونَ الْمَيِّتَ إِذَا أَتَاهُمْ مَنْ مَاتَ بَعْدَهُمْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُ عَنِ امْرَأَتِهِ: أَزَّوَّجَتْ أَمْ لَا؟ وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَإِذَا قِيلَ قَدْ مَاتَ، [قَالَ] (¬1) : هَيْهَاتَ، ذَهَبَ (¬2) ! فَإِنْ لَمْ يُحِسُّوهُ (¬3) ¬

_ (¬1) لم تظهر في حاشية الأصل، فأضافها المحقق، وهي ثابتة في «تهذيب الآثار» للطبري (مسند عمر بن الخطاب 2/512 رقم 735) . (¬2) في «تهذيب الآثار» زيادة: (ذاك) . (¬3) لم تتضح لمحقق المطبوع فكتبها: (يجدوه) ، والثابت في الأصل هو الموافق لنص الحديث في «تهذيب الآثار» .

حجة المشركين في الاستشفاع بالمخلوقين

عِنْدَهُمْ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ (¬1) » . و [قد جاء] (¬2) عن السلف الخلاف [في] (¬3) تأويل قوله: «مَا أَنْـ[ـتُمْ بِأَسْمَعَ] (¬4) لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» [وهذا] (¬5) مبسوط في جوابي عن الأرواح، فأما علم الأموات بأحوال الأحياء ففيه آثار كثيرة، مثل ما رواه أبو حاتم في صحيحه عن أبي أيو [ب الأنصاري] (¬6) ، وأما استغفارهم لهم فما يحضرني إسناده، وكذلك ما يروى أن الرسول يستغفر لهم ما أعـ[ـرف له إسنادًا] (¬7) ... (¬8) فهذا إن كان ثابتًا ففيه استغفار الرسول والصالحين (¬9) بأمر ربهم، كما تستغفر الملائكة هنا، فما أمروا به لا حاجة إلى طلبه منهم، وما لم /55أ/ يؤمروا به لا يفعلونه وإن طلب منهم، فإنهم لا يشفعون إلا بإذنه. وحينئذ فلا فائدة في طلب الدعاء، والشفاعة، لا من الملائكة، ولا من الأموات، الأنبياء والصالحين، ومن طلب (ذلك) (¬10) منهم؛ فتح أبواب الشرك، فإنه إذا اعتقد الناس أن ما طلب من الميت، أو الملك، من دعاءٍ، وشفاعة، بذله، طلبوا ذلك؛ لكثرة حاجات الخلق، لا سيما إذا اعتقد ما ¬

_ (¬1) في «تهذيب الآثار» زيادة: (فبئس المربية) . (¬2) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬3) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬4) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬5) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬6) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬7) لم تظهر في هامش الأصل، فأضافها المحقق. (¬8) تتمة الإلحاق في الهامش مبتورة بسبب قص الكتاب كما يبدو، وهي بقدر سطر. (¬9) في الأصل: (والصالحون) ، والتصويب من المحقق. (¬10) سقطت من المطبوع.

يقوله المشركون الذين يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، يقولون: هؤلاء خواص الربّ فنحن نتقرب إليه بهم كما نتقرب إلى الملوك بخواصهم، فكما أن آحاد الرعيّة لا تصلح أن تخاطب السّلطان، بل يدخل على خواصه حتى يخاطبوه له، كذلك نحن لا يصلح لنا أن نطلب من الله، بل نطلب من خواصه أن يسألوه، وإذا أقدمنا على الطلب منه كان ذلك سوء أدب عليه، واجتراء عليه، كما يكون ذلك سوء أدب على الملوك، واجتراء عليهم، فهذه من أعظم شبه المشركين الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي: يقولون: ما نعبدهم. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فهؤلاء دعوا الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وقد رد الله على هؤلاء في غير موضعٍ /55ب/ من القرآن، ورسل الله كلهم ردوا على هؤلاء، وهذا الذي ذكروه من قياس الله على خلقه، قياس فاسد، وضربوا لله مثل السوء، والله له المثل الأعلى، وذلك أن الملوك هم عاجزون عن أمور الرعية، إن لم يكن لهم من يعاونهم، بل من يدفع عنهم الضرر، عجزوا وقهروا، وهم أيضًا لا يعلمون من أحوال الرعيّة إلا ما طولعوا به، وأيضًا فهم لا يحسنون إلى الرعيّة إلا لرغبة، أو رهبة. والله سبحانه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو أرحم الراحمين، فهو يعلم السرّ وأخفى، فلا يحتاج إلى من يعرِّفه بحاجته، بل هو يعلم حاجته، وهو وحده يدبر أمر السموات والأرض، ليس له ظهير، ولا وزير، ولا معين (¬1) ، ولا مشير، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) في الأصل: (عون) ، والتعديل من المحقق.

دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ (¬1) فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] . وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] فهو سبحانه لم يوال عباده من ذلٍّ ليعتز بهم، كما يوالي الملوك لأوليائهم. قال مجاهد: لم يذل فيحتاج (¬2) إلى ولي يتعزز به. بل هو سبحانه يوالي المؤمنين فضلاً منه /56أ/ ورحمة، وإحسانًا، وهو سبحانه الصمد، الذي كل ما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل ما سواه، وهو سبحانه أرحم الراحمين، وخير الحاكمين، وهو نعم الوكيل لمن توكل عليه، ونعم المولى، ونعم النصير. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» فهو سبحانه رحمته وسعت كل شيء، فقد كتب على نفسه الرحمة، فهو أعلم بحال عبده من كل أحدٍ، وهو أقدر على نفعه وأنفع من كل أحد، بل لا يقدر أحد إلا بإقداره، وهو أرحم به من كل أحدٍ، وهذا بخلاف الملوك، وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، وقد روي أن بعض الناس قالوا: يا رسول الله، ربّنا قريبٌ فنناجيه، أو بعيد فنناديه، فأنزل الله هذه الآية. ¬

_ (¬1) في الأصل: (له) . (¬2) في الأصل: (محتاج) ، والتصويب من المحقق.

