قادة فتح الأندلس

محمود شيت خطاب

قَادَةُ فَتْحِ الأَنْدَلُس اللِّوَاءُ الرُّكن محمُود شيت خطّابْ رَحِمَهُ اللهُ المُجَلدُ الأولْ مُؤَسَسَة عُلُوم القُرْآن بيروت مَنَار للنّشر والتَوْزِيع دمشق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَادَةُ فَتْحِ الأَنْدَلُس

جمَيع الحقوق محفوظة الطّبعَة الاولى 1424 هـ - 2003 م

تَرْجَمَة مُوجَزة للمُؤلفَ اللِّواء الرُكُن مَحمود شِيتْ خَطّابْ رَحمَه اللهُ تَعَالى بقَلمْ محُمَدْ فَاروقْ البَطَل عُضو هَيئةِ التَدرِيسْ في كُليةِ الآدابْ قِسمُ الدِّرَاسَاتِ الإِسلامِيَّة جَامِعَةْ المَلكْ عَبْدِ العَزِيزْ سَابقاً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) رحم الله الفقيد القائد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطّاب رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وأجزل مثوبته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل خير، فقد أعطى لدينه ولأمته الكثير، وبذل الكثير، وعانى الكثير ... ولم يأخذ من دنيا الناس، ولا من هذه الدنيا الغرور إلا القليل، وأحسب أنه قد لقي وجه ربه بجهاد كبير، وزهد عجيب، وخلُق رفيع، وإخلاص نادر، وتواضع جم، وأعمال جليلة، وقلب ظلّ يخفق بحب الله، وحب رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وحب الصحابة الأبرار-رضي الله تعالى عنهم-، وحب الإسلام العظيم، حباً ملك عليه ليله ونهاره، وعقله وفكره، وقلبه وعاطفته، وطيلة عمره المبارك. أحسبه كذلك، ولا أزكيه على الله تعالى. (2) ولد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب في مدينة الموصل الحدباء (1) سنة 1338 هـ/ 1919 م من أبوين عربيين، أبوه من قبيلة الدليم -فرع الصقور- الذين يتصل نسبهم بالنبي-صلى الله عليه وسلم- من جهة الحسن بن علي بن فاطمة الزهراء - رضي الله تعالى عنهم- وأمه قيسية، وهي ابنة الشيخ مصطفى بن خليل قره مصطفى، وكان من علماء الموصل المشهورين بعلمهم وورعهم (2). احتضنته أمه عاماً أو بعض عام، ثم تخلت عنه مكرهة، لأن شقيقه الذي ولد _______ (1) توصف مدينة الموصل بالحدباء لوجود مسجد فيها مميز بمئذنة حدباء، وقد اختُلف في تفسير هذا ...... (2) من سيرته الذاتية بخط يده ص 17.

بعده بسنة استأثر بمكانه، فكفلته جدته أم والده، فأثرت فيه أبلغ التأثير، فقد كانت امرأة صالحة متدينة ومن بيت رفيع التدين، تقضي أكثر ساعات الليل في تهجد وتسبيح، فإذا غلبها الخشوع أجهشت بالبكاء من خشية الله، كان يصحبها إلى المساجد وسماع المواعظ. وهكذا نشأ الفقيد في بيت علم يُتلى فيه القرآن الكريم صباح مساء، وتُقام فيه الصلوات، ويحرص على الالتزام بالدين الحنيف، ويضم مكتبة عامرة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة. قرأ القرآن على يد أحد الشيوخ، وحفظ شطراً من كتاب الله، ثم أتم مراحل المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الموصل، وخلال سِنِيِّ هذه المراحل درس علوم اللغة والتفسير والحديث على أيدي شيوخ مدينة الموصل، وفي مساجدها العامرة بالحلقات العلمية، وخلال شهور العطلة الصيفية. وكان من أشد ما أثر في تكوينه الثقافي والعلمي -وهو يافع السن- مجلس الحي الذي يحضره بمعية والده، حيث يلتقي خيار رجال العلم والقضاء لقص الأخبار، وقراءة كتب الفقه والحديث والتاريخ .. يقول - رحمه الله-: (لقد كنت ألازم مجلس والدي مع أني لم أتجاوز الصف السادس الابتدائي، فلقد وقع اختيار والدي عليّ لقراءة كتب التاريخ على الحضور الذين كان معظمهم من أهل العلم المتقنين للغة العربية، لذلك فقد كنت مضطراً للعناية بقواعد اللغة العربية وضبط الألفاظ، لكي لا أقع عرضة للانتقادات أو اللوم من والدي) (1) ولا شك أن حضوره مثل هذا المجلس العلمي بلور اتجاهه على _______ (1) من رسالة التخرج لابنة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب لنيل درجة البكالوريوس بإشراف الأستاذ الدكتور محمود رجب النعيمي -جامعة بغداد- كلية العلوم =

اللغة والتاريخ. ومما يؤكد نشأته المتدينة أنه أدى فريضة الحج عام 1935 م ضمن رحلة مدرسية، ولم يكن له من العمر إلا خمسة عشر عاماً. وقد كان لأدائه الحج في هذه السن المبكرة أثر كبير، وخلّف في نفسه معاني عظيمة. (3) لما حصل الفقيد -رحمه الله تعالى- على شهادة الدراسة الثانوية تطلعت نفسه إلى دراسة الحقوق، لكن إرادة الله شاءت له غير ذلك (وكل ميسّر لما خلق له). فقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية عن حاجتها الكبيرة لمنتسبين للكلية العسكرية، فتقدم بطلبه مع عدد من رفاقه، وسافر إلى بغداد، وبدأ بالتعرف على معالمها لأول مرة، لأنه لم يكن قد زارها من قبل، فكان اسمه على رأس من أُعلِن قبولهم كطلاب في الكلية العسكرية سنة 1937 م. وتبدأ رحلة الفقيد في السلك العسكري. وحصل على الشهادات التالية: 1 - الليسانس من الكلية العسكرية العراقية 1938 م. 2 - الماجستير من كلية الأركان والقيادة العراقية برتبة نقيب عام 1948 م. 3 - شهادة دراسات عسكرية عليا من كلية الضباط الأقدمين العراقية عام 1954 م. 4 - دبلوم دراسات عسكرية عليا بدرجة ممتاز من كلية الضباط الأقدمين في إنجلترا عام 1955 م وقد كان ترتيبه الأول بين مائة ضابط من مختلف الجنسيات. 5 - شهد أربعاً وعشرين دورة تدريبية عسكرية في العراق وشمال أفريقيا وإنجلترا، ومنها دورات في الفروسية والأسلحة والتعبية ... _______ = الإسلامية 1420 هـ -1999 م (غير مطبوع).

وسواها (1). (4) إن استمرار الخطَّاب في السلك العسكري هذه المدة الطويلة أمر يثير العجب والدهشة، ذلك أن من يعرف واقع كثير من الجيوش العربية في ظل الأنظمة الاستعمارية أولاً والأنظمة العلمانية والحزبية ثانياً يقدّر مدى الصبر والمعاناة والمرارة التي عاناها ضابط ملتزم بإسلامه وعقيدته، مستقيم في سلوكه، معتز بدينه وتراثه، مثل الضابط محمود شيت خطاب مذ كان شاباً. ذلك أن القائمين على هذه الجيوش فرضوا على عناصرها الإلحاد، والهزء بالدين، والسخرية بالإسلام، واحتقار التديّن، كما فرضوا عليهم كافة ألوان الفساد والمحرمات من خمر وزنا و ... و ... وما نجى من ذلك إلا القليل، ومن كُشِف منهم على غير ذلك سُرِّح وأُبعد عن الجيش، واعتُبر خطراً على أمنه وأمن البلد!! ... حقيقة مؤلمة مبكية، لكنها الواقع!! يحدثنا اللواء الخطاب عن هذا الواقع المرّ، وهذه الحقيقة المفجعة فيقول -محدثاً عن نفسه وعن تجربته الشخصية-: (تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها، في أول لقاء به وأول يوم رأيته وتعرفت إليه: هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحِسان؟). (وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي، فظهرت على وجهه بوادر خيبة الأمل ونَدَب حظه العاثر لالتحاقي بسريته، ئم عبس وتولَّى وهو يقول: لماذا أصبحت ضابطاً؟! ولماذا اخترتَ سلاح الفرسان؟ ولماذا تعيش؟! الأفضل لك أن تموت). _______ (1) من سيرة الراحل الكريم بخط يده ص 10، وانظر كتاب اللواء الركن محمود شيت خطاب (سيرته وترجمة حياته ومؤلفاته) للواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم ص 18 مكتبة العبيكان.

(وكان ذلك أول درس عملي تلقيتُه من قائد سريتي، في أول يوم من حياتي العسكرية العملية في الوحدات العاملة، ثم توالَتْ عليَّ الدروس المماثلة كاللحن المكرر يُعاد على مسامعي صباح مساء). (ولم أُباغَت بما سمعتُه من قائد السرية، فقد تكاثَرتْ عليَّ نصائح المجربين منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية: أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف، وأكيّف نفسي لتلائم مناخ العسكريين). (وبعد تخرجي ضابطاً في الكلية سنة 1938 م التحقتُ بمدرسة الخيَّالة في بغداد، فانهالت عليّ الدعوات الشخصية الرسمية التي يسيل الخمر فيها أنهاراً، وانهالت معها عليّ النصائح والانتقادات، وكان اعتذاري عن حضور تلك الحفلات يُقابَل بالنقد اللاذع والسخط المرير). (ولكنني كنت أتلقى النصح تارة، والنقد تارة أخرى من لِداتي الذين لم يتجاوزوا العشرين، وهم شباب في عمر الورد لا ينقصهم المال والفراغ، ولم أكن أتوقع أبداً أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من عمره، وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عاماً!!). (وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السرية، لأنني وجدت تصرف قائد الكتيبة نحوي -وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره- وكان ضابطاً مخضرماً قضى شطراً من خدمته العسكرية في الجيش العثماني، وشهد الحرب العالمية الأولى، لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي، كلاهما يأمر بالمنكر، وينهي عن المعروف). (وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة، تطلق عليها اسم: (وليمة التعارف والاستقبال) تقدم فيها الخمر مع ما لذَّ وطاب من الأطعمة الشهية، وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة

والتكريم!!). (واستدعاني قائد السرية قبيل انتهاء الدوام الرسمي، وبلَّغني بأن الكتيبة ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء، فلم أستطع التخلف عن حضورها، لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جُدُد، هم زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة). (وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف غمز عينيه، وهو يبتسم ابتسامة الواثق بنفسه ويقول لعلك تراجع فكرك اليوم، ولعلي أهديك إلى سر الحياة!!). (وشهدتُ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود، وقدِم قائد الكتيبة يتبختر، فاستقبله الضباط وقوفاً، ثم قدَّم إليه قادة السرايا ضباطهم الجدد، وقدَّمني قائد سريتي قائلاً: الملازم ضابط خام يدَّعي أنه لم يذق طعم الخمر في حياته). (وقال قائد الكتيبة: كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر الخمر؟! هذا غير معقول! وتحرَّج موقفي، وتجمَّع الضباط من حولي يرجونني ويطالبونني، ثم يلحّون ويلحّون، وجاء قائد الكتيبة، وقد ملأ كأساً بالخمر، وأمر أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي العسكرية بشرب المدام، وأن أتخلى عن تزمُّتي لأصبح ضابطًا حقاً ... ثم أَقْسَم بشرفه العسكري أن أفعل، وأقسم قائد سريتي ألا أردّ يد القائد الهمام). (وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ على صفحات النجوم، وكانت مياه دجلة تعكس النجوم فتزيدها بهاءً ورونقاً). (وكان قائد الكتيبة برتبة عقيد، يحمل على كتفيه رتبته العسكرية، وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة، على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم،

ونجمتان مع التاج، فيكون مجموع النجوم على الكتفين: اثنتي عشرة نجمة). (ويومها قلتُ له: إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم). (وبهت القائد، وردّد: السماء ... السماء ... ! نجوم السماء ... ! وأشاح قائد الكتيبة بوجهه عني، ومضى غضبان آسفاً وهو يقول: هذا الضابط لا يفيد ... لا يفيدنا أبدا). (ويومئذ شعرتُ بأن موقفي ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مبارزة بين إرادته بشراً وإرادة الله خالق البشر). (وجلستُ وحيداً أتأمل ... وجلس الضباط جميعاً، ترتفع ضحكاتهم إلى عنان السماء). (كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلف وجمود وأن التقوى بلادة وتواكل، وصمَّمت أن أُثبت أن تلك المفاهيم خاطئة، وأن الضابط المتدين حَرِيٌّ بالتفوق، وأن الدين يستثير الهمم والعزائم، فعزمتُ ألا أرضى بالنجاح وحده، بل بالتفوق في النجاح، وكان سبيلي إلى ذلك العملُ الدائب وإتقانه، والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه، واستيعاب العلوم العسكرية بدقائقها، والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم، حتى أصبح رعيلي نموذجياً، يقصده الزائرون من الوحدات الأخرى والأجانب، ويحوز قصب السبق تدريباً وتهذيباً وضبطاً على رعائل الكتيبة). (كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس، وكنت أغادرها الهزيع الأول من الليل، وكنت أقضي وقتي متعلماً ومعلماً ومتدرباً ومدرباً. وكان من الأمور الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة، فيجدني جنودي منتصب

القامة في قاعة نومهم، فشاع بين الضباط أنني أصلّي الفجر في الثكنة، ولا أغادرها إلا بعد صلاة العشاء ... ). (وبهذا الجهد الجهيد، استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين ظلماً وعدواناً، واستطعتُ الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنُّم مناصب عسكرية لا يحلم بها زملائي في الرتبة والقدم) (1). وللقارئ الكريم أن يتصور مدى جهد اللواء الخطاب ومدى معاناته، وكيف صبر وصابر؟ وكم تحمَّل وكابد؟ حتى وصل إلى أعلى رتبة عسكرية في الجيش العراقي وبشكل طبيعي، ودون ترقيات استثنائية. أقول: إنه صبر ولاشك، ولكن الله أعانه، ولحكمة يعلمها. ولعل الحكمة الربانية في هذا التوفيق أن يفتح الله عليه كتابة هذه المؤلفات والبحوث العسكرية المتخصصة وغير المسبوقة، وخاصة ما يتعلق بإعادة صياغة التاريخ العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني وعلمي متخصص بدءاً من عهد الرسالة وانتهاء بعهد الفتوحات. جزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير. (5) وبهذا الجهد الجهيد -كما يقول الخطاب- ومع الاستقامة على أمر الله والاستعانة به سبحانه، فرض احترامه على رؤسائه، وارتقى في السلك العسكري ضابطاً محترماً، رتبة بعد رتبة حتى حصل على رتبة اللواء الركن واستمر في هذه الرتبة حتى اعتُقِل في العهد الشيوعي -عهد عبد الكريم قاسم -، وقد اعتُقِل ثمانية عشر شهراً من أواخر سنة 1959 م إلى منتصف عام 1961 م ثم أُفرج عنه، بعد أن ترك التعذيب أثره في جسده في (42) كسراً في عظامه (2). لم يحفظوا له سناً ولا رتبة ولا علماً ولا قدراً ((وما نقموا منهم إلا _______ (1) من مقدمة الخطَّاب لمؤلفه (بين العقيدة والقيادة) 29 - 33. (2) من السيرة الذاتية للواء الخطَّاب بخط يده ص 13.

أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)). يقول -رحمه الله- في ذلك: (لم يكن عبد الكريم قاسم شيوعياً، ولكن كان مضطراً للاستعانة بهم، وبخاصة في تلك الأثناء التي اندلعت فيها ثورة الشوَّاف في الموصل، فأطلق أيديهم يعملون ما يشاؤون، ولم يكن بوسعهم الصبر على موقفي منهم (1)، فبعث إلى المنطقة بضابط يصلح لتحقيق رغبات الشيوعيين، وما لبثوا أن تجمّعوا حوله ليخطب فيهم داعياً إياهم إلى سحل كل ضابط وفدائي يقف في طريقهم، أو لا يؤيد ثورتهم، فكان عليّ أن أتدارك ما أمكن من الخطأ، فدخلت على هذا الضابط أحذره مغبة تصرفه، فما كان منه إلا أن اتصل بعبد الكريم قاسم لإقصائي عن طريقه، وهكذا تمّ لهم ما يشاءون، وكان ذلك في الهزيع الأخير من إحدى ليالي رمضان، حيث أوقفني ثلاثة من جنودهم فاعتقلوني ثم حملوني في حراسة مشددة إلى السجن المخصص لأعداء الثورة في بغداد، واستمر وجودي ثمانية عشر شهراً مشحونة بأنواع من التعذيب الذي يعجز الوصف عنه، وفي جسدي اثنان وأربعون كسراً في العظام (2)). (6) لم يكن اللواء الخطاب مجرد ضابط موظف محترف، بل خبر العلوم العسكرية، وتبحّر في هذا التخصص، واجتهد فيه يشهد له بذلك الإمام الجليل الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله تعالى- فيقول: (قائد يعرف خصمه، فيدرك مراميه، حتى إنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها، وقبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها، لأنه يعلم الخصم ومآربه وحاله، ويتعرف من ذلك مآله، علم بهجوم اليهود سنة 1967 م قبل أن يعلنوه، _______ (1) كان الفقيد يومها رئيس هيئة أركان حرب الفرقة الأولى مسؤولاً عن أمن الجنوب ما بين بغداد والبصرة. (2) من رسالة التخرج لابنة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب ص 16 (غير مطبوع).

وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يدبرون الأمور. ويلبسون لكل حال لبوسها) (1). يشير العلامة أبو زهرة بهذا إلى بحث كان قد نشره اللواء الخطاب قبل هذه الحرب المأساة، تحت عنوان: (حرب أو لا حرب) قال فيه: (إن نفير إسرائيل سيكتمل يوم الخامس من يونيو -حزيران- سنة 1967 م فتكون إسرائيل جاهزة للحرب في هذا اليوم وستهاجم إسرائيل العرب في هذا اليوم حتماً). ثم قال -رحمه الله- وبكل تواضع، وبعد أن حدث بالضبط ما توقعه: (وقد صدقتِ الأحداث ما توقعتُه، ولست نبياً، ولكن الفن العسكري أصبح علماً له قواعد وأسس، عليها استندتُ في كل ما كتبتُه من مقالات) (2). (7) كان من جهاده العسكري -رحمه الله تعالى- أنه شهد الحرب العراقية البريطانية في العراق عام 1941 م في ثورة رشيد عالي الكيلاني -رحمه الله تعالى- ثم خاض معظم المعارك التي التقى فيها الجيش العراقي بقوات الإنجليز، وكان أثناء ذلك برتبة ضابط ركن في لواء الخيالة المرابطة بأبي غريب -على بعد (50) كم من الأنبار- التي جرت في ساحتها أهوال المعارك، ونتيجة قصف الطيران المعادي الشديد، أصيب اللواء الخطاب بقنبلة توزعت شظاياها في كل موقع من جسمه، وكان أمل الأطباء في بقائه على قيد الحياة ضئيلاً، ولكن شاءت إرادة الله أن يشفى القائد ليتابع جهاده في خدمة دينه وأمته (3). ومن جهاده العسكري كذلك أنه لما تخرج من كلية الأركان عام 1948 م _______ (1) من مقدمة الشيخ محمد أبو زهرة لكتاب (بين العقيدة والقيادة) للواء الخطاب ص 12 وانظر كتابه (الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها). (2) من مقدمة كتاب (العسكرية العربية الإسلامية للواء الخطاب) للأستاذ عمر عبيد حسنه، كتاب الأمة ص 19. (3) من رسالة ابنته آمنة ص 15، والسيرة الذاتية بقلم الراحل الكريم ص 13.

قدَّم طلباً إلى وزارة الدفاع العراقية ليتطوّع مقاتلاً في معارك التحرير لإنقاذ فلسطين. يقول -رحمه الله- بعد أن تمت الموافقة على تطوعه: ذهبت إلى منصب ضابط ركن اللواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيت هناك نحو سنة، حتى عدت مع الجيش العراقي (1) ... ويسجل ذكرياته في هذه الساحة الجهادية فيقول: انتصر فوج واحد يبلغ تعداده (822) ضابطاً وجندياً على عشرة آلاف صهيوني كانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين (30) شهيداً مع أن المعركة معركة تصادفية، ولم يكن أي من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين) أو يعرف حتى مكانها، ولا توجد لديهم خرائط ... وكان بين قتلى اليهود ابنة (ابن جوريون) رئيس وزراء إسرائيل (2) ... (8) بعد انقضاء حكم عبد الكريم قاسم تولى منصب الوزارة في عهد الرئيس عبد السلام عارف عدة مرات، ولكنه انتهز أول فرصة، فاستقال للتفرغ للعلم وحده، وقد عُرِضت عليه الوزارة في كل حكومة شكلت بعد سنة 1964 م، ولكنه اعتذر باستمرار، وفي سنة 1968 م في 17 تموز عُيِّن وزيراً للمواصلات، وكان يومها في مصر رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية فاعتذر عن قبول هذا المنصب وآثر العمل في المجالات العلمية على العمل في المناصب الحكومية، وبقي في القاهرة حتى أخرج للناس المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة المعروفة، والتي أعيد طبعها مرات كثيرة، وكان هو الذي اقترح توحيد هذه المصطلحات وهو الذي وضعها في حيز التنفيذ. وعاد من مصر إلى العراق سنة 1973 م، فعرضت عليه عدة مناصب _______ (1) كتاب اللواء محمود شيت خطاب للواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم ص 64. (2) المرجع السابق.

حكومية رفيعة، ولكن اعتذر عن قبولها، وتفرغ كلياً لبحوثه ودراساته وللتأليف والتدريس في المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية في أرجاء البلاد العربية كلها، ما وجد إلى ذلك سبيلاً (1). (9) تألّقت شخصية اللواء الخطاب العسكرية والعلمية والدعوية على مستوى العالمين العربي والإسلامي فاختير عضواً فاعلاً في كثير من الهيئات والمجامع العلمية منها: أ - المجمع العلمي العراقي -عضو كامل- منذ سنة 1963 م. ب - مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف منذ سنة 1968 م عضو كامل. ج - مجمع اللغة العربية في القاهرة -عضو مراسل- منذ سنة 1966 م. د - المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي -عضو كامل- منذ سنة 1964 م. هـ - مجمع اللغة العربية في دمشق -عضو مراسل- منذ سنة 1966 م. و - مجمع اللغة العربية الأردني -عضو مؤازر- منذ سنة 1979 م. ح - المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة -عضو مؤسس- منذ سنة 1975 م. ط - مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة -عضو مؤسس- منذ سنة 1977 م (2). (10) تتجلى هذه المكانة الرفيعة والسمعة الطيبة فيما كتبه العلامة الفقيه _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب بخط يده ص 14 - 15. (2) السيرة الذاتية للواء الخطاب بخط يده ص 8 - 9.

الإمام الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله تعالى- تقريظاً لكتاب اللواء الخطاب (بين العقيدة والقيادة) قال: (وإن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم المدرك والوزير المخلص -وقليل ما هم- سعدت بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل (1)، والمدة في الحالين لا تزيد، ولكني بمجرد أن التقيت به أحسست بأني أعرفه منذ سنين تُعَد بالعشرات، لا بالآحاد، وكأن الأرواح قد تعارفت قبل أن تتلاقى الأشباح، وكأن الصورة قد رأيتها، وما لقيتها؛ لأن الأرواح تتآلف وتسبق الائتلاف، وتتقارب وتسبق الاقتراب، ولذلك سرعان ما تصادقنا عندما التقيت به، وكأن صداقتنا ترجع بالماضي على آماد، لا إلى وقت قريب. إذا اجتمعنا منفرِدَيْن أو في جَمْع، وتبادلنا الأفكار، أحسست بأني لا أنوي فكرة إلا سبقني إليها، وقد أسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يبديه، وكان ذلك لامتزاج نفوسنا، وصفاء ما في نفسه، وابتعاده عن الالتواء في القول أو الفكر أو الاتجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خط مستقيم، كاستقامة قامته، والخط المستقيم يُعرَف ابتداؤه كما يعرف وسطه وانتهاؤه. وكانت مجالس نتبادل فيها الحديث على نور من الله، وروحانية نفوس، واستقامة قلوب بيننا، فكنت أتذكر في هذه الصحبة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله ناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله" قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: قوم تحابّوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم تلا قوله تعالى ((ألا إن أولياء الله لا _______ (1) تاريخ الطبعة الأولى من الكتاب هو سنة 1392 هـ-1972 م، ومن خلال هذا التاريخ يعرف تاريخ كلمة الشيخ أبي زهرة رحمه الله تعالى.

خوف عليهم ولا هم يحزنون)). تذكرت هذا الأثر النبوي إذ اكتمل بالعمل جمعنا، لكني ولست ممن يتسامى إلى هذه المكانة، وأحسب أن صاحبي يتسامى إليها، أو إني أرجو له ذلك. وقد جمع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفاسف الأمور، وتتجه به إلى معاليها. أولها: الإخلاص في القول والعمل، والإخلاص إذا كان في قلب أشرق، وقذف الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيماً، ولسانه قوياً، وعمله حكيماً، فلا يكون التواء ولا عوج. ثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرّف الأمور من وجوهها، وإدراكها من مصادرها فقلمه نقي، وفكره ألمعي ... وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسوله النبي الأمين، ولذلك يتَّبع سيرة السالفين، ويجعل منهم نوراً يُهتَدى به، ويعلم منه أعلام الهداية. ويكمل هذه الصفات التي هي بمنزلة السجايا والملكات، همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحروب، وخصوصا ما كان بين العرب واليهود. (وهو عالم في العربية، وملم إلماماً عظيماً بشؤون الدين، وقارئ يتقصَّى الحقائق فيما يقرأ، يتعرّف ما تسطره الأقلام، وما وراء ما تسطره، ينفر من تقليد الفرنجة، ويُوثر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح، وهو ممن يؤثرون الاتباع، ولا يرضون عن الابتداع، سلفي في إيمانه وعمله، قوي في تفكيره، ويهضم ما جدَّ في العصر بما في قلبه من إيمان راسخ، واتباع مستقيم، وله مع كل هذا قلم بارع مصور، وكتابته من قبيل

السهل الممتنع، وفقَّهه الله تعالى وهداه) (1). حسْب اللواء الخطاب هذه الشهادة الحقة المنصفة المحبة الصادقة تأتي من إمام زمانه، وفقيه عصره العلامة الشيخ محمد أبو زهرة الذي ترجم لأعلام الفقه وأئمة الاجتهاد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم فأوفى وأبدع، رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، وطيَّب ثراه. (11) وكان من جهاده الدعوي -رحمه الله تعالى- أنه سخّر قلمه وفكره في الدعوة إلى الله سبحانه إيماناً به، ويقيناً بنصره، واعتزازاً بدينه، ودعوة إلى إقامة شرعه، وإعلاء كلمته، وجهاداً في سبيله، واقتداء برسوله، وتأسياً بصحابة نبيه، وتعريفاً بسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة القادة الفاتحين -رضي الله تعالى عنهم- وإبرازاً لعظمة الأمة الإسلامية، وعظمة تاريخها، وعظمة حضارتها، وعظمة الانتماء إلى أمجادها، ودعوة لا تعرف الملل ولا السأم إلى إعلان الحرب الحقيقية والصادقة على الاستعمار بكل أشكاله وألوانه، وخاصة الاستعمار الفكري ومَن يمثله من المستشرقين والعلمانيين والملحدين والمتحللين ودعاة التغريب والتقليد. وكشاهد على ما أقول؛ فقد كتب تقريظاً لكتاب غزوة بدر الكبرى تأليف الشيخ محمد أحمد باشميل (2) -رحمه الله تعالى- قال فيه: (لقد كان الرسول القائد -صلوات الله وتسليمه عليه- أسوة حسنة لأصحابه بأعماله لا بأقواله، وشتان بين الأعمال والأقوال، فلا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس صاحبه ليكون عملاً، فيتحول في النفوس الأخرى عملاً ولا يبقى كلاماً. _______ (1) من مقدمة الإمام محمد أبو زهرة لكتاب الخطاب (بين العقيدة والقيادة) 10 - 12 أنصح بقراءة المقدمة كاملة والتي تبلغ قرابة عشرين صفحة (9 - 28). (2) انظر كتابه (غزوة بدر الكبرى) وسلسلة معارك الإسلام الفاصلة (8 - 14).

ذلك هو الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- أما جنوده فكان أمرهم كله عجباً ... كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويؤثرون عقيدتهم على آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموالهم، بل يؤثرون عقيدتهم على أنفسهم، فيتسابقون إلى الشهادة، فيقول أحدهم للآخر: (هنيئاً لك الشهادة)، وتقول الأمهات والأخوات والزوجات حين يعلمن باستشهاد ذويهن (الحمد لله الذي أكرمهم بالشهادة). وهؤلاء قادة وجنوداً يبنون للمستقبل، فيعتبرون العلم فريضة لا نافلة، ويعتبرونه عبادة لا تجارة، ويعتبرونه غاية لا وسيلة ... ! كانوا إخوة في الله يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكانوا كالجسد السليم المعافى إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!. هؤلاء قادة وجنوداً، كانوا يبنون ولا يهدمون، ويعمرون ولا يخربون، ويفعلون ولا يقولون. كان انتصار المسلمين في بدر، إيذاناً بمولد دولة الإسلام عملياً، فقاد المسلمون بعدها العالم إلى الخير والصلاح، والمدنية والنور، قروناً طويلة. وكان انتصارهم بالإسلام، ولن ينتصروا بغيره، وتاريخ المسلمين خير دليل على ذلك. وكان العرب في الجاهلية متفرقين فتوحدوا بالإسلام، وكانوا أعداء فألف الإسلام بين قلوبهم، وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم الإسلام منها، فأصبح العرب بالإسلام وحدة رصينة ودولة عظيمة، وأمة متماسكة، وقوة ضارية، وجدت لها متنفساً بالفتح الإسلامي العظيم، فسارت رايات العرب المسلمين تهدي الدنيا، وتحضّر العالم، وتمدّن الناس، فامتدت دولة الإسلام

من سيبيريا شمالاً إلى فرنسا غرباً، إلى الصين شرقاً، إلى المحيط جنوباً. كانوا ضعفاء فأصبحوا بالإسلام أقوياء، وكانوا أعداء فأصبحوا إخوة، وكانوا مستعبدين فأصبحوا فاتحين. ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فأصبحوا مستعمَرين مستعبدين، أذلاء غثاء كغثاء السيل، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أصبح هؤلاء الخلف يستوردون المبادئ من الشرق والغرب، مبهورين متخاذلين، وأصبحوا يتعشقون تراث الأجنبي، ويحتقرون تراثهم، ويتدارسون تاريخ أعدائهم، ويتركون تاريخهم وراءهم ظهريًّا، حتى أصبحنا نسمع بعض العرب المسلمين يقولون ويكتبون ويذيعون علناً باسم الثقافة وباسم التحرر ما لم يستطع أن يقوله أو يكتبه أو يذيعه المبشرون وأعداء الإسلام. وإذا كان أكثر المستشرقين قد بذلوا قصارى جهدهم لتعميق آثار الاستعمار الفكري بين العرب والمسلمين، فما عذر المستغربين من العرب المسلمين. إن الدعوة التي تبناها المبشرون وعملاء الاستعمار وأذنابهم في إبعاد الدين الإسلامي عن الحياة دعوة مريبة، هدفها إبعاد العرب عن الناحية المعنوية في حياتهم، فالعرب جسم والإسلام روحه، ولا بقاء للجسم بدون روح. والدعوة التي تبناها هؤلاء لاستعمال العامية بدل العربية الفصحى دعوة مريبة، هدفها أن يجعلوا من الأمة العربية أمماً، ومن الشعب العربي شعوباً؛ لأن اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولغة قادة الفتح وجنوده، ولغة الفكر وجنوده. والدعوة التي تبناها هؤلاء لإشاعة الفاحشة والتخنث في العرب خلافاً لعقيدتهم وتقاليدهم، دعوة مريبة، لا تخدم غير الاستعمار، وأعداء العرب،

وإسرائيل، وكيف تنتظر من الديوثين والبغايا أن يبذلوا أرواحهم في ميادين الشرف والفداء؟؟!! إني أتحدّى كل من يزعم أن هناك عقيدة أفضل من عقيدتنا، وأن هناك رجالاً أعظم من رجالنا، وأن هناك تاريخاً أنصع من تاريخنا، وأن هناك تراثاً أروع من تراثنا ... والذين يزعمون أنهم طردوا الاستعمار العسكري والاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي من بلادهم ثم يعملون ليلاً ونهاراً على ترسيخ الاستعمار الفكري في بلادهم، لم يصنعوا شيئاً أكثر من إخراج الاستعمار من باب ضيق، وإدخاله بمحض إرادتهم من باب فسيح. نطرد الاستعمار، ثم نترجم قوانينه، ونعمل بها نصاً وروحاً، فنشيع في بلادنا فجور القانون ... ونتخلص من الاستعمار، ثم نستورد مبادئه ونطبقها حرفياً فنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ... ونحارب الاستعمار، ثم نستورد منه التحلل الخلقي، فنفسد جيلنا الصاعد، ونشيع بينهم الفاحشة والمنكر. عقوبة السارق في الإسلام قطع اليد، فيقول عن ذلك الجهلاء منا: أن ذلك رجعية، وهذا همجية، وهو لا يتفق مع روح القرن العشرين!! عقوبة السارق في أعظم دول الاشتراكية الإعدام، فيقول عن ذلك الجهلاء منا: هذه تقدمية وهذه مثالية، وهذا يتفق مع روح القرن العشرين؟؟!! فلمصلحة مَن هذا التهافت الذليل؟؟!! وأي استعمار فكري شنيع نعاني؟؟!! إن الذين يدَّعون بأن السلوك السياسي لا علاقة له بالسلوك الشخصي التزاماً

بالمبادئ الخلقية الرفيعة واهمون كل الوهم، أو أغبياء كل الغباوة، أو عملاء كل العمالة. والذين يريدون إشاعة الفحشاء والتخنث في أبنائنا لا يخدمون غير الاستعمار وإسرائيل. إن عقيدتنا المستمدة من رسالة السماء، وتاريخنا الذي هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام، ورجالنا الذين هم الترجمة العملية لروح الإسلام، وتراثنا الذي هو حصيلة الفكر الإسلامي هي أعظم وأرفع وأنصع وأروع وأنقى وأطهر وأسمى وأبهر من كل ما وجد على الأرض من عقائد وتواريخ وتراث. وأتحدى كل من يدعي خلاف ذلك، إلا أن يكون جاهلاً أو غبياً أو عميلاً، فلا يجدي شيء مع الجهلاء والأغبياء والعملاء ... إن الماضي هو أساس الحاضر والمستقبل، فكيف نتنكر لماضينا المجيد؟ وهل هناك عاقل يبدأ ببناء البنيان أول ما يبدأ من قمته؟!! إننا سُدْنا بالإسلام عقيدة وعملاً وتضحية وفداء، ولن نَسُود بغيره أبداً مهما نحاول من محاولات. إن الإسلام مفخرة الدنيا ومعجزة العالم، فيجب أن نهاجم به أعداء الإسلام. يا أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- في كل مكان من دار الإسلام! يجب أن تهاجموا بالإسلام أعداء الإسلام، فلا يقولن قائل بعد اليوم: إنني أدافع عن الإسلام لأن الإسلام أقوى من أن يدافع عنه إنسان. ((*إِنَّ اَللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّ اَللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .............................................................

)) (1). ممم أعتقد أن الرقم يجب أن يكون مع النص السابق والهامش أيضا ممم تمسكوا بالإسلام بما فيه من تكاليف التضحية والفداء، وبذلك وحده تعودون إلى قيادة العالم كما فعل أجدادكم من قبل، وصدق الله العظيم: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكسِبُونَ)) (2). رددوا معي ما كان يردده السلف الصالح من رجالنا الغرِّ الميامين: (يا نصر الله اقترب). إننا مع المسلمين في كل مكان على أعدائهم في كل مكان، فهم إخواننا في الدين، وهم إخواننا في الله والله يقول: ((إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (3) وعلينا واجب نصرهم، والذي لا ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً عليه ألا يدّعي الإسلام. إننا مع لغة القرآن لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولغة العرب الفاتحين، على دعاة العامية الذين يتظاهرون بالشعارات الزائفة، ويخفون ما لا يظهرون. وكل من لا يكون مع مبادئ القرآن ولغة القرآن، منحرف عن الحق، يعمل لحساب الاستعمار وإسرائيل ولو تظاهر بالعروبة والإسلام. وإلى هؤلاء المنحرفين، أقول مذكراً ومنذراً ما قاله الله تعالى في القرآن الكريم: ((وَسَكَنَتُم فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)) (4). _______ (1) سورة الحج (38 - 39). (2) سورة الأعراف (96). (3) سورة الحجرات (10). (4) حين سمع الصحابة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قالوا يا رسول الله: ننصره إذا كان مظلوماً، فكيف إذا كان ظالماً؟ قال: تردى من ظلمه فذلك =

وحَّد الله العرب من المحيط إلى الخليج تحت لواء الإسلام، وجعل وحدتهم قاعدة رصينة لوحدة المسلمين من المحيط إلى المحيط، فالعرب بالإسلام كل شيء. والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، سيد القادات وقائد السادات، ورجل الرجال وبطل الأبطال، ورضي الله عن أصحابه، وعن كل من يخدم العرب والإسلام بأمانة وإخلاص. هذه السطور تحكي -في مجملها- المنهج الدعوي الذي التزمه الداعية المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب، بدأ فيه وأعاده في سائر كتبه وبحوثه، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعو بالعلم والحجة والبرهان، يوقظ في الأمة مشاعر الإيمان واليقين، ويحيي فيهم عزة الانتماء إلى الإسلام، ويجدّد فيهم الأمل والرجاء، ويحارب لديهم اليأس والقنوط، ويعطيهم من نماذج القدوة والأسوة ما ينمي فيهم العواطف الدينية، ويولد عندهم مشاعر الحب لله سبحانه ولسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللقادة الفاتحين والأئمة الأعلام، وما سينهض هممهم وعزائمهم للدعوة إلى الله، والذود عن دين الله، ومواجهة أعداء الله، بكل عزة وشجاعة وحمية، واستبسال وإخلاص. (12) ويبدع الراحل الكريم أيما إبداع في ميدان الجهاد العلمي، فقد قدّم للمكتبة العربية والإسلامية (354) (1) إنجازاً علمياً منها (126) كتاباً و (228) بحثاً. أما البحوث فقد نشرت في مختلف المجلات العلمية والدينية والتربوية والعسكرية ................................... ....................... _______ = نصر له". سورة إبراهيم (45). (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 16.

المتخصصة (1) ... أما كتبه فأكثرها مطبوع، وبعضها في طريقه للطبع، وبعضها الآخر لا يزال غير مطبوع. ينتظر دور النشر الملتزمة بهذا العلامة القائد الرائد المؤمن. والذين قرؤوا كتبه أو بعض كتبه -وخاصة ما كتبه في ميدان السيرة النبوية، والتأريخ لحركة الفتح الإسلامي- يعرفون الجهد الضخم والهائل الذي بذله في إعادة صياغة التاريخ العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني متخصص، وبمصطلحات عسكرية حديثة. وكأن الله سبحانه قد هيّأه ليسدّ ثغرة ضخمة في المكتبة الإسلامية الحديثة، لا تقوى عليها مؤسسات علمية ولا جامعات، كما قال الأخ الكريم الأستاذ عمر عبيد حسنة: (تأتي ميزة كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب الذي قدّم للمكتبة الإسلامية نحو مائة وستة وعشرين (2) كتاباً وبحثاً بجهوده الفردية في هذا المجال، وذلك ما لم تستطع تقديمه كثير من المؤسسات والجامعات والجماعات. لقد بدأ خطوة رائدة على طريق تدوين سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرة قادة الفتح الإسلامي من خلال تصور إسلامي واضح لعوامل النصر والهزيمة المادية والمعنوية، وتخصص عسكري، ولغة عربية مطواعة. اللواء الركن محمود شيت خطاب من العسكريين الذين نعتز بهم، لأنه أبى السقوط في تربية الاستعمار والتزام منهجه ... تتميز كتاباته بأنها ليست كتابات تراثية فقط، ينبش فيها الماضي دون أن يكون قادراً على التعامل مع الواقع الحاضر، ومتابعة رحلة المستقبل من خلال رؤياه الإسلامية (3) ... _______ (1) انظر أسماء الكتب التي ألفها اللواء الخطاب -مطبوعة أو غير مطبوعة- وموضوعات البحوث التي كتبها والمجلات التي نشرتها في سيرته الذاتية 3 - 10. (2) الصحيح كما تقدم بخط الراحل الكريم أنها/ 354/ ما بين كتاب وبحث. (3) السيرة الذاتية للخطاب ص 10.

"كتب دراسات حديثة كثيرة حاول فيها أن يجاهد بقلمه، دفاعاً عن الأمة المسلمة، وتبصيراً لها ... " (1) مثل هذه الغزارة في الإنتاج العلمي تدل وبالتأكيد على أن الراحل الكريم كان مباركاً في جهده ووقته وعلمه، ملحوظاً بعناية الله، ومسدّداً بتوفيقه، ومشمولاً برعايته ... ويزداد قارئ كتبه، والدارس لإنتاجه العلمي الضخم عجباً، لوفرة المصادر والمراجع العربية والأجنبية من أمهات الكتب والأصول التي اعتمدها المؤلف -رحمه الله- في كل معلومة أو خبر وردت في أي كتاب من كتبه أو أي بحث من بحوثه. إضافة إلى الخرائط والرسوم ووسائل الإيضاح التي امتازت بها كتبه. ويزداد القارئ لهذه الكتب الضخمة الرائدة، والمتابع لهذا الإنتاج العلمي الغزير، يزداد عجباً أكثر فأكثر إذا علم أن الفقيد العزيز لم يكن متفرغاً، وإنما كان ضابطاً في الجيش ويعيش في المعسكرات والثكنات، وبين الجند والمهمات، وفي ساحات التدريب وعلى صهوات الجياد (2)، وفي ميادين التعبية والسلاح والجهاد، وتحت ضغط الأعصاب، ورهق الجسم، وظروف الاستفزاز، وغربة الروح والفكر والتوجه في وسط جيش يقوده علمانيون، ويتحكم فيه ملحدون مفسدون، وحزبيون مما سبق أن تحدث عنه الراحل الكريم. ويزداد كاتب هذا البحث عجباً، وقد شرفه الله بنشر جزء من تراث الراحل _______ (1) من مقدمة كتاب العسكرية العربية الإسلامية -سلسلة كتاب الأمة- ص 18 و 19. (2) لقد كان اللواء الخطاب في سلاح الفرسان في الجيش العراقي، وكان ضابط ركن لواء الخيالة، ولكنه بعد أن تخرج من كلية الأركان والقيادة احتفظ بشارة الفرسان وأصبح يشغل واجبات الأركان والقيادة في مختلف الجيش (السيرة الذاتية ص 13 من رسالة ابنته الجامعية).

الكريم، وأشرف على طباعتها، وصحح بعضها، يعجب كيف كان يكتب مؤلفاته على ورق كبير يُصطلح عليه عند أهل الطباعة/ A3/ يملأ الصفحة من أولها حتى آخرها، وتكاد السطور يلتصق بعضها ببعض، ولولا أن خطه جميل وحروفه واضحة والحبر الذي يستعمله ظاهرٌ، لما أمكن قراءة ما كتب -رحمه الله تعالى-. حقاً لقد كان القائد الخطاب رجلاً صبوراً دؤوباً، يواصل الليل بالنهار، صاحب رسالة ودعوة، من ذوي الهمم والعزائم. أقدر أن العلامة الخطاب لم يتفرغ كلياً للتأليف والكتابة إلا بعد أن قارب الخمسين من العمر، وبعد أن سُرِّح من الجيش إثر اعتقاله في عهد عبد الكريم قاسم، يقول -رحمه الله تعالى-: (في سنة 1968 م تموز عينتُ وزيراً للمواصلات، وكنت يومها في مصر رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية التي أعدت المعجمات العسكرية الأربعة الموحدة، فاعتذرت عن قبول هذا المنصب، وآثرت العمل في المجالات العلمية على العمل في المناصب الحكومية، وبقيت في القاهرة حتى أخرجتُ للناس المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة، والتي أعيد طبعها مرات كثيرة، وكنت أنا الذي اقترحت توحيد هذه المصطلحات. ثم يسَّر الله عليَّ إذ وضعتها في حيِّز التنفيذ. وعدت من مصر إلى العراق سنة 1973 م فعُرِضت عليَّ عدة مناصب حكومية رفيعة، ولكني اعتذرت عن قبولها، وتفرغت كلياً لبحوثي ودراساتي، وللتأليف والتدريس في المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية في أرجاء البلاد العربية كلها، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً ... ) (1). _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14 بتصرف يسير.

(13) غذَّى -رحمه الله- ببحوثه ومقالاته مختلف الصحف والمجلات العلمية العربية والإسلامية وعلى نطاق البلاد العربية والإسلامية ومنذ سنة 1954 م، يصعب حصرها، ولكن أشير إلى أهمها: مجلة المجمع العلمي العربي - مجلة مجمع اللغة العربية المصري - مجلة مجمع اللغة العربية السوري - مجلة العربي الكويتية - مجلة الأزهر المصرية - مجلة الفيصل السعودية - مجلة الحرس الوطني السعودية - مجلة الأمة القطرية - مجلة دعوة الحق المغربية - مجموعة بحوث مجمع اللغة العربية المصري - مجموعة بحوث مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف - مجلة المورد العراقية - مجلة رسالة الخليج العربي - مجلة التربية الإسلامية العراقية - مجلة الرسالة المصرية - مجلة حضارة الإسلام السورية - مجلة المسلمون - مجلة كلية الملك خالد العسكرية - مجلة الجندي المسلم السعودية - مجلة التمدن الإسلامي السورية - مجلة المجمع الفقهي (مكة المكرمة) - مجلة الوثيقة البحرانية - مجلة المؤرخ العربي - مجلة الحضارة الإسلامية التي يصدرها مجمع البحوث الإسلامية الأردني - مجلة الوعي الإسلامي الكويتية ... في كل هذه المجلات العلمية وعلى مختلف أرجاء الوطن العربي أسهم الراحل الكريم في نشر بحوثه ومقالاته، وفي مختلف الموضوعات العسكرية والتاريخية والتربوية والأدبية والروحية والاجتماعية والسياسية ... نثراً أو قصة أو شعراً، هذا غير إسهاماته في عشرات الصحف اليومية في العراق وغيرها. (14) وكان للراحل برامج إذاعية وتلفازية في معظم الإذاعات العربية (1)، قدَّم من خلالها أفكاره ومبادئه ومعارفه في السيرة النبوية والتاريخ العربي _______ (1) منها: إذاعات القاهرة وبغداد والإمارات والسعودية والمغرب.

العسكري وقادة الفتح الإسلامي والعدو الصهيوني والأسلحة المتطورة واللغة العسكرية والدفاع عن العربية والإسلام ديناً. ثم يقول -رحمه الله- في نهاية ترجمته لنفسه والتي كتبها وبخطه: (وصاحب الترجمة متفرغ تفرغاً كاملاً لدراساته وبحوثه وتأليفه، ولولا تفرغه الكامل لما استطاع أن يصنع شيئاً يذكر، فقد بدَّد عمله الوظيفي وقته سُدى، وما أكثر الذين يحبون الوظائف الحكومية، وبخاصة الرفيعة منها، التي غالباً ما تُثري الجيب وتفرح القلب، وما أقل الذين يحبون التفرغ للعلم وحده، وأجره على الله). ويقول كذلك عن نفسه بصيغة الغائب -تواضعاً- إنه يحب التفرغ الكامل المطلق للعلم وحده، بقدر كرهه للمناصب الحكومية، مهما تكن منزلتها، فلولا فضل الله تعالى وتوفيقه له، الذي أتاح له التفرغ الكامل المطلق، لما استطاع أن ينجز (354) كتاباً وبحثاً. وصدق الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في قولته: (لو كلفت بشراء بَصَلة لما استطعتُ حل مسألة) فالحمد لله على توفيقه، والشكر له على تسديده، فما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (1). (15) تنوعت الموضوعات التي كتب فيها العلامة الخطاب كتبه وبحوثه، وقد صنف هذه الموضوعات في خمسة محاور هي: أ - محور السيرة النبوية والتاريخ العربي الإسلامي من الناحية العسكرية: للراحل الكريم اللواء الخطاب في هذا المجال الكتب التالية: الرسول _______ (1) انظر سيرته الذاتية ص 16.

القائد -صلى الله عليه وسلم- قادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين العقيدة والقيادة - الشورى العسكرية في عهد الرسالة - جيش الرسول -صلى الله عليه وسلم- سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- السفارات النبوية - الشورى في المواثيق والمعاهدات النبوية - الأنصار والأمم قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه - قادة فتح العراق والجزيرة - قادة فتح بلاد فارس - قادة فتح بلاد الشام ومصر - قادة فتح بلاد المغرب العربي - قادة فتح السند وأفغانستان - قادة فتح أرمينيا - قادة فتح بلاد الروم - قادة فتح بلاد ما وراء النهر - قادة فتح الأندلس - الصديق القائد - خالد بن الوليد - عقبة بن نافع الفهري - دروس في الكتمان من الرسول القائد عليه الصلاة والسلام - غزوة بدر الكبرى - غزوة بدر الكبرى وعبرتها لحاضر المسلمين ومستقبلهم - ومضات من نور المصطفى (مختصر السيرة) - ... وكتب العلامة المؤرخ الخطاب بحوثاً كثيرة في هذا المجال، منشورة في أرقى المجلات العربية المعتمدة (1). ويعلل اللواء الخطاب اهتمامه بالكتابة في هذا المحور بقوله: كنت في بداية حياتى العسكرية، أَقرأ عن قادة الأجانب الذين غزوا البلاد العربية، ومعارك الأجانب التي استعمروا بها البلاد العربية، ولم تكن المدارس والمعاهد والكليات العسكرية العربية تدرس تلاميذها وطلابها العرب عن قادة الفتح الإسلامي، ولا عن معارك الفتوح الإسلامية ولا عن غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-. وبعد مثابرة مني بَدَأَتْ قبل أربعين سنة، واستمرت بدون كلل ولا ملل -حتى اليوم- تبدّل الحال غير الحال -والحمد لله- فأصبحت المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية تعج بنشاطها المثمر في دراسة قادة الفتح الإسلامي ومعارك الفتوح وغزوات الرسول القائد عليه الصلاة والسلام (2). _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14. (2) المرجع السابق.

ب - محور اللغة العسكرية: للعلامة اللواء الركن محمود شيت خطاب الكتب التالية: المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم (1) - المصطلحات العسكرية في كتاب المخصص لابن سيدة - المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة للجيوش العربية (وكانت هذه المعجمات محل فخر واعتزاز اللواء الخطاب بصورة خاصة؛ ذلك لأن توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية كانت حلمه، ووُضِعت باقتراحه، ونُفِذت بجهده، واعتُمدت برأيه، يقول متحدثاً بنعمة الله عليه: فشاعت لغة القرآن الكريم في الجيوش العربية، بدلاً من لغات المستعمر الصليبي، ويكفي أن أذكر أن أحد الجيوش العربية كانت كل مصطلحاته العسكرية فرنسية، فأصبح اليوم ولله الحمد كل مصطلحاته العسكرية عربية، وأن أذكر أن نصف مصطلحات جيش مصر العسكرية -بلد الأزهر الشريف- كانت تركية وبريطانية، فأصبحت كل مصطلحات جيش مصر عربية خالصة) (2). ويشمل هذا المحور مؤلفاته التالية: أهمية توحيد المصطلحات العسكرية - المعجم العسكري الموحد (عربي- إنجليزي بالاشتراك) - المعجم العسكري الموحد (فرنسي- عربي بالاشتراك) - المعجم العسكري الموحد (عربي- فرنسي بالاشتراك) تعريب المصطلحات العسكرية وتوحيدها - دراسات في الوحدة العسكرية العربية - الوحدة العسكرية العربية - الأدلة الرسمية في التعابي (تحقيق) (3). _______ (1) وهو جزءان. (2) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14. (3) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 4 - 6.

ويمكن أن نشير في هذا المجال اللغوي أنه قد سبق للعلامة الخطاب - رحمه الله- أن اقترح على مجمع البحوث بالأزهر الشريف أن يؤلِّف معجماً للقرآن الكريم، يشرح الألفاظ اللغوية، والأسماء التاريخية والجغرافية والعلمية، بحسب المعجمات العربية المعروفة، كما هو الحال في معجمات الكتب المقدسة الأخرى، والتي صدرت بمختلف اللغات، ومنها العربية، لغرض الاستفادة منها؛ أي من معجم القرآن الكريم، لاستخراج معاني الكلمات بسهولة وسرعة، مما يكون المسلم بحاجة إليه من معاني القرآن الكريم لغة وتاريخاً وجغرافية وعلوماً ... وافق مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف على هذا الاقتراح، وقرّر تشكيل لجنة للنهوض بهذا المشروع، ولكن ظروف العراق في الحرب (1) عرقلت تحقيق المشروع، وكان -رحمه الله- حتى آخر لحظة في حياته يؤمل أن ينجز هذا المشروع وأن يرى النور، فيقول: والأمل وطيد في تحقيقه في المستقبل القريب - بإذن الله بعد أن وضعت الحرب (2) أوزارها، وزالت الظروف التي حالت دون تحقيقه (3). ج - المحور الثالث: محور العدو الصهيوني: هدف اللواء الخطاب في هذا الميدان -كما يقول- (4): أن يعرف العرب والمسلمون عدوهم على حقيقته، لا كما يحلو للعدو الصهيوني أن يعرف العرب والمسلمون عنه وتأتي أهمية التأليف والكتابة في هذا الميدان وفي ذلك الوقت أن المعلومات الميسرة عن العدو الصهيوني كانت قليلة ومضللة _______ (1) لعله يعني الحرب العراقة الإيرانية. (2) يؤسفنا أن الحرب الخليجية الأولى لم تكد تنتهي حتى وقعت الحرب الخليجية الثانية. (3) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 16. (4) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14.

أيضاً بالنسبة للعرب بخاصة والمسلمين بعامة، فكان هذا الجهل المطبق بالعدو الصهيوني من أهم أسباب نكسة 1967 م التي أصيب بها العرب والمسلمون في الحرب العربية الصهيونية، هي قلة المعلومات الميسَّرة عن العدو الصهيوني لدى العرب، وغزارة المعلومات الميسّرة عن العرب لدى عدوهم الصهيوني، فقاتل العرب في تلك الحرب عدواً لا يكادون يعرفون عنه شيئاً، فكانوا كمن يقاتل عدوه في ظلام دامس، في منطقة مجهولة، وهو معصوب العينين!! .. وكان من الصعب للغاية أن يحاضر المحاضر، أو يؤلف المؤلف بعد تلك الحرب في العسكرية الصهيونية، لأن المصادر العربية يومئذ كانت نادرة أو لا وجود لها، ولأن المصادر الأجنبية ممنوعة في البلاد العربية فلا تصل إلى المحاضر أو المؤلف العربي، ولأن كشف الحقائق عن العدو الصهيوني بالنسبة للمحاضر العربي والمؤلف العربي قد يؤدي على اتهامه بالانحياز إلى العدو، وإذا لم يكشف المحاضر أو المؤلف الحقائق كان مقصراً في حق عقيدته وأمته وأمانته ... فلا عجب أن يعتذر كل من فوتح بأن يحاضر أو يؤلف عن العدو الصهيوني في حينه، أي بعد حرب/ 1967 م/ (1) لكن الرائد القائد اللواء الركن محمود شيت خطاب اقتحم هذا الميدان بجرأة وكفاءة عالية واقتدار، وقرر أن يحاضر ويؤلف في العسكرية الإسرائيلية، وبدأ بإلقاء محاضراته على طلاب معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة، وكان عدد الطلاب يومئذ لا يزيدون عن مائة طالب، ولكن الذين كانوا يحضرون هذه المحاضرات أكثر من ثلاثمائة عدداً، بينهم عدد لا يستهان به من ضباط _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14 و15.

المخابرات المصرية، ثم امتدت المحاضرات إلى الكليات والجامعات المصرية وغيرها من الأقطار العربية، فكان أول من بدأ بإلقاء محاضرات عامة عن عسكرية العدو الصهيوني، وأول من ألف في هذا الموضوع (1) ... صدر للواء الخطاب في هذا المحور الكتب التالية: أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية - الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها - حقيقة إسرائيل - الوجيز في العسكرية الإسرائيلية - العسكرية الإسرائيلية - العدو الصهيوني والأسلحة المتطورة (2). ولعله من المناسب أن نضيف هنا وفي هذا المحور كتباً ألّفها الخطاب يستنهض فيها همم المسلمين وعزائمهم، لمواجهة العدو الصهيوني المتغطرس، وللجهاد لإعزاز دين الله، ونصرة شريعته، وتحرير الأرض الإسلامية المقدسة، فلسطين والأقصى الشريف ... من هذه الكتب التي ألفها الخطاب في هذا الميدان: إرادة الجهاد في الجهاد الإسلامي - طريق النصر في معركة الثأر - الوحدة العسكرية العربية - بين العقيدة والقيادة (3) ... د - المحور الرابع: محور الدعوة الإسلامية والدفاع عن الإسلام ديناً والعربية لغةً: في هذا المحور ألف الداعية اللواء الركن الخطاب الكتب التالية: دروس في الكتمان من الرسول القائد عليه الصلاة والسلام - الرسالة العسكرية للمسجد - طريق النصر في معركة الثأر - ومضات من نور المصطفى - أقباس روحانية - نفحات روحانية - الإسلام والنصر - عدالة السماء (قصص هادفة) _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 15. (2) صدر عام 1967 وتوالت طبعاته. (3) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 6.

- تدابير القدر (قصص هادفة) - سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- الرقيب العتيد (قصص هادفة) - اليوم الموعود (قصص هادفة) - السفارات النبوية .... والداعية الخطاب -عليه رحمة الله ورضوانه- يعتبر خادماً في ميدان الدعوة إلى الله ولهذا الدين العظيم، في كل ما كتب وألّف، يقول: والواقع أن المحاور الأربعة هي في واقعها تنصب في محور الدعوة؛ فمحور التاريخ العسكري العربي الإسلامي هو لاستعادة معنويات العرب والمسلمين إليهم، واستعادة ثقتهم بدينهم الذي يقودهم إلى النصر، كما قاد أجدادهم إلى النصر، ومحور كشف العدو الصهيوني للعرب والمسلمين، هو دعوة إلى الله أيضاً، ليستعيد العرب والمسلمون أسباب النصر على عدوهم، لأن العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ومحور اللغة العسكرية هو الاعتزاز بلغة القرآن الكريم، والإثبات عملياً أنها صالحة لغة للعلم في مختلف الظروف والأحوال، والأمكنة والأزمنة (1). وكان اللواء الخطاب يعتزُّ باللغة العربية، ويفتخر بها، ويحرص في دروسه ومحاضراته على الحديث باللغة العربية الفصحى، ولا عجب في ذلك فقد تمرَّس بالنطق بالعربية مذ كان طالباً في المرحلة الإعدادية، حين كان يقرأ في مجلس الحي -وبحضرة والده وكبار علماء الموصل وفقهائها- كتب التاريخ على مسامعهم، ومن ثم فقد كان مضطراً للعناية بقواعد اللغة العربية وضبط الألفاظ، لكي لا يقع عرضة للانتقادات أو اللوم من والده، بل قرأ عليهم كتاب المستدرك لسيبويه، ونتيجة لذلك فقد كان فذاً في علم النحو الصرف (2). يقول -رحمه الله- محدثاً بنعمة الله عليه ومظهراً اعتزازه بلغة القرآن _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 15. (2) المرجع السابق.

الكريم، اللغة العربية: أحرص حرصاً لا مزيد عليه على تدريس العلوم كافة في الجامعات العربية باللغة العربية الفصحى، ولا أرضى أبداً باستعمال اللغة العامية المحلية في معاهد العلم، لأنني أُرى في ذلك تفريقاً للأمة العربية التي تجمعها الفصحى، وتفرقها العامية، ولا أقبل باستبدال الأرقام العربية بالأرقام الفرنجية المستعملة في قسم من أقطار المغرب العربي لأنني أرى أن الأرقام المستعملة في المشرق العربي هي الأصل، والأرقام المستعملة في المغرب العربي عربية بالاسم لا بالواقع. ثم ذكر أنه يعمل في المجمع العلمي العراقي في اللجان التالية: لجنة الحضارة - لجنة الهندسة - لجنة الزراعة - اللجنة العامة لإقرار مصطلحات لجان المجامع، مجتهداً في مجال وضع المصطلحات العربية لمصطلحات تلك العلوم بالتعاون مع أعضاء تلك اللجان من أعضاء المجمع العلمي العراقي، ومن الخبراء المتخصصين. هذا بالإضافة إلى ترؤسه للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية، ويسعى الخطاب في هذا الميدان سعياً حثيثاً دائباً على وضع المصطلحات العسكرية باللغة العربية، عوضاً عن المصطلحات العسكرية المستخدمة في اللغات الأجنبية (1). ولولا خشيتي أن تطول هذه المقدمة فيملُّ القارئ الكريم لتحدثت عن الجانب الشعري في حياة الخطاب كشاهد على تفوقه في اللغة العربية، وحبه لها، واعتزازه بها، وأنه -رحمه الله- طرق كل فنونها نثراً وقصة وشعراً، ولكني أترك ذلك للأدباء والنقاد وأرباب الاختصاص، أو عسى أن يبارك الله لي في الوقت والجهد فأصدر كتاباً موسعاً في ترجمة القائد اللواء الركن محمود _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 15.

شيت خطاب، ويكون شعره فصلاً من فصول هذا الكتاب، أسأل الله أن يوفقني إلى ذلك، وأن يعينني عليه، وأن يفيدني مما سكبه في قلبي من حب لهذا الرجل، وتقدير له. هـ - المحور الخامس: في الميدان العسكري التخصصى والفني: أشار اللواء الخطاب لهذا المحور في مقدمة حديثه عن المحاور التي كتب فيها مؤلفاته وبحوثه، وقد فصَّل في الكلام في المحاور الأربعة (1)، لكنه ترك التفصيل في المحور الخامس. وبالرجوع إلى قائمة كتب الخطاب -رحمه الله- استنتجت هذا المحور، وهذا العنوان. وقد كتب في هذا الميدان الكتب التالية: الأدلة الرسمية في التعابي الحربية (تحقيق) - المشير فون ردشتر .. التدريب الفردي ليلاً (يجري التدريب بموجبه في كثير من جيوش الدول العوبية، وقد صدرت منه عدة طبعات) - القضايا الإدارية في الميدان (وهو كتاب تدريبي فني) (2). ولا شك أن كل ما كتبه مما سبق الحديث عنه كان في ميدان تخصصه. وما أظن إلا أن القارئ الكريم يشاركني الرأي بعد الاطلاع على هذا التراث العلمي الضخم والمتعدد الجوانب، والذي تفرَّد اللواء الخطاب في الإبداع في كثير من هذه الجوانب، وكان له فيه فضل السبق والريادة ... بالتأكيد سيشاركني القارئ الكريم الرأي أن اللواء الركن محمود شيت خطاب، كان واحداً من عظماء الأمة في القرن العشرين، وواحداً من قادتها المخلصين، وروادها الأعلام، ودعاتها المخلصين الأبرار الذين قرنوا العلم بالعمل، والقول بالفعل، وأنه سدَّ ثغرة ضخمة في المكتبة العسكرية والتاريخية _______ (1) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 14 - 16. (2) السيرة الذاتية للواء الخطاب ص 7.

والحضارية، وأنه قام ولوحده بعبء علمي ضخم تعجز عنه جامعات ومعاهد بأكملها. رحمه الله رحمة واسعة وأجزل مثوبته. (16) وفي ختام هذه الترجمة الموجزة لحياة اللواء الركن محمود شيت خطاب أستأذن الأخ القارئ الكريم أن أحكي قصة لقائي به، وتعرفي عليه، والشرف العظيم الذي أنالني إياه بانتدابه لي لخدمته ونشر كتبه، وتفويضي بتوقيع العقود عنه لنشر مخطوطاته التي لم تطبع بعد، وإعادة نشر كتبه التي طبعت في السابق. لقيت الفقيد العزيز في منزله الكائن في بغداد -حي اليرموك- مرتين، وصحبة الأخوين العزيزين: الأديب الأستاذ عبد الله الطنطاوي، والشاعر الأستاذ محمد محمود الحسناوي، وذلك أواخر الثمانينات، ولقيته مرة ثالثة مع الأديبة الكبيرة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) -رحمها الله- فقد كانت متلهفة للقائه، ولا تعرف بيته ولا عنوانه، ولا أدري مَن أرشدها إليَّ حتى أصحبها للقاء العلامة اللواء الخطاب، فلما التقيناه، أقبلت عليه محجبة بأدب ودود واحترام بالغ، وتواضع جم، وأرادت أن تقبل يده كأنها تلقى أباها أو عمها. لقيته شيخاً جليلاً، وعالماً وقوراً، يغلبه هم المسلمين، ويبكي مآسيهم، ويتحرق لعمل يستنقذ فيه أمة العرب والإسلام، ويستحث همم جلسائه وزواره، ويحرك عزائمهم، ويثير فيهم الغيرة الدينية للنهوض بواجب الإسلام، والدعوة إليه، والعمل لإعزازه وإعادة مجده. ويشهد الله أنني منذ لقيته -أول مرة- أحببته في الله، وعزمت على خدمته، تقرباً إلى الله، ونشراً لعلمه، وإشفاقاً على شيخوخته، ورحمة به في مرضه، ولكونه لم يرزق أولاداً ذكوراً يتحركون بين يديه، أضف إلى ذلك أنه لا يتمكن من مغادرة العراق لمرضه وشيخوخته وظروف بلده -التي لا تخفى على أحد

وأثار ألمي حين حكى لي أمر بعض دور النشر التي ابتُلِي بها -وفيها من يدَّعي الإسلام وخدمة الكتاب الإسلامي-. حكى وبأسلوب مؤثر محزن كيف أن هذه الدور التي تعاقدت معه ولطبعة واحدة، تطبع كتبه مرة بعد مرة دون إذنه أو علمه!! تنشرها وتستثمرها وتأكل ثمنها مالاً حراماً، ولا تدفع درهماً واحداً لمن واصل الليل والنهار في تأليفها، وأراق ماء عيونه على صفحاتها، ودفع عشرات الألوف ثمن مراجعها. وزهد بالمنصب الرفيع، والوزارة الكريمة (1)، وتفرغ تفرغاً كاملاً، وانقطع عن دنيا الناس، من أجل أن يكتب لهم، ولأجيالهم القادمة، تاريخ الإسلام، وتاريخ فتوحه، وتاريخ حضارته، وتاريخ قادته بأسلوب جديد ومتميِّز ومتخصِّص، مستثمراً علومه العسكرية التي تلقاها في أرقى الكليات والأكاديميات العسكرية. كان الأولى بهذه الدور أن يعينوه على تفرغه وأداء رسالته وهم يعلمون بالتأكيد أنه يعيش على راتب (2) تقاعدي قليل، ويعول أسراً فقيرة كثيرة -كما صرح لي بذلك- وعددها 16 أسرة. ووالله لقد سمعته يدعو على دور النشر هذه؛ يدعو عليهم بقلب محروق ونفس شاكية إلى ربها ظلم الأدعياء وعدوان اللصوص. وشرفني يومها بتفويضي الكامل بنشر إنتاجه العلمي، وحمَّلني ما لديه من مخطوطات وكتب، يود تجديد نشرها، وأعطاني حق توقيع العقود مع دور _______ (1) أقول الوزارة الكريمة لأنها عرضت عليه بتكريم وإلحاح من محبيه وعارفي فضله. ولم يسبق له أن طلبها أو استشرفها في الوقت الذي تندق لها أعناق المنافقين والمستوزرين. (2) راتبه الشهري الآن 500 ديناراً عراقياً أي ربع دولار فقط، وهو راتب أسرته بعد وفاته كما حكت لي زوجته عام 1998 م.

النشر في السعودية -حيث أُقيم في جدة منذ عام 1401 هـ و 1980 م ولم يكن لي يومها خبرة ولا دراية مع دور النشر ولا معرفة بأساليبها، ولكن الراحل الكريم زودني بخطاب لشخصية مرموقة يمتلك دار نشر، وأشهد أن الرجل قد أحسن استقبالي، وتحمَّس لنشر كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب -إذ كانت تربطهما علاقات وثيقة، ومحبة متبادلة، وتقدير- وسرعان ما وقعت العقود مع هذه الدار ولكن .. ظللت أغدو وأروح على هذه الدار أربع سنوات دون جدوى، وبعد هذا العناء الطويل قال لي مدير الدار -غفر الله له- نعتذر عن متابعة النشر، فنحن لا نملك المال اللازم، واللواء الخطاب يحتاج إلى دار نشر خاصة به ذات ميزانية ضخمة!! وهكذا استرددت المخطوطات بعد طول انتظار مرهق. ثم وجهني الراحل الكريم، إلى دار نشر أخرى في الرياض، فذهبت إلى حيث وجهني، وقابلت صاحب دار النشر هذه، وحملت له المخطوطات، ولشد ما كانت دهشتي واستغرابي وألمي حين عرض عليَّ مبلغ خمسة آلاف ريال فقط، ويأخذ حق نشرها جميعاً!! فرفضت ورفض اللواء الخطاب هذا العرض الشحيح الذي يدل بالتأكيد كما يقول اللواء الخطاب - أنهم لا يعرفون قيمة هذه الكتب والمخطوطات ولا يقدرونها حق قدرها، وعرض أحد الأخوة الناشرين الصادقين أن ينشر كتاب (بين العقيدة والقيادة) ووقعت العقد معه، وأرسل الكتاب إلى مصر، ووعده بالسرعة في إنجازه، ثم أخبروه كذباً أنهم سيعرضون الكتاب في معرض القاهرة في شهر رمضان المبارك، ولكن جاء رمضان، وبعده رمضان ... فلم نجد شيئاً ولم تصلنا نسخة، واتصلنا بهم هاتفياً، وأرسلنا مندوباً، لكننا لم نظفر منهم بشيء!! حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم تبيَّنت السر وراء هذه المعوقات -لم أكن أعلمه من قبل حتى تكونت

لديَّ بعض الخبرة في شؤون النشر-. السر هو تخوف بعض دور النشر الضعيفة من طواغيت ومتسلطين في عالم نشر الكتاب الإسلامي وغيره، فما أسهل -على من فقد الرقابة لله والخوف من يوم الحساب- أن يسرق الكتاب، ويصوره ويبيعه بأبخس الأثمان، طالما أنه لا يدفع للمؤلف جهده، وحق عيونه، وحق سهره، وحق تفرغه، وحق مراجعه!!! ومن ثم فلا يكلفه الكتاب إلا قيمة الورق وأجر الآلة الناسخة، وكلفة التجليد، وبالنتيجة فإنه يحقق أرباحاً خيالية من كسب حرام ومال خبيث على حساب الناشر الضعيف الملتزم بعقد النشر، وعلى حساب المؤلف المجهد المسكين!! ويزداد تخوف الناشرين الملتزمين الضعفاء من طواغيت النشر في سوق الكتاب ممن سبق أن وقعوا عقداً مع المؤلف لطبعة واحدة، إذ يزعم هؤلاء أنهم ملكوا الكتاب، وملكوا طباعته في الوقت الذي يريدون دون أن يستأذنوا المؤلف، ودون أن يلتزموا بأي حق مالي تجاهه، كما هي مشكلة اللواء الركن العلامة محمود شيت خطاب مع الذين تولوا له النشر أولاً -إلا من رحم الله وقليل ما هم-. وفي مقابل هذه المعاناة والصدمات والمشاعر المحبطة أشهد أن إخوة كراماً من أصحاب دور النشر تعاقدوا معي -وبشكل صادق وإيجابي- في طباعة كتب الخطاب، ودفعوا النسبة (1) المقررة واللائقة بالعلامة اللواء الخطاب الذي قرَّت عيناه بذلك، فشكر لهم، ودعى لهم ... ومن قبيل التحدث بنعمة الله وفضله، فقد أشرفتُ على نشر الكتب التالية من مؤلفات اللواء الخطاب وصححت بعضها، وهي: _______ (1) وهي نسبة 20 في المئة، ولا ينال مثل هذه النسبة العالية إلا عدد قليل من المؤلفين ذوي الشهرة والصيت الذائع.

1 - الشورى العسكرية في عهد الرسالة - الطبعة الأولى 1413 هـ - 1992 م صدر عن دار القبلة بجدة، يقع في 151 صفحة. 2 - قادة النبي (1) -صلى الله عليه وسلم- الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م صدر عن دار القلم والدار الشامية - دمشق وصدرت له الطبعة الثانية 1420 هـ - 1999 م، يقع في (669) صفحة بإشراف الأستاذ محمد علي دولة. 3 - سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- جزءان - الطبعة الأولى 1417 هـ- 1997 م - صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع جدة، يقع الجزء الأول في (902) صفحة ويقع الجزء الثاني في (360) صفحة. 4 - قادة فتح السند وأفغانستان - الطبعة الأولى 1418 هـ - 1998 م - وهو الجزء الخامس من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع - جدة، يقع في (422) صفحة. 5 - قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر - الطبعة الأولى - 1418 هـ - 1998 م - وهو الجزء الثامن من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع - جدة، يقع في (524) صفحة. 6 - قادة الفتح الإسلامي في أرمينيا - الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م - وهو الجزء السادس من سلسلة قادة الفتح الإسلامي صدر عن دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع - جدة، يقع في (504) صفحة (2). 7 - بين العقيدة والقيادة - تقديم الإمام أبي زهرة - الطبعة الأولى (3) - _______ (1) كان الأصل أن ينشر في جزئين كما أشار المؤلف في سيرته الذاتية ص 7، ولكن الأخ الناشر -حفظه الله- اختار أن ينشره في مجلد واحد. (2) هذه الكتب تطبع لأول مرة. (3) سبق أن طبع طبعتان في بيروت عام 1972 م وعام 1981 م.

1419 هـ- 1998 م - يقع في (608) صفحة صدر عن دار القلم (دمشق) والدار الشامية (بيروت). 8 - قادة فتح الأندلس -جزءان- ويقع قرابة (1000) صفحة، وهو الجزء التاسع من سلسلة قادة الفتح الإسلامي، هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ. ويطبع لأول مرة بإذن الله بإشراف الأستاذ محمد أديب كاتبة. 9 - قاد فتح بلاد الروم -جزءان- يقع في قرابة (1000) صفحة كذلك وهو الجزء السابع من سلسلة قادة الفتح الإسلامي، وهو معد للنشر، سيطبع لأول مرة إن شاء الله. 10 - الصدِّيق القائد -رضي الله عنه- يقع في (320) صفحة، وهو معد للنشر. سيطبع لأول مرة إن شاء الله. 11 - السفارات النبوية، وهو كتابه: (سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم-)، يقع في (625) صفحة، وهو قيد النشر، وسيصدر بإذن الله تعالى قريباً عن المكتبة المكية في مكة المكرمة بإشراف الأستاذ غسان نويلاتي -كما وعد- والكتاب سبق أن أصدره المجمع العلمي العراقي عام 1409 هـ- 1989 م ولطبعة واحدة لم يطبع بعدها أبداً. وأجد واجباً علىَّ أن أشكر هؤلاء الإخوة الناشرين الذين أسهموا معي في خدمة هذا العالم الجليل، وأدخلوا على قلبه السعادة، وأقروا عيونه بنشر تراثه العلمي، ورؤية حصاد فكره وقلمه، وأعانوه على أداء رسالته تجاه دينه وأمته وحضارته، أجزل الله مثوبتهم، وتقبل منهم صالح عملهم. وإنني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الراحل الكريم وأسرته الكريمة لأتوجه بأعمق الشكر إلى كل من أسهم معي في إخراج هذه المخطوطات والكتب إلى عالم النور.

وبحكم الأمانة والمسؤولية التي حُمِّلتُها، أمانة التفويض (1) التي شُرِّفتُ بها في حياة اللواء الركن محمود شيت خطاب -بعد مماته من قبل ورثته وأهل بيته - ومسؤولية الدَيْن الثقيل تجاه أسرته الكريمة، أتطلع إلى دار نشر أو مجموعة دور نشر لتأخذ على عاتقها نشر تراث اللواء الركن محمود شيت خطاب كاملاً -كما كان الفقيد يطمح ويتمنى- في طباعة جديدة وأنيقة تليق بقدر هذا العالم الجليل، وتليق بإنتاجه. وستبقى الأمة العربية والإسلامية وأجيالها المتلاحقة بحاجة إلى قراءة هذه الصفحات المشرقة من عصرها الذهبي، وحضارتها الزاهرة، وتاريخها التليد، وعظمائها الأماجد ... فهل من مجيب؟ وهل من رائد خيِّر يموِّل مثل هذا المشروع؟ بالتأكيد لن تعدم الأمة مثل هؤلاء الرجال ... وإنا لمنتظرون. (17) لفت نظري وأنا أقرأ سيرة حياته -كما كتبها بخط يده- أن اللواء الخطاب لم يتحدث عن الجانب السياسي في حياته، ولا عن الوزارات التي شغلها، ولا عن المناصب والمهمات التي أداها، ولا عن الملوك والرؤساء الذين قابلهم -وقد رأيت صوره معهم- ولا عن الشخصيات السياسية وكبار القوم الذين لقيهم (2) كل هذا لم يأت اللواء الخطاب على ذكره لا فيما كَتَب ولا فيما كتِب عنه، ولا تحدث عنه في مجالسه مع أن الكتابة في مثل هذه الأمور أو الحديث في مثل هذه الشؤون يمكن أن يكون موضع فخر ومباهاة عند بعض الأشخاص، أو يمكن أن يكون -إن أحسنا الظن- شريطاً لمذكرات وذكريات _______ (1) كان الفقيد رحمه الله - فوضني تفويضاً كاملاً في طباعة كتبه ومخطوطاته، وبالنيابة عنه بتوقيع العقود مع دور النشر، وبعد وفاته جددت زوجته وبناته هذا التفويض. (2) وأنا أجزم أنه كان للواء الخطاب كثير مما يمكن أن يقوله أو يكتبه في هذا الشأن بحكم مواقعه ومسؤولياته وعيشه في قلب الأحداث.

وهذه -بلا شك- تفيد كمرجع من مراجع التاريخ الحديث. ولكن الرجل لم يفعل هذا ولا ذاك، لم يكتب شيئاً في هذا الشأن!! وكأني به -رحمه الله- وبالزهد الذي عاش به، وبالعلم الذي تفرغ له، وبالرسالة التي شغل نفسه بها، كان يؤثر أن يعيش في الظل، بعيداً من أهل الرئاسة والجاه، وبعيداً عن موقع السلطة والنفوذ، وبعيداً عن أهل الثراء والمال، لذلك كنت تراه في ثوبه بسيطاً وفي مسكنه بسيطاً، وفي مجلسه بسيطًا (1) ... وفي رأيي وتحليلي المتواضع أن الرجل -طيب الله ثراه- كان يريد أن يقدم نفسه من خلال علمه، ومن خلال كتابه، ومن خلال رسالته في هذه الحياة التي أعطاها جهده وحياته، وأعطاها ليله ونهاره، وأعطاها عصارة فكره ونتاج علمه -أجزل الله مثوبته- هكذا إذا كانت النفوس كباراً، تترفع عن الفخر الزائف، والإدعاء الفارغ، والمباهاة التافهة، والاعتزاز السخيف بالمناصب والأشخاص والهيئات!! كان -رحمه الله- يؤثر رضوان الله، وخدمة إسلامه، وإعزاز أمته، ولا يعتز إلا بمثل هذا. طلبت ذات يوم من قائد عسكري فذ برتبة مشير، تولى رئاسة جمهورية قطر عربي شقيق، أن يكتب مقدمة لكتاب (بين العقيدة والقيادة) وقد أُعجِب بما قرأ منه - فأجابني -حفظه الله-: بكل سرور سأجيبك إلى طلبك، ولي الفخر والشرف أن يقترن اسمي باسم القائد العظيم والعلامة الجليل اللواء الركن محمود شيت خطاب على صفحات هذا الكتاب، فلما أخبرت اللواء الخطاب بذلك ظننت أنه سيفرح وسيقرني على اقتراحي، لكن فوجئت أنه اعتذر عن هذا الاقتراح، وطلب إليَّ إبلاغ فخامة الرئيس المشير (2) ... شكره وتقديره _______ (1) لم يكن يملك سيارة ولا وسيلة نقل. (2) اتصل بي مشكوراً من بلده معتذراً عن عدم استطاعته كتابة المقدمة بسبب كثرة أسفاره ومهماته، وبسبب أنني كنت قد حددت له مدة معينة لضرورة صدور =

وتحياته. وحكت لي زوجة اللواء الخطاب -حفظها الله- أن وفداً من علماء البلد وأعيانها رغبوا إليه أن يصحبهم لمقابلة مسئول في أمر عام -لكنهم لم يبلغوه أنها مقابلة مع رئيس بلد (1) - فذهب معهم ولكن في ثوب عادي الدشداشة على جسمه، والنعل في قدميه!. كان رحمه الله عالماً زاهداً بسيطاً متواضعاً، مع أنه كان جبلاً في العلم والفضل والأخلاق. وكان يعتبر ما تولى من مناصب ابتلاء من الله -سبحانه- يقول: (وجاءت سنة (1383 هـ- 1963 م) فابتلاني الله بالعمل في السياسة مكرهاً لا بطلاً -كما يقول المثل العربي المشهور- فشمل اتصالي بالعاملين في السفارات العربية كافة، ولم يقتصر على الاتصال بالعاملين في السفارات العربية لدولة عربية واحدة، فلم أجد فرقاً ظاهراً بين زمرة العاملين في السفارات العربية من العرب، كلهم من غير الصفوة المختارة إلا من رحم الله، وقليل ما هم) (2). (18) لقي العلامة الكبير، والقائد المجاهد، والداعية العامل، والمؤرخ الأديب، اللواء الركن محمود شيت خطاب، لقي وجه ربه الجليل بتاريخ 24 شعبان عام 1419 هـ الموافق 10 كانون الأول (ديسمبر) 1998 م في منزله الكائن في حي اليرموك ببغداد عاصمة الجمهورية العراقية. وقد كان قسم الدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، قد اتخذ توصية بترشيح اللواء الركن محمود شيت خطاب _______ = الكتاب الذي طال انتظاره، شكر الله له على كل حال. (1) لأنهم لو أبلغوه فلن يذهب. (2) مقدمة كتاب سفراء النبي صلى الله عليه وسلم- ص 10.

لجائزة الملك فيصل التقديرية بتاريخ 4 شعبان 1419 هـ، وكذلك أصدرت جامعة الإيمان نفس التوصية، وكان المتوقع أن تصدر توصيات أخرى وعن جامعات أخرى في هذا الشأن ولكن سبق قدر الله، واختاره مولاه إلى جواره، وتوقف كل بحث في أمر الترشيح، وكان رحمه الله أحق من يكرم بهذه الجائزة. ويشاء الله أن تتوالى محن الأمة الإسلامية بفقد علمائها العاملين ووفاة شيوخها الأبرار ورحيل قممها العلمية الشامخة، فبعد وفاة العلامة الخطاب بشهرين توفى مفتي المملكة العربية السعودية العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حيث وافته المنية بتاريخ 27 محرم عام 1420 هـ، وبعد خمسة أسابيع وبتاريخ 4 ربيع الأول من نفس العام توفي العلامة الأديب القاضي الشيخ علي الطنطاوي. وبعد أسبوعين من هذا التاريخ توفى فقيه العصر وعالم الأمة الشيخ مصطفى الزرقا حيث وافته المنية بتاريخ 19 ربيع الأول عام 1420 هـ، وبعد هذا التاريخ بأسبوع كذلك توفى العالمان الجليلان الشيخ مناع القطان عميد قسم الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، والشيخ عطية سالم مدرس الحرم النبوي الشريف حيث لقيا وجه الله الجليل بتاريخ 6 ربيع الآخر عام 1420 هـ. وفي نفس المدة توفى الأديب الشاعر الداعية الشيخ محمد المجذوب. وهكذا ... وفي شهور قليلة ... فجعت الأمة الإسلامية بوفاة هذه الكوكبة من العلماء والفقهاء والدعاة والأدباء والقادة من أعلام القرن العشرين. وفجيعة الأمة بالعلماء والمفكرين لا تعوَّض - إلا أن يشاء الله-، خاصة هذا الزمان الذين قل فيه العلماء العاملون والدعاة المخلصون، وإنها لثلم في حياة الأمة لا تُرتَق إلى يوم القيامة، -كما أخبرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -. رحمهم الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبتهم، وتقبلهم في عباده الصالحين،

ورزقهم صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعوَّض عنهم أمة العرب والمسلمين، وأمد في عُمُر العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، والقادة الناصحين، والمجاهدين الصادقين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. جدة: 15/ 6/1420 هـ 25/ 9/1999 م ملاحظة: نشرت مجلة الحرس الوطني السعودية خلاصة عن هذه الترجمة في عددها:/ 211 و 212/ في شوال وذي القعدة عام/ 1420 هـ/ الموافق يناير وفبراير عام/ 2000 م/.

صورة من مخطوط الكتاب

قَادَةُ فَتْحِ الأَنْدَلُس اللِّوَاءُ الرُّكن محمود شيت خطّاب رحمه الله

الأندلس وما جاورها وجزر البحر الأبيض المتوسط قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه

الأندلس وما جاورها وجزر البحر الأبيض المتوسط قبل الفتح الإسلاميّ وفي أيامه الموقع والحدود 1 - الأندلس أ - الموقع: تقع شبه الجزيرة الإيبيرِيَّة (الأندلس) في الجنوب الغربيّ من القارة الأوروبيَّة، تفصلها عن جنوبيّ فرنسا جبال البُرْت (البُرْتات Pyrenees) ، وتُعرف بالإسبانيّة ( Pirineos) (1) ، حيث تتّصل الأندلس بالأرض الفرنسية. ويفصلها من الجنوب عن إفريقيَّة مضيق جبل طارق، الذي يبلغ عرضه من الشّرق إلى الغرب (13 - 37 كم) (2). مومووتقع على المضيق بعض مدن المغرب الأقصى في الشمال الإفريقيّ، ويفصل المضيق بين الأندلس والمغرب الأقصى، ويصل هذا المضيق المحيط الأطلسيّ والبحر المتوسط. وتقع سواحل الأندلس الشمالية والشمالية الغربية على المحيط الأطلسيّ _______ (1) تسمى هذه الجبال أحياناً: البرانس، وهي تسمية خاطئة، لأنّ جبال البرانس تقع شمالي قرطبة، وتعرف أيضاً بجبال المعدن ( Sierra de Almaden) ، انظر: جغرافية الأندلس وأوروبا (85 و 129) والروض المعطار (142) ونفح الطيب (1/ 143) ودولة الإسلام في الأندلس (1/ 53 و 82) وتاريخ الجغرافيا والجغرافيين في الأندلس - حسين مؤنس (261 و 481) والتاريخ الأندلسي (35). (2) الاستبصار في عجائب الأمصار- مجهول المؤلف (138).

ب - مصطلح الأندلس ومدلوله:

عند خليج بَسْكاي (بَسْقَاية Biscay) الذي تقع عليه مدينة خيخون ( Gijon) . وتقع سواحلها الغربية على المحيط الأطلسي، الذي يُعرف عند بعض المؤلِّفين المسلمين: البحر الأخضر (1)، أو البحر المحيط (2)، أو البحر المحيط الرُّومِيّ (3)، أو البحر المظلم (4)، أو بحر الظلمات (5)، أو بحر الظلمة (6)، أو أقيانس (7). وتقع شواطئ الأندلس الشرقيّة والجنوبيّة الشرقيّة على البحر الأبيض المتوسِّط، الذي يسمى أيضاً البحر الرّوميّ (8)، أو البحر الشّاميّ (9)، أو بحر تيران (10). ب - مصطلح الأندلس ومدلوله: أصل مصطلح الأندلس، مأخوذ من اسم قبائل الوندال ( Vandals) التي تعود إلى أصل جرمانيّ، احتلّت شبه الجزيرة الإيبيريَّة حوالي القرن الثالث _______ (1) الروض المعطار (28) ونفح الطيب (1/ 276) و (3/ 189)، كأنّه يطلقه على خليج بسكاي. (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (66 و 143 و 156) والروض المعطار (26 و 28 و 55 و56 و 64 و 67 و 83) ومقدمة ابن خلدون (1/ 427) وتاريخ الأندلس لابن الكردبوس ووصفه لابن الشباط (128 و 162 و 165) نص ابن الشباط، ونفح الطيب (1/ 137). (3) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة - ابن بسام الشنتريني (1/ 13). (4) الروض المعطار (2) وجغرافية الأندلس وأوروبا (169). (5) الروض المعطار (28). (6) تاريخ الأندلس (130) نص ابن الشباط، والروض المعطار (127). (7) تاريخ الأندلس (130) نص ابن الشباط، والروض المعطار (28). (8) الروض المعطار (28 و 62 و 83) ومقدمة ابن خلدون (1/ 427 و 464) ونفح الطيب (1/ 132). (9) جغرافية الأندلس وأوروبا (66 و 143 و 156 و 179 و 180) والروض المعطار (2 و 26 و 115 و 126 و 128) وتاريخ الأندلس (128) نص ابن الشباط، ونفح الطيب (1/ 135). (10) جغرافية الأندلس وأوروبا (68) ونفح الطيب (1/ 131).

والرابع الميلاديين وحتى القرن الخامس الميلاديّ، وسميت باسمها: فاندلسيا ( Vandalusia) ، أي: بلاد الوندال، ثمّ نُطقت بالعربية: الأندلس. أما مدلول هذا المصطلح، فقد أطلقه المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون أحياناً على كلّ شبه الجزيرة الإيبيريَّة -أسبانيا والبرتغال اليوم- والتي يسمونها أيضاً: الجزيرة الإيبيريَّة (1). وحدود الأندلس أيام الخلافة الأندلسية، تشمل كلّ البرتغال تقريباً وأكثر إسبانيا الحالية، وكانت الأندلس تمتدّ جنوب الخط الوهميّ الذي يصل بين نهر دُوَيْرُهْ ( Duero) في الغرب حتى مدينة بَرْشَلُونَة ( Barcelona) في الشرق، مع ارتفاع إلى الأعلى في الوسط، ويفصل هذا الخط بين إسبانيا النصرانية في الشمال، وبين الأندلس الإسلامية في جنوبه (2). وحين يُذكر مصطلح الأندلس، يقصد به أيضاً -زيادة على ما سبق- المنطقة الإسلامية التي شملها الإسلام، سلطاناً وسكّاناً، من شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى الأغلب في شمولها أيام الخلافة الأندلسية، أو شاملة لكلّ شبه الجزيرة كما ذكرنا قبل قليل. وتُطلق اليوم كلمة: أَنْدَلُشِيَّا ( Andalucia) بالإسبانيَّة، على المنطقة الجنوبية من إسبانيا، وهو اصطلاح إداري، لا يُمثِّل المعنى التاريخي المبَيَّن لمصطلح الأندلس. وبعض الأسماء الخاصة بالأمكنة والمدن في شبه الجزيرة الإيبيريّة ذات أصل أندلسيّ، منقول إلى الإسبانيّة، أو إنَّه إسبانيّ نُقل إلى العربيّة. وهناك عدد من الأسماء يتّسم بطابعه الأندلسيّ، وكلّ اسم في الإسبانيّة -حالياً- مسبوق بـ (أل) التّعريف، دليل على أندلسيَّته أو تأثّره بالأندلسيّة. وكانت ولا تزال تقوم في إسبانيا مدن وقواعد أندلسيّة، بعضها كبرى، تحتفظ بآثار العمران الأندلسيّة، مثل: قُرْطُبَة، وإشْبِيْلِيَة، وغُرْناطة، _______ (1) جغرافية الأندلس وأوروبا (59) والروض المعطار (4 - 6 و 19) ونفح الطيب (1/ 133) ودولة الإسلام في الأندلس 1/ 27 و 50). (2) التاريخ الأندلسي (37).

2 - المدن

وطُلَيْطُلة، ومالَقَة، وغيرها (1). 2 - المدن سنذكر المدن بالنسبة لورودها في: قادة فتح الأندلس والبحار، لا بالنسبة لأهميتها. 1 - جزيرة طَرِيْف Tarifa: جزيرة صغيرة في بحر الزقاق (مضيق جبل طارق)، وهي جزيرة صغيرة محصّنة، يربطها بشبه جزيرة الأندلس حالياً جسر بحريّ. ومدينة طريف، ميناء أندلسي، يقع في منطقة قادس، عند النقطة الجنوبيّة القصوى من شبه الجزيرة، تبعد عن جبل طارق (21) ميلاً. وأطلق اسم القائد الفاتح طريف بن مالك على الجزيرة والمدينة (2). 2 - الجزيرة الخضراء Algeciras: مدينة أمام سَبْتَة من برّ الأندلس الجنوبيّ، تقع في منطقة قادس، على بُعْد ستة أميال إلى الغرب من جبل طارق، وقد أعاد المسلمون تأسيسها سنة (95 هـ = 713 م)، وظلّت الجزيرة الخضراء مدينة عربية حتى استولى عليها الفونس السادس حاكم قشتالة ستة (1344 م) بعد حصار دام عشرين شهراً، وشاركت في هذا الحصار جماعات صليبيّة جاءت من مختلف أنحاء أوروبا. وقد استخدم العرب البارود في هذا الحصار لأول مرّة في تاريخ الحروب الأوروبيّة. وهي مدينة طيّبة نزهة، توسّطت مدن الساحل، وأشرفت بسورها على البحر، ومرساها أحسن المراسي للجواز، وأرضها أرض زرع وضرع، _______ (1) التاريخ الأندلسي (37 - 38). (2) انظر تقويم البلدان (169 و 188)، وانظر دائرة المعارف البريطانية.

3 - طليطلة Toledo:

وبخارجها المياه الجارية والبساتين النّضيرة، ونهرها يعرف بوادي العسل، وهي من أجمع المدن لخير البر والبحر (1). 3 - طُلَيْطِلة Toledo: وتلفظ أيضاً: طُلَيْطُلَة، وهي عاصمة الأندلس، تقع في شرقي مدينة وليد، على جبل عالٍ، وهي من أمنع البلاد وأحصنها، ولها نهر يمرّ بأكثرها، وهي مدينة قديمة جداَّ، ومنها إلى نهاية الأندلس شرقاً نحو نصف شهر، وكذلك إلى البحر المحيط بناحية شلب وهو نهاية الأندلس الغربية، وتحدق الأشجار بطليطلة من كلّ جهة، وفيها أشجار أنواع من الثمر، ونهر طليطلة ينحدر إليها من عند حصن هناك، يقال له: باجة، ويعرف نهر طليطلة به فيقال: نهر باجة (2). 3 - قَرْطَاجَنَّة الجزيرة Cartagena: مدينة أمام سبتة من برّ الأندلس الجنوبيّ، وهي مدينة طيّبة نزهة توسّطت مدن الساحل، وأشرفت بسورها على البحر، تعرف بقرطاجَنّة الخُلفاء، قريبة من آلش، من أعمال تدمير، وكانت عملت على مثال قرطاجنة التي بإِفريقيّة (3). 4 - بَنْبُلُونَة Pamplona: ممم بالميم ولا بالنون ممم مدينة أندلسيّة في شرقيّ الأندلس، خلف جبل الشارة، وتعتبر من مدن الجزء الثالث من أجزاء الأندلس، كما تعتبر عاصمة بلاد نافار ( Navarre) ، وتقع نافار شرقي مملكة ليون، محاذية لجبال البُرْت التي تفصل بين أسبانيا وفرنسا، وسكانها من ............................................... _______ (1) تقويم البلدان (172 - 173) ومعجم البلدان (3/ 99)، وانظر دائرة المعارف البريطانية. (2) تقويم البلدان (176 - 177) ومعجم البلدان (6/ 56 - 57) وجغرافية الأندلس وأوروبا (86 - 88) والحلل السندسية (1/ 363 - 471). (3) معجم البلدان (7/ 53) والمشترك وضعاً (342) وجغرافية الأندلس وأوروبا (135).

5 - قرطبة Cordova:

البشكنس (1) ( Basqiues) . 5 - قُرْطُبَة Cordova: تقع غربيّ النهر الكبير الذي عليه إشْبِيْلِيَّة، وقرطبة شرقي إشبيلية، وهي في جنوبيّ طُلَيْطِلَة، وطليطلة عن قرطبة فَي الشمال والشرق على سبعة أيام، ودور قرطبة ثلاثون ألف ذراع، وهي أعظم مدائن الأندلس. وهي مدينة حصينة بسور ضخم من الحجر، ولها سبعة أبواب، ومن مشاهير أعمال قرطبة كورة القصير وهو حصن في شرقي قرطبة على النهر، وكذلك من أشهر أعمال قرطبة حصن المدوّر، وهو المعقل العظيم المشهور، وكذلك حصن مراد، وهو في غربيّ قرطبة، ومن أعمال قرطبة كورة غافق وكورة إسْتِجّة. والقنطرة التي عند قرطبة وعلى نهرها، من أعظم آثار الأندلس وأعجبها (2). 6 - شَقُنْدَة Secunda: هي حي الرّبض (الضاحية) جنوبي قُرْطُبَة في الضفة الأخرى من نهر الوادي الكبير، وكان هذا الرّبض يُعرف باسم: شَقُنْدَة، معرّب عن الّلاتينيّ (3). 7 - شَذُوْنَة Sidonia: مدينة بالأندلس، تتصل نواحيها بنواحي موزور من أعمال الأندلس، وهي منحرفة عن موزور إلى الغرب مائلة إلى القبلة، تشتهر بأطيب العنبر العربي الوردي (4). _______ (1) تقويم البلدان (180 - 181) وجغرافية الأندلس وأوروبا (62 و 79). (2) تقويم البلدان (174 - 175) وآثار البلاد وأخبار العباد (552) ومعجم البلدان (7/ 53 - 54) وجغرافية الأندلس وأوروبا (100 - 106) ونفح الطيب (1/ 455 - 523) والمسالك والممالك للاصطخري (35). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (139). (4) معجم البلدان (5/ 244) وجغرافية الأندلس وأوروبا (125 و 127).

8 - إستجة Ecija:

8 - إسْتِجَة Ecija: اسم لكورة بالأندلس، متصلة بأعمال ريَّة، بين القبلة والمغرب من قرطبة، وهي كورة قديمة واسعة الرّساتيق والأراضي، على نهر سَنْجل وهو نهر غرناطة، بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متّصلة بأعمال قرطبة (1). 9 - قَادِس Cadiz: جزيرة في غربي الأندلس، تقارب أعمال شَذُوْنَة، طولها اثنا عشر ميلاً، قريبة من البر، بينها وبين البرّ الأعظم خليج صغير قد حازها إلى البحر عن البر (2). 10 - مُرْسِيَة Murcia: مدينة محدثة إسلاميّة، بُنيت في أيام الأمويين الأندلسيين، ومرسية في شرقي الأندلس تشبه إشبيلية التي في غربي الأندلس، بكثرة المنازه والبساتين، وهي على الذراع الشّرقيّ الخارج من عين نهر إشبيلية، ومرسية من قواعد شرقيّ الأندلس، ولها عدة منتزهات منها: الرَّشَاقة، والزَّتقات، وجبل إيل، وهو جبل تحته البساتين وبسط تسرح فيه العيون. ومن أعمال مرسية: مُوْلة وهي في غربي مرسية، ومن أعمال مرسية مدينة أُوْرْيُولة، ومن أعمالها قرية الحِرِلَّة وهي حسنة المنظر (3). 11 - شَرِيش Xeres - Jerez: مدينة كبيرة من كورة شَذُوْنَة، وهي قاعدة هذه الكورة، وأصبح المسلمون يسمونها: شَرَش (4). _______ (1) معجم البلدان (1/ 224) وانظر جغرافية الأندلس وأوروبا (64). (2) معجم البلدان (7/ 4 - 5). (3) تقويم البلدان (178 - 179) ومعجم البلدان (8/ 54 - 25). (4) معجم البلدان (5/ 260).

12 - المدور، Almodovar:

12 - المَدُوْر، Almodovar: اسم حصن حصين مشهور بالأندلس، يقع بالقرب من قُرطبة، لهم فيه عدّة وقائع مشهورة (1). 13 - إِشْبِيْلِيَة Sevilla , Seville: مدينة تقع على غربي نهرها الأعظم وجنوبيه، وهي في غربيّ قرطبة، ومن قواعد المسلمين في الأندلس، ولها خمسة عشر باباً، وهي من غربيّ الأندلس وجنوبيّه، وبين إشبيلية وقرطبة أربعة أيام. وطول منطقة إشبيلية من الغرب عند مصب نهرها في البحر المحيط إلى الشرق إلى أعلى النهر حتى حدود منطقة قرطبة نحو خمسة مراحل، وعرضها من الجزيرة الخضراء وهي على ساحل الأندلس الجنوبي إلى منطقة بطليوس في الشمال نحو خمسة أيام، وهي مدينة قديمة، ومعنى اسمها: المدينة المنبسطة. وهي مدينة عظيمة كبيرة، قريبة من البحر، يطلّ عليها جبل الشرف، وهو جبل كثير الزيتون والفواكه، ويزرع في هذه المدينة القطن (2). 14 - مَالَقَة Malaga: مدينة أندلسية عامرة من أعمال ريّة، سورها على البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية، وتقع جنوبي قرطبة، وبينهما خمسة أيام، وتقع على بحر الزقاق جنوبيّ الأندلس، وهي كثيرة الفواكه وأهمها التين واللوز (3). _______ (1) معجم البلدان (7/ 417). (2) تقويم البلدان (174 - 175) ومعجم البلدان (1/ 254) وجغرافية الأندلس وأوروبا (107 - 116). (3) معجم البلدان (7/ 367) وتقويم البلدان (174 - 175) والروض المعطار (177) وجغرافية الأندلس وأوروبا (128).

15 - إلبيرة Elvira:

15 - إِلْبِيْرَة Elvira: اسم كورة كبيرة بالأندلس، واسم مدينة أيضاً، سمِّيت الكورة باسمها، متَّصلة بأراضي كورة قَبْرَة بين القبلة والشرق من قرطبة، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، وأرضها كثيرة الأنهار والأشجار، وفيها عدّة مدن، منها: قَسْطَلَّة وغَرْنَاطَة وغيرهما. وفي أرضها معادن ذهب وفضّة وحديد ونحاس ومعدن حجر التوتيا، في حصن يقال له: شلوبينية، وفي جميع نواحيها يُعمل الكتان والحرير الفائق (1). 16 - غَرْنَاطة Granada: مدينة في نهاية من الحصانة، ومملكتها إلى الجنوب والشرق من قرطبة، وبينها وبين قرطبة نحو خمسة أيام، وهي في نهاية النزاهة، وتشبه دمشق وتفضّل عليها بأنّ مدينتها مشرفة على غوطتها، وهي مكشوفة من الشمال، وينصب أنهارها من جبل الثلج الذي هو من جنوبيها، وتنخرق فيها الأنهر، وعليها الأرحى داخل المدينة، ولها قلعة عالية شديدة الامتناع، ولها أشجار وثمار ومياه مسيرة يومين تقع تحت مرأى العين لا يحجبها شيء، واسم نهرها: نهر قَلُوْم، ويعرف الآن بنهر حدارة (2). 17 - تُدْمِيْر Tudmir: كورة بالأندلس، تتّصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقيّ قرطبة، ولها معادن كثيرة ومعاقل ومدن ورساتيق، وبينها وبين قرطبة سبعة أيام للراكب القاصد، وتسير العساكر أربعة عشر يوما (2). 18 - أُوْرْيُوْلَة Orihuela: _______ (1) انظر معجم البلدان (1/ 322) و (2/ 330) و (7/ 88). (2) تقويم البلدان (174 - 175) ومعجم البلدان (6/ 280). (3) معجم البلدان (2/ 371 - 372).

19 - جيان Jaen:

مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تُدْمِيْر، بساتينها متّصلة ببساتين مُرْسية (1). 19 - جَيَّان Jaen: مدينة لها كورة واسعة بالأندلس، تتّصل بكورة إلْبِيْرَة مائلة عن البيرة إلى ناحية الجوف في شرقيّ قُرطبة، بينها وبين قرطبة سبعة عشر فرسخاً، وهي كورة كبيرة تجمع قُرى كثيرة وبلداناً، وكورتها متّصلة بكورة تدمير وكورة طليطلة، وهي في نهاية المنعة (2). 20 - جِلِّيْقِيَّة Galicia: بلدة قرب ساحل البحر المحيط من ناحية شمالي الأندلس في أقصاه من جهة الغرب، ومصب نهرها في المحيط (3). 21 - أسْتُرْقَة Astorga: من مدن جليقيّة قرب ساحل المحيط، وهي التي يسميها ياقوت: أسْتُوْرِيس ( Asturies) ، ويذكر أنها حصن من أعمال وادي الحجارة، أحدثه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأُمويّ، عمّره في نحر العدو، ولا تزال أسوار استرقة ماثلة (4). _______ (1) معجم البلدان (1/ 373). (2) تقويم البلدان (174 - 175) ومعجم البلدان (3/ 185 - 186) وجغرافية الأندلس وأوروبا (64). (3) معجم البلدان (3/ 131) وتقويم البلدان (184 - 185) وجغرافية الأندلس وأوروبا (71 - 73) و (74 - 79) و (80 - 81). (4) معجم البلذان (1/ 225) والحلل السندسية (2/ 58 - 59) وقادة فتح المغرب (1/ 268).

22 - طلبيرة Talavera:

22 - طَلَبِيْرَة Talavera: مدينة كبيرة بالأندلس، من أعمال طليطلة، وهي قديمة البناء، على نهر تاجُهْ، تقع غربي طليطلة (1). 23 - أَكْشُوْنُبَة Ocsonoba: مدينة بالأندلس، يتّصل عملها بعمل لشبونة، وهي غربيّ قرطبة، تقع جنوبيّ البرتغال حيث مدينة فارو ( Faro) الحالية (2). 24 - قَرْمُوْنَة Carmona: كورة بالأندلس، يتّصل عملها بأعمال إشبيلية، غربي قرطبة، وشرقي إشبيلية، قديمة البنيان، بينها وبين إشبيلية سبعة فراسخ، وبينها وبين قرطبة اثنان وعشرون فرسخاً، وأكثر ما يقول الناس. قَرْمونة، وقد ذكرها ياقوت باسم: قَرْمُونِيَة (3). 25 - رَعواق Alcala Guadaira: وردت هذه المدينة في المصادر العربية بصيغ مختلفة: رعوان، زعواق، رَعْواق، ويبدو أنّ الصواب هو رَعْواق، وهي: قلعة وادي أيره، وهي في منطقة قَرْمُوْنة (4). 26 - لَبْلَة Niebla: _______ (1) معجم البلدان (7/ 53) وابن الأبار (2/ 257) والروض المعطار (127) وآثار البلاد (545) وصفة المغرب والأندلس للإدريسي (187) وجغرافية الأندلس وأوروبا (89). (2) معجم البلدان (1/ 317)، وفيه وردت: أكْسبونية، وانظر الحلة السيراء (1/ 62) و (2/ 203) وجغرافية الأندلس وأوروبا (125). (3) معجم البلدان (7/ 62) وجغرافية الأندلس وأوروبا (64). (4) انظر فجر الأندلس (92).

27 - باجة Beja:

قصبة كورة بالأندلس كبيرة، يتصل عملها بعمل أَكْشُوْنُبَة، وهي شرق من أكشونبة وغرب من قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام: أربعة وأربعون فرسخاً، وبين إشبيلية اثنان وأربعون ميلاً، وهي بريّة بحريّة، غزيرة الفضائل والثمر والزروع والشجر، ولأدمها فضل على غيره، ولها مدن، وتُعرف بلبلة الحمراء (1). 27 - بَاجَة Beja: مدينة من أعمال الأندلس، تتّصل بنواحي ماردة، وهي ضمن اثنتي عشرة مدينة، قاعدتها ماردة (2). 28 - مَارِدَة Merida: كورة واسعة من نواحي الأندلس، متّصلة بحوز فِرّيش بين الغرب والجوف، من أعمال قرطبة، إحدى القواعد التي تخيّرتها الملوك للسكنى من القياصرة والرُّوم، وهي مدينة رائقة كثيرة الرخام، عالية البنيان، فيها آثار قديمة حسنة، تُقصد للفرجة والتّعجب، بينها وبين قرطبة ستة أيام، ولها حصون وقرى، وماردة قاعدة لاثنتي عشرة مدينة أندلسيّة (3). 29 - لَقَنْت Alicante: مدينة من مدن تدمير التي صالح عليها عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر، وهي سبع مدن، وأساسها حصنان من أعمال ماردة: لقنت الكبرى، ولقنت الصغرى، وكل واحدة تنظر إلى ......................................... _______ (1) معجم البلدان (7/ 319) وجغرافية الأندلس وأوروبا (64). (2) معجم البلدان (2/ 25 - 27) والمشترك وضعاً والمفترق صقعاً (33) وجغرافية الأندلس وأوروبا (63). (3) معجم البلدان (7/ 360) وجغرافية الأندلس وأوروبا (63).

30 - قشتالة Castile - Castilla:

صاحبتها (1). 30 - قَشْتَالَة Castile - Castilla: إقليم عظيم بالأندلس، قصبته طليطلة (2). 31 - سَرَقُسْطَة Zaragoza: مدينة أندلسية، واسمها تعريب للاسم الرومانيّ: قيصر أجستا ( Seasar- Augusta) لأنّ أغسطس قيصر هو الذي أسّسها سنة (23 ق. م) على أطلال المدينة الإيبيرية القديمة التي كانت تعرف عن الأيبيريين باسم: سلدوبا ( Salduba) ، وهي أطيب البلاد، تقع على نهر: (إبْرُهْ) الذي ينصبّ في البحر الأبيض المتوسط بساحل طُرطوشة (3). 32 - وَشْقَة Huesca: بليدة بالأندلس، وتعدّ من الثغر الأعلى من ثغور الأندلس مع لارِدَة (4). 33 - لارِدَة Larida: مدينة مشهورة بالأندلس من الثغور، وفي شرقيها جبل البرت الفاصل بين الأندلس وفرنسة، وهي من المدن القديمة (5). 34 - طَرَّكُوْنَة Tarragna: _______ (1) معجم البلدان (7/ 336) وافتتاح الأندلس (9) وفجر الأندلس (92 و 115). (2) معجم البلدان (7/ 93). (3) معجم البلدان (5/ 71) ونصوص عن الأندلس لابن الدلائي (21 - 23). (4) معجم البلدان (8/ 423) ونصوص عن الأندلس (24) وجغرافية الأندلس وأوروبا (90). (5) معجم البلدان (7/ 313) وتقويم البلدان (180 - 181).

35 - برشلونة Barcelona:

بلدة بالأندلس متّصلة بأعمال طَرْطوشة، وهي مدينة قديمة على شاطئ البحر، وهو بين طرطوشة وبَرْشَلُونَة، بينها وبين كلّ واحدة منهما سبعة عشر فرسخاً. وطرَّكونة موضع آخر بالأندلس، من أعمال لَبْلَة (1). 35 - بَرْشَلُوْنَة Barcelona: مدينة أندلسية مشهورة، قريبة من طَرْطوشة (2). 36 - أماية Amaya: إحدى مدن الأندلس، وهي إحدى مدن الجزء الثالث، التي من مدنها برشلونة وبَنْبُلُوْنَة (3)، في منطقة بلاد البرتغال حالياً. 37 - لِيُوْن Leon: مدينة بالأندلس في شمالي سَمُوْرَة بانحراف إلى الشرق، وهي على نهر يصبّ في نهر سَمورة، وهي أجلّ مدن الجلالقة، ومن ليون إلى ساحل بحر الظلمات (المحيط) أربع مراحل غرباً، وهي من جِلِّيقِيَّة (4). 38 - بَلَنْسِيَة Valencia: مدينة تقع على بحيرة، يصبّ فيها نهر يمرّ على شمالي بلنسية، وهي في شرقي الأندلس، وتقع في أحسن مكان، وقد حُفّت بالأنهار والجنان، فلا ترى إلاّ مياهاً تتفرّع، ولا تسمع إلا أطياراً تسجع، وهي على القرب من بحر الزقاق، وتقع شرقي مرسية وغربي طرطوشة. ومن مشاهير منازهها الرصافة، _______ (1) معجم البلدان (6/ 44). (2) تقويم البلدان (182 - 183) وجغرافية الأندلس وأوروبا (96 - 99). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (62). (4) تقويم البلدان (184 - 185) وجغرافية الأندلس وأوروبا (75).

39 - أربونة Narbonne:

ومنية ابن عامر، ومن أعمالها مدينة شاطبة، وهي حصينة، وجوّها صقيل لا يُرى فيه ما يكدِّره، وبلنسية اسم كورة أيضاً (1). 39 - أُرْبُوْنَة Narbonne: مدينة في شمال شرقي قرقشونة، تقع على الساحل الفرنسي الجنوبيّ (2). 40 - قَرْقَشُوْنَة Carcassone: بلدة جنوبي فرنسة، قريبة من حدود إسبانيا الشمالية، تبعد عن قرطبة خمسة وعشرين يوماً (3). 41 - بَلانة Villena: ووردت: بَلَنْتِلَة ( Valentola) في مرجع آخر. وبلانة: إحدى مدن كورة تُدْمِيْر التي تتّصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقي قرطبة (4). أما بلنتلة فقرية قديمة كانت على مقربة من بليدة ( Alcantarilla) الحالية على خمسة كيلو مترات من مرسية (5). وأرجِّح أنّها بلانة، لأنها داخلة ضمن المدن السبع التي صالح عليها عبد العزيز بن موسى تدمير بن غبدوش (6)، وليس من المعقول أن يصالح تدمير على قرية، لكثرة القرى وانتشارها، وهي تابعة للمدن التي صُولح عليها. _______ (1) معجم البلدان (2/ 279) وتقويم البلدان (178 - 179) وجغرافية الأندلس وأوروبا (62 و 122). (2) تقويم البلدان (182 - 183). (3) معجم البلدان (7/ 56) وتاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط (14). (4) معجم البلدان (2/ 371 - 372). (5) فجر الأندلس (115) نقلاً عن سافدرا. (6) انظر التفاصيل في: فجر الإسلام (114 - 115).

42 - مولة Mula:

42 - مُوْلَة Mula: إحدى مدن كورة تُدمير التي صالح عليها عبد العزيز بن موسى تدمير (1). 43 - بسْقَرَة Bigastre: بسقَرة أو بسكرة، إحدى مدن كورة تدمير السبع التي جرى الصلح عليها (2). 44 - إِلُة Ello: إحدى مدن كورة تدمير السبع التي جرى الصّلح عليها (3). 45 - لُوْرَقَة Lorca: مدينة بالأندلس، من أعمال تدمير، وهي إحدى المدن السبع التي جرى الصلح عليها (4). 46 - يَابُرَة Evora: بلد أندلسيّ، يقع في غربي الأندلس، في منطقة البرتغال الحالية (5). 47 - شَنْتَرِيْن Santarein - Santaren: مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة، في غربيّ الأندلس، ثم في غربيّ قرطبة، على نهر تاجة، قريب من الضبابة في البحر المحيط، وهي حصينة، بينها وبين قرطبة خمسة عشر يوماً، وبينها وبين باجة أربعة أيام (6). _______ (1) معجم البلدان (2/ 371 - 372) وجغرافية الأندلس وأوروبا (127 و 128 و 129). (2) معجم البلدان (2/ 371 - 372). (3) معجم البلدان (2/ 371 - 372). (4) معجم البلدان (7/ 342) وجغرافية الأندلس وأوروبا (127). (5) معجم البلدان (8/ 849) وجغرافية الأندلس وأوروبا (63). (6) معجم البلدان (5/ 300) وتقويم البلدان (172 - 173).

48 - قلمرية Coimira:

48 - قُلُمْرِيَّة Coimira: مدينة في الأندلس (1)، تقع في غربيّ الأندلس، في البرتغال الحالية. 49 - أَشْتُورِش Austurias: هي المنطقة الواقعة إلى أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأندلسية، وهي القسم الثاني من أقسام جِلِّيقيّة الأربعة، سميت بهذا الاسم، وهو اسم وادٍ لأهلها يقال له: آشترو، منه شرب جميع بلادهم (2). 50 - لشبونة Lisbon: مدينة أندلسية، قاعدة مملكة على البحر المحيط، في غربي إشبيلية وشماليها، وهي مدينة قديمة تقع في غربيّ باجة، ومن أشبونة إلى البحر ثلاثون ميلاً، وهي كثيرة البساتين والفواكه والثمار (3). وهي عاصمة البرتغال في الوقت الحاضر. 51 - بَطَلْيُوْس Badjoz: مدينة كبيرة بالأندلس، من أعمال مارِدة على نهر آنة، غربيّ قرطبة، بينها وبين قُرطبة ستة أيام، وهي مدينة إسلامية محدثة، ومن أعمالها المشهورة مدينة يابرة (4). 52 - مدينة وَلِيْد Valladolid: هي من أحسن مدن الأندلس، ولها أكثر من ثلاثة أنهر، وهي في جنوبي _______ (1) معجم البلدان (7/ 151). (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (71 - 72). (3) معجم البلدان (1/ 253) وتقويم البلدان (173 - 174). (4) معجم البلدان (1/ 217) وتقويم البلدان (173 - 174).

53 - المرية Almeria:

جبل الشارة الذي يقسم الأندلس بنصفين، وتقع غربيّ طليطلة (1). 53 - المَرِيَّة Almeria: مدينة كبيرة من كورة إلبيرة من أعمال الأندلس، وكانت هي وبَجَّانة بابي الشرق، منها يركب التجار، وفيها تحمل مراكب التجار، وفيها مرفأ ومرسى للسّفن والمراكب، يضرب ماء البحر سورها، ويُعمل فيها الوشي والديباج فيجاد عمله. وهي مسوّرة على حافة بحر الزقاق، وأسوارها عالية، وقلعتها منيعة شامخة، وهواؤها معتدل (2). 54 - وادي الحجارة = مدينة الفَرَج Guadalajara: مدينة بالقرب من مدينة سالم، وهي في شرقي طليطلة، وفي شرقيها مدينة سالم، ويقال لنهرها: وادي الحجارة، ولها مدن بينها وبين طليطلة، وهي بين الجوف والشرق من قرطبة (3). 55 - مدينة سالم Medinaceli: مدينة بالأندلس، تتصل بأعمال بارُوْشَة، وهي قاعدة الثّغر الأوسط من شرقيّ الأندلس، وكانت من أعظم المدن وأشرفها، وأكثرها شجراً وماء، وكان طارق بن زياد لما افتتح الأندلس ألفاها خراباً، فعمرت بالإسلام، وهي مدينة جليلة (4). 56 - دَانِيَة Dania: مدينة بالأندلس، من أعمال بلنسية، في غربيّ بلنسية، على البحر، وهي _______ (1) تقويم البلدان (174 - 175). (2) معجم البلدان (8/ 42) وتقويم البلدان (174 - 175). (3) معجم البلدان (7/ 355) وتقويم البلدان (178 - 179). (4) معجم البلدان (5/ 11) وتقويم البلدان (178 - 179).

57 - تطيلة Tadela:

مدينة عظيمة القدر، كثيرة الخيرات، ومن أعمالها: يُكَتْران، وحصن بَيْران، ولها رساتيق واسعة، كثيرة التين والّلوز والعنب (1). 57 - تُطِيْلَة Tadela: مدينة في الأندلس، في شرقي قرطبة، تتّصل بأعمال أشِقَة، تقع في جنوبي جبل الشَّارة، وهي من الثغور المقاربة لمدينة سالم ولسرقسطة، وأرضها طيبة للزرع، وهي محدثة، اختطت في أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية، فهي قد بنيت في أيام بني مروان على الأندلس، وهي من المدن الجليلة بثغر الأندلس الشّرقيّ (2). 58 - طَرْطُوْشَة Tortosa: مدينة بالأندلس، تتصل بكورة بلنسية، وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر، وتقع شرقي النهر الكبير الذي يمرّ على سرقسطة ويصب في بحر الزقاق، على عشرين ميلاً من طرطوشة (3). 59 - شَنْت يَاقُب Santiago: قلعة حصينة في الأندلس، في الشمال والغرب من مدينة ليون، وهي على البحر، وحولها أنهار تنزل من جبل في شرقيها، وهي من قلاع الجلالقة، وأصبحت مدينة جليلة (4). 60 - سَلْمَنْكَة Salmanca: مدينة أندلسية، على شمالي نهر قُلُمْرِيَّة، وبينها وبين مدينة قلمرية قاعدة _______ (1) معجم البلدان (4/ 28) وتقويم البلدان (178 - 179). (2) معجم البلدان (2/ 392) وتقويم البلدان (180 - 181). (3) معجم البلدان (6/ 42) وتقويم البلدان (180 - 181). (4) معجم البلدان (5/ 301) وتقويم البلدان (182 - 183).

61 - قورية Coria:

غليسية مرحلتان، وقلمرية شرقي سلمنكة. 61 - قُوْرِيَّة Coria: مدينة في الأندلس، تقع جنوبي جبل الشارة، وهي من نواحي مارِدة، في نصف الطريق بين ماردو وسمُّورة (1). 62 - بَرْغَش Burgos: وردت بإسم: برعش في معجم البلدان، وبرغش في تقويم البلدان، وأكثر المراجع -وخاصة المحدثة- تذكرها: برغش. تقع في غربي بنبلونة، وهي قاعدة قشتالة، ودار صناعة السلاح المعمول في تلك المنطقة، وهي في شمالي جبل إلبرت (2). 63 - قَسْطَلُوْنَة Castallon: وردت قَسْطِيْلِيَة في معجم البلدان، ووردت قستليون، ووردت كما في أعلاه في المراجع المحدثة، وهي مدينة أندلسية تقع شرقي برشلونة (3). 64 - أُسْتُوْرِيْس Asturias: حصن في الأندلس، من أعمال وادي الحجارة، أحدثه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأُمويّ، عمّره في نَحْر العدو (4). 65 - أُبَّدَة Ubeda: _______ (1) معجم البلدان (7/ 182) وتقويم البلدان (184 - 185). (2) تقويم البلدان (184 - 185) وانظر معجم البلدان (2/ 128). (3) معجم البلدان (2/ 88) وتقويم البلدان (184 - 185). (4) معجم البلدان (1/ 225).

66 - بياسة Baeza:

اسم مدينة بالأندلس، من كورة جيَّان، تعرف بأُبَّدة العرب، اختطّها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك، وتمّمها ابنه محمد بن عبد الرحمن (1). 66 - بَيَّاسَة Baeza: مدينة كبيرة بالأندلس، معدودة في كورة جيَّان، بينها وبين أُبَّدَة فرسخان، وزعفرانها هو المشهور في بلاد الغرب (2). 67 - بَرْبُشْتَر Berbastro: مدينة عظيمة في شرقي الأندلس، من أعمال بَرْبطانية، ولها حصون كثيرة، منها: حصن القصر، وحصن الباكة، وحصن قصر مينوقش، وغير ذلك (3). 68 - بَرْبَطانِيَة Boltania: مدينة كبيرة في الأندلس، يتصل عملها بعمل لاردة، وكانت سَدّاً بين المسلمين والرُّوم، ولها مدن وحصون، وفي أهلها جلادة وممانعة للعدو، وهي في شرقي الأندلس. ويسميها صاحب نفح الطيب: كورة برطانية، بياء واحدة، لا بيائين، وهو الأقرب للأصل الإسباني، وهو يذكر بأنّها كورة، فيقول: كورة برطانية، وقد أطلق اسم المدينة على الكورة (4). 69 - بُبَشْتَر Bobastro: حصن منفرد بالامتناع، من أعمال ريّة بالأندلس، بينه وبين قرطبة ثلاثون فرسخاً، وربما أشبعوا الباء الثانية فنشأت ألفاً، فقالوا: _______ (1) معجم البلدان (1/ 73). (2) معجم البلدان (2/ 318). (3) معجم البلدان (2/ 107). (4) معجم البلدان (7/ 107 - 108) ونفح الطيب (1/ 131 و 133 و 167 و 197 و 337) و (4/ 449) والحلل السندسية (2/ 184).

70 - بقيرة Viguera:

بباشتر (1). 70 - بَقِيْرَة Viguera: مدينة في شرقي الأندلس، معدودة من أعمال تُطيلة، بينهما أحد عشر فرسخاً، وبقيرة أيضاً حصن من أعمال ريّة (2). 71 - بَرْمِنَّش Bermndo: إقليم من أعمال بطليوس من نواحي الأندلس (3). 72 - قَبْرَة Cabra: كورة من أعمال الأندلس، تتّصل بأعمال قرطبة من قبليّها، وهي أرض زكيّة، تشتمل على نواح كثيرة ورساتيق ومدن، وهي مخصوصة بكثرة الزيتون، وقصبتها: بَيَّانة (4). 73 - بَيَّانَة Bayanne: قصبة كورة قَبْرَة، وهي كبيرة حصينة على ربوة، يكتنفها أشجار وأنهار، بينها وبين قرطبة ثلاثون ميلاً (5). 74 - قَلَهُرَّة Calahorra: مدينة من أعمال تُطيلة، شرقي الأندلس (6). _______ (1) معجم البلدان (2/ 54). (2) معجم البلدان (2/ 253). (3) معجم البلدان (7/ 154). (4) معجم البلدان (2/ 26). (5) معجم البلدان (2/ 319) (6) معجم البلدان (7/ 153 - 154).

75 - قلعة أيوب Calatayud:

75 - قلعة أيوب Calatayud: مدينة عظيمة، جليلة القدر بالأندلس بالثغر، ينسب إليها فيقال: ثغريّ، من أعمال سرقسطة، بقعتها كثيرة الأشجار والأنهار والمزارع، ولها عدة حصون، وبالقرب منها مدينة: لبلة (1). 76 - قلعة رَباح Calatrava: مدينة بالأندلس، من أعمال طليطلة، تقع في غربي طليطلة، ولها عدة قرى ونواحٍ، ويسمونها: الأجزاء، أي الأقاليم، والجزء هو الإقليم في المصطلحات الإدارية الأندلسيّة (2). 77 - جبل طارق Gibraltar: ويُطلق عليه أيضاً اسم: جبل الفتح، ولجبل طارق قصب السّبق بنسبته إلى طارق بن زياد، إذ كان أوّل ما حلّ به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح، وهو مقابل الجزيرة الخضراء، وقد تجوّن البحر هناك مستديراً حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء (3). 78 - المُُنَكَّب Almunacar: بلد على ساحل جزيرة الأندلس، من أعمال إلبيرة، بينه وبين غرناطة أربعون ميلاً (4). _______ (1) معجم البلدان (7/ 148 - 149). (2) معجم البلدان (2/ 220) و (7/ 150). (3) نفح الطيب (1/ 159 - 160). (4) معجم البلدان (9/ 184).

79 - شوذر Jodar:

79 - شَوْذَر Jodar: مدينة بين غرناطة وجيّان بالأندلس (1). 80 - مَجْرِيْط (مدريد الآن) Magerit: بلدة بالأندلس (2). 81 - مِيْرتُلَة Mertola: حصن من أعمال باجة، وهو أحمى حصون الأندلس وأمنعها، من الأبنية القديمة، على نهر آنا (3). 82 - مُنْت شُوْن Monzon: حصن من حصون لاردة بالأندلس قديم، بينه وبين لاردة عشرة فراسخ، وهو حصين جداً (4). 83 - مُنْت لُوّن Mentileon: حصن بالأندلس، من نواحي جَيّان (5). 84 - تُرْجِيْلَة Trujillo: مدينة بالأندلس من أعمال ماردة، بينها وبين قرطبة ستة أيام غرباً، وبينها وبين سمُّورة ستة أيام (6). _______ (1) معجم البلدان (5/ 306). (2) معجم البلدان (7/ 388). (3) معجم البلدان (8/ 224). (4) معجم البلدان (8/ 171). (5) معجم البلدان (8/ 171). (6) معجم البلدان (2/ 376).

85 - شنتمرية الشرق Santa Maria de Albarracin:

85 - شَنْتَمَرِيَّة الشَّرق Santa Maria de Albarracin: مدينة في الأندلس تقع قرب فروع نهر إبْرُه Ebro إلى الشرق من مدينة شَنْتَبَرِيَّة Santaver شمال شرق مدريد (1). 86 - شَنْتَمَرِيَّة الغرب Santa Maria de Algarve: مدينة تقع جنوبي البرتغال، وهي حالياً مدينة فارو (2) Faro. 87 - شَنْتَبَرِيَّة Santaver: مدينة أندلسية تقع غربي مدينة شَنْتمَرِيَّة الشرق (3). 88 - طُولوز Toulouse: ويسميها قسم من المؤلفين العرب: تولوز، وتولوشة، وطولوشة، وهي مدينة طولوز في جنوبي فرنسة (4). وتسميها قسم من المراجع العربية طَرَسُوْنَة؛ وطرسونة هذه من مدن تطيلة، ولا علاقة لها بطولوز (5). 89 - شَاطِبَة Xativa - Jativa: مدينة في شرقي الأندلس، وشرقيّ قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، ويُعمل فيها الورق الجيّد، ويحمل منها إلى سائر بلاد _______ (1) الحلل السندسية (2/ 158) وابن الأبار (2/ 102) وجغرافية الأندلس وأوروبا (69). (2) الروض المعطار (114) والآثار الأندلسية (314) وجغرافية الأندلس وأوروبا (69). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (69). (4) تاريخ غزوات العرب للأمير شكيب أرسلان (13). (5) معجم البلدان (6/ 41) والروض المعطار (123) والحلل السندسية (2/ 172) وجغرافية الأندلس وأوروبا (11).

90 - طرش Torrox:

الأندلس (1). 90 - طُرُّش Torrox: ناحية بالأندلس، تشمل على ولاية وقرى (2). 91 - بُرْذِيل (بوردو الآن) Bordeaux: مدينة في جنوبي غربي فرنسة (3). 92 - الأرض الكبيرة: اصطلاح جغرافي أندلسي، يطلق على الأرض فيما وراء جبال إلبُرْت، وقد يشمل المنطقة التي خلف هذه الجبال حتى القسطنطينية كلها أو بعضها (4). 93 - المنارة: برج هِرَقْل Torre de Hercules: والمنارة هي برج هِرَقْل الذي لا يزال قائماً حتى اليوم في مدينة لاكرونيا La Coruna الواقعة على المحيط الأطلسي (5). _______ (1) معجم البلدان (5/ 214). (2) معجم البلدان (6/ 41). (3) الروض المعطار (41) وآثار البلاد وأخبار العباد (579) والحلل السندسية (1/ 56) ونفح الطيب (1/ 128). (4) طبقات الأمم (63 - 64) لصاعد الأندلسي، وأوضح المسالك (38 وجه و 46 وجه) لسباهي زادة وجغرافية الأندلس وأوروبا (67)، ولا يبدو من الصواب أنّ الكتاب المسلمين كانوا يستعملون اصطلاح: الأرض الكبيرة للإشارة إلى قَلّوْرِيَّة ( Calabria) جنوبي إيطاليا، كما يقول في مواقف حاسمه (91) وكرد علي في الحضارة الإسلامية والعربية (1/ 274). (5) جغرافية الأندلس وأوروبا (67).

94 - بربشتر Berbastro:

94 - بَرْبَشْتَر Berbastro: بربشتر من بلاد بَرْبطانِيَة الأندلسيّة، وحصن بربشتر على نهر إبْرُه، وبربشتر من أمّهات مدن الثَغر الفائقة في الحصانة البائنة في الامتناع، ولها حصون (1). 95 - أُقْلِيش Acles: مدينة بالأندلس، من أعمال شَنْتَبَرِيَّة، وقال الحميدي: بليدة من أعمال طليطلة (2). 96 - قوْنْكَة Ceuenca: مدينة بالأندلس، من أعمال شَنْتَبَرِيّة (3)، وهي غير بعيدة عن طليطلة، وكان العرب قد عمروها (4). 97 - البَسِيْطَة Albacete: مدينة تقع في الجانب الشرقي من طليطلة، وهي كاسمها في بسيط من الأرض، وتنقسم إلى قسمين: المدينة القديمة، والمدينة الجديدة، والجديدة في أسفل القديمة (5). 98 - شَنْتَجَالَة Chinchilla: مدينة على مقربة من البسيطة، وهي معروفة جداً في أيام المسلمين، وموقعها على مسافة (298) كيلو متراً من مجريط، ولها حصن مرتفع على _______ (1) جغرافية الأندلس وأوروبا (92 - 95). (2) معجم البلدان (1/ 313) والحلل السندسية (2/ 45 - 48). (3) معجم البلدان (7/ 186). (4) الحلل السندسية (2/ 48). (5) الحلل السندسية (2/ 48).

99 - ليون Leon:

رابية تعلو مائتي متر، وبجانب هذا الحصن كهوف كثيرة مسكونة، وهناك من يلفظها: شَنْتَجِيْل (1). 99 - ليون Leon: من المدن الشهيرة في الأندلس، ولها مقاطعة يقال لها: مقاطعة ليون. وهي من المدن القديمة، وكنيستها الجامعة من أبدع محدثات الأسلوب القوطي في البناء، وفيها آثار تدلّ على عظمتها السالفة (2). 100 - طَلَمَنْكَة Salamanqua: بلدة متوسطة في شمالي الأندلس، وكانت قاعدة ليون، وقد اختطّها محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام (3). 101 - زَمُّوْرَة Zamora: مدينة في الأندلس، تقع على مسافة ستين كيلوا متراً من طلمنكة، مبنيّة فوق صخرة عالية، يجري تحتها الوادي الجوفيّ، وكانت من قديم الزّمان قلعة منيعة (4). 102 - كُوْرْنِيَّة Corigna: مدينة أندلسية، وهي مركز لمقاطعة بهذا الاسم، واقعة على لسان من الأرض، بين جونين من البحر، أحدهما إلى الشرق اسمه: الباهية، والآخر إلى الغرب اسمه: اورزان. وكان للبلد حصون مهملة الآن، وهي مدينة _______ (1) الحلل السندسية (2/ 49). (2) الحلل السندسية (2/ 51). (3) معجم البلدان (6/ 55) والحلل السندسية (2/ 51 - 54). (4) الحلل السندسية (2/ 55 - 57).

103 - الحمة Alhoma:

قديمة، وكانت في أيام المسلمين تابعة لقرطبة (1). 103 - الحُمَّة Alhoma: على مسافة (219) كيلو متراً من مجريط (مدريد) إلى الشرق، وعلى مقربة من أريزة، توجد الحُمَّة، حَمّة أراغون، فيها مياه معدنية ساخنة، ومن ذلك اسمها: الحَمَّة (2). 104 - أراغون Aragon: مملكة إسبانية في شمالي الأندلس، على نهر إبْرُهْ، وهي مقاطعة سرقسطة، ومساحتها (17424) كيلوا متراَّ مربعاً، ومقاطعة وشقة ومساحتها (15149) كيلو متراً مربعاً ومقاطعة تَرول (3). 105 - نبارة (نافار) Navarre: مملكة إسبانية في شماليّ الأندلس، على نهر إبْرُهْ، مجاورة لمملكة أراغون. وهذه المملكة القديمة، أصبحت مقاطعة إسبانية تحمل هذا الاسم في الوقت الحاضر، مساحتها (10500) كيلو متر مربع (4). 106 - تِرُوْل Teruel: مدينة تقع على مسافة (131) كيلو متراَّ مَن قلعة أيوب، وهي جنوبي قلعة أيوب، وهذه المدينة هي مركز جنوبي أراغون، وموقعها على وادي الأبيار، وفيها آثار أسوار من القرون الوسطى، وفيها قناة معلّقة، وهي إلى الشرق من مملكة بلنسية ............................................................. _______ (1) الحلل السندسية (2/ 59 - 61). (2) معجم البلدان (2/ 344) والحلل السندسية (90 - 93). (3) الحلل السندسية (2/ 68) وجغرافية الأندلس وأوروبا (57). (4) الحلل السندسية (2/ 68 - 69).

107 - جريقة Gerica:

القديمة (1). 107 - جَرِيْقَة Gerica: بلدة على نهر المجر، بالقرب من مدينة تِرول (2). وهذه المدن الأندلسية التي ذكرتها، هي التي يتردّد ذكرها في الفتوح، وفي المعارك التي جرت بين المسلمين والإسبانيين بعد ذلك، شرحتها بإيجاز، وأشرت إلى المصادر التي اقتبست منها تلك الشروح المبسّطة، التي تفيد المؤرَّخ في تتبّع حوادث الفتوح والمعارك. وقد تعمّدت أن تكون الشروح مختصرة مبسّطة، حتى أبتعد عن الإطالة، دون أن أحرم المؤرخ من تهيئة المعلومات الضرورية له، لفهم حوادث الفتوح والمعارك. ومع ذلك فالمصادر البلدانية العربية وغير العربية، متيسِّرة جداً، لمن أراد التوسّع. وقد أغفلت ذكر قسم من المدن الأندلسية، لأن ذكرها لا يرد في الفتوح والمعارك، فيما اطّلعت عليه، فإذا اطّلع غيري على أسماء مدن وردت في مصادر ومراجع قديمة أو حديثة لم أطّلع عليها، فبإمكانه استشارة مصادر البلدانيين العرب والمسلمين، حيث سيجد فيها ضالّته بإذن الله. ومعذرة إن كنت قصرت فذلك ما استطعت أن أقدِّمه، وفوق كلّ ذي علم عليم. _______ (1) الحلل السندسية (2/ 100). (2) الحلل السندسية (2/ 100).

3 - الثغور الأندلسية

3 - الثّغور الأندلسيّة الثّغر، وجمعها ثغور: كلّ موضع قريب من أرض العدو يُسمّى ثَغْراً، كأنّه مأخوذ من الثُّغرة، وهي الفُرجة في الحائط (1). والثّغر ما يلي دار الحرب، وموضع المخافة من فروج البلدان، والثّغر: الموضع الذي يكون حدّاً فاصلاً بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أطراف البلاد (2). والثغور: أطراف البلاد التي يخشى عليها خطر الغزو برّاً أو بحراً، وأطلق العرب كلمة الثغور على المدن الحصينة، لا سيّما التي كانت تقع بالقرب من حدود الدولة الإسلامية المجاورة لبلاد الأعداء (3). واستعمل الأندلسيون اصطلاح الثغور، للدلالة على حدودهم المجاورة لإسبانيا المسيحيّة، فكانت في الأندلس ثلاثة ثغور: أ - الثّغر الأعلى: ويشمل سَرَقُسْطَة، عاصمة هذا الثغر، ولارِدَة وتُطِيْلَة ووَشْقَة وطُرْطُوْشَة وغيرها. وكان هذا الثغر يواجه بَرْشَلُوْنَة ومملكة نافار، وتمثلّه اليوم مملكة أراغون Aragon (4) . ب - الثغر الأوسط: _______ (1) معجم البلدان (3/ 16). (2) لسان العرب (5/ 171). (3) أحمد عطية - القاموس الإسلامي (1/ 538) - القاهرة- 1383 هـ. (4) الآثار الأندلسية (78) والحلل السندسية (1/ 206) و (2/ 114) وجغرافية الأندلس وأوروبا (94 - 95).

ج - الثغر الأدنى:

وكان يواجه مملكتي ليون وقشتالة، وكانت عاصمته أوّل الأمر مدينة سالم، ثم أصبحت العاصمة مدينة طُلَيْطُلَة. ج - الثغر الأدنى: ويشمل المنطقة الواقعة بين نهري دُويره وتَاجُهْ، ومن مدن هذا الثغر: قُوْرِيَة وقُلُمْرِيَّة وشَنْتَرِيْن ومارِدَة (1). وقد كان رباط الثّغر أيام فتح الأندلس، يشمل أربونة وما حولها، باعتبارها أقصى ولاية في الأندلس المسلمة، مما يلي أرض الفرنج. فلما سقطت أربونة بيد النّصارى، ارتدّ ثغر الأندلس إلى ما وراء جبال البرنية، فأصبح الثغر يُطلق على ولاية سرقسطة وما جاورها حتى برشلونة والبحر شرقاً، وهذا هو: الثغر الأعلى، ويشمل المدن المحصّنة التي ذكرناها قبل قليل، وكان يقابل: أراغون من ولايات إسبانيا النصرانية الحديثة. كما سميت طليطلة وأعمالها بالثغر الأوسط، لمجاورتها لمملكة ليون (جِلِّيْقِيَّة) النصرانية (2). وهكذا، كلّما تقدم المسلمون في فتوحهم، تقدّمت ثغورهم لتكون بتماس مباشر بالعدو الغازي، دفاعاً عن البلاد المفتوحة وسكّانها المسلمين. وكلما انحسر مدّ الفتوح وخسر المسلمون ثغورهم الأماميّة المتقدِّمة، تراجعت ثغورهم، فأصبحت المدن التي لم تكن ثغوراً بعد انحسار مدّ الفتوح ثغوراً جديدة، لتكون أيضاً بتماس مباشر بالعدو الغازي، حتى جاءت أيام خسر فيها المسلمون الأندلس، وأصبحت مدن السّاحل الإفريقي المواجهة للأندلس النصرانية، ثغوراً جديدة للدفاع عن المغرب وإفريقيّة. وقد اهتم ولاة الأندلس وخلفاؤها بتحصين المدن وإنشاء القلاع وإقامة _______ (1) المقتبس (68 و 218) ودولة الإسلام (1/ 228 و335) وجغرافية الأندلس وأوروبا (94 - 95) و Levi - Provençal, Histoire de L'Espagne Musulmane, I,P. 209, 111,PP.55-58 (2) دولة الإسلام (1/ 228).

الأسوار وإنشاء مدن جديدة محصّنة وبخاصة في شمالي الأندلس، كما ذكرنا في الحديث عن: المدن، شيئاً يدل على ذلك، وقد فتح المسلمون الأندلس بإرادة القتال في جهادهم الإسلامي، فكانوا يقاتلون بأخلاقهم المحاربة لا بالعَدد أو العُدَد، فلما تخلّوا عن إرادة القتال في الجهاد، وتنكروا لأخلاقهم المحاربة، وركنوا إلى الإنحلال والانحراف، خسروا كل شيء، ولم تُغن عنهم حصونهم شيئاً، وهذا هو الدرس البليغ الذي ينبغي أن نتعلمه من فتوح الأندلس، ومن جلاء المسلمين عنها.

4 - جبال الأندلس

4 - جبال الأندلس شبه جزيرة الأندلس، عبارة عن هضبة، تخترقها شرقاً وغرباً سلاسل من الجبال، يوازي بعضها بعضاً، وتتخلّلها أودية ضيّقة، تنساب فيها الأنهار (1). ومن جبالها المشهور بالعظم، جبل إلْبِيْرَة، وهو جبل الثلج، متّصل بالبحر الأبيض المتوسط من جهة الشرق، ومنتظم بجبل رَيَّه ولاصق بالجزيرة الخضراء مع البحر. ويذكر ساكنوه أنهم لا يزالون يرون الثلج نازلاً فيه شتاءً وصيفاً. وهذا الجبل يُرى من أكثر بلاد الأندلس، ويُرى من عَدْوَة البحر ببلاد البربر (2). وجبل الثلج هو جبال نيفادا ( Nevado) أو جبل شلير، وِأصل هذه اللفظة هو سولوريوس ( Solarius) (3) ، وهو يُطل على مدينة غَرْنَاطَة (4)، وطول الجبل يومان، وعلوّه في غاية الارتفاع (5). وفي هذا الجبل أصناف الفواكه العجيبة، وفي قراه المتصلة به يكون أفضل الحرير والكَتَّان الذي يَفْضل كتّان الفيوم (6). ومن جبالها جبل البُرْت ويسمى أيضاً: جبل البرتات أو البرنية ( Pyrenees) ، وهو الحدّ الفاصل بين إسبانيا وفرنسة، ومبتدؤه من بحر الأبيض المتوسط المجاور طُرْطُوْشَة، ومنتهاه إلى البحر الغربيّ بين الأشْبُو .. _______ (1) اسمذار - الجغرافية العمومية (289) - القاهرة - 1327 هـ. (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (84 - 85) وانظر نفح الطيب (1/ 148). (3) الحلل السندسية (1/ 36 - 37) وكلمة ( Solarius) اللاتينية تعني: المشمس، لانعكاس أشعة الشمس على ثلوجه. أما سيرا نيفادا، فتعني: الجبال الثلجية، انظر الهامش (3) من نفح الطيب (1/ 148). (4) نفح الطيب (1/ 177). (5) الحلل السندسية (1/ 129). (6) جغرافية الأندلس وأوروبا (85)، والفيوم: ولاية غربية بمصر بينها وبين الفسطاط أربعة أيام، انظر معجم البلدان (6/ 414).

وجِلِّيْقِيّة (1)، وطوله أربعون ميلاًَ (2). وارتفاع جبل البرت يتدرج من المكان الذي يقال له: (رون Rhune) وعلوّه (900) متر مقابل المحيط الأطلسيّ، إلى قمّة: (أنيتو Anto) وعلوّها نحو (34.4) أمتار، وهي أعلى قمة في الجبال المسماة بالجبال الملعونة ( Maidits) وفي جميع السلسلة. وهناك قمم أقل ارتفاعاً مثل قمة: (آني Anie) التي علوّها (2504) أمتار، وقمة: (أوساو Ossau) وعلوّها (2885) متراً، وقمة: (بَلاطُس Balaitous) وعلوّها (3146) متراً، وذروة: (الجبل الضائع Mont Perdin) وعلوّها (3352) متراً، وقمة: (بوزانس Posets) وعلوّها (3367) متراً. أما المعابر في جبل البرت، فهي تعلو بحسب علوّ الجبال، وتكثر عقابها، ويمرّ السائر فيها بكثير من كثبان الثلوج، ومن المعابر معبر: (مركادو Marcadou) ارتفاعه (2556) متراً (3)، وفيه عدّة معابر أخرى. وهناك جبل الشّرف، الذي يُطلّ على إشْبِيْلِيَة، وهو جبل كثير الشجر والزيتون وسائر الفواكه (4)، طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب إثنا عشر ميلاً، يشتمل على مائتين وعشرين قرية، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت (5). وهناك عدة جبال في الأندلس اقتصرنا على ذكر أهمها. _______ (1) جغرافية الأندلس وأوروبا (85)، ويسمى خطأ بجبال البرانس، إذ أنّ جبال البرانس (جبل المعدن Sierra de Almaden) تقع شمالي قرطبة. (2) الحلل السئدسية (1/ 267). (3) الحلل السندسية (2/ 108 - 111). (4) معجم البلدان (1/ 254). (5) الحلل السندسية (1/ 199).

5 - الأنهار

5 - الأنهار أ - نهر إبْرُهْ Ebro: يقع هذا النهر في شمالي شرقي شبه الجزيرة الأندلسيّة، ويصبّ في البحر الأبيض المتوسط، عند مدينة طُرْطُوْشَة ( Tortosa) (1) ، وكان مملكة أراغون ( Aragon) ونبارة ( Navara) يرتويان من هذا النهر. ولهذا النهر منبعان: أحدهما يقال له: هيجار ( Higar) ، يتفجر من جبل يقال له: كورد ( Cardel) عليه الثلج صيفاً وشتاءً، وتنحدر منه مياه إلى الوادي الجوفيّ، منحدرة إلى الغرب، ومن مياهه ما ينحدر إلى الشرق، وهي مياه هيجار التي تجري مسافة ستة عشر كيلو متراً، ثم تلتقي مع مياه إبره، التي تنبع من غربيّ مكان يقال له: رينوزه ( Reinosa) ، وهذا الوادي يخرج من بحيرات صغيرة. بين تلك الجبال المتفرعة من جبال البُرْت. ثم تمد إبرة عدّة أنهار، حتى يعدل ماؤه عندما يصل إلى ميراندة بعشرين ألف متر مكعب في الثانية. وعندما يصل إلى لوكروني بواحد وثلاثين ألف متر مكعب في الثانية، فإذا وصل تُطِيْلَة صار يصب (45200) متراً مكعباً في الثانية، وهو يسقى عند تطيلة جانباً من بسيط أراغون الذي لولاه لكان أشبه بصحراء إفريقية (2). كما يسقي مدينة سرقسطة (3)، ومدينة ناجِرَة (4)، وهي مدينة في شرقي الأندلس من أعمال تُطيلة (5). ب - الوادي الكبير Guadilquivir: _______ (1) جغرافية الأندلس وأوروبا (57). (2) الحلل السندسية (2/ 68) و (2/ 114). (3) الحلل السندسية (2/ 118) و (2/ 119) و (2/ 121). (4) الحلل السندسية (2/ 177). (5) معجم البلدان (8/ 235).

ج - نهر تاجه Togo:

ينبع نهر الوادي الكبير من الجبال الوسطى في الأندلس، وينصب بحذاء بَطَلْيَوْس ( Badajoz) بقرب خليج قادس ( Cadix) (1) . ج - نهر تَاجُهْ Togo: ينبع من جبال البرت، وينصب في المحيط الأطلسي، وتقع عليه مدينة طُلَيْطُلَة (2)، ومدينة طَلَبِيْرَة (3) ولشبونة (4) (إشبونة Lisbonne أو Lisboa) . وهذا النهر يخرج من ناحية الجبال المتّصلة بالقلعة (5) والفنت (البونت Alpuente) . فينزل ماراً باتجاه الغرب إلى مدينة طليطلة، ثم إلى طلبيرة ( Talevera de la Reina) ، ثم إلى المخاضة، ثم إلى القنطرة ( Alcantra) ، ثم إلى قنيطرة محمود، ثم إلى مدينة شنترين ( Santaren) ، ثم إلى لشبونة، فيصب هناك في البحر (6). د - النهر الأبيض: ينبع من جبال البرت (7)، ويمر بمدينة مُرْسِيَة (8)، ويمر هذا النهر بحصن أفرد ( Ferez) ثم إلى حصن مُوْلَة ( Mula) ثم إلى مرسية، ثم إلى المَدُوْر، إلى البحر (9).

(1) الحلل السندسية (1/ 28). (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (87). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (89). (4) الحلل السئدسية (1/ 92). (5) المقصود بها: قلعة كبريال، وهي إلى الشمال الغربي من: الفنت التي يسميها الأسبان: البونت Alpuente، انظر الحلل السندسية (1/ 104). (6) الحلل السندسية (1/ 117). (7) الحلل السندسية (1/ 116). (8) الحلل السندسية (1/ 111) و (1/ 114). (9) الحلل السندسية (1/ 117).

و - المجمل:

و - المجمل: وهناك عدّة أنهر، لا مجال للدخول في تفصيلاتها، ولكن لا بأس من ذكر أسمائها فقط، ومَن أراد التفصيل، يرجع إلى المصادر المعتمدة حولها. من هذه الأنهر، نهر لارِدَة الذي فيه معدن الذهب (1). ونهر أرلْنِسون ( Arlencon) تراه أكثر السنة شحيحاً، ولكن له فيضانات مدهشة، ويسقي مدينة بُرْغُش (2) ( Burgos) . ونهر أريسمة الذي يسقي مدينة شَغُوْبِيّة (3) ( Segovia) ، وهي من مدن قشتالة. ونهر برباط، وهو الذي يمر بقرب الموضع المسمى اليوم: ( Alola de Los Gazules) (4) . ونهر بكة ( Bacca) ، وبكة بالقرب من الطرف الأغرّ (5). ونهر بسيورقة الذي تقع على ضفته اليمنى: بلد الوليد ( Valladolid) ، وهذه اللفظة عربية محرّفة من بلد الوالي، وهكذا سمّاها العرب، فأضاف إليها الإسبان حرف الدال، فصار الإنسان يتوهم أنها بلدة بناها رجل يقال له: الوليد، وهي اليوم مركز مقاطعة بهذا الاسم (6). ونهر بلون ( Guadabellon) على بُعد ميل من مدينة جَيَّان، وهو نهر كبير، عليه أرحاء كثيرة جداً (7). ونهر بيداسوا ( Bidassoa) ، وهو الحدود بين إسبانيا وفرنسة من جهة الشمال الغربيّ، وهو يجري بين هنداي ( Hendaye) وفونترابية ( Fontarabie) ، وهناك جزيرة اسمها: الحجل، في وسط هذا النهر، اتفقت فرنسة وإسبانيا من قديم الزمان على جعلها منطقة محايدة (8). ولْهر الوادي الجوفي، أي نهر دورو ( Douro) ، وأوّل منابع هذا _______ (1) جغرافية الأندلس وأوروبا (129). (2) الحلل السندسية (1/ 334). (3) الحلل السندسية (1/ 360 - 361). (4) الحلل السندسية (1/ 82). (5) الحلل السندسية (1/ 334). (6) الحلة السندسية (1/ 338 - 339). (7) الحلل السندسية (1/ 128). (8) الحلل السندسية (1/ 328).