وهو سبحانه سميع الدعاء، أي يجيب الدعاء، كما يقول المصلي في الصلاة: سمع الله لمن حمده، أي استجاب الله دعاء من حمده، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ» ، فإن الله قال على لسان نبيه: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . ومنه قول الخليل عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] وقوله تعالى: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي /56ب/ إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وهذا كما في قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] وقوله: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41] أي: يستجيبون لهم، وقابلون منهم، وكذلك {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: قابلوه، ومصدقوه، ولم يرد السمع المجرد، فإن المؤمن أيضًا يسمع الصدق والكذب، لكن لا يقبله، بخلاف من أكل السحت؛ فإنه يسمع الكذب، وهو كما يقال: فلان يسمع لفلان، ومن فلان، أي: يقبل منه قوله، ويطيعه. فهو سبحانه لا يقاس به غيره، ولا يمثل به سواه، إذ ليس كمثله شيء، والمشركون ضربوا له أمثالاً من خلقه، فجعلوا لله ندًّا، ومثلاً، والقرآن مملوء من ذم هؤلاء، ولعنهم، وتكفيرهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ

كان مشركو العرب مقرين بتوحيد الربوبية

مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ (¬1) يَكْفُرُونَ • وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ • فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 72-74] وقوله: {رِزْقًا} {شَيْئًا} ، قيل هو مفعول المصدر، وقيل هو بدل منه، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وفي الصحيحين /57أ/ عن ابن مسعود قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] . والمشركون، مشركو العرب، لم يكونوا يعتقدون أن المخلوقات، كالملائكة، والأنبياء، والشمس، والقمر، أو الكواكب، وتماثيلهم، شاركت الربّ في خلق العالم، بل كانوا معترفين بأن الله خلق ذلك وحده، كما أخبر الله عنهم في غير موضع، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] . وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ • قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ • قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ (¬2) قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] . ¬

_ (¬1) (هم) سقطت من الأصل. (¬2) في الأصل: (الله) .

أنواع الشرك

ومثل هذا في القرآن كثير، لكن كانوا يتخذونهم شفعاء يتقربون بهم إلى الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (¬1) • /57ب/ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 27-28] . وقال صاحب يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ • أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ • إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ • إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22-24] . وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على أن الشرك أنواع: فنوع منه يتخذونهم شفعاء يطلبون منهم الشفاعة والدعاء من الموتى والغائبين، ومن تماثيلهم. ونوع يتقربون بهم إلى الله. ونوع يحبونهم لا لشيء، بل كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] يهوى أحدهم شيئًا فيتخذه إلهًا من غير أن يقصد منه نفعًا ولا ضرًّا، كما يحصل لأهل الغي هوى في أمور لا تنفعهم، والله سبحانه هو الذي يستحق أن يُحَبَّ لذاته ويعبد لذاته دون ما سواه، وهؤلاء جعلوا لله أندادًا، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ ¬

_ (¬1) في الأصل: (يذكرون) .

شرك القائلين بقدم العالم

دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . وهذه الأنواع الثلاثة كانت في مشركي العرب وغيرهم، /58أ/ ممن يقر بأن الله خالق السموات والأرض، وأنهما محدثتان، ليستا قديمتين، وأما شرك القائلين بقدم العالم فهو نوع آخر: منهم من يعبد الكواكب، ويطلب منها، وتنزل عليه شياطين يقولون: إنها روحانية الكوكب، وهذا الشرك يقع من القائلين بأنها مخلوقة محدثة، ومن القائلين [بعدم] (¬1) حدوثها. وقوم آخرون يقولون: إنه بنفس توجههم إلى ما يدعونه ويحبونه يحصل مقصودهم، وإن كان ذلك المدعو لا يعرف أن هذا دعاه ولا توجه إليه، وهذا قول المتفلسفة كابن سينا، وصاحب الكتب المضنون (¬2) بها، ونحوهم، ويقولون: إذا توجه الإنسان إلى ما يتوجه إليه من أرواح الموتى فإنه يفيض عليه ما يفيض من غير علم من ذلك الشفيع، وشبهوا ذلك بشعاع الشمس، فإنه يظهر في المرآة، ثم ينعكس على ما يقابلها من حائط، أو ماءٍ، من غير شعور من المرآة. وذلك أن هؤلاء عندهم أن الله لا يعلم الجزئيات، ولا يحدث في العالم شيئًا، وعندهم تأثير دعاء بني آدم كله من هذا الباب، وهو أن الداعي إذا جمع همّه، وتوجه نحو ما يدعوه؛ قويت نفسه حتى حصل بها المطلوب من غير أن يكون الله علم بذلك، والمؤثر عندهم /58ب/ هو النفس، فالنفس الفلكية عندهم هي الحركة للفلك، وجميع الحوادث عنها، ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق. (¬2) في الأصل: (المصنفون) ، والتصويب من المحقق.