النهر مكان يقال له: أوربيون ( Urbion) على علوّ (2255) متر عن سطح البحر، بين شارات دمندا ( Demanda) وشارات سان لورانزو ( Lorenzo) وشارات سيبوليرا ( Cebollera) ، وهي التي تنحدر منها مياه نهر إبره أيضاً. وأصل اسمه: دورو ( Duero) مشتق من لفظة: دور ( Dour) ، ومعناها: الغزارة. والنهر الجوفي هذا يجري على ارتفاع سبعمائة متر فوق سطح البحر، فهو يسقي بسائط في غاية الاتِّساع، إلى أن يصل إلى بلد الوليد، التي -هي على يمينه- وفي أوّل مجراه، يثحدر إنحداراً خفيفاً حتى يصل إلى الحدود بين إسبانيا والبرتغال، فهو ينصب هناك بحرية شديدة، في مضايق تجعل منه نهراً هائلاً، ويصير مجراه في غاية العمق، وفي بعض الأماكن ترتفع ضفافه مائتي متر عن سطح المياه، وأحياناً تتقارب الضفتان تقارباً شديداً، وينحصر الماء انحصاراً عجيباً، وتتكوّن من هذا الوادي شلاّلات، لو استخدمت قوتها الكهربائية لجاءت بالخوارق. ولكن عندما يدخل في بلاد البرتغال ينبسط في الأراضين، ويعود هادئاً. وللوادي الجوفيّ أنهر تمدّه من اليمين ومن الشمال، منها: دوراتون ( Duraton) ، وسيغة ( Cega) ، وأداجة ( Adaja) ، وزابارتيال ( Zapartiel) ، وطورماس ( Tormes) (1) . ونهر حَدَرُّه ( Darro) الذي يشقّ مدينة غرناطة إلى نصفين، وعلى جنوبيها وادي الثلج المسمى: شنيل ( Xenil) ومبدأ من جبل شيلر وهو جبل الثلج. ونهر نرفيون ( Nervion) الذي تقع عليه بلدة بِلباو ( Bilbao) قاعدة مقاطعة بسكاي (2). ونهر شَقْر ( Rio Jucar) الذي تقع عليه مدينة بَلَنْسِيَة في جنوبيّ الأندلس (3)، ونهر شَقْر (4) الذي فيه جزيرة شَقْر ويقع عليه حصن قلبيرة ( Cullero) (5) . ونهر الملاّحة التي تقع عليه مرّية بلِّيش، ويسميها الإسبان ( Torre del _______ (1) الحلل السندسية (1/ 318 - 319) (2) الحلل السندسية (1/ 231 - 232). (3) الحلل السندسية (1/ 30 و 109 و 110 و 319). (4) الحلل السندسية (1/ 30). (5) الحلل السندسية (1/ 109 - 110).

Marre) ، وهذا النهر يأتي من ناحية الشمال، فيمر بالحَمَّة، ويتصل بأحواز حصن صالحة ( Zalia أو Saliha) وقد خُرِّب بعد جلاء العرب عن غرناطة، فيقع في هذا النهر جميع مياه صالحة، وتنزل إلى قرية الفشاط ( Al-Fachat) ، وتصب هناك في غربي حصن مرية بلِّش في البحر (1). ونهر ملبال، وقلعة ملبال تقع على نهر ملبال، وهو نهر مدينة فرنجُلوش ( Hornachuelos) ، ويؤدي هذا النهر إلى حصن المدور إلى قرطبة (2). ونهر منديق ( Mondego) ، الذي تقع عليه مدينة قُلُمْرِيَّة، وهي في نهاية الحصانة، وجريه على غربيِّها، ويتّصل جري هذا النهر إلى البحر، وعلى مصبِّه حصن مُنْت مَيُور ( Montemayor) ولها على النهر أرحاء (3). ونهر ميل الذي تقع عليه مدينة المُنَكّب ( Almunecar) وهي مدينة حسنة متوسطة كثيرة مصايد السمك، وبها فواكه جمّة (4). ونهر مينو ( Minho) ، وهو ينحدر إلى المحيط الأطلسي وينصبّ فيه (5)، ونهر شنقورينة المشتق من نهر شَقْر، ويصبّ في البحر الأبيض المتوسط (6). ونهر وادي يانَة ( Guadiana) الذي يصب في المحيط الأطلسي، وهو نهر ماردة وبطليوس، وعليه حصن مارتُلة ( Martola) المشهور بالمنعة والحصانة. ونهر يانَة نهر كبير، ويسمى نهر الغؤر، لأنه يكون في موضع يحمل السفن، ثم يغور تحت الأرض، حتى لا يوجد منه قطرة، فسُمّي الغؤر لذلك، وينتهي جريه إلى حصن مارتلة، ويصبّ في قريب من جزيرة شلطيش. وهذا النهر يمر بقرية يانة ( Ana) إلى قلعة رباح، ثم يسير منها إلى حصن أرَنْدَة ( Aranda) ومنه إلى ماردة، ثم يمر بمدينة بَطَلْيَوْس، _______ (1) الحلل السندسية (1/ 123). (2) الحلل السندسية (1/ 135 - 136). (3) الحلل السندسية (1/ 91 - 92). (4) الحلل السندسية (1/ 122)، ومدينة المنكب: بلد على ساحل جزيرة الأندلس، من أعمال إلبيرة، بينه وبين غرناطة أربعون ميلاً، أنظر معجم البلدان (8/ 184). (5) الحلل السندسية (1/ 28). (6) الحلل السندسية (1/ 30).

فيصير منها إلى مقربة من شريشة ( Xeres de Estramadura) وهي غير شريش البلدة المشهورة بقرب إشبيلية التي ينسب إليها الشريشيّ شارح مقامات الحريري، ثم يصير النهر إلى حصن ميرتُلة، فيصبّ بالبحر المظلم (وهو المحيط الأطلسي)، ويمرّ بالأصل في بدايته بقشتالة الجديدة (1). ونهر شطوبر ( Chetvubar) على اسم مدينة بهذا الاسم تقع عليه، وهو نهر كبير تصعد فيه السُّفن والمراكب السفرية كثيراً (2). ونهر آرغة ( Araga) ، الذي تقع عليه مدينة بَنْبلُوْنَة، وينبع من جبال البرت. ومن تلك الجبال ينبع نهر جِلِّق ( Gallego) الذي يمرّ بأراضي سَرَقُسْطَة ويتّصل بنهر إِبْرُهْ (3). والخلاصة أن قسماً من المؤرخين قالوا: طول الأندلس ثلاثون يوماً، وعرضها تسعة أيام، ويشقّها أربعون نهراً كباراً، وبها من العيون والحمامات والمعادن لا يُحصى، وفيها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلاثمائة من المتوسِّطة، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يُحصى كثرةً، حتى قيل: إنّ عدد القرى التي على نهر إشبيلية إثنا عشر ألف قرية، وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعاً في يومه إلاّ بالأندلس. ومن بركتها أنّ المسافر لا يسافر فيها فرسخين دون ماء أصلاً (4). كما يقول ابن حوقل عن الأندلس: " ... تغلب عليها المياه الجارية، والشجر والثمر، والرّخص والسعة في الأحوال .. " (5). وكما يقول الرازي عنها: " ... طيِّبة التربة، مخصبة القاعة، منبجسة العيون الثّرار، منفجرة بالأنهار الغزار .. " (6). _______ (1) الحلل السندسية (1/ 28 و 86 و 88 و 89 و 99 و 319). (2) الحلل السندسية (1/ 88). (3) الحلل السندسية (2/ 116)، ويقرأ نهر آرغة بنهر أرقا، أنظر الحلل السندسية (2/ 134 و 174). (4) الحلل السندسية (1/ 260)، وأنظر نفح الطيب (1/ 208 - 209). (5) صورة الأرض (104)، أنظر نفح الطيب (1/ 211). (6) أنظر نفح الطيب (1/ 140).

إن الأندلس، لكثرة أنهارها وعيونها، كانت كثيرة الخيرات، خصبة كثيرة الزروع والأشجار، جيدة الفاكهة والثمار، تدرّ على الزرّاع أجود الحاصلات الزراعية، وعليهم وعلى السكان ما يحتاجون إليه مما تنبت الأرض.

السكان

السكان من الأمثال المضروبة في أوروبة، أنَّ جبال البُرْت (البُرْتات) أو كما يطلق عليها قسم من العرب: جبال البرانس (1) ( Pyrenees) ، هي الحدّ الفاصل بين أوروبة وإفريقيّة. ويقولون: إذا تجاوزت معابر جبال البُرْت، فاعلم أنّك قد دخلت إفريقيّة (2). والواقع أن هناك اختلافاً في الجغرافية الطبيعية بين الأندلس من جهة، وأوروبة من جهة ثانية، أما من ناحية السكان، قبل الفتح الإسلامي، فلا شكّ في أن أهل الأندلس أوربيون من ناحية سلالتهم، ولكن اختلاطهم بالبربر والأمم السامية الأخرى، قروناً طويلة، جعل منهم أمّة وسطاً بين الشرق والغرب، إذ يذهب كثير من المؤرخين الأجانب، إلى أنّ الإيبيريين الذين هم سكان إسبانيا الأولون، هم والبربر من أصل واحد. ويستدلّون على ذلك بالتشابه بين عادات الأمتين، من ذلك ما رواه سترابون من أنّ المرأة كان لها المقام الأول عندهم إلى زمن الرومانيين، وهذه العادة معروفة الآن عند الطوارق مِن اليربر في صحراء إفريقيّة، كما أنّ السليتين جاءوا من أوروبة الوسطى فاختلطوا بالإيبيريين، كما أن قرطاجنّة أرسلت إلى إسبانيا مهاجرين كثيرين من إفريقيّة، وقبل قرطاجنّة كان الفينيقيون قد عمروها، وهكذا كان سكان إسبانيا عناصر غربية تأتي من شمال جبال البُرْت، وعناصر شرقيّة تأتيها _______ (1) تسمى هذه الجبال أحياناً: البرانس، والظاهر أنّها تسمية خاطئة، لأنّ جبال البرانس تقع شمالي قرطبة، وتعرف أيضاً بجبال المعدن ( Sierra de Almaden) ، أنظر جغرافية الأندلس وأوروبا (85) و (129) والروض المعطار (142) ونفح الطيب (1/ 143) ودولة الإسلام فى الأندلس (1/ 53 و 82) وتاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس (261) والتاريخ الأندلسي (35). (2) الحلل السندسية (1/ 24).

من جنوبي مضيق جبل طارق (1)، وتختلط هذه العناصر بالسكان الأصليين. ثم إنّه طرأ على إسبانيا جاليات يونانية -وبخاصة أيام الإسكندر المقدوني الذي كان له جهود في فتح مضيق الزقاق أو بحر المجاز أو مضيق جبل طارق (2) -، وقد نزلت الجاليات اليونانية في أقسام إسبانيا الشرقيّة (3). وتلاها جاليات رومانية غلبت على جميعها، وفي أثناء ذلك دخلها عدد كبير من يهود. وبعد أن دخلها السليتيون واللاّتينيون واليونان واختلطوا بسكّانها الإيبيريين، وجاء القرطاجنيون والفينيقيون ويهود من السلالات الآسيويّة، واختلطت هذه المجموعات البشرية ببعضها، جاءتها موجات بشرية أهمها الفندال والقوط الذين ملكوها وكانوا الطبقة السائدة فيها عندما فتحها المسلمون (4). واسم الأندلس مأخوذ من قبائل الوندال ( Vandals) التي تعود إلى أصل جرماني، احتلت الأندلس حوالي القرن الثالث والرابع الميلاديين وحتى القرن الخامس الميلادي، فسميت باسمها: ( Vandalusia) أي: بلاد الوندال (5). واحتل القوط الغربيون الأندلس في أوائل القرن الخامس الميلادي، وهؤلاء القوط الغربيون ( Visigoths) هم الذين طردوا الوندال ( Vandals) إحدى القبائل الجرمانية المتبربرة من الأندلس، فاستبدّ القوط بالحكم (6). والقوط الغربيون، قسم من القوط ( Goths) ، وجماعة رئيسة من الجرمان، _______ (1) نفح الطيب (1/ 133). (2) نفح الطيب (1/ 145 - 146) و (1/ 135). (3) الحلل السندسية (1/ 25). (4) الحلل السندسية (1/ 26). (5) التاريخ الأندلسي (37). (6) فجر الإسلام (2) ودولة الإسلام في الأندلس (1/ 27 - 29) وأوروبا والعصور الوسطى - عاشور- (1/ 88).

انفصلوا من القوط الشرقيين في أوائل القرن الرابع الميلادي، وقد توغلوا في شمالي إسبانيا، ثمّ وسّعوا ممتلكاتهم الإسبانية على حساب الوندال، وأخيراً أصبح تاريخ القوط الغربيين هو تاريخ إسبانيا، واعتنقوا الكاثوليكيّة واندمجوا بالإسبان، وكان آخر ملوكهم لُذَريق الذي هزمه طارق بن زياد (1). وكان البَشْكُنْس ( Basques) وهم أمّة عظيمة (2)، سكّان بلاد نافار ( Navarra) التي كانت بَنْبُلُوْنَة ( Pamplona) عاصمة لها. وتقع نافار شرقي مملكة ليون محاذية لجبال البُرْت التي تفصل بين إسبانيا وفرنسة. وهم أمّة مستقلّة بنفسها، وأصل اسم هذه الأمة هو الباسقو نغادوس ( Vascongados) ، ومنه اشتق اسمها الحالي: الباسك ( Les Basques) ، ومنهم من يتكلم الإسبانية أو الفرنسية، ولكن أكثرهم لا يتكلّمون بغير لغة البَشْكُنْس، وهم من أشدّ أمم الأرض استمساكاً بقوميتهم واحتفاظاً بخصوصيّتهم، يزعمون أنّهم أقدم أمّة في أوروبة، ولا نزاع في أنّهم بقايا الشعب الإيبيري القديم، والثمالة الخالصة المحضة التي لم تدخل عليها شائبة من ذلك الشعب الإيبيري القديم. وهم أشداء جبليون، موثقو الخَلْق، تغلب عليهم السُّمرة، إلاّ مَن كان منهم في أعالي الجبال، فَيَغلب عليهم الّلون الأشقر، شمُّ الأنوف، محدّدو الأذقان، شعورهم مائلة إلى السّواد، لهم زي خاص بهم لا يعرفون سواه، بقيت منه حتى اليوم طاقية من الصوف يقال لها البوانا ( Laboina) لا يزالون يلبسونها على رءوسهم. وأما عاداتهم القديمة، فمنهم مَن تركها، ومنهم مَن لا يزال يعضّ عليها بالنواجذ حتى اليوم، فتجدهم يستعملون محاريثهم القديمة، وعجلات تجرّها البقر، وعليها نير مزخرف مغطى بجلد ضان، وعندهم نوع من الرقص في أعيادهم ومواسمهم يسمّونه أوريسكو (3)، يجرونه على صوت مزمار صغير يسمى: دولسينية (4)، _______ (1) الموسوعة العربية الميسرة (1407 - 1408) وأنظر نفح الطيب (1/ 137 - 140). (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (79). (4) أوريسكو: Aurrescu. (5) دولسينية: Dulsinya.

مع قرع الطبول. والبشكنس من أشدّ أمم الأرض حباً بالحريّة وأنفة من قبول الضّيم، وكما كانوا يردّون غارات المسلمين من الجنوب، كانوا يردّون غارات الفرنج من الشمال، وكانت مواقع بلادهم الجبلية، تساعدهم على ردّ غارات تلك الأمم، فإنّ مساكنهم أكثرها في الجبال، تحيط بها الأوعار، والأرض كما يقال: تقاتل مع أهلها (1). وهم الذين أوقعوا بجيش شارلمان عند سَرَقُسْطَة بعد أن عجز عن أخذها. ولم يخضع البشكنس لملوك ليون وملوك نَبَارة وملوك قشتالة، إلاّ على شرط احترام هذه الدول لعاداتهم وتقاليدهم. وكانت لهم امتيازات يقال لها: فُيُورس ( Fueros) ، ولم تزل امتيازاتهم هذه محفوظة (2). وعلى وجه الإجمال، فإنّ السلالة الآريّة هي الغالبة في القسم الشمالي الغربيّ من إسبانيا، لذلك فإنّ أجسامهم أقوى وعضلاتهم أصلب من سكّان وسط الأندلس وجنوبيها. ومن السلالة الآرية القشتاليون، الذين يعتبرون أنفسهم من سكّان البلاد الأصليين. ومثل القشتاليين في الحميّة أهل أراغون وأهل مقاطعة مُرْسِيَة. أما سكّان المقاطعات الجنوبية من الأندلس، فيغلب على أهلها الذكاء والجمال والسرور وحبّ الترف، لأنّهم مزيج من شعوب شتى (3). إنّ موقع إسبانيا الجغرافيّ، وخصوبة أرضها، وغزارة مياهها، وطيب جوّها، جعلها مطمح كثير من الأقوام جماعات وأفراداً، وملتقى كثير من الشّعوب الغزاة تارة والمهاجرين تارة أخرى، مما هيّا لها أسباب امتزاج تلك الشعوب، وجعلها شعباً واحداً، يعيش في منطقة جغرافيّة واحدة، إذا اختلفت في جذورها، فهي لا تختلف في بنيتها الراهنة بعد امتزاجها وانصهارها في شعب واحد، هو الشعب الإسباني، في بلاده إسبانيا. _______ (1) تساعد المدافع على الدفاع، وتعرقل هجوم المهاجم. (2) الحلل السندسية (1/ 321 - 322). (3) عن جوسه - جغرافية إسبانيا والبرتغال، نقلاً من الحلل السندسيهّ (1/ 25 - 26).

الموارد الاقتصادية

الموارد الاقتصادية 1 - المناخ العام: قال أبو عُبَيدة البكري: "الأندلس شاميّة في طيبها وهوائها، يمانيّة في اعتدالها واستوائها، هنديّة في عِطْرِها وذكائها، أهوازية في عظم جِبايتها، صينيّة في جواهر معادنها، عَدَنيّة في منافع سواحلها، فيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة" (1). وقال لسان الدين بن الخطيب: " ... خصّ الله تعالى بلاد الأندلس من الرَّيْع وغَدَق السُّقيا، ولذاذة الأقوات، وفَرَاهَة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحّر العمران، وجودة الِّلباس، وشرف الآنية، وكثرة السِّلاح، وصحّة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونُبْل الأذهان، وفنون الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدّن والاعتمار، بما حُرِمَهُ الكثير من الأقطار مما سواها" (2). وقال أبو عامر السّالِميّ (3)، في كتابه: "درر القلائد وغرر الفوائد": "الأندلس من الإقليم الشّاميّ وهو خير الأقاليم وأعدلها هواءً وتُراباً، _______ (1) أبو عبيد البكري (ت 487 هـ/ 1094 م) صاحهب المسالك والممالك، أنظر ترجمته في: جغرافية الأندلس وأوروبا (29 - 47)، وأنظر هذا النص في الروض المعطار (3) والمنتقى من فرحة الأنفس (281) ونفح الطيب (1/ 126). (2) نفح الطيب (1/ 125 - 126). (3) أبو عامر السالمي: محمد بن أحمد بن عامر، كان أديباً مؤرِّخاً حافظاً، صنّف في الحديث والآداب والتواريخ مصنّفات كثيرة مفيدة، وكتابه: درر القلائد وغرر الفوائد، في أخبار الأندلس وأمرائها وطبقات علمائها وشعرائها، وقف منه ابن عبد الملك على السفرين الأول والثاني، أنظر ترجمته في التكملة (495) والذيل والتكملة الورقة (3) من مخطوطة المتحف البريطاني، نقلاً من الفقرة (2) من الصفحة (126) من كتاب نفح الطيب.

وأعذبها ماء، وأطيبها هواء وحيواناً ونباتاً، وهو أوسط الأقاليم، وخير الأمور أوسطها " (1). وقال الرازي (2): "الأندلس بلد كريم البقعة، طيِّب التربة، خصب الخباب، مُنْبَجِس بالأنهار الغزار والعيون العِذاب، قليل الهوامّ ذات السُّموم، معتدل الهواء والجوّ النسيم، ربيعه وخريفه وَشْتَاه ومصيفه على قدر من الاعتدال، وسِطَةٍ من الحال، لا يتولّد في أحدها فَضْل يتولّد منه فيما يتلوه انتقاص، تتّصل فواكهه أكثر الأزمنة، وتَدوم متلاحقة غير مفقودة. أمّا السّواحل منه ونواحيه فيبادر بباكورة، وأمّا الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء، فيتأخّر بالكثير من ثمره، فمادة الخيرات بالبلد متمادية في كلّ الأحيان، وفواكهه على الجملة غير معدومة في كلّ أوان .. " (3). ووصف المناخ من المؤلِّفين الأندلسيين القدامى، لا يقتصر على وصف المناخ حسب، بل يشمل المنتوجات الزراعية والحيوانية أيضاً، فهو من هذه الناحية مفيد للغاية في بحث الموارد الإقتصادية للأندلس، وعلى كلّ حال فالعلاقة وثيقة بين المناخ والموارد الإقتصادية للبلد الواحد كما هو معروف. إنّ جو الأقاليم الوسطى من الأندلس، هدف لشدة القيظ في فصل الصّيف، وكثرة البرد في الشتاء، وذلك لبعدها عن المحيط الأطلسيّ، وقلة تأثيره فيها، وقلّما تنزل فيها الأمطار (4). ولكن الأقاليم الشمالية باردة، لأنّها جبلية، وتصلح أن تكون مصايف متميِّزة صيفاً لطيب هوائها وغزارة مياهها. أما الأقاليم الساحلية، فمناخها هو مناخ حوض البحر الأبيض المتوسط اعتدالاً في هوائها وفصولها السنوية الأربعة، وهي مصايف جيدة لطيب جوِّها _______ (1) نفح الطيب (1/ 126). (2) أحمد بن محمد الرازي: من كبار المؤرخين والجغرافيين الأندلسيين في ظل حكم بني أُميّة في الأندلس، وهو جدّ الرازي الذي يعتمده ابن حيّان في المقتبس، أنظر جذوة المقتبس (97). (3) نفح الطيب (1/ 129 - 130). (4) الجغرافية العمومية (289).

2 - الموارد الزراعية والحيوانية:

وكثرة فواكهها. 2 - الموارد الزراعية والحيوانية: من خواص طُليطلة، أنّ حنطتها لا تتغيّر ولا تتسوّس على طول السنين، يتوارثها الخلف عن السّلف (1)، ومن الواضح أنّ هناك مبالغة في وصف استمرارية بقاء هذه الحنطة دون غيرها من أصناف الحنطة، فالأندلسيون غالباً مغرقون في الثناء على الأندلس، وكلّ فتاة بأبيها معجبة، ولكن يبدو أنّ الأندلسيين أكثر إعجاباً ببلادهم من غيرهم. ويزرع في الأندلس الشّعير والذرة والأرز والعدس والفول والبصل والفوم، والعنب والحمضيات والتين، والزبيب والتُّوت، والبنجر وأنواع الخضر، والتفاح والموز والبرقوق والكمثرى والمشمش والتين الشوكيّ والخوخ والرمان وقصب السكّر. وترعى دودة القزّ أوراق شجر التوت، كما يزرع الكتان. ومعظم سكّان الأندلس، يعملون في الزراعة، ومهنة أكثرهم الفلاحة، وأشهر الزروع في الأندلس الكروم والفواكه، وتربّى قطعان الأغنام والمعز والأنعام كثيراً (2)، وتكثر فيها الخيول والبغال والحمير، وتربّى الدواجن في المزارع بخاصة وفي البيوت أيضاً، وتستغل مياه الأنهر والبحار لصيد الأسماك. وفيها من العطور النباتيّة أنواع، فيوجد في ناحية دَلاية (3)، من إقليم البشرة (4): عود .................................................. _______ (1) نفح الطيب (1/ 143). (2) الجغرافية العمومية (289)، وأنظر نفح الطيب (1/ 200). (3) دلاية: Dalias، بلد قريب من المرية من سواحل بحر الأندلس، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 67). (4) البشرة: أو البشرات، أو البشارات ( Alpujarras) هي منطقة جبال سيرانفادا أنظر الفقرة (1) من الصفحة (141) من كتاب نفح الطيب.

الألَنجُوْج (1)، وهو عود الطّيب، أو العود الهندي، أو النَّد، أو أَلوَّة (2)، وهو شجرة من فصيلة المازَرْيونيات وفصيلة الألَنْجوجيات،، له عود راتينجيّ إذا حُرق سطعت له رائحة جميلة، وكثيراً ما يخلطون عود هذا النبات بعود نبات آخر من فصيلة القرنيات (3)، والألَنْجُوْج من كلمة يونانية أصلها سنسكريتي (4)، ويعمل من هذه العود البخور الطيّب، لا يفوقه العود الهندي ذكاء وعطرَ رائحة، وقد سيق منه إلى خَيران الصقلبيّ (5) صاحب المَرِيَّة، وأنّ أصل مَنْبَتِه كان بين أحجار هنالك، وبأكْشُونبة ( Ocsonoba) جبل كثيراً ما يتضوّع ريحه، ريح العود الذّكيّ إذا أرسلت فيه النار. وببحر شَذُوْنَة يوجد العَنْبَر (6) الطيِّب الغربيّ، وفي مُنْت ليُون ( Mentileon) المَحْلَب. واسمه العلمي: ( Cerasus Mahaleb) (7) ، وهو شجر من الفصيلة الوردية، وله عدّة أنواع. ويوجد بالأندلس القُسْط الطيِّب ( Aromate) (8) ، وهو عود يتبخّر به (9)، كما يوجد السُّنْبُل الطيب، وهو جنس من النباتات العشبيّة المُعَمّرة، من الفصيلة الناردينيّة، أزهارها على شكل عناقيد أو سنابل بيضاء أو حمراء أو ورديّة، وجذورها غلاظ، تستعمل لأغراض _______ (1) هو Aquilaria، أنظر: معجم الشهابي في مصطلحات العلوم الرياضية (37). (2) المختص لابن سيد (11/ 198). (3) اسم هذا النبات العلمي: Aloexyon agallochum، وقد أعانني على شرح العطريات الدكتور جابر الشكري. (4) معجم الشهابي في مصطلحات العلوم الرياضيّة (37). (5) خيران الصقلبي: من أوائل الفتيان الذين أعلنوا استقلالهم بعد انهيار الدولة الأُموية بالأندلس على أثر الفتنة البربرية سنة 399 هـ، واتخذ المريّة مركزاً له، أنظر أعمال الأعلام (210 - 215). (6) العنبر: مادة صلبة، لا طعم لها ولا ريح إلا إذا سُحقت أو أحرقت، يقال: إنها روث حيوان بحري. (7) معجم الشهابي (123). (8) معجم الشهابي (42). (9) الإفصاح (2/ 1115).

طبية (1)، وهو من النباتات الطيِّبة الرِّيح (2). والجَنْطيانة، تُحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق، وهو عقار رفيع (3). والمُرّ (4) الطيِّب بقلعة أيُّوب (5)، وأطيب كهرباء الأرض (6) بشَذونَة، درهم منها يَعْدِل دراهم من المجلوبة. وأطيب القِرْمِز (7)، قرمز الأندلس، وأكثر ما يكون بنواحي إشْبِيلِيَة ولَبْلَة وشَذونَة وبَلَنْسِية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق (8). وزعفران طُليطلة هو الذي يعمّ البلاد، ويتجهّز به الرِّفاق إلى الآفاق، _______ (1) معجم الشهابي في المصطلحات الزراعيّة (766)، واسم السنبل العلمي: ( Valeriana) وهي مقتبسة من اليونانية. (2) الإفصاح (2/ 1164). (3) الجنطيانة: سمي باسم ملك من ملوك اليونان، أنظر كتاب القانون في الطب (283)، وهو صنف من أصناف النبات ينبت في الجبال، يفيد الكبد والطحال وينفع من عرق النسا، أنظر كتاب المعتمد في الأدوية (75)، وجذوره مرّة غير قابضة، خافضة للحرارة، منبهة، منشطة للهضم، أجودها الأصفر، أنظر تذكرة أرمانيوس (98). ولهذا النبات ذكر في معجم تاج العروس، فليرجع إليه من أراد. (4) المرّ: اسمه العلمي هو ( Myrrha) ، وهو أشجار كبيرة الحجم، كثيرة الأنواع، طيِّبة الرائحة، وهي من الأشجار البابليّة، والاسم البابليّ: مُرّ، ورد في النصوص البابلية القديمة، واسمه الأجنبي كاسمه البابلي، الذي نقله الأوربيون عن عرب الأندلس، وأنظر ما جاء عنه في معجم الشهابي في المصطلحات الزراعيّة (483). (5) قلعة أيوب ( Caltayud) : وهي بقرب مدينة سالم، بينها وبين دروقة عشرون ميلاً، وهي مدينة عظيمة جليلة القدر في الأندلس من أعمال سرقسطة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 148 - 149). (6) كهرباء الأرض: مادة صمغية، توجد عند سواحل البحر بالأندلس، والنوع الأندلسي منما أصغر وأصلب من المشرقيّ، وتدخل في تحضير بعض الأدوية، أنظر الفقرة (9) من نفح الطيب (1/ 141). (7) القرمز ( Cochineale) : وهو أنواع كثيرة الفراشات، وهي فراشات لها شهرة كبيرة في تاريخ الأصباغ، إذ تستخرج منها أصباغ كثيرة، تُعرف باسم: القرمزيّات، فيقال: لون قرمزي، وصبغ قرمزي، لونه أحمر قانٍ. (8) أنظر جغرافية الأندلس وأوروبا (124 - 126) ونفح الطيب (1/ 140 - 142).

3 - المعادن والأحجار الكريمة:

وكذلك الصبغ السمّاوي (1). وفي بحر الأندلس، بجهة الغرب، يخرج العَنْبَر الجيِّد المقدّم على أجناسه في الطيب والصبر على النار (2)، هذا بالإضافة إلى وجوده ببحر شَذُونَة -كما ذكرنا ذلك قبل قليل-. والمقدَّم في الأفاده المفضّل في أنواع الإشنان، لا ينبت في شيءٍ من الأرض إلاّ بالهند والأندلس (3). وبنواحي ال (منتلون) يكون البَرْبَاريْس (4) العجيب (5). ومن الواضح جداً، أنّ المؤلِّفين الأندلسيين بخاصة، ركَّزوا على المزروعات العطريّة والإنتاج العطريّ لبلادهم، مما يدل على اهتمامهم بالعطور أولاً، وهذا يشير إلى اهتمامهم بكماليّات الترف، ورغبتهم فيه، واتِّجاههم إليه، وهذا الترف كان من عوامل خسارة الأندلس، فمن الصعب على المترف أن يقاتل كما يقاتل الرجال، لأنّه يحبّ الحياة ويخاف الموت. 3 - المعادن والأحجار الكريمة: يكون حجر الَّلازَوَرْد (6) الجيد بناحية لَوْرَقَة من عمل تُدْمِيْر، وقد يوجد في _______ (1) نفح الطيب (1/ 143). (2) نفح الطيب (1/ 140). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (125 - 126)، والأشنان شجر من فصيلة الرَّمراميّة، ينبت في الأرض الرملية، ويستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي. (4) البرباريس، ورد في آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني (503): الانبرباريس، وهو اسم من أسماء هذا النبات، ومن أسمائه: أمِيْر باريس، أمير ياريس، إلى غير ذلك، واسمه العلمي: ( Berberis) ، أنظر معجم الشهابي في مصطلحات العلوم الزراعية (68)، وفيه: أَمْبَرباريس، أنْبَرباريس، وهو من الفصيلة البرباريسيّة، كثيرة التويجات، من ذوات الفلقتين، تزرع للزينة. (5) جغرافية الأندلس وأوروبا (126). (6) الّلازورد: من الأحجار الكريمة، لونه أزرق سماويّ أو بنفسجي، يستعمل للزينة، وأجوده ما كان فيه خطط حمر ذهبيّة، واسمه ( Lapislazuli , Lazuritte) .

غيرها، وعلى مقربة من حصن لُوْرَقَة من عمل قُرطبة معدن البِلَّور (1)، وقد يوجد بجبل شميران، وهو شرقي يبره. والحجر البِجَادِيّ (2) يوجد بناحية مدينة أشبونة، في جبل هناك يتلألأ فيه ليلاً كالسراج. والياقوت الأحمر (3) موجود بناحية مُنْت ميور في كورة مالَقَة، إلاّ أنّه دقيق جداً لا يصلح للاستعمال لصغره. ويوجد حجر يشبه الياقوت الأحمر بناحية بَجَّانَة (4) بخندق يُعرف بقرية ناشرة أشكالاً مختلفة كأنّه مصبوغ، حسن الّلون صَبُور على النار. وحجر المغناطيس الجاذب للحديد، يوجد في كورة تُدْمِيْر. وحجر الشّاذنة (5) بجبال قرطبة كثير، ويُستعمل في ذلك التذاهيب. وحجر اليهودي (6) في ناحية حصن البونت (7)، وهو أنفع شيءٍ للحصاة. وحجر المرقشيثا (8) الذهبيّة في جبال .......................................... _______ (1) البِلَّوْر= البَلُّوْر: حجر أبيض شفاف، وهو ( Rock Crystal) . (2) البجادي والبيداجيّ: حجر كريم يشبه الياقوت، أحمر الّلون تعلوه بنفسجيّة، وهو البزادي أيضاً، وهو ( Garnet) . (3) الياقوت: حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس، ويتركّب من أكسيد الألمنيوم، ولونه في الغالب شفاف مشرّب بالحمرة أو الزُّرقة أو الصُّفرة، ويستعمل للزينة، واحدته أو القطعة منه: ياقوتة، والجمع: يواقيت. (4) بجانة: مدينة كانت من أهم مدن أرش اليمن، أي الإقليم الذي نزل عليه بنو سراج القضاعيون، وكانوا يأخذون أرشه، وهي قريبة من المرية، بينهما ستة أميال. قال ابن سعيد: محدثة بنيت في عهد بني أميّة. وفي معجم البلدان: مدينة بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة خربت، وقد انتقل أهلها إلى المِرية، أنظر معجم البلدان (2/ 61). (5) الشاذنة: حجر يستعمل في مداواة العين وخشونة الأجفان، أنظر الفقرة (6) من نفح الطيب (1/ 142)، والشاذنة أكسيد حديدي طبيعي، يعدّ أهمّ معدن للحديد، أنظر الصحاح قي الّلغة والعلوم (1/ 654)، ويبدو أن التذاهيب هي خشونة الأجفان مرضاً، يداوى بالشّاذنة. (6) أحجار اليهودي: أحجار صغيرة تحتوي على أملاح قلوية كالبوتاسيوم والصوديوم، ويسمى أيضاً حجر الدم، ويستعمل لتداوي الحصاة، أنظر إحياء التذكرة (245) وعجائب المخلوقات للقزويني (246). (7) حصن البونت، Alpuent: شمالي بلنسية. (8) المرقشيثا ( Mercassite) : كان القدماء يطلقونه على البُورِيطس أيضاً، وهو مثله =

أُبَّذَة (1) لا نظير لها في الدنيا، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق لفضلها. والمنغنيسيا في الأندلس كثير، وكذلك حجر الطَّلْق (2). ويوجد حجر الُّلؤلؤ بمدينة بَرْشلُونَة، إلاّ أنّه جامد الَّلون. ويوجد المرجان بساحل البَيْرَة من عمل المَرِية (3)، أقلّ ما لُقط منه في أقلّ من شهر نحو ثمانين ربعاً. ومعدن الذهب بنهر لارِدة يُجمع منه كثير، ويُجمع أيضاً من ساحل أشبونة. ومعادن الفضّة في الأندلس كثيرة في كورة تُدْمير وجبال حَمَّة بَجَّانة (4)، وبإقليم كرتش من عمل قُرطبة معدن فضّة جليل. وبأكشونبة معدن القصدير لا نظير له، يشبه الفضّة، وله معادن بناحية إفرنجة وليون، ومعدن الزئبق في جبل البرانس، ومن هناك يتجهّز به الآفاق. ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرة، ومعدن التُوتِيا الطبيّة بساحل إلْبِيْرَة بقرية تسمى: بَطِرْنَة (5)، وهي أزكى _______ = مركّب من كبزيتور الحديد، ولكنهما يختلفان شكلاً. ومعنى الكلمة الحجر الصلد. وفي مفردات الطب، أنّ منه أصنافاً، منها الذهبي والفضي والنحاسي والحديدي، وكل صنف يشبه ما نسب إليه، أنظر معجم متن اللغة (5/ 285) والصحاح في اللغة والعلوم (2/ 291). (1) أبذة ( Ubeda) إلى الشمال الشرقي من بياسة بينهما سبعة أميال. (2) الطَّلْق ( Talc) : هي سليكات المنغنسيوم المائيّة، ويوجد في الطبيعة، ويُطحن على شكل مسحوق أبيض، يستخدم في تحضير المساحيق، أنظر الصحاح في اللغة والعلوم (4/ 47). وهي حجر برّاق، يتحلّل إذا دُقّ إلى طاقات صغار دقاق، ويشبه الشبّ اليماني، وإذا أُلقي في النار لم يحترق، لذلك كانوا يطلون به المواضع التي قد تُصيبها النار، لكي لا تحترق، أنظر الفقرة (10) من نفح الطيب (1/ 142). (3) أ- بيرة: بليدة قريبة من ساحل البحر بالأندلس، ولها مرسى ترسي فيه السفن ما بين مُرسية والمَرِية. أنظر معجم البلدان (2/ 330). ب- المرية ( Almeria) : مدينة بنيت أيام عبد الرحمن الناصر، وازدهرت في أيام المرابطين، واشتدّ فيها الرخاء، وتقع على الساحل الشرقي إلى الجنوب الشرقي من بجانة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 42 - 43). (4) حمّة بجَّانة: بشرق بجانة، على جبل شامخ فيه معادن غريبة، وفيه الحمة العجيبة الشأن، أُنظر الروض المعطار، نقلاً عن الفقرة (2) من نفح الطيب (1/ 143). والحمّة لغة: العين الحارّة يُستشفى بها الأعلاّء والمرضى. (5) أ- التُوْتِيا= التُوْتِيَاء: حجر يكتحل به، وهو معرّب، أنظر الصحاح في اللغة والعلوم =

توتيا وأقواها في صبغ النحاس، وبجبال قرطبة توتيا وليست كالبطرنيّة. ومعدن الكحل المشبّه بالأصفهاني بناحية مدينة طُرْطُوْشَة (1)، يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشّبوب (2) والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تُحصى (3). وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شَنْت ياقُوه (4) (شنت ياقوب) قاعدة الجلالقة (5) على البحر المحيط. وفي جهة قُرْطُبَة الفضّة والزئبق. والنحاس في شمالي الأندلس كثير، والصُّفْر الذي يكاد يشبه الذهب، وغير ذلك من المعادن المتفرِّقة في أماكنها. والعَيْن الذي يخرج منها ............................................... _______ = (1/ 147)، وهي معدن صلب أبيض ضارب إلى الزرقة، يلين بالإحماء ويطرّق، وهو الزنك والخارصين، ويتخذ منه الكحل. ويستعمل لتغطية سطوح البيوت القليلة الانحدار، ويطلى به الحديد فيقيه الصدأ، وربما استعملوا بعض أملاحه سماداً وسيطاً، أنظر معجم متن الّلغة (1/ 413). ب- إلبيرة ( Elvira) : كورة كبيرة من الأندلس، ومدينة متصلة بأراضي كورة قُبْرة، بين القبلة والشرق من قرطبة، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، وفيها عدّة مدن منها قسطيلية وغرناطة، أنظر معجم البلدان (1/ 322 - 323). ج- بطرنة: قرية من قرى بلنسية، أنظر المغرب (2/ 355). (1) طرطوشة ( Tortosa) : مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية، وهي شرقي بلنسية وقرطبة، قريبة من البحر، أنظر معجم البلدان (6/ 42 - 43). (2) الشّبوب: جمع شبّ، وهو معدن يشبه الملح والنوشادر، وهو كبريتات الأمونيا والبوتاس، وهو بلورات بيض طعمها قابض ( Alun) ، وأما الشب الأزرق فهو كبريتات النحاس، أنظر متن اللغة (3/ 264) والصحاح في اللغة والعلوم (1/ 641). (3) جغرافية الأندلس وأوروبا (124 - 130) ونفح الطيب (1/ 140 - 143). (4) شنت ياقو= سنت ياقوه= سنت يعقوب ( Santiago de Compostela) : في أقصى الشمال الغربي من الأندلس، بمنطقة جليقية، وفيها كنيسة مقدّسة يحجّون إليها، وهي قلعة حصينة، أنظر معجم البلدان (5/ 301). (5) الجلالقة: سكّان جِلِّيْقِيّة التي تمتدّ من نهر دُويره ( Duero) جنوباً حتى الساحل الشمالي لشبه جزيرة الأندلس، ومن السّاحل الغربيّ لها حتى قَشْتالة ( Castile=Castilla) ، أنظر المادة (1) من جغرافية الأندلس وأوروبا (71).

الزاج (1) في لَبْلَة مشهورة، وهو كثير مفضّل في البلاد منسوب. وبجبل طليطلة جبل الطَّفْل (2) الذي يجهّز إلى البلاد، ويُفضّل على كل طَفْلٍ بالمشرق والمغرب. وبالأندلس عدّة مَقاطع للرُّخام، وفي جبل قُرطُبة مقاطع الرُّخام الأبيض الناصع والخمريّ. وفي ناشِرة مقطع عجيب للعُمُد، وَببَاغة من مملكة غَرْناطة مقاطع للرُّخام كثيرة غريبة مُوَشّاة في حمرة وصفرة، وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك المُجَزَّع (3). وحصى المريّة: يُحمل إلى البلاد، فإنَّه كالدرّ في رَوْنَقه، وله ألوان عجيبة، ومن عادتهم أن يَضَعوه في كيزان الماء. وفي الأندلس، من الأمنان التي تنزل من السّماء، القِرْمِز الذي ينزل على شجر البَلُّوط، فيجمعه النّاس من الشَّعرا (4) ويصبغون به، فيخرج منه الّلون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة (5). وليست الأمنان التي تنزل من السّماء من الأحجار ولا من المعادن، كما أنها ليست من الموارد الزراعيّة، وقد وضعها صاحب نفح الطيب في هذا المكان، فآثرنا أن نضعها حيث وضعها، خاصة وهي تمسّ الأصباغ، وقد كان لقسم من المعادن التي ذكرتها فائدة للأصباغ أيضاً، ولعلّ هذه الصِّلة هي التي حدت بصاحب نفح الطيب أن يضعها في هذا المكان. _______ (1) الزاج: ملح معروف، يقال له الملح اليماني، أنظر معجم متن اللغة (3/ 75). والزاج الأبيض: كبريتات الخرصين. والزاج الأزرق: كبريتات النحاس. (2) الطَّفْل ( Shale) : الطين يتصلّب على هيئة رقائق بتأثير ضغط ما فوقه من الصخور، بحيث يسهل فصلها، وهي مادة إذا أضيف إليها الماء تكوّنت منها طينة تقبل التشكل، ومن مثلها تجعل الأواني الفخارية. وأساس تركيب الطفل هو سليكات الألمنيوم المائي، تختلط بها بعض الشوائب كالحديد وغيره، أنظر معجم الصحاح (2/ 43). وهو طين أصفر تصبغ به الثياب، وبائعه الطّفال، أنظر معجم متن اللغة (3/ 617). (3) المجزّع: كلّ ما اجتمع فيه سواد وبياض. (4) الشَّعْرا= الشَّعْراء: الأرض أو الروضة الكثيرة الشجر. (5) نفح الطيب (1/ 200 - 201).

4 - المصنوعات الأندلسية والتصدير:

وسألت أحد علماء الزراعة عن المنّ، فذكر لي أنّ نوعاً من الحشرات تفرزه على أوراق الأشجار، وعلى الصخور أيضاً، فمنه ما يُصنّع ويُؤكل، ومنه ما يُصَنّع ليكون من الأصباغ، فلا ينزل المنّ من السّماء، بل يفرز من بعض أنواع الحشرات، وتبقى الحقيقة في أنّ هذا المنّ الأندلسي صبغ قرمزي، ويبقى مكانه مع الأصباغ المعدنية التي ذكرناها. إنّ الأندلس غنيّة بالأحجار والمعادن، وتعتبر من أغنى الأقطار في أحجارها ومعادنها. 4 - المصنوعات الأندلسيّة والتّصدير: أ - اختصّت المريّة ومالَقَة ومُرْسِية بالوشي المذهّب الذي يتعجب من صنعه أهل المشرق إذا رأوا منه شيئاً. وفي تَنْتالة من عمل مُرْسِية تُعمل البُسُط التي يغالى في ثمنها بالمشرق. ويُصنع في غرناطة وبَسْطَة من ثياب اللباس المحرّرة، الصّنف الذي يُعرف بالمُلَبَّد (1) المختم بالألوان العجيبة. ويُصنع في مُرْسِية من الأَسِرّة المرصّعة والحُصُر الفتّانة الصّنعة وآلات الصُّفر والحديد من السكاكين والأمقاص المذهّبة، وغير ذلك من آلات العروس والجنديّ ما يَبْهر العقل، ومنها تجهّز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقيّة وغيرها. ويُصنع بها وبالمريّة ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخّار مُزَجّج مذهّب. ويُصنع بالأندلس نوع من المفصّص المعروف في المشرق بالفُسَيْفِساء، ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزُّلَيْجِيّ (2) يشبه _______ (1) الملبّد: التّلبيد ( Milling) بالحمض ( Acid) ، إحدى عمليات تجهيز المنسوجات الصوفية، وفيه يعالج النّسيج في وسط حامضي فيلبّد، كعملية تلبيد القبّعات والطرابيش وبعض أنواع المنسوجات الصوفية كالجوخ، فيكون هذا النسيج مُكبَّداً، أنظر الصحاح في اللغة والعلوم (2/ 429 - 430). (2) الزليجي: هو ما يسمى بالإسبانية: ( Azoulejo) وهو نوع من الآجر مدهون بدهان ملوّن كالقاشاني، بالأبيض والأسود والأزرق والأصفر والأخضر، وما يركّب من هذه =

المفصّص، وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرّخام الملوّن الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشَّاذَرْوَان (1)، وما يجري مجراه. ب - وأما آلات الحرب من الترّاس والرِّماح والسّروج والألجم والدروع والمَغافِر (2)، فأكثر همم الأندلس كانت مصروفة إلى هذا الشأن. والسيوف البرذليّات مشهورة بالجودة، وبرذيل آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق. والفولاذ في إشبيلية إليه النهاية، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره (3). ج - وتصدّر الثياب والبُسُط والأسرّة والحُصُر وآلات الصُّفر والحديد والأسلحة ومواد البناء الفنيّة إلى إفريقيّة أيضاً وإلى المشرق وأوروبا، وبخاصة العطور. وقد كان التبادل التّجاري بين الأندلس وإفريقية نشيطاً جداً قبل الفتح، وكانت بواخر التّجار تجري بين الموانئ بنشاط كبير، وقد استعان المسلمون ببواخر التجار التي كانت تعمل بإشراف يُلْيَان للعبور من إفريقية إلى الأندلس، فنقلت سرية طَرِيْف بن مالك الاستطلاعية إلى الأندلس، كما نقلت قوات طارق بن زياد أيضاً، لكي تؤَمِّن قوات المسلمين مباغتةً كاملة لقوات القُوْط في الأندلس، باعتبار أن السفن التجارية تعبر باستمرار بين إفريقيّة والأندلس، ولا يلفت عبورها الأنظار، وسيرد تفصيل ذلك في سيرة طريف وطارق. كما يوجد السَّمور (4) في البحر المحيط بالقرب من ساحل الأندلس، _______ = الألوان، وغالبه الأزرق الكحلي، وربّما اتخذ منه الوزارات بحيطان الدور، أنظر صبح الأعشى (5/ 156) ومعجم متن اللغة (3/ 48). (1) الشاذروان: صفّة حول البناء متّصلة به، كثاذروان الكعبة المشرفة. أو هو ما ترك من عرض أساس البناء خارجاً، ويسمى التأزير، أنظر معجم متن اللغة (3/ 294). (2) المغافر: جمع مِغْفَر، وهو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يُلبس تحت القَلنسوة. (3) نفح الطيب (1/ 201 - 202). (4) السَّمُّور: دابة تشبه السِّنّور، تتخذ من جلودها الفراء الغالية الأثمان، أنظر معجم متن اللغة (3/ 207).

ويعمل من وَبَرِهِ الفِراء الرفيعة، كما يُجلب من جهة جزيرة بَرْطَانِيَة (1) إلى سَرْقُسْطَة وَيُصنّع بها، كما يُصَنّع بقُرطبة (2)، ويصدّر إلى فرنسة وأوروبا، لأنّ الفرو يباع في المناطق الباردة، ولا تحتاجه المناطق الحارّة. كما يصدّر إلى شمالي إفريقيّة والمشرق، لرغبة المترفين والأغنياء باقتناء ألبسة فراء السَّمور للتباهي به. والقَنْلِيَة (3) حيوان أدقّ من الأرنب، وأطيب في الطّعم، وأحسن وبراً، وكثيراً ما تلبس فراؤها، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى، ولا توجد في بر البربر الإفريقي منها إلاّ ما جُلب منها إلى سَبْتَة فنشأ في جوانبها، وقد صُدِّرت إلى تُونس حاضرة إفريقية (4)، وإلى غيرها من الأصقاع الإفريقية. وبِغال الأندلس فارهة. وخيلها ضخمة الأجسام، حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السِّلاح والعددِ في البرّ الجنوبي (5)، ويصدّر منها إلى أوروبة وإفريقية لكثرتها، وقد استفاد المسلمون الفاتحون منها أيام الفتح بالغنائم، حتى فاضت عن حاجتهم إليها، كما سيرد تفصيله في فتح طارق بن زياد. ويمكن القول: إنّ الأندلس غنيّة بمواردها الزراعية والحيوانية والمعدنية، جعلت السكّان يعيشون برغد ورفاهيّة ونعمة، فإذا فاضت منتوجاتهم الزراعية والحيوانية والصناعية عن حاجة سكّانها، ووجدوا للفائض عن حاجتهم السُّوق المناسب، صدّروا تلك المنتوجات. _______ (1) جزيرة برطانية: هناك مدينة بربطانية ( Boltania) في شرقي الأندلس، وهي كورة أيضاً، وهي ليست على المحيط الأطلسي. والمقصود هنا: الجزيرة البريطانيّة (إنكلترا+اسكتلندا+ويلز)، أنظر البيان المغرب (2/ 1) ونفح الطيب (1/ 197) والروض المعطار (3)، وجغرافية الأندلس وأوروبا (68) الفقرة (1). (2) نفح الطيب (1/ 1/ 197). (3) القنلية: حيوان شبيه بالأرنب، ويسمى بالإيطالية: ( Conglio) أنظر نفح الطيب (1/ 198) الفقرة (4). (4) نفح الطيب (1/ 198). (5) نفح الطيب (1/ 199).

وقد كان موقف المسلمين الفاتحين أيام الفتح، من الناحية الإدارية، موقفاً متميِّزاً، بل كان موقفهم الإداري أفضل من موقف الفاتحين في الجهات الأخرى شرقاً وغرباً، ولا نعلم أنّ المسلمين الفاتحين في أيام الفتح، حَرموا من مادة من مواد القضايا الإداريّة، وبالعكس فإنَّهم كانوا في سعة ونعمة وخير، وقد حمل موسى بن نصير إلى دمشق معه مغانم لا تقدر بثمن، مما يدل على أنَّ الأندلس كانت بخيرٍ أيام الفتوح.

تاريخ الأندلس قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه الأولى

تاريخ الأندلس قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه الأولى 1 - في أوروبا وإفريقيَّة أ - البرابرة: أطلق اليونان والرومان على جميع الشعوب سواهم اسم: البرابرة، ثمّ خُصّت به شعوب بدأت تنتشر في أوروبّة منذ القرن الثالث الميلادي، بعد أن كانت قد غادرت مواطنها الأصلية في أواسط آسية منذ فجر التاريخ على الأغلب، وكان موطنها الأصلي الهند والتركستان، وقد غادرت موطنها قبل الميلاد ببضعة قرون ووصلت إلى شمالي أوروبّة وإلى تخوم أوروبّة الشّرقيّة. واستطاع اليونان والرومان أن يردّوا تلك الحشود البربريّة المتوحشة عن تخوم امبراطوريتيهم: الإمبراطورية الرومانية الشّرقيّة (البيزنطيّة) والإمبراطورية الرومانية الغربية، زمناً طويلاً، ثم حالوا بين تلك الحشود وبين اجتياز نهر الدانوب إلى شبه جزيرة البلقان، واجتياز نهر الراين إلى شبه جزيرة إيطالية وإلى فرنسة وما وراءها. ولكن لما بدأ الضعف ينخر في جسم هاتين الإمبراطوريتين بالترف والتنازع وبالدّهر، منذ القرن الرابع الميلادي، جرؤت تلك الحشود على الدنوّ من حدود تلك الإمبراطوريتين، ومن اختراق تلك الحدود أيضاً. ب - أجناسهم وممالكهم: وكان البرابرة أجناساً، منهم الجرمان، أكثر تلك القبائل عَدداً وأعظمها أثراً في تاريخ أوروبّة في العصور الوسطى. ومن أشهر القبائل الجرمانية قبائل القوط الذين انحدروا منذ أواسط القرن الثاني للميلاد، من مساكنهم يومذاك

ح - وصولهم إلى أوروبة:

على شواطئ نهر الفستولا (1)، إلى سهول أوكرانية، شمال البحر الأسود. وهنا انقسم القوط إلى قسمين: قبائل عرفت بسكان الغابات، الذين عُرفوا فيما بعد باسم: القوط الغربيين، وقبائل عرفت بسكّان السهول الواسعة، وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم: القوط الشرقيين، وكان نهر الدنيستر يفصل بين مساكن الفريقين. وكان مقام القوط الغربيين بين مصبّ نهر الدنيستر ومصبّ نهر الدانوب، على حدود البلقان مباشرة، سبباً لنشر الدين المسيحي بينهم، ولكن على يد الدُّعاة الأريوسيين، ولذلك تقبّل القوط الغربيون المذهب الأريوسي، وهذا المذهب الذي أوجده الأسقف الإسكندري أريوس في سنة (310 م)، يجعل المسيح عليه السلام إنساناً كاملاً، وينفي عنه الألوهية، ويقول بأن الله خلقه من لا شيء، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم برسالته النبوية إلى هِرَقل عظيم الرّوم بمعتنقي هذا المذهب خيراً، فقال في رسالته: "فإن تولّيتَ فعليك إثم الأريسيين .... " (2). ح - وصولهم إلى أوروبّة: وفي مطلع القرن الخامس الميلادي، كان عدد من القبائل الجرمانية قد انتشرت في غربي أوروبّة: في فرنسة وإسبانيا. فكانوا قد انحدروا من مساكنهم بين نهر الفستولا ونهر الأودر (3) ( Oder) ، إلى المنطقة التي تعرف اليوم باسم: بافارية، جنوبي شرقي ألمانية. ثم إنهم جاءوا إلى إسبانيا، وفيها سكن الفاندال في منطقتين: في رقعة ضيّقة في شمالي إسبانيا، وفي رقعة واسعة في جنوبي إسبانيا. وكذلك كان السوابيون (4)، وهم شعب جرماني _______ (1) الفستولا: نهر بولونية، تقوم عليه صوفيا عاصمة بلغاريا. (2) انظر التفاصيل عن الأريسيين في كتابنا: السفارات النبوية، ومقدمة كتابنا: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم. (3) الأودر نهر في شرقي ألمانية، يفصل اليوم بين شمالي ألمانية وشمالي بولونية. (4) السوابن أو الشوابن: قبائل جرمانية عرفت مساكنها منذ القرن الثالث الميلادي، في =

د - القوط الغربيون في إيطاليا:

أيضاً، قد نزلوا في شمالي غربي إسبانيا، جنوب منازل الفاندال الشمالية. د - القوط الغربيون في إيطاليا: أما القوط الغربيون، فكانوا لا يزالون في شرقي أوروبة ينازعون أباطرة المشرق: الرّوم البيزنطيين، فقد هاجموا البلقان، وخاضوا ضد الرّوم معركة أدرنة سنة (378 م) وانتصروا عليهم، وكان القوط الغربيون يزدادون مع الأيام قوّة. وفي سنة (395 م) انقسمت الإمبراطورية الرومانيّة إلى قسمين: شرقياً وغربياً، وكان ذلك من علامات تطرّق الضعف إليها. وقدّم القوط الغربيون للرئاسة عليهم زعيماً منهم اسمه الأريك (395 م- 410 م)، ثم أخذوا يبحثون عن أرض يستقرّون فيها لينشئوا عليها ملكاً لهم. وتغلّب القوط الغربيون على الرّوم في البلقان مراراً، ولكنهم كانوا يودون دائماً النزول في إيطاليا نفسها. وقطع الأريك بقومه الألب سنة (401 م)، وسار إلى رومة، ولكنّ الرومان أقنعوه بالرجوع عنها، بعد أن خلعوا عليه لقب: قائد الجند، وعقدوا معه معاهدة. وانسحب الأريك من إيطاليا، ليعود إليها بعزم أشدّ في صيف سنة (403 م)، وليغزوها ويقضي على سلطانها. ولكن الأريك توفى في تلك السنة، فخلفه زعيم آخر اسمه: أدولف، كان صهر للأريك. ونزل أدولف بقومه جنوبي غربي فرنسة، وكان الحكم في القوط الغربيين لا يزال إلى ذلك الحين رئاسة بالعصبيّة، ولم يكونوا قد أسسوا لهم دولة بعد. وفي سنة (414 م)، دخل القوط الغربيون إلى إسبانيا. وتوفى أدولف في آخر سنة (415 م)، فخلفه فاليا (415 م- 419 م)، وأسس للقوط الغربيين دولة جعل عاصمتها طولوز (1) (419 م) في جنوبي _______ = جنوبي غربي ألمانية، بين نهر الراين ونهر النيكر ( Necker) ونهر الدانوب (نهر الطونة). (1) تولوز Toulouse: ويسميها قسم من المؤلفين: طَلّوزة، وتولوشة، وطولوشة، وهي مدينة طولوز في جنوبي فرنسة.

هـ - في إسبانيا:

فرنسة. ولما رأت رومة أنّ القوط الغربيين قد قَوُوا كثيراً وأصبحوا لها مصدر قلق دائم، لم تجد بدّاً من مصانعتهم والرضا باستقلالهم، فأقرّتهم على النزول في جنوبي فرنسة، على أن يتخلّوا عن سائر الأراضي التي استولوا عليها. هـ - في إسبانيا: وكان على القوط الغربيين يومئذٍ، ملك قدير، هو ثيودوسيوس الأول (419 م- 451 م)، فحاسن السوابيين، واقتسم معهم السيطرة على إسبانيا، ثم سكت عن استيلائهم على منازل الفاندال الشمالية، بينما كان هو يتوسع في الجنوب، ويدفع الفاندال عن إسبانيا كلها. و- الفاندال في إفريقية: وفي أيام غونداريك بن غود (406 - 428 م) ملك الفاندال، اشتد ضغط القوط الغربيون في إسبانيا على الفاندال. وأخذ الفاندال منذ ذلك الحين بمغادرة إسبانيا، فنزلوا أول ما نزلوا في الجزائر الشرقية (423)، فلما توفي غونداريك خلفه أخوه غايسيريك أو غانسيريك (428 - 477 م). في هذه الأثناء، كان النزاع يعصف في الإمبراطورية الشرقية، كما كان الضعف قد أقعد الإمبراطورية الغربية: كان النزاع الديني بين الأريوسيين وبين الكنيسة الجامعة (1) على أشده قي كل مكان، في شرقي أوربّة، وفي غربيها. وكان الوطنيون من أهل إفريقية ثائرين على الإمبراطورية الغربية، فتوقف ورود القمح الإفريقي إلى رومة وهُدِّدت روما بمجاعة، ثم إن الدفاع الروماني كان قد ضعف مع شيخوخة رومة. ويبدو فوق هذا كله، أن نزاعاً نَشِبَ بين بونيفاسيوس الحاكم العسكري في إفريقية، وبين والنتينيان الثالث إمبراطور _______ (1) الكنيسة الجامعة: القائلون بأن المسيح هو الله بالذات، خصوم الأريوسيين.

رومة (425 - 455 م)، فيقال: إن بونيفاسيوس عمد إلى استدعاء غايسيريك للنزول في إفريقية، إغاظة لوالنتينيان. وفي أيار (مايو) من سنة (429 م)، أبحر غايسيريك من جزيرة طريف (1) قي نحو ثمانين ألفاً من قومه، فيهم نحو ألف وخمسمائة مقاتل. ويبدو أن بونيفاسيوس قاومهم في المغرب الأوسط، بجيش جمعه على عجل سنة (430 م)، استطاع غايسيريك أن يستولى على الشاطئ الإفريقي بعد مقاومة. ومع أن الفاندال فقدوا عدداً كبيراً من قومهم في هذه المغامرة، إلاّ أنهم قلّصوا حكم الرومان عن إفريقية. ووجد الإمبراطور والنتينيان نفسه عاجزاً عن رد الفاندال، فعقد معاهدة (11 شباط- فبراير- 435 م) أقرّهم فيها على النزول في المغرب، على أن يتطوّعوا في جيش الإمبراطورية. واستقر الفاندال في المغرب، دون أن يتمكن الرومان من فرض نصوص معاهدتهم على الفاندال، للضعف الذي كانوا فيه، فهاجم غايسيريك قرطاجنة وفتحها (19 تشرين الأول- أكتوبر- 439 م) من غير أن يلقى مقاومة تذكر. وأعلن غايسيريك نفسه ملكاً في قرطاجنة، واتخذها عاصمة له. ثم إنه تشدّد في سياسته الدينية، فأبعد الكاثوليكيين من الأشراف ورجال الدين عن البلاد، واستعبد العامة من الكاثوليكيين ممن لم يرضوا مغادرة البلاد، أو لم يكونوا قادرين على مغادرتها. وكذلك صادر أموال الكاثوليكيين وأملاكهم، وأعطاها للأريوسيين. وفي سنة (440 م)، هاجم غايسيريك جزيرتي سردينيا وصقلية، فبعث الروم البيزنطيون أسطولاً لاستنقاذهما منه. فلما وصل ذلك الأسطول إلى صقلية، اضطُرّ الروم إلى ردِّه، لأن الهون والفرس كانوا قد أخذوا يهاجمون تخوم الإمبراطورية، ثم اضطر والنتينيان الثالث إلى عقد معاهدة جديدة مع غايسيريك (442 م)، يعترف فيها بسيادة الفاندال الكاملة على الشاطئ _______ (1) Tarifar Traducta Julia

ز - سقوط رومة:

الإفريقي. وعاد القوط الغربيون إلى محاسنة الفاندال والسوابيين، فقد أعطى ثيودوريك إحدى بناته إلى هاينريك بن غايسيريك (442 م)، كما أعطى بنتاً أخرى من بناته إلى ملك السوابيين، وذلك قبل موته بعامين فقط. أما العداوة بين الفاندال والإمبراطورية الرومانية الغربية فكانت بازدياد، ففي سنة (455 م) اقتحم غايسيريك مدينة رومة وأباحها لجنده أربعة عشر يوماً. وفي العام التالي استولى على جزيرة سردينيا، ثم استولى على جزيرة صقلية في سنة (469 م). ز - سقوط رومة: وفي هذه الأثناء، كانت الإمبراطورية الرومانية في الغرب قد ضعفت، وتوالى على عرشها أباطرة ضعاف كسالى، فأخذ القادة الجرمان يعزلون منهم من شاءوا ويولون من شاءوا. وكان في الحرس الإمبراطوري المرابط في رافنا (1) قائد اسمه آدوفاكر (2). ورأى آدوفاكر حال الأباطرة والإمبراطورية، فخلع رومولوس أغوسطولوس آخر أباطرة الرومان، وأعلن نفسه ملكاً على إيطاليا سنة (476 م)، ثم كتب إلى زينون إمبراطور القسطنطينية يخبره بما فعل، ويقر بسلطته عليه، فلم يجد زينون بداً من إقرار آدوفاكر على عرش رومة كَرْهاً، وهكذا انقسمت أوروبة إلى قسمين: قسم شرقي هو الإمبراطورية البيزنطية، وقسم غربي نشأت فيه الدول الجرمانية المختلفة التي كانت منها الدول الأوروبية الحديثة. فكانت سنة (476 م) تاريخاً لسقوط رومة ولانقراض الإمبراطورية الرومانية الغربية ولنهاية العصور القديمة وبدء العصور الوسطى. ج - مقتل آدوفاكر: _______ (1) Ravenna (2) Odoacer و Odovrakar و Otacher

ط - اضطراب أحوال الفاندال:

وحكم آدوفاكر مملكته بعد سقوط رومة بالعدل والحكم، ثم وسَّع رقعة ملكه لما استولى على دالماسية، على الساحل الغربي من شبه جزيرة البلقان. وهال ذلك الإمبراطور زينون، فدفع ثيودوريك زعيم القوط الشرقيين إلى الهجرة بقومه من شبه جزيرة البلقان إلى إيطاليا، وعينه حاكماً عسكرياً عليها. وهكذا يكون زينون قد تخلص من القوط، وخلق لخصمه آدوفاكر منافساً قوياً، وذلك في سنة (488 م). وفي السنة التالية اشتبك آدوفاكر وثيودوريك في حرب، انهزم فيها آدوفاكر، فلجأ إلى مدينة رافنَّا وكانت حصينة جداً. وبعد حصار دام سنتين ونصف سنة، اضطر آدوفاكر إلى الاستسلام، فاستأمن من ثيودوريك، ولكن ثيودوريك غدر بآدوفاكر وذبحه بيده، في منتصف آذار - مارس - من سنة (493 م)، ثم تتبع أصحابه بالقتل واحداً واحداً. ط - اضطراب أحوال الفاندال: ولما توفى غايسيريك ملك الفاندال، في 25 كانون الثاني -يناير- من سنة (477 م)، لعبت الفوضى في مملكته زماناً طويلاً. ويرجع السبب الأول في ذلك إلى أن البربر (الإيمازيغ) الذين لم يكونوا راضين عن حكم الرومان، لم يكونوا راضين عن حكم الفاندال. ففي أيام هيلديريك (524 - 530 م)، وفي سنة (525 م) استطاع البربر أن يستعيدوا ساحل طنجة، وأن يحموا جنوبي المغرب الأوسط كله، وانهزم هيلديريك أمام البربر هزائم منكرة. وأثارت هذه الهزائم نبلاء الفاندال، فخلعوا هيلديريك، وقدموا عليهم زعيماً اسمه: غيلمير - ويقال غلماروغيليمير -. فخلع غيلمير هيلديريك، وألقاه في السجن ثم ملَكَ مكانه. واستنجد هيلديريك بيوستنيانوس الأول (527 - 565 م)، فإن هيلديريك كان مشايعاً للروم وعلى مذهبهم، بينما غيلمير كان أريوسياً. وأراد يوستنيانوس أن ينجد هيلديريك لأنه كان يطمع في استرداد المقاطعات التي كانت قد تساقطت من الإمبراطورية الرومانية في غربي أوروبة وشمالي إفريقية تحت سنابك البرابرة الجرمان. ولكن

ي - القوط الغربيون في إسبانيا:

الاضطراب الذي كان سائداً في الإمبراطورية الشرقية حال دون ذلك. ثم ساءت حال القُسطنطينية خاصة، ونشبت فيها فتنة سنة (532 م) من (11 - 18 كانون الثاني - يناير) سقط فيها ثلاثون ألف قتيل على الأقل، وقال بعضهم: بل خمسون ألفاً. ورأى يوستنيانوس أن الأمر قد خرج من يديه، وأن ملكه زائل لا مَحالة، فأراد أن يهرب من القسطنطينية ناجياً بنفسه، غير أن زوجته ثيودورا ثبّتته واستثارت نخوته، حتى عزم على التمكين لنفسه ولعرشه. ولما هدأت الحال في القسطنطينية، عاد يوستنيانوس إلى التفكير بشمالي إفريقية وبهيلديريك وغيلمير، فأرسل حملة إلى شمالي إفريقية سنة (533 م) بقيادة أعظم قادته بليساريوس، فانهزم غيلمير، ثم استسلم (آذار - مارس- 534 م)، وقضى بذلك على مملكة الفاندال. على أن القضاء على مملكة الفاندال في شمالي إفريقية، لم يرد شمالي إفريقية إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية، ولا جعل شمالي إفريقية تستقر تحت سلطان الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ذلك لأن البربر استمروا في ثوراتهم على الروم. ومع أن الروم قد حاولوا إخضاع البربر في أوقات مختلفة، في (538 م، و 539 - 544 م، و 546 - 548 م) فإنهم لم يستطيعوا أن يفرضوا على شمالي إفريقية سوى ظل خفيف من سلطانهم، وعلى عدد قليل من المراكز الساحلية فقط. ي - القوط الغربيون في إسبانيا: ولما وثب ثيودوريك الأكبر ملك القوط الشرقيين في إيطاليا على آدوفاكر وذبحه، أصهر إلى الفرنجة، فتزوج بنت ملكهم كلوفيس، وقيل: بل أخته. وقد غلّ هذا التقارب بين القوط الشرقيين وبين الفرنجة يد الرومان، ثم مكَّن القوط الغربيين من التوسع في غربي أوروبة، إذ استطاعوا في مطلع القرن السادس للميلاد أن يحتلوا بقيادة زعيمهم الأريك الثاني (484 - 507 م) معظم

ك - الفرنجة في فرنسة:

إسبانيا. ولكن سرعان ما بدأ النزاع بين الفرنجة وبين القوط الغربيين، وأخذت مملكة القوط الغربيين تتسع في إسبانيا وتضيق في فرنسة، حتى تقلَّصت عن فرنسة كلها إلاّ رقعة صغيرة في ساحل البحر الأبيض. وحاول الفرنجة التقدم إلى إسبانيا، ولكن القوط الغربيين ردوهم. وفي سنة (507 م) نشبت معركة بين كلوفيس ملك الفرنجة والأريك الثاني ملك القوط الغربيين قرب مدينة بواتيه، سقط فيها الأريك الثاني صريعاً. واستولى الفرنجة على ما كان قد بقي للقوط الغربيين من الأرض في جنوبي فرنسة، واحتلوا عاصمتهم طولوز، فنقل القوط الغربيون عاصمتهم إلى طُليطلة. وكان لا يزال للروم البيزنطيين سلطان خفيف على عدد من المدن الساحلية والداخلية في إسبانيا، فجعل القوط الغربيون ينتزعون منهم تلك المدن واحدة واحدة، كما ضمّوا إليهم (585 م) مملكة السوابيين، وهكذا تمَّ في أيام ليوفيجيلد (568 - 586 م) توحيد المملكة القوطية. ك - الفرنجة في فرنسة: بدأت غزوات البرابرة لجنوبي فرنسة (الغال) في القرن الرابع للميلاد، فقد غزاها الفرنجة في القرن الخامس الميلادي. وأقام مبروفيك مملكة الفرنجة في جنوبي فرنسة سنة (448 م)، ثم لما توفى (458 م) خلفه ابنه هلديريك. وجاء بعده ابنه كلوفيس (1)، فحكم واحداً وثلاثين عاما (481 - 511 م). وقاتل كلوفيس الرومان، كما قاتل القبائل الجرمانية النازلة في جنوبي فرنسة، ثم وحّد فرنسة كلها وأسَّس فيها المملكة الفرنسية. واعتنق كلوفيس النصرانية، وتقبل المذهب الكاثوليكي من أول أمره، قيل بإغراء من امرأته قلوطلد (2) أو كلوتيلد. ولما مات كلوفيس تقاسم أبناؤه الأربعة مملكته، وأشهر أقسام المملكة _______ (1) يسميه العرب: قلوديه، انظر الروض المعطار (27). (2) الروض المعطار (27).

ل - الهيطل (الهون):

هي: أولاً: نوستريه (المملكة الغربية)، وكانت تقع ما بين نهر الّلوار ومقاطعة بريتانية، وما بين بحر المانش ونهر الموز. ثانياً: أوستراسية (المملكة الشرقية)، أو الجزء الشمالي الشرقي من فرنسة، وكانت عاصمته مدينة متز (قاعدة الّلورين). وتنازع أولاد كلوفيس وأحفاده وتحاربوا، فقوي النبلاء في ممالكهم، ثم أصبح رؤساء النبلاء حجّاباً في بلاطات ملوك الفرنجة. ثم إن هؤلاء الحجّاب أخذوا يستبدون بالحكم شيئاً فشيئاً، إلى أن حجزوا على الملوك مرة واحدة، وأصبح الحكم لهم على الحقيقة، ولأولئك الملوك على المجاز. ل - الهيطل (الهون): والهيطل (الهون) جموع آسيوية، تتصل بأسلاف المغول والأتراك في النسب البعيد، وهم قوم قصار أشدّاء عُتاة. وفي أواسط القرن الرابع للميلاد، كان الهيطل قد استقروا على التخوم الشرقية من قارة أوروبة. ثم إنهم هزموا القوط الشرقيين وسائر القبائل الجرمانية في شرقي أوروبة، واندفعوا غرباً حتى استقروا على الدانوب وبَنَوْا إمبراطورية امتدت في القرن الخامس للميلاد من جبال القوقاس ونهر الدانوب إلى بحر البلطيق في الشمال. وتمت قوة الهيطل في ايام زعيمهم أتيلا (445 - 453 م) الذي قطع بهم نهر الراين وسقط على فرنسه. ولكن ميروفيك ملك الفرنجة تحالف مع القوط الغربيين وهزم الهون في معركة شالون التي تقع على نحو (150) كيلومتر من باريس جنوباً في شرق، وذلك في سنة (451 م)، واستطاع الهون أن يصلوا إلى أسوار القسطنطينية سنة (558 م)، غير أن إمبراطوريتهم، إمبراطورية أتيلا تقطعت بعد موتمه

م - الخلاصة:

إرْباً (1). م - الخلاصة: هكذا كان الموقف العسكرى والسياسي في أوروبة وإفريقية، مع لمحات من الموقف العسكري والسياسي فى إسبانيا، سيرد تفصيلها وشيكاً. ويمكن أن نتلمس بوضوح، أن المقاتلين كانوا أشدّاء في قتالهم، لهم خططهم التوسعية الظاهرة وطموحهم السياسي، وكانت لهم قيادات قادرة تتميز بقابلياتها على التخطيط السليم والشجاعة والإقدام، وكانت الشعوب المتصارعة تتألف من قبائل لها ضبط القبائل وطاعتها وانقيادها انقياداً أعمى ما دام يقودها إلى النصر، فإذا قاد إلى الهزيمة تخلت عنه وانقادت لغيره، وهي تحارب بشجاعة وإقدام وضبط متين. وكل تلك السمات من سمات القوة لا من سمات الضعف، على كل حال. 2 - في إسبانيا أ - القوط الغربيون في أواخر أيامهم: لما سقطت رومة سنة (476 م)، كان معنى ذلك زوال الإمبراطورية الرومانية الغربية من الوجود وتحلّل جميع أتباعها المتبربرين (البرابرة) من الولاء لها. وبهذا استقل القوط الغربيون بإسبانيا، وأعلنوا أنفسهم ملوكاً غير تابعين لأحد، وكان زعيمهم يوريك ( Euric) قد اتخذ لقب الملك فعلاً قبل ذلك بنحو تسع سنوات (سنة 467 م)، وهو يُعد لذلك مؤسس دولة القوط الغربيين فى إسبانيا. _______ (1) استعنت بكتاب الأستاذ الدكتور عمر فروخ - العرب والإسلام في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط - (25 - 35) - ط1 - بيروت - 1378 هـ.

ب - دولة القوط الغربيين في إسبانيا:

ب - دولة القوط الغربيين في إسبانيا: وكان يوريك قد حرص منذ صارت إليه زعامة القوط، على أن يمد سلطانه شيئاً فشيئاً حتى يبسطه على إسبانيا كلها، ولم يتنازل إلى جانب ذلك عما كان لأسلافه من الأقاليم شمالي جبال البرت، وكان الرومان يعتبرون جنوبي فرنسة وشمالي إسبانيا وجزءاً كبيراً من غربيِّها إقليماً واحداً، فحرص يوريك أن تضم دولته هذا الإقليم، فاستولى على لُشْدَانية (البرتغال) وقرر فيه سلطانه، ومدّ حدود مملكته إلى الجنوب، وأدخل فيها إقليم بيطي (الذي يعرف باسم بيتيكا) وولاية قرطاجنة الرومانية القديمة وهي الركن الغربي لشبه الجزيرة الإسبانية، وتابع جهوده في شمالي جبال البرت، واستولى على آرل ومرسيليا. وبهذا أصبحت دولته تمتد من أقصى الهضبة الفرنسية الوسطى، إلى إسبانيا الجنوبي، وحكم شعبين كبيرين هما: الغال الرومانيون ( Gallo-romani) شمالي البرت، والإسبان الرومان ( Hispano-romani) جنوبيّها، وكانا شعبين متحضرين، يشتغل معظمهما بالزراعة، ويزيدان على القوط الغربيين مرات عديدة، وكان معظم أهلها مسيحيين كاثوليك، يسيطر عليهم قساوسة خاضعون لسلطان رومة وأسقفها الكبير: البابا. وكان القوط الغربيون مسيحيين أريوسيين، أي أنهم لا يعتقدون بألوهية المسيح، ولا يعترفون للقساوسة بحق الوساطة بين الله والناس، ولا يجعلون للعذراء مكاناً متميزاً في العقيدة، وكان لهم أسلوبهم الخاص في العبادة، فلم يلبث السكان الأصليون من غاليين (فرنجة) وإيبيريين (إسبان) أن نفروا من حكمهم. واجتهد القساوسة في تقوية شعور النفور هذا، لأن القوط كانوا ينكرون عليهم أي سلطان روحي على الناس. واشتد هذا النفور مع الأيام، بسبب ما كان ينزله القوط على القساوسة من اضطهاد، وظل مركزهم بين رعاياهم مضطرباً مزعزعاً، فلما نهض كلوفيس ملك الفرنجة وأخذ يمد سلطانه نحو الجنوب، سارع القساوسة لتأييده لأنه كان كاثوليكياً، وانضم إليه الغال الرومانيون، فاستطاع أن يزيح القوط إلى الجنوب ويجليهم عن طولوز

الذي ظلّوا يحكمونه أمداً طويلاً، ثم انتصر عليهم انتصاراً حاسماً في شمالي بواتيه سنة (507 م) كما ذكرنا وأجلاهم عن جلّ ما كان في سيطرتهم من أرض جنوبي فرنسة، فلم يبق لهم إلا إقليم سبتمانية المتاخم لجبال البرت من الشمال ويمتد حتى نهر الرون وعاصمته نربونة. وبهذا اقتصر سلطان القوط الغربيين على إسبانيا، وأخذت علاقة إسبانيا مع بقية العالم الأوروبي الواقع إلى شمال جبال البرت تفتر. ولما وحّد القوط الغربيون شبه الجزيرة الإسبانية كلها تحت سلطانهم، أخذت إسبانيا تظهر كوحدة سياسية وجنسية للمرة الأولى في التاريخ. وذلك أمر له خطورته، لأن الإغريق لم يعرفوا منها إلاّ الغرب وبعض الجنوب، ولأن الرومان كانوا يقسمونها ولايات مختلفة لا علاقة بين بعضها. أما القوط فقد اعتبروا شبه الجزيرة الإسبانية كلها قطراً واحداً، واتخذوا لهم عاصمة تقع فى وسط شبه الجزيرة، هي: طُليطلة. ولعل أظهر أثر لاستقرار القوط في طُليطلة، هو تحولهم إلى إسبان، في وقت قصير، لأن المقيم في طليطلة، تنقطع الصلات بينه وبين ما يلي البرت وما يلي بحر الزقاق، ويتأقلم ويصبح إسبانياً. أما المقيم في قرطبة، فتظل صلته بإفريقية وما يتصل بها من بلاد الشرق، أوثق وأظهر من صلاته بجليقية ونواحي جبال البرت. واستطاع القوط من عاصمتهم طليطلة، أن يستولوا على إسبانيا كلها، ولكن سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل إسبانيا من منازعات دينية، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات. وطمع ثيودوريك ملك القوط الشرقيين في عرش إسبانيا، فغزاها وأقام حفيداً له على عرشها، ولكن لم يلبث أحد قواد القوط الغربيين الأقوياء أن ثار بهذا الدخيل، وأعلن نفسه ملكاً على إسبانيا، بفضل معاونة حربية أمدّه بها جُستنيان إمبراطور بيزنطة في سنة (554 م)، وانضم إليه أهل البلاد من الإسبان الرومان الكاثوليك، واحتل المنطقة الواقعة بين نهر الوادي الكبير ونهر جُكَرْ (نهر شقر)، وانفصل هذا الإقليم عن طليطلة.

وكان آخر ملوك القوط الغربيين الأريوسيين هو: ليوفيجيلد ( Liuvigild) (568-586 م)، وكان محارباً مقداماً ظل يحارب الكاثوليكيين طول حياته. وخلفه ابنه ريكاردو ( Recaredo) ، فاستبان أنه لا صلاح لدولة القوط في هذه البلاد، إلاّ إذا تخلّى ملوكها عن المذهب الأريوسي. وتخلى هذا الملك عن المذهب الأريوسي، وأعلنه في مجمع طليطلة الديني سنة (587 م): اعتنق الكاثوليكية هو وأهل بيته، وتبعه الأمراء وكبار أهل المملكة، وبهذا أصبحت الكاثوليكية هي الديانة الرسمية في إسبانيا من ذلك الوقت. وهذا الحادث الخطير، سيظل مؤثراً في التاريخ الإسباني كله، فإن الكاثوليكية تأصلت في أهل البلاد مع الزمان، وزادها قوة ميل الإسبان التشدد في الأديان، والتعصب لكل ما يؤمنون به، فأصبحت إسبانيا معقلاً من أمنع معاقل الكاثوليكية، وكان لهذا أثر بعيد جداً في حياة الإسبان، وفي مجرى تاريخهم كله. وأعقب هذا التحول إلى الكاثوليكية اعتبار اللاتينية اللغة الرسمية في البلاد، وتوثق الصلات بين إسبانيا والبابوية. وقد تفانى خلفاء ريكاريدو في الولاء للبابوية، تفانياً شجع البابوية على بسط نفوذهم الديني -بل السياسي- في البلاد، وبدأ يفد على البلاد هذا الفيض المتصل من قساوسة الكاثوليك ورهبانهم، وأصبحت طليطلة أسقفية، يقيم فيها أسقف كبير يمثل سلطان البابا ونفوذه، وأيده الشعب الإسباني الروماني الذي لم يتخلّ عن الكاثوليكية بعد ذلك. ومن هنا نفهم السر، في أن نفوذ أسقف طليطلة لم يقل في وقت من الأوقات في التاريخ الإسباني المسيحي عن نفوذ الملك، إن لم يزد عليه في كثير من الأحيان. وكان تحول القوط إلى الكاثوليكية الخطوة الفعالة الأولى لامتزاج الشعبين القوطي والإسباني الروماني، فقد ظلاّ متباعدين ما اختلفت عقيدتاهما الدينيتان، فأما وقد اتفقا في العقيدة، فقد انفتح الباب أمام الامتزاج، ولكنه لم يتم إلاّ على صورة مصغرة جداً، لأن القوط حرصوا على أن يحتفظوا لأنفسهم بمركز الشعب الحاكم. وكانت الملكية القوطية انتخابية، أي أن نفراً من كبار أهل المملكة

والأمراء، كانوا يجتمعون بعد وفاة الملك لاختيار ملك من بين أظهرهم، فكان هذا النظام مدعاة لإثارة المنافسات بين الأمراء وكبار القوط، فلا غرابة في أن يكون تاريخ القوط في إسبانيا سلسلة من المؤامرات والحروب والاغتيالات. بيد أننا ينبغي أن نستثني من سلسلة ملوك القوط نفراً أجمع المؤرخون على أنهم كانوا قادرين صالحين، وأنهم قدموا للبلاد خدمات حربية وعمرانية بعيدة الأثر، مثل: ششبرت (612 - 621م) - ( Sisiberto) الذي استولى على جميع أرجاء إسبانيا، وشنداسفنتو (649 - 672م) - ( Chindaswinto) الذي ألغى التفرقة بين أفراد الشعب، وحكم البلاد بمقتضى قانون جديد مزج فيه القانون الروماني القديم الذي كان قد سنّه الملك ألاريك الثاني، والقانون القوطي الذي وضعه يوريك، مما قرر السلام بين أهل المملكة، وجنّبها مصاعب وخلافات شتى. ولعل أكبر ملوك هؤلاء القوط هو وامبا (672 - 680م) - ( Wamba) ، فقد كان أميراً عظيم الهمة، استطاع أن يقرر سلطانه فيما بقي للقوط من الممتلكات شمالي جبال البرت: قضى على ثورة خطيرة دبرها هلدريك كونت نِيْمَهْ (نيم)، وأخمد ثورة أخرى دبرها باوْلُس أمير سبتمانية للانفصال بها، وحكم البلاد كلها حكما رشيداً حازماً، فأحبه الناس والتفوا حوله، وبلغ من تعلق الناس به أن أصبح اسمه وعصره أسطورة لا تخلو من الخوارق، منها: أن وامبا وقف بين يدي الأسقف في الكنيسة لكي يلبس التاج، فبينما هو في هذا الموقف الرهيب، إذا عمود من الدخان يتصاعد من رأسه، تطير فيه نحلة من ذهب (1). ومن الواضح أن ذلك لم يحدث، ولكنه شائع في المصادر الأجنبية وبين القوط أيضاً. وقد انتهى حكم وامبا نهاية لا تخلو من غرابة وطرافة، فقد احتال عليه أحد _______ (1) Saavedra, op.cit. apendice p. 117

حاسديه، ودسّ له مَن سقاه جرعة مخدِّرة لم تلبث بعد أن شربها أن غاب في سبات عميق. وحسبه الناس قد مات، وهيّئوه ليواروه التراب، فبينما هم في ذلك، إذ عاد إلى رشده. وبدلاً من أن ينهض لتأديب مَنْ ائتمروا به على هذا النحو الغريب، ترك العرش للطامعين، وترهب وقضى بقية حياته في الدير. وعندما اعتلى غَيْطَشَة (وِتِزا: Witizu) العرش في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة (700 م)، كانت الأمور قد اضطربت بسبب المؤامرات التي كان كبار القوط يدبرونها، ولا نعرف حقيقة أمر هذا الملك، لأن النصوص الباقية عنه تعطينا صوراً متناقضة عن شخصه وأسلوبه في الحكم، والظاهر أن معظم النصوص الإسبانية تثني عليه، فقد حاول جهده أن يصلح الأمور، فعفى عمن كان والده أخيكا قد أساء إليهم، ومال إلى إنصاف الناس من استبداد نبلاء القوط، فكرهه هؤلاء وعوّلوا على القضاء عليه وعلى حكمه، فأخذوا يثورون عليه في نواحي المملكة، وأخذ يحاربهم ويحبط كل مؤامراتهم، فلما علت به السن، عجز عن أن ينهض لكل واثب به مدبر عليه، وتآمر عليه أهله، واستطاعت زوجته أن ترغمه على أن يعلن ابنه الصبي وَقِلَه (أخيلا Achila) ، وأقامه حاكماً على الولايتين الناربورنية والطكونية. وكان هذا الإعلان، حافزاً للطامعين في العرش من كبار القوط إلى مضاعفة الجهد في التدبير على غيطشة، ومحاولة القضاء عليه وعلى دولته، ليخلو لهم العرش، ويفعلون به ما يشاءون. ويبدو أنه لم يأل جهداً من جانبه في القضاء على كل محاولة يقومون بها، لأن النصوص تحدثنا أنه عاقب تيوفريدو دوق قرطبة بسمل عينيه، ونفى ثائراً آخر اسمه: بلايُه من البلاط (1). ويبدو أيضاً أنه أساء الظن بيهود، فاضطهدهم وأوقع بهم في أواخر أيامه، فقد اتهمهم غيطشة بالتدبير عليه، وبالتآمر مع مَن تسميهم النصوص الإسبانية: أهل ما وراء البحر ( Los transmarinos) ، ومعنى ذلك أنهم _______ (1) وانظر المراجع المعطاة. . Saavedra. op.cit.p.29

اتصلوا بأعداء القوط في ما وراء البحر، أي خارج إسبانيا. ولسنا بأي حال بحاجة إلى البحث عن أسباب هذا الاضطهاد، لأن الإسبان كانوا طوال تاريخهم من أقسى الناس على مخالفيهم في الدين، وعلى يهود بخاصة. ولكن يبدو أن غيطشة رجع عن سياسته في اضطهاد يهود في أخريات أيامه، فتحدث إلى كبار أهل الدولة فيما انتواه من العفو عن يهود، فأسخط رجال الكنيسة عليه، وأخذوا يغرون الناس به، حتى اشتد عليه سخط الناس، وتحدث أهل البلاد من الرومان الإسبان في الوثوب به أو معاونة أول ثائر عليه (1). ومات غيطشة ميتة طبيعية في أواخر سنة (708 م) أو أوائل سنة (709 م)، وكانت مختلف الطوائف تنتظر موته. وكان أفراد البيت المالك أنفسهم من أكثر الناس انقساماً وأشدهم ميلاً إلى الخلاف، ذلك لأن غيطشة ترك من بعده زوجاً طامعة في العرش، وأخاً لا يقل عنها طمعاً هو أُبَه ( Oppa) ، وكان أسقفاً لإشبيلية، وثلاثة بنين هم: أخيلا (رُمله عند المقري وابن القوطية وصححه وقِلَهْ) وألمند ( Olmundo) وأرطافازدُس أو أردبست (أرطباس، أرطبان)، وتضيف بعض الرويات شخصاً آخر هو سيسبرتو (ششبرت، سبري، سبرة في النصوص العربية) وتزعم أنه كان أخاً لغيطشة أو ابناً له. ولم يرض نفر من كبار القوط بالخضوع لصبي مثل أخيلا، وتخوف كثير من مطامع الوصيّ رخشندش واستبداده، فامتنع مَن أقام منهم في طليطلة عن الطاعة، واستقل بالأطراف والنواحي منهم من كان مقيماً فيها، ودارت رحى الحرب بين المتنافسين، وتعذر على الملكة وابنها المقام في طليطلة ففرّا منها. واستمرت هذه الفوضى نحو سنة ونصف السنة، واستطاع الوصي أن يجمع نفراً كبيراً من الأنصار، وتحبَّب إلى عامة أهل البلاد الرومان الإسبان من أهل المزارع والمدن، واستطاع أن يكسبهم إلى جانبه. وبدا لخصومه أنه _______ (1) Saavedra. op.cit. p. 30.

ج - لذريق:

مستطيع القضاء على الفتنة وإقرار الحق لذويه عما قريب، فاجتمع منهم نفر وائتلفوا، واعتبروا أنفسهم: (مجلس شيوخ وكبراء) وأن له الحق في أن يقرر في شئون دولة القوط كما يرى، ثم اختاروا واحداً منهم اسمه: رودريك: (لُذَريق)، وانتخبوه ملكاً خلفاً لغيطشة، واستعدوا لنصرته والقضاء على منافسيه بحدّة السيف. وتجمع النصوص كلها، على أنّ هذه الجماعة التي بايعت لذريق، كانت جماعة من كبار القوط وأعيانهم، وأنهم أرادوا باجتماعهم هذا، إنقاذ دولة القوط وتقويم ما انهار من بنيانها، فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبقت الإشارة إليه، من أنّ رخشندش أراد أن يستعين بالرومان الإسبان ليثبت أمر أخيلا، استطعنا أن نستنتج أن المسألة لم تكن مجرد خلاف على العرش بين زعماء القوط، بل كان فيه لون من ثورة أهل البلاد على القوط، ورغبتهم في التخلص من كبرائهم ونبلائهم. ولعل هذا الاستنتاج، يتيح لنا أن نقرر ما تحاول الكثرة الغالبة من مؤرخي الإسبان - قدامى ومحدثين - نفيه وإنكاره، وهو أن دولة القوط، لم تكن في نظر أهل البلاد دولة قومية، بل ظلت في نظر غالبيتهم دولة أجانب، لقي الناس في ظلهم كثيراً من الأذى، وحاولوا التخلص منهم مرات كثيرة. ج - لُذَرِيق: الخلاف شديد حول أصل لذريق، فمن قائل: إنه كان زعيماً قوطياً كبيراً ذا علم بأمور الحرب والسلم، ومن قائل: إنه ينحدر من أصلاب ملكية، وأن جدّه الملك شِنداسفنتو، ومن قائل: إنه ابن تيودفريدو دوق قرطبة الذي كان غيطشة قد عاقبه على ثورته عليه بسمل عينيه. ومهما يكن من أمرٍ، فإن المراجع الإسبانية اللاتينية القديمة، تجمع على أنه كان رجلاً قادراً، وأنه كان قبل اعتلائه العرش حاكماً لولاية بيتيكا، وأن الذين بايعوه على العرش فعلوا ذلك في قرطبة عاصمة ولايته.

ولم يسِر لذريق إلى طليطلة مباشرة بعد إعلانه نفسه ملكاً، بل تريَّث بعض الوقت ليتيسر له جمع أنصاره وملاقاة رَخَشَندش ورجاله في موقعة حاسمة. وكان قد أعلن نفسه ملكاً في ربيع سنة (710 م)، قبل الهزيمة المسماة عادة بهزيمة: جواداليتي (وادي لَكُّهْ) بسنة، وكان ذلك في السنة الخامسة من حكم الوليد بن عبد الملك بن مروان في دمشق، كما يقول: (النص اللاتيني المجهول المؤلف). ويذهب راوية آخر إلى أنه ذهب إلى بَطَلْيَوْس، دون أن يذكر لنا السبب في الذهاب إلى ذلك البلد البعيد. والثابت أنه سار إلى طليطلة بعد أشهر من إعلان نفسه ملكاً على رأس جيش كبير، فيه جلّة قواد القوط ونبلائهم، وهزم رخَشَندش في واقعة حاسمة، قتل فيها هذا الأخير وتفرق أتباعه. أما أبناء غيطشة، فلم يجدوا مفرّاً من مغادرة البلاد فراراً من الغاصب، ففروا إلى إفريقية، وصادر لذريق أملاكهم معتبراً إياهم ثائرين على العرش، والقانون القوطي يقضي بمصادرة أملاك كل ثائر على العرش. ويبدو أن لذريق، ظل يخشى طيلة أيام حكمه القصيرة، عودة أبناء غيطشة إلى البلاد، ومحاولة استعادة عرشهم بمساعدة أنصارهم الكثيرين، ومن ثم حرص على أن ينفر الناس منهم، بالمبالغة في تصوير أعمال أبيهم ومظالمه، وأعانه على ذلك القساوسة، لأن غيطشة كان لا يجيبهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم من القضاء المبرم على يهود. فلا غرابة أن نجد عند معظم المؤرخين الإسبان اللاتين صوراً بغيضة جداً لهذا الملك وأولاده، وما كانوا يدبرون للبلد وأهله من سوء. وقد تصدى نفر من المؤرخين الإسبان المحدثين الدفاع عن غيطشة وأبنائه، بيد أن هذا الدفاع عن غيطشة وأبنائه، والإصرار على تبرئة لذريق من كل عيب، وتصويره فى صورة بطل وطني جاهد المسلمين من بلاده، وبذل كل ما يملك لينجو ببلاده من خطرهم، كل هذا الجهد لا يمنعنا من تعرف شخص لذريق وأحوال عصره تعرفاً معقولاً، هو أقرب ما يكون إلى الصواب. ومن الواضح، أن الرجل كان يشعر باضطراب الأمر عليه، وأنه ظل حياته

متخوفاً من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين، لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد غيطشة وحدهم، بل كانوا في واقع الأمر جلّة الشعب الإسباني الروماني ويهود إسبانيا. ومصداق ذلك، أن لذريق لم يكد الأمر يستقر له، حتى يرغم رجال الدين على إصدار قرارات يتهمون فيها غيطشة بكل شر، ويصورونه للناس بصورة جبَّار ظالم، أراد بالناس وبالكنيسة كل أذى، وأن لذريق لم ينهض إلاّ لإنقاذ الناس من شره وشر أولاده وكل مَن كان يلوذ بهم. وقد أجاب رجال الدين طلبه، فحفلت قرارات مجامعهم الدينية في عصر لذريق، بأسوأ الاتهامات لغيطشة وبنيه ويهود. ومصداق ذلك أيضاً، أن لذريق قضى معظم أيام حكمه القصير، يحارب الثائرين عليه في كل ناحية، وأنه قام بحملات متتابعة على الباسك في الشمال، وطوائف من الثائرين في الشرق والجنوب. وربما كان من دلائل سوء الحال في عهد لذريق، أنه كان في حاجة مستمرة ملحّة للمال، لأن البلاد كانت مضطربة في أيامه، لا يكاد يطيعه في نواحيها إلاّ إقليم صغير. والغالب أن حاجة لذريق إلى المال، هي التي دفعته إلى السطو على الذخائر الغالية، التي كان ملوك القوط قبله، قد كدّسوها في كنيستي سان بدرو وسان بابلو، فقد جرت عادة كل ملك منهم أن يودع إحدى الكنيستين تاجه وبعض ذخائره، وكانت هذه الذخائر مكدّسة في حجرتين مغلقتين في الكنيستين، فلما اشتدت حاجة لذريق للمال، حدّثته نفسه بأخذ بعض هذه الذخائر، للانتفاع بها. وقد حذّره القس من أن يفعل ذلك، ولكنه لم يصغ، ومضى ففتح مستودع الذخائر. ويبدو أنه ذهل من كثرة ما وجد من الذهب والجوهر. فلم يجرؤ على أخذ شيء، لأن رهبة المكان منعته من أن ينفذ ما أراد. وتحدث الناس في ذلك وتناقلوه، حتى أصبح أسطورة في أفواه الناس، ورواها المسلمون على صورة لا تخلو من

د - أحوال إسبانيا تحت حكم القوط:

طرافة (1). وقد استطاع لذريق، أن يقضي على كل أمل لأبناء غيطشة وأنصارهم، بعد أن استمر يوالي غزوهم أشهراً متتابعة، فاستتب له الأمر من ناحيتهم، وأوشك أن يستتب له الأمر في سائر البلاد. د - أحوال إسبانيا تحت حكم القوط: لم يغير القوط شيئاً كثيراً من أحوال المجتمع الإسباني في العصر الروماني: ظلت الأرستقراطية الرومانية القديمة على عهدها من الغنى والسيطرة على الناس، وظل الأحرار من أهل المدن والتجار وأصحاب المزارع الصغيرة يعيشون تحت رحمة الأقوياء في حال هي وسط بين الحرية والرق، وظلت بقية أهل البلاد رقيق أرض أو عبيداً يشْقَون في سبيل الأقلية الغنية المسيطرة. وقد ائتلف الأغنياء مع القوط، لكي يحتفظو بأملاكهم، واستقر نفر كبير من هؤلاء بالمزارع واشتغلوا بالزراعة، وإن بقيت أغلبيتهم تقيم في المدن في معسكرات تعيش على إتاوات وضرائب فرضوها على الزراع وضعاف أهل المدن، حتى ساء أمرهم كثيراً. ولم يكن القوط كثيرين، ولم يكن بهم ميل إلى المشاركة في صناعة أو زراعة، فظلوا غرباء عن البلاد في الغالب، ولم يخلِّفوا فيها من الآثار بما يمكن مقارنته بما خلفه الفرنجة في فرنسة مثلا. ولم تنعم البلاد في حكم القوط بنصيب كبير من الطمأنينة والرخاء، لأن العصر كله كان عصر اضطراب وفوضى في أوروبة كلها لا في إسبانيا وحدها. وانهارت في نواحي غرب أوروبة قواعد المجتمع الروماني الثابت القديم، الذي كان يقوم على تقسيم الأرض بين الدولة وطائفة من كبار الأغنياء المقيمين في الريف، ثم تأجيرها بعد ذلك للفلاحين يزرعونها ويؤدون عنها _______ (1) نفح الطيب (1/ 247 - 248)، وقد أورد معظم مؤرخي المسلمين هذه الأسطورة، وانظر: Saavedra. op.cit. pp. 40-43

مالاً، وكان معظم الأرض تابعاً للدولة، فكانت تزرعه بوساطة الفلاحين الأحرار أو العبيد. فلما طال الزمن، واستمر كل فلاح يزرع نفس القطعة من الأرض سنة بعد سنة، نشأت بينه وبينها صلة هي أقرب ما تكون إلى صلة الملكية. فلما أقبل البرابرة، واستولوا على أرض الدولة، آلت إليهم أملاكها، وبهذا تعرض حق هؤلاء الزرّاع الأحرار في أرضهم للضياع، وغصب البرابرة من الكثير منهم أرضه واستقروا فيها، وأجبروه على زراعتها، كأنه عبد لهم أو قنّ، ولجأ بعضهم إلى مالك غني مجاور تنازلوا له عن أرضهم في سبيل حمايتهم من الغاصبين القادمين. وشاعت هذه الطريقة وعمت، ونشأت عنها طبقة اجتماعية جديدة، هي طبقة المحميين ( Buccellarii) ، وكان القانون يعتبرهم أحراراً، ولكن التزاماتهم حيال الأغنياء الذين كانوا يحمونهم، جعلتهم في الواقع في مراتب التابعين والعبيد. وأقام القوط في إسبانيا حكومة عسكرية انتخابية، يؤيدها الأشراف وملاك الأرض من القوط وأهل البلاد الأصليين على السواء. واستمروا يدبرون شئون البلاد بنفس النظام الروماني القديم: ظلت البلاد مقسّمة إلى أقاليم ومدن، وكان يحكم كل إقليم دوق، وكل مدينة كونت، وكان كل من هؤلاء الحكام يستعين بطائفة صغيرة أو كبيرة من الموظفين، يقومون بما تحتاج إليه حكومة الناحية، في النواحي المالية والقضائية والحربية، وكان هؤلاء الموظفون طبقات، تختلف بحسب العمل الذي يقوم به كل منهم. وكان الملك يحكم حكماً استبدادياً، أي منفرداً برأيه، يقضي في شئون البلاد كما يشاء. وكان له مجلس من النبلاء، يساعده في كل شيء، ولكن الملوك استبدوا بالأمر حتى لم يعد لهذا المجلس ظل من السلطان، فكان الملوك يصدرون القوانين وينفذونها، ويقضون في الأحكام بما يريدون. وكان المفروض أن ينتخب الملك من بين هؤلاء النبلاء، ولكن العادة جرت أن يعتلي العرش أقواهم بحد ............................................

هـ - مجلس طليطلة:

السيف (1). هـ - مجلس طُلَيْطُلَة: ولكن كان للدولة القوطية نظام طيِّب، له أثر حسن في سير الأمور في دولة القوط، هو نظام: (مجلس طليطلة) الذي كان يجتمع بين الحين والحين، للنظر في أمور الدولة الكبرى. وكان أصل هذا المجلس دينياً، إذ كان مجلساً من كبار القساوسة الكاثوليك، يعقدونه للنظر في أمر كنيستهم ورعاياها، فلما اعتنق ملوك القوط الكاثوليكية في عصر ريكاريدو، أصبح هذا المجلس رسمياً يدعو الملك بعقده، ويحضره كبار رجاله، وأصبح مع الزمن مجلساً سياسياً دينياً، يتناول المسائل جميعاً: دينية وغير دينية، ويصدر القوانين والأحكام في شتى القضايا، ثم اتسع سلطانه وتناول القضاء وأصبح بذلك محكمة عليا، وانتهى الأمر بان انضم مجلس النبلاء إلى المجلس الديني وأصبحا مجلساً أعلى للدولة. وقد كان الملك أول الساعين في توحيد المجلسين، لأنهم أرادوا أن يزيدوا أحكامهم قوة ومهابة، بالتصديق عليها من هذه الهيئة التي تضم كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية وكبار أهل الدولة. وقد كان لهذه المجالس تأثير أحسن، فقد سنَّ أعضاؤها مع الزمن قانوناً شاملاً يضمن حريات الناس ويسوّى بينهم: قوطاً وإسبانيين، وهو المسمى: ( Fuero Juzgo) (2) ، وكان لتشريعاته _______ (1) Ballesteras. op. p. 33-40. (2) عن اللاتينية Forum Judicum ( القانون القوطيّ) أي مجموعة القوانين القوطيّة، وقد تكوّن في مدى قرن، وقد بدأه يوريك، ثمّ أضاف إليه خلفه ألاريك الثاني مجموعة من القوانين الرومانية تسمى: ( Breviarum) وهو مختصر للقوانين التي كانت تطبّق على الرومان، ويعزى إلى شنداسفنتو الفضل في مزج المجموعتين معاً وتكوين مجموع متناسق منهما يطبّق على الناس أجمعين. وهو مجموعة قانونية شاملة لها قيمة تشريعيّة عظيمة، ولو طبِّقت على الناس، لكانت سيرة القوط في إسبانيا سيرة أخرى. =

و- المجتمع الإسباني أيام القوط:

الأخرى أثر طيّب في تهذيب نفوس القوط وتهيئتهم للعيش المستقرّ والائتلاف مع أهل البلاد، واستطاع رجاله كذلك الحيلولة بين الملوك وبين الاستبداد السيء المطلق بشئون الرعية. و- المجتمع الإسباني أيام القوط: والخلاف شديد بين المؤرخين حول أحوال المجتمع الإسباني خلال هذا العصر القوطي، فمعظم الإسبان شديدو العصبية لهذا العصر، يذهبون إلى أن الناس كانوا يستمتعون فيه برخاء ظاهر في كل ناحية من نواحي الحياة، وأن الزراع والصناع كانوا في رفاهية، وأن موارد البلاد في ازدياد مستمر، وأن العصر على العموم كان عصر نهضة إسبانية مسيحية. وهم إنما يبالغون هذه المبالغة لكي يؤكدوا أن النهضة التي حدثت في ظلال الإسلام بعد ذلك لم تكن شيئاً جديداً على البلاد، وأن فضلها لا يعود إلى المسلمين وحدهم، وإنما كانت البلاد سائرة في طريقها على أي حال. أما حقيقة الحال، فكانت بعيدة جداً عما يذهب إليه هؤلاء المؤرخون، فلم يكن الحال بدرجة من السوء بهذا الشكل الذي يصوره دوزى في كتابه، ولكنه كان سيئاً على كل حال، ولا يقارن بحال بما وصلت إليه البلاد من الرفاهية والرقي في عصور المسلمين. وذلك هو الرأي الذي يميل إليه المؤرخون المنصفون من الإسبان أنفسهم، بعد أن تجلت مظاهر الحضارة الإسلامية الإسبانية، وأصبحت أوضح من أن يماري بها أحد أو يفضل عليها نظاماً اجتماعياً مضطرباً كنظام المجتمع القوطي الإسباني قبل الفتح الإسلامي (1). وطبيعي ألاّ يستطيع القوط إنشاء مجتمع جديد خير من المجتمع الروماني _______ = Maurice Legendre, Nouvelle Histoire d'Espagne.pp73.sqq.. أنظر فجر الأندلس (24) الفقرة (1). (1) Dozy. Musulmans d'Espagne, 1, pp. 258-259

القديم، إذ لم يكن لهم هم أنفسهم نظام اجتماعي مقبول، قبل أن يدخلوا الدولة الرومانية ويستقروا في أرضها ويقتبسوا نُظُمها، ولكن ذلك لا يمنع من أن يكونوا قد أنعشوا المجتمع الروماني المضمحل، وأدخلوا عليه عناصر جديدة نشيطة، توجهه توجيهاً جديداً. وينبغي أن نقول أيضاً، إن القوط، كانوا أقل إنسانية ونظاماً من طوائف البرابرة الأخرى، التي استقرت في إسبانيا، حتى الفاندال أنفسهم، لأن الفاندال كانوا لا يبهظون البلاد التي ينزلون فيها، بتكاليف حكومية ضخمة، تريد أن تستقصي كل شيءٍ، وتتشبه بالرومان: كانوا يزيلون النظام القديم بمحاسنه ومساوئه، أما القوط فقد احتفظوا بمساوئ هذا النظام، وأضافوا إليه مساوئهم، فعم ضررهم الجميع، من المزارع الصغير، والقنّ الفقير، إلى الغني صاحب الضياع، ولم يتدخل الفندال أو السوييف في مسائل الناس الدينية، أما القوط فتدخلوا واضطهدوا مخالفيهم كما رأينا، فعمَّ بلاؤهم الناس أجمعين (1). ولم يعمل القساوسة شيئاً لتحسين حال الناس، ولم يحاول أحدهم أن يعترض على ما كان الأغنياء يسرفون فيه من الاستبداد بالضعفاء والاستكثار من العبيد، وكان عدد العبيد كبيراً جداً، وكان الأغنياء يقتنونهم بالآلاف، ويعاملونهم معاملة قاسية كأنهم بعض المتاع، وقد يئس هؤلاء المساكين من كل إنصاف من جانب الحاكمين أو من جانب رجال الدين، وباتوا يترقبون الخلاص (2). ولم يكن أوساط الناس من أهل المدن والضياع وأحرار الزراع أحسن حالاً، لأن ملوك القوط لم يلتفتوا إلى شيءٍ يعود بالخير على عامة الناس، ولم يؤثر عنهم إنشاء قنطرة أو تعبيد طريق أو وضع قانون يخفف عن الناس مظالم الحكام أو يجعلهم في مأمن من الظلم والعدوان، وقد كانوا هم أنفسهم _______ (1) Dozy. op. cit. 1,p.258 (2) Dozy.Musulmans d'Espagne,1,p.265.

ز - الحالة الثقافية:

أبعد الناس عن أي لون من هذا التفكير. ويضاف إلى هذه المساوئ إلاضطهاد الديني بألوانه: اضطهاد القوط للكاثوليك حين كانوا أريوسيين، ثم اضطهادهم لليهود على النحو الذي رأيناه في أيام لذريق، مما جعلهم يميلون إلى الخلاص من حكم القوط، وقد اتهمهم القوط بالتآمر على سلامة الدولة مع قوم خارج إسبانيا، لكي يسوِّغوا عسفهم بهم، والغالب أن رجال الدين الكاثوليك كانوا هم المحرضين على هذا الاضطهاد، ولو أن يهود إسبانيا كانوا على اتصال مع يهود إفريقية ويهود أوروبة أيضاً، عداوة للقوط وللكاثوليك، ومحاولة لإلحاق الأذى بهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وحينما تقادم العهد بالقوط في إسبانيا، وتمتعوا بخيراتها الوفيرة، مالت بهم نفوسهم إلى الدعة، وجعلوا يكلون أمور الحرب إلى عبيدهم، حتى زاد عدد العبيد على عدد الأحرار في الجيش. ويبدو أن الحروب المتعددة بين ملوك القوط ونبلائهم هي التي حفّزت هؤلاء الملوك إلى الاستكثار من هؤلاء العبيد في الجيش، لأن أعداد محاربي القوط القليلة توزعت بين الملوك والثائرين، وكانت كثرة العبيد في الجيش من أسباب ضعفه، لأنهم كانوا ساخطين على الدولة، ينتظرون الفرصة للتخلي عنها وتركها لمصيرها (1). ز - الحالة الثقافية: لابد من الإشارة إلى حال الثقافة بألوانها في البلاد قبل الفتح الإسلامي، فهذه هي الناحية الوحيدة التي سيجد فيها المسلمون أساساً طيباً يزيدون عليه. وقد كانت إسبانيا منذ فجر التاريخ بلد ثقافة وموطن علم وفنٍ، وضع الفينيقيون أساس ذلك كله، وزاد عليه اليونان والرومان. ثم أقبلت المسيحية فأنعشته وسارت به خطوات إلى أمام. ولعل في هذا بعض ما يفسر لنا سرّاً من أسرار الازدهار الفكري السريع الذي حققه المسلمون في إسبانيا، على قلة _______ (1) Dozy.Musulmans d'Espagne,p.269.

اتصالهم بمنابع الثقافة القديمة والوسيطة في العالمين المسيحي والإسلامي. لقد تأصلت المسيحية في إسبانيا بأسرع مما تأصلت في فرنسة مثلاً، فلم يكد القرن السادس الميلادي يهل، حتى كانت البلاد تفيض بالأديرة يقيم فيها الرهبان يدرسون ويتذاكرون، والكنائس يقوم بأمرها قسس معنيون بالدرس مشغوفون بالكتابة والتأليف. وقد تركت أيام القوط في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي آثاراً في الدراسات الدينية المسيحية بخاصة الأخلاقية مقتبسة من الأفكار اليونانية والرومانية على الأكثر، والتاريخية التي تفسر التاريخ تفسيراً دينياً مسيحياً، والأدبية. ولم يخلِّف القوط في الفنون إلاّ ثروة معمارية فقيرة جداً، وينسب بعض مؤرخي الفنون العقد المخمّس إلى القوط (1). وخلاصة القول، إن إسبانيا القوطية، لم تكن شرّاً كلها، كما يذهب قسم من المؤرخين الفرنسيين والعرب، ولم تكن خيراً كلها، كما يزعم الإسبان، وإنما كانت جوانبها الإجتماعية ضعيفة جداً، بل تُعد امتداداً للعصر الروماني المضمحل. لأن القوط أنفسهم كانوا قبائل متبدّية لا تملك من الأسس الاجتماعية ما يعينها على تنظيم بلد واسع كإسبانيا، ومجتمع متشعب مختلف كمجتمعها الذي ضم أخلاطاً من كل صنف. وقد حاولوا أن يتخذوا مظاهر النظام السياسي الروماني فلم يوفقوا، لأنهم كانوا أبعد من أن يفهموه أو يستطيعوا البناء عليه، ولم يصب الناس من وراء ذلك إلاّ شرّ بالغ. وأما التاحية الفكرية، فكانت خيراً خالصاً، لأن الذين قاموا بها كانوا من الإسبان الأصليين بعد أن اعتنقوا المسيحية وتأثروا بها، فلا عجب أن يظهر من بينهم بعض العلماء، لأن البلد كان قبل ذلك موطن حضارة فكرية وفلسفة باقية الأثر في عهود الرومان. لقد سبقت إسبانيا المسيحية أوروبة الغربية كلها في هذه الناحية (2)، كما _______ (1) Ballesteros. op. cit. p. 91. (2) اعتمدنا في هذه الدراسة بالدرجة الأولى، على: فجر الأندلس (2 - 31)، فللمؤلف =

يليان

ستصبح إسبانيا الإسلامية المركز الأول للإشعاع الحضاري في أوروبة، كما اعترف بذلك المفكرون الأجانب كافة، فقد كانت إسبانيا المسلمة عاملاً من العوامل الأساسية ليقظة أوروبة، يوم كانت أوروبة في ظلام دامس، فكان فضل الإسلام على الحضارة الأوروبية فضلاً عظيماً. يُلْيَان 1 - شخصيته: كانت مدينة سَبْتَة وما يجاورها، تُحكم من قبل حاكم مسيحي يدعى: يُلْيَان (جوليان، يوليان، وليان، بليان، إليان، جليان) كانت له عدّة وقوّة، لم ير لها موسى بن نصير مثيلاً من قبل (1)، فقد هاجم موسى سبتة، ولكنه لم يتمكن من فتحها، فعقد الصلح مع يليان حاكم المدينة، وأقرّه في منصبه، مقابل اعتراف الأخير بالفتح الإسلامي (2). وقد شجع يليان موسى بن نصير وطارق بن زياد على فتح الأندلس، كما عاون المسلمين في الفتح، وكان له نشاط واضح قبل الفتح وفي أيامه، وسيرد ذكر تفاصيل نشاطه في سيرة قادة الفتح. والاختلاف بين الباحثين في أمرين: الأول في شخصية يليان، والثاني في الأسباب التي حملته على تشجيع موسى وطارق على الفتح، ومعاونة الفاتحين لإنجاز الفتح. والروايات متناقضة حول شخصية يليان، فيقال: إنه مسيحي من إفريقية (3)، ويقال: إنه مسيحي من بربر غمارة (4)، وقيل: إنه _______ = الفاضل شكري وتقديري. (1) أخبار مجموعة (4). (2) ابن خلدون (6؛ 437 - 438) وأخبار مجموعة (4) ونفح الطيب (1؛ 230). (3) Chr. 754,p. 150, No.40. (4) ابن خلدون (6/ 437 - 438) والسلاوي (1/ 65) و Codera, VII, pp. 45-94

رومي (1)، وقيل: إنه قوطي من أتباع ملك إسبانيا (2). وجاء المؤرخون الأجانب المحدثون، فحققوا شخصية يُلْيان، فأثبت قسم منهم وجوده فعلاً، بعد أن كان قسم منهم قد ذهبوا إلى أنه شخصية أسطورية خلقها خيال العرب (3). وجاء من بعد مَن أثبت وجوده، مؤرخ أثبت أصله والدور الذي قام به هو وأولاده (4)، وقد ذهب هذا المؤرخ إلى أن يليان فارسي الأصل، وأنه من الأزارقة. وقد استنتج ذلك من أن يليان خلّف ولداً اسمه: بَلْكايِش، أسلم بعد الفتح، وحسن إسلامه، وبلكايش اسم من أسماء الفُرس الأزارقة. أما المؤرخون العرب المسلمون، فتابعوا المؤرخين الأجانب على الأكثر، ولم يروا رأياً جديداً. ويليان مسيحي بلا خلاف، وليس من بربر غمارة، وبقاؤه مدة طويلة في سبتة بين البربر، جعل بعض المؤرخين يتوهّم أنه من البربر، وهو ليس منهم، لأن مَن كان مسيطراً على شمال إفريقية في حينه لا يولّي على البربر بربرياً، خوفاً من انحيازه إلى قومه وتحيّزه لهم على الأجنبي، وقائمة حكام الروم على الشمال الإفريقي تثبت أن الحكام جميعاً بدون استثناء، لم يكونوا من البربر. أما الذين زعموا أن يليان قوطي، فلا سند لهم، لأننا نعلم بأن القوط _______ (1) الإحاطة (برواية ابن القوطية) - (1/ 100) وابن الكردبوس (42) وابن الأثير (4/ 106) والمراكشي (6) والبيان المغرب (1/ 26) والنويري (22/ 14). (2) ابن عبد الحكم (205) وأخبار مجموعة (4) وفتح الأندلس (2 - 3) وابن الكردبوس (42 و 44) وابن الشباط (105) والبيان المغرب (1/ 203) و (2/ 6 - 7) والحميري (7) ونفح الطيب (1/ 251). (3) Dozy..Recherches-3ed.- 1, pp. 57 sq. (4) .Saavedra, pp. 48 وهذه سلسلة سلالة يليان بعد الفتح بحسب ما تذكره الروايات الإسلامية: يليان - بلكايش، عبد الله، الحكم، سليمان، أيوب (توفي سنة 326 هـ)، سليمان (توفى سنة 379 هـ)، أحمد (توفي سنة 388 هـ). وقد اشتهر الثلاثة الأخيرون بصدق الإسلام وسعة العلم، انظر فجر الأندلس (53 - 54) - الهامش.

الغربيين فقدوا معظم ممتلكاتهم في شمال إفريقية منذ أيام الملك ( Theudis) (531-548 م) (1) ولقد كانت سَبْتَة بأيدي البيزنطيين منذ منتصف القرن السابع الميلادي، ولا توجد هناك أية إشارة إلى وقوع ما يخالف ذلك (2). ولهذا يمكن استنتاج أن يليان كان الحاكم البيزنطي العام لولاية موريطانيا الطنجيَّة ( Mauretania Tingtana) وهو إقليم كان في ذلك الحين تابعاً للدولة البيزنطية لا لإسبانيا القوطية، وأن يليان كان يقوم بواجبات الحاكم العام ( Exarcus) لهذه الناحية من قبل الإمبراطور البيزنطي، وأنه بدأ ولايته في سن صغيرة (3)، وأقام في هذه الناحية زماناً طويلاً. ولما كانت موريطانيا الطنجية بعيدة كل البعد عن بيزنطة، ولما كانت أمور الدولة البيزنطية في ذلك الحين مضطربة اضطراباً لا يمكنها من الإشراف على ولاياتها القريبة فضلاًَ عن البعيدة (4)، ولما كانت تلك الدولة قد خسرت ولاياتها كافة في شمالي إفريقية بالفتح الإسلامي، ولم يبق غير ولاية سبتة وحدها، لا عون لها ولا سند، غير الدولة الإسبانية، فقد تحرر يليان من سلطان الدولة البيزنطية، وأصبح كالحاكم المستقل في هذه الناحية. وإذ انقطعت عنه الإمدادات من الدولة البيزنطية، فقد أخذ يوثِّق علاقاته بمن جاوره من قبائل البربر، حتى كسب ثقتها وودّها، وأصبح كالزعيم لها، حتى اختلط الأمر على بعض المؤرخين، فحسبوه من البربر. كما أخذ يوثق علاقاته بالإسبان ليحظى منهم بالإمدادات التي تعينه على الثبات أمام المسلمين الفاتحين. ولما وصل موسى بن نصير إلى إقليم طَنْجَة سنة تسع وثمانين الهجرية (709 م) وحاصر مدينة طَنجة وفتحها (5)، سار على رأس جيشه إلى _______ (1) CMH, vol,11,p.163. & Shaw, op. cit. p. 222 (2) Livemore, pp. 191, 245. (3) ابن الأثير (4/ 106). (4) فجر الأندلس (54). (5) نفح الطيب (1؛ 215 و 234).

2 - يليان والمسلمون الفاتحون:

مدائن شط البحر، وعلى رأسها سَبْتَة، وعليها يليان، فقاتله موسى، ولكنه ألفاه في نَجْدة وقوّة وعُدَّة، فلم يُطِقْه، فرجع إلى طنجة، وأقام هناك بمن معه. وأخذ موسى بالغارات على منطقة سبتة، والتضييق عليهم، بالميرة والإمداد من إسبانيا من قِبَل ملكها غَيْطَشَة، فهم يذبّون عن سبتة ذبّاً شديداً، ويحمون بلادهم حماية تامة (1) فكانت علاقة يليان بغيطشة من أهم أسباب نجاحه في الدفاع عن منطقته وحمايتها. ولكن هذه العلاقة كانت علاقة مصلحة متبادلة: مصلحة يليان تَلَقى العون من غيطشة بعد أن حرم من عون القسطنطينية، ومصلحة غيطشة أن تصبح سبتة ومنطقتها الخط الدفاعي الأول عبر بحر الزقاق عن إسبانيا تجاه الفتح الإسلامي، وكسب هذه المنطقة لإسبانيا في الحاضر والمستقبل، وما كان تعاون يليان مع القوط الغربيين إلاّ مضطراً (2). والمؤرخ الأجنبي الذي زعم أن يليان فارسي، لأنه خلّف ولداً اسمه: بَلْكايش، وهو اسم فارسي، فإن زعمه متهافت غير منطقي ولا معقول، فكثير من الفرس أسماؤهم عربية، وكثير من العرب أسماؤهم غير عربية، وكثير من أبناء المسيحيين أسماؤهم إسلامية، فلا يصبح الفارسي عربياً ولا العربي فارسياً ولا المسيحي مسلماً استناداً على اسمه أو اسم ولده، ولو زعم مثل هذا الزعم مؤرخ عربي أو مسلم، لاعتُبر زعمه فضيحة مدوِّية، ولسارت بأخبارها الركبان. إن يليان مسيحي رومي، كان الحاكم البيزنطي العام على ولاية سبتة، ثم تعاون مع غيطشة حتى مات، فتعاون مع لذريق الذي خلف غيطشة، ثم تعاون مع موسى بن نصير وطارق بن زياد. 2 - يليان والمسلمون الفاتحون: _______ (1) نفح الطيب (1؛ 234). (2) أخبار مجموعة (4).

منعت مشاكل القوط الغربيين الداخلية بعد رحيل غيطشة سنة (708 م أو سنة 709 م) من الاستمرار في معاونة يليان (1)، فأصبح وحيداً أمام تيار الفتح الإسلامي الجارف، وأصبحت ولايته وحدها هدفاً للفتح، فلم يكن بإمكانه أن يثبت طويلاً. لقد رأى يليان الولايات البيزنطية في الشمال الإفريقي تنهار واحدة بعد أخرى، أمام زحف المسلمين الفاتحين، وكان آخر تلك الولايات ولاية طنجة المجاورة لولايته والتي فتحها المسلمون، فلم يبق أمام يليان غير التعاون مع المسلمين الفاتحين، ليبقى في منصبه على ولاية سبتة، وإلاّ فإن المسلمين قادرون على فتح ولايته عَنْوَة كما فتحوا غيرها من الولايات، ولن يطول انتظار يليان ليرى مصير ولايته المتوقع الذي لا شك فيه. إن حرمان يليان من عون ملك القوط ومعاونته، هو السبب غير المباشر لتقرّبه من المسلمين الفاتحين وتعاونه معهم ومعاونته لهم. ولسنا نعرف شيئاً عن الأسس التي ارتكز عليها السلام بين يليان والمسلمين الفاتحين، وكل ما نعرفه أن طارق بن زياد حاول فتح سبتة كما حاول موسى قبله، فلم يستطع فتحها عَنْوَة، فاكتفى بالتودد إلى يليان ومجاملته، وفجأة سلّم يليان سبتة للمسلمين الفاتحين صلحاً، وشجعهم على فتح الأندلس، وعرض عليهم معاونته لهم وتعاونه معهم من أجل تحقيق الفتح. والمصادر الإسلامية تذكر سبباً مباشراً لاستسلام يليان وتشجيعه على فتح الأندلس، وتعاونه مع المسلمين الفاتحين لتحقيق الفتح. فقد ذكرت، أنه كان من سِيَر أكابر العجم بالأندلس وقوادهم، أن يبعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم، إلى بلاد الملك الأكبر بطُليطلة _______ (1). Dozy. p. 230 & Shaw. op. cit. 221-222; Livermere. pp. 245-246 وعبد العزيز سالم - تاريخ المسلمين وحضارتهم في الأندلس بيروت - 1962 - (47).

ليصيروا في خدمته، ويتأدّبوا بأدبه، وينالوا من كرامته، حتى إذا بلغوا، أنكح بعضهم بعضاً استئلافاً لآبائهم، وحمل صَدُقاتهم، وتولى تجهيز إناثهم إلى أزواجهن. واتفق أن فعل ذلك يليان عامل لُذَريق على سبتة، وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس، وأهلها على النصرانية، ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال تكرم عليه. فلما صارت عند لذريق وقَعَت عينُه عليها فأعجبته وأحبها حباً شديداً، ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضّها. واحتالت حتى أعلمت أباها بذلك، سرّاً بمكاتبة خفيّة، فأحفظه شأنها جداً، واشتدت حميّته، وأقسم ليزيلنّ سلطانه، وليحفرنّ تحت قدميه، فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس. ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبته، في أصعب الأوقات، في ينير (1) قلب الشتاء، فصار بالأندلس. وأقبل طُليطلة نحو الملك لذريق، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت، وسأله عما لديه، ولِمَ جاء في مثل وقته؟ فذكر خيراً، واعتلّ بذكر زوجته، وشدّة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده، وتمنيها لقاءها قبل الموت، وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحبّ إسعافها، ورجا بلوغها أمنيتها منه، وسأل الملك إخراجها إليه، وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها، ففعل وأجاز الجارية، وتوثّق منها بالكتمان عليه، وأفضل على أبيها، فانقلب عنه. ولما ودّعه قال له لذريق: "إذا قدمتَ علينا، فاستفره لنا من الشُّذانقات (2) التي لم تزل تُطرفنا بها، فإنها آثر جوارحنا لدينا"، فقال: "أيها الملك وحق المسيح لئن بقيت لأُدخلنّ عليك شُذانقات ما دخل عليك مثلها قط"، عرّض له بالذي أضمره، من السعي في إدخال رجال العرب عليه، وهو لا يَفْطِن. ولم يتنهنه يليان، عندما استقر بسبته عملِه، أن تهيّأ للمسير نحو موسى بن _______ (1) ينير اسم الشهر ( Enero) : وهو شهر كانون الثاني (يناير)، أول شهر من أشهر السنة، ويكون في وسط فصل الشتاء. (2) الشذانقات: الصقور أو الشواهين، انظر معجم متن اللغة (3/ 294).

نصير الأمير، فمضى نحوه بإفريقية، وكلّمه في غزو الأندلس، ووصف له حسنها وفضلها، وما جمعت من أسباب المنافع، وأنواع المرافق، وطيب المزارع، وكثرة الثمار، وغزارة المياه وعذوبتها، وهَوَّن عليه مع ذلك حال رجالها، ووصفهم بضعف البأس وقِلّة الغناء، فشوّق موسى إلى ما هناك، وأخذ بالحزم إلى ما دعاه إليه يليان (1). ولكن بعض المؤرخين المحدثين، وعلى رأسهم قسم من المستشرقين، يرون أن قصة ابنة يليان في بلاط طليطلة محض أسطورة، ليس لها أساس من الواقع، وقد شايعهم من المؤرخين العرب والمسلمين في هذا الرأي (2). ولعل هناك ما يسوِّغ التشكيك في هذه القصة من مؤرخي الأجانب والمستشرقين، والهدف من هذا التشكيك واضح ومعلوم ومفهوم، ولكن متابعة المؤلفين العرب المسلمين للأجانب في هذا التشكيك في هدفه غير واضح ولا معلوم. ومن المعروف أن مؤرخي الأجانب وبخاصة المستشرقين منهم، شككوا في وجود شخصية يليان أصلاً، وذهبوا إلى أنه شخصية أسطورية خلقها خيال العرب -كما ذكرنا ذلك قبل قليل- فتابعهم في هذا التشكيك قسم من مؤرخي العرب والمسلمين تقليداً، وعلى غير هدى وبصيرة، حتى إذا حقق قسم من المؤرخين الغربيين شخصية يليان، وأثبتوا وجودها فعلاً بشكل قاطع جلي، عاد المقلِّدون من مؤرخي العرب والمسلمين إلى متابعة الغربيين من جديد، فكانوا في كلا الحالتين مقلدين، ينقلون آراء الأجانب بلا تدقيق ولا تمحيص. وقصة ابنة يليان، هي الأخرى، تنتظر مَن يحقِّق وقوعها من المؤرخين _______ (1) نفح الطيب (1؛ 251 - 253). (2) قارن: Saavedra. pp. 5R-59، وفجر الأندلس (59 - 60) ومحمود مكي - ملحمة آخر ملوك القوط - المجلة (30 - 35) - العدد (74) - 9913 ومحمد عبد الله عنان - دولة الإسلام في الأندلس (1؛ 35 - 37) والفتح والاستقرار العربي والإسلامي في شمال إفريقية والأندلس (160).

الغربيين ومن المستشرقين، لتصبح حقيقة لا شك فيها بالنسبة لبعض مؤرخي العرب والمسلمين المحدثين ولا تبقى أسطورة من الأساطير. ولا أرى أن مثل تلك القصة لا يمكن حدوثها في كل زمان ومكان، وبخاصة في تلك الأيام، في ذلك المحيط، الذي اتّسم بالانحراف، فأصبح قاعدةً في القوط بعكس الاستقامة التي أصبحت استثناء فيهم. كما أن ردّ الفعل الذي أظهره يليان ليس مستغرباً من أب تجاه انتهاك عرض ابنته قسراً، كما أن ذكرها في حشد من المصادر المعتمدة يوثِّق حدوثها ويؤيد وقوعها، ولا عبرة بالمصادر العربية القليلة التي لم تتطرق إليها اختصاراً أو لأسباب أخرى، إذ لو كان مؤلفوها لا يصدِّقونها لأبدوا رأيهم فيها، ولكنهم لم يفعلوا (1). ومثل هذه القصة تكررت كثيراً في محيط الواقع، ولا تزال تتكرر حتى اليوم (2)، وأكثرنا نسمع أمثالها، فلماذا لا نكذِّبها، ونكذِّب قصة ابنة يليان، لأن مصادرها المعتمدة عربية إسلامية؟. ولست مع الذين يشككون في هذه القصة، وأراها السبب المباشر لتعاون يليان مع المسلمين، ولكنني لا أراها السبب الرئيس، بل السبب الرئيس هو أنه كان يتلقى من غيطشة الإمدادات عَدَداً وعُدَداً، مما سهل عليه الدفاع عن ولايته، فلما حرمه لذريق من تلك الإمدادات بسبب مشاكله الداخلية، استاء من هذا التوقف، وبدأ بالتعاون مع المسلمين على القوط، خاصة بعدما شعر بقوة المسلمين المتنامية في المنطقة، وإقبال البربر على الدخول في دين الله أفواجاً. ولعل مما يعزِّز أن تغيّر وضع يليان: من الدفاع العنيد عن ولاية سبتة، إلى الاستسلام المفاجئ للمسلمين وتسليم سبتة لهم واندفاعه في معاونته للمسلمين وتعاونه معهم مادياً ومعنوياً على النظام القائم يومها في إسبانيا، هو هذا الأثر البالغ على نفسيته، بعد علمه بقصة ابنته مع لذريق، فنسي كل _______ (1) البلاذري (230 - 231) برواية الواقدي، البيان المغرب (2؛ 6) برواية الواقدي و (2/ 4) برواية عريب بن سعد، وابن الشباط (105 - 106) برواية عريب بن سعد. (2) د. علي البارودي - حدث في رحلة الخريف (65 - 66) الإسكندرية - بلا تاريخ.

شيءٍ إلاّ الانتقام لابنته ممن أساء إليه في سمعته وشرفه بين الناس.

فتح الأندلس

فتح الأندلس 1 - الموقف العام: أكمل عمرو بن العاص بمعاونة عُقبة بن نافع الفهري فتح لِيبْيَا كلها سنة اثنتين وعشرين الهجرية (1) (642 م). وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطّاب: "إنّا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية (تونس) تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها، فعل"، فكتب إليه عمر ينهاه ويأمره بالوقوف عند هذا الحد، فعاد إلى مصر مكرَهاً بعد أن استخلف على ليبيا عُقْبة بن نافع الفِهْرِي، الذي صار إليه بعد ذلك فتح المغرب (2). وتولى عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح القرشي العامري (3) مصر لعمرو بن العاص، ففتح إفريقية. وخلفه معاوية بن حُدَيج السّكوني (4)، فأكمل فتح إفريقية. وخلفه عقبة بن نافع (5)، ففتح حتى المحيط الأطلسي، ولكن فتحه القريب من المحيط لم يكن فتحاً مستداماً، واستُشهد عقبة في ميادين الفتح. وخلف أبو المهاجر دينار (6) عقبة بن نافع، ففتح أبو المهاجر المغرب الأوسط (الجزائر). وخلف زهير بن قيس البُلَوِي (7) أبا المهاجر، فعزّز الفتح في إفريقية، وانتصر على البربر انتصاراً سَوقِياً، ولكنه استشهد في ميادين الفتح. _______ (1) ابن الأثير (3/ 25 - 26) والعبر (1/ 26). (2) البلاذري (316) واليعقوبي (2/ 134). (3) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 51 - 74). (4) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 75 - 89). (5) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 90 - 136). (6) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 137 - 149). (7) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 150 - 170).

وخلف حسّان بن النعمان الغسّاني (1) زهيراً ففتح قَرْطاجَنّة وفاس وانتصر على الروم في معركة سَوْقِيّة حاسمة. وجاء موسى بن نصير (2) خلفاً لحسان، فأكمل فتح المغرب الأقصى، وفتح طنجة عَنْوَة، وفتح سبتة صلحاً. وكان فتح طنجة سنة تسع وثمانين الهجرية (709 م)، وفي هذه السنة مات غيطشة، وتولى مكانه لذريق على الأندلس، وكان على سبتة يُلْيَان الذي قاوم بنجاح موسى وردّه عن فتح سبتة بمعاونة غيطشة الذي كان يمده بكل ما يحتاج إليه للثبات أمام المسلمين الفاتحين. فلما مات غيطشة، لم تصل إلى يليان مِن خلفه الإمدادات، فلم يبق أمامه من خيار غير الاستسلام للمسلمين الفاتحين، فسلم سبتة صلحاً لطارق بن زياد وطنجة لموسى بن نصير. وكان فتح الأندلس، نتيجة طبيعية لتمام فتح المغرب، لأن الأندلس هو الجناح الغربي للمغرب (3)، ولأن الأندلس كان المجال الحيوي للفتح الإسلامي بعد إنجاز فتح المغرب الإفريقي، واستقرار الفتح فيه بانتشار العرب والإسلام في ربوعه، وبوجود القوة الضاربة بيد العرب المسلمين والبربر المسلمين الفاتحين على البر المغربي. وبين الأندلس والبر المغربي الإفريقي - الذي فتحه المسلمون - بحر المجاز، عرضه ما بين طنجة والبر الأندلسي ثمانية عشر ميلاً، وهو عرضه أيضا بين جزيرة طريف على البر الأندلسي وسبتة على البر المغربي الإفريقي، ويعرف هذا الموضع بالزقاق، وبحر المجاز هو الذي يصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي (4)، وهذا المجاز هو الذي يفصل بين المسلمين الفاتحين من جهة، وأهل الأندلس من جهة ثانية. ولكي يحمي _______ (1) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 172 - 220). (2) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (3) المسالك والممالك للأصطخري (33). (4) نفح الطيب (1/ 145 - 146).

المسلمون ما فتحوه في المغرب من أهل الأندلس والقوط الذين يحكمونها، كان لابد لهم من فتح الأندلس، لحماية البر الإفريقي في شمالي إفريقية، فقد رأينا طنجة وسبتة قبل فتحهما تحت حكم الأندلس، فقد كان يليان عامل لذريق على سبتة (1): "ثم ساروا إلى مدائن على شط البحر، فيها عمال لصاحب الأندلس، قد غلبوا عليها، وعلى ما حولها، ورأس تلك المدائن سبتة، وعليها علج يسمى: يليان، قاتله موسى، فألفاه في نجدة وقوة وعدّة فلم يُطِقْهُ، فرجع إلى مدينة طنجة، فأقام بمن معه، وأخذ بالغارات على ما حولهم والتضييق عليهم، والسفن تختلف إليهم بالميرة والإمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة، فهم يذبّون عن حريمهم ذباً شديداً، ويحمون بلادهم حماية تامة، إلى أن هلك غيطشة، فاضطرب حبل أهل الأندلس .. " (2) هكذا كانت العلاقة وثيقة للغاية بين ولاية سبتة وطنجة وغيرهما مع مملكة القوط في الأندلس، وكان التعاون بين الطرفين وثيقاً، ومنذ أقدم العصور، إذا كان الحكم في الأندلس قوياً، سيطر على المدن الإفريقية المواجهة لساحل الأندلس، وإذا كان الحكم فيها ضعيفاً سيطر البر الإفريقي على الأندلس أو على جزء منها، والهدف هو حماية الأندلس بالسيطرة على مدن الساحل الإفريقي، لتكون الخط الدفاعي الأول عن البر الأندلسي، وحماية البر الإفريقي من حكام الأندلس، بفتح الأندلس، كما فعل المسلمون الفاتحون، فلا بد من أن يكون أحد الطرفين مسيطراً على الطرف الثاني. إن الهدف من فتح الأندلس، هو ترصين الفتح الإسلامي في شمالي إفريقية بعامة وفي ولايتي طنجة وسبتة بخاصة. أما الهدف الثاني من الفتح، فهو نشر الإسلام في ربوعها وإعلاء كلمة الله فيها. إن الفاتحين حملوا إلى الناس الإسلام بالفتح، ولم يحملوا الناس بالفتح على الإسلام. _______ (1) نفح الطيب (1/ 251). (2) نفح الطيب (1/ 250).

وقد كان الروم قد اتخذوا من جزيرة صِقِلِّيَة قاعدة أمامية متقدمة لهم، ينطلقون منها للتعرض بالساحل الإفريقي المقابل لها، فأمر موسى بن نصير بالتأهب لركوب البحر، وأعلمهم أنه راكب بنفسه، فرغب الناس وتسارعوا، فلم يبق شريف ممن كان معه إلاّ وقد ركب الفلك وعقد موسى لواء هذه الغزوة لابنه عبد الله بن موسى، وأمّره على رجالها، وولاّه عليهم، ثم أمره أن يتوجه إلى صقلية. وإنما أراد موسى بما أراد من سيره في هذه الحملة أن يركب أهل الجلد والحماية والنكاية والشرف، فسميت هذه الغزوة غزوة الأشراف (1)، وكان ذلك سنة خمس وثمانين الهجرية (705 م). وفي سنة سبع وثمانين الهجرية (707 م)، أغزى موسى ابنه عبد الله جزيرة سَرْدَينيا (2) فغنم وعاد سالماً غانماً. وكانت هاتان الغزوتان لحماية الساحل الإفريقي من غزو الروم من قواعدهم البحرية في هاتين الجزيرتين. وبعد أن أنجز موسى بن نصير استعادة فتح المغرب الأوسط، وأكمل فتح المغرب الأقصى، وفتح طنجة، أصبحت السواحل المغربية المواجهة لبعض جزر البحر الأبيض المتوسط وللأندلس، معرضة لهجمات الروم، لغرض استعادة تلك المناطق المغربية الغنية إلى سيطرتهم من جديد، ومعرضة لهجمات من القوط الذين يحكمون الأندلس، لغرض إبعاد المسلمين الفاتحين عن بلادهم بطردهم من السواحل المغربية القريبة منهم، وحماية الأندلس من غزو المسلمين المتوقع لها، ومحاولة فتحها. وكان من جزر البحر التي اتخذها الروم والقوط قواعد لهم متقدمة: جزيرتا مَيُورُقة ومَنُوْرَقة، وهما جزيرتان في البحر الأبيض المتوسط، بين صقلية وشبه جزيرة .............................................. ........ _______ (1) الإمامة والسياسة (2/ 70 - 71). (2) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وانظر العبر (1/ 104) وشذرات الذهب (1/ 98) والبداية والنهاية (6/ 77).

2 - فتح طريف:

الأندلس (1). وفي سنة تسع وثمانين الهجرية (709 م) جهز موسى ابنه عبد الله فافتتح هاتين الجزيرتين (2)، وغنم ما لا يحصى، وعاد سالماً (3). والهدف الأول والأخير، من تعرض المسلمين بهذه الجزر، هو حماية الساحل الإفريقي من هجمات الروم والقوط، والهجوم أنجع وسائل الدفاع كما يقولون (4). وعندما ضعف المسلمون في شمال إفريقية، أصبحت تلك الجزر قواعد لأساطيل أعدائهم وحشود قواتهم للهجوم على المسلمين، وأسر نسائهم ورجالهم، وأخذهم إلى القسطنطينية وغيرها. إن فتح الأندلس، هو الوسيلة الوحيدة لحماية البر الإفريقي المقابل لها، والذي كان المسلمون قد فتحوه، وصارعوا الأهوال من سنة اثنتين وعشرين الهجرية إلى سنة تسعين الهجرية، أي مدة ثمان وستين سنة، بذلوا خلالها كثيراً من الجهد والنفقات والشهداء، على رأسهم قائدان: عقبة بن نافع، وزهير بن قيس البلوي. هكذا فتح المسلمون الفاتحون ما فتحوه، وهكذا حافظوا على ما فتحوه: بالتعرض والجهاد، وبفتح جديد يرصِّن الفتح القديم. 2 - فتح طَرِيْف: أرسل موسى في شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين الهجرية (آب = _______ (1) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وانظر العبر (1/ 104) وشذرات الذهب (1/ 98) والبداية والنهاية (9/ 99). (2) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وانظر تاريخ خليفة بن خياط (1/ 305) وابن الأثير (4/ 540). (3) ابن الأثير (4/ 540). (4) انظر تفاصيل هذه الفتوح، في سيرة: عبد الله بن موسى بن نصير في كتاب: قادة فتح الأندلس والبحار.

3 - فتح طارق بن زياد:

أغسطس - أيلول = سبتمبر 710 م) سرية استطلاعية إلى جنوبي الأندلس ففتح جزيرة طريف والجزيرة الخضراء، وعاد مع رجاله في رمضان أيضاً سالماً غانماً (1). 3 - فتح طارق بن زياد: أنزل طارق بن زياد قواته في منطقة جبل طارق بوجبتين، فكوّن المسلمون في تلك المنطقة رأس جسر لقوات المسلمين. وأرسل طارق أحد قادته وهو: عبد الرحمن بن أبي عامر المعافري ففتح مدينة قرطاجنة الجزيرة، ومدينة الجزيرة الخضراء (2). وانتصر طارق على جيش لذريق في معركة وادي لَكُّهْ الحاسمة. وفتح طارق بعد هذه المعركة شَذُونَة والمَدُور وقَرْمونة وإشبيلية وإسْتَجَة، وأرسل مغيثاً الرومي ففتح قرطُبة، وأرسل سرايا ففتحت مالَقَة وإِلبيرَة وغرناطة وكورة تُدْمِير وأُورْيُولة ومرسِيَة، ثم قصد هو طُليطلة ففتحها (3). 4 - الفتح المشترك بين موسى وطارق: أولاً: عبر موسى بن نصير إلى الأندلس في شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (حزيران - تموز 712 م). ففتح موسى قبل لقائه بطارق شَذُونَة وقَرْمُونَة ورَعْواق وإشبيلية ومارِدَة ولَقَنْت وإسْتَجة. ومن الواضح أن هذه المدن كان قد فتحها لأول مرة طارق ابن زياد، فيبدو أنها قد انتقضت فأعاد موسى فتحها من جديد. ثانياً: وبعد لقاء موسى بطارق، فتحا معاً بالتعاون بينهما: سَرْقُسطَة _______ (1) ابن الأثير (4/ 511). (2) تحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس (مخطوط) ص (70) - علي بن عبد الرحمن ابن هذيل. (3) انظر تفاصيل هذه الفتوح في سيرة طارق بن زياد.

5 - فتح موسى بن نصير:

ووشْقَة ولارِدة وطَرمونَة وبرشلونة وجلِّيقِية وقشتالة القديمة. ثالثاً: وانقسم جيش المسلمين إلى قسمين: قسم بقيادة موسى، وقسم بقيادة طارق، ففتح طارق وحده أماية وأشرقة وليون، ثم عاد مع موسى إلى طليطلة في طريقهما إلى دمشق، حيث استدعاهما الخليفة. 5 - فتح موسى بن نصير: أولاً: عبر موسى بن نصير إلى الأندلس في شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (حزيران - تموز = يونيو - يوليو - 712 م)، ففتح موسى قبل لقاء طارق: شَذُونَة وقَرْمُونَة ورعْواق وإسْتَجَّة وإشبيليَة ومارِدَة ولَقَنت وطليطلة. ومن المعروف أن طارقاً سبق له فتح هذه المدن الأندلسية، فمن المحتمل أنها انتقضت، فأعاد موسى فتحها من جديد. ثانياً: وبعد لقاء موسى بطارق، فتحا معاً بالتعاون بينهما سَرقسطة ووشْقَة ولارِدَة وطَرَّكونَة وبرشلونة وجلِّيقِيَّة وقشتالة القديمة. ثالثاً: وافترق جيش المسلمين إلى قسمين: أحدهما بقيادة طارق، والآخر بقيادة موسى، ففتح موسى وحده: بلد الوليد وقلعة لُك وخيخون حتى وصل إلى ساحل المحيط الأطلسي، ثم عاد أدراجه إلى طليطلة مع طارق في طريقهما إلى دمشق، حيث استدعاهما الخليفة إلى دمشق. 6 - فتح مغيث الرومي: بعد أن فتح طارق مدينة إسْتَجَّة بعث سرايا من جنده إلى عدة جهات، فبعث جيشاً بقيادة مغيث الرومي لفتح مدينة قرطبة، فاستطاع مغيث فتح المدينة دون مشقة كبيرة. 7 - فتح عبد العزيز بن موسى بن نصير: وجه موسى بن نصير ابنيه عبد العزيز وعبد الأعلى إلى جنوبي شرقي

8 - فتح عبد الأعلى بن موسى بن نصير:

الأندلس، وكان هذا بعد استعادة فتح إشبيلية، فاستطاع عبد الأعلى بالتعاون مع أخيه عبد العزيز فتح مالَقَة وإلبيرة من جديد، ومن الواضح أن طارقاً سبق له فتحهما، فيبدو أنها انتقضتا، فاستعاد فتحهما عبد العزيز وأخوه من جديد. ثم توجه عبد العزيز إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد، فالتقى بالقرب من أُوريُولة بالدوق تُدمِير حاكم هذه المقاطعة، فصالحه على مدن المقاطعة كلها وهي: أُوريولة وبَلانَة ولَقَنت ومولَة وبِسْقَرَة ولُورَقَة، فاستعاد المسلمون فتح مدن هذه المقاطعة صلحاً بموجب معاهدة (1). وفي الوقت الذي كان موسى وطارق يقومان بالفتح في شمالي الأندلس، كان عبد العزيز يقوم بفتح وسط البرتغال. فقد فتح يابُرَة وشَنْتَرين وقُلُمْرِيَّة، وقد فتح المدينتين الأخيرتين صلحاً. 8 - فتح عبد الأعلى بن موسى بن نصير: وجه موسى بن نصير ولديه عبد الأعلى وعبد العزيز إلى جنوبي شرقي الأندلس، وكان هذا بعد استعادة فتح إشبيلية، فاستطاع عبد الأعلى بالتعاون مع أخيه عبد العزيز من فتح مالَقَة وإلْبَيرَة من جديد، ومن الواضح أن طارقاً سبق له فتح هاتين المدينتين لأول مرة، والظاهر أنها انتقضت، فاستعاد عبد الأعلى وعبد العزيز فتحهما من جديد. 9 - فتح عبد الله بن موسى بن نصير: في سنة تسع وثمانين الهجرية (708 م) وجه موسى بن نصير ابنه عبد الله لفتح جزيرتي مَيُورَقَة ومَنُورَقة، فاستطاع فتح هاتين الجزيرتين، وعاد إلى قواعدها في إفريقية سالماً غانماً (1). _______ (1) انظر نص المعاهدة في سيرة: عبد العزيز بن موسى بن نصير في كتاب: قادة فتح الأندلس والبحار. (2) انظر التفاصيل في سيرة: عبد الله بن موسى بن نصير في كتاب: قادة الأندلس والبحار.

10 - فتح السمح بن مالك الخولاني:

10 - فتح السمح بن مالك الخولاني: فاتح شطر جنوبي فرنسة، وبخاصة مدينة أربونة.

عبرة الفتح

عبرة الفتح 1 - التوقيت: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يفكر في إقفال المسلمين من الأندلس، إذ خشي تغلب العدو عليهم (1)، ولانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين (2)، فقيل له: "إن المسلمين قد تكاثروا بها واستقرّوا"، فعدل عن مشروعه، "وقالوا: وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلاّ أن يستنقذهم الله برحمته" (3). ويبدو أن هذه الأمنية: "وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل"، سُجِّلت بعد حدوث ما حدث في الأندلس، أي بعد أن خسر المسلمون الأندلس، وخسروا كثيراً من أرواحهم وأملاكهم وكثيراً مما هو أغلى من الأرواح والأملاك. لقد عبر طارق بن زياد إلى الأندلس فاتحاً في اليوم الخامس من شهر رجب سنة اثنتين وتسعين الهجرية (نيسان - أبريل - 711 م)، واستقر حكم المسلمين في الأندلس ثمانية قرون، منذ فتحها بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير في تلك السنة، حتى سقوط غرناطة سنة سبع وتسعين وثمانمائة الهجرية (1492 م). وقد مرت الأندلس، خلال تلك القرون بعدة عهود، تقلبت خلالها بين الضعف والقوة، وهذه العهود بإيجاز هي: أ - عهد الفتح: الذي استمر نحو أربع سنين: 92 - 95 هـ (711 - 714 م). ب - عهد الولاة: من سنة 95 هـ-138 هـ (714 - 755 م)، ويعتبر قسم _______ (1) افتتاح الأندلس (12). (2) أخبار مجموعة (23) ونفح الطيب (24). (3) أخبار مجموعة (23) ونفح الطيب (3/ 15).

من المؤرخين عهد الفتح داخلاً في هذا العهد الذي ينتهي بقدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس سنة 138 هـ (755 م)، وقد حكم الأندلس في هذا العهد - الذي استمر نحو اثنتين وأربعين سنة - 19 والياً تقريباً، كانوا تابعين للخلافة في دمشق أو لولاية الشمال الإفريقي: (إفريقية والمغرب). ج - عهد الإمارة: من سنة 138 هـ-316 هـ (755 - 929 م)، ويبدأ من قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، حتى إعلان الخلافة من قبل عبد الرحمن الناصر (الثالث) سنة 316 هـ (929 م)، وقد أسس عبد الرحمن الداخل إمارة مستقلة عن الخلافة العباسية، استمرت مائة وثمانٍ وسبعين سنة. د - عهد الخلافة: من سنة 316 هـ إلى سنة 422 هـ (929 - 1009م)، ويبدأ منذ إعلان الخلافة حتى وفاة الحكم المستنصر سنة 366 هـ (976 م) أو حتى الدولة العامرية في نهاية القرن الرابع الهجري (بداية القرن الحادي عشر الميلادي)، فكان عمر الخلافة نحو قرن من الزمان. هـ - عهد الطوائف: من سنة 400 هـ - 484 هـ (1009 - 1091م)، وهو عهد دول أو ملوك الطوائف، التي سبقت أعوام الفوضى، وقد استمر هذا العهد نحو ثلاثة أرباع القرن، حتى دخول الأندلس سلطان المرابطين. و- عهد المرابطين والموحِّدين: من سنة 484 هـ - 633 هـ (1091 - 1235 م) حيث دخلت الأندلس أولاً في دولة المرابطين التي تنتهي في حوالى 541 هـ (1146 م) أي أقل من نصف قرن وبعد مدة انضوت الأندلس لحكم الموحدين قرابة قرن من الزمان، ينتهي في حوالي سنة 633 هـ (1235 م)، ويمكن اعتبارهما عهدين مستقلين (1). ز - مملكة غرناطة: من سنة 635 هـ-897 هـ (1237 - 1492 م) حيث قامت دولة بني الأحمر واستمرت ما يزيد على قرنين ونصف القرن، حتى _______ (1) التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة - (39 - 40).