إضلال الشياطين للمشركين

والنفس الإنسانية هي المؤثرة في خوارق الأنبياء، والسحرة، وغيرهم، وما يحصل بالدعاء، والشفاعة، هو عندهم من تأثير نفس الداعي المستشفع، لكن بتوجهها إلى ذلك حصل لها قوة، ثم قد يفيض عليها ما (¬1) يفيض، إما من نفس المستشفع به، وإما من غيره. ولهذا يأمر مثل هؤلاء أن يجمع الإنسان همّته على أي شيء كان، ويقولون: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به، وقد يأمرون بالعشق ليجتمع قلب العاشق على شيء، وإن كان ذلك المعشوق لا ينفع، ولا يضر، وكذلك يعبدون ما لا ينفع، ولا يضر، فمقصودهم جمع الهمّة على شيء، حتى تثبت النفس، ويزول تفرقها، وتشتتها، وهذا كما يرصد أصحاب البرابي (¬2) صورة من الصور مدة، وكذلك غيرهم من عبّاد الأصنام، فإذا اجتمعت الهمّة على ذلك الشيء، وتفرغ القلب لما يلقى فيه، تمكن منه الشيطان، فألقى في قلوبهم ما يلقيه، وتمثل لهم، وقضى بعض حوائجهم، والمتفلسفة الذين لا يعرفون الجنّ، يقولون: هذا كله من /59أ/ قوى النفس. ولكن جمهور الناس الذين قد عرفوا حقيقة الأمر، يعرفون أن الشياطين تفعل من ذلك ما لا تفعل النفس، وهؤلاء قد يذكرون الله، ومقصودهم بذكرهم جمع قلوبهم، وتفريغها لما يرد عليها، فليس مقصودهم عبادته تبارك وتعالى. وهذا موجود في كثير من أهل زماننا، كما كان بعض الناس يقول لمريديه: توجه إلى قلبك وقل: لا إله إلا الله، وليس المقصود الذكر، إنما المقصود أن يجتمع قلبك، فإذا اجتمع قلبه تنزلت عليه الشياطين، فيخيل إليه أنه صعد إلى السماء، وألوان أخر، ويقول أحدهم: حصل لك ما لم يحصل لموسى بن عمران، ولا لمحمد ليلة المعراج، وشخص ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (لما) . (¬2) لم يظهر للمحقق معناها فغيرها إلى: (البر أي) ! قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» ج1/ص362: (البرابي، بالفتح وبعد الألف باء أخرى، وهو جمع بربا؛ كلمة قبطية، وأظنه اسمًا لموضع العبادة أو البناء المحكم أو موضع السحر) ثم ذكر قصة بناء البرابي كما تروى في كتب التاريخ، ثم قال: (وبيوت هذه البرابي في عدة مواضع من صعيد مصر في إخميم وأنصنا وغيرهما باقية إلى الآن، والصور الثابتة في الحجارة موجودة) ، ووصفها في موضع آخر فقال ج1/ص124: (وهو بناء مسقّف بسقف واحد، وهو عظيم السعة مفرطها، وفيه طاقات ومداخل، وفي جدرانه صور كثيرة؛ منها صور الآدميين، وحيوان مختلف منه ما يعرف ومنه ما لا يعرف، وفي تلك الصور صورة رجل لم ير أعظم منه ولا أبهى ولا أنبل، وفيها كتابات كثيرة لا يعلم أحد المراد بها ولا يدرى ما هي والله أعلم بها) . اهـ. وانظر «الرد على البكري» لابن تيمية (ط. دار الوطن) ص506.

توحيد الربوبية هو غاية التوحيد عند المشركين

آخر من كبارهم كان يقول: لا فرق بين قولك: يا حجر يا حجر، وبين قولك: يا حي يا قيوم، يعني أن المقصود بكليهما (¬1) جمع الهمّة، فهذا وأمثاله من أسرار هؤلاء المشركين. ومن هؤلاء من يدعو بعض الكواكب، أو بعض الموتى من الأنبياء، والصالحين، أو بعض الملائكة، أو بعض الأوثان، فيرى صورًا، إما صورة بشر، وإما غير صورة بشر، فإنهم يرون أنواعًا من الصور تخاطبهم، وتقضي بعض حوائجهم، فيقولون: هذه روحانية الكوكب، أو سر الشيخ، أو رفيقته، أو نحو ذلك، وإنما ذلك شيطان يضلهم كما /59ب/ كانت الشياطين تضل عبّاد الأوثان، وإلى اليوم، وكانت الشياطين تكلمهم أحيانًا من الأصنام، وأحيانًا يرونها، قال ابن عباس رضي الله عنه: في كل صنم شيطان يتراءى (¬2) للسدنة فيتكلمون. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: مع كل صنم جنيّة. وهذا باب واسع، وكل من كان به أعرف، إذا عرف ما جاءت به الرسل، وعرف ما في القرآن من التوحيد العظيم، والعناية العظيمة بذلك، ومذمة الشرك على اختلاف أنواعه؛ عرف بعض قدر ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتبين له كثرة الشرك في بني آدم، الذين لا يعرفون، بل يظنون أن العرب كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها شاركت الله في الخلق، وهذا من غاية الجهل والكذب بمن يظنه بهم، وذلك لأن الشرك الذي كانوا فيه قد وقع هو وأمثاله في نوع منه، وهو لا يعرف أنه الشرك، يعتقد أن التوحيد هو الإقرار بأن الله خالق كل شيء، لم يشاركه في الخلق أحد، فهذا عنده ¬

_ (¬1) في الأصل: (بكلاهما) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (يترايا) ، والتصويب من المحقق.

غاية التوحيد، كما تجد ذلك في كلام كثير من الناس من متكلميهم، وعبّادهم، فإذا رأى هذا هو التوحيد؛ كان الشرك عنده ما يناقض ذلك. وقد علم بالتواتر، وإجماع المسلمين، ونص القرآن،: أن العرب كانوا مشركين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك، وكان هذا من /60أ/ أعظم أسباب معاداتهم له، ولمن آمن به، فيظن هذا الذي لم يعرف حقيقة الأمر، أن ذلك الشرك، أنهم جعلوا آلهتهم شركاء لله في خلق السموات والأرض، وإنزال المطر، وخلق النبات، ونحو ذلك. ولو كان هذا يفهم القرآن، ويعرف ما كانت عليه العرب، ويعرف التوحيد، والشرك؛ لتبين له أن ما يقرُّ به من التوحيد كان المشركون (¬1) يقرّون به أيضًا، وهم مع هذا مشركون؛ حيث أحبّوا غير الله كما يحبّون الله، وحيث دعوا غير الله، وجعلوه شفيعًا لهم، وحيث عبدوا غير الله يتقربون بعبادته إلى الله، فهذا وأمثاله كان شركهم، مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء، وأنه لا خالق غيره، ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. فمعرفة المسلم بدين الجاهلية هو مما يعرفه بدين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ويعرف الفرق بين دين المسلمين الحنفاء أهل التوحيد والإخلاص، أتباع الأنبياء، ودين (¬2) غيرهم، ومن لم يميّز بين هذا وهذا فهو في جاهلية، وضلال، وشرك، وجهل، ولهذا ينكر هؤلاء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من [إخلاص] (¬3) الدين لله، إذ ليست لهم به خبرة من جهة النقل، ولا لهم فهم في القرآن، يعرفون به ¬

_ (¬1) في الأصل: (المشركين) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (ومن دين) ، والتعديل من المحقق. (¬3) إضافة من المحقق.