2 - أسباب النصر:

نهاية القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) ويمثل سقوطها نهاية الحكم الإسلامي للأندلس وذهاب السلطان السياسي منها. وبقي ملايين من المسلمين، ولكنهم تحملوا عشرات السنوات الكثير من الاضطهاد وعمليات الإفناء التي أتت عليهم في النهاية قتلاً وتشريداً وإذابة، وكادت تأتي على كل ما خلفه المسلمون بأجناسهم من إنتاج حضاري رفيع شمل مختلف الميادين (1). 2 - أسباب النصر: وكان تعداد جيش طارق بن زياد الذي عبر على رأسه من الشمال الإفريقي إلى الأندلس فاتحاً هو سبعة آلاف مجاهد، وكان تعداد جيشه في المعركة الحاسمة التي خاضها، فانتصر على القوط الغربيين، وقتل ملك إسبانيا القوطي لذريق، اثنى عشر ألف مجاهد، تكبّدوا في معركتهم الحاسمة ثلاثة آلاف شهيد (2)، أي ربع مجموع القوة الإسلامية الذين قدموا فاتحين. واندفاع طارق بهذا العدد القليل من المجاهدين لفتح بلاد واسعة بالتغلب على دولة القوط القائمة لم يكن نزهة من النزهات الترفيهية التي تخلو من الأخطار والمعضلات الجسام، وانتصار طارق على القوط وفتح الأندلس ليس لأن القوط كانوا ضعفاء في جيشهم وقيادتهم، كما يحاول أن يزعم المستشرقون ويتابعهم عليها المستغربون، فالعكس هو الصحيح، لأن تقاليد القوط العسكرية وشجاعتهم معروفة حتى اليوم، كما أن لذريق ملك الأندلس كان من أبرز قادتهم وأكثرهم كفاية كما يقرر ذلك مؤرخو الأسبان المحدثون، حتى جعلوا منه بطلاً قومياً، كما أن ضعف أمة من الأمم لا يتيح الفرصة لغيرها أن تكون قوية متماسكة بدون مسوِّغ، وما انتصر طارق ومن معه من المسلمين الفاتحين إلاّ لأنهم كانوا مجاهدين صادقين، قاتلوا قتال أهل العقيدة الراسخة _______ (1) التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (40). (2) استفتاح الأندلس (222) وأخبار مجموعة (7) وتاريخ الأندلس (47) ونفح الطيب (1/ 258).

التي جعلت الجهاد فرضاً، وجعلت الشهيد حيّاً عند الله يرزق في الجنة في درجات رفيعة من درجاتها، كما أن طارق قائداً والمسلمين المجاهدين جنوداً، كانوا يشعرون أنهم ليسوا وحدهم في الميدان، بل هم في ضمان الإسلام ديناً، والمسلمين أمة، لا يمكن أن يتخلى عنهم المسلمون أبداً، فهم في ضمان المسلمين كافة وفي رعاية الله، لذلك كان إقدامهم فذاً عجيباً، وانتصاراتهم مذهلة مدهشة، بكل المقاييس العسكرية المعروفة. هذا هو سبب انتصار طارق ورجاله: انتصروا بالإسلام والمسلمين، فما ينبغي أن ننكر هذا السبب في دراستنا، مجاملة لأعداد العرب والمسلمين، أو خشية من أحد، لأن الحق أحق أن يُتَّبع وأن يُدوّن وأن يُصرّح به وأن يُدافع عنه. ومن المعلوم، أن الجيش الذي يقاتل في ساحة من ساحات العمليات، وهو يعلم علم اليقين، أن مصيره جماعات وأفراداً، لا يهم ذوي قرباهم من المسلمين فحسب، بل يهم المسلمين كافة في أرجاء الوطن الإسلامي، من الخليفة المسئول الأول في المسلمين، إلى أصغر فرد من أفراد المسلمين، وأن مصيره لا يغيب عن أذهان المسلمين كافةً، كما لا يغيب عن أذهان أهليهم الأقربين، هذا الجيش الذي يقاتل بضمان المسلمين جميعاً، ليس كالجيش الذي يقاتل بدون ضمان ولا تضامن، فالأول يقاتل بمعنويات عالية جداً تتناسب مع ضمان المسلمين له وتضامنهم معه، والثاني يقاتل بمعنويات منهارة، لأن مصيره ليس موضع اهتمام أحد من المسئولين وغير المسئولين، كالشجرة بدون جذور، أو كالبناء بدون أُسُس، تنهار الشجرة، وينهار البناء اليوم أو غداً، ولا يقاوم العواصف والهزّات. وكان للفتوحات الإسلامية بدون استثناء حافزان لا ثالث لهما: الأول هو الحافز الديني، المتمثل بالجهاد والدعوة إلى الله، فقد كانت الفتوحات فتوحات عقيدة. أما الحافز الثاني فهو حافز عسكري، وهو الدفاع عن البلاد المفتوحة، بفتح البلاد التي يكمن فيها أي خطر على مصير تلك البلاد، فكان

فتح الأندلس هو لحماية شمالي إفريقية من خطر يتهددها من الأندلس في الحاضر أو المستقبل، حتى لا تصبح قاعدة للعدو ينطلق منها لتهديد الشمال الإفريقي. وقد ثبتت سبتة أمام المسلمين بمعاونة من ملك الأندلس في حينه كما هو معروف (1). أما ما يردده المستشرقون ويصدقه المستغربون من أن: إسبانيا في السنوات الأخيرة التي سبقت الفتح العربي، عانت من الفوضى والارتباك في الدولة القوطية، نتيجة اغتصاب العرش من قبل لذريق، حيث واجه وضعاً داخلياً سيئاً للغاية، فقد كانت الدولة بحاجة ماسة إلى الأموال، للقضاء على الفتن وحركات التمرد المعادية، لا سيما في منطقة الباسك. لهذا فقد استولى لذريق على خزائن أسلافه في كنيستي سان بيدرو ( San Pedro) وسان بابلو ( San Pablo) في طليطلة، مما سبب استياء رجال الدين. ويمكن القول بشكل عام، إن إسبانيا، كانت تعاني من مشاكل سياسية واجتماعية كبيرة قُبيل مجيء العرب إليها، وإن جيشها لم يكن بحالة تسمح له بالوقوف أمام الجيش العربي الإسلامي (2)، ومثل هذه التخرصات لا يصدقها أحد، لأن لذريق كان من أقوى قادة القوط وأقدرهم، وقد قضى على التخلف والانحلال باستيلائه على السلطة الضعيفة. كما أن ضعف دولة من الدول، لا تتيح الفرصة لغيرها من الدول أن تكون قوية وقادرة على الفتح. وما كان العرب ولا غيرهم من المسلمين كالبربر يطمعون بحماية أنفسهم من القوط قبل أن يصبح البربر مسلمين، فأصبحوا قوة قادرة بالإسلام وبروح الجهاد الذي بعثه الإسلام في نفوسهم. فإذا كان المستشرقون بروحهم الصليبية والصهيونية يهدفون إلى التقليل من شأن أثر الإسلام في الفتوح والنصر، لأسباب لا يجهلها أحد، فما _______ (1) سيرد تفصيل ذلك في سيرة طارق بن زياد، كما ورد في سيرة موسى بن نصير، انظر قادة فتح المغرب (1/ 236). (2) E. Saavedra, Estudio Sobre la invasion. De las en Espana, Madrid, 1892, pp. 40-43.

حضارة العرب والمسلمين في الأندلس

ينبغي للعربي المسلم أن يردد مزاعم الصليبيين والصهاينة، لأنها مزاعم مغرضة أولاً وخاطئة ثانياً وغير واقعية ثالثاً، ولا تستقيم مع مناهج البحث العلمي رابعاً وأخيراً، والعربي المسلم أحرى بالدفاع عن أمته بالحق، ولا نريد من أحد أن يدافع عن أمته بغير الحق. حضارة العرب والمسلمين في الأندلس 1 - الجذور: لا شك في أن كثيراً من الغربيين، يحملهم التعصب الأعمى على إخفاء محاسن حضارة العرب والمسلمين في الأندلس، ولاسيما الحضارة الكبرى التي أوقدوا مصابيحها لأول مرة في أوروبا. ولم يقتصروا على ذلك، بل أخذوا يختلقون سيئات وينسبونها إلى العرب سادتهم وأساتذتهم طوال ثمانية قرون. وسنلخص كتاب: (حضارة العرب في الأندلس) للعالم الشهير والمؤلف الكبير: جوزف ماك جب Joseph MacCabe الذي ألف (250) كتاباً وألقى ألوفاً من المحاضرات، وسافر إلى شتى أنحاء العالم، وأتقن عشر لغات، حتى جعله الأمريكيون أكبر عالم في الدنيا، لأن المؤلف مسيحي وعالم، فلا يمكن أن يتهم بدينه ولا علمه. ذكر المؤلف المنصف: أن القرون الطوال التي اتسمت بها هذه المدنية المحمدية من البرتغال غرباً إلى السند شرقاً، قد وصلت في القرن الرابع عشر عند العرب إلى المستوى الذي كانت قد وصلته الحضارة اليونانية والرومانية إن لم نقل إنها فاقتها. فقد ارتقى النوع البشرى في إسبانيا خلال قرون عديدة إلى أعلى درجات الهناء والغبطة والسعادة والشغف العام بكسب العلوم والفنون، والإحسان إلى البؤساء، وترقية الفنون والتهذيب، ولعله إلى هذه الأيام، لم تطلع الشمس على أمة أسعد ولا أهنأ ولا أرغد عيشاً ولا أكثر رغبة في التمتع بالجمال والعلوم والأعمال المجيدة من عرب الأندلس. ولا مراء

في أن مؤرخينا - يقصد مؤرخي الغرب - لا يبسطون القول في هذا الفصل الذي هو أهم فصل في التاريخ لأسباب أربعة: أولها: إن حال إسبانيا وصقلية والشرق من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر، هي نقيض لحال أوروبا النصرانية والقذرة إلى حد لا يتصور. والثاني: مع أن العرب، ابتدأ رقيهم من درجة متوحِّشة مثل القوط والفندال، فقد شجعهم بقايا مدنية اليونان والفرس على أن يشيدوا مدنية زاهية في أقل من قرنين، بينما سكان أوروبا تحت سلطان (البابوات) مضت عليهم سبعة قرون قبل أن يصلوا إلى درجة هي أدنى بكثير من مستوى العرب والمسلمين. والثالث: أن هؤلاء العرب الذين شيدوا هذه الحضارة الزاهرة، كانوا من المتسامحين في الدين، ولم يكونوا من المتعصبين. والرابع: أن حضارة أولئك العرب، كانت مقدمة للتجديد والتقدم الذي نحن فيه اليوم. إلاّ أنني أختصر القول هنا، فأقول: إن هذه الحضارة هدمها المتعصبون من نصارى إسبانيا في الأندلس، ثم يقول: لقد مضى ألف سنة إلا قليلاً، على الناس، بعد اندراس مدنية العرب في الأندلس، قبل أن يوجد كتاب يستحق إضاعة الوقت في قراءته، وبعبارة أخرى، كانت للعرب في زمان مجدهم كتب قيمة، فلما مضوا وأُحرق أكثر تصانيفهم، بقي للناس ألف سنة تقريباً، لا يجدون كتاباً يستحق أن يُقرأ، وقد قال ستوارت في كتابه: (تاريخ الآداب العربية): كان في الأندلس ألفا ألف مصنّف، ولم يصلنا من كتبهم إلاّ شيء قليل. وقال المؤلف في كتابه: (الأخلاق): كان في المملكة الإسلامية طوائف عشرين ديناً منقسمين إلى مائة مذهب، وكلهم كانوا يعيشون بسلام وتسامح. والخراج القليل الذي كان يفرض على غير المسلمين، كان في الحقيقة مدداً لبيت المال، ولم يكن يُقصد به التعالي عليهم وإهانتهم. والخلفاء كانوا يعلمون كيف كان النصارى يُعاملون المنحرفين من الدين في أوروبا، فحقّ لهم. أن يفخروا بأنهم أفضل وأعدل ملوك الأرض. وقال في الجزء نفسه بصدد البحث في تاريخ المسلمين بمصر: وبعد بضع

سنوات من فتح المسلمين للإسكندرية، ثار أهلها وشقّوا عصا الطاعة، فاضطر العرب إلى هدم جانب من تلك البلدة الجميلة، ولكن حتى مؤرخي النصارى الحاضرين، يعترفون بأنهم لم يقصدوا بذلك تخريباً وانتقاماً، وإنما ألجأهم إليه المحافظة على البلدة. أما الرواية القائلة بأن العرب وجدوا من بقايا خزانة الاسكندرية كتباً كثيرة، فأخذوا يوقدون بها أتاتين الحمامات مدة ستة أشهر، فالمؤرخون اليوم يرون ذلك حديث خرافة. ولم توجد هذه الرواية في كلام أي مؤرخ إلاّ بعد مضي ستة قرون من فتح مصر. وقد بحث بتلر ( A.J. Butler) بحثاً دقيقاً في هذه المسألة، في كتابه: فتح العرب لمصر، وختم كلامه بأن هذه الرواية أسطورة حقيرة، وليس لها أساس تاريخي البتّة. وذكر ستانلي بول هذا الكلام نفسه في الجزء السادس من كتاب: تاريخ مصر، تأليف فليندرس بتري ( Flinders Petrie) : وليس هناك بيِّنة على أنه كانت بالإسكندرية خزانة كتب عمومية في ذلك الزمان، والظاهر أن النصارى كانوا قد أحرقوا جميع الكتب وأتلفوا ما بقي منها تدريجياً في مدة طويلة قبل ذلك بزمان. وقال المؤلف ماك جب: لا أعتقد أن الرق كان من سيئات العرب، لأن عبيدهم كانوا أسعد حظّاً من معظم سكان أوروبا. وإذا علمنا أن النصرانية لبثت ثمانية أو تسعة قرون تذمّ الرق، ثم باركت على استرقاق السود، فكيف تنتظر من العرب أن يبطلوا الرق في ثلث تلك المدة؟ وقال المؤلف: ولست الآن بصدد التحقيق في آداب العرب في النكاح، ولكني من حيث أنا مؤرخ في الأخلاق، أستنكر ما يقوله بعض مَن لم يحقق الأمر من عامة المؤلفين، فذكروا أن العرب كانت أخلاقهم في تلك الناحية فاسدة، وأنهم كانوا فاسدين هادمين لصلاح المجتمع، فإن الحقائق التاريخية تكذِّب هذا القول، وكل كتاب معتبر في الحضارة العربية، بل حتى الفصول القليلة من تاريخ القرون الوسطى المطبوع في كمبرج، تشهد أن العرب كانوا يعطون الحياة حقّها، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، من أوّل التاريخ إلى333333

الآن. وإذ قد عرفت أخلاق العرب، واعتدالهم في أمور النكاح، فدونك لمحة تبين لك أخلاق رجال الكنيسة، فضلاً عن غيرهم من الأوروبيين في ذلك الزمان: إن عمل قوم لوط كان شائعاً في ذلك الزمان في جميع أنحاء أوروبة. وفي أواسط القرن الحادي عشر، رأى الكردينال بطرس داميان أن اللِّواط شائع بين القسيسين والرهبان في إيطاليا، وبلغ الأمر في أنه ألف كتاباً في ذلك وأرسله إلى البابا (ليو التاسع) والتمس منه أن يتدارك ذلك الأمر، ويأخذ في قطع ذرائعه وأسبابه، يستغيث به أن يعاقب كل راهب أو قسيس، يثبت عليه اللواط، بحلق رأسه والبصاق في وجهه وحبسه في غرفة مظلمة، ولما وصل كتابه إلى البابا، تقبله وأظهر الارتياح به، إلاّ أنه رأى ألاّ يبلغ العقاب بأولئك الفسّاق إلى الحد الذي أقترحه الكردينال المذكور، ولكن بما هو أخف وأليق بالرحمة والشفقة، فبقيت تلك الفاحشة جارية كما كانت، واسم كتاب داميان الذي أهداه إلى البابا: (عمورية) وهو اسم قرية قوم لوط. وفي كتاب داميان ما هو أدهى وأمرّ، مما يدل على تمام الهمجية، وهو الزنا بالمحارم، وأنه كان شائعاً هناك أيضاً. قال المؤلف: لقد أطلقت لفظ: (العصور المظلمة) كسائر المؤلفين في كتابي هذا، على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطاً على العموم، وخصوصاً القرن العاشر المسيحي. تنصّرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بأربعة قرون أو بخمسة قرون أو ستة قرون تقريباً مضت من يوم تغلب (البابوات) والأساقفة على إدارة الملوك، وحملوهم على إبادة كل مصادر الإلهام يخالفهم أو يباريهم، فأغلقوا المدارس والمعابد، وقضوا على العلم والأدب، وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبة كالبندقية، إذ كان فيها بقية تافهة إصلاحية من علم اليونان تخفِّف من شرّهم وهمجيتهم، فإن أوروبا كلها كانت في ثباب وخراب اقتصادياً واجتماعياً وعقلياً. ومن ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنّة في الدعارة والشهوات البهيمية، ولم يكونوا في ذلك الزمان يتسترون حتى بجلباب النفاق. ولو أن

غنياً من أصحاب الملايين من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان، لقدر أن يشتري مملكة بأسرها، وكان تسعة وتسعون بالمائة خدماً يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد، ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال، ولا واحدة بالألف من النساء، يقدر أن يقرأ، وكان الضعيف مضطهداً مقهوراً مسحوقاً تحت الأقدام مسحوقاً في الطين والدم، بل حتى القوي كان مهدداً بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء. كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية، فادرس القرن العاشر، فلا زخارف أقوال الواعظين، ولا كذب المعتذرين، ولا الإذعان السياسي من المؤرخين، يقدر أن يخفى عن ذوي الألباب عظيم تبعة الكنيسة، ولاسيما البابوية، في ذلك الزمان، الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها. وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاءً وحزناً من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية. لقد حطّم بول من ناحية وأوغسطين من ناحية أخرى مدنية الإنسان، فهل هذا هو الذي سميناه - بعيدين عن اتِّباع الهوى - مدنية الله؟ لقد فازا في جميع بلاد أوروبا إلاّ زاوية واحدة، ألا وهي جزيرة إيبريا (الأندلس) التي نسميها اليوم إسبانيا والبرتغال، فقد أزيل الصليب من تلك الأرض في ابتداء القرن الثامن، وحكمها المسلمون. أجل قد بلغت رايات العرب المطرّزة المحمولة مع متن القرآن ظافرة تجتاح جبال (البرت) وتتألق في شمس جنوبي فرنسة، وصارت الممالك النصرانية مهددة، والمدرسون الأغمار - يقول المؤلف النصراني - في مدارسنا العالية، لا يزالون يقولون للأطفال الأغرار، ناقلين من مختصرات كتيبات التاريخ غير النزيهة، ويطنبون في مدح (شارل مارتل) الظافر حين لقي العرب في سهول فرنسة، وصدّهم عنها وحفظ العالم من المدنية. إذ لا يوجد في الدنيا مدرس في جامعة أو مدرسة، يتجرأ أن يقول لتلامذته

ما يعرفه كل مؤرخ، أن العرب أقاموا حضارة من أعظم الحضارات العالمية، وأن شارل مارتل وجنوده كانوا لصوصاً متوحشين برابرة، وأن عرب الأندلس لو نجحوا في فتح أوروبا، وأقاموا فيها قرنين، وأقاموا فيها مدنيتهم كما فعلوا بإسبانيا، لكنّا الآن متقدمين خمسة قرون أكثر مما نحن عليه اليوم، ولا يستطيع عادٌّ أن يعدّ مقدار الدماء والدموع والفاقة والعدوان التي سبَّبها ذلك الظفر المبين، الذي ناله شارل مارتل في سهول فرنسة الجنوبية. وربما تتعجب إذا قيل لك: إنه يجب أن يضم درس حضارة العرب في الأندلس إلى دروس الدين ونشوء الإنسان وارتقائه، وسينقضي عجبك سريعاً جداً متى علمت أنه يثمر لنا درسين حيويين مهمين الأول: إنه من الباطل، أن يقال في أي بقعة من بقاع أوروبا، إنها لم تقدر أن تعود إلى المدنية بسرعة، لأن الدول الرومانية قد سحقها الغزاة البرابرة من أهل الشمال تحت أقدامهم: والثاني، إن البعث الحقيقي للحضارة الأوروبية لا علاقة له بدين النصرانية، بل هو عدوّها المبين. قبل سنوات وقفت على جسر قرطبة، وفكرت في ذلك المنظر المحزن للهيكل العظمي لقرطبة التي أصبحت قرية في سكانها البائسين وشوارعها الضيقة القذرة ونهرها القذر. سكانها أقل من مائة ألف نفس، في بيوت بالية وفقر شديد، بينما كانت قبل ألف سنة أعظم مدينة في الأرض، يقارب سكانها مليوناً من النفوس السعيدة المغتبطة، وكانت لهم ثروة يمكن أن تشتري بها الممالك الأوروبية النصرانية مراراً، مع أميال معمورة بقصور المرمر القيمة، تلمع بين الحدائق البهيجة، ممتدة أمام ذلك النهر. وكانت فيها العلوم والفنون التي جذبت الناس إليها من كل ناحية من نواحي الدنيا، حيث كان العلم والفن يقدران حق قدرهما. كان الرومان قد مدَّنوا إسبانيا وبريطانيا وفرنسة وجنوبي ألمانيا وإيطاليا، أولئك الذين كانوا محرومين من الوحي، شهوانيين، فجّاراً، ماديين، جعلوا من أبنائها الأولين أمة مهذّبة أرقى - بلا حدود - من أيّ أمة من أهل الممالك

النصرانية بعد ألف سنة، وأنت إلى الآن تمشي في طرقهم المعبّدة وتعبر على قناطرهم في إسبانيا، وهذه المدنية الرومانية الإسبانية، قد سحقتها القبائل التيوتونية تحت أقدامها، مثلما سحقت فرنسة وأشد مما صنعت بإيطاليا، لقد زلزلها الفندال المتوحشون، وحكمها القوط الغربيون وسكنوها، وكما يقول سكوت (ميخائيل سكوت Michal Skot) : " لم تترق أمة قط تحت حكم الرئاسة الدينية، وأن تقوى القسيسين الروحية، قد قضى عليها تعطشهم الشديد إلى التسلط والاستبداد في الحكم على البلاد وأهلها (الفصل الأول ص 363) ". وستانلي لين بول ( Stanly Lane Poole) لم يجد بداً أن يعترف بمثل ذلك في كتابه: العرب في الأندلس (ص 70) فقال: "لاشك في أن القوط كانوا متعبدين، إلاّ أنهم كانوا يرون أن عبادتهم تكفِّر ذنوبهم، وكانوا في الفسق مثل أشراف الرومان الذين سبقوهم. وحتى القسيسون الذين كان يعظون ويحضون الناس على الأخوة المسيحية - حين صاروا أغنياء، وملكوا الضياع - اتبعوا السياسة المأثورة في الجور، فصاروا يعاملون عبيدهم وخدمهم أسوأ معاملة، كما كان يعمل أشراف الرومان قبلهم". وهذه صورة إسبانيا في القرنين السابع والثامن. ولما استوطن القوط الغربيون إسبانيا في القرن الخامس، أظهروا على الفور، أن قوة التيوتونية البربرية إذا تزوجت بثقافة الرومان، تتولد منهما مدنية جديدة، وذلك يبطل الرواية المزعومة: أن النصرانية لأجل أن تمدِّن البرابرة يلزمها زمان طويل. والذي يبطل الشطر الثاني من تلك الرواية، وهي أن النصرانية كانت قوة ممدِّنة، هو أن القوط الغربيين وكنيستهم جميعاً سقطوا إلى حضيض الجهل والرذائل والجور كسائر بلاد أوروبا خلال قرنين. والآن، دعنا ننظر من أين جاءت القوة الممدِّنة حقيقة. كانت بلاد العرب بكراً لم تُفتح ولم تمدّن قط، حتى أواخر القرن السابع، فجاء محمد عليه الصلاة والسلام، فأوقد نيران الحماسة الدينية في بلاد العرب بدينه الجديد، فبعث في العرب نشاطاً عجيباً، فانطلقوا يفتحون البلدان، ويدخلون الناس في

دينهم في أرجاء العالم. وفي وقت قصير جداً، استولوا على المدنيتين القديمتين الفارسية والمصرية، ولم يمض عليهم زمن طويل، حتى أنشأوا مدنية عربية إسلامية. وكما قال سكوت: "لم يكن بين الهمجية والجهالة الصحراوية وبين الاستقرار والثقافة العقلية في عواصم الأمويين والعباسيين إلاّ أقل من مائة سنة. وكان العرب في الخشونة وعدم التهذيب الثقافي مثل التيوتونيين، ولكنهم لما استولوا على المدنية القديمة صاروا متمدنين تماماً خلال قرن واحد. ولكن ينبغي لنا أولاً أن نعلم، كيف صار هؤلاء العرب المحمديون (موراً)، ودخلوا أوروبا، بعدما فتح العرب مصر، كانوا لا يزالون متعطشين إلى الفتح، فولّوا وجوههم تارة أخرى شطر الغرب، وواجه أبناء العرب الصحراء فلم ترعهم ولم يعبثوا بها، ولكن البحر أفزعهم، وقد سمعوا أن وراء الصحراء أرضاً خصبة زكية التربة، تونس والجزائر ومراكش، التي عمرها القرطاجيون والرومان وجعلوها غنية، ولذلك توجّه أحد القواد العظام في (20000) من الخيل والركاب سنة 646 م وتوغلوا في مجاهل الصحاري، فاجتازوا مسافة ألف ميل من الأرض على شاطئ إفريقية الشمالية، وفي نحو نصف قرن، حكم العرب الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض كله، وطمحوا بأبصارهم بنهمة وشره إلى أراضي الشاطئ الشمالي الغنية. واستوطن بعضهم مع المور -البربر السود- كما يزعمون، والحق أن البربر بيض بياضاً قاتماً وليسوا سوداً. في الشاطئ المقابل لجبل طارق، ولا شك أنهم تزوجوا منهم، فلذلك صاروا يعرفون عند الأوروبيين بالمور، والقلعة الحصينة التي كانت في الشاطئ الأوروبي حركت رغبتهم، وكانت بيد قائد يوناني يدعى يوليان، تحت حكم إمبراطور الرومان إسمياً. وفي سنة 709 م أو 710 م صار يوليان حليفاً للمور. ويحكى أنه أرسل ابنته إلى قصر ملك القوط الغربيين فاعتدى الملك على عفافها، فاستشاط لها يوليان، وعزم على الانتقام، فدعا أمير العرب إلى العبور إلى الشاطئ الأوروبي وفتح إسبانيا، ووصف له الكنوز والأموال المدهشة التي في قصر ملك القوط وكنيستهم

وصفاً شائقاً، وأوضح له أن بلاد إسبانيا في انحطاط فلا تحتاج فتحها إلاّ إلى قليل من الجنود والعتاد. وفي سنة 710 م بعد بعثة استطلاعية، جهّز العرب قائداً بربرياً ومعه (7000) جندي، ثم أمدَّه بخمسة آلاف فارس من البربر، وقبل انتهاء سنة 711 م، تم للعرب فتح شبه جزيرة إسبانيا، وانحصر بقية الجنود القوطيين والأشراف والقسيسين في بقعة جبلية صغيرة على خليج بسكاي، وصعد العرب على جبال البرات، وبنوا عليها سلسلة من القلاع ليحصنوا أنفسهم من سكان فرنسة، الذين كانوا في نظرهم غريبي الأطوار متوحشين، وبمرور الزمن، فتحوا جنوبي فرنسة. ولما وصلت أخبار هذه الفتوح وما فيها من الغنائم والأراضي الخصبة إلى الشرق، جذبت خلقاً كثيراً من العرب والبربر للالتحاق بإخوانهم في الغرب. وبعث الخليفة من دمشق والياً استعمله على بلاد الأندلس، ومعه أربعمائة من أشراف العرب، فتجدد في العرب التعطّش إلى الازدياد من الفتح. وفي وقت من الأوقات، كان في بلاد فرنسة مائة ألف جندي من العرب، يجوسون خلال ديارها ويدوِّخون أهلها. وفي ذلك الوقت كانوا قد بلغوا درجة عالية من التمدن والرقي. وقد رحّب أهل جنوبي فرنسة بهؤلاء الفاتحين، ورأوا فيهم رُوماً جُدداً بالنسبة إلى الفرنج والجرمانيين الشماليين المتوحشين. ولا حاجة للإطناب في إخفاق العرب وعدم تقدمهم في أوروبا، الذي يُسمَّى في أكثر المدارس الغربية انتصاراً للتمدن والنصرانية، وهذه تسمية خاطئة مائة في المائة. وبأي شيءٍ عاد إلى أوروبا من وبال، بل الأجدر بنا أن ننظر في الخطة التي سار العرب عليها في إسبانيا نفسها، حتى أوصلوها من الرقي إلى درجة جعلت بقية أوروبا بالنسبة إليها همجية متوحشة، ولكن قبل أن نتجاوز هذا المقام، ينبغي أن تعرف أن حضارة العرب وتهذيبهم تركا أثراً خالداً في أهل جنوبي فرنسة، فبقوا قروناً طويلاً متصلين بالعرب من الوجهة الثقافية. فثنايا جبال البرانس كانت أول مصدر من مصادر الإلهام لأوروبا البربرية. ولم يلبث أهل جنوبي فرنسة أن

صاروا في بلهنية العيش والرفاهية، وفشا فيهم الإلحاد والانحراف عن الدين، وليست حرارة الشمس فقط هي التي جعلت سكان أرض جنوبي فرنسة المثل الأعلى في جودة الغناء والطرب. ونعود إلى الأندلس، فنقول: إن الخليفة في دمشق، هو الذي يولي الولاة والحكام في الأندلس، وكان هؤلاء الولاة من شعب قد سار شوطاً بعيداً في المدنية، وكانوا دوماً ينفذون أوامر الخليفة، فشكّلوا على الفور الدوائر المدنية والسياسية والنظام الزراعي. ولم يجد العرب إغراقاً فيما سمعوه من عظمة الكنوز الملكية والكنسية، فوجدوا في طليطلة قاعدة ملك القوط الغربيين مقداراً هائلاً من الذهب واللؤلؤ. على أنه من المحقق أنهم إلى ذلك الوقت لم يقعوا على الكنوز العظيمة التي كانت مخبّأة تحت الأرض، حيث دفنها القسيسون عند فرارهم. هذا وقد أخذ الفارون الأولون -ومنهم الأسقف- معهم كثير من الأموال المنقولة، ويروى أن جنود العرب، وجدوا طائفة من رجال الكنيسة فارين، ووجدوا عندهم كرسياً يوضع عليه الكتاب المقدس، وكان ذلك الكرسي من الذهب الصلب الخالص مرصعاً بالياقوت الزعفراني والياقوت الأحمر والزمرد واللؤلؤ يساوي نصف مليون دولار، مع أن النقود في ذلك الوقت كانت تساوي عشرة أضعاف ما تساويه اليوم. لكن مدنية العرب في الأندلس التي بلغت أوج الرقي، إنما أُسست على الحالة الإقتصادية السليمة في تلك البلاد نفسها. ولا يتسع المقام هنا لذكر تاريخ العرب، فكتاب (س. ب. سكوت) المرسوم: "تاريخ المملكة (الإمبراطورية) العربية في أوروبا 1904 م "، يخبرنا بما شاء من ذلك في دقة وانسجام مع ذكر الأدلة، ولكنه كبير في ثلاث مجلدات ضخام، فلم تزل الحاجة إلى تأليف كتاب مناسب في الحجم، واف في بيان عظمة العرب التاريخية، وكتاب (ستانلي لين بول)، المسمى: "العرب في إسبانيا 1895" في سلسلة: (أخبار الأمم) تأليف قوي الحجة جيد، ولكنه على طريقة المؤرخين في ذكر ملاحم الملوك ونوادرهم. وكتاب شارلوت نونج: "أخبار

2 - العرب في أوج مجدهم:

النصارى والعرب في إسبانيا - 1879"، هو أيضاً تأليفٌ نفيس بأسلوب عالٍ، يدلّنا على أن المرأة النصرانية حتى هي أيضاً تأثرت بما كان للعرب من مدنية وحضارة. وكتاب واشنطون رفنج الذي أدى خدمة جليلة في استمالة الناس إلى هذا العنصر الحي في نشوء المدنية يُقرأ الآن، وهو معدود من أحسن المصادر الأدبية. وأما فنونهم وما بقي من مدنيتهم، فَكُتُبُ كالفرت الموسومة: " آثار العرب في إسبانيا " وكتاب: " الحمراء "، وكتاب: " قرطبة "، وكتاب: "طليطلة"، وكتاب: "إشبيلية" وغيرها أفضل وأنفع ما كتب في ذلك. وكتاب دوزي: "الإسلام الإسباني"، نشر بالإنجليزية عام 1913 م، ومع أنه من أوائل ما نشر من الكتب الحديثة، فلا تزال قيمته عند الناس عظيمة، وهو مع ذلك كتاب كبير، ولعل تأليف: لين بول (العرب في إسبانيا) وتأليف كالفرت: (آثار العرب) أسهل تناولاً وأكثر مناسبة، وأوصي بقراءتهما من يريد أكثر مما تسع هذه النبذة الصغيرة. ولست بصدد ما يسمى: التاريخ، إذ حدثت في مدة من الزمن اضطرابات في الأمور، وكثر عزل الولاة وتبديلهم بغيرهم. واشتد فيها التحاسد والتنافس، وفسدت سيرة الخلافة في دمشق، فكثر تدخلها في أمور الولاة، فوقعت فتن عظيمة بين البربر والعرب الذين جنوا ثمرات الفتح، وكانت تقع غزوات بين قبائل العرب الذين جاءوا من مختلف البلدان، وآخر الأمر ظهر هناك شاب عربي من ذرية الخلفاء سنة (756 م)، فقبض على زمام الأمور، واتخذ قرطبة عاصمة له، وجعل نفسه أميراً وكان في الحقيقة ملكاً لمملكة العرب في إسبانيا، وهذا الأمير والأمراء الثلاثة الذين جاءوا من بعده، هم الذين أسسوا هذه المدنية التي نحن بصدد شرحها. 2 - العرب في أوج مجدهم: عظمة غرناطة التي هي أشهر مدن العرب في الأندلس اليوم، يرجع عهدها إلى زمان متأخر جداً، وسنبحث الآن في مدنية العرب التي كانت في أواسط

القرن العاشر الميلادي، وكانت أوروبا في ذلك الزمان، قد بلغت الدرك الأسفل في الانحطاط. وكانت روما متلوِّثة برجس الفساد، وكانت الجهود العظيمة التي بذلها شارلمان لإصلاح قسم كبير من القارة المذكورة قد خابت، وكانت فرنسة نهباً مقسماً لغارات قبائل الشمال، كما كانت إنكلترا كذلك تعاني من غارات الدانماركيين عليها، وكان القسيسون في كل بلد يعيثون فساداً، ولا يبالون مثقال ذرة بما نسميه: مدنية. أما إسبانيا، فكانت بخلاف ذلك، كانت مزدهرة بالعمران، وكانت حديقة تفوق الوصف في النتاج، وكان فيها تسعة من أمهات المدن، ثلاثة آلاف مدينة متوسطة، وعشرات الألوف من القرى. وكان على شاطئ نهر الوادي الكبير فقط إثنا عشر ألف قرية. ومع أن السير في ذلك الزمن لم يكن سريعاً، فقد قال المؤرخون: كان السائر في بلاد الأندلس لا يسير مسافة يوم، إلا ويمرّ على ثلاث مدن، وأما القرى فكانت لا تنقطع تقريباً، وكانت على أحسن حال من العمران، ومدينة قرطبة عاصمة ملكهم، كان عدد سكانها لا يقل عن مليون نسمة. وإشبيلية في وقت من الأوقات تحوي خمسمائة ألف نفس، ومدينة المرية خمسمائة ألف نفس أيضاً، وكان في غرناطة أربعمائة وخمسة وأربعون ألفاً، وفي مالقة ثلاثمائة ألف نفس، وفي بلنسية مائة وخمسة وعشرون، وفي طليطلة مائتا ألف. ويقدر مجموع سكان الأندلس بثلاثين مليوناً، وزيادة السكان بهذا القدر العجيب، هي في حدّ ذاتها دليل على الدرجة العالية التي وصل القوم إليها من المدنيّة. وقد علم من الاستقراء، أن السكان إذا كانت صحتهم جيدة، وتدبير الصحة سائراً على أحسن حال، فإن عددهم يضاعف في ربع قرن. وهذا يدلّك على ما عمل العرب من الأعمال الجليلة، وتبين لك كيف أفسد الإسبانيون تلك الأعمال من بعد ونقضوها. وإذا علمت أن سكان إسبانيا في القرن العاشر بلغوا ثلاثين مليوناً، فيجب أن يبلغ اليوم مئات الملايين، فاعلم أنه اليوم لا يزيد عن اثنين وعشرين مليوناً. فرقم ثلاثين مليونا في القرن

العاشر، برهان ساطع على ما كان للعرب من العلم والحكمة. وخذ مثلاً انكلترا، فإن سكانها كانوا إذ ذاك مليونين أو ثلاثة. وكانت العناية بترقية الزراعة أساساً لعمران الأندلس. والناس الذين لم يروا أسبانيا قط، يرون فيها رأياً مبهماً غامضاً، أغلبه مأخوذ من الروايات ورقوق الخَيَالة: أنها أرض خصب، خضرة نضيرة وازدهار دائم، وغناء وعشق لا ينتهيان. والأندلس، هي الناحية التي استوطنها العرب، إذ لم يهتموا كثيراً بالناحية الشمالية - لها صيت ذائع في ابتهاج القلوب وقرّة العيون والهوى العذري والورد وآلات الطرب، وهذه شهرة لا تستحقها. وأنا أحب الإسبانيين، فيمن أحبه من الأقوام الذين سحت في بلادهم، ولكن الطرب ليس من شمائلهم، وليست الأندلس أرض عشق وأزهار وغناء، وإسبانيا اليوم في بؤس وشقاء، مصابة بداء القسيسين، تحكم حكماً مرذولا، ترى في أرياضها في أكثر أيام السنة زربيّة محترقة رقيقة من النبات، والفلاحون المجهودون بكل مشقة يحصلون معيشة ضنكاً من الأرض، ومتى زالت منها الملكية والكنيسة واستبداد الجيش، يجدد فيها نظام السقي وتصير فردوساً مرة أخرى. أما اليوم، فهي محرومة من رأس المال والأعمال، ولا ريب أنها كانت فردوساً في القرن العاشر، حتى نتجت مثل ذلك النمو في السكان، وكان لأهلها ذكاء، فساعدوا به الطبيعة، وكانت الأنهار الصناعية والجداول، توزّع الماء وتروي الأرض، حيث الفلاح الإسباني المسكين اليوم، يرى المطر ينزل في رءوس الجبال، وتسيل به الأودية، وتجري رأساً إلى البحر. والقيعان الواسعة العقيمة اليوم، كانت في زمن العرب حدائق غلباً، كانت تؤتي غلاّت ذهبية، وحتى سفوح الجبال، قد سًطِّحت وألحقت بالأرض الزراعية. وفي كثير من البقاع، كانت الأرض تعطي أربع غلاّت مختلفة في سنة واحدة. وكانت الأقوات كثيرة ورخيصة جداً، وأضاف العرب جميع الوسائل الشرقية إلى الوسائل الرومانية في إسبانيا، فكان الآس يفوح بريحه العطرية، مقرونة بريح الورد والأترج،

والنخل باسقات في سطورها، تواجه القبة الزرقاء، وكانت جنّات، جنّات لا يوجد مثلها اليوم إلاّ في قليل من البلدان، وعلى هذا الأساس، قام هناك نظام تجاري صناعي في غاية الإتقان. ولا أريد أن أذكر تفاصيل هذا الأمر، وإنما أريد أن أذكّر بالسيوف الفولاذيّة التي تصنع في طليطلة، والأدوات الجلدية التي كانت تصنع في قرطبة التي كانت فيها أفضل الطرق في الدنيا، وكيف كان الأسطول التجاري المغربي يطوف البحار في طلب النوادر والتحف الرفاهية لمئات الألوف من الناس، وكان العرب رومانسيين جداً. فإنهم جلبوا العلماء والمهرة في الصناعة والنحّاسين وتجار الجواري الراقصات، وتجار الحرير، وتجار الجواهر من جميع أرجاء الأرض. ولم يكن الخراج مجحفاً، وكان في الغالب يتألف من عُشر الغلاّت وعُشر ما يخرج من المعادن ومكاسب الصناع والتجار. ولكن كان الدخل مدهشاً، وكان دخل خليفة ذلك الوقت وهو عبد الرحمن الثالث - على ما قيل أكثر من (000. 000. 30) دولار سنوياً. ولا ننسى أن النقود كانت لها قيمة في ذلك الزمان، بحيث يمكن أن يُشترى بها أضعاف ما يُشترى بها الآن. وسنرى وصف هذه الثروة أوضح في الفصل التالي. وكانت الثروة متساوية عند الأعيان والتجار، وقد قرأنا أن وزير عبد الرحمن الثالث أهدى إلى ملكه هدية وهي ضيعة، غاباتها تحتوي على عشرين ألف شجرة، وستين جارية حسناء، ومائة من الجياد الصافنات، والبغال الفارهات، وثمانمائة لأْمَة (1) من أجود العتاد، وما يساوي مليون دولار من الذهب وغيره من النفائس. وقد قدَّر المؤلفون العرب الذين يختلفون عن جهلة أوروبا الرهبانيين جدّ الاختلاف هذه الهدية بـ (000، 000، 5) دولار، وسنرى في الفصل الآتي أكثر مما رأينا، فهناك نرى من الترف الذي أوجدته تلك المدنية شيئاً يدهش العقول، وعلى ما كانت عليه ملوك العرب من البذخ والترف، فإنهم لم يهملوا المقاصد الخيرية والمصالح _______ (1) الّلامة: أداة الحرب كلّها من رمحٍ وبيضة ومغفر وسيف ودرع. (ج): لأَم ولُؤَم.

العامة، بل أنفقوا عليها من خزائنهم الواسعة إنفاقاً لم بفعل مثله من ملوك النصارى إلاّ قليل، وسأعقد فصلاً أذكر فيه أعمال ملوك العرب في العلم والأدب والفلسفة. هنا أشير إلى أن الملوك الذين أنشأوا مدنية الأندلس (من سنة 756 م إلى سنة 961 م) كانوا رحماء كرماء ومحبين أوفياء للعلم وأهله، وكانوا أكثر الناس سخاء وجوداً في مناصرة الشريعة والتعليم، وهم أنفسهم في كثير من الأحيان لم يكونوا قاصرين في الأدب. فالخليفة الحكم الثاني الذي كان ملوك النصارى في زمانه لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم إلاّ قليل منهم كانت خزائن كتبه تحتوي على نصف مليون كتاب، ويروى أنه كان ملماً بما تضمنته. وكان الخلفاء ينفقون على كثير من المدارس من مالهم الخاص، وكان سخاؤهم بأموالهم الخاصة للمصالح العامة مثل سخائهم لها من بيت المال، وكانوا يرقبون الطرق المعبدة والجسور المتينة التي عملها الرومان بعناية تامة، فيصلحون ما فسد منها، فكان للبلاد نظام للمواصلات يليق بصناعتها وتجارتها. وعجلات السيارات الثقيلة اليوم، كانت تسير في طليطلة وقرطبة على الجسور العظيمة التي بناها الروم وجدّدها العرب، وجدّدوا القنوات وأنشئوا قنوات جديدة لضمانة الماء الكافي، لا للسقي فقط، بل لتوزيعه في المدن على البيوت. وكان للبريد سرب من الخيل السريعة تبرده في جميع الطرق المهمة في المملكة. ولأجل أن نقدّر هذه الأشياء حق قدرها، ينبغي أن نتذكر دائماً الاختلاف بين هذه البلاد وبقية أقطار أوروبا، فأمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ، فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن غير المبلطة، أو تجتمع فيتكون منها حياض، حتى بعدما عملت النهضة في أوروبا عملها قروناً طويلة. أما في مدن العرب، فكانت الشوارع مبلطة منوّرة، قد سوّيت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر. قال سكوت: بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في بلنسية، تقدر أن تسع سيارة. وأصغر قناة منهن تقدر

أن تسع حماراً. وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة، وهذا النظام الصحي السامي، كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذا العصر شيئاً واجباً. ولكنها كانت في ذلك الزمان في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام، فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام، وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان، أما في بقية بلاد أوروبا، فلم يكن فيها ولا حمام واحد. وكان أشراف أوروبا رؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حدّ يحجم الإنسان عن وصفه. ولم يكن لبس الكتّان النظيف معروفاً في أوروبا، حتى أخذت (مودة) لبس طراز الكتان من المسلمين، ولم تكن الزّرابي أيضاً تصنع هناك، وكان الحشيش يغطي أرض قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس، وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف. ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه. وفي ذلك الوقت، لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية، ولكن في إسبانيا العربية كان الناس في جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية. وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعداً في صحون الدور والقصور والأماكن العامة. ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان جميلان من المرمر يزينان الصحن، حيث كان كل مصَلٍّ يتوضأ قبل أن يدخل المسجد، ووصفها سكوت في هذا الزمان (1/ 675) فقال: "هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق، والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة المنفرة والأخلاق الوحشية والجهل العظيم بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه هذه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة. هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأنّ لا دوام للمدنية العليا، وأنّ الإنسان يميل بطبعه إلى التقهقر والعودة إلى أحوال الهمجية. وتشهد به لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر، وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلاً، أُسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية". وهذه العدد التي أعدّها الخلفاء

بفرط ذكائهم، ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة، على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلاّ بعد مضي أربعة أو خمسة قرون. ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط، فمع كثرة النفوس المفرطة، كانوا لا يرون أحداً يصاب بمصيبة إلاّ نفَّسوا عنه الكرب وواسوه، وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها. وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاماً حسناً في استخدام البطالين في إصلاح الطرق، والأشغال العامة. وكان عبد الرحمن الثاني قد أعلن أن كل مَن يريد العمل يمنحه. ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب - كما أثبت المحققون - كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد، وكانت المعارف والتعليم - كما سترى في فصل آخر - أحسن مما كانت في ممالك الرومان، ولم يكن يضاهيها إلاّ ما بلغه اليونان من المعارف العالية في أرقى أيامهم، والخلفاء أنفسهم شيَّدوا المارستانات ودور الأيتام، كما يفعل ملوك اليونان - ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات من أوروبا - وكان الأعيان والتجار لا يألون جهداً في اقتفاء آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات. وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون من المكروبين لينفسوا كربهم. والنساء الّلائي نزلن إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا عملاً بما روته التوراة في قصة حواء من المحال، ولكراهية القسيسين السابقين للزواج وإيثارهم العزوبة، كنّ على خلاف ذلك عند العرب مكرمات مالكات حريتهنّ. وللكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذين حلاّ محل التقشف والتعصب في دمشق، انتقلا إلى الأندلس، فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعاشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا، لم توجد في الأندلس إلاّ في أواخر أيامهم. والنساء في القصر الملكي بقرطبة، كنّ يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور، وإن مالت طباعهن إلى غير ذلك، ولم يكن من الصعب عليهن الاتصال بالأدباء والشعراء وأصحاب الفنون الصناعية. وكان طلب العلم مباحاً لهن بكل حرية، وكثير منهن كان لهن ولع بالعلوم الرائجة في ذلك

الزمان من فلك وفلسفة وطب وغيرها. وكانت النساء يتبرقعن خارج بيوتهن، ولكنهنّ كنّ مكرمات وفي منازلهن كنّ مشرفات ومحترمات. ولا حاجة بي إلى أن أتكلم عن ظرف العرب وشهامتهم، لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعاً لا يُمحى أبداً على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين. وهناك مزيّة أخرى يمتاز بها العرب، وهي التسامح الديني، وفي أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء - يعني مقتولين لمخالفتهم عن الدين - ولكن لا مناسبة بين تلك المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيراً في ذرية العرب. وأما بعد استقرار المملكة العربية في الأندلس، فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى، كأهل طليطلة الذين كانوا دائماً ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال، فقد كان أهل الأديان جميعاً يعاملون بالحسنى، وكانت على يهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصهم، وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم، فكثر عددهم، وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم، فكان الخلفاء لا يشجعون على دعوتهم إلى الدين مخافة نقصان الجزية، ورخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنيستهم الكبرى. وأخيراً اشتريت منهم بثمن غالٍ جداً، ورخصوا لهم بأن يبنوا عدداً من الكنائس. وكانت لهم في طليطلة ست كنائس، وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم، حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية. وأما ما يخص يهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذٍ، وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم، ونالوا أعلى المناصب في دولة العرب، فأتكلم عليهم في فصل آخر، وهذه النبذة العامة في ذكر مدنية العرب، ستزداد وضوحاً وتفصيلاً عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة. ولابد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفاً تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقاً خارقاً للعادة، ولابد أنه رأى أثرها في أوروبا المتوحشة، وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين. والمؤرخون لا يقابلون بين العرب والنصارى، لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل بوستن -

مدينة في أمريكا - بقبائل الاسكيمو، وذلك عجب عجيب. قال ستانلي لين بول في شأن النصارى الذين كانوا قد استولوا على شمال إسبانيا في حينه: "كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على مَن يكون لهم فريسة. وكانوا خشنين جاهلين أميين لا يقدر على القراءة منهم إلاّ قليل جداً. ولم يكن لهم من الأخلاق إلاّ مثل ما لهم من المعارف - يعني لم يكن لهم منها شىء - وأما تعصبهم وقسوتهم، فهو ما يمكن أن تتوقعه من الهمج البرابرة". ثم قابل بعد ذلك بين الممثلين لنظام الفروسية في القرون الوسطى - يعني أشراف إسبانيا - وبين العرب (ص 189)، فقال: "اتصف النصارى في شمالي إسبانيا بأقصى ما يمكن من مضادة أقرانهم العرب. جاء العرب تلك البلاد، وهم عشائر بدو جفاة، ثم رقّت طباعهم إلى أن صاروا شعباً عالي الكعب في التمدن، يستلذون الشعر واللّطائف الأدبية. وقد وقفوا جهودهم لخدمة العلم واستقراء مسائله، وفوق ذلك كله قد عزموا على التمتع بلذات الحياة إلى أقصى حد ممكن. وأذواقهم العقلية كانت لطيفة فوق العادة وظريفة، فالموسيقى والخطابة ودرس المسائل العلمية بتعطش لا مزيد عليه، يظهر أنها كانت طبيعة غريزية لهذا الشعب الزاهر. وكانت لهم سجيّة معرفة النقد والولع بالمجاز والاستعارات الجميلة وتقديرها على النحو الذي ننسبه اليوم إلى الأمة الفرنسية. أما نصارى الشمال فكانوا بضدّ ذلك على أقصى ما يتصور، فكانوا جفاة غير مهذبين. ولم تكن آداب نظام الفروسية التي أدخلها المصنِّفون في تاريخهم، لتخطر لهم ببال. وفقرهم الشديد جعلهم خدماً لكل مَن يريد استخدامهم، وكانوا يبيعون شجاعتهم لكل مَن يدفع لهم أغلى ثمن لها، فكانوا يحاربون لتحصيل القوت". ثم أرانا - يعني سكوت - أن "سِد" (1)، الذي لا يزال حتى اليوم زينة لكتب _______ (1) Cid، يقال إنه ولد سنة 1040 وطار صيته في الحرب التي وقعت بين أمير قشتالة شانسوورينس نفار وأبي عبد الله ملك غرناطة، وكان تارة مع النصارى وتارة مع المسلمين.

3 - مدينة النور والحب:

الأدب، وزهرة من أزهار الفروسية النصرانية، كان خائناً قاسياً غدّاراً ناقضاً للعهود لا إيمان له ولا ذمة، يبيع سيفه وعواطفه من كلا الفريقين: المسلمين والنصارى. ومِس شارلوت ينج التي كانت لها الشجاعة الكافية أن تقول الحق في شأن العرب والنصارى منذ خمسين سنة، لم تجد ما تسلي به دينها إلاّ شيئاً واحداً وهو قولها: "قد بلغ الإسلام أعلى درجات الإلهام في زمان مدنية العرب في الأندلس، ولكنه انقرض بعد ذلك. وأما النصرانية فإن لها آمالاً في المستقبل غير محدودة". وفي هذا خطأ مضاعف، فالإسلام هو الذي ألهم العرب مدنيتهم ولكنه لم يمت، والمدنية المستمرة التي جاءت في العصور الأخيرة ليست من النصرانية في شيء. والحقيقة أن مدنيتنا الحاضرة لا علاقة لها بالنصرانية، ولكن المدنية التي دخلت أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، كانت لها صلة كبيرة بالعرب، أي أن مصدرها كان منهم، فالنور الذي أشرق في إسبانيا لم يكن بدّ من أن ينبثق إلى أوروبا، فالإسبانيون الذين استولوا بالتدريج على النصف الشمالي من إسبانيا، عندما أخلد العرب إلى أرض الترف والبذخ، وانحصروا في القسم الجنوبي - الأندلس - لم يبقوا جامدين لا شعور لهم بثقافة جيرانهم - يعني أنهم أخذوا يقتبسونها، وكان السيّاح أو المسافرون من النصارى الذين يزورون مدن العرب يعودون إلى أوطانهم فيقصّون من أخبار العرب وعلومهم وحضارتهم الجميلة ما يهزّ النفوس ويشوقها إلى تلك الحضارة الفذّة. 3 - مدينة النور والحب: مدريد (مجريط) التي كانت في القرون الوسطى قرية مظلمة، هي واقعة تقريباً في وسط إسبانيا، وفي شمالها بالضبط سلسلة جبال وادي الرملة المتدثِّرة بالثلوج، حتى حين مررت بها في الشهر السادس (جون = حزيران)،

وكان الجوّ حاراً. ولما انطفأت نار الغيرة وحبّ الفتح في قلوب العرب، تركوا هذه الناحية الشمالية ذات البرد القارس لبقايا المملكة النصرانية، فانضم إليهم الغوغاء المجازفون من فرنسة، وبمرور الزمن تألّفت منهم أمة صغيرة ذات بأس وضراوة على القتال. أما كيف قاتلت هذه الأمة الصغيرة إلى أن استولت على إسبانيا كلها واستردتها تارة أخرى، فهو حقيقة صفحة عظيمة في تاريخ العمليات العسكرية، ويحق للإسبانيين أن يفتخروا به من حيث هو استيلاء على الأرض، ومن سوء الحظ قد قضى هذا الاستيلاء على المدنية قضاءً مبرماً. ولست بصدد ذكر العمليات العسكرية هنا، والذي أريد بيانه، أنه في سنة 1085 استرد الإسبانيون أقصى مدينة في الشمال من أيدي العرب وهي طليطلة قاعدة ملك الإسبانيين القديمة. وهذه المدينة اليوم في حالة تدل على ما جناه الإسبانيون على المدنية في قضائهم على العرب. ولهذه المدينة موقع فريد لا تشاركها فيه مدينة أخرى، فهي مبنية على كوم من الصخور مرتفع عن الأرض، والنهر محيط بها من ثلاث جهات. وفي القرن العاشر كان يعيش في تلك المدينة (200000) نسمة في غبطة وسعادة. وسيوف طليطلة مشهورة عند كل مؤرخ وخبري، لأن قيونها كانوا أمهر القيون في العالم. وعند الكلام على قرطبة يمكن أن تجمع شيئاً من أخبار طليطلة المدينة العربية العظيمة. واليوم بعد مرور ثمانية قرون من استرداد طليطلة، ترى سكانها نحو (30000) ألفاً من الكسالى، يدبون دبيباً في شوارعها المهجورة الهامدة، ويعيشون على كرم الزائرين. ولما ركب الإسبانيون ودخلوها، يتقدمهم رئيس أساقفتهم، حين رفست المدنية تحت الأقدام وتلاشت، شيَّدوا فيها كنيسة فخمة فيما بعد، ولكن من جهة أخرى انحطت المدينة إلى حال أنها صارت قرية كبيرة، فكأنما بنيت الكنيسة لخراب المدينة. والجسر العظيم الذي على النهر متين جداً ومفيد كثيراً، فلذلك لم يقدروا على تدميره. وباب المدينة العجيب، باب الشمس، قد أبقوا عليه، فهو يظهر اليوم تذكاراً محزناً

لماضٍ مجيد، ينظر إلى الخراب، ويندب مجده البائد. وأما سائر المدينة القديمة العجيبة، فكأنها لم تغن بالأمس. ولو بحثت بجد واجتهاد عن بقايا تلك العظمة الغابرة، لوجدتها تلاشت وصارت كأمس الدابر. وتدور مبهوتاً في شارعها الرئيسي، وهو زقاق ضيِّق حيث كان ربع مليون من النفوس يعيشون في نعيم. تطلب مكاناً طيباً تستريح فيه، فيكون خاتمة تطوافك أنك تجد نفسك في حجرة قذرة، تتغذى بين سائقي البغال والفلاحين. وانتحى مجد العرب نحو الجنوب إلى إشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وكانت طليطلة لذلك المجد كالطليعة. وكان الجنوب الشامس وطناً طبيعياً للعرب. ومن العجب أن لا نجد إلاّ قليلاً ممن يعرفون أنّ قرطبة كانت تضاهي في عظمتها ومجدها بابل وروما وبغداد، هذا مع أن عهدها ليس ببعيد. ومنظر قرطبة اليوم منظر محزن. ولا أريد اليوم بهذا النوح والعويل الدائم أن أهيج أو أحاول أن أهيج سخط الناس على الدين الذي ألهم الإسبانيين أن يبيدوا هذه المدينة العظيمة. وأنا أشدّ تأسفاً وتحسّراً على خسارة النوع البشري منى على جناية أولئك الجناة. لو أن الممالك النصرانية عملت وترقت بالعمل الصالح الذي عمله اليونان في الشرق، والرومان في إيطاليا، وفرنسا وانكلترا في شمال إفريقية، ولعمل هؤلاء العرب في طليطلة وإشبيلية وغرناطة، كيف كنا نكون اليوم؟ لو عمّت أفكار قرطبة وعلومها وتهذيبها جميع أوروبا لبلغت أوج المدنيّة وتقدم العلم فيها تقدماً عظيماً في القرن الثالث عشر، ولكانت أمريكا وسائر بقاع الأرض قد اكتُشِفَت قبل تاريخ اكتشافها، واستعمرت بحكمة وإتقان أكثر وأسبق مما وقع لها، وكان النوع البشري اليوم متمتعاً بثروة ورفاهية ورقي وحرية وسمو فكر مثلما سيكون حوالي سنة 2500 م. فهل كانت قرطبة إلى هذا الحد عجيبة؟ نعم، كانت كذلك بالنسبة إلى القرن العاشر وبالنسبة إلى أي عصر آخر ما عدا زماننا هذا، وكان بإمكانها أن تعلَّمنا دروساً كثيرة من فنون المعيشة. لم يبق من آثار قرطبة الوسطى إلاّ أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال

حتى اليوم جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجداً. ولولاه ما تجشَّم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة - ولو كانت على بعد خمسة أميال منه - ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوه. وهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة القديس بطرس، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولى على اللّب. ولم يكن العرب الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يهتمون نسبياً بالمظاهر كثيراً، وأما في الداخل، فهناك العجائب. إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر، يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانية وستون سارية رقيقة من المرمر والرخام واليسب، وفيه غير ذلك ألف واثنتا عشرة سارية، وفيه تسعة عشر رواقاً، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر. وله سقف خشبي منخفض نسبياً زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب. وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثريا من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت المعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد: وأكبر ثريا منها كان محيطها ثمانية وثلاثون قدماً، يحمل ألفاً وأربعمائة وأربعاً وخمسين مصباحاً، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف. وفيها (6000) طبق من الفضة، مسمرة بالذهب ومرصعة باللؤلؤ. وكان الجامع قد شُيِّد مع مضافاته في القرن الثامن والتاسع والعاشر. والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد العرب، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفاً من سائر المسجد. وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة. وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال ليرى عجائب هذا الجامع العظيم. وكان بناؤوه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين العرب مودة، فجلبوهم لبنائه. وهو أثر لمدنية زاهرة لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها. وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل

عمره. وهو الذي ابتدأ بناء الجامع، وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده، وبلغت نفقاته على ما حدّث به مؤرخوا العرب (300000000) دولار. وإنما كان هذا آخر عمله في حياته، وقد شيّد غير ذلك هو وخلفاؤه ورجال دولته قصوراً فخمة ومساجد كثيرة كانت تزيد المدينة كل سنة جلالة وبهاء. قدّر سكوت سكان قرطبة في أزهى أيامها بمليون، وآخرون قدّرهم بنصف مليون، ولكن مؤرخي العرب حدثونا بأنه كان فيها عشرة آلاف قصر، عشرة منها للملك، و (1130000) دار و (700) مسجد و (900) حماماً عمومياً و (4300) سوق و (5000) طاحونة على شاطئ النهر، والآن بعد تقدمنا كله، فقرطبة بلدة منحطّة حقيرة، سكانها نحو مائة ألف، من ذوي المناظر الكريهة الأموات، وإن كانوا يعدّون من الأحياء. وكان للمدينة القديمة شوارع مساحتها عشرة أميال، كلها مضاءة ومبلّطة تبليطاً حسناً، وإلى الآن لا نزال نطأ تبليط العرب في كثير منها، ومجاري مياهها كانت منظمة جيداً، ولا تزال مئات من الدور باقية، فيمكنك أن تتصور معيشة أهل البيت العربي: تدخل من باب حديدي ضخم جميل، ثم تمرّ في دهليز قصير مظلم، فتصل إلى صحن الدار، وهذا الصحن هو وسط البيت، فترى هناك أزهاراً ورياحين وبسطاً من الحرير والفسيفساء المتلألئة والنقوش العربية الجميلة، وتجد في كل صحن تقريباً فسقيّة من المرمر، كل ذلك يجعل المنزل مقاماً بهيجاً تحلو فيه السكنى ويطيب فيه العيش. وقد جلبوا الماء من أميال من نهر (سيرا)، ثم وزّعوه على المنازل في أنابيب من الآنك. وكانت النظافة عند المسلمين فرضاً مقدساً، حتى أن النصارى حين استولوا عليهم دمّروا الحمامات. وعندنا وصف دقيق، لقصر بناه عبد الرحمن، على ثلاثة أميال من قرطبة. وإذا ذكرنا أن القياس ملكي، فسنعرف شيئاً من معيشة أهل قرطبة في القرن العاشر. بُني القصر لتكريم امرأة، وهي محظيته الزهراء، فجعل لها تمثالا جميلا من المرمر نصبه على باب القصر، وكان يشتغل في بناء هذا القصر

عشرة آلاف رجل وثلاثون ألف دابة، وبقوا يعملون فيه سنين، وينبغي لنا أن نفرض أن هذا القصر بهر مؤرخي العرب في ذلك الزمان، فلم يقدروا أن يرووا تفاصيله على الحقيقة، لأن وضعهم كان لا يُعتمد عليه تقريباً. فقد زعموا أن له تسعة عشر ألف سارية جُلبت من اليونان وإيطاليا وإفريقية وغيرها. والإيوان الأوسط كانت سواريه من المرمر والحجر الشفاف، وكانت رؤوسها مرصّعة باللؤلؤ والياقوت، وكان جريدة سقفه من الذهب والفضة، وكانت جدرانه وقبّته من العقيق اليماني، وكان له ثمانية أبواب من الأبنوس والعاج مرصعة بالجواهر، وكان في القصر ثلاثمائة حمام فاخر مستجمع لشروط النِّعمة. وكانت الحدائق واسعة جداً، حتى الحيتان كانت في حياضها، وكانت كلها من (السّمك الذّهبي) كان قوتها اليومي اثنى عشر ألف رغيف من الخبز. وكان عدد الخدام الذكور (13750) وعدد الإناث (6314) وعدد الخصيان والوصفان (3350). وقد أُخبرنا بما كان يُستهلك ثمَّ من الطعام يومياً، بحيث لا تخفى علينا منه أوقيّة واحدة. وكان طعاماً فاخراً هنيئاً مريئاً، وكان هناك غير من ذكرنا العساكر والموسيقيون والشعراء والراقصون ورجال الدولة والأدباء لغرض الشعر والاشتغال بالموسيقى، بل حتى المباحثات العلمية والفلسفية. كان لهما الاعتبار التام هناك، وكان الإعجاب بهما لا يقصر عن الإعجاب بقدّ جارية حسناء أو عينين كحلاوين لخريدة محظية ييضاء في غلالة حريرية سوداء من غواني الحريم. وكان عدد حرس الخليفه الخاص اثني عشر ألفاً من خيرة الجنود، يلبسون أفخر الحرير، ولهم مناطق مذهبة، وأجفان سيوفهم كذلك كانت مذهبة، ومقابضها مرصعة بالجواهر والأحجار الكريمة، وكان هذا القصر عاشر عشرة من القصور الملكية. وحوله كانت مساكن جميلة لخاصة الخليفة ورجال دولته المقربين وأرباب المناصب العالية. وكذلك كانت مدينة الزهراء مدينة تسبي الألباب، وتسحر العقول بجمالها، وإن سألت عن حالها اليوم، فهي في حالة لا تستطيع أن تشبع قليلاً من المعز. وكعل شيء كان هناك ملكياً، والموسيقي

والمغني الخاص لعبد الرحمن الثاني كان أديباً من أعاجيب الزمان؛ وكان مرتبه (40000) دينار من الذهب في كل سنة، وهو أكثر من مرتب رئيس الولايات المتحدة. وهذا النعيم الذي لم يمض عليه إلاّ أقل من خمسمائة سنة، لم يحفظ منه الإسبانيون مثقال ذرّة. وكان يصبّ في خزائن الملك كل سنة، نهر مفعم من الذهب، فيفيض منها على الأشراف والأمراء والأدباء والعلماء وكبار التجار وغيرهم. وكانت القصور الفخمة ممتدّة على شاطئ الوادي الكبير مسافة عشرة أميال، وكانت أسواقها أغنى أسواق الدنيا، فلم يسمع سامع بشيء من التوابل أو العطور أو المنسوجات الفاخرة أو الكتب الخطية النادرة أو البُسط والزّرابي البديعة أو آلات اللهو في أي ناحية من أرجاء الدنيا، إلاّ وقد جلبت إلى تلك الأسواق. وحال أمريكا اليوم بالنسبة إلى الدنيا القديمة، هي حال الأندلس في ذلك الزمان بالنسبة إلى غيرها من البلاد، ولكن الأندلس كانت أعظم من وجهة المدنيّة. وكانت الحدائق العامة المعدّة للتنزه نزهة للأبصار، وستعلم شيئاً من ولوع العرب بالحدائق والجنّات، إذا رأيت الحديقة المعروفة بالقصر في إشبيلية، وكان العرب يتوخون الجمال في كل شعبة من شُعب المعيشة. والعرب أنفسهم كانوا صنّاعاً ماهرين في الأدوات المعدنية والجلدية، وأحسن المنسوجات الحريرية والكتانية. وكانوا يصنعون الفسيفساء العجيبة، وينقشون النقوش الجميلة على الأواني المنزلية. وكانت لهم مهارة عظيمة في دهن الأواني الخزفية، وكانوا حاملي لواء زخرفة داخل البيوت والقصور وزينتها، وبلغوا في ذلك درجة عالية لم يعرفها أحد في الدنيا غيرهم، وكانت لهم معادن كافية من الرخام والمرمر، ومع ذلك كانوا يجلبون المرمر من اليونان وإيطاليا وإفريقية. وكانت سفنهم تجلب المقادير العظيمة من خشب السدر والعاج والأبنوس وأحسن التوابل والطيب الذي يمدهم به الشرق، وكانوا يجلبون من هناك الذهب والفضة والمجوهرات والمحار والحجر الشفّاف وحجر اللآزورد وجلود السلاحف وكل مادة معروفة من مواد الزينة.

وكانت خزائنهم المالية عظيمة بالنسبة إلى عصرهم، إلى حدّ أنهم كانوا يسيطرون على الدنيا كلّها من الوجهة المالية، وقد عرفوا كيف ينفقون أموالهم على فنون المعيشة، إلى حدّ لم يصل إليه إلاّ قليل من الأمم. وقصور الأشراف وأصحاب المناصب والأدباء، كانت تقارب في الفخامة والسعه قصور الخلفاء، وحتى منازل أرباب الحوانيت كان لها جمال ورفاهية محتها أعاصير النكبة التي أنزلها الإسبانيون بالأندلس. وعلاوة على ذلك، مئات من الحمامات المحشاة أطرافها بالمرمر والفسيفساء، والحدائق العامة البديعة التي كانت ممتدة على شاطئ الوادي الكبير، كانت نعمة ورفاهية للناس جميعاً من الخليفة إلى أدنى الطبقات. وفي كل أمر من تفاصيل معيشتهم، أبدَوْا سلامة ذوق لا يمكننا نحن أن نأتي بها. والعشرون ضاحية التي كانت حول المدينة، لم تكن أسماؤها: (بوت فيل Potts Ville) و (نيوتن Newton) ، بل كانت أسماؤها هكذا: وادي الفردوس، والوادي الجميل، وحديقة العجائب، وهكذا. ولقد صدقوا، فإنها كانت كذلك، وكانت مبثوثة بينها المنازل البيض المشرفات، وحولها غابات الأترج والنخيل والسرو الواسعة وروضات الأزهار الفضَّة الباقية طول السنة، تجري من تحتها الأنهار والجداول فالبحيرات والعيون، والمخابئ، والمغارات، وصفوف الأشجار، وكل فكرة عند الفلاحين المتخصصين في الغرس والزراعة، وقد استعملت هناك مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. وإذا عبرت النهر على الجسر العجيب الذي يبلغ طوله (1200) قدم وارتفاعه فوق الماء (90) قدماً، تجد ضاحية حفت بالحدائق البهيجة والروضات الجميلة، تسحر الألباب ببهائها، ولو لم يكن هناك سواها، لكانت المثل الأعلى في المدن. وإذا انقضى العمل في كلّ يوم، كانت قرطبة ترى معترك ضحك وغناء وذنوب يفوح عطرها، ومباحثات عقلية دقيقة وموسيقى شجيّة بجميع الآلات التي كانت معروفة لذلك العهد. وكان العباد والزهاد في قرطبة كثيراً، لأنها كانت تحوي أعظم المعابد العلميّة والدينية وفطاحل العلماء في الدنيا، وقد

4 - علوم العرب وآدابهم:

سنّ أحد الخلفاء - وكان ديِّناً - قانوناً يقضي ببناء مسجد في كل اثني عشر بيتاً، ونفذ قانونه، إلاّ أن الظرف والّلطف كان هو الغالب. وأكثر الناس كانوا يلتزمون بالعبادات الإسلامية التي ينص عليها الإسلام، ولكن لم يكونوا متعمقين في أصولها النسكية التقشفيّة. فلا دمشق ولا بغداد وحتى إنطاكية في أوج مجدها، لم تكن مركزاً للسرور مثل ما كانت قرطبة، في حين كانت أوروبا متدثرة بالخرافات الموحشة، ولم تكن في الدنيا قط بلاد أسعد ولا أجمل ولا أنعم عيشة من الأندلس في القرون الثلاثة: العاشر والحادي عشر والثاني عشر للميلاد. وأعظم مزية يمكننا أن نمدح بها عرب الأندلس، هو أن نذكر أنّ شغفهم بالشهوات واستهتارهم بالّلذات، كان متّحداً على نسبة سواء مع ولوعهم بالتمتع بالعلوم العقلية والمعارف الدقيقة المحقّقة التي كانت منتشرة بصورة أوسع مما كانت عليه في روما أو أثينا. ولم يكِن في الدّنيا كلها، ولا هو كائن اليوم، بلد يكرم فيه العلماء والأدباء ويُكافَؤون بالجوائز مثل ما كان في الأندلس. ولم يكن في الدنيا بلد غير الأندلس، يحوي خزائن الكتب العجيبة والمدارس والكليّات العامرة، وجمعاً عظيماً من خيرة الكتّاب البلغاء، وذوقاً عاماً في المباحث العقلية مثل ما كان في الأندلس، والحلقات أو الدوائر الصغيرة من الرجال والنساء المهذبين الذين كانوا في إيطاليا يبحثون في الفنون والآداب في بدء النهضة، إنما كانت تقليداً ضئيلاً للعرب. 4 - علوم العرب وآدابهم: هناك حقيقة محزنة ودليل يملأ النفس غمّاً وأسىً، يدلّ على أنّ الفكر البشري لا يزال ناقصاً وبعيداً عن الترقّي الحقيقي، وذلك أن الذين يعرفون كيف يعيشون في كل عصر قليل، وبعد مضي ملايين السنين على وجود الإنسان، وستة آلاف سنة على حدوث المدنيّة والشعور بالوجود، ونحن الآن نختصم في ما هو المثل الأعلى للمعيشة، وأكثر الناس لا يعرفون كيف

يستعملون نعمها استعمالاً موزوناً. وتبعة ذلك معظمها يعود إلى النصرانية، ولكن الطبقة العليا من اليونان والمثقفين والمفكرين وصلوا إلى قريب من المثل الأعلى. وعندهم أنّ الحكمة كلّ الحكمة أن نعرف كيف نعيش، ذلك إنما يكون بترقية الجسم والعقل والأخلاق بعناية سواء وحماسة سواء. لا يفضّل واحد من هذه الثلاثة على قسيميه بشيء، وحتى أثينا كانت فيها معركة مستمرة لا نهاية لها بين الفلاسفة الإشراقيين أتباع زينو، أعداء الاستهتار الّلد وخصومهم السايبراتيين أنصار الاستهتار بالشهوات وزعمائه، حتى أبو قراط نفسه لم يكن يعطي للجسم حقه خلافاً لما يعتقده فيه عامة الناس. ولا نقول: إنّ العرب وصلوا إلى درجة الكمال، لكن مثلهم الأعلى كان معقولاً وممتازاَّ، والنصارى الذين يطعنون فيهم ينقبون في تواريخهم الواسعة، وفي الأكثر في التواريخ الخسيسة التي ألّفها أعداؤهم الإسبانيون غير الموثوق بهم، حتى إذا ظفروا على سبيل الندور بشيءٍ من القسوة أو الخيانة أو الفجور، أخذوه فرحين. وأطالوا في شرحه، بقصد التشّفي والتّشنيع. وكلّ مدنية تشعّ على ثلاثين مليوناً من النفوس السعيدة المغتبطة، لابد أن يوجد فيها أمثال تلك الهفوات النادرة، ولكن إنما يستغلها ويتجاهل الأخلاق الحسنة التي كانت غالبة عليهم، المؤلفون المخادعون الذين يُضلِّون مَن يقرأ كتبهم، بذكر أعمال استثنائية وقعت على سبيل الشذوذ والندور. لقد قرأت جميع التآليف التي أُلّفت في سيرة العرب مستندة على ما كتبه المعاصرون لهم، فرأيت يقيناً لا ريب فيه، أن أخلاقهم كانت سامية. ومن فضائلهم أنّهم تجاهلوا الزهد والتقشف، وتمتعوا في حياتهم بجميع اللذات التي يقضي بها الاستعمال الحكيم للنساء والشعر والموسيقى. وأما غيرتهم على شرفهم وشهامتهم، فهناك ألف قول وألف عمل يجليها لك في أكبر التآليف التي أُلّفت في تاريخهم، وقد ظهرت آثارها في شهامتهم المعروفة في الحروب. وليس ظهورها بأقلّ من ذلك في تمسامحهم مع السكّان والزوّار من النصارى ما داموا مستقيمين في سلوكهم، وفي معاملتهم ليهود بمقتضى

الأخوة التامة، وكرمهم الذي هو كنار على عَلَم على المرضى واليتامى والأرامل والفقراء، وكانوا يلتزمون بأوامر القرآن الإنسانية في الإحسان إلى المرضى والمحتاجين. وقد التزموا بتلك الأوامر تديناً وكرماً أكثر من التزام النصارى بمواعظ عيسى في مجلس وعظه بالجبل. وإذا درست التواريخ حقّ دراستها، ترى أنما يتبجّح به النصارى من كونهم متمسكين بأعمال الخير والأخوّة التي جاء بها الوحي، تراه يتضاءل ويتلاشى أمام ما عمله العرب المسلمون من ذلك. كان عصر ملوك الرواقيين أتباع زينو في روما عصراً عظيماً في الخيرات والمبرّات، وكان عصر المسلمين في الأندلس عصراً عظيماً في الإحسان والبر وأعظم منهما عصرنا هذا الحالي. وأما نصيب النصارى من عمل الخير والإحسان إلى المحتاجين من النوع البشري في سجلات التاريخ في القرون التسعة عشر الأخيرة فضئيل ناقص إلى حد يجعله مسخرة للساخرين. والحاصل أن الطاعنين في العرب لا يستطيعون أن يغمزوهم إلاّ بالانهماك في الشهوات، ولكن ذلك العيب المزعوم، سيكون مزية فخر إذا علمنا أنّ العرب كانوا يزنون مطالب النفس والعقل كليهما بقسطاس مستقيم، وجيلنا الحاضر على ما ورثه من تجارب ستة آلاف سنة من سير حكامها وروايات أديانها، حتى اجتمع له في ذلك ما لم يجتمع لجيل قبله، منقسم إلى فريقين - ما عدا البؤساء الكومستوكيين (1) -: فريق يجدّون في تهذيب النفس وترقية العلوم العقلية والفنون العالية، ويحتقرون الشهوات ويواجهونها بوجه عبوس. والفريق الثاني قوم ذوو دماء حارة، انهمكوا في الخمر والفسق، وأطلقوا لأنفسهم العنان، وأعطوها أقصى ما تريد من _______ (1) طائفة في أمريكا أسّسها أنتوني كومستوك ( Anthony Comstok) (1844- 1915) ، وكان متقشفاً، وكان جندياً في الحرب الداخلية الأمريكية، وكان يريد أن يصلح أخلاق الجيش، ثم دخل في سلك الإنشاء وصار زعيماً للثورة على فساد الأخلاق، ولكنه كان جاهلاً، لأنه كان يعظم أمر الجزئيات ويهمل الكليات، ومن المعلوم أنه لم ينجح فيما حاوله.

شهواتها، حتى صاروا كالأنعام بل أهم أضلّ سبيلا. وكلا الفريقين معجب بنفسه، وكلّ حزب بما لديهم فرحون، وكلّ منهما يعيب الآخر ويرميه بالمثالب، وكلاهما في ضلال مبين. ومن المزايا التي اختص بها العرب، أنّهم يرون أنّ السعادة وكمال النعمة إنما هي المعيشة التي كانت تكفل حفظ النفس والعقل في التهذيب على السواء. وكانت الدرجة العليا التي أدركوها في الشعر ناشئة عن ذلك الرقيّ الموزون. وكل الطبقات من أصحاب الحوانيت إلى الخلفاء كانوا ينشئون وينشدون الشعر. وكثيراً ما ترى جماعة من الرجال والنساء في ليالي الصيف في حديقة غنّاء، تعبق روائح رياحينها في ساحات البيوت الجميلة، جالسين يتباحثون في الأشعار، ويتنازعون بلطف في المساجلة في منتوجات أفكارهم. وكان ولعهم بالموسيقى ودرسهم لها يساوي شغفهم بالعلوم والآداب، وكانت الأندلس حقيقة في تلك الأيام أرض غِناء وغرام وأزهار ونوافح طيب. ولكن هذا الشغف بالموسيقى كان مزدوجاً مع شوق أعظم منه إلى استقراء العلوم العقلية إلى حدّ كدنا نعجز عن فهمه. فأين يوجد في عالمنا شخص يداني زرياب القرطبي (1) الموسيقي الشهير الذي كان مرتبه (000 , 40) دينار ذهباً في كلّ سنة، وكان يعرف عشرة آلاف صوت من نغمات الغناء. وأنا لا أدري، هل ذلك فوق مقدرة المغنين في عصرنا أم لا؟؟ ولكن أعلم أنّ ما عندهم هو جزء مما كان عند زرياب، وكان عالماً بالعلوم العالية في ذلك الزمان، كالجغرافية والطب والفلسفة مثلما كان عالماً بالموسيقى، فاخترع عطوراً جديدة وأدهاناً لتجميل الّلون، وجلب الأغذية والعقاقير، ووضع طرازاً صحياً للملابس، وأصلح النظام السياسي، وأوجد في الناس تهذيباً _______ (1) أصله من بلاد فارس، سافر إلى العراق وتتلمذ على إسحاق الموصلي، وقرّبه هارون الرشيد، ثم سافر إلى الأندلس، ودخل قصر عبد الرحمن الثاني، وتوفي بالأندلس في حدود سنة 852 هـ.

في الوجهة الاجتماعية، وكانت نوادره وحكمه تروى حكماً وأمثالاً في جميع بلاد الأندلس. وأين يوجد حتى في هذا العصر الحديث، ملك مثل الحَكَم الثاني، الذي كان له شغف في العلوم، حتى إنّه كان له رجال يجمعون الكتب من جميع النواحي في إسبانيا وأوروبا، حتى صارت خزائنه الخاصة تحتوي على أقلّ تقدير (000، 400) وبعض المؤلفين يقولون (000، 900) كتاب خطّي، وقد أضافوا إلى الأشعار العربية والفارسية تراجم أشعار اليونانيين. وترجموا إلى العربية كتب أرسطو وأفلاطون وأقليدس وسائر كتب المتقدمين. وألّفوا كتباً كباراً تبهر العقول في الطب والجغرافية والفلسفة والفلك والكيمياء والتاريخ. ومؤرخو ذلك العصر يريدوننا أن نعتقد أنّ الحَكَم كان عالماً بمضامين الخمسمائة ألف كتاب التي كانت تشتمل عليها خزائنه. وكانت تآليفه محلّ الإعجاب في جميع العالم، ولم يكن مستبداً أرستوقراطياً من الوجهة العقلية، وأنشأ في قرطبة عشرات المدارس غير ما كان بها من قبل، وأمر أخاه (وزير المعارف) أن يسهّل على جميع الناس اكتساب العلوم. والمؤلفون الذين يتجاهلون الحَكَم الثاني ويخوضون فيما وقع من عبد الرحمن الأول من القسوة على سبيل الندور والقلّة ويفيضون في قسوة عبد الرحمن الثالث، يخدعون قرّاء كتبهم. وهذه الغيرة على بث العلم كانت عامّة في ملوك العرب، ونظام التعليم عندهم يذكر بما كان من ذلك فى روما الوثنيّة، ويبشّر بنظام التعليم في هذا الزمان. وكان ذلك وادياً خصيباً في صحراء الجهل الكبرى التي امتدت من القرن الرابع إلى القرن التاسع عشر، لأنّ النصارى الإسبانيين أخربوا مدارس الأمة، كما فعل أسلافهم النصارى. وسكوت الذي هو أقوى برهاناً وأكثر تفصيلاً، أخبرنا مراراً أن المعارف كانت منتشرة في جميع الطبقات: "كان في كلّ قرية مدارس كافية لحاجة أهلها، وكان التعليم فيها قائماً على أفضل التسهيلات وأنفعها، كل الأطفال الذين قعد بهم العدم عن التعليم، كانت

الحكومة تعتني بهم وتؤسس لهم مدأرس مجانية على نفقتها (الفصل الثالث - ص:497) ". وعلى هذا نقول: إنّه تعذّر أن يوجد فلاّح أندلسيّ لا يعرف القراءة والكتابة، فى حين كان ملوك بقية أوروبا لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم في توقيعاتهم، وكذلك أشراف الروم من أعلى الطبقات لم يكونوا يقتدرون على القراءة والكتابة، وتسع وتسعون في كلّ مائة من أهل الممالك النصرانية كانوا أميين تماماً، وكانوا على غاية من الجهل لا يمكن تصورها، أضف إلى ذلك أنّ المعارف عند العرب كان معناه أوسع بكثير جداً مما كان في روما الملكيّة، وكان لهم من الغيرة على العلوم مثل ما كان لهم من الغيرة على الشعر. وكانوا يعتنون بالتعليم العالي ويعضدونه أكثر من التعليم الابتدائي، فقد كان في قرطبة ثمانمائة مدرسة، وكان التلاميذ يأتون من أقاصي الأرض ليتعلّموا فيها، وكانت للفقراء منهم دور إقامة أعدّتها الحكومة مجاناً لهم، ولهم في فيها أرزاق من بيت مال الدولة تقوم بحاجتهم من طعام وشراب ولباس، وكانوا يعطون زيادة على ذلك شيئاً من الدراهم معلوماً لكل واحد منهم، ولم يكن هناك اختصاص في التعليم إلاّ لمن يريد التخلّص من بعض التبعات. وقد قال اسكوت: "إنّ الجامعات والكليات الأندلسية كانت متسامحة ترحب باليهود والنصارى والمسلمين على حد سواء". وللعرب مثل سائر: "افترق العالم فريقين: فريق لهم علم بلا دين، وفريق لهم دين بلا علم" (1). مَن ذا الذي لم يقرأ يوماً من الأيام، في مدرسة العمر العجيبة، تأسيس الجامعات الأولى الذي ألهمته النصرانية - بزعمهم - في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟ وإني سائل والعجب آخذ مني كل مأخذ: كم واحداً ممن قرأ كتابي هذا، قرأ قط أنّ إسبانيا المحمديّة كانت قبل ذلك بثلاثة قرون، كانت _______ (1) يريد بذلك قول الشاعر: أصبحت فيمن له دين بلا أدب ... ومن له أدب خالٍ من الدين بقيت فيهم غريب الشكل منفرداً ... كبيت حسان في ديوان سحنون

متعطشة حرى - ولا حرارة المحموم للعلم - للعلم الحقيقي - لا لترهات مكاتب القرون الوسطى القشريّة، وكان العلم هناك بلا شك - عند العرب - مائة مرّة أكثر انتشاراً، وكان هو الملهم الحقيقي لحركة المدارس والجامعات التي قامت في القرون الوسطى؟ فانظر كيف يكتب التاريخ إلى اليوم منيعاً فيه هوى الدين يعني النصراني. ولم تكن حريّة الفكر في الأندلس، التي أقلّ ما يقال فيها إنّها كانت حالها أعلى وأجلّ بكثير منها في الممالك النصرانية، لم تكن هي وحدها تغذي حبّ العلوم والولوع به، بل كان يثيره إجلال العلماء الذي زال من الدنيا بزوال دولة الأندلس، ولم يرجع بعد إلى الدّنيا، ولم يكن الخلفاء يقتصرون على إكرام أكابر العلماء بالجوائز والصلات العِظام من المال، بل كانوا يتخذونهم أصدقاء خاصة وأصفياء ويولّونهم أجل المناصب في الدولة والقصر. وكان لملوك العرب رأي صائب، ينبغي أن يكون قدوة لجميع المدنيات؛ وهو أنّ الرجال اللائقين بتدبير المملكة وإدارة شئونها ليس البلغاء في الأقوال أو المَكَرة ذوي الكيد والدسائس، بل رجال العلم الذين برهنوا على كفاياتهم بسمو أفكارهم وثقوب أذهانهم. ولم يكن العلماء في الأندلس يعيشون في المعامل المظلمة، ونظر الناس واعتبارهم منصرف إلى الأشراف والأجناد ورجال السياسة. بل كان العلماء من أكثر النّاس مالاً ونعمة، وكان النّاس لهم أشدّ حسداً، ولم يكونوا يحسدونهم على قصورهم الملكية وكثرة خدمهم وحشمهم، بل على علمهم. وهذا يدلنا على أنّ الأمّة كلها كانت محتفلة بالعلم والأدب عارفة قدرهما. ولم تكن النساء محرومات من المشاركة في ذلك، وتجد في تأليف سكوت كثيراً من فضليات الأديبات منهنّ. وترى أنّ النساء كن يساجلن الرجال في المحافل العامة، حيث كان الحائزون قصب السبق في النّظم والنثر ينالون جوائز عظيمة. ولا ينبغي للإنسان أن يغلو ويتجاوز الوسط إلى الطرف الآخر، فيزعم أنّ العلم في الأندلس كان قاصراً على زخرف العقول والتطفّل الظريف، وأن

الماهر في نسج الألفاظ، كان أسعد الناس حظاً بعيش الترف والكسل! كلا، فإنّ نشاط العلماء في أعمالهم كان مدهشاً، فقد وصلت إلينا أمثلة رائعة من بدايات علومهم التي تفوق نهايات غيرهم. وجريدة أعمال المشهورين من علمائهم بلغت من العظمة إلى حد يكاد المرء ألاّ يصدِّقها، ولكن سكوت أخبرنا بأن كتّاب العرب - مع سعة خيالهم وإبداعهم في الوصف وتأنّقهم فيه - صادقون فيما يذكرونه من الحوادث. وقد نسبوا إلى ابن الطفيل ألفاً ومائة كتاب في الفلسفة والتاريخ والطب، وأنّ ابن حزم ألّف أربعمائة وخمسين مجلداً في الفلسفة والقانون (الفقه)، وكانت لهم معلومات عدّة تزيد مجلدات إحداهن على خمسين مجلداً. وعدد المؤرخين منهم يزيد على ألف على ما قيل، فللّه كم ضاع من علم وأدب كان طعمة للنيران التي أوقدتها أيدي الرهبان حين: "طرد الإسبانيون الكفار من أوروبا"، كما يزعم المدرسون. وكان قسم من تلك الكتب في علم الكلام، فلا تستحق أن تعتبر هنا. وكان علماء المسلمين قد جاءوا الأندلس من كل رجا من أرجاء الدنيا. وأحياناً كان يتسرب إليها المتعصبون من أهل إفريقية، فيؤيدون السلفيين الجامدين، وينشأ غمام مظلم في سماء الوجهة العقلية الإسبانية بتافه قول من قال: "إنّ الضعف الوحيد الذي كان في أهل الأندلس إنما أتاهم من قبل دينهم". ومن الواضح أنّ أكثر علمائهم اختصاصاً بأمور الدين هم الفلاسفة، وإنّهم صرحوا جهرة بذم علم الجدل الكلامي حتى الإسلامي منه. وكانوا يعرفون جميع ضروب الفلسفة: هنديّة كانت أم يونانية، إلاّ أنّ أرسطو كان هو المعلّم الأكبر في نظرهم. ولما تكلم الشاعر الكاثوليكي دانتي في القرن الثالث عشر على الفلسفة لم يذكر ولا رجلاً واحداً نصرانياً، إلاّ ذكر بعده ابن سينا وابن رشد، وساوى بينهما وبين المعلم الأكبر في الشرف، حين سمَّى الجميع "آل بيت الفلسفة"، وذلك يدلنا على أنّ الفضل في النهضة الفكرية في أوروبا يرجع إلى العرب الذين أحيوا فلسفة اليونان بعد دروسها، قبل النهضة الأخيرة الأوروبية بأربعة قرون.

وكان أرسطو يكره الهراء الذي يسمى فلسفة إفلاطون في الإلاهيات وما وراء الطبيعة، وكان أرسطو أفضل من عرفت العرب من الحكماء المتقدمين، وأعظم تحقيقاً للمسائل العلمية. وإنه ليزيدنا إعجاباً بهذه الأمة - أمّة الشعراء وعشاق الجمال، أنهم قدَّسوا أرسطو حتى كادوا يؤلهونه. وما بلغ عمر ابن سينا ستة عشر سنة، حتى صار من كبار العلماء، وصار وزيراً عظيماً وهو ابن ثلاثين. وأفيروس واسمه الحقيقي: ابن رشد، هو الذي ألّف الشرح الشهير لكتاب أرسطو. وذكره دانتي (1) في كتابه: الكوميديا الإلهية، وهو الذي أثنى عليه حتى الراهب سافونارولا ( Savonarolla) وقال فيه: "رجل كانت له عبقرية ربانية، وكان مكباً على الدرس ومنهمكاً فيه، حتّى إنّه لم يترك الدرس إلا ليلتين في حياته: ليلة عرسه، وليلة وفاة والده". وكان ابن رشد، وهو من فلاسفة العرب، طبيب الأمير ورئيس قضاة قرطبة، وقد خدم فلاسفة العرب العلم والفلسفة سواء، وكان على ذلك المتخصصون في العلوم هم الذين خدموا العالم أعظم خدمة، ولا سيما الرياضيات والفلك والكيمياء والطب. والفصول الطوال الثمانية والعشرون التي يحتوي عليها كتاب اسكوت ليست إلاّ إشارة مختصرة لأعمال العرب العظيمة، ولا ينصفهم بأعمالهم إلاّ مجلّد ضخم. وكان علم الهيأة من أجلّ علومهم التي هذّبوها، وكان علماء الفلك في بغدادهم الوارثين لعلوم بابل والإسكندرية، وانتقل ذلك إلى الأندلس. وكانت بيوت العبادة - المساجد - تستعمل مراصد لمراقبة حركات الأجرام السماويّة، كما كان في بابل، فكانوا يرصدون النجوم على رؤوس المنائر. ولعل الكلدانيين علماء الفلك منهم، قد اكتشفوا كلّ ما يمكن اكتشافه بالعين المجردة، ولكن علماء الفلك من عرب الأندلس، كانت لهم آلات ذات دقّة _______ (1) أنظر لمحة من سيرته في الموسوعة العربية الميسّرة (778).

وإحكام، مركّبة على رؤوس المنائر. ولم يكن عندهم (تلسكوب) طبعاً، وإن كانوا هم الذين وضعوا أساس علم النور والمرئيات، وروجر بيكن ( Roger Bacon 1214-1292) الفيلسوف العالم الإنكليزي، مدين لهم بأكثر مما يتصوّر المعجبون به من الكاثوليكيين. وكانت عندهم عشرة أنواع من الاسطرلاب، وعدّة آلات أخرى عدا ما عندهم من الكرات الأرضية والسماويّة، وقد اكتشفوا أنّ (الصّاعقة)، وتسمى في غير إسبانيا من بلاد أوروبا: (النجم الثاقب) كتلة كثيفة تدخل جوّ الأرض. ولهم رأي صائب في ارتفاع الهواء وقلّة كثافته ووضعوا جداول لحركات النجوم، ووضعوا أوّل استنباط مدقّق لطول السنة، وأدركوا الشذوذ الواقع في مدار الأوض، ووضعوا رقوماً لتعاقب الاعتدالين. والكيمياء الأولى لفظ عربيّ، وكذلك الجبر. وهناك ألفاظ أخرى عربية تذكرنا بما للمسلمين علينا من فضل في الوجهة العلمية. لقد استنبط العرب المسلمون قواعد الكيمياء. ولو أنّ مدنيتهم أُبقي عليها، واستمرّ تقدّم ثقافتهم، لكنا اليوم نعيش في عالم أعجب وأرقى مما نحن فيه. والعرب هم الذين اخترعوا البارود لا أهل الصين كما يتوهّم العامّة، ولست أعني أنّ اختراع البارود نعمة، وإنما ذكرته آيةً على خصب عقول العرب، وأنّه من ثمرات علومهم، وهم أوّل من صنع البندقيات، وصُنعت المدافع في غرناطة في القرن الثالث عشر. ولا شك أنّ الكيمياء القديمة هو الصورة الابتدائية للكيمياء الحديثة. ولقد كان فيها ضياع عظيم للأوقات في تتبع الأوهام، ولكن من الواضح أنّ العلم لا بدّ له أن يجتاز ذلك الطور قبل أن يصل إلى تحليل المركبات المادية وردِّها إلى عناصرها الأولى. ولهم فضل عظيم في السبق إلى خدمة الطبيعيات لمهارتهم في الرياضيات، ورسموا جداول للثقل النوعيّ أو الجاذبية الأرضية. وقدّروا تخميناً دقّة الجاذبيّة الشعرية - نسبة إلى الشعرة لدقتها - وهم المخترعون الحقيقيون لبيت الإبرة - المسماة عند العامّة بالبوصلة -. وأمّا أهل الصين فإنّما

أوصلوا إلى العرب علم مناسبات الإبرة المغناطيسية، والعرب هم الذين ركّبوها في دائرتها، وأتحفوا الملاّح بهذه الآلة التي لا ثمن لها عنده. واخترعوا الساعة الكبيرة ذات (البندول) والعجلة. وأتقنوا الميزان، وهم الذين أبدلونا الرقوم العربية بالرقوم الروميّة الثقيلة المتعبة، وهم الذين استنبطوا قواعد علم النور والمرئيات التي هذّبها فيما بعد روجر بيكن، ووضعوا قواعد الكهرباء التي بنى عليها جربرت ( Gerbert) مباحثه. وحتى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) قد اشتغلوا في أساسه، ووقفوا على السنّة الكونيّة في التفتّت، ودرسوا طبيعة الصخور. وأما علم المعادن، فقد خدمه حكماء العرب في القرن العاشر. قال الدكتور وود ورد ( Woodward) في كتابه (تاريخ علم طبقات الأرض ( History of Geology) : " ومن الّذين ألّفوا في صورة المعادن وتركيبها الطبيب ابن سينا، على حين كان العرب هم قادة العلوم في الغرب". وقال الأستاذ فوربز ( Forbes) في كتابه: تاريخ علم الهيأة ( History of Astronomy) " وابن رزفلة من أهل طليطلة أضاف تحسيناً عظيماً إلى الجداول الشمسية". وقال الأستاذ ميال ( Miall) في كتابه: تاريخ علم الحياة ( History of Biology) : " عند الكلام في العلوم على وجه عام، لقد تقدمت العلوم بسرعة تحت حكم الخلفاء". وقال السير ادوارد ثورب ( Sir Edward Thorbe) في كتابه: تاريخ الكيمياء ( History of Chemistrys) : " لقد تقدم علم الكيمياء الحديثة تقدماً معتبراً"، والحقيقة أنك لا تجد علماً من العلوم إلاّ والفضل الأكبر فيه للمسلمين من أهل المغرب وأهل الأندلس. وأعظم من ذلك كله أنّ لهم الفضل علينا في إحياء العلوم وبثّ روحها وعزمهم العظيم على أن يجدوا قواعد صحاحاً لسنن الطبيعة الحقيقية، وإن كانت منعت من التقدم بضعة قرون بسبب ضغط الكنيسة، ولكن لم يمكن محوها من ذهن الإنسان. وسجية الإنسانية الكاملة التي كانت متمكنة من العرب المسلمين، حملتهم على أن يعنوا عناية خاصة بعلم الطب، وكان علم الكيمياء عندهم في أوّل

الأمر إنما هو علم إضافي لتكميل علم الطب، أي علم العقاقير. ووجد العرب المسلمون في هذه الوجهة أمامهم عقبة كئوداً بسبب المتعصبين في التصدي لتشريح أموات البشر، ولكن لا نشك في أن كبار مدرسي الطب العرب شرّحوا الحيوان، بل لا نستبعد أنهم شرحوا أجساد الأناسيّ خفية. وعلى كلّ حال فخدمة الأطباء العملية، كانت قد ارتفعت هناك إلى مستوى عالٍ، وكانت بقيّة أوروبا في الحضيض الأسفل. وكان أكثر العلماء كيفما كان علمهم ماهرين في الطب، ويروى أن دور الأطباء، حتى أكابر الأغنياء منهم، كانت مفتوحة في كلّ وقت للفقراء، وهم الذين أدخلوا كثيراً من العقاقير إلى أوروبا. ولم يكونوا في خدمة التاريخ، أقلّ حماسة منهم في خدمة العلوم والفلسفة والشعر. وتقدم علم تخطيط البلدان (الجغرافية) عندهم تقدّماً أساسياً، لأن العرب كانوا ملاّحين شجعاناً حذّاقاً في الملاحة في وقتهم. فكانت رحلهم واسعة على قدر طموحهم وولعهم الشديد بحبّ الاستطلاع والتنقيب. وليس فضلهم في خدمة علم النبات بأقلّ مما سبق، لأنّ الخلفاء بعثوا العلماء لمراقبة الأعشاب والبقول عن كثب في جميع نواحي إسبانيا. وكانت حدائقهم فنيّة على مقتضى علم النبات تحتوي على طرائف الشرق والغرب. وكانت عندهم أيضاً طرائف أنواع الحيوان، لدرس علم الحيوان، ولهم ملاحظات وتنبيهات في التاريخ الطبيعي تختلف عن القصص الجاف الذي يرويه أهل البلدان الأخرى. وهذه الأخبار - وإن كانت مختصرة جداً - فهي كافية في دلالة القارئ على أنّ العرب المسلمين هم الذين وضعوا فاتحة هذه المدنيّة الجديدة في أهم نواحيها. والحق أقول: إنّ هلاك ثقافتهم الذي يبدئ ويعيد المقررون في تقريره ببلاغة، ويسمونه: "طرد الكفار"، قد أوقف رقيّ النوع البشري مدّة من الزمان. ومهما كان فلم يكن إطفاء أنوار علومهم كلّها، ولهم أوّلاً، ثم لليونانيين الأقدمين بواسطتهم، يرجع الفضل في إيجاد طلائع العلم من

النصارى كجربرت وروجر بيكن وألبرت الكبير ( Albert The Great) 1193-1280 م، وكروسست ( Robert Grosseteste) 1175 -1253 فهم الذين علّموهم. فاقرأ مثلاً سيرة جربرت، تجده قد ولد في جنوبيّ فرنسة، وتعلّم في برشلونة ثمّ في جامعة قرطبة، فكلّ ذرّة من علمه المعتبر جاءت من العرب المسلمين. فتح جربرت مدرسة في إيطاليا، فقامت قيامة الرهبان وأثاروا الرعاع عليه، فأحرقوا مدرسته وكسروا أدواته وشتتوا شمل تلاميذه. والحكّام الماديون، لم يسعهم إلاّ أن يكرموا عالمهم النصراني الذي ليس لهم غيره، فبمساعدتهم صار أسقفاً، ومن مساخر التاريخ أنّه صار بعدُ بابا وسمّي: (سيلفستر الثاني) وكان ذلك في أسفل عصور البابويّة، وبعد أربع سنين مات، وهناك تهمة قويّة أنه مات مسموماً، فلعنت الكنيسة ذكراه، ثم هي اليوم تفتخر به. لكنّ روح علوم العرب المسلمين الحقيقية لم يمكن قتلها، فثقب نور مدنيتهم المشرقة ضباب الخرافة والجهل، ونتج شيءٌ من الحياء ومكارم الأخلاق، وحرّك رغبة أوروبا في العلوم العقلية. وفي القرن الحادي عشر (التالي لعصر قرطبة الذهبي) أخذت أوروبا تخرج من بربريتها، ومعظم أسبابه التقدم السياسيّ الذي نشأ عنه التقدم الاقتصادي، فصارت القرى مدناً، والمدن الصغيرة أمصاراً، والعامة أحرزوا قسطاً من العلم، والأشراف طمحوا إلى المعالي. ولما حصلت اليقظة الفكريّة في الممالك النصرانية، كان لزاماً أن تؤثر فيهم المدنية الأندلسية الزاهرة آثارها. وليس هناك موضع، أسفت على ضيق المجال فيه طبقاً لبرنامجي، مثل ما أسفت عليه في هذا الكتاب، لأن تاريخ العرب المسلمين العلمي عظيم، وخدمتهم للنوع الإنسانيّ عظيمة جداً ومهمة. وقد غمط أكثر المؤرخين حقّهم، ولعبت أيدي المؤلفين المتعصبين لدينهم - يقصد النصارى - دوراً عظيماً، ومكروا مكراً كبّاراً في إخفاء فضلهم، فوجب عليّ أن أقف وقتي

أؤلِّف على الأقل ستة كتب على الأقل، مثل هذا في الإشادة بآثارهم. ذلك ما قاله مؤلف نصراني هو العالم الشهير المصنف الكبير جوزف ماكاب ( Joseph Maccab) الذي ولد سنة 1867 م وألّف (250) كتاباً من أهم الكتب في الفكر الحديث، فبجّله الأمريكيون حتى جعلوه أكبر عالم في الدنيا. ولست أجهل أنّ المعلومات الواردة في كتابه متيسرة في المصادر الأندلسية، ولكنني آثرت أن أنقلها عن كاتب غير عربي ولا مسلم، حتى لا يتهم بالتحيّز والانحياز، وإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرءٍ ما نوى.

الكارثة

الكارثة ولما ضعف أمر العرب المسلمين في الأندلس، بسبب تفرّقهم واختلافهم وتنازعهم، غزاهم الإسبانيون، وأخرجوهم من الأندلس مدينة بعد مدينة. ولا أريد أن استصغر من شأن الغزاة الإسبان وأعمالهم، ولكن إذا حلّلناها نرى أنّها لا تشتمل على شيءٍ من الخوارق، إذ أُعلنت الحروب الصليبية - أي الغزوات الدينية - وكانت من الفظاعة والقسوة مثل الحروب الصليبية التي غزا فيها البابا أنسنت الثالث الألبجينيين (1)؛ فالصلبان التي يزيّن الأمراء والجنود صدورهم بها من الإنكليز والفرنسيين والقشتاليين، كانت هي الإذن في إطلاق العنان للنفوس الأمارة بالسوء في النهب والسلب والأعمال الوحشية (2). _______ (1) نسبة إلى (البجنس Albigens) ، وكانوا خوارج على الدين المسيحي ومبتدعين فيه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكانت عقيدتهم مشبعة بالزهد والتقوى، ولكنهم كانوا يخالفون القسيسين، وينقمون عليهم ما كانوا يرتكبونه من الفساد، فاتّحد القسِّيسون وفي مقدمتهم البابا، وعذّبوهم أشدّ العذاب، وكانت غاية هؤلاء القسيسين الاستيلاء على الماديات من متاع الحياة الدنيا لا غير، ونصبوا مجازر ذبحوا فيها خلقاً كثيراً وقتلوهم تقتيلاً فظيعاً. وكان الألبجينيون قد أخذوا بشيءٍ من المدنية، ولكن المذهب الكاثوليكي وقف عقبة كئوداً في طريقهم، وكان البابا أنسنت الثالث المغرور، قد أعلن الحرب الدينية عليهم، فظهرت حينئذٍ صفحة من أفجع صفحات التاريخ، وأبرزت العصبية نفسها في أفظع صورة وأحلكها، وقتلوا آلافاً من أولئك المساكين. ومن المعلوم أنّ الألبجينيين دافعوا عن أنفسهم دفاع المستميت، ومع أنّ الكنيسة حشدت جميع قواها عليهم، فقد خسرت كثيراً من العَدَد والعُدَد، حتى كسرت شوكتهم وأحرقت منهم مائتين في يوم واحد، وأصبح تاريخهم أحلك صفحة في العصور المظلمة. (جوزف ماك جب في كتابه: حضارة العرب في الأندلس ص: 64). (2) يعني أنّه بمجرد حمل الصليب والتوجّه لغزو المخالفين، يحلّ للغازي كلّ شيء يريده =

تقدّم الصليبيون، وهم مزيج من كلّ جنس إلى قرطبة وإشبيلية في القرن الثالث عشر الميلادي، ومن ذلك العهد أخذت قرطبة التي كانت في علياء المجد، تتقلّص وتتضاءل حتى صارت قرطبة التاسع عشر الميلادي قرية حقيرة. ودمّر هؤلاء الصليبيون كلّ آية من آيات العرب المسلمين في الأندلس وإن دقّت، كما دمّروا ذكريات فنونهم، حتى سوَّوْا كلّ ذلك بالتراب. نعم، بقيت هناك منارة صغيرة ولكنّها فخيمة، تسمى: (جيرالدا)، لتخبر العالم ماذا خسره في الأندلس. وقد عمد أولئك الهمج إلى الآلات العلميّة فحطموها وجعلوها رميماً، لأنّهم كما قال سكوت: "كانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً، أنّ تلك الآلات خطرة، ويظنّون أنّها آلات جهنّمية لأعمال السحر واستخدام العفاريت". وأخرجوا الكتب، وكانت لا تحصى كثرةً، وجعلوها أكواماً في الأزقّة، وأوقدوا فيها النيران. وأسلمت القصور المشيدة الجميلة والحدائق البهيجة لأيدي الخراب والضياع. ولما رأى الملك الإسباني أنّه ليس له قصر ملكيّ في المدينة التي كانت أكثر المدن مساكن عالية وقصوراً فخيمة، أفاق مِن سِنته، وبعث في طلب الصنّاع المتفننين والعَمَلة من العرب المسلمين، فبنوا له: "الكزر" القصر الذي نزوره اليوم، وحجارته مثل المقصورة المسماة "مقصورة السفراء"، تخبرنا أن العرب المسلمين كانوا يعرفون كيف يعيشون. استراح الإسبانيون قرنين كاملين إلى جوار العرب المسلمين، وبقي الشعبان عائشين في سلم وأمان كالأخوين، وكان الإسبانى بطبعه يحبّ أن يعيش مع جيرانه في سلام، ويعظّم الشعب الذي كان يراه بالغاً ذروة العبقرية. ولكنّ القسيسين الذين بلغوا في العصبية الحضيض الأسفل، كانوا يضادون ذلك الميل، فما زالوا يفتلون للحكام في الذروة والغارب، ويحرضونهم على عدم التسامح في المدن النصرانية الجديدة مع القوم الذين كانوا هم بناتها وهم مزيِّنوها، وأخيراً نجحوا في مطلبهم، وهو أنّ كلّ مسلم يوجد في بلدانهم _______ = فيمن يغزوهم، والصليب يشفع له وينقذه من آثامه وظلمه. (جوزيف ماك جب في كتابه: حضارة العرب في الأندلس ص: 65).

يُخَيَّر بين أمرين: إما التّعميد والتنصر، وإمّا الجلاء (1)، فاختار العرب المسلمون الجلاء فراراً بدينهم وشعبهم، ليعيشوا في جوّ أمانٍ واطمئنان، فنشأت منهم مملكة في غرناطة عدد نفوسها ثلاثة ملايين نسمة، وكان ذلك في القرن الخامس عشر الميلادي، وهو من مخازي الأمم النصرانية، فالبلاد التي نشاهدها اليوم في غاية الفقر والخراب، كانت هي فردوس أوروبة في أيام العرب المسلمين. وقد جلب العرب المسلمون مياهاً كثيرة من الجبال وأعالي الأنهار، بسبب علمهم ونشاطهم اللذين ليس لهما نظير، فوصلت الفلاحة والغرس بذلك إلى أوج رقيهما. قال اسكوت: "لقد فاقت في علوّ قدرها وأهميتها في نتاجها العملية، جهود جميع الأمم المتقدمة والمتأخرة"، ومقابلة زراعة العرب المسلمين بما كانت عليه أوروبا من البؤس والعدم على وجه العموم، تجعل لها أعظم وقع في النفس. والنتيجة أنّ الأقوات كانت كثيرة ورخيصة في الأندلس، وكانت أنواعاً مختلفة، وصارت غرناطة مثل قرطبة غنيّة وجميلة جداً، وكانت جنّات الكرم والتوت الواسعة تؤتي أهلها أحسن الخمور وأجود الحرير. وكانت الفُرَض (2) التي وراء الجبال على المحيط، تمدّهم بجميع الطُّرف ومواد النعمة والرفاهية النادرة التي كانت توجد في قرطبة، وكانت الصناعات العربية الإسلامية أيضاً في أوج ارتقائها، وكانت هناك مقادير _______ (1) ويناسب هذا المقام، ما ورد في كتاب: (ماذر أمريكا = أمريكا الأم) للدكتور بوز الهندي، فيما نقله عن القسيس الأمريكي: (كيلكي Gilkey) من أكابر علماء أمريكا، وهذا معناه: "هل نحن الأمريكيين نصارى حقيقة، أم الشرقيون هم النّصارى حقاً؟ نرى أنّ الشرقيين يؤمنون بالمسيح ويتبعون أوامره، ويستنكفون عن اتباع مذاهب الغربيين، فيجب علينا معاشر الأمريكيين إما أن نثبت إدعاءاتنا، وإما نتركها نهائياً، لأننا نرى في الشرق أنّ الأجنبي يعامل بكل لطف واحترام، ويبذلون كلّ جهد في إسعافه بما يحتاج إليه. وكم منا يعامل الشرقيين كما ينبغي أن يعامل به البشر". (جوزف ماك جب - حضارة العرب في الأندلس ص: 66). (2) تعرف عند العامة بالموانئ.

عظيمة من الجواهر تجعل فيها من الزينة والزخرفة ما لا يأتي عليه الوصف، وكان ذلك الزخرف في الأسلحة البديعة والحلل الفاخرة والأثاث النفيس. ومن حسن الحظ، بقي قصر الحمراء الملكيّ ليرينا الجلالة والتأنّق والإبداع في فنون العرب المسلمين الأندلسيين، وحتى هذه الدرّة، أصابها ما أصابها على يد الإسبانيين، وكانت سائرة في طريق الخراب، لولا أنّ بقية أوروبا وأمريكا أجبروهم على أن يستبقوا شيئاً من الحياء. وحتى في هذا اليوم يجد فيها الإنسان لفظ: "أرض عبقر" حين يخرج من دهليزها المظلم إلى عرصة الأسود، فيرى سواري المرمر الدقيقة كأغصان البان، ويتملّى بالنظر إلى سطور الأساطين المستقيمة وسقوفها المصبوغة بالألوان الزاهية، إذا نظرت إليها خلتها زرابي أعجمية مرقّشة، أو رياض أزهار بهيجة، قد اشتبكت فيها أشجار الصناعة العجيبة. ولها طنوف مشرفة، قد أُفرغت في قوالب بديعة، يحار الواصف في وصفها. أمّا جدرانها ففيها من الترقيش العربيّ والتشجير والزخرف والأمثال والحِكَم المسطورة بأجمل شكل يذهل العقول ويروّع الناظرين. ولكن ينبغي لنا أن نتصورها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، حين كانت الثياب التي تُرى فيها كلّها من الحرير الخالص، وحين كانت جدرانها تتلألأ بالألوان اللازورديّة والأرجوان والذهب، وحين كان الآس والأترج والورد، ومباخر الفضة يحترق فيها عود الطيب تفعم جوّها بالروائح الطيبة. وكانت على الجبل المجاور لها وسهوله الواسعة الأرجاء عشرات الألوف من القصور الفخام التي لا تقل جمالاً وإبداعاً في الذوق عن الحمراء، إلاّ أنها أقلّ تلألؤاً بالذهب والفضة والجواهر. قال سكوت: "ماذا عوّضنا الغازي الصليبي القشتالي الهمجي عن تلك القصور؟ وأيّ فائدة يجنيها النوع البشري من وراء تخريبها؟! فليجب عن هذا السؤال أولئك الذين يمجدون طرد (الكفار) من أوروبة" وكان الإسبان قد حشدوا جنداً عظيماً. أما العرب المسلمون فقد نقص عددهم من ثلاثين مليوناً إلى ثلاثة ملايين. ولم يكن ملك الإسبان

فرديناند (1) وملكتها إيزابيلا (2) عديمي شهامة وعظمة كشهامة العرب المسلمين وعظمتهم فقط، بل لم يكن لهما شيء من المروءة العامة والحياء. أغار هذا الملك على أموال العرب المسلمين، فنهبها وتركهم يموتون جوعاً، وبذلك قهرهم وألجأهم إلى التسليم. حتى المسيحية الليدي تشارلتون بونج، رقّ قلبها لما أصاب العرب المسلمين، فقالت في ص: (190) من كتابها تذكر العهود والمواثيق التي أعطاها الإسبانيون للعرب المسلمين والشروط التي اشترطها العرب المسلمون عليهم ما نصّه: "تكون غرناطة حرماً آمناً لكلّ من يلتجئ إليها من المسلمين من جميع الأقطار، ويكون لأبي عبد الملك (الملك) ضيعة في أرض البشرَّات (البوجارا)، وأنّ جميع السكان حتى الذين أسلموا من النصارى يكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وبيوتهم وسلاحهم _______ (1) فرديناند الخامس ( Ferdinand) ملك قشتالة وليون (1452 - 1516 م) تزوج بابنة عمه ايزابيلا سنة 1459 م، وكانت ابنة الملك هنري الرابع، وإنما تزوج بها ليتخذ ذلك وسيلة إلى نيل الملك بلا مشقة. ولما مات الملك المذكور اجتهد فرديناند أن ينادي بنفسه ملكاً، ولكن ايزابيلا كانت داهية مكارة، فرأى فرديناند أنّه لا يتمكّن من إخضاعها، فاتفق معها على أن يتشاركا في الحكم، وكانت أخلاقه سيئة، يدل على ذلك أعماله الرذيلة التي ملأ بها حياته، وكان يفخر أنّه خدع لويس الثاني عثر ملك فرنسة اثنتي عشر مرة. كما نقض عهده الذي أعطاه إلى كريستوف كولومبوس. ومن المحقق أنّه كان كلما عقد معاهدة مع أي شخص كان يترك فيها ألفاظاً يمكنه أن يتّخذها وسيلة لنقض العهد. وكان يضطهد العلماء الذين لا يوافقونه، ويغتالهم، (أنظر جوزف ماك جب - حضارة العرب في الأندلس ص: 68). (2) إيزابيلا ( Isabella) 1415-1504) ملكة قشتالة، استولت على الملك سنة 1474 م، داهية مكّارة متعصبة، بذلت جهدها في تجديد المحنة. وتعذيب المسلمين، وارتكبت خطايا كثيرة باسم الدين. وأما أحوالها الخاصة فلا تغبط عليها، لأنها كانت تفخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلاّ مرتين: يوم ولادتها سنة 1415 م، وليلة عرسها سنة 1459 م، وغُسِّلت حين ماتت سنة 1504 م، فتمت لها الغسلة الثالثة، والحقيقة أنها لم تغتسل بإرادتها إلاّ مرة واحدة، وهي في ليلة عرسها، لأنّ غسلها يوم ولادتها وغسلها يوم وفاتها ليس من عملها. أنظر جوزف ماك جب - حضارة العرب في الأندلس (69).

وخيلهم، ولا يُسَلِّمون إلاّ أسلحتهم النارية، وأن يتمسكوا بشريعتهم وعاداتهم ولغتهم ولباسهم، وأن تكون مساجدهم مصونة من أيّ استعمال في غير عبادتهم. وأن دعاويهم تفصل على أيدي قضاتهم المحكمين من قِبَل الحكّام الإسبانيين، وأنّهم يؤدون لملك قشتالة من الخراج مثل ما كانوا يدفعونه لملوكهم لا غير، وأنهم يعفون من دفع الخراج مدة ثلاث سنين، ليستجمعوا ويستردوا ما فقدوا من أموالهم بسبب الحرب والحصار" (1). ثم أخذت المؤلفة النصرانيّة المسكينة تتململ في سائر ما بقي من صفحات كتابها، من أجل غدر الملك والملكة الإسبانيين ونقض عهودهما التي أعطياها العرب المسلمين، إذ لم تشعر الملكة الناسكة بوجوب معاملة العرب المسلمين بمقتضى الشرف، بل لم تشعر إلاّ بشيءٍ واحد، وهو أنّه يجب أن تؤسس: "مملكة نصرانية"، كاد الناس يتميّزون من الغيظ كيف يتولّى عليهم حاكم محمّدي كافر! أخذ من المسلمين أحد مساجدهم، وجعل كنيسة: "وكان ذلك نقضاً للعهود" كما قالت المؤلفة النصرانية، ونفى المسلمين وعوملوا بأقسى معاملة بربريّة. ولم ينجح القسيسون في تنصير العرب المسلمين، مع أنّهم أحرقوا مصاحفهم وكتبهم كلّها علانية، وجُعل أمر المسلمين من الوجهة الدينية إلى رئيس أساقفة طليطلة "المقدس" زيمنس. وباختصار فقد نقض كلّ سطر من سطور المعاهدة، وغدر الإسبانيون وأهانوا عهودهم، فهاجر قسم عظيم من المسلمين تاركين وراءهم كل ما يملكونه، ورحلوا إلى إفريقيّة، ولكنّ القسم الأعظم بقوا هناك ينافقون بإظهار النصرانية، ومَن لم يقبل النفاق منهم صاروا عبيداً للنصارى الغادرين. ثم جاءت المحنة: "محاكم التفتيش" فحرم عليهم كلّ شيءٍ من أمور دينهم، حتى الاغتسال في حماماتهم، ونهبت مئات من بيوتهم وطردوا من البلاد التي مدّنوها وعمروها، ولم يبق منهم هناك إلاّ _______ (1) أنظر التفاصيل في نفح الطيب (2/ 615 - 616) وأنظر النص الإسباني في: نهاية الأندلس (230 - 239).

العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فكانوا يسجدون للمسيح في الملأ، ويبصقون عليه في خلواتهم، لأن الكاثوليكيين لم يحسنوا معاملة المسلمين، ولم يكن لهم علم، فكانت أعمالهم وأقوالهم ناشئة عن الجهل المطبق، بعيدة عن التحقيق والعدل. يقول ستانلي لين بول المؤرِّخ اليقظ، بينما كان زيمنس (1) رئيس محاكم المحنة في إسبانيا يصدر أوامره بمنع المسلمين من الاستحمام، واختيار صفة الوسخ التي يتصف بها مستعبدوهم (2)، كان نصف أهل أوروبة يرفضون _______ (1) زيمنس ( Ximens) (1437 هـ-1517م) كان رئيس الأساقفة، وفي أوائل أيامه وقعت عداوة بينه وبين المطران الكبير في طليطلة، فحبس مدة من أجل مكايده، ثمّ تعيّن قسيساً خاصاً لسماع اعترافات إيزابيلا، وكان يتظاهر بالزهد والتقشف والورع الكاذب، ولما استولى فرديناند وإيزابيلا على غرناطة، دَعَواه ليكون في خدمتهما هناك، وهو الذي أشار عليهما بالكيد للمسلمين والغدر بهم، ولم يقتصر على إتلاف جميع النسخ التي ظفر بها من القرآن، بل كان يتلف كلّ ما وصلت إليه يده من الكتب العلمية والأدبية، وهو الذي أمر بنصب محاكم المحنة (التفتيثس) وتعذيب المسلمين تعذيباً كاد يحدث ثورة. وحينئذٍ ظهر بمظهره الحقيقي، فاخذ يعيش عيشة الملوك. حتى إنه لما مات فرديناند، قام زيمنس ونصب نفسه نائباً للملك شارل، لأنّه كان غائباً. وتمتع برئاسة الوزارة عشرين سنة، ثم عزل، فمات غماً من أجل عزله. وكان قاسي القلب، شديد الحقد لكل مَن يخالفه الرأي، ولو كان من أهل دينه. وكان رئيساً لمحاكم التفتيش، فقتل ألفين وخمسمائة شخص، وتحمّل إثم دمائهم في ذمته، ولا شك أنّ أعماله القاسية أحدثت ثورة، ولكنه قضى عليها بمكره. وكان لا يستنكف أن يكون قائداً للجيش بنفسه، متى اقتضت المصلحة ذلك، أنظر جوزف ماك جب - حضارة العرب في الأندلس ص: 73. (2) نظافة البدن التي كان الأقدمون يعتنون بها كل الاعتناء، أُهملت كلّ الإهمال بعد انقراض دولة الروم، حتى أنّ أهل أوروبا لم يكونوا يغتسلون إلاّ في أحوال خاصة، وناهيك اْنّهم كانوا يفرضون الغسل على مَن يريد الدخول في جماعة (تايتس) وهم أمراء الحروب الصليبية، ولذلك كانوا يسمونهم: فرسان الحمّام. وكان الملوك والملكات يقتدون برعاياهم في عدم النّظافة، حتى أنّ الملك العظيم لويس الرابع عشر لم يغتسل قط، بل كان يكتفي بالإدِّهان بالعطور، ولم تكن توجد حمّامات في قصور الأمراء والأغنياء، إلاّ في القرن التاسع عشر الميلادي، أنظر جوزف ماك جب =

دعاوى الفاتيكان، ويتخذونها سُخرياً، وكان العلماء يضعون العلم الحديث. ذلك ما ذكره جوزف ماك جب في كتابه حضارة العرب في الأندلس، وما ذكره معروف التفصيل في المصادر العربية القديمة والحديثة، ولكنني آثرتُ أن أقتبس ما ذكره هذا المؤلِّف المسيحي وغيره من المؤلفين المسيحيين، لأنّهم مسيحيون يتحدّثون عن جرائم الإسبانيين المسيحيين في التخريب والتدمير واكتساح الحضارة والظلم والقتل والنهب والسلب والتنصير قسراً، خلافاً لما فعله العرب المسلمون بالإسبانيين النصارى أيام الفتح الإسلامي للأندلس، فما أكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، ولا ظلموا أحداً ولا خانوا عهداً، وتركوا أهل إسبانيا النصارى يمارسون عبادتهم بحرية في كنائسهم، وكان بإمكانهم في أيام الفتح ألاّ يتركوا إسبانياً واحداً يصر على التمسك بالمسيحيّة، ولكنهم لم يفعلوا، إذ: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)) (1). وهذا هو الفرق العظيم بين المسلمين إذا حكموا وقدروا، وبين غيرهم إذا حكم وَقَدَر، كأنّ الشاعر حَيْصَ بَيْص أرادهم بقوله: حَكَمْنَا فكانَ العفوُ مِنّا سَجِيّةً ... فلما حكمتم بالدم أبطحُ فحسبكُم هذا التفاوت بينَنا ... وكلّ إناء بالذي فيه يَنضح وليس من الممكن اتِّهام الأمريكي جوزف ماك جب بالافتراء على بني جنسه ودينه والانحياز للعرب المسلمين، لذلك آثرت اقتباس أقواله في هذه الدراسة. وحريّ بي أن أنقل تلك العبارة الموجزة القويّة، التي يُجمل فيها الدكتور (لي)، وهو من أحدث الباحثين في هذا الموضوع، مأساة العرب المتنصرين، إذ يقول في مقدمة كتابه: "إنّ تاريخ الموريسكيين (2) لا يتضمّن فقط مأساة تثير _______ = حضارة العرب في الأندلس ص: 73. (1) سورة البقرة - الآية: 256. (2) الموريسكيون Morisques: هم النصارى الذين تدينوا بدين الإسلام عن =

أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء التي اتّحدت لتنحدر بإسبانيا في خلال قرن، من عظمتها أيام شارل الخامس، إلى ذلّتها في عهد كارلوس الثاني" (1). ويعلّق الناقد الغربيّ الحديث على موقف الإسبانيين من العرب المسلمين بقوله: "ولو نفِّذت هذه العهود (العهود التي قطعت لمسلمي غرناطة) بولاء، لتغيّر مستقبل إسبانيا كلّ التغيير، ولجمع الامتزاج الرفيق بين الأجناس، ولغاض الإسلام مع الزمن (2)، ولتفوّقت المملكة الإسبانية في فنون السلم والحرب، وتوطّدت قوّتها ورخاؤها. ولكنّ ذلك كان غريباً على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلّة مروّعة، فاتّسعت الهوّة بين الأجناس على كرّ الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدّى إلى علاجٍ كان من جرائه أن تحطّم رخاء إسبانيا" (3). وعلى نفسها جنت براقش، فقد كانت الأندلس بالمسلمين أستاذة الدول الأوروبية علماً وحضارةً وفكراً، وصناعة وزراعة وثراء، فأصبحت إسبانيا بدونهم في الدرك الأسفل من دول أوروبا علماً وحضارةً وفكراً، وصناعة وزراعة وثراء، وكانت الأندلس أقوى دولة أوروبية بالمسلمين، فأصبحت من _______ = رضى وطيب خاطر، بعد دخول المسلمين إلى الأندلس، فلمّا تغلّب المسيحيون على المسلمين وأرادوا إعادتهم إلى ملّتهم الأولى، فضّلوا الهجرة إلى بلاد الإسلام في المشرق والمغرب. أمّا كلمة: (مستعرب Mozarabe) ، فكانت تطلق على المسيحيين الذين كانوا يعيشون تحت سلطة المسلمين، وكانوا مع ذلك يستعملون اللّغة العربية في جميع شئونهم العادية. أمّا كلمة: (مُدَجَى Mudejar) فتطلق على المسلمين الذين كانوا يعيشون تحت نفوذ المسيحيين، أنظر مقال: مع المورسكيين في بلاد الغربة - محمد محي الدين المشرقي، العدد 249 من مجلة دعوة الحق المغربية. ص:31 - 1405 هـ. (1) نهاية الأندلس (4) محمد عبد الله عنان - طّ - 1378 هـ - القاهرة. (2) Dr. Lea: The Moriscos, p. 22 (3) في ذلك نظر، ولا أتفق مع رأي المؤلف في هذا.

بعدهم أضعف دولة أوروبية على الإطلاق، وقد خُيِّل للذين طردوا المسلمين وشردوهم وفتكوا بهم في الأندلس أنّهم أحرزوا على الإسلام نصراً حاسماً، ولكنّهم تيقّنوا بعد أن سبق السيف العَذَل، أنهم أحرزوا على أنفسهم لا على الإسلام نصراً حاسماً، وأنّهم خرّبوا بلادهم بأيديهم جهلاً وتعصباً وغروراً. والدرس الذي ينبغي أن نتعلّمه من مأساة الفردوس المفقود، أنّ المسلمين انتصروا بعقيدتهم الراسخة ووحدتهم الصلبة؛ فلمّا تهاونوا بعقيدتهم، وتفرقوا شيعاً، خسروا بلادهم وخسروا أنفسهم وذلّوا. ذلك ما ينبغي أن نتعلّمه من مأساة الفردوس المفقود، ولا ينبغي أنْ ننساه أبداً.

طارق بن زياد فاتح شطر الأندلس

طارق بن زياد فاتح شطر الأنْدلُس (1) نسبه وأيامه الأولى هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رَفْهُو بن وَرْفَجُّوم بن بنزغاس بن وَلْهاص ابن يَطُّوْفَت بن نَفْزاو (2)، فهو بربريّ من نّفْزَة (3)، وهو مولى لموسى بن نُصَيْر (4) من سبي البربر (5)، ويكون اسمه الكامل: طارق بن زياد النَّفْزاويّ البربريّ (6) من إفْرِيقِيَّة (7). _______ (1) أصل مصطلح الأندلس: مأخوذ من قبائل الوندال ( Vandals) التي تعود إلى أصلٍ جرمانيّ، احتلت شبه الجزيرة الإيبيرية حوالي القرن الثالث والرابع وحتى الخامس الميلادي، وسميت باسمها (فاندلسيا Vandalusia) أي: بلاد الوندال، ثم نطقت بالعربية: (الأندلس). أما مدلول هذا المصطلح، فقد أطلقه المؤرخون والجغرافيون على كلّ شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال اليوم) والتي يسمونها أيضا: (الجزيرة الأندلسية) ثم استعمل للدلالة على كلّ المناطق التي سكنها المسلمون وحكموها من شبه الجزيرة الإيبيرية، انظر: التاريخ الأندلسي (37) وجغرافية الأندلس (59) والروض المعطار (4 - 6 و 19) ونفح الطيب (1/ 133 - 135) ومعجم البلدان (1/ 347 - 350) والمسالك (35) وتقويم البلدان (165 - 166). (2) البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (2/ 5). (3) نفزة: هي نفزاوة، قبيلة من قبائل البربر الكبيرة. والبربر قسمان: البرانس والبتر، ونفزاوة قبيلة من قبائل البتر، انظر: محمد علي دبونس - تاريخ المغرب الكبير (2/ 35) - القاهرة- 1382 - ط1، وانظر: جمهرة أنساب العرب (495 - 503). (4) موسى بن نصير: انظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (5) انظر تفاصيل القبائل البربرية في: جمهرة أنساب العرب (495 - 503). (6) تاريخ المغرب الكبير (2/ 464). (7) إفريقية: اسم بلاد واسعة، حدّها من طرابلس الغرب شرقاً إلى بجاية أو مليانة غرباً، =

وهذا هو الذي نعتمده لطارق بن زياد نسباً وموطناً، لأنه أقرب إلى العقل والمنطق، ومع ذلك لابد من ذكر الاختلاف في نسبه وموطنه، لتعليل أسباب هذا الاختلاف. فقد ذكروا أنّه طارق بن عمرو (1)، لا طارق بن زياد، والمعروف في المصادر المعتمدة التاريخية والأندلسيّة، أنّه: طارق بن زياد، فهو الاسم المشهور به على أوسع نطاق، والمصادر التي ذكرته بأنّه: طارق بن عمرو قليلة جداً، لا تُعدّ شيئاً بالنسبة للمصادر المعتمدة التي ذكرته باسم: طارق بن زياد. كما أن المصادر القليلة التي ذكرته باسم: طارق بن عمرو، ذكرته بعد ذكر اسمه المعروف به والمشهور به وهو: طارق بن زياد، وكان ذكره باسمه الجديد بهذا التعبير "وقيل: طارق بن عمرو" (2)، ولا يخفى أنّ مثل هذا التعبير بالنسبة للمؤلفين القدامى، يدلّ على عدم الثقة بصحّة المعلومات الواردة بعد تعبير: (قيل)، أو أنّها أقل أهمية من المعلومات الموثَّقة الشّائعة. وذكروا أنّ طارق بن زياد، كان فارسياً هَمَذانِيّاً - (3) نسبة إلى مدينة هَمَذان الفارسيّة - وهذا غير منطقي ولا معقول أيضاً، ولعلّ الذين نسبوا طارقاً إلى الفُرْس، استهدفوا قسماً من عَقِبهِ الذين كانوا في الأندلس وأصبح لهم شأن يُذكر فيها، للحطّ من منزلتهم الاجتماعية، باعتبار تميّز العنصر العربي على عهد بني أُميّة على العناصر الأعجميّة، وبذلك استهدفوا بهذا الغمز قسماً من عَقِب طارق، ولم يستهدفوا طارقاً بالذات. كما يمكن أن يكون الذين نسبوا طارقاً إلى الفرس، بعد أن أصبح علماً من الأعلام البارزة قدراً وجلالاً، ليفخروا بنسبته إليهم، فكلّ أُمّة من الأمم تحاول أن تنسب إليها أصحاب _______ = انظر التفاصيل في معجم البلدان (1 - 300) وآثار البلاد وأخبار العباد (148)، وانظر نسبته إلى إفريقية في المغرب، نقلاً عن نفح الطيب (1/ 230). (1) بغية الملتمس (10) ونفح الطيب (1/ 230) نقلاً عن ابن بشكوال. (2) بغية الملتمس (10). (3) أخبار مجموعة (6) لمؤلف مجهول، ونفح الطيب (1/ 254) نقلاً عن الرازي.

الصفحات الناصعة في التاريخ، لتفخر بهم بين الأمم. ومن الواضح أنّ نسبة طارق إلى الفُرس تمّت بعد وفاته، فهو لم يعرف هذا النسب في حياته، وما كان يمكن أن ينسب إليه وهو لا يزال على قيد الحياة. وذكروا أنّه رجل من صَدِف (1)، وقيل: إنّه من موالي صَدِف، وليس بمولى موسى بن نُصَيْر (2)، وكان بعض عقب طارق بالأندلس ينكرون ولاءه لموسى إنكاراً شديداً (3). وذكروا أنه طارق بن زياد اللّيْثِيّ (4)، من بني لَيْث من قُضاعة (5)، أي أنّه عربيّ من قُضَاعة. ويقال: إنّ طارقاً مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان (6)، وقد تولّى الوليد الخلافة بعد وفاة أبيه عبد الملك بن مروان. وطارق ليس من الصَّدِف ولا من بني لَيْث العرب، والذين نسبوه إلى بني الصَّدِف، أرادوا أنّه من مواليهم (7)، كما أن الذين نسبوه إلى بني ليث قصدوا أنّه من مواليهم (8) أيضاً، لأنهم يعلمون حق العلم أنّه بربريّ وليس عربياً. ومن المحتمل أنّ قسماً من عَقِبه في الأندلس، ادّعوا انتسابهم للعرب، في _______ (1) الصَّدِف: هم قبيلة الصَّدِف، من بني حَضْرَموت، وهو الصَّدِف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر، انظر جمهرة أنساب العرب (461) وكانوا في إشبيلية وهم بنو حضرموت، ويسمَّون: بنو خلدون الإشبيليون أنظر جمهرة أنساب العرب (460) وانظر نسبة طارق إلى قبيلة صدف في: نفح الطيب (1/ 254) نقلاً عن الرازي، و (1/ 239). (2) أخبار مجموعة (6). (3) نفح الطيب (1/ 254) نقلاً عن الرازي. (4) ابن خلدون (4/ 117) وانظر نفح الطيب (1/ 232) وبنو ليث هم: بنو ليث ابن سُوْد بن أسْلُم بن الحافي بن قضاعة، انظر جمهرة أنساب العرب (443 - 445). (5) انظر جمهرة أنساب العرب (443 - 444). (6) تهذيب ابن عساكر (7/ 41). (7) أخبار مجموعة (6) (8) الأعلام (3/ 313).

وقت كان للعرب فيه مكان مرموق، فأقحم بعض المؤرخين عن قصد أو عن غير قصد هذا الادّعاء، الذي لا سند من الواقع ولا من التاريخ. أما الادّعاء بأنّه مولى للوليد بن عبد الملك، فادّعاء لا أساس له من الصحة، إذ لو كان مولى للخليفة الوليد لولاّه القيادة، ولم يترك توليته للقائد موسى بن نُصَير. ولا نعلم أنّ طارقاً رحل إلى الشرق واتصل بالوليد، ولا نعلم أنّ الوليد قدم المغرب واتّصل بطارق، فلا صلة من ناحية الولاء بين طارق والخليفة الوليد من قريب ولا من بعيد، وليس من المستبعد أنّ بعض عَقِب طارق، أراد أن يرفع درجة ولاء جدّهم طارق، من رتبة مولى موسى بن نُصَيْر أحد ولاة الخليفة وأحد قادته، إلى رتبة مولى الخليفة الوليد بن عبد الملك، وهي أرفع من رتبته الأولى على كلّ حال. وكان من نتائج كلّ تلك الادّعاءات، إنكار بعض عَقِب طارق بالأندلس ولاءه لموسى إنكاراً شديداً. ولو لم يكن طارق مولى لموسى بن نُصَيْر حقاً، لما أنكر (بعض) عَقِبه هذا الولاء، ولم ينكره (جميع) عقبه، ومن الواضح أنّ المُنكِرين ادّعوا انتسابهم للعرب تارة، والولاء للعرب تارة، والولاء للخليفة تارة أخرى، لأنّ هؤلاء المُنْكِرين لم يرتضوا لأنفسهم أن يكونوا موالي للموالي، لأنّ موسى بن نُصَيْر مولى لعبد العزيز بن مروان أخى الخليفة عبد الملك بن مروان، وطارق مولى لموسى نُصَيْر، فعَقِبه يكونون موالي للموالي، وهذا ما لم يستطيعوا تحمّله ولا تقبّله، وبخاصة بعد أن تبدّل حالهم غير الحال، وأصبحوا من ذوي المكانة في الأندلس. نستطيع أن نستنتج، أنّ طارق بن زياد بربري من قبيلة نَفْزاوة إحدى قبائل البتر من البربر، وهو مولى لموسى بن نُصَير، الذي اكتشف كفاياته القياديّة والإدارية، فولاّه أولاً على طَنْجَة (1)، ثم ولاّه على قوّات فتح الأندلس، كما _______ (1) طنجة: مدينة قديمة على البحر الأبيض المتوسط، بينها وبين مدينة سبتة مسيرة يوم واحد، انظر التفاصيل في: معجم البلدان (6/ 62) والمسالك والممالك (34) وتقويم =

سيرد تفاصيل ذلك وشيكاً. ولابدّ من أن يكون إسلام طارق وحسن إسلامه، أحدَ المزايا التى حملت مولاه موسى بن نُصَيْر على الثقة به والاعتماد عليه، فهو من أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناقها الإسلام، إذ أسلم والد طارق أيام عُقْبة بن نافع الفِهْريّ (1)، والتحق هو بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السنّ، ولكنه كان يتمتّع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدِّين الإسلاميّ، جعله أشد المقرّبين إلى موسى بن نُصَيْر، ومن الطبقة الأولى من رجال البربر الذين اختصهم بسرِّه وثقته المطلقة، وأشركه مشاركة عملية في رفع راية الإسلام (2). ويبدو أنّ جدّ طارق، وهو عبد الله، كان مسلماً، بدليل اسمه العربي الإسلاميّ، مما يدلّ على أن طارقاً ولد في بيت إسلامي وترعرع في هذا البيت وشبّ في مجتمع إسلاميّ، ولعلّ تدينه العميق لفت إليه الأنظار، بالإضافة إلى مزاياه وكفاياته الأخرى، وكان قربه من موسى بن نُصَيْر قد أتاح له الفرصة المناسبة لتولّي المناصب الإدارية والقيادية المناسبة، فنجح في الإدارة وفي الفتح معاً. _______ = البلدان (132). (1) انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 90 - 136) وكتابنا: عقبة بن نافع. (2) الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي- فتح العرب الأندلس- مجلّة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة (43 - 44) - العدد الثاني- السنة العاشرة- رمضان 1397 هـ- مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.

في فتح طنجة

في فتح طنْجَة بعد أن تمَّ لموسى بن نُصَيْر، إخضاع المغرب الأوسط (1) والمغرب الأقصى (2)، من صحراء دَرْعَة (3) إلى السُّوْس الأقصى (4) إلى بلاد المصامدة (5)، تطلّع موسى نحو طَنْجَة التي كانت تخضع للأمير الرُّومِي يُلْيَان (جيوليان Julian) منذ أيام عُقْبَة بن نافع. والمقصود بطنجة هنا، هو الولاية التي كانت تتّسع في القديم لمسيرة شهر، وليس المدينة فقط (6). وقد خرج موسى بن نُصَيْر من ............................. _______ (1) المغرب الأوسط: من شرقي وهوان إلى آخر حدود مملكة بجّاية انظر تقويم البلدان (122) وانظر التفاصيل عن المغرب في أحسن التقاسيم (215 - 236) والأعلاق النفيسة (347 - 353) والمسالك والممالك لابن خرداذبة (85 - 93) ومختصر كتاب البلدان (78 - 88) وصفة المغرب (2 - 29) والمسالك والممالك للأصطخري (33 - 38) وهي جمهورية الجزائر في الوقت الحاضر، أنظر تاريخ المغرب العربيّ (12). (2) المغرب الأقصى: من ساحل البحر المحيط غرباً إلى تلمسان شرقاً، ومن سبتة إلى مراكش ثمّ إلى سجلماسة وما في سمتها شمالاً وجنوباً، انظر تقويم البلدان (122) والمصادر المنوّه عنها في المادة (1) أعلاه مباشرة، وهي المملكة المغربية في الوقت الحاضر، انظر تاريخ المغرب العربي (12). (3) درعة: مدينة بالمغرب بينها وبين سجلماسة أربعة فراسخ، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 53). (4) السّوس الأقصى: أقصى بلاد البربر على المحيط، والسوس الأقصى اسم مدينة أطلق اسمها على كورة السوس الأقصى، ذات المدن والقرى الكثيرة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 172) والمسالك والممالك (34) والمشترك وضعاً (259). (5) المصامدة: جمع مصمودة، وهي قبيلة مصمودة بن برنس، من قبائل البربر البرانس، انظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (500). (6) تاريخ المغرب العربي (212).

القيروان (1) لفتح طنجة، وجعل على مقدِّمته مولاه طارق بن زياد، فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم حتى بلغ مدينة طنجة، وهي قصبة بلادهم وأُمّ مدائنهم؛ (2) فلما دنا موسى من طنجة، بث السَّريا، فانتهت خيله إلى السّوس الأدنى (3)، فوطئهم وسباهم، وأدّوا إليه الطّاعة، وولّى عليهم والياً أحسن فيهم السَّير (4). وحاصر موسى طنجة حتى افتتحها (5) ونزلها، وهو أوّل مَن نزلها واختط فيها للمسلمين (6)، فأسلم أهلها، وخطّ موسى قيرواناً للمسلمين (7). وسار موسى إلى مدائن على شطّ البحر، فيها عُمّال لصاحب الأندلس، قد غلبوا عليها وعلى ما حولها، ورأس تلك المدائن مدينة سَبْتَة (8)، وعليها يُلْيَان (جوليان)، فقاتله موسى، فألفاه في نَجْدَةِ وقوّة وعُدَّة، فلم يُطِقْهُ، فرجع إلى مدينة طنجة وأقام هناك بمن معه. وأخذ في الغارات على من حولهم والتّضييق عليهم، والسُّفن تختلف إليهم بالميرة والإمداد من الأندلس من قِبَل ملكها غَيْطَشَة، فهم يذبّون عن سبتة ذبّاً شديداً، ويحمون بلادهم حماية _______ (1) القيروان: مدينة كبيرة معروفة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 193 - 195) والأعلاق النفيسة (347 - 348) والمسالك والممالك (34) وتقويم البلدان (144 - 145) وآثار البلاد (242). (2) نفح الطيب (1/ 315) و (1/ 234). (3) السوس الأدنى: كورة كبيرة بالمغرب، مدينتها طنجة، والسوس مدينة بالمغرب كانت الروم تسميها: قمونية، وبين السوس الأدنى والسوس الأقصى مسيرة شهرين وبعده المحيط الأطلسي، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 172) والمشترك وضعاً (259). (4) فتح مصر والمغرب (276). (5) نفح الطيب (1/ 215) و (1/ 234). (6) البلاذري (232) وفتوح مصر والمغرب (276). (7) نفح الطيب (1/ 234). (8) سبتة: بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب، تقابل جزيرة الأندلس، على طرف الزقاق، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 26).

تامّة (1). وكانت سبتة مدينة حصينة قريبة من الأندلس (2)، مما ساعد على ثباتها بوجه المسلمين الفاتحين. وكان بطنجة من البربر بطون البُتْرِ والبرانس ممن لم يكن دخل في الطّاعة (3)، فوضع موسى على ساحل طنجة حامية للرباط فيها مؤلفة من ألف وسبعمائة رجل عليهم ابنه مروان، ولكنّ مروان انصرف وخلّف على جيشه طارق بن زياد (4). وبذلك تمّ فتح المغرب الأقصى، إلاّ إقليم سبتة، وانتشر الإسلام في أرجائه انتشاراً سريعاً وواسعاً، وكان ذلك سنة تسع وثمانين الهجرية (709 م). وعاد موسى إلى القيروان، بعد أن استعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد، وترك معه تسعة عشر ألفاً من البربر بالأسلحة والعُدَّة الكاملة، وكانوا قد أسلموا وحسن إسلامهم، وخلّف موسى عندهم خلقاً يسيراً من العرب، ليعلِّموا البربر القرآن الكريم وفرائض الإسلام (5). وفي الطريق إلى القيروان، فتح موسى مدينة مَجَّانة (6) على مسيرة خمسة أيام من القيروان (7)، على الحدود الجزائرية - التونسيّة الحالية (8)، وكانت مجَّانة قلعة تحصّن أهلها من موسى حين عودته إلى القيروان (9)، فاستعاد _______ (1) نفح الطيب (1/ 234). (2) معجم البلدان (5/ 26). (3) فتوح مصر والمغرب (276) وانظر ما جاء عن ذلك مختصراً في كتاب: الإسلام والعرب (140). (4) فتوح مصر والمغرب (275). (5) نفح الطيب (224). (6) مجّانة: بلد بأفريقية، بينها وبين القيروان خمس مراحل، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 386). (7) معجم البلدان (7/ 386). (8) تاريخ المغرب العربي (214). (9) ابن الأثير (4/ 206).

موسى فتحها، لأنها سبق أن فتحها بِسْر بن أبي أرْطاة (1). لقد افتتح موسى بلاد المغرب، وغنم منها أموالاً لا تُعدّ ولا تُوصف، وله بها مقامات مشهورة هائلة (2)، وأسلم أهل المغرب على يديه، وبثّ فيهم الدين والقرآن (3)، فكان يأمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين (4)، فلم يبق في إفريقية مَنْ ينازعه (5)، غير منطقة سَبْتَة وعلى رأسها يُلْيَان (جوليان). لقد لمع اسم طارق بن زياد، قائداً مرؤوساً لموسى بن نُصَيْر، في مسيرة الجهاد الطويلة، التي بدأت من القيروان، واستمرت غرباً حتى تمّ لها فتح طنجة، وكان طارق على مقدّمة موسى في هذا الفتح المبين، وتولية طارق قيادة المقدّمة، في مسير الاقتراب، وفي المناوشات التي تكلّلت لأوّل مرة بفتح طنجة، دليل على ثقة موسى الكبيرة بطارق، ودليل على كفاية طارق القياديّة. وبعد أن عاد موسى إلى القيروان التي اتخذها مقرّاً له، خَلّف طارقاً على طنجة، والياً على المدينة ومنطقتها الشاسعة المهمّة، وبخاصة في موقعها الحيويّ السَّوْقِيّ، الذي هو بتماس شديد مع يليان في سبتة والذي أثبت جدارته في الدفاع عن حوزة سبتة وما حولها، وقاوم المسلمين مقاومة عنيفة، فاستطاع أن يصدّهم عن فتح بلاده إلى حين. كما أن طارقاً في منطقة طنجة السَّوْقِيّة، هو بتماس شديد مع دولة الأندلس وحماتها الذين كانوا وراء نجاح يليان في دفاعه العنيف ونجاحه في دفاعه الذي تميّز بالحركة التعبويّة، وكل _______ (1) فتوح مصر والمغرب (276) ومعجم البلدان (7/ 286) وانظر ترجمة بسر بن أبي أرطاة في: قادة فتح المغرب العربي (2/ 13 - 35). (2) البداية والنهاية (9/ 171). (3) البداية والنهاية (9/ 172). (4) البيان المغرب (1/ 36). (5) ابن الأثير (4/ 206).

ذلك دليل قاطع على ثقة موسى بطارق، الذي أصبح والياً على منطقة طنجة، وقائداً لحامية مدينتها بخاصة والمجاهدين من البرير بعامة، ومشرفاً على نشر الإسلام وتعليم القرآن وتعاليم الدين الحنيف، فأثبت أنّه أهل لتلك الثقة، وقادر على النهوض بواجباته الكثيرة بكفاية عالية وحماسة وإيمان وإندفاع. وقد أتاح الاتِّصال المباشر لطارق بموسى بن نُصير، فرصة إظهار مواهبه الإدارية والقيادية، فولاّه موسى منصب الوالي على طنجة، ومنصب القائد على قوّاتها المسلحة. ولكن هذا الاتِّصال المباشر لطارق بموسى باعتبار أنّ طارقاً هو مولى لموسى، ليس السبب لتولية طارق هذين المنصبين الرفيعين، في أخطر منطقة من مناطق الشمال الأفريقي بعد فتحه، إذ لا يمكن إسناد مثل تلك المناصب في أخطر الظروف والأحوال، إلاّ لمن يستحقها كفاية واقتداراً، وإلاّ كانت نتيجة تولية غير ذوي الكفاية والقدرة كارثة محققة أكيدة تصيب الفتح والفاتحين، وتؤدي إلى خسارة المنطقة بكاملها بالإضافة إلى خسائر بالأرواح والممتلكات وتحطّم المعنويات، وهذا ما لا يمكن أن يقع فيه قائد مجرِّب حصيف مثل موسى بن نُصَير، ومن المشكوك فيه أن يقع فيه قائد غير مجرِّب وغير حصيف أيضاً. إنّ الاتصال المباشر لطارق بموسى، أتاح له الفرصة لإظهار كفاياته الإدارية والقيادية، وهذه الكفايات لاتصاله المباشر بالقائد العام لشمالي إفريقية، هي التي جعلت المناصب الإدارية تسعى إليه ولا يسعى إليها. وقد أتاحت المسيرة الطويلة في الجهاد لموسى، أن يكتشف عن كثب كفايات طارق، فولاّه الإدارة والقيادة عن اقتناع. وكان ذلك في حدود سنة تسعين الهجرية (709 م)، وأبقى معه عدداً قليلاً من العرب، مهمّتهم نشر تعاليم الإسلام بين البربر (1). _______ (1) ابن حبيب (222) وابن عبد الحكم (204 - 205) وذكر بلاد الأندلس (83 - 84) رقم 85ج وابن الأثير (4/ 540) ووفيات الأعيان (5/ 320) والبيان المغرب (1/ 42) والنويري (22/ 22) وابن خلدون (4/ 402) ونفح الطيب (1/ 239) وانظر تاريخ =

وليس كالاتصال المباشر في ميدان الجهاد، في أحرج الظروف والأحوال، وفي مواجهة المعضلات الإدارية وإيجاد الحلول الناجعة لها، ما يظهر المرء على حقيقته في كفايته ومزاياه واقتداره، وهذا هو ما أبرز طارقاً إدارياً وقائداً. _______ = المغرب العربي (214) والفتح والاستقرار العربي في شمال إفريقيا والأندلس (143).