عاقبة المشركين عاقبة سوء

/60ب/ توحيد القرآن، ولا لهم معرفة بحقيقة الإيمان والتوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فليس لهم علم لا بالقرآن، ولا بالإيمان، ولا بأحوال الناس، وما نقل من أخبارهم، ومعرفة هذا من أهم الأمور، وأنفعها، وأوجبها، وهذه جملة لها بسط، مضمونها: معرفة ما بعث الله به الرسول، وما جاء به الكتاب والسنة. وهؤلاء المشركون على اختلاف أصنافهم، كلّهم عاقبتهم عاقبة سوء في الدنيا والآخرة، فإن الشياطين مقصودهم إضلالهم، وإغواؤهم، فيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم، ويخبرونهم بأكاذيب كما يفعلون بالسحرة والكهان، ولهذا يقترنون بأهل الكذب، والفجور، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (¬1) • تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222] . ودعواهم أن النفس هي المؤثرة، دعوى باطلة، فتضعف أنفسهم في آخر الأمر، ويتبين (لهم) (¬2) عجزها عن التأثير، وهم لم يعبدوا الله وحده، بل علقوا أنفسهم بغيره، و {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ • إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ • وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ /61أ/ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41-43] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ (¬3) آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا • كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81-82] . وكل من كان أعظم علمًا، وإيمانًا؛ كان أقوم بالتوحيد، وأتبع ¬

_ (¬1) في الأصل: (الشيطان) . (¬2) سقطت من المطبوع. (¬3) في الأصل: (الرحمن) .

حقيقة الشهادتين

للسنة، وأبعد عن الشرك، والبدعة، فإن التوحيد، والسنة، هو الإسلام، وهو حقيقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فالشهادة الأولى تحقيق التوحيد، والشهادة الثانية تحقيق الرسالة، التي توجب اتباع شريعته، وأن نعبد الله بما أمر به، وشرعه، دون ما نهى عنه، أو لم يشرعه، قال أبو العالية في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ • عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93] قال: هما خلتان يُسأل عنهما كل أحد (¬1) : ماذا (¬2) كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم الرسل؟ ولهذا كان الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، قائمين بهاتين الشهادتين، لم نجد أحدًا منهم يأمر بدعاء أهل القبور، ولا بالسفر إليهم، بل هم كما قال الله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] . والصلاة هي دعاء الله، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فإذا قُصد صاحب القبر، لأن يدعى، دعاء عبادة أو دعاء مسألة؛ فقد صارت الصلاة له، وإذا قصد السفر إليه؛ فقد جعل النسك له. ولهم حديث مشهور بينهم سألني عنه /61ب/ غير واحدٍ من أعيان الشيوخ وكبراء الناس، فكانوا يعتمدون عليه، وهو قوله: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وقد بينتُ لمن سألني عنه مرة بعد مرة، أن هذا كذب منكر، ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة في ¬

_ (¬1) في المطبوع: (واحد) . وقد كتبها ناسخ الأصل أولاً: (واحد) ، ثم مسح الواو. (¬2) في الأصل: (لماذا) ، والتصويب من المحقق.

بعض من يصلون مع المسلمين يدعون الكواكب وغيرها

الحديث، ولا ذكره أحدٌ من علماء الإسلام، ولا إمام من أئمة المسلمين، وإنما هذا الحديث من الأكاذيب التي وضعت ليقام (¬1) بها دين أهل الشرك، كما يقولون: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به. وإنما يحسن الظن بالأحجار المشركون الذين قال الله فيهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وقال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] . فهؤلاء يجعلون ما يجعلونه من صلاتهم، ونسكهم، لغير الله رب العالمين، وإن كانوا أيضًا قد يصلون، وينسكون لله، فهم يشركون، كما يوجد كثير من الداخلين في الإسلام من يصلي الصلوات الخمس وعنده صنم يعبده، وطائفة من المنتسبين إلى العلم، والعبادة، يصلون الخمس مع المسلمين، ثم يصعد أحدهم فيدعو بعض الكواكب، إما عطارد، وإما الزهرة، وإما غيرهما. وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين إذا ذُكر النهي عن دعاء أهل القبور، والحج إليهم؛ تراهم (¬2) ينكرون، وقد يجعلون هذا قدحًا، وسبًّا (¬3) ، /62أ/ وتنقصًا بالصالحين، وبالأنبياء، لكن ليس معهم حجة شرعية بالأمر بالسفر إلى هؤلاء، فيسكتون على غيظ، فإذا ذُكر هذا النهي عامًّا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، وبُيِّن أن السنة أن يسافر إلى مسجده للصلاة فيه، ويسلم عليه، وغيره ليس عنده مسجد يسافر إليه، فلهذا كان السفر إلى مدينته مأمورًا به؛ أخذوا يصدّون، ويشنّعون، ويقولون: هذا سبّ للنبي ¬

_ (¬1) في الأصل: (يقام) ، والتصويب من المحقق. (¬2) في الأصل: (يراهم) ، والتصويب من المحقق. (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (عيبًا) .

من الناس من يفضل شيخه وطريقه على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم

صلى الله عليه وسلم، وتنقص له، ويسعون في عقوبة من نهى عن ذلك، بما يمكنهم من قتل، وغيره، وليس معهم علم مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، ولا إيمان بحقيقة ما جاء به الرسول، بل يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا، وما ليس لهم به علم، وما للظالمين من نصير. وهم بين جاهل، أو متبع لهواه، أو جامع بين الأمرين، وكثير منهم ليس قصده تعظيم الرسول، بل تعظيم ما يدعو إليه من الشرك بشيوخه، وغير شيوخه، ولكن جعل الرسول عمدة له يحتج به في الظاهر، وهو في الباطن لا يوجب تصديق الرسول في كل ما أحبه، وطاعته في كل ما أوجب وأمر به، بل قد يوالي أعداءه، ويُحَسِّنُ حالهم، مع ظهور مخالفتهم للرسول، وقد يُجَوِّزُ أن /62ب/ يكون للأولياء وغيرهم إلى الله طريق غير اتباع الرسول. وفيهم من يجعل متابعة الرسول للعامة، وأما الذين هم عنده خاصة فأولئك يأخذون عن الله بلا واسطة الرسول، فلا يحتاجون إليه، وفيهم من يصرّح بأن شيوخه، وطريقهم، أفضل من متابعة الرسول، ومنهم من (¬1) يقول: إن أهل الصُّفَّة كانوا أفضل من الرسول، وإن الرسول كان يزورهم لبركتهم، وإنهم لم يأذنوا له، وقالوا له: اذهب إلى من أرسلت إليه، حتى اشتكى إلى ربه، فقال: اذهب إليهم بأدبٍ (¬2) ، فلما أتى قبلوه! وكثير منهم يرى قتال الرسول، ويرون أن أهل الصفة قاتلوه لما انهزم أصحابه يوم أحد، أو يوم حنين، وأنهم تحيّزوا إلى الكفّار، فقال لهم: تدعوني، وتذهبون؟! فقالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنّا معه! ¬

_ (¬1) في المطبوع زيادة: (كان) ، وكان ناسخ الأصل قد كتبها أولاً ثم ضرب عليها. (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (بإذن) .

سوء اعتقاد المشركين بالله

إلى أمثال هذه الكفريّات، وأمثالها. وكل ما ذكرته فقد شافهني به غير واحدٍ من هؤلاء، منهم من كان يعتقده، ومنهم من أخبر به عن شيوخه، حتى إنه كان من أعيان شيوخهم من سألني مرّةً عن هذا، فقلت له: هذا كفر، لم يكن أحد من الصحابة يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان المتخلف عن الجهاد المتعين مذمومًا، بل منافقًا، كالذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال لي: /63أ/ فقد يكون جائزًا في بعض المذاهب الأربعة، وأنت لم تعرفها كلها. فقلت له: ويحك! هذا لا يتعلق بالمذاهب، بل هذا يعرفه كل من يعرف الرسول وأصحابه، وأهل (¬1) المذاهب الأربعة وسائر المسلمين عندهم أن من قال هذا فإنه كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن هؤلاء من يكون متفلسفًا، معظمًا في الباطن لمن يخالف الأنبياء من الفلاسفة، ويكون على رأي الملاحدة الباطنية، يعاونهم تارة، ويعاون الكفار المشركين (¬2) المظهرين للشرك تارة، فهو عون للكفار، أو المنافقين. وهؤلاء قد يفضلون زيارة القبور، والاستشفاع بهم، على الحج؛ لأنه عندهم إذا زار القبر، وتوجه إلى الميت، فاض عليه من روحه كما ذكروا ذلك في الشفاعة، وأما الحج فعندهم أن الله لا يسمع دعاء الحجاج، ولا يعلم بأشخاصهم، وجزئياتهم، إذا كان يعلم الكليات دون الجزئيات، ومنهم من يقول: إنه لا يقوم به علم لا بالكليات ولا بالجزئيات، بل العلم عنده نفس المعلومات. وهؤلاء يعتقدون في الشريعة أنها سياسة للعامة، وأن ما أخبر به الرسول من أنباء الغيب عن الله، وعن اليوم الآخر، فإنما هو تخييل قصد به نفع العامة، من غير أن يكون ذلك مطابقًا للأمر، وهؤلاء عندهم /63ب/ أنه لا ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (من أهل) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (والمشركين) .

المنتصرون للبدع هم أقل الناس تعظيما لله ورسوله

يستفاد من خبر الله ورسوله عن الغيب علم، وهؤلاء باطنية الشيعة الإمامية، وأولئك أيضًا لهم غلو في أهل المقابر، والصلاة لهم، والحج إليهم، ويتظاهرون بأن الحج إلى مشهد علي، أو غيره، هو الحج الأكبر، وينادون علانية إذا سافروا إلى هذه الزيارة: إلى الحج الأكبر. وهؤلاء وأمثالهم كما وصف الله المشركين، وأشباههم، يجعلون قبر النبي صلى الله عليه وسلم: ترسًا، ويطلقون القول به مجملاً، ولا يختارون التفصيل بين الزيارة الشرعية، والبدعية؛ فإنه بالتفصيل يظهر ضلالهم، وشركهم، وكذبهم، فيظهرون ألفاظًا مجملةً، وينكرون التفصيل الفارق بين الزيارة الشرعية، والبدعية، ولكن يكذبون فيما يضيفونه إلى الناهي عن الزيارة البدعية، فيضيفون إليه أنه منهي مطلقًا عن هذا الجنس، حتى يروج بذلك تلبيسهم، وهذا من مشابهة أهل الكتاب، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} إلى قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 40-42] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ • يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ (¬1) الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70-71] . /64أ/ ومن استقرأ أحوال الناس رأى أن عامة من ينتصر للبدع مظهرًا أنه ينصر الرسول، هو بالعكس، ليس له في نصر (¬2) الله، ورسوله، والجهاد في سبيله، سعي مشكور، ولا مقام مذكور، بل هم معرضون عن الجهاد المأمور به، وعن نصر (¬3) كتاب الله، ودينه، ورسوله، وكثير منهم هو محاد لله ورسوله، يكذب بما أخبر به الرسول، وينفي ما أثبته، ويثبت ما نفاه، ويأمر بما نهى عنه، وينهى عما أمر به. ¬

_ (¬1) في الأصل: (ويكتموا) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (نصرة) . (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (نصرة) .

وكثير منهم، أو أكثرهم، يفعل ذلك ضلالاً، وجهلاً، وظنًّا أنه على الحق، كمن يرى أن المتفلسفة هم الذين حققوا العلم الإلهي بالبرهان، وأن ما جاء به الرسول إنما هو تخييل لنفع العامة، أو يرى أن ما يقوله النفاة والجهمية من نفي الصفات، هو الحق الذي تقوم عليه الأدلة العقلية، بخلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، فإنه ليس فيه الحق الذي تقوم عليه الأدلة العقلية، ثم قد يقولون: إن الرسول قصد به معاني، ولم يقصد به (¬1) ما دلت عليه، ولم يقصد بهذا الخطاب البيان للناس، وإنما قصد أنهم إذا رأوه مخالفًا للعقل عرفوا الله بطريق العقل، ثم استخرجوا لهذا الخطاب أنواع التأويلات، وقد يقولون: إن الرسول لم يكن يعلم معاني ما أنزل عليه، وما خاطب به الخلق من القرآن، والحديث، الذي ذكر فيه هذه الصفات. /64ب/ وكمن يرى أن الشيوخ الذين (¬2) يعظمهم هو، ويجعلهم أهل المعرفة، والتحقيق، وأعلى أولياء الله، وصل إليهم من جهة الله بلا واسطة ما لا يصل إلى الرسول، فمعرفة مقاصدهم، وعلومهم، هي أفضل عندهم من معرفة معاني الكتاب والسنة. وفيهم طوائف يستحلون الفواحش، وقتل النفوس التي تخالفهم، والشرك بالله، إلى أمثال هذه الأمور، وأصحابها يظنون أنهم على حق، كالنصارى، وأمثالهم من أهل الضلال، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ • قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ • فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة: (غير) ، وقد حذفها المحقق ليستقيم المعنى. (¬2) في الأصل: (الذي) ، والتعديل من المحقق.

حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 28-30] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي: عن الذكر الذي أنزله، وهو القرآن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ • وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ • حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ • وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 36-39] . ومن هؤلاء من يعظّم متبوعه عن أن يكون مطيعًا للرسول، متبعًا له، ويعظّم بعض المخلوقين /65أ/ من نبي، أو غيره، أن يكون عبدًا لله، فإذا ذكر عن المخلوق ما يستحقه من العبودية قالوا: هذا شتمه، كما تقوله النصارى لمن قال: إن المسيح عبد (¬1) ، يقولون: هذا قد سب المسيح، وتنقصه، وشتمه. وقد ذكر أهل التفسير أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ بُعِثْتَ بِشَتْمِ الْمَسِيحِ، تَقُولُ: هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ (¬2) ، وَلَيِسَ بِعَبْدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ بِعِيسَى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا • لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} أي: لم يأنف ولن يتعظم (¬3) {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا • فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

_ (¬1) في الأصل: (عبدًا) ، والتصويب من المحقق. (¬2) غير في المطبوع إلى: (الله) . (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (يتعاظم) .

الغلاة في هذه الأمة يشبهون النصارى

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ [اللَّهِ] (¬1) وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 171-173] . وفي الصحيحين /65ب/ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» وقال أيضًا: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ [كَانَ قَبْلَكُمْ] (¬2) الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» . وقد نهى سبحانه وتعالى عن الغلو، في سورة النساء، والمائدة، وقد أخبر في الحديث الصحيح أنه سيكون في أمته من يشبه اليهود والنصارى، وقال: «لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَارِسَ وَالرُّومَ؟ قَالَ: «وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا هَؤُلَاءِ؟» . وقال أيضًا: «لَتَسْلُكُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» . وكلا الحديثين في الصحيحين. فالغلاة في هذه الأمة يشبهون النصارى، كالغلاة في بعض أهل البيت، ومن يدعي أنه من أهل البيت، كالإسماعيلية، وكالغلاة في بعض المشايخ، فهؤلاء، وهؤلاء، فيهم شبه بالنصارى، يجعلون قول الحق والعدل الذي دلّ عليه الكتاب والسنة فيمن يغلون فيه: سبًّا، وشتمًا، ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل. (¬2) لم تظهر في حاشية الأصل، وأضافها المحقق.

أهل البدع لا يميزون بين الحديث الصحيح وغير الصحيح

وتنقصًا، كالنصارى، وبسط هذه الأمور له مواضع أخر، وإنما المقصود التنبيه على [هذه] (¬1) الجمل ليعرف /66أ/ الإنسان الفرق بين ما جاء به الرسول، وبين ما يشبه به وليس منه، فيعرف شريعة الرسول التي قال الله فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ • إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19] . فأمّة محمد صلى الله عليه وسلم - ولله الحمد والمنة - لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال فيهم من هو قائم بالحق إلى أن تقوم الساعة، فلهذا لا يزال في أمته من يفرق بين الطريق الشرعية، والبدعية، ويميز ما جاء به الرسول مما قاله غيره، فإذا طلب المسلم أن يتبع الرسول أمكنه ذلك؛ لوجود من يعرف هذا من الأمة، بخلاف النصارى، وأهل البدع، فإن النصارى لما كثرت فيهم البدع، واشتهرت، وقل العلم فيهم، صار يتعذر - أو يتعسر - عليهم الفرق بين ما أمر به المسيح، وبين ما أمر به غيره، بل هذا خلط بهذا، وصار بأيديهم كتب فيها هذا المختلط الذي لبس فيه الحق بالباطل. وهكذا أهل البدع كالذين يوجبون اتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم من شيخ، أو إمام، أو غير ذلك، تجد عندهم أمورًا منقولة عن شيخهم، أو إمامهم، أو عن علي رضي الله عنه، /66ب/ أو غيره، وفيها حق وباطل، ولا يمكنهم التمييز بين (¬2) حقها وباطلها، وتجدهم يروون أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفون صدقها من كذبها. وهكذا عامة أهل البدع، لا يميزون بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، لكن ما وافق آراءهم وأهواءهم كان هو الحق عندهم، وإن كان ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل. (¬2) في الأصل: (من) ، والتصويب من المحقق.