الفاتح

جهاده في الأندلس 1 - مقدمات الفتح أ - الأسباب: كان فتح الأندلس نتيجة طبيعيّة لتمام فتح المغرب، لأنّ الأندلس هو الجناح الغربي للمغرب (1)، ولأنّ الأندلس كان المجال الحيوي للفتح الإسلاميّ بعد إنجاز فتح المغرب الأفريقيّ، واستقرار الفتح فيه بانتشار الإسلام في ربوعه، وبوجود القوّة الضّاربة بجانب العرب المسلمين والبربر المسلمين. ولم تستعص على موسى بن نُصَيْر غير مدينة سَبْتَة ( Gevta) لمناعتها ووصول الإمدادات إليها من إسبانيا القوطيّة عن طريق البحر، وكان يحكمها من قِبَل القُوط (2) حاكم اسمه: جوليان، أو كما يسميه الأسبان (خوليان Julian) ويسميه العرب: يُلْيَان (3)،!! إليان (4)، أو يوليان (5). وقد اختلفت المصادر في شخصيّة يليان، فبعضها يذكر أنّه قُوطيّ، وبعضها يزعم أنّه روميّ، وبعضها ينسبه إلى بربر قبيلة غمارة (6). والواقع أنّ يليان كان حاكماً _______ (1) المسالك والممالك للأصطخري (33). (2) يذكر صاحب أخبار مجموعة: أن موسى بن نُصَيْر سار إلى مداين تقع على شاطئ البحر، فيها عمّال صاحب الأندلس، على رأسها سبتة، انظر: أخبار مجموعة في فتح الأندلس (4). (3) البيان المغرب (2/ 6). (4) صفة المغرب للبكري (104). (5) ابن الأثير (4/ 213). (6) انظر تاريخ المسلمين في الأندلس (47) وفجر الأندلس (52 - 53).

عاماً على إقليم موريطانيا الطنجية، وهي تابعة لموريطانيا القيصرية، إحدى الولايات السبع الخاضعة للدولة البيزنطيّة، فلما عجزت الدولة البيزنطيّة عن حمايتها، ولّت سبتة وجهها شطر إسبانيا القوطية (1). وقد بدأ يليان ولايته لهذا الإقليم في سنّ مبكِّرة، وأنّه أقام مدّة طويلة فى أرض المغرب، حتى توثقت علاقته بمن جاوره من قبائل البربر، واستطاع أن يكتسب صداقة البربر له، حتى أصبح يعدّ نفسه واحداً منهم، لذلك اختلط الأمر على الناس، فظنّوه بربرياًّ، ومن هنا كان مرجع الرواية التي تنسبه إلى بربر غمارة. أما علاقته بالدولة القوطية في إسبانيا، فمرجعه أنّه كان يتوجّه بطلب المعونة إلى هذه الدولة، لبعد مدينته عن بيزنطة، واضطراب أمور بيزنطة في تلك الأيام (2). وكان يليان حليفاً لملك إسبانيا غيطشة ( Witiza) الذي تولّى عرش البلاد في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من سنة (700 م) بعد وفاة أبيه إخيكا ( Egica) وقد خُلع غيطشة عن العرش على أثر ثورة قام بها نفرٌ من أنصار لذريق (3) ( Rodrigo) وأثار اغتصاب لذريق للعرش الإسبانيّ نقمة أنصار غيطشة وأبنائه، فهبُّو على هذا المغتصب الذي انتزع الملك لنفسه من البيت المالك الشّرعيّ، وبدأت حركة استقلاليّة في أطراف البلاد، ظلّت مستمرة حتى دخول المسلمين أرض الأندلس. وفرّ ابن غيطشة المدعو وقلة ( Achila) الذي تولّى العرش بعد أبيه إلى إفريقية، وأقام عند يليان حاكم سبتة الذي كان لا يزال على ولائه للملك غيطشة وأولاده، بينما استبقى لذريق ولدي غيطشة الآخرين وهما: أرطباس _______ (1) ذكر الحميري أن يُليان هذا كان عامل لذريق على سبتة- انظر الحميري- صفة جزيرة الأندلس- نشره ليفي بروفنسال- القاهرة- 1937 م. (2) انظر: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (47 - 48) وفجر الأندلس (53 - 54). (3) ورد اسمه في تاريخ الطبري (5/ 245): ادرينوق، وفي فتوح مصر والمغرب (279) لذريق. وفي ابن الأثير (4/ 213) لذريق وفي ابن خلدون (4/ 117) لذريق وفي اليعقوبي (3/ 29) أدريق.

( Artavasdes) والمند ( Almundo) إلى جواره، حتى يستوثق إخلاصهما له، ويقضي بذلك على الثورات المناهضة لحكومته والموالية لبيت غيطشة. وساءت حال البلاد في عهد لذريق، إذ أرهق شعبه بالضرائب الفادحة، لحاجته إلى المال اللاّزم لمواجهة أعدائه. ويبدو أنّه اعتدى على ذخائر الكنائس القوطيّة ونفائسها التي كانت محفوظة في غرفتين مغلقتين في كنيستي (سان بدرو) و (سان بابلو) في طُلَيْطِلَة (1)، فنصحه القساوسة ورجال البلاط بعدم الإقدام على ذلك، فلم يُصغ لنصحهم، ومن هنا جاءت الأسطورة التي رواها مؤرخو العرب، وهي أسطورة بيت الحكمة (2). وقد حقق قسم من المؤرخين الغربيين شخصية يُلْيَان، وأثبتوا وجودها فعلاً، بعد أن كان قسم من العلماء الغربيين، قد ذهبوا إلى أنّه شخصية أُسطورية خلقها خيال العرب (3). وقد عرف المسلمون يليان أوّل مرّة عند وصول موسى بن نصير إلى إقليم _______ (1) طليطلة: مدينة كبيرة في الأندلس، على شاطئ نهر تاجه، انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 56) وتقويم البلدان (176 - 177). (2) خلاصة هذه الأسطورة، أنّه كان في طليطلة دار ملك القوط، بيت مغلق يحرسه قوم من ثقات القوط. وكانت العادة أنه إذا تولّى من القوط ملك زاد على البيت قفلاً، فلما تولّى لذريق عزم على فتح الباب والاطّلاع على ما بداخل هذا البيت، فأعظم ذلك أكابرهم، وتضرعوا إليه أن يكفّ عن ذلك، فأبى. وظنَّ أنّه بيت مال، ففضّ الأقفال عنه ودخله، فأصابه فارغاً لا شيء فيه، إلا المائدة التي كانت تُعرف بمائدة سليمان، وتابوت عليه قفل، فأمر بفتح التابوت، فألفاه فارغاً ليس فيه شيء غير شقّة مدرجة، قد صورت فيها صور العرب على الخيول وعليهم العمائم، متقلّدي السّيوف، متنكبي القسيّ، رافعي الرايات على الرِّماح، وفي أعلاها كتابة بالعجمية، فقُرئت فإذا هي: إذا كُسرت هذه الأقفال من هذا البيت، وفُتح التّابوت، فظهر ما فيه من هذه الصورة، فإنَّ الأُمّة المصوّرة قد تغلب على الأندلس وتملكها. انظر التفاصيل حول هذه القصة في: تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية (32 - 33) والبيان المغرب (2/ 4) ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/ 231 - 232) و (1/ 235). (3) انظر التفاصيل في فجر الأندلس (52 - 53).

طنجة سنة تسع وثمانين الهجريّة (709 م)، وكان ملك إسبانيا في ذلك الحين غيطشة، وكان الودّ معقوداً بينه وبين يليان (1). فلما أراد المسلمون فتح سبتة، دافع عنها يليان دفاعاً شديداً واستطاع صدّ المسلمين عن فتحها، كما ذكرنا ذلك. وكان موسى يتوق إلى افتتاح سبتة، وتطهير إفريقية من البقيّة الباقية من الأعداء. وبينما كان يرقب الفرص لتحقيق هذه الأمنية، جاءته رسالة من يليان، يعرض فيها تسليم معقله، ويدعوه إلى فتح إسبانيا. وتختلف الروايات في أمر هذا الاتصال، فيقال إنّ موسى ويليان اتّصلا بالمراسلة، وقيل إنّهما اتّصلا بالمقابلة الشخصية، وأنّ يليان استدعى موسى إلى سبتة، وهناك وقعت المفاوضة بينهما. وقيل أخيراً إنهما اجتمعا في سفينة في البحر (2). وتقول روايات أخرى: بأنّ يليان سار إلى طارق بن زياد والي طنجة، وأخبره بأنّه مستعد للتعاون مع جيشه للحرب في إسبانيا أرض القوط (3). ولا تناقض بين تلك الروايات، كما يبدو ذلك لأول وهلة، فالذي حدث هو أن يليان فاوض موسى بن نصير أولاً لأنه القائد العام في إفريقية. فلما عاد إلى القيروان أكمل يليان مفاوضاته مع طارق بن زياد لأنه قائد المنطقة القريب منه والمسئول عني المنطقة والمخوّل من القائد العام موسى بن نصير لإكمال المفاوضات. وقد كان طارق رجلاً سياسياً بحق بعيد النظر، فصادق يليان ليستعين به على إخضاع مَن تحت سلطانه من البربر، وهم كثيرون (4). ومن الواضح أنّ السّلام الذي رفرفت راياته بين المسلمين ويليان سببه _______ (1) فجر الأندلس (54). (2) راجع ابن الأثير (4/ 213) والبيان المغرب (2/ 6) وانظر: أخبار مجموعة (5) وفتح الأندلس (3 - 4)، والحميري (7 - 8)، ونفح الطيب (1/ 251 - 253). (3) فتوح مصر والمغرب (205) وتاريخ افتتاح الأندلس (7 - 8) والبيان المغرب (2/ 6 - 7) وابن خلدون (4/ 203) ونفح الطيب (1/ 232 - 233). (4) فجر الأندلس (54 - 55).

المباشر: انقطاع المدد من إسبانيا بعد رحيل غيطشة وتولى لذريق، ذلك المدد الذي أعانه على الثبات أمام المسلمين الفاتحين. فلما انقطع المدد لانشغال لذريق عن يليان بالاضطرابات الداخلية، كما سيرد تفصيل ذلك، أصبح يليان ضعيفاً أمام المسلمين الفاتحين، وأصبح ثباته في سبته تجاه تفوّق المسلمين وانتشار الإسلام في البربر انتشاراً واسعاً صعباً للغاية، لذلك فاوض موسى وطارقاً، وقام السّلام بين يليان والمسلمين، وأصبح التعاون بين الجانبين ممكناً وقائماً. وسبب إقدام يليان على عرض تعاونه في فتح الأندلس قائم على أساس أنّ لذريق اعتدى على شرف ابنة يليان، فحقد يليان على لذريق وأقسم على الانتقام منه (1). ويرى أكثر المؤرخين العرب، أنّ السبب الرئيسي لفتح الأندلس، هو قصة ابنة يليان التي اغتصبها الملك لذريق واعتدى على شرفها قسراً ولكن بعض المؤرخين المحدثين وعلى رأسهم قسم من المستشرقين، يرون بأنّ قصة ابنة يليان في بلاط طليطلة محض أسطورة ليس لها أساس من الواقع، وقد شايعهم قسم من المؤرخين العرب والمسلمين (2). وهناك ما يسوغ التشكيك في هذه القصة من مؤرخي الأجانب والمستشرقين، والهدف من هذا التشكيك واضح ومفهوم، ولكن متابعة المؤرخين العرب والمسلمين للأجانب في هذا _______ (1) مجمل القصة، أن يليان أرسل ابنته إلى بلاط لذريق لتتعلّم وتتثقف مع بنات الملك، وقد سحر جمالها الملك الذي حاول أن ينال منها، فقاومته ورفضت، فلجأ إلى العنف واغتصبها رغم إرادتها، أُنظر التفاصيل في أخبار مجموعة (5) وابن الأثير (4/ 560 - 561) والنويري (22/ 25 - 26) والحميري (7) ونفح الطيب (1/ 251 - 253). (2) قارن: Saavedra, PP.58-59 وفجر الأندلس (59 - 60) ومحمود علي مكي - ملحمة آخر ملوك القوط - المجلة (30 - 35) العدد 74 - 1963 ومحمد عبد الله عنان - دولة الإسلام في الأندلس (1/ 35 - 37) والفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (160).

التشكيك في هدفه غير واضح ولا مفهوم، ومن المعروف أنّ مؤرخي الأجانب شككوا في وجود شخصية يليان وذهبوا إلى أنّه شخصية أسطورية خلقها خيال العرب - كما ذكرنا قبل قليل - فتابعهم في هذا التشكيك قسم من مؤرخي العرب والمسلمين تقليداً وعلى غير هدى وبصيرة. حتى إذا حقق قسم من المؤرخين الغربيين شخصية يليان، وأثبتوا وجودها فعلاً، عاد المقلدون إلى متابعة الغربيين من جديد، فكانوا في كلا الحالتين مقلِّدين ينقلون آراء الأجانب بلا تدقيق ولا تمحيص. وقصة ابنة يليان تنتظر مَن يحقّق وقوعها من المؤرخين الغربيين لتصبح حقيقة بالنسبة لبعض مؤرخي العرب والمسلمين المحدثين ولا تبقى أسطورة من الأساطير. ولا أرى أن تلك القصة لا يمكن حدوثها. وبخاصة في تلك الأيام التي اتّسمت بالانحراف الذي أصبح قاعدة في القوط، وبالاستقامة التي أصبحت استثناءاً فيهم، كما أنّ ردّ الفعل الذي أظهره يليان ليس مستغرباً من أب تجاه انتهاك عرض ابنته غصباً، كما أنّ ذكرها في المصادر المعتمدة يوثِّق حدوثها ويؤيّد وقوعها، ولا عبرة بالمصادر التي لم تتطرق إليها اختصاراً أو لأسباب أخرى، إذ لو كانوا لا يصدقونها لأبدوا رأيهم حولها، ولكنهم لم يفعلوا (1). ومثل هذه القصة تكرّرت قديماً في محيط الواقع ولا تزال تتكرر، وأكثرنا سمع أمثالها، فلماذا لا نكذِّبها؟ ونكذِّب قصة ابنة يليان لأن مصادرها المعتمدة عربية إسلامية؟! ولست مع الذين يُشككون في هذه القصة، ولكنني لا أراها السبب الرئيسي لتعاون يليان مع المسلمين، بل السبب الرئيسي هو أنّه كان يتلقى الإمدادات عدداً وعُدداً في إسبانيا في عهد غيطشة (2)، ولكن عندما جاء لذريق إلى العرش، وبسبب مشاكله الداخلية، توقف عن مساعدة يليان، فاستاء من هذا _______ (1) البلاذري (230 - 231) برواية الواقدي، والبيان المغرب (2/ 6) برواية الواقدي و (2/ 4) برواية عريب بن سعد، وابن الشباط (105 - 106) برواية عريب بن سعد. (5) أخبار مجموعة (4).

ب - الاستطلاع:

التوقّف، وبدأ بالتعاون مع موسى بن نصير وطارق بن زياد على القوط في إسبانيا، خاصة بعدما شعر بقوّة المسلمين المتنامية في المنطقة، وإقبال البربر على الدخول في دين الله أفواجاً. ويمكن أن نلخِّص أسباب فتح الأندلس بثلاثة أسباب رئيسية: الأول: نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض. إنّ الفاتحين حملوا الإسلام إلى الناس بالفتح، ولم يحملوا الناس بالفتح على الإسلام. والثاني: ترصين الفتح الإسلامي في شمالي إفريقية بعامة، وفي منطقتي طنجة وسبتة بخاصة، وذلك بفتح الأندلس، فكما كانت منطقتا طنجة وسبتة تعتبران الخط الدفاعي الأمامي عن الأندلس، فإن الأندلس تعتبر الخط الدفاعي الأمامي للدفاع عن منطقتي طنجة وسبتة. وقد رأينا كيف قاومت سبتة المسلمين الفاتحين مقاومة عنيفة، وثبتت تجاه محاولاتهم المتكررة لفتحها، بفضل الإمدادات التي كانت تردها بحراً من القوط في إسبانيا، فلما تخلى القوط عن تزويدها بالإمدادت، صالحت المسلمين أو استسلمت لهم على أصحّ تعبير، لأنها عجزت عن مقاومتهم. إنّ وجود قوّات معادية قويّة في الأندلس، خطر على الفاتحين وعلى مصير الفتح، وبخاصة في منطقتي طنجة وسبتة، لذلك بادر المسلمون بالتعرّض بالقوط في الأندلس، وفتح هذه البلاد، والهجوم هو أجدى وسيلة للدفاع. والثالث: هو معاونة يليان للمسلمين وتعاونه معهم في الفتح، وتشجيعهم عليه، وحثِّهم على إنجازه، فقد سهّل يليان على المسلمين الفتح بدون شك، ولكنّهم كانوا يُقْدِمون عليه حتى ولو لم يتعاون معهم يليان ولم يعاونهم، لأن ذلك كان قدرهم في تلك الأيام. ب - الاستطلاع: بدأ موسى بن نُصير استشارته للخلافة في دمشق، وكان الخليفة حينذاك هو الوليد بن عبد الملك بن مروان (86 هـ - 96 هـ) قبل اتصالاته بيليان، أو قبل

اتصالات يليان بموسى. وقد تردّدت الخلافة بادئ الأمر بالموافقة على القيام بمثل هذه العملية الكبيرة، وخوفاً على المسلمين من ركوب البحر، ومن مصاعب القتال بحراً وبرّاً، وهي تعلم أنّ خبرة العرب المسلمين في فنون القتال البحري قليلة جداً، وربما يدور في خلدها وصف عمرو بن العاص للبحر في رسالته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي جاء فيها: "إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلاّ السماء والماء. إن ركد خرق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول. يزداد فيه اليقين قِلَّةً، والشكّ كثرة. هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق ... ". ولكن موسى بن نُصير، أقنع الخليفة الوليد بن عبد الملك بالأمر، فتمّ الإتفاق على أن يسبق الفتح اختبار مواقع الإنزال بالسرايا الاستطلاعية. وأرسل موسى في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين الهجرية (710 م) سرية استطلاعية إلى جنوبي الأندلس، مكوّنة من خمسمائة مجاهد، منهم مئة فارس والباقي مشاة، بقيادة طريف بن مالك الملقّب بأبي زُرْعَة، وهو مسلم من البربر (1). وعبر هذا الجيش الزُّقاق، والزُّقاق اسم يطلق أحياناً على المضيق بين الأندلس وشمالي إفريقية (2)، من سبتة بسفن يُليان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما ( Isla de las Palomas) في الجانب الإسباني، وعُرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد. جزيرة طَريف (3) ( Tarifa) ومن ذلك الموقع، الذي اتخذه طريف قاعدة أمامية متقدِّمة لعلمياته الحربية، قام طريف وسريته _______ (1) نفح الطيب (1/ 160، 229، 233، 253) والروض المعطار (8 و 127) والبيان المغرب (2/ 5) وانظر التاريخ الأندلسي (45). (2) التاريخ الأندلسي (130) نصّ ابن الشباط، والروض المعطار (83 و 127) ومقدمة ابن خلدون (1/ 427). (3) دولة الإسلام في الأندلس (1/ 20) وفجر الأندلس (67) وانظر الفتح والاستقرار العربي والإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (162).

الاستطلاعيّة القتالية، بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل الجنوبي الأندلسي بإرشاد يليان، وخفّت قوّة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعون المسلمين، كما قامت تلك القوّة بحراسة موقع إنزال المسلمين في أرض الأندلس، للاستفادة منه في مرحلة العودة من غارتهم إلى قاعدتهم الرئيسية على البر الأفريقي في منطقة طنجة. وكانت نتيجة الغارات الاستطلاعية التي قادها طريف، أنّ المسلمين غنموا مغانم كثيرة وسبياً عديداً، وقوبلوا بالإكرام والترحيب، وشهدوا كثيراً من دلائل خصب الجزيرة وغناها، وعادوا في أمنٍ وسلام، وقصّ قائدهم على موسى نتائج رحلته، فاستبشر بالفتح، وجدّ في أهبة الفتح، كما تشجّع موسى وأخذ يستعدّ لإرسال حملة عظيمة تقوم بالفتح المستدام (1). لقد كانت مهمة سرية طريف، مهمة استطلاعية، هدفها الحصول على المعلومات عن طبيعة الأرض، والسكان وأساليب قتالهم ودرجة ضراوتهم، وتفاصيل قيادتهم، ومبلغ الثقة المتبادلة بين القيادة والسكان ومبلغ حرص القيادة والسكّان على الدفاع عن أرضهم، وكان لقيام طريف بعدة غارات في المنطقة دون أن يلاقي أيّة مقاومة (2) نتيجة مهمّة واحدة، هي عدم حرص القيادة والسكان على الدفاع عن أرضهم، وهي نتيجة على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لخطط الفتح وبالنسبة للمسلمين الفاتحين. ولكن مهمّة سرية طريف الاستطلاعية، لم تقتصر على هذه الناحية فحسب، بل تتعدّاها إلى استطلاع حقيقة نوايا يليان ومن يشايعه تجاه السُّلطة القائمة في الأندلس والمتمثلة بالملك لذريق، وحقيقة نواياه ومَنْ يشايعه تجاه المسلمين الفاتحين، وقد أثبتت مهمة سرية طريف الإستطلاعية، أنّ يليان _______ (1) Saavedra. op. pp. 64. (2) أخبار مجموعة (6) وفتح الأندلس (5) وابن الكردبوس (45) وذكر بلاد الأندلس (84) وابن الأثير (4/ 561) والبيان المغرب (2/ 5) والنويري (22/ 26) ونفح الطيب (1/ 160) و (1/ 253 - 254).

ومَن يشايعه يحقدون على لذريق ولا يتأخرون عن التشبث بكل وسيلة ممكنة للقضاء عليه، وأنهم من أجل التنفيس عن حقدهم عمليّاً، يضعون كل طاقاتهم المادية والمعنوية للتعاون مع المسلمين في ميدان القتال ومعاونتهم. وكان التأكد من تلك النوايا، ضرورياً لاستكمال الإعداد للفتح، وقد تأكد لموسى وطارق، أنّ يليان ومَن يشايعه صادقون في معاونتهم وتعاونهم مع المسلمين الفاتحين، وأن عرضهم التعاون والمعاونة ليس خدعة، بل حقيقة لا غبار عليها. وقد وصفت المصادر العربية هذه العملية، فذكرت أنّ موسى بن نُصير كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بالذي دعاه إليه يُليان من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها، فكتب إليه الوليد: أن خضها بالسرايا، حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. وراجعه، أنه ليس ببحر زخّار، إثما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه. فكتب إليه: وإن كان، فلابد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه. فبعث موسى عند ذاك رجلاً عن مواليه اسمه طريف، يُكنى أبا زُرعة، في أربعمائة رجل معه مائة فرس، سار بهم في أربعة مراكب، فنزل في جزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء، التي هي اليوم معبر سفائنهم ودار صناعتهم، ويقال لها اليوم: جزيرة طريف، لنزوله بها (1). وهذا هو مثال لحرص المسئولين يومئذ، قادةً وخلفاء، على أرواح المسلمين، وقد أدّى طريف ومَن معه واجبهم الاستطلاعي المزدوج على أتم ما يرام. ... _______ (1) نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان لابن خلكان (5/ 320) وانظر التاريخ الأندلسي (46).

2 - الفتح

2 - الفتح أ - الخطّة العامَّة: جهّز موسى بن نُصَيْر جيشاً تعداده سبعة آلاف جندي من البربر، ليس فيهم من العرب المسلمين إلاّ القليل (1)، وينتمي البربر في هذا الجيش إلى قبيلة مصْمُودة وغيرها من القبائل البربرية مثل جرادة، ومطغرة، ومكناسة، ومَدْيُونَة (2)، وضم الجيش سبعمائة مقاتل من السودان (3)، ويمكن أن يكون هؤلاء السودان من المتطوعة الذين اعتنقوا الإسلام، فكان لهم دور كبير في مساعدة طارق في الفتح، لأن قتالهم كان قتال المجاهدين الصادقين لا قتال المجنّدين المرتزقة الذين جلبوا إلى ميدان القتال قسراً. وعبر طارق بجيشه البحر تباعاً من سبتة في سفن يليان التجارية (4)، وكان عبوره من سبتة بسبب رغبة طارق في إيجاد مكان ملائم للإنزال على الشاطئ الإسباني في منطقة الجزيرة الخضراء التي تقابل سبتة، ولكنّ طارقاً تخلّى عن الإنزال في هذا المكان عندما وجد جماعة من القوط حاولت منع إنزال قواته، فأبحر منه ليلاً إلى مكانٍ وعرٍ من الشاطئ وقد حاول تسهيل عملية الإنزال _______ (1) الروض المعطار (9) ونفح الطيب (1/ 231 و 239 و 254) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320). (2) ومصمودة من البرانس، وجراوة من زناتة التي هي من البتر، ومطغرة من البتر أيضاً، ومكناسة من البتر أيضاً، وكذلك مديونة، انظر ما جاء حول مشاركة هذه القبائل البربرية في جيش طارق الفاتح في: عبيد الله بن صالح (تحقيق بروفنسال) ص: 224 وعبيد الله بن صالح (المخطوط) ص:28 وابن خلدون (6/ 239 و 256 و 265 و462) وانظر الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (162). ذكر بلاد الأندلس (84) رقم 85ج وفتح الأندلس (85). (3) فتوح مصر والمغرب (205) وفتح الأندلس (5) وابن الكردبوس (46) وقارن Gayangos. vol.1.pp.519-520

(الابرار) باستخدام المجاذيف والبراذع الخاصة بالخيول، التي ألقيت على الصخور لتلافي خطرها، وبهذه الطريقة تمكن طارق من الإنزال المفاجئ من غير أن يراه أحد من العدو على الشاطئ (1). وقد نُفِّذت عملية الإنزال في الليل، واستغرق الإنزال أكثر من ليلة واحدة، بسبب قلة المراكب، التي كانت دائبة على نقل الرجال بين الشاطئين، إلى أن تمّ إنزال جيش طارق بسلام على أرض إسبانيا. ويقول بعض المؤرخين، إنّ طارقاً كان آخر مَن عبر إلى إسبانيا (2)، ويقول آخرون: إنه أبحر في اللّيل مع أوّل جماعة، وإنه أخفى نفسه في الجبل حتى الليلة التالية، حيث أرسل المراكب مرة أخرى لتعود ببقية رجاله (3)، وعلى ذلك فيكون طارق قاد فعلاً المجموعة الأولى من قوّاته إلى الشاطئ الإسباني، ولكن ما إن هبطت هذه المجموعة بسلام، حتى عاد بالمراكب إلى سبتة، لكي يشرف على نقل بقية رجاله بنفسه، ومن ثمّ أبحر مع المجموعة الأخيرة من الرجال. وتمّ الإنزال على صخرة تسمى: جبل كالبي ( Mons Calpe) التي اتخذت اسم طارق منذ ذلك اليوم، فأصبحت تسمى بجبل طارق، وجرى الإنزال يوم الاثنين الخامس من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين الهجرية (4) (27 نيسان - أبريل سنة 711 م). وهكذا يكون القائد الحق، يُشرف على إنزال الوجبة الأولى، لأن إنزالها يكون من أخطر الوجبات، ولأنها تكوِّن رأس الجسر للقوات التي يجري إنزالها بالتعاقب، فيشرف القائد على إنزال سائر الوجبات، حتى يكون مع وجبة الإنزال الأخيرة، ليطمئن أن قواته أكملت عبورها، وجرى إنزالها في المكان المناسب، ويتأكد من عدم تخلّف فرد من أفراد قواته عن العبور لسبب _______ (1) ابن الكردبوس (46) وانظر البيان المغرب (2/ 9). (2) البيان المغرب (2/ 6) ونفح الطيب (1/ 254). (3) فتوح مصر والمغرب (205 - 206). (4) نفح الطيب (1/ 119) والبيان المغرب (2/ 6).

من الأسباب. ولكن، لماذا استعان طارق بسفن يليان التجارية؟ "كان يليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنّون أنّ المراكب تختلف بالتجار" (1)، وهذا يدلّ على أنّ طارقاً استعان بسفن يليان التجارية، لأنه أراد أن يحيط عملية الإنزال بالسرية التامة، وذلك باستعماله مراكب تجارية لا تعود للمسلمين، لا لأن المسلمين لا يمتلكون السُّفن الكافية. ومن الواضح، أن المسلمين حينذاك، كانوا يمتلكون سفنهم الخاصة بهم، فقد كان اهتمام المسلمين بصناعة السفن مبكّراً، إذ أدركوا حاجتهم إليها، فأقاموا عدّة دور لصناعة السفن، مثل دار الصناعة في تونس التي أقامها حسَّان بن النعمان الغسَّاني (2)، بل إنّ معركة بحرية كاملة خاضها المسلمون على شواطئ تونس سنة ثلاث وثلاثين الهجرية أو أربع وثلاثين الهجرية، هي معركة ذات السواري، استخدموا فيها أسطولهم المكون من مائتي سفينة (3). وكان قد مضى على فتح الشمال الأفريقي عقود من السنين قبل فتح الأندلس، وكانت شواطئه الطويلة الممتدة على البحر الأبيض المتوسط (بحر الرّوم) والأطلسي، تجعل المسلمين بحاجة إلى السفن، وهو أمر لا يتم بالإعارة والاستئجار. وقد سبق للمسلمين نشاط بحري حربي انطلق من شمالي إفريقية، ففي سنة ست وأربعين الهجرية، وجّه معاوية بن خُدَيج (4) والي إفريقية أسطولاً عدّته مئتا سفينة لفتح جزيرة _______ (1) البيان المغرب (2/ 6). (2) انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 176 - 220) وانظر كتاب: وصف إفريقية للبكري (38 - 39) حول إنشاء دار الصناعة في تونس، وانظر كذلك: المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس لابن أبي دينار (15 و 35). (3) أُنظر: الاستيعاب (3/ 919) والعبر (1/ 34) وانظر تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضيّ (1/ 311). (4) انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 90 - 136).

صِقِلِّية (1). وفي سنة ست وثمانين الهجرية، وجه موسى بن نُصير حملة على صِقِلِّيّة محمولة على مراكب صُنعت فى تونس (2). وكل ذلك يؤكد أن للمسلمين دور صناعتهم، ولكن استعانة طارق في عبور قوّاته بسفن يليان، كان لتأمين مباغتة القوط الكاملة، لا عن حاجة للسفن، وبعد انكشاف حركة إنزال المسلمين الأولى، نُقل المدد إلى طارق بالسفن الإسلامية: "وكان موسى منذ وجّه طارق لوجهه، قد أخذ في عمل السفن، حتى صار عنده منها عدّة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مدداً" (3). وجرى تجمع جيش طارق بعد إكمال إنزاله في الطرف الإسباني، على جبل صخري، عُرف فيما بعد باسم جبل طارق ( Gibraltar) كما عرف به المضيق باسم مضيق جبل طارق، وبكلّ اللغات، وهذا ذكرى لطارق وعملية إنزال جيشه، وتخليداً لبطولته. ومنذ بدأ إنزال جيش طارق على الساحل الأندلسي، بدأ رجال طارق بتحصين موضع الإنزال، الذي أصبح منطقة التجمع لجيشه في جبل طارق، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات (5)، "فلما حصلوا في الجبل، بنوا سوراً على أنفسهم يسمى سور العرب ... إلخ" (6) فشكك بعض المؤرخين الغربيين وتابعهم في هذا التشكيك بعض المؤرخين العرب والمسلمين تقليداً، فقالوا من جملة ما قالوا: "ومن غير المحتمل، أن يكون طارق قد حصّن منطقة جيشه في جبل طارق، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات، لأن هدفه الأول لم _______ (1) البيان المغرب (1/ 16 - 17). (2) البيان المغرب (1/ 42). (3) نفح الطيب (1/ 257). (4) نفح الطيب (1/ 145 - 146 و 159 - 160). (5) ذكر بلاد الأندلس (84 - 85) والبيان المغرب (2/ 9) وابن خلدون (4/ 245) ونفح الطيب (1/ 232). (6) البيان المغرب (2/ 9).

يكن البقاء على الصخرة، بل فتح المناطق المجاورة للجزيرة الخضراء، والسيطرة على الجانب الإسباني من المضيق، لحماية تجهيزاته ومواصلاتها في شمال إفريقية"، وهذا هو مجمل ما جاء في تشكيكهم أو اعتراضهم على ما ورد في المصادر العربية المعتمدة حول التحصين. ومن الواضح، أن المؤرخين الغربيين الذين اعترضوا عى ما سجلته المصادر العربية، حول تحصين منطقة تجمع جيش طارق فى جبل طارق، وشايعهم على اعتراضهم قسم من المؤرخين العرب والمسلمين، لم يفهموا المعنى الدقيق للتحصين الذي سجلته المصادر العربية المعتمدة، فحفر الخنادق في المواضع الممكن حفرها هو تحصين، فإذا كانت الأرض صخرية كما هو الحال في منطقة جبل طارق، فإن التحصين يتم بإقامة جدار من الصخور المتيسرة والأحجار، يحتمي وراءه المقاتلون من سهام العدو المصوبة نحوهم ليلاً أو نهاراً، وإقامة الجدار للحماية بالصخور والأحجار هو تحصين أيضاً، وهو ما قصدته المصادر العربية المعتمدة، لا إقامة الحصون المشيدة، كما فهمها بعض المؤرخين الغربيين ومن شايعهم من المؤرخين العرب والمسلمين. والمدنيّون الذين لم ينتسبوا للسلك العسكري في يوم من الأيام، معذورون في سوء فهمهم لتعبير: التحصين (1)، كما ينبغي. إن من واجب كل مقاتل، أن يحصن موقعه، حتى ولو بقي فيه ساعة من نهار أو ليل، ومن واجب القائد ورجاله ألاّ يغفلوا عن تحصين مواقعهم، استعداداً لأسوأ الاحتمالات، وذلك للدفاع تجاه تعرّض معادٍ محتمل، فهذا _______ (1) في الكليات العسكرية يتلقى الطلاب درساً مهماً هو درس: التحصين، يتدرّبون فيه على حفر أنواع الخنادق، في الأماكن الممكن حفرها، وإقامة المنعات من الحجارة والصخور وزرع الربايا في المناطق الجبلية، ثم يعملون في التمارين التعبوية على تحصين مواقعهم بالخنادق أو الصخور والحجارة فور الوصول إليها حتى ولو كان بقاؤهم فيها مدة قليلة جداً، وعملهم فى الحفر وإقامة المنعات والربايا الصخرية يسمى: التحصين، وهو من أوّل واجباتهم بعد وصولهم إلى أي موقع من المواقع. وفي اللغة حَصُنَ المكانُ: مَنُعَ.

ب - المناوشات التمهيدية:

هو دأب القائد الجيّد والمقاتلين الجيّدين. وهكذا أصبح لجيش طارق رأس جسر على برّ الأندلس، ومنطقة تجمع في جبل طارق، أصبحت بعد تحصينها قاعدة أمامية متقدمة، يستند عليها ذلك الجيش، في انطلاقه نحو أهدافه لفتح الأندلس، تحقيقاً لخطة الفتح المرسومة. ب - المناوشات التمهيدية: لم يكد طارق يكمل تحصين تجمع جنده في جبل طارق، حتى أصبحت تلك المنطقة قاعدة أمامية متقدمة أمِينَة للمسلمين، صالحة للانطلاق منها للفتح. وحين فرغ من تحصين قاعدته الأمامية المتقدمة، أرسل أحد قادته المرؤوسين، وهو عبد الرحمن بن أبي عامر المعافِري على رأس فرقة مختارة من رجاله، سارت بحذاء الساحل شمالاً بغرب، فاستولت على مدينة من مدن الأندلس اسمها: قَرْطاجَنَّة الجزيرة (1) (قرطاية Carteya Torre de Cartagena) ، ثم انحدرت نحو الجنوب واستولت على بلدة الجزيرة الخضراء (2) ( Algeciras) في مقابل جبل طارق، وهناك وقعت مناوشات مع قوات القوط، انتصر فيها المسلمون. ويذكر صاحب تحفة الأنفس، أنّ قتالاً جرى عند أو قرب جبل طارق، "فاقتتلوا ثلاثة أيام، وكان على القوط تُدْمير، استخلفه لذريق ملك القوط، وكان قد كتب إلى لذريق ليعلمه بأن قوماً لا يُدرى أهم من _______ (1) قرطاجنة الجزيرة: مدينة بالأندلس، تُعرف بقرطاجنة الخلفاء، قريبة من آلشن، من أعمال تدمير، وكانت عملت على مثال قرطاجنة التي بإفريقيّة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 53) والمشترك وضعاً (342) وانظر ما جاء حول هذا الفتح في البيان المغرب (2/ 3). (2) الجزيرة الخضراء: مدينة أمام سبتة من برّ الأندلس الجنوبي، وهي مدينة طيبة نزهة توسطت مدن الساحل، وأشرفت بسورها على البحر، ومرساها أحسن المراسي للجواز، وأرضها أرض زرع وضرع، وبخارجها المياه الجارية والبساتين النضيرة، أُنظر التفاصيل في تقويم البلدان (173 - 174).

أهل الأرض أم من أهل السماء، قد وطئوا إلى بلادنا، وقد لقيتهم، فلتنهض إلىّ بنفسك" (1). وتُدمير هو تيودومير القوطي، عامل لذريق على تلك المنطقة من الأندلس وقائدها، وكانت بإمرته قوّات محلية تابعة لعامل لذريق وبقيادته، فكان الاصطدام الأول بين المسلمين وقوات القوط، اصطداماً على نطاق الجيش المحلي أو القوات المحلية لمنطقة جنوبي الأندلس، ولم يكن اصطداماً على نطاق القوة الضاربة للملك القوطي. وبذلك أصبح مضيق جبل طارق كله بيد المسلمين، فعهد طارق إلى يليان ومن معه من الجند، حرارته هذا الموضع وحمايته من كل هجوم متوقع، وأمن المسلمون من أن يعبر عدوّ إلى مواقعهم عند جبل طارق، فيهدد تلك المواقع وطريق مواصلاتهم التي تربطهم بقواعدهم في إفريقية (2). وسارع لذريق بإرسال ما تيسَّر له من قوات خفيفة بقيادة ابن أخيه بنج (3) ( Banj) وهو (بالإسبانية Sancho أو Bancho) ولكن طارقاً قضى على تلك القوات، ولم ينج من جندها إلاّ واحد اسمه: بِلْياسن ( Williesindo-Beliasin) أسرع إلى معسكر لذريق في أقصى الشمال عند بّنْبُلُونَة (4)، وأخبره نزول المسلمين البلاد، فسارع لذريق نحو الجنوب، حتى دخل قُرْطُبَة (5)، ثمّ أخذ يستعد للحركة جنوباً للقاء المسلمين (6). ومن الواضح أنّ بلياسن حمل إلى _______ (1) تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس (مخطوطة) من (70) علي عبد الرحمن ابن هذيل. (2) Saavedra, pp. 65. (3) البيان المغرب (2/ 10). (4) بنبلونة: مدينة أندلسية في غربي الأندلس، خلف جبل الشارة، انظر تقويم البلدان (180 - 181). (5) قرطبة: مدينة عظيمة بالأندلس وسط بلادها، كانت عاصمة لملكها وقصبتها، انظر التفاصيل في المسالك والممالك (35) ومعجم البلدان (7/ 52) وتقويم البلدان (174 - 175) وآثار البلاد وأخبار العباد (552). (6) نفح الطيب (1/ 149).

لذريق أخبار إبادة قوات ابن أخيه بنج الخفيفة، وأن الذي حمل إليه أخبار إنزال العرب في الأندلس هو (تدمير). وأقصد بالقوات الخفيفة، القوات التي تتحرك بسرعة على ظهور الخيل، ومن المحتمل أنّ تلك القوات جُمِّعت من القوات القوطية المحلية، وقد أصبحت خيولهم غنائم للمسلمين (1). والذي يبدو، أنّ قرار لذريق السريع، بعد علمه بإنزال المسلمين في جبل طارق، وفتحهم جنوبي إسبانيا بالكامل تقريباً، وتوقعه أن ينطلقوا شمالاً لاستكمال الفتح، هو أنه أمر ابن أخيه بنج، أن يلتقي بالمسلمين على عجل، ويحاول إيقاف تقدمهم في الأندلس أولاً، وإجلاءهم عن الساحل الذي فتحوه، ليعودوا من حيث أتوا إلى قواعدهم الأمامية في سبتة وطنجة. ولتحقيق النصر على المسلمين، عمد بنج إلى حشد قواته المحلية الخفيفة من الخيالة، وأسرع نحو الجنوب لمواجهة المسلمين الفاتحين، دون أن يعرف أنّ المسلمين كانوا في مواضع حصينة لا يسهل التغلب عليها، وفي معنويات عالية تساعدهم على التغلب بسهولة وسرعة على عدوِّهم، ولهم قيادة واعية تحسب لكل شيءٍ حسابه وتضع الحلول المناسبة لما قد يصادفها من معضلات، ولهم جنود من المجاهدين الذين يتوخون إحدى الحُسنيين: النصر أو الشهادة، ولديهم مخابرات نشطة ترصد لهم تحركات العدو وسكناته، وتجعلهم يجاهدون وهم في النور لا في الظلام. وكان نتيجة المعركة التصادفية التي خاضها بنج على رأس قواته المرتجلة، نكبة قاصمة للظهر عليه وعلى قواته، فلم ينج منهم إلاّ واحد نجا بأعجوبة، ليحمل أنباء الكارثة التي حلّت ببنج وقواته إلى الملك لذريق. والسبب في عدم إرسال لذريق قوات كافية من القوات التي بإمرته، هو بُعد تلك القوات عن مسرح العمليات، حيث كانت في أقصى الشمال، ومسرح _______ (1) الرازي- نشر سافيدرا (146 - 150) والبيان المغرب (2/ 8).

العمليات في أقصى الجنوب، وتنَقُّل القوات من الشمال إلى الجنوب يحتاج إلى وقت طويل، يؤدي إلى ترصين مواضع المسلمين وتقويتها، في وقت يكون فيه القوط بحاجة ماسة إلى السرعة، للتغلب على المسلمين الفاتحين قبل أن يرسِّخوا أقدامهم في الأندلس، لذلك كان قرار لذريق السريع، هو تكليف ابن أخيه بقيادة قوات خفيفة، للتغلب على الفاتحين بسرعة قبل فوات الأوان، فأخطأ لذريق في إصداره مثل هذا القرار السريع، لأنه لم يكن على علم يقيني بأن المسلمين جاءوا إلى الأندلس فاتحين ليبقوا فيها، ولم يأتوا إليها بغارة للمغانم ثم يرحلوا عنها. كما أخطأ بنج بعدم إطلاعه على واقع المسلمين الفاتحين مادياً ومعنوياً، وبعدم كفاية قواته عَدَداً وعُدَداً للنهوض بواجبها كما ينبغي، في تحقيق النصر على المسلمين الفاتحين. وقد كان لمرحلة: المناوشات، من مراحل فتح الأندلس، نتائج عظيمة على الطرفين المتحاربين: المسلمين والقوط. فقد ارتفعت معنويات المسلمين، نتيجة لانتصاراتهم على القوط، ولقيادتهم الواعية القادرة. كما أصبح للمسلمين قاعدة متقدمة أمامية محصّنة ومحروسة، يمكن الاعتماد عليها والانطلاق منها للفتح. كما ازدادت معلومات المسلمين الفاتحين عن قيادة القوط وقواتهم، وطبيعة بلادهم، ونقاط ضعفهم وقوتهم، فاستغلوا هذه المعلومات المفيدة للغاية في الجهاد. وهذه النتائج الثلاث مجتمعة، أدّت إلى إصرار المسلمين قيادة وجنوداً على استكمال الفتح، حتى يشمل الأندلس بحدودها الطبيعية المعروفة، ويتعداها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. أما بالنسبة للقوط، فقد انهارت معنوياتهم، نتيجة لهزائمهم المتوالية أمام المسلمين، ولقيادتهم الضعيفة العاجزة، ولخسارة جزء من بلادهم لعجزهم عن حمايتها والدفاع عنها. كما ارتبكت المعلومات عن المسلمين لدى القوط، فمنهم من يظن أنّ الفاتحين سيرحلون عن بلاد الأندلس، ومنهم من يظن أنهم جاءوا ليبقوا لا ليرحلوا، ومنهم وهم الأكثرية من اختلطت عليهم

الأمور، فشُغل بالجدل عن الاستعداد للقتال وعن مباشرة القتال. وكان لهذه النتائج على الطرفين، تأثير حاسم في الفتح، كما سنجد ذلك في مراحل الفتوح المقبلة.

3 - معركة وادي برباط أو وادي لكة المعركة الحاسمة في فتح الأندلس

3 - معركة وادي بَرْباط (1) أو وادي لَكّة (2) المعركة الحاسمة في فتح الأندلس أ - الموقف العام: أولاً: موقف القُوْط: كان لذريق عند معرفته بالنكبة التي حلّت بقوات ابن أخيه بنج، مشغولاً بالقضاء على اضطرابات خطيرة في مقاطعة الباسك (3) في منطقة جبال البرانس (4) التي تفصل بين الأندلس وفرنسا، يحارب بعض الخوارج عليه في الولايات الشمالية للأندلس، وهذا ما تنصّ عليه المصادر العربية المعتمدة، وهو ما أرجِّحه لأنه منطقي معقول. أو أن لذريق كان يصدّ هجوماً فرنسياً على نافار ( Navarre) كما يزعم بعض المستشرقين (5)، إذ لو كان هذا الزّعم حقاً، لما استطاع لذريق الانسحاب من تلك الجهة بيسر وسرعة، وهي مهددة باعتداء خارجي لا يقل خطراً عن المسلمين، إن لم يكن أكثر خطراً منهم، بموجب التفكير السائد على الملك وحاشيته وقادته حينذاك، إذ كانوا يعتقدون أن المسلمين يقومون بغارة من أجل الغنائم، بينما الفرنسيون يهدفون أن يحتلوا بلادهم إذا انتصروا عليهم، فليس من المعقول ترك الجبهة لهم، _______ (1) وادي برباط: وادٍ بالأندلس من أعمال مدينة شذونة، أُنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 103). (2) وادي لكة: اسمه في البيان المغرب (2/ 10): وادي الطين، وفي فتوح مصر والمغرب (279) ورد إسمه: وادي أم حكيم، وهو وادي برباط. (3) ابن حبيب (222) وأخبار مجموعة (7) وفتح الأندلس (6) وابن الأثير (4/ 562) والنويري (22/ 27) ونفح الطيب (1/ 231 و 255) والإمامة والسياسة (2/ 74 - 75). (4) البرانِس: جبال تفصل إسبانيا عن فرنسا، انظر التفاصيل في: الموسوعة العربية الميسرة (339). (5) Saavedra. pp. 64-65.

خالية من المقاومة، يسرحون فيها ويمرحون كما يشاءون. وكان لذريق ملكاً شجاعاً وافر المقدرة والحزم، ولكنه كان طاغية يثير بقسوته وصرامته حوله كثيراً من البغضاء والسّخط (1). وعلى كل حال، عندما وصلت أنباء طارق إلى لذريق، ترك في الحال ما كان يجابهه في الشمال من مشاكل، وزحف نحو الجنوب، مرسلاً الرسل إلى أتباعه ليوافوه في قُرطبة (2)، وقد كتب من هناك إلى أفراد أسرة غيطشة ( Witiza) وإلى القوط الآخرين لينضموا إليه في قتال العدو المشترك. وخشية من دخول قرطبة، عسكر أبناء غيطشة وأتباعهم عبر نهر شقندة ( Secunda) (3) . وتمت المصالحة بين لذريق وأبناء غيطشة، فعهد لذريق بقيادة ميمنة جيشه إلى شيشبرت ( Sisbert) والميسرة إلى أبة ( Oppa) وهذان الاثنان كما يقول مؤلف كتاب: أخبار مجموعة، هما من أبناء غيطشة (4)، ويقال أيضاً بأنهما أبناء أخيكا ( Egica) وليس لغيطشة (5)، وهذا هو الصواب، لأن ابني غيطشة اللذين بقيا في الأندلس - كما ذكرنا - هما أرطباس ( Artavasdes) والمند ( Almundo) ، وأسماء أبناء غيطشة معروفة لدينا، وليس بينهم أسماء مَن توليا الميمنة والميسرة في جيش لذريق، وإذا ما كانوا في سن لا يسمح لهما أن يتوليا الحكم في سنة إحدى وتسعين الهجرية (710 م)، فإنه من غير _______ (1) Cardone:ibid. pp. 62 (2) فتح الأندلس (6) وابن الشباط (106) برواية عريب، وابن الكردبوس (47) والحميري (9) ونفح الطيب (1/ 256). (3) ابن القوطية (3) والحميري (104) ونفح الطيب (1/ 256 - 257)، وشقندة هي حيّ الربض جنوبي قرطبة في الضفة الأخرى من الوادي الكبير ( Guadalquivir) وكان هذا الربض يُعرف بإسم: شقندة ( Secunda) مُعَرَّب عن اللاتيني، انظر كتاب: جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك للبكري - تحقيق عبد الرحمن علي الحجي (139) بيروت - 1387 هـ - ط1. (4) أخبار مجموعة (8)، وقارن فتح الأندلس (6). (5) ابن القوطية (2 - 3)، وقارن فجر الأندلس (37) و Livemore. pp. 291

المحتمل أن يكون لذريق قد عهد إليهما بالقيادة في سنة اثنين وتسعين الهجرية (711 م). فلا يبقى إلاّ أن يكون اللذان توليا الميمنة والميسرة في جيش لذريق، هما ابنا أخيكا، وغيطشة هو ابن أخيكا، فيكون قائدا الميمنة والميسرة أخوي غيطشة لا ابنيه، ويكونان عمي أبناء غيطشة، ويكون لذريق قد استعان بأفراد من العائلة المالكة السابقة فى قياداته، لتوحيد الجبهة الداخلية، وإذابة الخلافات المحلية، وحشد جهود القوط كافةً لحرب المسلمين، وقد اعتصم القوط في ساعة الخطر الداهم بالاتحاد، فاستطاع لذريق أن يجمع حوله معظم الأمراء والأشراف والأساقفة، وحشد هؤلاء رجالهم وأتباعهم ومَن يلوذ بهم، واجتمع يومئذ للقوط جيش تقدره بعض الروايات بمائة ألف مقاتل (1)، وأقل تقدير له أربعون ألفاً (2)، ولا يمكن معرفة تعداده اليوم بالضبط، فهو على كلّ حال بين هذين التعدادين، أي نحو سبعين ألفاً، كما جرى تقديره في بعض المصادر العربية المعتمدة (3). ويبدو أنّ الجيش القوطي كان يشعر بقوّته، وكان متأكداً من إمكان تغلّبه على المسلمين، إلى درجة أنهم أعدّوا ما يحملون عليه أسرى المسلمين، كما يذكر ابن الكردبوس: "فلما انتهى خبره إلى لذريق، خرج إلى لقائه في مائة ألف فارس، ومعهم العَجَل تحمل الأموال والكِسا، وهو على سرير تحمله ثلاث بغلات مقرونات، وعليه قُبَّة مكلّلة بالدرّ والياقوت، وعلى جسمه حلّة لؤلؤ قد نظمت بخيوط الإبريسم، ومعه أعداد دواب لا تحمل غير الحبال لكتاف الأسرى، إذ لم يَشُكّ في أخذهم" (4). _______ (1) ابن الأثير (4/ 214) ونفح الطيب (1/ 120)، ويقدِّره في مكان آخر بسبعين ألفاً، أنظر نفح الطيب (1/ 233)، ويأخذ جيبون بهذه الرواية، فيقدِّر جيش القوط بتسعين ألفاً أو مائة ألف (الفصل الحادي والخمسون)، ولكنَّ ابن خلدون يقدِّره بأربعين ألفاً فقط، أُنظر ابن خلدون (4/ 117). (2) ابن خلدون (4/ 117) ونفح الطيب (1/ 233). (3) نفح الطيب (1/ 112). (4) تاريخ الأندلس (47) وانظر الإمامة والسياسة (2/ 74).

ثانيا. موقف المسلمين:

ومن الواضح، أنه يمكن أن نستنتج من هذا الوصف لقوات القوط، أن لذريق وهو القائد العام كان مترفاً جداً، ولا يمكن أن يقاتل المترَف كما يقاتل الرجال، لأنه يحرص على ترفه أكثر مما يحرص على الموت. كما أن الجيش القوطي كان على حالة إدارية متميِّزة، يحمل الأموال والكساء، وتحمله الخيول، ولا تنقصه مادة إدارية تؤثر في نشاطه القتالي. كما يمكن استنتاج أن القوط قد أعجبتهم أنفسهم، فضمنوا لهم النصر على المسلمين، والإعجاب بالنفس قبل نشوب القتال، لا يؤدي إلى خيرٍ أبداً. ويبدو أن إعداد الحبال للأسرى قبل المعركة، كان محاولة من لذريق لرفع معنويات القوط، مما يدل على أنّ معنوياتهم قبل الإشتباك لم تكن عالية، ولا نصر لقوات لا تتحلى بالمعنويات العالية. ثانياً. موقف المسلمين: لما علم طارق بأخبار حشود القوط الكثيفة لقتال المسلمين، كتب إلى موسى بن نصير يستنجده، فأرسل إليه جيشاً قرابة خمسة آلاف مقاتل، بقيادة طريف بن مالك (1)، حملتهم سفن صنعها المسلمون، ولعل يُلْيَان قدّم التسهيلات لعبور هذا المدد إلى الأندلس، فأصبح تعداد الجيش الإسلامي في الأندلس اثني عشر ألف مقاتل، جلّهم من البربر المسلمين (2). وفي ذلك يقول صاحب أخبار مجموعة: إنّ طارقاً، "كتب إلى موسى يستمده ويخبره أن قد فتح الله الجزيرة واستولوا عليها وعلى البحيرة، وأنه قد زحف إلى ملك الأندلس بما لا طاقة له به. وكان موسى مذ وجّه طارقاً أخذ في عمل السفن، حتى صارت معه سفن كثيرة، فحمل إليه خمسة آلاف، فتوافى المسلمون بالأندلس عند طارق اثنا عشر ألفاً" (3). _______ (1) العبر (4/ 254) ونفح الطيب (1/ 233). (2) نفح الطيب (1/ 1/ 231 و 239). (3) أخبار مجموعة (7).

ويبدو أن نيّة طارق، كانت السير مباشرة إلى قرطبة عاصمة بِيْطِي (1) (بيتِس) ( Baetis) لأنه تقدّم بحذاء الساحل حتى أدرك جزيرة طريف، ومن ثَمَّ اتجه إلى الشمال في سهل قليل الارتفاع، ومرّ بين جبلي (سيليا دل بابا) و (سييرا دل رِتين)، واقترب من بحيرة الخندق (لاخاندا) الواسعة التي تحصر بينها وبين (سييرا دل رتين) سهلاً متسعاً بعض الاتساع حصيناً، لأنّ البحيرة تحميه من ناحية والجبل من ناحية أخرى، واستمر حتى أدرك نُهير البرباط الذي يخترق بحيرة الخندق (لاخاندا)، وكانت بهذا الموضع في تلك الأيام بليدة صغيرة زالت الآن، يسمّيها العرب: بكَّة، ولهذا سمّوا هذا النُّهير: وادي بِكّة، وحرّفه بعضهم إلى لِكَّة أو وادي لِكَّه، ونقله الإسبان خطأ، فسمّوه: وادي لِيتَه (2). وهنا عرف طارق من عيونه المنتشرة في كل مكان، أن لذريق سائر إليه بجنده، وأنه وصل إلى قُرطبة واستقر فيها قليلاً لاستكمال حشد جيشه، ثم تقدم جنوبيها، وأقام معسكره عند شَذُوْنَة (3) ( Sidonia) واستعدّ لقبول المعركة في سهل البرباط، على مقربة من قرية ( Casas Viejas) الحالية (4). وفي هذا الموضع الذي وصل إليه طارق، وصل المدد الذي تعداده خمسة آلاف مقاتل إلى طارق، وهو المدد الذي بعث به موسى بن نُصير إلى الأندلس. فقويت بالمدد نفس طارق ونفوس من معه. والغالب أن قسماً كبيراً من المدد كان من الفرسان، لأن المصادر تحدّثنا أنّ قوّة طارق الأولى _______ (1) بيطي: هو الاسم القديم لنهر الوادي الكبير ( Guadalquivir) ، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (58). (2) أقرب ما قيل، إن وادي لكه، تحريف للفظ ( Lago-Lacus) أي البحيرة، والمقصود هنا بحيرة الخندق، أُنظر التفاصيل في: فجر الأندلس (71) الهامش (1). (3) شذونة: مدينة بالأندلس، تتصل نواحيها بنواحي موزور، أُنظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 244). وفي ابن خلدون (4/ 117)، أنّ الجيشين التقوا بفحص شريش، والصحيح أنّها وقعت في فحص شذونة، لأنّ شريش بعيدة عن ميدان المعركة. (4) فجر الأندلس (71 - 72).

كانت كلها من الرّجالة، في حين سنرى للمسلمين قوّة من الخيالة في المعركة الحاسمة (1). وييدو أن تقدم المسلمين الموفق في الأندلس إلى هذه اللحظة، قد أنعش الآمال في أنفس أعداء لذريق، فانضم منهم إلى المسلمين نفر كبير أعانوهم بالقوة والرأي (2). وتسامع بذلك نفر من جند لذريق الغاضبين عليه، فبدأت نفوسهم تحدّثهم لانتهاز الفرصة للانقلاب عليه في حالة اشتباكه بالمسلمين، ويقال: إنّ شيشبرت وأبّه أخوي غيطشة، كانا على رأس هذا الفريق الذي عزم على الخيانة، وإنهما انتظرا اللحظة المواتية ليتخليا عن لذريق، ويتركاه يلقى جزاءه على ما فعل بغيطشة (3). ويبدو أن لذريق كان يشعر بما يدور حوله، وكان يدرك أن نفراً من جنده يدبر له الخيانة، فأحب قبل أن يلقى المسلمين، أن يتعرّف على ما لديهم من القوّة، فبعث طليعة من فرسانه لتناوشهم، فلم يكد المسلمون يرونها حتى انقضوا عليها انقضاضاً شديداً، فولّت هاربة، وأنبأت لذريق بحال المسلمين وما هم عليه من الحمية والتشوق للقتال، فكاد يسقط في يديه (4). ولابد من التوقف قليلاً، لمناقشة التحاق القوط النصارى بالجيش الإسلامي، قبل المعركة الحاسمة، ومعاونتهم للمسلمين وتعاونهم معهم في _______ (1) يذهب سافدرا -اعتماداً على المصادر المسيحية ئ- إلى أن عدد جيش طارق بلغ قبل المعركة الحاسمة خمسة وعشرين ألفاً، بسبب من انضم إليهم من النصارى من أنصار غيطشة وأعداء لذريق من أهل البلاد، أي أنّ من انضم إليه من النصارى يبلغ ثلاثة عشر ألفاً، وهذا مستبعد. بيد أنّ هذا لا يمنعنا من القول بأن بضعة آلاف من النصارى انضموا إلى المسلمين، أنظر فجر الأندلس (72) الهامش (1). (2) البيان المغرب (2/ 11) ونفح الطيب (1/ 162)، ويفهم مما ورد في نفح الطيب، أنّ الذي دبّر الخيانة لم يكن أبناء غيطشة وأخواه فقط، وإنما نفر عظيم من القوط كانوا غضاباً على لذريق. (3) افتتاح الأندلس (3) والبيان المغرب (2/ 8) ونفح الطيب (1/ 163) وأخبار مجموعة (6). (4) نفح الطيب (1/ 163).

تلك المعركة، على جيش لذريق من القوط النصارى، في مثل ذلك الموقف الحرج الخطير للغاية، في بلاد هي بلاد القوط النصارى وليست بلاد الجيش الإسلامي، بحجة عداوتهم للذريق، هذا الالتحاق القوطي بالمسلمين يمكن تصديقه بحجّة أن الملتحقين هم أعداء لذريق، وعدو عدوِّك صديقك كما يقول المثل العربي المشهور، ولكن ليس من المعقول أنّ طارقاً أشركهم في القتال. ومن الواضح، أثه يمكن أن نستنتج من هذا العرض لموقف المسلمين، أن طارقاً كان كأحد رجاله مأكلاً ومشركاً وسكناً، فلم يكن مترفاً، بل كانت حياته أقرب إلى التقشف منها إلى الترف. وكان حذراً كل الحذر يقظاً كل اليقظة، يعرف عن عدوه حركاته وسكناته، ولا تخفى عليه من أمره خافية. وكان يعدّ لكل أمرٍ عدّته ولكل معضلة حلّها، لا ينام ولا يُنيم. وكان المسلمون في حالة إدارية أقل بكثير من الجيش القوطي، ولكثهم اعتادوا على الحياة القاسية ولم يعرفوا الترف والرخاء، فكانت حالتهم الإدارية غير المتميّزة ليست مشكلة بالنسبة إليهم. ولم يكن المسلمون قد أعجبتهم كثرتهم، فهم يعلمون أن عدوهم متفوق عليهم عَدَداً وعُدَداً، ولكنهم متفوقون على عدوهم بقيادتهم ومعنوياتهم العالية. ولم يهتم المسلمون بالمظاهر الخارجية والدعاية، كما اهتم القوط بهما، فلم يعدوا الحبال لربط الأسرى، ولم يتباهوا بالمظاهر الخلابة، بل كانوا في نفسية متواضعة لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار. لقد كان تعداد جيش طارق اثني عشر ألفاً (1) من المجاهدين الصادقين، وانضم إليهم يليان في قوة صغيرة من صحبه وأتباعه (2)، وهؤلاء هم الذين شهدوا المعركة الحاسمة مع المسلمين على القوط. أما أعداء لذرليق الذين انضموا إلى المسلمين قُبيل تلك المعركة نكاية بلذريق، فمن الصعب تصديق أن المسلمين أشركوهم بالمعركة الحاسمة معهم على لذريق، لاحتمال وجود _______ (1) نفح الطيب (1/ 231 و 239) وأخبار مجموعة (7). (2) دولة الإسلام في الأندلس (42).

4 - خطبة طارق وحرق السفن

مندسين وعملاء بينهم، يُظهرون غير ما يُبطنون، فلا يمكن الاعتماد على مثل هؤلاء في الحرب، إذ قد ينقلبون على المسلمين في وقت من الأوقات الخطرة في الحرب، أو يثبطون عزائم المسلمين المجاهدين، أو يهربون فيسري الهرب بالعدوى بين المقاتلين، أو ينقلون أسرار المسلمين إلى أعدائهم، ومثل هذه الاحتمالات قائمة بالنسبة للقوط النصارى غير المجربين من المسلمين، ولم يحظوا بالثقة الكاملة بهم. ومن المحتمل أنّ المسلمين استقبلوا أعداء لذريق في مواضع آمنة، واكتفوا بتحييدهم بالنسبة للذريق، ونقلوهم إلى الخلف بعيداً عن الجبهة، انتظاراً لنتيجة المعركة المتوقعة، وهم بعيدون عن أخطار الحرب، آمنون على أنفسهم وعلى أموالهم وأملاكهم، وحسب المسلمين منهم أنهم لم يحاربوا في صفوف لذريق، ولم ينصروه في ميادين القتال، وكان حيادهم نصراً لا ريب فيه للمسلمين. 4 - خطبة طارق وحرق السُّفن أ - الخطبة: أولاً: الرّفض: كان ممن احتار في أمر خطبة طارق المشهورة، الأمير شكيب ارسلان رحمه الله، فقال: "تلك الخطبة الطنّانة، التي لو حاول مثلها قِسّ بن ساعدة أو سَحْبان وائل، لم يأت بأفصح ولا بأبلغ منها، ولقد كنتُ أُفكِّر مليّاً في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي .. هذا لغز من ألغاز التاريخ، لا ينحل معناه بالسهولة ... "، وحقيقة هذا اللّغز، لدى أمير البيان، أنّ طارقاً بربري، والخطبة تُعد من روائع الخطب العربية، ولم يستطع التوفيق بين هذين الأمرين المناقضين، وقد حاول ولكنه لم يسترح لمحاولاته، وأخيراً زال عندما جزم الاستاذ عبد الله كنّون بأنّ هذه الخطبة من جملة انطباع البربر بالطابع العربي

البحت (1). ويرتاب في نسبة هذه الخطبة لطارق الأستاذ عبد الله عنان، فيقول: "على أنه يسوغ لنا أن نرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فإن معظم المؤرخين المسلمين، ولا سيما المتقدمين منهم، لا يُشير إليها، ولم يذكرها ابن عبد الحكم ولا البلاذري، وهم من أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ ولم تُشر إليها المصادر الأندلسية الأولى، ولم يُشر إليها ابن خلدون، ونقلها المقري عن مؤرِّخ لم يذكر اسمه، وهي على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين. وليس بعيداً أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف أن كثيراً من قادة الغزوات الإسلامية الأولى كانوا يخطبون جندهم في الميدان، ولكن في لغة هذه الخطبة وروعة أسلوبها وعبارتها، ما يحمل على الشك في نسبتها إلى طارق، وهو بربري لم يكن عريقاً في الإسلام والعروبة. والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق، مع مراعاة ظروف المكان والزمان" (2). كما يرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق الدكتور أحمد هيكل، ويبني شكّه على: أن طارقاً بربري حديث عهد بالإسلام والعربية، لأنه لم يرتبط بموسى بن نُصير إلاّ عندما ولى هذا الأخير قيادة المغرب سنة تسع وثمانين الهجرية، وبين هذا التاريخ وتاريخ الفتح في سنة اثنتين وتسعين الهجرية مدّة وجيزة، يُستبعد معها أن يجيد طارق العربية، بحيث تسمح له بإلقاء الخطب ونظم الشعر. كما أن المصادر الأولى، عربية وأندلسية، قد سكتت عن هذه الخطبة، ولم تُشر إليها، ولا تنص عليها سوى المصادر المتأخرة كثيراً عن الفتح، مثل نفح الطيب. _______ (1) دكتور عبد السلام الهراس - دعوة الحق - العدد الخامس - السنة الحادية عشرة 1388 هـ - ص: 126، وانظر: النبوغ المغربي (1/ 22 - 23). (2) دولة الإسلام في الأندلس (47).

ثمّ إن أسلوب الخطبة، بما فيه من الصنعة والزُّخرف، لا ينتسب إلى عصر طارق الأدبي، وإنما إلى عصر متأخر جداً عن القرن الأول. ولذلك يرى أن هذه الخطبة هي أقرب إلى خصائص أواخر العصر العباسي وربما إلى ما بعد ذلك. كما أن ورود هذه العبارة في الخطبة: "وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً"، مما يزيد من حظ الشك ويقوي الارتياب، لأن الجنود لم يكونوا عرباً، بل كانوا برابرة. واعتماداً على هذه الأدلة الأربعة، يخلص الدكتور أحمد هيكل، إلى حكم؛ يرجّح فيه أن تكون الخطبة وضعت على لسان طارق من بعض الرواة المتأخرين كثيراً عن الفتح، والمتأثرين كثيراً بأسلوب أواخر العصر العباسي، وربما العصر المملوكي. ويرى بعد ذلك، أن طارقاً قد يكون خطب جنوده، وقد يكون قد تغنى انتصاراته مفاخراً مباهياً، ولكن المعقول أن يكون فعل ذلك بلغته البربرية، التي كان يجيدها، والذي كان جنوده يفهمونها (1). ويرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، الدكتور عبد الرحمن علي الحجي، ويبني شكّه على: أن تعرض القليل جداً من مؤرخينا الأندلسيين المتأخرين - دون المتقدمين - للخطبة، قد يشير إلى عدم شيوعها وعدم معرفة المؤرخين لها، وهو أمر يمحو أو يقلل الثقة بواقعيتها. كما لم تذكر المصادر الأندلسية، لا سيما المبكرة منها، هذه الخطبة. ولم تكن الخطبة بما فيها في أسلوب ذلك العصر (القرن الأول الهجري)، وغير متوقع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة. والمعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم والروح الإسلامي العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك ....... _______ (1) انظر كتاب: الأدب الأندلسي (80 - 83) ئقلاً عن مقال مجلة دعوة الحق - العدد الخامس (126 - 127).

ويلاحظ في الخطبة عديد من الأخطاء، ويلاحظ بها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية، كاستعمال: (اليونان) التي ربما جاء ذكرها للسّجع، فالمؤرخون الأندلسيون اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الرّوم (1)، وكذلك: العلوج والعجم، أو المشركين والكفار (2)، وليس لدينا نص يحتوي على مثل هذا الاستعمال. ثم: "وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين ... " (3)، فالذي انتخبهم موسى بن نصير وليس الوليد. وكان المتوقع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أو وصايا وأحداث ومعاني إسلامية أخرى، تناسب المقام، كالمعهود (4)، ثم إن طارقاً وأكثر الجيش كانوا من البربر، مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم، إذ من المتوقع ألّ تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوى عالٍ (5). كما أن وضوح تنافي الجُمل الأخيرة من الخطبة: "ولم يعوزكم بطل عاقل "، "واكتفوا إليهم من فتح هذه الجزيرة بقتله ... "، وأسلوب الفتح وحقيقته وأهدافه، فضلاً عن مجانبتها لخططه العسكرية ودقتها التنظيمية ومطالبها الفنية، دليل أن طارقاً لم يقل هذه الخطبة. ويرى بعد ذلك، أن كل ما تقدم، لا يمنع أن يكون طارق جيد الكلام، وأنه خطب جنده، يحثهم على الجهاد (6). ويرتاب الدكتور أحمد بسّام السّاعي في نسبة هذه الخطبة إلى طارق بن _______ (1) انظر: نفح الطيب (1/ 264 و 269) والإحاطة (1/ 100). (2) انظر: نفح الطيب (1/ 259 و 261 و 270 و 271) والبيان المغرب (1/ 14). (3) ابن خلكان (5/ 321 - 322) ونفح الطيب (1/ 240). (4) انظر: تحفة الأنفس (29 - 33). (5) انظر:. تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (78). (6) التاريخ الأندلسي (58 - 61).

زياد، فيرى: أن أسلوبها ليس أسلوب ذلك العصر - سنة اثنتين وتسعين الهجرية - أي أواخر القرن الأول الهجري، فالسّجع الذي انتظم كثيراً في عباراتها، والذي كان يتتالى على مدى خمس جُمل أحياناً، لم يعرفه العرب في أساليب تلك المدة الزمنية. ثم إن طارق بن زياد، كان أول عهده بالإسلام والعربية عام تسع وثمانين للهجرة، وهو العام الذي استولى فيه موسى بن نصير على المغرب، فاستولى الإسلام على قلوب أهلها، واستولت لغته العربية على ألسنتهم، فهل يُعقل أن يكون قد اكتسب في هذه السنوات الثلاثة اللسان العربي الفصيح والملكة البلاغية الرفيعة التي تؤهله لإلقاء مثل هذه الخطبة التي احتلت تلك المكانة الرفيعة بين خطب فصحاء العرب؟ أما العربان الذي ذكرهم طارق في خطبته: (وقد انتخبكم الوليد من الأبطال عرباناً)، فلم يكونوا في حقيقة الأمر، وتبعاً للمصادر التاريخية الموثقة، عرباناً، بل كان معظم أفراد الجيش الذي جهز منه طارق حملته من برابرة المغرب. وإذاً، فلا بد من الوقوف وقفة شك كبير أمام هذا التنافر بين الواقع التاريخي بجوانبه المتعددة، وواقع الخطبة التي بين أيدينا. ومما يزيد هذا الشك رسوخاً، تلك الحقيقة التاريخية التي عُرفت عن الجيوش الإسلامية عامة - ولاسيما في تلك القرون الأولى من حملات الإسلام - وهي أن هذه الجيوش لم تكن تغزو للغزو والغنائم التي ينالها الغزاة عامة، بل كانت تغزو في سبيل فكرة وعقيدة. ثم يقول: " ... ومع ذلك، فنحن لا نملك أن نجزم بأنها ليست لطارق بن زياد حقاً" (1). وكان بطرس البستاني، قد شكك في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فهو يرى أن طارقاً كان فارسي الأصل متعرِّب لا بربري، حديث العهد بالعربية والإسلام، وأنّه كان حسن الكلام، فما هو تأثير خطبته في جيش من البرابرة _______ (1) مجلة العربي الكويتية - العدد 293 - نيسان (أبريل) 1983 م- (96 - 97).

ثانيا: القبول:

يجهل العربية في مجموعه، ولم يزل على طفولته في الدين الجديد، تعني فئة قليلة من العرب بتعليمه القرآن وفرائض الإسلام كما يتعلمها كل شعب غريب إذا أسلم وكان يجهل العربية. ولا يبعد أن يكون فيه من البرابرة الذين لم يتركوا دينهم القديم، وإنما هم مرتزقة حاربوا مع المسلمين رغبة في الغزو والغنيمة ..... ومما يحمل على الشك في خطبة طارق قوله لجيشه: "وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً"، فجمعُ العربان ليس من اللغة الفصحى، ولا يصح أن ينطق به خطيب في صدر الإسلام. ثم كيف يجعلهم عرباً وهم ... من البرابرة، ليس فيهم إلاّ ثلاثمائة من العرب؟ فلا يعقل أن يتوجه بخطبته إلى الفئة القليلة دون السواد الأعظم، والبرابرة أحوج من العرب المسلمين إلى التحضيض والإغراء. ثم يقول: "فالخطبة كما يتبين لنا مصنوعة .... ، فما ينبغي الركون إليها ولو أثبتها بعض المؤرخين" (1). تلك هي موجز أمثلة من آراء الرافضين من العرب المسلمين وغير المسلمين أيضاً، ذكرناها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي في نقاطها الجوهرية تضرب على وتر واحد، تكاد تتفق في المعاني وتختلف في الألفاظ. ثانياً: القبول: تصدى الأستادْ عبد الله كنّون مفنِّداً بعض أدلة الرافضين، ومجمل ما ذكره: إنّ طارقاً البربري، نشأ في حصن العروبة والإسلام، فأبوه هو الذي أسلم بدليل اسمه: (زياد) ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وانتقل إلى المشرق حيث نشأ ولده في كنف موسى بن نُصير. ولا غرابة في نبوغ طارق البربري في العربية، فقد نبغ فيها أمثاله كعِكْرِمة البربري وسلمان _______ (1) بطرس البستاني - معارك العرب (1/ 55 - 56) - بيروت - 1944 م - ط1.

الفارسي. وليس في الخطبة من الصنعة البيانية ما يمنع نسبتها لطارق، لأن بلاغتها في معانيها، والمعاني ليست وقفاً على عربي ولا عجمي. ثم يضيف: نعم قد تكون الخطبة تعرّضت لبعض التصرف بالزيادة أو النقصان من الرواة، غير أن هذا لا يسوّغ نفي أصل الخطبة، وليس بحجة للتشكيك في نصّها الكامل (1). ويردّ الدكتور عبد السلام الهرّاس على الدكتور أحمد هيكل فيذكر: أنه لا يشاطر الدكتور هيكل في حكمه الذي بناه على حيثيات لا يعتمد البعض منها إلاّ على افتراضات، والبعض الآخر يعتمد على أساس النص الوارد في: نفح الطيب. فكون طارق مثلاً حديث عهد بالإسلام، لم يتصل بموسى بن نصير إلاّ عند تولية هذا قيادة المغرب سنة تسع وثمانين الهجرية - أمر لا يمكن التسليم به، لأن طارقاً ابن لمسلم وهو زياد، وحفيد لمسلم وهو عبد الله، حسبما ذكره ابن عذاري في نسبه، فله على الأقل أبوان في الإسلام، وهكذا لم يعد هذا القائد البربري حديث عهد بالإسلام، ولم تعد المدّة التي قضاها في الإسلام لا تتعدى ثلاث سنوات. ومالنا لا نفترض - وهو أقرب إلى المعقول - أن أباه - وجدّه هو الذي كان في المشرق - فنشأ الابن والحفيد في بيئة عربية صرف، أتاحت له حذق لغتها والنبوغ فيها، والفوز بثقة بلاط دمشق ليتولى مكانة مرموقة في الدولة الأموية، مما أهّله لقيادة جيش الفتح. ثم إنّ أحداً من القدماء لم يقل بأن طارقاً خطب بالبربرية، أو نفى الخطبة بالعربية. أما كونها لم ترد إلاّ في المصادر المتأخرة كثيراً، كنفح الطيب، فليس الأمر كذلك، إذ وردت في مصادر أقدم بكثير من عصر المقري، فقد أوردها ابن خلِّكان وهو من القرن السابع الهجري، ووردت في تحفة الأنفس لابن هذيل وهو من القرن الثامن الهجري، وأهم من هذا أن صاحب الإمامة والسياسة قد أثبتها وهو من رجال القرن الثالث الهجري، كما وردت قطعة منها في كل _______ (1) النبوغ المغربي (1/ 22 - 23) نقلاً عن مجلة: دعوة الحق - العدد الخامس (127).