أهل البدع يحتجون بالحكايات

راويه قد اختلقه على الرسول، وما خالف ذلك دفعوه. بخلاف أهل السنة، وعلماء الأمة، الذين يقصدون متابعة الرسول، والاستنان بسنته، والعمل بشريعته، وتحقيق ما جاء به من حقائق الإيمان، التي أصلها في القلوب وفروعها ونتائجها على الجوارح، فإن هؤلاء يميزون بين ما قاله الرسول وقاله غيره، وما نقل عن الرسول فيميزون بين الصدق منه والكذب، والصحيح والضعيف، ويعتبرون أحوال سلف الأمة وأئمتها، ثم لهم فقه وفهم لما جاء به الرسول، يختصون به عن غيرهم، ولهم أحوالٌ وأعمالٌ امتازوا بها عن غيرهم. فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا /67أ/ الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . وقال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] . وقد يحتجون بحكايات عن بعضِ المتقدمين فيها ما هو كذبٌ على المنقولِ عنه، مثل حكاية يروونها عن الشافعي أنه قال: إذا كانت لي إلى الله حاجة ذهبت إلى قبر أبي حنيفة، وسألته (¬2) به، أو نحو هذا، والشافعي ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة: (أبدًا) . (¬2) غيرت في المطبوع إلى: (وسألت) .

رضي الله عنه هو ممن حذر الشرك بالقبور، ونهى عن البناء عليها، وحذر مما حذر منه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الفتنة بها، وقد ذكر ذلك أصحابه، حتى أبو إسحاق في تهذيبه، وغيره، والشافعي رضي الله عنه لم يكن يقصدَ قبر أحدٍ من الأنبياءِ والصَّحابة ليدعوه، ويسأل الله به، فكيف خص بذلك أبا حنيفة؟ ولم يكن على عهد الشافعي لما أتى بغداد قبر (¬1) يُزار هذه الزيارة، ولا كان بها مشهد البتة، وكذلك كان بعد موت الشافعي في تمام عُمر الإمام أحمد رضي الله عنه، لم يكن ببغداد مشهد ظاهر، ولا قبر يُزار للدعاء به ولا للدعاء عنده، لا قبر معروف، ولا موسى بن جعفر، ولا غيرهما، بل هذه /67ب/ كلها حدثت بعد ذلك، لا سيما لما تغيرت أحوال الإسلام في المائة الرابعة. والحكاية التي تروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف، الترياق المجرب. إن كانت صحيحة عمن نقلت عنه فإنه إنما قال ذلك بعد ¬

_ (¬1) في الأصل: (قبرًا) ، والتصويب من المحقق.

إعانة الشياطين لأهل البدع والشرك

موت الإمام أحمد لا في حياته، ولو كان من القبور ما هو ترياق مجربٌ؛ لكانت قبور المهاجرين، والأنصار، والخلفاء الراشدين، والأنبياء، أولى بذلك من قبر معروفٍ وأمثاله ... (¬1) /68أ/ وكثير من هؤلاء، بل أكثرهم، ليس اعتمادهم فيما هم عليه من الشرك والبدعة على الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، بل على ما يرونه ويسمعونه من الخوارق، وبعضها صدق، وبعضها كذب، وبعضها يكون خيالاً في أنفسهم، وبعضها يكون موجودًا في الخارج، كما كان يحصل للمشركين، منهم من يسمع كلامًا وخطابًا عند من يشرك به، إما الصنم، وإما القبر، وإما التمثال، ومنهم من يرى صورة إنسان أو غير إنسان، ومنهم من يخبر ببعض الأمور الغائبة، ومنهم من يعطى بعض أغراضه، فيؤتى ببعض ما يشتهيه من الصور، أو المال، أو يقتل بعض من يعاديه، وهذه الأمور هي من الشياطين، وهي من جنس السحر، والكهانة، فيظن كثير منهم أن هذا من باب الكرامات. وكثير منهم يعتقد أن في الإنس قومًا صالحين أولياء لله لا يزالون غائبين عن أبصار الخلق يسميهم: رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] كانت الإنس تستعيذ بالجن، فازدادت الجن طغيانًا وكفرًا، وقالوا: قد عبدتنا الإنس، واحتاجت إلينا. والتعازيم والأقسام التي فيها شرك هي من هذا الباب، لكن من هذه الأمور ما قد عرفت العامّة أنه من الجن، ومنها ما قد اشتبه، مثل ما يرى عند قبور الأنبياء، /68ب/ والصالحين، من شفاء مريض، أو حصول طعام من الغيب، ونحو ذلك، فيظن أنه معجزة أو كرامة، لأجل عكوفه، ودعائه لصاحب القبر. ¬

_ (¬1) هنا بياض في الأصل إلى نهاية الورقة، وهو بقدر عشرة أسطر.

معجزات الأنبياء مختصة بهم لا تحصل لمن كفر بهم

فيقال لهذا: معجزات الأنبياء مختصة بهم وبمن اتبعهم من المؤمنين، لا يجوز أن يكون لمن كفر بهم من المعجزات مثل ما لهم، فإن معجزاتهم هي آيات نبوتهم، وبرهان رسالتهم، والدليل يجب أن يكون مختصًّا (¬1) بالمدلول عليه، فلو كان لمن كذبهم مثل ما لهم لم يكن ذلك دليلاً، ولهذا طلب أعداؤهم أن يعارضوهم فيأتوا بمثل ما أتوا به، كما فعلت السحرة بموسى، وكما قصد بعض الناس أن يعارض القرآن، ولو أتوا بمثل ما أتت به الأنبياء لانتصروا. فلو أن السحرة أتوا بمثل ما أتى به موسى لم يكن موسى قد جاء بآية، بل من تمام آيات الأنبياء أن المكذبين لهم لا يقدرون على مثلها، ولهذا لما ظهر للسحرة أن ما أتى به موسى لا يمكنهم أن يأتوا بمثله، وليس من جنس السحر؛ آمنوا به، وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ • رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48] وقالوا لفرعون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا • إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72-73] . ولهذا /69أ/ تحدى الرسول المكذبين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، تحداهم بمثله، ثم بعشر سور، ثم بسورة، وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقد بسط الكلام على هذا في مواضع. فإن الكلام في المعجزات، وخصائصها، والفرق بينها وبين غيرها، ¬

_ (¬1) في الأصل: (مختصٌّ) ، والتصويب من المحقق.

تصور الشيطان بصورة شيخ الإسلام ليضل بعض الناس

من أشرف العلوم، وأكثر أهل الكلام خلطوا فيه تخليطًا ليس هذا موضعه. والمقصود هنا أن ما كان من المعجزات والكرامات يكون مختصًّا بالأنبياء وأتباعهم المؤمنين، ولهذا لم يكن ما يأتي به الساحر والكاهن من المعجزات والكرامات، فإن هذا يكون للكفار، وما يوجد للمشركين بالقبور وغيرها هو من هذا النوع المشترك، فالكفار من المشركين والنصارى يستغيثون بشيوخهم الموتى، والغائبين، ويرون من أتاهم في الهواء راكبًا، أو غير راكب، وقال: إنه المستغاث به، إما جرجس، وإما غيره، حتى قالوا لبعض علماء النصارى: فهذا جرجس يستغيث به جماعة في وقت واحدٍ، وكل منهم يراه، فقال: ذاك (¬1) ملك يأتي في صورته. فكثير من المنتسبين إلى الإسلام يستغيث بشيخه، ويرى من جاء راكبًا، أو طائرًا في الهواء، أو غير ذلك؛ فيظنه (¬2) شيخه. وقد يأتي في صورته إن كان يعرف صورة شيخه فيظن هذا شيخه. وهذا قد وقع لخلق كثير، ووقع لغير واحدٍ من أصحابنا معي، لكن لما حكوا لي أنهم رأوني بينت لهم أني لم أكن إياه، وإنما كان شيطانًا تصور في صورتي ليضلهم، فسألوني: لم لا يكون ملكًا؟ قلت: لأن الملائكة لا تجيب المشركين، وأنت استغثت بي فأشركت. والشيوخ الذين لا علم لهم، منهم من يخيل له الشيطان صوت المستغيث به، ويجيبه، /69ب/ فيخيل الشيطان للمستغيث صوت الشيخ، ويوهم كلاًّ منهما أنه سمع صوت الآخر. والمؤمن إذا نادى غيره وهو في مكان بعيد لمصلحة - كما قال عمر: يا سارية الجبل، قال عمر: فإن لله جندًا تبلغهم صوتي - فلله جند من ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (ذلك) . (¬2) في المطبوع زيادة: (هذا) ، وليست في الأصل.

إضلال الشياطين لبني آدم

أنصار المؤمنين تبلغهم صوت المؤمن (¬1) ، وكذلك كان عمر قد أرسل جيشًا فجاء بشير (¬2) بالفتح، وشاع الخبر في الناس، فسألهم عمر: من أين لكم هذا؟ فقالوا: رأينا راكبًا أخبر بذلك. فقال: هذا أبو الهيثم من الجن، بريد المؤمنين، وسيأتي بريد الإنس، فأتاهم بريد الإنس بعد أيام. فهؤلاء الجن كانوا مؤمنين مجاهدين في سبيل الله، والجن كالإنس: فيهم المسلم، والكافر، والكتابي، والمشرك، كما قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] . فمن أعان منهم مشركًا، أو أعان على الشرك؛ كان كافرًا، لم يكن مؤمنًا، وهم شياطين الجن الذين يضلون الإنس، و «الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا يَقْتُلُ الساحر بسحره، وإنما يَقْتُلُ بتوسط الجن، وكذلك أيضًا قد يحصل الشفاء بنوع من أفعالهم فيأتون إلى من يدعوه الكفار في صورة، أو قبر، أو نحو ذلك، فيفعلون ما يحصل به زوال ذلك المرض، حتى يظن ذلك الضال أنه ببركة شركه (¬3) ، وهو من إضلال الشياطين، ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (المؤمنين) . (¬2) في المطبوع: (البشير) ، وقد كان ناسخ الأصل كتبها أولاً هكذا ثم ضرب على أل التعريف. (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (مشركه) .

أنفع ما للإنسان الاعتصام بالكتاب والسنة

[و] (¬1) كما يوجد لدعاة القبور، والمشركين (بها) (¬2) ، والحجاج إليها، من هذا النوع، يوجد أكثر منه للنصارى، والمشركين، فعلم (¬3) أن هذا ليس من باب المعجزات، والكرامات، ومن المستفيض /70أ/ في بلاد الهند أن الميت يأتي بعد موته، فيحدثهم، ويرد ودائع، ويقضي ديونًا، ثم يذهب، وهو شيطان جاء في صورته. والشيطان يضل كثيرًا من الناس بمثل هذا، حتى إنه يقول لقرينه: أنت بعد الموت تغسل نفسك، أو: أنت تغيث من يأتي إلى قبرك، فيقول الشيخ لأصحابه: لا يغسلني أحد، أنا أغسل نفسي، ويرون بعد الموت أنه قد جاء في صورته وغسل نفسه، فيظنون أنه هو، وإنما هو الشيطان (¬4) جاء في صورته، وكذلك قد يجيئون إلى [قبره] (¬5) ، فيجدون دراهم، أو غير ذلك، فيظنونه منه، وإنما هو من الشيطان. وهذا بابٌ واسع قد بسط في مواضع، ومن لم يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فما عرف حقيقة الإيمان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نورٍ. وأنفع ما للإنسان: الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ثم إن رزقه الله بصيرة، وكشف له الحقائق؛ يتبين له ببصائر الإيمان وحقائقه ما يصدق الشريعة الظاهرة، وأن الله هدى الخلق بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والحق والباطل، وطريق الجنة وطريق النّار، [و] (¬6) بين أوليائه وأعدائه، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه عنا أفضل ¬

_ (¬1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل. (¬2) سقطت من المطبوع. (¬3) غيرت في المطبوع إلى: (نعلم) . (¬4) غيرت في المطبوع إلى: (شيطان) . (¬5) لم تظهر في حاشية الأصل. (¬6) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

ما جزى نبيًّا عمن أرسل إليه (¬1) . وإن لم تنكشف له الحقائق الباطنة كفاه اعتصامه بالشريعة الظاهرة، وحصل له النجاة، ونال من السعادة بقدر ما اتبع فيه الرسول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ • إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14-15] والله أعلم. (¬2) # # # ¬

_ (¬1) غيرت في المطبوع إلى: (إليهم) . (¬2) في الهامش كلام مبتور، ظهر لي منه: (نقلت ... على الشـ ... زيادات بخطه ... ولله الحـ ... ) وبعده كلام آخر لم أتبينه.

§1/1