من: (ريحانة الألباب) للمواعيني (توفي 575 هـ=1168 م)، وكتاب: (استفتاح الأندلس)، لعبد الملك بن حبيب (1). وقد أضاف الشيخ عبد الله كنّون إلى المصادر الخمسة التي ذكرت خطبة طارق في صفحاتها والتي ذكرها الدكتور عبد السلام الهرّاس مصدراً جديداً، فذكر أنه يضيف إلى هذه المصادر مصدراً آخر لا يقل عن: ابن خلكان، تثبتاً وتحرِّياً وثقة، وهو من أهل القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجريين؛ الإمام أبو بكر الطرطوشي، صاحب كتاب: (سراج الملوك). وقد ذكر خطبة طارق غير شاعر بأدنى شك في صحة نسبتها إليه، وأورد طرفاً منها في الباب الحادي والستين من كتابه المذكور، الذي عقده لذكر الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها (2). وأضاف الأستاذ عبد العزيز الساوري مصدراً سابعاً إلى المصادر المذكورة، هو كتاب: صلة السِّمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمّدي، للمؤرخ التونسي محمد بن على بن محمد الشباط المصري التوزري، الذي عاش في القرن السابع الهجري، وتُوفي بمدينة توزر سنة إحدى وثمانين وستمائة الهجرية (1282 م). فقد ذكر هذا العالم الحجة خطبة طارق مسلِّماً غير شاعر بأدنى شك في صحة نسبتها إليه (3). وأستطيع أن أذكر، بعض ما يمكن أن يعتبر رداً عملياً على الرافضين نسبة خطبة طارق إليه، فمن الواضح أن طارقاً لم يتصل بموسى بن نصير سنة تسع وثمانين الهجرية، بل لابد أن يكون اتصاله به قبل ذلك، فأبو طارق وجدّه _______ (1) مجلة دعوة الحق - العدد الخامس (127 - 128). (2) سراج الملك (154) - الطبعة الأزهرية - القاهرة، انظر مجلة: دعوة الحق - العدد السادس والسابع - السنة الحادية عشرة - صفر 1355 هـ - ص: 111. (3) تاريخ الأندلس لابن الكردبوس ووصفه لابن الشباط - نصان جديدان - ص: 154 - 155 تحقيق د. أحمد مختار العبادي - معهد الدراسات الإسلامية - مدريد - 1971 م، نقلاً عن مجلة: دعوة الحق - العدد (225) ص: (100 - 101).

مسلمان، وقد عاش في بيئة إسلامية، ومثل هذه البيئة لها صلة مباشرة قوية بالعربية الفصحى تكلّماً وتعلّماً. وحتى في هذه الأيام، في القرن الخامس عشر الهجري لا نجد بيئة إسلامية شرقاً وغرباً، إلاّ فيها مَنْ يُتقن العربية الفصحى، فإذا أضفنا أن والد طارق وجده مسلمان، في أيام الفتوح والاتصال المباشر بين الأقوام والأمم، تحت ظل الإسلام، فلا نستبعد أن والد طارق وجده انتقلا إلى بلاد العرب، وكان معهما طارق، فأتقن العربية الفصحى. وحتى لو لم ينتقل إلى المشرق، فإن إسلامه يشجعه على قراءة القرآن وتفهم الحديث وأقوال الدعاة العرب المسلمين، فكثير ممن نراهم في الهند وباكستان والاتحاد السوفياتي مثلاً، ممن يتقنون العربية الفصحى، لم ينتقلوا إلى البلاد العربية، بل تعلموا العربية الفصحى في عقر دارهم. وأذكر أنني كنت في زيارة رسمية للباكستان سنة (1384 هـ-1964 م)، فصلّيت الجمعة في مسجد كراجي الكبير، وكان خطيب الجامع يخطب بالعربية الفصحى، ولم يخطب بالأوردية اللغة المحلية، فقيل للخطيب: (لماذا لا تخطب بلغة قومك؟)، فقال: (لا أخطب بغير لغة القرآن ولغة النبي صلى الله عليه وسلم)، فما يدرينا أن طارقاً خطب بالعربية الفصحى في مثل ذلك الموقف العصيب، الذي يكون فيه المرء أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وهو يوقن بأن النصر من عند الله، فهو بهذه النية يخطب بهذه اللغة تبركاً وتقرباً إلى الله ورسوله. وقد عملت في الجندية ردحاً طويلاً من الزمن، وخطبت الضباط والجنود في الوحدات الصغرى والوحدات الكبرى بالتدريج، حسب تقدمي رتبةً ومنصباً. وكثيراً ما كانت الوحدة التي أقودها مؤلفة من غير العرب، كالأكراد مثلاً، فكنت ألقي خطابي بالعربي، وأضع مع مَن لا يفهم العربية مَن يترجم لهم كلامي نصّاً وروحاً، وهذا ما فعله طارق حين خطب بالعربية الفصحى في رجاله البربر، فلم ينس أن يجعل بينهم مَن ينقل إليهم كلماته، وليس ذلك صعباً بل هو سهل ميسور.

وكانت الحماسة للإسلام في البربر عظيمة جداً، وأكبر دليل على ذلك إنجازهم الرائع في الفتوح واستقتالهم في ميدان القتال، والاستقتال عادة يكون من أجل العقيدة. والحماسة العربية الفصحى متساوقة مع الحماسة للإسلام، لأن العربية الفصحى لغة الدين الحنيف، فلا يستغرب إقبال البربر على تعلم العربية الفصحى بحرص واندفاع، ليتفهموا القرآن وتعاليم الدين، وطالما رأينا مسلمين من غير العرب، يفهمون العربية ولا يحسنون الكلام بها، ومن الممكن أن يكون مسلموا البربر يومئذ كذلك. ولا أدري إلى متى يبقى المؤرخون العرب والمسلمون، يثقون بما يقوله الأجانب أكثر من ثقتهم بما يقوله أبناء أُمتهم ودينهم؟ وفي دراستي لطارق بن زياد وفتح الأندلس، وهي هذه الدراسة التي تقرأ في هذا البحث، اكتشفت أن قسماً من مؤرخي الأجانب ادّعوا أنّ يليان شخصية أسطورية لا وجود لها في الواقع، فتابعهم في ذلك بعض مؤرخي العرب والمسلمين. وأخيراً جاء مَنْ يثبت، أن يليان شخصية حقيقية لا مجال للشك ولا للتشكيك فيها، فتابعهم في ذلك بعض مؤرخي العرب أيضاً، ورجع مَنْ بقي منهم على قيد الحياة عن متابعتهم الأولى!!! ويزعم بعض مؤرخي الغرب من الأجانب، أن قصة اعتداء لذريق، على عفاف ابنة يليان وأثر ذلك في يليان من ناحية التعاون مع موسى بن نُصير وطارق بن زياد في فتح الأندلس، قصة أسطورية لا نصيب لها في الواقع، فتابعهم في ذلك كثير من مؤرخي العرب والمسلمين، مع أن القصة لا يُستغرب حدوثها قديماً وحديثاً، ولا أدري كيف يصدِّق مؤرخو العرب والمسلمين تشكيك المؤرخين الأجانب، ويكذِّبون المصادر العربية الإسلامية المعتمدة دون مسوِّغ منطقي معقول!! بل لا أدري كيف يتابع قسم من مؤرخي العرب والمسلمين، ويقتبسون مزاعم قسم من المؤرخين الأجانب، وبخاصة ممن ثبت انحرافهم وتحريفهم، وثبتت عداوتهم العربية لغةً والإسلام ديناً، ولا يتابعون

المؤرخين العرب والمسلمين، فيقتبسون حقائقهم الثابتة، وبخاصة ممن ثبتت استقامتهم وعدلهم، وثبت إخلاصهم للعربية لغةً والإسلام ديناً!! والمؤرخون العرب والمسلمون حقاً، يرصدون مؤتمرات: إعادة كتابة التاريخ، لقسم من البلاد العربية، فلا يُدعى إلى تلك المؤتمرات غير المستشرقين المنحرفين المحرِّفين المعروفين بعداوتهم للعربية لغةً والإسلام ديناً، وغير المستغربين المقلِّدين للمستشرقين، من مؤرخي العرب والمسلمين الذين لا صلة لهم بالعربية لغة والإسلام ديناً، وصلتهم بالمستشرقين المنحرفين المحرِّفين صلة عضوية أنستهم مؤرخي العرب والمسلمين القُدامى والمحدثين. والتقيت أحدهم في المجمع العلمى العراقي، فسمعته يُباهي بإصدار مؤتمرهم مجلدات في التاريخ، فقلت له: (لقد أضفتم مجلدات جديدة إلى مجلدات كايتاني، فاتقوا الله في العرب والمسلمين يا أبناء العرب والمسلمين). ومن المذهل حقاً، أن نجد من يشايع المنحرفين من المستشرقين في انحرافهم من مؤرخي العرب والمسلمين، ومن يوافقهم منهم على تحريفهم، يفخرون بالانحراف والتحريف، ما دام قادماً من الأجنبي، وكأن ذلك علامة من علامات التحرر وسِمة من سِمات الانطلاق، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. إنني مع الذين ينسبون هذه الخطبة لطارق، على الذين يرفضون نسبتها إليه، أو يشكون في نسبتها إليه، أو يشككون في نسبتها إليه، لأن الأدلة مع من ينسبون هذه الخطبة لطارق، على الذين يرفضونها. كما أعلم منزلة الذين ينسبون هذه الخطبة لطارق صدقاً واستقامة وعلماً وتثبّتاً، فما ينبغي رفض ما يقولون دون مسوّغ، وبخاصة إذا علمنا أن الذين شكوا في تلك الخطبة أو شكلوا بها ابتداءاً من المؤرخين الأجانب، ثم سرى شكهم وتشكيكهم إلى مؤرخي العرب والمسلمين بحسن نيّة أو بسوء نيّة، فما ينبغي أن نصدّق كل

مستورد من الخارج، وإلاّ خسرنا كل شيء دون أن نربح شيئاً. إن الاستعمار الفكري من أخطر أنواع الإستعمار، ولم نفعل شيئاً إذا لم نطهِّر عقولنا ونفوسنا معاً منه إلى الأبد.

ثالثا. في المصادر والمراجع:

ثالثاً. في المصادر والمراجع: (أ) في المصادر: (1) نص ابن حبيب عبد الملك بن حبيب الألبيري (ت 238 هـ) في كتابه استفتاح الأندلس روى بعض أصول الخطبة المعروفة حالياً، فقال: (فلما بلغ طارقاً دنوُّه منه، قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم حضّ الناس على الجهاد، ورغبهم في الشّهادة، ثم قال: "أيها الناس، أين المفر؟ والبحر من ورائكم، والعدو أمامكم؟ فليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بنفسي، لا أقصر حتى أخالطه أو أقتل دونه" (1). (2) نص ابن قُتَيبة (ت 276 هـ) في كتابه الإمامة والسياسة (2) فلما بلغ طارقاً دنوُّه (أي لذريق) منهم، قام في أصحابه، فحمد الله، ثم حضّ الناس على الجهاد، ورغّبهم في الشّهادة، وبسط لهم في آمالهم، ثم _______ (1) مجلة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد (5/ 222) (القسم الفرنجي) نقلاً عن كتاب: التاريخ الأندلسي للدكتور عبد الرحمن علي الحجي (59). (2) هناك من يرى أن هذا الكتاب ليس لابن قتيبة ولكنه منسوب إليه.

نص أبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ) في كتابه سراج الملوك

قال: "أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، فليس ثمّ والله إلاّ الصدق والصبر، فإنهما لا يُغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضرّ معهما قِلَّة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة. أيها الناس، ما فعلت من شيءٍ فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثمّ كونوا كهيئة رجل واحد في القتال. ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيّبه حتى أُخالطه أو أقتل دونه (1)، فإن قُتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولوا الدّبر لعدوِّكم، فتبدّدوا بين قتيل وأسير. وإياكم أن ترضوا بالدنيّة، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة، والراحة من المهنة والذلّة، وما قد أُجِّل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا والله معكم ومعيذكم تبوؤون بالخسران المبين، وسوء الحديث غداً بين مَن عرفكم من المسلمين. وها أنا ذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي " (2)، فحمل وحملوا. (3) نص أبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ) في كتابه سراج الملوك ذكر هذا العالم الحجة خطبة طارق، مسلِّماً لها، غير شاعر بأدنى شك في صحة نسبتها إليه. وأورد طرفاً منها، وذلك في الباب الحادي والستين من كتابه المذكور، الذي عقده لذكر الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها (3). _______ (1) في الأصل: (وأقتل)، وهو تصحيف. (2) الإمامة والسياسة (2/ 74) - القاهرة - 1377 هـ - ط2. (3) الأُستاذ عبد الله كنون - مجلة دعوة الحق - العدد السادس والسابع - صفر 1388 هـ =

وهذا هو نص الخطبة في هذا الكتاب. ولما عبر طارق مولى موسى بن نُصير إلى بلاد الأندلس ليفتحها، وموسى إذ ذاك بإفريقية، خرجوا في الجزيرة الخضراء، وتحصنوا في الجبل الذي يسمى اليوم: (جبل طارق)، وهم في ألفٍ وتسعمائة رجل، فطمعت الرّوم فيهم. فاقتتلوا ثلاثة أيام، وكان على الرّوم تدمير، استخلفه لذريق ملك الرّوم، وكان قد كتب إلى لذريق يُعلمه: أنّ قوماً لا ندري أمن الأرض أم من السّماء قد وصلوا إلى بلادنا، وقد لقيتهم، فانهض إليّ بنفسك. فأتاه لذريق في تسعين ألف عنان، فلقيهم طارق وعلى خيله مُغِيث الرُّومي مولى للوليد بن عبد الملك، فاقتتلوا ثلاثة أيام أشد قتال. فرأى طارق ما الناس فيه من الشدة، فقام فحضّهم على الصبر، ورغّبهم في الشهادة، وبسط آمالهم، ثمّ قال: "أين المفر، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، فليس إلاّ الصبر منكم والنصر من ربكم. وأنا فاعل شيئاً، فافعلوا كفعلي، فوالله لأقصدنّ طاغيتهم، فإمّا أن أقتله، وإما أن أُقتل دونه .. " (1). _______ = ص:111. (1) سراج الملك (159) المطبعة الأزهرية بالقاهرة، نقلاً عن مجلة دعوة الحق - العددان السادس والسابع ص: 111.

نص أبي محمد بن إبراهيم (ابن خيرة) المراعيني الأشبيلي (ت 564 هـ) في كتابه ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب

(4) نص أبي محمد بن إبراهيم (ابن خيرة) المراعيني الأشبيلي (ت 564 هـ) في كتابه ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب (1) ولما أجاز طارق البحر، وعظ أصحابه وأمرهم (2) وقال: إنكم بين عدوين: بين أهل الكفر، وبين البحر، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً. وأحرق سفن الجواز ... (3) فلما أشرف على جمعهم، قال لأصحابه: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. وإنني مصمِّم بنفسي نحو طاغيتهم، حتى يحكم الله بيني وبينه، وقد فرض الله الواحد منكم للعشرة، فاحملوا كما أمركم الله ينصركم: ((إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ)) (4)، وحمل المسلمون يكبرون الله ... " (5)، وبعد هذا يقول: (قال عبد الملك بن حبيب: دخل الأندلس من التابعين زهاء عشرين رجلاً). _______ (1) مخطوط بالخزانة الملكية (الرباط) وتوجد منه نسختان: الأولى رقمها: 1406 ورقة 137، والثانية رقمها: 2647 من 381 ورقة وهو لأبي محمد بن إبراهيم المراعيني. (2) في الأصل: ودمرهم، وهو تحريف ولعلّ الصواب ما أثبتناه. (3) هذا ما بعث به الدكتور عبد الهادي التازي مشكوراً. (4) الآية الكريمة من سورة آل عمران (3/ 160). (5) ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب للمراعيني، ليس به ترقيم الصفحات، مخطوط الخزانة الملكية المغربية رقم (2647) نقلاً عن بحث: طارق بن زياد وخطبته للدكتور عبد السلام الهراسي، مستخرج من دراسات عربية وإسلامية - الفاهرة - 1403 هـ وقد أرسل الدكتور بحثه إليّ مشكوراً.

وقد بذلت غاية الجهد للحصول على نص خطبة طارق كما هي مسجلة في ريحان الألباب الخطي، واتصلت بالسفير المغربي ببغداد، وكتبت عدة رسائل للمسئولين في المغرب، دون جدوى عدا استجابة الدكتور عبد الهادي التازي مشكوراً. وأخيراً بعد انتظار استمر أكثر من سنة أسعفني الأخ الدكتور عبد السلام الهراس بدراسته عن خطبة طارق، فتسلمت هذه الدراسة، بعد أن فُقدت النسخة الأولى التي بعث بها إليّ بالبريد أو حجبت عني عمداً، والله أعلم، فانتفعت بهذه الدراسة كثيراً، وكان المفروض أن أحظى بنص كتاب المراعيني من المغرب إشاعة للعلم ومعاونة العلماء للباحثين، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.

نص ابن خلكان (ت 681 هـ) في كتابه وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان

(5) نص ابن خلكّان (ت 681 هـ) في كتابه وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه، كتب تُدْمِير إلى لذريق الملك، أنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك لذريق، رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العَجَل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبّة مكلّلة بالدّر والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقاً دنوُّه، قام من أصحابه، فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ حثّ المسلمين على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، ثمّ قال: "أيها الناس، أين المفر، والبحر من ورائكم والعدو أمامكم؟ فليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللِّئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وَزر لكم غير سيوفكم، ولا قوت لكم إلاّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم. وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم، وتعوّضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (1)، فقد ألقت به إليكم مدينته المحصّنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم بأنفسكم للموت، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنَجْوة، ولا حملتكم على خطّة أرخص _______ (1) في طبعة بولاق (2/ 177 - 178): هذه الطاغية، وكذلك في النسخة (ب) من هذا الكتاب.

مُبتاع فيها النفوس إلاّ وأنا أبدأ فيها بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذَ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظّكم فيه بأوفر من حظِّي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدّر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً (1)، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظّه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أني أوّل مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهَمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون" (2). _______ (1) وردت في بعض النسخ بالزاي المعجمة، عزبان: جمع عزب، وسنعلّق على ذلك في المتن بعد تسجيل نصوص الخطبة. (2) وفيات الأعيان (4/ 404 - 405) تحقيق الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد - القاهرة - 1367 هـ - ط1.

نص ابن الشباط (ت 681 هـ) محمد بن علي بن محمد بن الشباط المصري التوزري في كتابه صلة السمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمدي

(6) نصّ ابن الشباط (ت 681 هـ) محمد بن علي بن محمد بن الشباط المصري التوزري في كتابه صلة السّمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمّديّ ذكر هذا العالم الحجة خطبة طارق، مسلِّماً لها غير شاعر بأدنى شكّ في صحّة نسبتها إليه، وأوردها في النصّ الذي عقده لذكر فتح الأندلس في كتابه المذكور. إلاّ أنه يجب أن أشير مسبقاً، إلى أن هناك اختلافاً يسيراً ما بين نصّ هذا العالم ونصّ ابن قُتَيْبَة في: الإمامة والسياسة، وهو اختلاف بسيط لا يخرج عن دائرة اللغة، وهذا هو النصّ: ( ....... ولما بلغ طارقاً دنوُّه منهم، قام في أصحابه خطيبًا (1)، فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه، ثمّ حضّ الناس على الجهاد ورغَّبهم في الشهادة، وبسط من آمالهم، ثم قال: (أيها الناس، إلى أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو من (2) أمامكم، وليس والله إلاّ الصدق والصبر، فإنهما لا يُغلبان، وهما جندان منصوران، لا تضرّ معهما قِلّة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة. أيها الناس، ما فعلت من شيءٍ فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، وكونوا كهيئة رجل واحد في القتال. ألا وإني عامدٌ إلى طاغيتهم لا أتهيّبه، حتى أخالطه أو أُقتل دونه، فإن قُتلتُ فلا تهنوا ولا تنازعوا _______ (1) خطيباً: ساقطة في كتاب الإمامة. (2) من: ساقطة في كتاب الإمامة.

نص ابن هذيل (ت 763 هـ) علي بن عبد الرحمن بن هذيل في كتابه تحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس

فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتُولّوا الدّبر عدوّكم، فتبدّدوا بين قتيل وأسير، وإياكم أن ترضوا بالدنيّة، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والرحمة من الذلّة والمهنة، وما قد أجّل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا والله معيذكم، تبوءون بالخسران المبين وسوء الحديث غداً بين مَن عرفكم من المسلمين. وها أنذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا لحملتي)، ثم حمل وحملوا، فلما غشيهم اقتتلوا قتالاً شديداً، فقُتل الطاغية، وهُزم قومه (1). (7) نصّ ابن هُذَيْل (ت 763 هـ) علي بن عبد الرحمن بن هُذَيْل في كتابه تحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس نقلاً عن كتاب: محمد عبد الله عِنَان (2) - دولة الإسلام في الأندلس "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللّئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته وفورة، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلاّ سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاّ ما تستخلصونه من أيدي عدوِّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم، وتعوّضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن _______ (1) تاريخ الأندلس لابن الكردبوس، ووصفه لابن الشباط، نصان جديدان (154 - 155) تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي - معهد الدراسات الإسلامية بمدريد - 1971 م. (2) دولة الإسلام في الأندلس (1/ 46 - 47) ولم يشر الأستاذ عنان إلى المصدر عند إيراده نصّ الخطبة، بل عقب على الخطبة بقوله: "ويشير صاحب كتاب تحفة الأنفس إلى خطبة طارق ... "، وليس لدي نسخة من كتاب تحفة الأنفس لأقارن بين النّصين.

أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعاً فيها النفوس، أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدّر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقبان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطِعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى وليّ إنجازكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. أيها الناس، ما فعلت من شيءٍ فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه أو أقتل دونه، فإن قُتلتُ فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولّوا الدبر لعدوّكم فتبددوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة والذلّة، وما قد أحلّ لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومعيذكم تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غداً بين مَن عرفكم من المسلمين، وها أنا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي " (1). _______ (1) تحفة الأنفس، نقلاً عن: دولة الإسلام في الأندلس (1/ 46 - 47).

نص المقري (ت 1041 هـ) أحمد بن محمد المقري التلمساني في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب

(8) نصّ المقَّرِي (ت 1041 هـ) أحمد بن محمد المقّري التِلمِساني في كتابه نفح الطيب من غُصن الأندلس الرّطيب فلما بلغ طارقاً دنوُّه، قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثّ المسلمين على الجهاد، ورغّبهم، ثم قال: "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللِّئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلاّ سيوفكم، ولا أقوات إلاّ ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوّضت القلوب من رُعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإنّ انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أُحذّركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خُطة أرخص متاع فيها النفوس (إلاّ وأنا) (1) أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلاً، استمتعم بالأرفهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه _______ (1) زيادة عن ابن خلكان.

بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدّر والمرجان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من المؤمنين عُرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مَغْنَمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً لكم في الدارين، واعلموا أني أوّل مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند مُلْتَقى الجمعين حامل على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكتُ بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعْوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلُون" (1). تلك هي ثمانية مصادر معتمدة، سجلت خطبة طارق، ونسبتها إليه، دون أن تشك في نسبتها أو تشكك في نسبتها إلى طارق، وليس كما ادعى قسم من المستشرقين والمستغربين، أن المقّري في: نفح الطيب، هو وحده الذي سجلها: "أقدم مصدر للخطبة، فيما نعلم، كتاب المقّري المتوفي سنة (1041 هـ)، أي بعد أكثر من تسعة قرون من تاريخ الخطبة، وهو زمن أخطر من أن يُستهان به" (2)، إذ تبين لنا أن الذين سجلوها فعلوا ذلك قبل صاحب نفح الطيب بأكثر من تسعمائة سنة ابتداء من سنة (238 هـ) كما ورد في هذه الدراسة. _______ (1) نفح الطيب تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (1/ 225 - 226) - القاهرة - 1367 هـ، وتحقيق الدكتور إحسان عباس (1/ 241 - 242)، بيروت - 1388 هـ. (2) د. أحمد بسام الساعي - خطبة طارق بن زياد هل قالها حقاً؟ (97) - مجلة العربي الكويتية - العدد: 293 جمادى الآخرة 1403 هـ - نيسان (أبريل) 1983 م.

ولا أدّعي أنّني استطعت تسجيل المصادر المعتمدة كافة التي سجلت الخطبة، فهذا ما أتمنى أن يفعله غيري من الباحثين بإذن الله، وقد اعتمدت في تسجيل نصوص الخطبة على باحثين سبقوني، وقد أشرت إلى أسمائهم وأسماء مؤلفاتهم ومقالاتهم ليعود الفضل إلى أصحاب الفضل، وسأعود إلى ذكرهم في الحديث عن المراجع الحديثة التي نسبت الخطبة إلى طارق ودافعت عن هذه النسبة إلى طارق. وقبل أن أختتم الحديث عن الخطبة في المصادر، أريد أن أركِّز على نقطتين: وردت كلمة: (عرباناً) في نص: ابن خلكان، ونص ابن الشباط، ونص المقري، وقد وردت في بعض النسخ بالزاي المعجمة (عُزْبان: جمع عَزَب)، وعلى هذا الوجه ينتفي الشك الذي أثاروه، فقالوا: (لم يكونوا عرباناً، بل كانوا برابرة). وحتى لو بقيت كما هي، فلا تدل على النسب العربي بقدر دلالتها على الفخر بهذا النسب، الذي قصده طارق، بنسبه هؤلاء البربر إلى العرب رفعاً لمعنوياتهم وأقدارهم، باعتبار أن العرب يومئذ هم الدعاة والحماة والخلفاء والقادة والمجاهدون والفاتحون، وكل إنسان يحب أن ينتسب إليهم، ليحظى بهذه المكانة الرفيعة. ومن المدهش حقاً، أن البربر - على الرغم من محاولات الاستعمار الحديث - لا يؤلمهم أن يقال عنهم: إنهم عرب، بل يؤلمهم أن يقال عنهم: إنهم ليسوا عرباً. (1) وهناك أدلة كثيرة على أن العرب والبربر من أرومة واحدة، يلتقون بأنسابهم وأحسابهم بالعرب الأقدمين، وبأمهم الرءوم: جزيرة العرب. (2) وأساليب البلاغة العربية كثيرة، فإذا قال قائد لرجاله: أنتم أسود، تقوية لمعنوياتهم، وحثاً لهم على الثبات، فقد لا يفهم غير العربي مثل هذا التعبير، _______ (1) عقبة بن نافع الفهري (35) بيروت، 1392 هـ. (2) انظر التفاصيل في: عقبة بن نافع (23 - 53).

لأنه لا يفهم العربية، أما ألاّ يفهم العربي مثل هذا التعبير، فالأمر مختلف جداً. وكذلك بالنسبة لتعبير: (عرباناً) التي وردت في خطبة طارق، فإذا عجز غير العربي عن فهم هذا التعبير كما ينبغي، وفهمه بمعناه اللّفظي لا بمعناه المجازي، فله ما يسوّغ هذا العجز عن الفهم، أما العربي، فلا مسوّغ له بمتابعة من لم يفهم، وهو الذين يجب أن يفهم. ومع ذلك، فإن الذين لم يفهموا هذا التعبير أو فهموه، قد بالغوا كثيراً في استنتاج أن الخطبة ليست لطارق، استناداً على كلمة: (عرباناً)، فليس من السهل ردّ الحقائق بالظنون. وإذا كان فتح المسلمين، لبلد من بلاد النصارى، كبلاد الأندلس مثلاً، وبقاؤهم فيه قروناً طويلة - كما هو معروف - حافزاً للمستشرقين من غير المسلمين على تصيُّد ما يستطيعون، به الشك والتشكيك في تاريخ الفتح الأندلسي وتاريخ المسلمين في الأندلس، فما الحافز للمسلمين في تقليد الشاكِّين والمشكِّكين؟؟ ومن غير المعقول أن نطبِّق الأفكار الشائعة في هذا القرن حول التفرقة بين الأقوام، على القرن الهجري الأول، الذي ساد فيه الإخاء الإسلامي، وأصبح التفاضل بين الأفراد بالتقوى لا بالنسب فلا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى، فما أراد طارق بتعبير: (عرباناً) نسباً، بل أراد غير ذلك، وعلى الباحث دراسته كما كان لا كما يريده أن يكون، ليستخلص الواقع ويبتعد عن الخيال. تلك هي النقطة الأولى. أما النقطة الثانية، فهي أن أسس خطاب طارق واحدة في النصوص الثمانية التي سجلتها المصادر المعتمدة الثمانية، ولكنّها تختلف في بعض الكلمات وبعض التعابير بما لا يمسّ بأسس معاني الخطاب، كما تختلف في حجم الخطاب طولاً وقصراً، والظاهر أن قسماً من المؤلفين سجّلوه حرفياً دون أن يختصروا منه شيئاً، وقسماً منهم سجّلوا أبرز ما ورد في الخطاب من

(ب). في المراجع:

جُمل، وحذفوا ما بقي منه، وبخاصة الجمل ذات المعاني العامة الشائعة التي يكثر ترديدها في الخطب والمواعظ وغيرها، أي أنهم أبقوا من الخطاب ما ورد فيه من معاني خاصة يتميّز بها عن الخطب الأخرى، وحذفوا ما ورد فيه من معان عامة تتكرر في الخطب وفي المواعظ وعلى ألسنة الناس. إن النصوص المسجلة للخطبة مختصرة ومطوّلة، تتفق بالمعاني الخاصة التي يتميز بها خطاب طارق عن سائر الخطب، ولكنها تختلف في المباني إيجازاً وتفصيلاً، والمعاني أهم من المباني، واتفاق المصادر على المعاني، دليل جديد على أنها لطارق لا لغيره من الناس. (ب). في المراجع: لا يمكن ذكر جميع المصادر التي أيّدت نسبة خطبة طارق إليه، فهي كثيرة جداً، فلا بأس من ذكر قسم منها، وبخاصة التي اطلعت عليها وذكرتها في هذا البحث. فقد جزم الأستاذ عبد الله كنون من جملة انطباع البربر بالطابع العربي البحت، وأيَّد نسبة الخطبة إلى طارق، في كتابه: النبوغ المغربي. (1) كما أيّد الدكتور عبد السلام الهرّاس نسبة الخطبة إلى طارق، في مقالين اطلعت عليهما (2)، كما نشر بحثاً في القاهرة لم أطلع عليه، وحماسة الهراس وغيرته مما يُحمد عليه. كما نشر الأستاذ عبد العزيز الساوري مقالاً، أيّد فيه نسبة الخطبة إلى طارق، وأضاف مصدراً جديداً سجل الخطبة هو كتاب: صلة السمط لابن الشباط (3). كما نشر الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي بحثاً عنوانه: فتح العرب للأندلس، _______ (1) النبوغ المغربي (1/ 22 - 23). (2) دعوة الحق - العدد الخامس - السنة الحادية عشرة، والعدد (228). (3) دعوة الحق - العدد: 225 ص: 100 - 101.

أيّد فيه نسبة الخطبة إلى طارق بن زياد (1). تلك أمثلة على مَن أيّد نسبة خطبة طارق إليه، إما بتدوينها في سير أحداث الفتح، أو في مناقشة الرافضين الاعتراف بنسبة تلك الخطبة إلى طارق، وهي عبارة عن البحوث التي اطلعت عليها، ومن المؤكد أن الدراسات والبحوث التي لم أطلع عليها، أكثر بكثير من البحوث والدرسات التي اطلعت عليها، ومن المفيد أن يتم الاطلاع عليها والتنويه بها. ويمكن أن نتبين، أن رفض الخطبة ارتفع مده في النصف الأخير من القرن الرابع عشر الهجري والنصف الأول من القرن العشرين الميلادي، حتى تكاثر الرافضون وأصبح الرفض أمرأ مسلّماً به في الدراسات الأندلسية، وانقسم الرافضون إلى قسمين: قسم يصرح برفضه، وقسم يغفل الخطبة إغفالاً كاملاً، فلا يذكرها في دراسته ولا يشير إليها، كأن رفضها حقيقة لا غبار عليها، يخجل الباحث من الاعتراض على الرفض، أو من التطرّق إلى الخطبة من قريب أو بعيد. وللتاريخ أذكر، أن أول من رفض الرّفض وردّ عليه، هو الأستاذ عبد الله كنون، في كتابه: النبوغ المغربي، ثم توالت الردود في نماذج تطرقنا إلى ما اطّلعنا عليه، واستفدنا منه في هذه الدراسة. واليوم أصبح هناك مَن لا يخجل من رفض الرفض والرد عليه، بل أصبح هناك مَن يخجل من السكوت عن رفض الرفض والنهوض بأعبائه، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وظهرت الدراسات التي تؤكد نسبة خطبة طارق إليه، داحضة حجج الرافضين، وهذه الدراسات هي أول الغيث ثمّ ينهمر بإذن الله، فلا يقتصر على خطبة طارق، بل يشمل كل ما شك فيه المؤلفون الأجانب وعلى رأسهم المستشرقون وشككوا فيه بدون حق ولأسباب بعيدة عن المنهج العلمي قريبة _______ (1) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - العدد الثاني - السنة العاشرة - رمضان 1397 هـ - آب وأيلول (أغسطس - سبتمبر) 1977 م (43 - 67) - مكة 1397 هـ.

ب - حرق السفن

من التعصب الديني على الإسلام والمسلمين، وعلى الواقع والتاريخ. ب - حرق السُّفن: ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي: (نزهة المشتاق)، عند الكلام على جغرافية الأندلس، أن طارقاً أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس (1)، وقد نقلت بعض المصادر والمراجع المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجّح، وفيما عدا ذلك فإن جميع المصادر العربية والإسلامية، تمرّ عليها بالصمت المطلق. (2) وقد يقال، إن في خطاب طارق ما يؤيّد صحّة هذه الرواية، فطارق يستهلّه بقوله: (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر)، وفي ذلك ما يمكن أن يفسّر أن الجيش الإسلامي الفاتح، قد جُرِّد من السفن التي حملته من سبتة إلى الأندلس. وتفسير أقوال طارق هذه، هو أن السفن ليست ملكاً للفاتحين ولا تحت تصرفهم في جميع الأوقات، وأنها عادت إلى صاحبها يُليان، ولم تبق على الساحل الأندلسي، جاهزة لتأمين انسحاب الفاتحين من الأندلس إلى الساحل الأفريقي. إن يليان هو الذي قدم السفن لنقل الفاتحين إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقيادة طريف بن مالك. وهو الذي قدّم السفن إلى الفاتحين بقيادة طارق، وهي ليست ملكاً للمسلمين ليُقدم طارق على حرقها، بل هي ملك صاحبها يليان، فإذا التحقت به بعد إنجاز واجبها في حمل الفاتحين إلى البر الأندلسي، وبعد إكمال إنزال الفاتحين من تلك السفن إلى البر الأندلسي، فلا تبقى سفن على الساحل الأندلسي يركن إليها المسلمون في _______ (1) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (178) - طبع رومة. (2) دولة الإسلام في الأندلس (48).

انسحابهم من الأندلس إلى الساحل الأفريقي، كما لا يبقى مسوِّغ لإحراق تلك السفن. كما أن طارقاً ومن معه من مجاهدين، جاءوا إلى الأندلس، للجهاد من أجل عقيدة، وكانوا مستعدين للشهادة من أجل عقيدتهم، فلا مسوِّغ لإحراق السفن من أجل وضعهم وجهاً لوجه أمام الدّفاع عن أرواحهم، فما كانوا بحاجة إلى من يضعهم هذا الموضع الحرج، لأن أرواحهم لم تكن في حال من الأحوال أغلى عليهم من عقيدتهم، وما أنجزوه قبل عبورهم إلى الأندلس وبعد عبورهم إليها خير دليل على استقتالهم من أجل قلوبهم لا من أجل جيوبهم، ومن أجل عقيدتهم لا من أجل أرواحهم. والواقع أن الإقدام على حرق سفن العبور، يصعب تصديقه ويصعب مجرد التصور أن طارقاً يمكن أن يفعله، فإذا كانت تلك السفن لُيليان، كما هو معروف، فليس من حق طارق إحراقها، وإذا كانت للمسلمين فليس حرقها عملاً عسكرياً سليماً، إذ يخالف مبدأ الاقتصاد بالقوة، أحد مبادئ الحرب المهمة، ولا يتفق مع المنطق والعقل. لذلك لم تُشر المصادر الأندلسية العربية الأولى، إلى قصة إحراق السفن، والمصادر التي ذكرت تلك القصة نقلتها عن الشريف الإدريسي وكذلك المراجع (1)، ومنها المصادر والمراجع النصرانية، وبخاصة المصادر الإسبانية والمراجع، وقد تأثر بتلك القصة قسم من قادة الأسبان، فقلّدوا تلك القصة عملياً في قسم من عملياتهم العسكرية (2). _______ (1) صفة الأندلس (من نزهة المشتاق) للإدريسي (177) وتاريخ الأندلس (46) والروض المعطار (75) ونفح الطيب (1/ 258) والحلل السندسية (1/ 82)، وانظر: دولة الإسلام في الأندلس (48 - 49). (2) يقدم لنا تاريخ إسبانيا الحديث مثلاً للمحتلّ الذي حرق سفنه التي عبر عليها جيشه، لكي يقطع على جنده كلّ تفكير في الانسحاب والرّجعة. فقد أحرق القائد المكتشف الإسباني هرناندو كورتيث الذي احتلّ المكسيك سفنه، حينما أشرف على شواطئ المكسيك مستكشفاً فاتحاً في سنة 1519 م، تلك السّفن التي حملت جيشه من أسبانيا =

5 - سير المعركة الحاسمة معركة وادي برباط أو وادي لكه

وعلى كل حال، فقصة إحراق طارق للسفن لا سبيل إلى تصديقها، لأنها تناقض حماسة المجاهدين يومئذ الذين لا يحتاجون إلى حوافز جديدة للاستقتال، ولأن السفن لم تكن ملكاً للمسلمين بل ملكاً لغيرهم، ولأن هذه القصة دوّنت لأول مرة في القرن الخامس الهجري، أي بعد فتح الأندلس بأكثر من ثلاثة قرون صُنِّفت خلالها كثير من المصادر الأندلسية المعتمدة، دون أن تشير إلى هذه القصة أو تتطرق إلى ذكرها، كما لم تؤيدها أية رواية إسلامية أخرى قبل رواية الإدريسي لها. 5 - سير المعركة الحاسمة معركة وادي بَرْباط أو وادي لَكُّهْ أ - قوّات الطرفين: أولاً: المسلمون: اثنا عشر ألفاً (1)، انضم إليهم يليان في قوة صغيرة من أصحابه وأتباعه (2). ولا يزال مدى مشاركة يليان في فتح الأندلس موضع اختلاف بين المؤرخين، وهناك أدلّة تشير إلى أن مهمّته كانت مساعدة الفاتحين وإعطاء توجيهات عامة لهم في أثناء العبور، وكان أيضاً عيناً لهم على الأعداء (3). ولكن بعد هزيمة القوط، ترك يليان الجزيرة الخضراء إلى إسْتِجَة (4) ( Ecija) وقرر أن يبدي مساعدة أكبر لطارق، بتزويد الفاتحين بأدلاّء من رجاله، لإنجاز افتتاح _______ = إلى المكسيك. ومن المعقول أن يكون هذا القائد الإسباني قد تأثر في عمله بالعمل الذي ينسب إلى طارق بن زياد فاتح الأندلس، أنظر دولة الإسلام في الأندلس (49) في الهامش (1). (1) نفح الطيب (1/ 239). (2) دولة الإسلام في الأندلس (42). (3) فتوح مصر والمغرب (206) والرازي (98 - 99) وأخبار مجموعة (7) وابن الأثير (4/ 562) والنويري (22/ 27). (4) إستجة: إسم كورة بالأندلس متّصلة بأعمال (رية) بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متصلة بأعمال قرطبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 224).

ثانيا. القوط:

الأندلس (1). وأرى أن يليان لم يرسل جنوده ليقاتلوا، إذ لا يستعين المسلمون بغير المسلمين في القتال، وإنما كانت معاونة يليان وتعاونه للمسلمين في إبداء الرأي والمشورة، وتقديم الأدلاّء، وتأمين العيون لنقل الأخبار من القوط إلى المسلمين، والمعاونة في القضايا الإدارية كتقديم السفن للعبور، أما مباشرة القتال في ساحة القتال، فقد اقتصر على المسلمين حسب - وما يقال عن يليان ورجاله، يقال عن أعداء لذريق من القوط النصارى الذين التحقوا بالمسلمين قبل بدأ القتال في المعركة الحاسمة، فلم يباشروا القتال مع المسلمين أيضاً، للمحاذير التي ذكرناها. ثانياً. القوط: اجتمع يومئذ للقوط جيش تعداده مائة ألف مقاتل (2)، وأقل تقدير له أربعون ألفاً (3)، ولا يمكن معرفة تعداد جيش القوط اليوم بالضبط، فهو على كل حال يين هذين التعدادين، أي نحو سبعين ألفاً، كما جرى تقديره في بعض المصادر العربية المعتمدة (4). على الميمنة ششبرت ابن أخيكا، وعلى الميسرة أبة بن أخيكا، وعلى القلب لذريق، وهو القائد العام والملك. وقد اعتصم القوط في ساعة الخطر بالاتحاد، فاستطاع لذريق أن يجمع حوله معظم الأمراء والأشراف والأساقفة، وحشد هؤلاء رجالهم وأتباعهم _______ (1) الإحاطة (1/ 100) وأخبار مجموعة (106) والبيان المغرب (2/ 9) ونفح الطيب (1/ 260). (2) ابن الأثير (4/ 214) ونفح الطيب (1/ 120)، ويقدِّره في مكان آخر بسبعين ألفاً، أنظر نفح الطيب (1/ 233)، ويأخذ جيبون بهذه الرواية، فيقدّره بتسعين ألفاً أو مائة اْلف (الفصل الحادي والخمسون). (3) ابن خلدون (4/ 117) ونفح الطيب (1/ 233). (4) نفح الطيب (1/ 112).

ب - التوقيت:

ومَن يلوذ بهم، كما استعان بأفراد العائلة المالكة السابقة في قياداته، لتوحيد الجبهة الداخلية، وإذابة الخلافات المحلية، وحشد جهود القوط كافة وطاقاتهم المادية والمعنوية لحرب المسلمين. ب - التوقيت: تلاقى المسلمون والقوط يوم الأحد لليلتين بَقِيَتا من شهر رمضان، واتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خَلَوْن من شهر شوال بعد تتمة ثمانية أيام (1)، أي كان لقاء الجيشين المتحاربين في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين الهجرية (19 تموز (يوليو) سنة 711 م) واستمر ثمانية أيام فقط إلى اليوم الخامس من شوال سنة اثنتين وتسعين الهجرية (26 تموز (يوليو) 711 م). أي أنها بدأت وانتهت خلال ثمانية أيام فقط (28 رمضان - 5 شوال 92 هـ (2) =19 - 26 تموز 711 م) (3). ج - ميدان القتال: كان ميدان القتال في كورة شَذُوْنة ( Sidonia) جنوب غربي إسبانيا (4) في سهل (الحدود) الفرنتيرة ( Frontera) جنوب بحيرة الخندق ( Janda) ونهر بَرْباط ( Barbate) المتصلة به. وقد تُعرف أحياناً معركة وادي برباط في الرواية الإسلامية بمعركة وادي بكة أو لِّكُّهْ ( Guadalete) لعله مأخوذ من ( Lago) وهو _______ (1) نفح الطيب (1/ 259) وتاريخ الأندلس (135). (2) تجمع الرواية الإسلامية تقريباً، أن المعركة كانت في ذلك التاريخ، ولكن ابن حيان مؤرخ الأندلس يقول: إنها كانت في السابع من ربيع الأول سنة 92 هـ، انظر نفح الطيب عن ابن حيان (1/ 116)، ولعله ينفرد بهذا الخلاف، أنظر دولة الإسلام في الأندلس (44). (3) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (168). (4) تاريخ الأندلس (135 - 136) نص ابن الشباط، ونفح الطيب (1/ 258). (5) الروض المعطار (169 - 193) ونفح الطيب (1/ 249 و 258) ودولة الإسلام في الأندلس (1/ 42 - 44).

البحيرة، أي: بحيرة الخندق (1)، فأصبحت البحيرة علماً على المكان (2). أما وادي لَكُّهْ ( Guadalete) المعروف في الجغرافية الإسبانية الحديثة، فيقع إلى الشمال منه، ويصب في خليج مدينة قادس (3) ( Cadiz) ويصب نهر برباط في المحيط الأطلسي عند طَرَف الأَغَر ( Trafalgar) (4) . وغير بعيد أن يكون اسم وادي لَكُّهْ في الرواية الإسلامية، لم يُقصد به وادي بَرْباط - ولو أحياناً - بل قُصد به أصلاً وادي لَكّهْ ( Guadalete) كما هو معروف اليوم، الذي يصب في المحيط عند قادس، ويقترب أحد فروعه من ميدان المعركة الواسع أو كان شاملاً له، وجَعْل هذا الوادي: وادي لَكُّهْ ضمن شَذُوْنَة ( Sidonia) (5) التي كانت مدينتها شَذُونة ميداناً لمعركة البرباط: (وبها كانت الهزيمة على لذويق) (6)، يزيل اللّبس. وعلى ذلك فلا وجود لاشتباه أو خلط أو تغليب في تسمية الرواية الإسلامية لوادي لَكُّهْ، وعندها تنصرف التسميات المتعلقة بهذه المعركة إلى مسمياتها الأصلية (7). وهناك دراسات حديثة عديدة بشأن: ميدان القتال، الذي حدثت فيه المعركة الحاسمة بين لذريق وطارق، فيرى أحد المستشرقين حدوث معركتين: الأولى وقعت قرب مدينة شَذونة، بين جبل رتين ( Serra del Retin) وبحيرة الخندق ( Lago de la Janda) وحدثت الثانية عندما هرب لذريق نحو _______ (1) فرحة الأنفس - ابن غالب - مجلة معهد المخطوطات العربية (1/ 1/ 294) والحلة السيراء لابن الأبار (2/ 333) وأخبار مجموعة (7). و Levi - Provençal و Histoire de l'Espagne Musulmane, 1,21 (2) نفح الطيب (1/ 257 - 258) قارن نصوص عن الأندلس ابن العذري (118 و 119). (3) قادس: جزيرة في غربي الأندلس، تقارب أعمال شذونة، طولها اثنا عشر ميلاً قريبة من البر، بينها وبين البر خليج صغير، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 4 - 5). (4) التاريخ الأندلسي (56). (5) تاريخ الأندلس (134) نص ابن الشباط. (6) تاريخ الأندلس (135). (7) التاريخ الأندلسي (56 - 57).

الشمال، وحارب المسلمين قرب ( Segayuela) (1) ، ويتفق معه مستشرق آخر (2)، بينما يعارض مستشرق ثالث ما ذهب إليه هذان المستشرقان (3)، ويؤيده مستشرق رابع الذي يتفق مع المؤرخين العرب على أنه كانت هناك معركة واحدة كبيرة فقط بين المسلمين والقوط، وهي التي حدثت قرب ضفاف نهر وادي لَكُّهْ في كورة شَذونَة، وأن لذريق هزم وقتل قرب هذا النهر (4). وقد ذهب بعض المؤرخين المستشرقين، بعيداً في تحديدهم لميدان القتال، فيفترض أحدهم أن المعركة حدثت قرب نهر ( Sangonera) الذي يسمى أيضاً بوادي الطين، وهو ( Guadalentin) أو ( Gudatin) وهو فرع من نهر شقورة ( Seguar) في محافظة مُرْسِيَة (5) شرقي إسبانيا (6). وعلى كل حال، فإن دراسات المستشرقين الحديثة، لم تأت بجديد، وأقربها للصواب هي التي اتفقت مع المؤرخين العرب في مصادرهم المعتمدة، التي ذكرت أن ميدان القتال جرى على وادي برباط على مقربة من شذونة (7). أما التي اختلفت مع تلك المصادر، فلم تأت بشىء يُطمئنّ إليه، وتاهت في غمرات التيه دون أن تأتي بجديد. _______ (1) Saavedra,pp.68-69,99-101، وانظر الرازي - نشر سافيدرا (154) و Alfonso, 111, p.612 (2) F. Simonet, op. 20-21. (3) Provençal, Vol.7.PP.20-21 , 25. (4) C. Sanchez - Albornoz, "Otra Vez Guadalete Y Covadonga," Cuadernoz de Historia de Espana, 1-11, 1944,pp.12,42,56,58,67. (5) مرسية: " مدينة تقع بالأندلس من أعمال تُدمير، انظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 24 - 25). (6) انظر أحمد مختار العبادي - نصان جديدان - مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد - العدد الثالث عشر 1965 - 1966 م ص: 28 - 40. (7) انظر نفح الطيب (1/ 257 - 258) وتاريخ الأندلس (135 - 136) نص ابن الشباط والروض المعطار (169 و 193).

د - سير القتال:

د - سير القتال: فرّق نهر بَرْباط بين الجيشين المتحاربين مدى أيام ثلاثة، شُغلت بالمناوشات البسيطة بين الجيشين، وقد كان جيش القوط في الضفة الشمالية من النهر، وكان طارق في الضفة الجنوبية منه. وفي اليوم الرابع التحم الجيشان، ونشبت بينها معركة عارمة. وظهر لذريق في وسط الميدان في حلل ملوكية، فوق عرش تجرّه الخيول المطهّمة، وهو منظر أثار سخرية جيبون (1) ولاذع تهكّمه، إذ يقول عنه: "ولقد يخجل ألاريك (مؤسس دولة القوط) عند رؤية خلفه لذريق، متوّجاً باللآلى، متَّشِحاً بالحرير والذهب، مضطجعاً في هودج من العاج" (2). وأظهر البربر المسلمون من غُمارة قدرة عظيمة على القتال، فقد كانوا من المختارين من بين أفراد تلك القبيلة المعروفين بالإقدام والشجاعة، ومن المدرّبين على التّعابي العسكرية أحسن تدريب. وكان طارق قد قدّم نفراً من السُّودان (3) أمام جيشه، ليتلقوا بما عُرف عنهم من الصبر والثبات الصدمة _______ (1) جيبون: أدورد جيبون (1737 - 1794 م)، مؤرخ إنجليزي قضى طفولة سقيمة، ولم يدرس دراسة منظّمة، ولكنه كان نهماً في قراءاته. تعلّم بأكسفورد ولوزان قام بزيارة لروما أمدّته بفكرة تأليف كتابه الضخم الخالد: (تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) الذي ظهر في ستة مجلدات (1776 - 1783)، فحظي على الفور بالثناء والانتشار. كان شكل جيبون غير الوسيم مثاراً للسخرية بين الأوساط العالية التي غشيها. قابل بالسخط والاستنكار الثورة الأمريكية، ولكنه أظهر رضاءه عن الثورة الفرنسية التي خضبت أديم فرنسا بالدماء الغزيرة، انظر الموسوعة العربية الميسرة (675). (2) تشير معظم الروايات الإسلامية إلى هذا المنظر، فيقول الطبري نقلاً عن الواقدي: "فزحف الأدرينوق في سرير الملك، وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلّة التي كان يلبسها الملوك"، انظر الطبري (6/ 468) ونفح الطيب (1/ 112) والبيان المغرب (2/ 9). (3) لم يذكر هؤلاء السود من المؤرخين المحدثين إلا سافدرا الإسباني، مع أنهم قاموا =

الأولى من الجيش القوطي، التي تكون عادة صدمة مدبّرة تؤثر في المعنويات للمتقاتلين، فترتفع معنويات المنتصر، وتنهار معنويات المنكسر. وأظهر فرسان القوط قدرة قتالية عظيمة في أوائل المعركة، وثبتوا لضغط العرب والبربر والسُّودان المسلمين ثباتاً عظيماً، وكبّدوا المسلمين خسائر بالأرواح كبيرة. وكان قوّاد الفرسان من القوط، أعداء لذريق، غاضبين عليه وناقمين منه، وكان يليان ورجاله نشطين طوال المعركة في تخذيل الناس عن لذريق وصرفهم عنه، وكانوا يؤكِّدون للذين حول لذريق أن المسلمين لم يُقبلوا إلى هذه البلاد للفتح والاستقرار، بل للقضاء على لذريق والظّفر بالغنائم، وأنهم إن خذلوا لذريق اليوم صفت لهم بعد ذلك. ولم يلبث أثر هذا الكلام أن ظهر بين رجال لذريق، وكان كثير منهم كارهاً له ناقماً عليه، فلم يلبث فرسانه وهم خيرة جنده، أن خرجوا من المعركة وتركوه لمصيره (1). واستمرت المعركة هائلة مضطرمة بين الجانبين أربعة أيام، ثم انهزم القوط وقُتل منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبّسة بالأرض. (2) _______ = بدور خطير جداً في الفتح. Saavedra. op. cit.P.71 (1) تجمع المصادر العربية على ذلك، وتؤكد أنّ خيانة لذريق وسط المعركة، إنما وقعت بناء على تدبير سابق محكم بين آل غيطشة والمسلمين: وقد ناقش سافدرا هذا الموضوع، وانتهى إلى أنّ الذي قام بترتيب المؤامرة كانا أخوي غيطشة: شيشبرت بن أخيكا، وأبة بن أخيكا، وكان أحدهما على خيل لذريق في هذه المعركة. وقد تعجّب سافدرا من أنّ لذريق يعهد في أمر مهم كهذا لواحد من أعدائه، ولكن فاته أن بعض المصادر العربية تذكر أنّ لذريق سعى في الصلح مع آل غيطشة قبل المعركة الحاسمة، وهذا واضح من قول ابن القوطية "فلما دخل طارق بن زياد الأندلس أيام الوليد بن عبد الملك، كتب لذريق إلى أولاد الملك غيطشة - وقد ترعرعوا وركبوا الخيل - يدعوهم إلى مناصرته وأن تكون أيديهم واحدة على عدوِّهم ... "، ابن القوطية- افتتاح الأندلس (2 - 3)، وانظر الهامش (1) من كتاب فجر الأندلس (74). (2) المقري برواية الرازي (1/ 121).

ويقال: إن انتصار طارق كان بسبب تعرّض لذريق للخيانة، وتذكر الحوليات اللآتينية، أن المسلمين عبروا إلى الأندلس، وهزموا الجيش القوطي بسبب خيانة أولاد غيطشة (1). وتشير بعض المصادر العربية أيضاً إلى أن مباحثات جرت في طنجة قُبيل الفتح بين طارق بن زياد وأحد أولاد غيطشة (2). بينما يقول آخرون إن هذه المباحثات جرت قُبيل بدء المعركة بوقت قصير، عندما أصبح طارق فعلاً في إسبانيا، فعرض أولاد غيطشة، أن يتخلوا عن لذريق، ويؤيّدوا طارقاً برجالهم، شريطة أن يضمن لهم كل ممتلكات والدهم التي تبلغ ثلاثة آلاف ضيعة، وهي التي سُميت فيما بعد بصفايا الملوك، وذلك بعد أن يُخضع إسبانيا جميعها للمسلمين (3). وقد أورد مؤرخون عرب آخرون، تفسيرات أكثر احتمالاً وواقعية، بشأن هذه المسألة، ولا تعرض مصادرهم لأية مباحثات بين طارق وأولاد غيطشة. ويقتصر الأمر على أن أولاد غيطشة وبعض نبلاء القوط، قرّروا التخلي عن لذريق في ساحة المعركة. لأنهم اعتقدوا أن المسلمين لا ينوون الاستقرار في البلاد، بل إنهم جاءوا من أجل الغنائم، وبعد أن يندحر لذريق، فإن العرش سيعود إلى أصحابه الشرعيين، أي أولاد غيطشة (4). وقد كان الجيش القوطي نفسه مؤلفاً في معظمه من العبيد المجندين (5)، وهم من المرتزقة المضطرين على القتال اضطراراً، إذ لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل، فهم يقاتلون بقدر خشيتهم لأسيادهم، وبقدر ما تدرّ عليهم مهنتهم من مكاسب مادية، قد لا تُسمن ولا تغني من جوع في أغلب الأحيان. _______ (1) Alfonso 111.p.612 و Chronicon Albeldense,p.193 (2) البيان المغرب (2/ 6). (3) افتتاح الأندلس (5) والروض المعطار (9 - 10) ونفح الطيب (1/ 258). (4) أخبار مجموعة (7 - 8) فتح الأندلس (6 - 7) وابن الأثير (4/ 563) وابن الشباط برواية عريب (106 - 107) والنويري (22/ 27) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 231 - 232 و 257 - 258). (5) Thompson.pp.265-267,cit. LV,V.3.4.7.19

ويبدو أنه لم يكن هناك أي أمل في أن يتمكن هذا الجيش القوطي من مقاومة الهجوم الإسلامي، وأن دور أسرة غيطشة في ترجيح كفة المسلمين، قد تعرّض إلى كثير من المبالغة (1). وكانت صفوف الجيش القوطي تتألف من أتباع آل غيطشة وأتباع حلفائهم من الزعماء والأمراء الناقمين على لذريق، والذين تظاهروا بالإخلاص في وقت الخطر، وكلهم يتحيّن الفرصة للإيقاع بالملك المغتصِب لذريق (2)، فكانت الخيانة تمزق جيش القوط شرّ ممزّق. واستمال يليان والأسقف أوباس وهما في صف المسلمين كثيراً من جند القوط، وبثّا بدعايتهما في الصفوف الموالية للذريق كثيراً من عوامل الشقاق والتفرقة، فأخذ كل أمير يسعى في سلامة نفسه (3). وكان ذلك كافياً ليوقع الفوضى في جيش لذريق، فاضطرب نظامه ولاذ مَن بقي منه بالفرار وأسياف المسلمين في أقفيتهم، وقد قتل من القوط في تلك الأيام عدد عظيم، ولم يعثر للذريق على أثر. وتذهب المصادر العربية إلى أنه أراد أن يعبر وادي البرباط على عجل، فغرق فيه، ولم يعثر المسلمون إلاّ على خفّه (4). وتقول بعض الروايات النصرانية، إنه بقي في ميدان القتال حتى قُتل مدافعاً عن عرشه وأُمّته، وتقول بعضها: إنه فرّ عقب الهزيمة على ظهر جواده، ولكنه غرق في مياه النهر. وتميل الروايات الإسلامية إلى تأييد غرقه، وتقول: إن ملك القوط مات غريقاً، وإنهم عثروا على جواده وسرجه الذهبي، ولم يعثروا على إنسان بجثته. وتزعم بعض الروايات النصرانية، أن لذريق استطاع أن يلوذ بالفرار، ولكنه قُتل بعد ذلك، أو انه فرّ إلى بعض الأديار في البرتغال _______ (1) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (169). (2) ابن الأثير (4/ 563) ونفح الطيب (1/ 121) ودوزي (1/ 272). (3) دولة الإسلام في الأندلس (44). (4) لا يقطع ابن عذارى في البيان المغرب بموت لذريق، ويكتفى بقوله: "ولم يعرف للذريق موضع ولا وجدت له جثة، وإنما وجد له خفّ مفضّض، فقالوا: إنّه غرق، وقالوا: إنّه قُتل، والله أعلم"، انظر البيان المغرب (2/ 10) وفجر الأندلس (74).

وترهّب، وعاش متنكراً حيناً من الدهر. وينفرد صاحب كتاب: الإمامة والسياسة، بين المشارقة برواية أخرى، وهي: أن طارقاً ظفر بجثة لذريق، فاحتزّ رأسه، وبعث به إلى موسى بن نُصير، وبعث به موسى بن نصير إلى الخليفة في دمشق، ويتابعه في ذلك مؤلف أندلسي هو صاحب كتاب: تحفة الأنفس (1)، هذا إلى روايات كثيرة. والمرجح من هذه الروايات كلها، أن لذريق فقد حياته في الموقعة التي فقد فيها ملكه، وأنه مات قتيلاً أو غريقاً على الأثر (2). تلك مجمل ما جاء في المصادر والمراجع، حول أهم أسباب انتصار طارق على لذريق، آثرت ذكرها باختصار غير مُخِلّ، مع الإشارة إلى مصادرها ومراجعها، لكي أناقش آراءها، وأُبدي ما أراه حولها. والمتتبِّع لسير القتال في هذه المعركة الحاسمة، يجد أن القتال كان ضارياً بين الجانبين المتحاربين: المسلمين من جهة، والقوط من جهة أخرى. فثبات البربر من غُمارة، وإظهارهم القدرة العظيمة على القتال، دليل على أن زخم القوط في المعركة كان شديداً، ولا يقاتل بهذه الشدّة رجال تنخر بين صفوفهم الإشاعات الضارّة، ويتآمرون على السُّلطة القائمة المتمثلة بِلِذريق ملكاً وقائداً عاماً. وقد أظهر فرسان القوط في اليوم الرابع من المعركة، - بعد أن حمي الوطيس - قدرة قتالية عظيمة، وثبتوا لضغط المسلمين الشديد، ولا يمكن أن يُظهر مثل هذه القدرة متآمر أو مقاتل تعصف بإرادته القتالية الإشاعات _______ (1) الإمامة والسياسة (2/ 75 - 76) وانظر دولة الإسلام في الأندلس (45). (2) يقول ابن الأثير (4/ 214): إنه غرق في نهاية المعركة، ويقول المقري في نفح الطيب (1/ 121): إنّه رمى بنفسه إلى النهر مختاراً، وقد ثقلته الجراح، ويقول ابن الأبار في الحلة السيراء (31) إنهم عثروا على جواده وسرجه الذهبي وإحدى نعليه، وغاب شخصه فما وجد، وهذه هي أيضاً رواية: أخبار مجموعة (6)، أنظر التفاصيل في الفقرة (2) من الهامش في كتاب: دولهْ الإسلام في الأندلس (45).

الضّارة. كما أن تصدّي السُّودان المسلمين البطولي العزوم للقوط، يدلّ على أنّ القوط كانوا يقاتلون في المعركة كما يقاتل الرجال. وكان تعداد جيش المسلمين في هذه المعركة - كما ذكرنا - اثنى عشر ألف مجاهد، استشُهد منهم في المعركة ثلاث آلاف مجاهد، أي أنّ خمسة وعشرين بالمائة من جيش المسلمين استُشهدوا في هذه المعركة، وهي نسبة عالية جداً، إن دلت على شىءٍ فإنما تدل على شدّة مقاومة القوط في المعركة، وأنهم قاموا بواجبهم في القتال. فقد قسم طارق الغنائم بعد هذه المعركة على تسعة آلاف من المسلمين (1)، أي أن هؤلاء هم الذين سلموا، وقُتل الباقون. أما التركيز على إشاعة أن المسلمين جاءوا من أجل الغنائم إلى الأندلس وليس من أجل الفتح، فهم قدموا ليرحلوا ولم يأتوا ليبقوا، فمن الصعب تصديقها، لأن ورثة غيطشة اشترطوا أن يستعيدوا قراهم وضياعهم بعد الفتح، فلماذا يشترطون مثل هذا الشرط على المسلمين، إذا كان المسلمون سيعودون بالغنائم إلى قواعدهم في الساحل الأفريقي، ويعود العرش وملك الأندلس إلى ورثة غيطشة الشرعيين؟! ثم إن المسلمين قدموا إفريقية من أمد طويل، بدأ قبل سبعين سنة (أي سنة 22 هـ) ولم يرحلوا عنها، بل توسّعوا في فتوحهم بالتدريج، فلماذا يرحلون عن الأندلس بعد فتحها؟ ومن الواضح أن أخبار المسلمين في شمالي إفريقية، كانت معروفة لدى حكّام الأندلس بخاصة، وأهل الأندلس بعامة، فهم لا يمكن أن يتقبلوا بسهولة الإشاعة التي تزعم: أن المسلمين جاءوا ليرحلوا لا ليبقوا. ومع ذلك، فيمكن أن يعتذر بمثل هذه الإشاعة الهارب، عن جريمة هربه من المعركة، مع الادِّعاء بأنّ هربه كان نكاية بالملك لذريق وانتصاراً لآل _______ (1) نفح الطيب (1/ 163)، وانظر فجر الأندلس (75).

غيطشة والناقمين عليه من النبلاء، وإرضاءً للمسلمين المنتصرين. وإذا كان قادة فرسان القوط، قد خرجوا من المعركة بمن معهم من الفرسان - وهم خيرة جند لذريق - وتركوه لمصيره، فمن أين غنم المسلمون الخيل؟ لقد غنم المسلمون خيلاً كثيرة، حتى لم يبق منهم راجل، فمن أين غنم المسلمون هذا العدد الضخم من الخيول، إذا كان الفرسان القوط قد انسحبوا من المعركة بالتواطئ مع المسلمين؟ وهل يمكن أن يغنم المسلمون خيول مَن تواطأوا معهم على نصرتهم؟ وقد قتل في المعركة شيشبرت أخو غيطشة، وكان أبرز قادة فرسان القوط، فكيف قُتل وهو قد تخلى عن لذريق طمعاً في الغنيمة والسّلامة؟! ومع ذلك، فلا يمكن إنكار أن آل غيطشة ومَن يشايعهم من النبلاء، كانوا ناقمين على لذريق الذي اغتصب عرش غيطشة، فهم يطمعون أن يستعيدوا عرشهم بزوال لذريق، وبرحيل المسلمين عن الأندلس، وكان رحيل المسلمين عن الأندلس من الأماني التي يتعللون بها ولا يعتقدونها. وقد ورد نص في: أخبار مجموعة، يفيد هذا الاتجاه ويشير إليه: " ..... ومعهم يليان - أي مع المسلمين - في جماعة من أهل البلد، يدلّهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار، فأقبل إليهم رُذريق (لذريق)، ومعه خيار أعاجم الأندلس وأبناء ملوكها، فلما بلغتهم عدّة المسلمين وبصائرهم، تلاقوا بينهم - أي أولاد الملوك - فقال بعضهم لبعض: هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا، وليس من أهله، وإنما كان من سفالنا، وهؤلاء قوم لا حاجة لهم بإيطان بلدنا، إنما يريدون أن يملوا أيديهم، ثم يخرجون عنّا، فانهزم بنا بابن الخبيثة إذا لقينا القوم، فأجمعوا لذلك. وكان رُذريق قد ولّى شيشبرت ميمنته وأبة ميسرته، وهما أبناء غيطشة (1)، الذي كان ملكاً قبله، وهما رأس مَن أدار عليه الانهزام" (2)، فالاتفاق على الهزيمة لم تكن مع _______ (1) هما إخوة غيطشة وليسا ابنيه، كما ذكرنا ذلك من قبل. (2) أخبار مجموعة (7 - 8).

طارق، بل كانت بينهم لا يعرف عنها طارق شيئاً، لذلك اقتتل الطرفان المتحاربان اقتتالاً شديداً (1)، حتى ظنّوا أنه الفناء (2)، فلم تكن بالغرب مقتلة أعظم منها (3)، واستمرت المعركة ثمانية أيام، ولا يمكن أن تستمر معركة من المعارك ثمانية أيام، وهي مدّة طويلة جداً بمقاييس ذلك الزمن، إلاّ إذا كانت المعركة ضارية إلى أقصى الحدود، وإلاّ إذا كان الجانبان المتحاربان قد بذلا جهوداً قتالية جبارة في المعركة: "فالتقيا يوم الأحد، وصدق المسلمون القتال، وحملوا حملة رجل واحد على المشركين، فخذلهم الله وزلزل أقدامهم، وتبعهم المسلمون بالقتل والأسر، ولم يعرف لملكهم لذريق خبر، ولا بانَ له أثر، فقيل: إنه ترجّل وأراد أن يستتر في شاطئ الوادي، فصادف غديراً فغرق فيه فمات" (4). في حين تذكر بعض المصادر، أن لذريق فرّ من الميدان، والتقى بالمسلمين في معركة أخرى، شمالي الأندلس، فقتل فيها (5)، لكن هذا الرأي ضعيف لا تدعمه الأدلة والمصادر المعتمدة الأخرى. يمكن أن نستنتج، بعد عرض ما جاء في المصادر والمراجع العربية وغير العربيّة، ومناقشة ما جاء فيها من معلومات، أنّ المعركة الحاسمة بين المسلمين بقيادة طارق، والقوط بقيادة لذريق، قد بذل خلالها الجانبان المتحاربان أقصى جهودهما المادية والمعنوية لإحراز النصر، وقد شُغل الجانبان بالمناوشات الاستطلاعية لمدة ثلاثة أيام، وفى اليوم الرابع حمي الوطيس بين الجانبين، واستمرت المعركة شديدة عارمة أربعة أيام، تكبّدت _______ (1) أخبار مجموعة (8) والبيان المغرب (7). (2) البيان المغرب (7). (3) البيان المغرب (7). (4) تاريخ الأندلس (48) و (135)، والبيان المغرب (2/ 7 و 8 و 9) ونفح الطيب (1/ 242 و 249 و 258 - 259). 51) تاريخ الأندلس (29 وما بعدها).

خلالها الجانبان خسائر فادحة بالأرواح، مما يدل على ثباتهما الرّاسخ العنيد في القتال. وقد ثبت قلب القوط ثباتاً أفضل من ثبات الميمنة والميسرة، ويبدو أن قائدي الميمنة والميسرة اللذين كانا مع لذريق في الظاهر وعليه في الباطن، آثرا الانسحاب في اليوم الرابع من الاصطدام العنيف بين الجانبين، وفي اليوم السابع من حصول التماس المباشر بينهما، فأصبح قلب القوط يقاتل وحده، مما جعل المسلمين يكتسحونه بسهولة، لأن قواتهم ركزت عليه، وكانت من قبل تقاتله وتقاتل الميمنة والميسرة. وقد استطاع آل غيطشة تنفيذ مؤامرتهم على لذريق، بعد أن كبد المسلمون ميمنة القوط وميسرتهم خسائر فادحة، بحيث أوشكت الميمنة والميسرة على الانهيار تحت ضغط قوات المسلمين، إذ لم يكن بالامكان تنفيذ مؤامرتهم قبل أن يكبد المسلمون الميمنة والميسرة خسائر فادحة بالأرواح، لأن لذريق وهو في قوته لا يمكن أن يسكت على المتآمرين، إذ يقابل تآمرهم بالقوة، ويصفي المتآمرين جسدياً قبل أن ينجحوا في تصفيته. ولا أرى، أن آل غيطشة كان لهم صلة بطارق، ولا علم لطارق بمؤامرتهم، إذ لم يثبت أنهم اتصلوا به قبل المعركة أو في أثنائها، فقد كتموا نواياهم، ولم يظهروها لأحد، وإلاّ سهل على لذريق اكتشافها في الوقت المناسب، وسهل عليه وضع حد نهائي لها قبل فوات الأوان. وحين وجد لذريق أن المسلمين، قد أجهزوا على القلب الذي يقوده، لم يكن أمامه إلاّ الهرب تحت ضغط مطاردة عنيفة، فغرق في وادي الوحل أو قتل، والنتيجة واحدة هي أنه لم يبق بعد تلك المعركة الحاسمة على قيد الحياة. وهكذا خسر لذريق، في هذه المعركة جيشه، كما خسر روحه. وقد طارد المسلمون فلول القوط بعد انسحابهم من ميدان المعركة مطاردة عنيفة. فأبادوا من لم يستسلم من القوط، وبذلك جرت معارك محلية بين المسلمين وبين القوط، هي معارك استثمار الفوز، في جنوبي مدينة شَذُوْنَة

وشماليها، فسُمِّيت هذه المعركة الحاسمة بعدّة أسماء مختلفة، هي أسماء تلك المعركة الحاسمة وأسماء تلك المعارك المحليّة: معارك المطاردة، مثل معركة البحيرة، ومعركة وادي بكّه، ومعركة وادي لكه، ومعركة وادي البرباط، ومعركة شريش (1)، ومعركة السّواني، ومعركة السّواقي (2)، فهي معركة شَذُوْنَة بأسرها التي تقع في جنوبي غربي الأندلس (3). ولا مجال لتصديق، أن لذريق هرب بعد هذه المعركة نحو الشمال، واصطدم بالمسلمين بموقعة جديدة (4)، لأن لذريق خسر قوّاته الضاربة في معركة وادي لكّه، ولم تكن لديه قوات احتياطية ليقاتل بها المسلمين، كما أن مطاردة المسلمين بعد المعركة كانت شديدة، بحيث لم يفسحوا المجال لنجاة الهاربين من ساحة القتال وتجمعهم بقيادة واحدة مسئولة، لتجديد القتال مع المسلمين من جديد. وجرى القتال بالنسبة للقوط، بالنظام الخماسي للقتال: المقدمة، والمؤخرة، والميمنة والميسرة، والقلب، وهو نظام أصلح لإجراء الحركة المرنة بسهولة ويسر، وأكفل للثبات بوجه الهجمات، وأمنع لمباغتة العدو. أما المسلمون، وكان أكثرهم من البربر، فقاتلوا بأسلوب: الكر والفر. قال ابن خلدون: "إن الكر والفر هو قتال البربر من أهل المغرب " (5)، ولا يزال البربر يقاتلون بهذا الأسلوب حتى اليوم، في قتالهم غير النظامي، _______ (1) شريش: مدينة كبيرة من كورة شذونة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 260). (2) فتوح مصر والمغرب (9 - 10) وابن القوطية (7) وفتح الأندلس (7) وأخبار مجموعة (206) وابن الأثير (4/ 562) وابن الشباط برواية عريب (106) والبيان المغرب برواية الرازي (8) والنويري (22/ 27) والحميري (169) وابن خلدون (4/ 254) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 249) و (1/ 258). (3) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (168). (4) Saavedra.pp.68-69 - F.Simonet.op.cit.,p.23-29. وانظر الرازي، نشر سافيدرا ص: 154. (5) ابن خلدون (2/ 823).

المرتبط بقياداتهم غير النظامية. أما الذين ارتبطوا بالجيوش الحديثة، فقد أصبحت أساليبهم القتالية أساليب حديثة، أسوة بغيرهم كما هو معروف. وأسلوب الكر والفر، هو أن يهجم المقاتلون بكل قوتهم على العدو: النّشّابة منهم، والذين يقاتلون بالسيوف ويطعنون بالرماح، مشاةً وفرساناً، فإن ثبت لهم العدو أو أحسّوا بالضعف نكصوا، ثم أعادوا تنظيمهم وكرّوا، وهكذا يكرّون ويفرّون حتى يكتب لهم النصر أو الاندحار (1). واستطاع المسلمون إحراز النصر على القوط، بالرغم من تمتع القوط بمزايا عسكرية يتفوقون بها على المسلمين، منها أن تعداد القوط كان ثمانية أضعاف تعداد المسلمين، ومنها أن غالبية جيش القوط كانوا من الفرسان، وكان غالبية جيش المسلمين من المشاة، والفرسان يتفوقون على المشاة بسرعة الحركة وبالتأثير الحاسم في القتال، وكان القوط في حالة إدارية: إعاشةً وكساءً وغطاءً، متميزة على المسلمين الذين كانوا في حالة إدارية متواضعة. كما أن قيادة القوط لم تكن واهنة كما يتوهم قسم من المؤرخين، فقد كان لذريق يهتمّ بالمظاهر الخلاّبة، ولكنه كان طموحاً شجاعاً، كما أنه قائد ميداني، دأب على قيادة رجاله بنفسه، ولم يتخل عن قيادتهم لغيره من قادته المرءوسين. فكان يقود رجاله في حرب الخارجين عليه من الأسبان في الشمال، قبل إنزال المسلمين إلى برّ الأندلس، وقاتل المسلمين بنفسه، كما أنه لم يكن من العائلة المالكة في أسبانيا، فحملته قيادته وثقة الشعب به إلى القضاء على الملك غيطشة وتولى الملك خلفاً له بقيادته لا بنسبه وحسبه، فليس لذريق قائداً متخلّفاً، بل كان قائداً لامعاً بحق، فكانت قيادة القوط قيادة قادرة ذات كفاية عالية، كما كانت قيادة المسلمين كذلك متمثلة بطارق بن زياد. إن انتصار المسلمين على القوط، ليس بسبب تعرض لذريق للخيانة، كما _______ (1) الرسول القائد (104) ط3، وعقبة بن نافع الفهري (50) - ط4.

تردّد ذلك بعض المصادر عن حسن نيّة أو عن سوء نيّة، بقصد إخفاء سبب النصر الحق، فقد انتصر المسلمون بعقيدتهم الراسخة، فكانوا يتميزون على القوط بمعنوياتهم العالية المتميزة، وهذه المعنويات العالية هي التي تجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله. وليس معنى ذلك، أن الجيش القوطي خلا من الخيانة، فقد ظهرت الخيانة بعد اندحار القوط لا حين كانوا أقوياء، وبعد الاندحار تكثر الادّعاءات ويكثر الأدعياء. وقد كان البربر قبل إسلامهم مستعبَدين للروم وللأسبان، فتبدل حالهم بالإسلام من حال إلى حال. وكان سر انتصار المسلمين في معاركهم الحاسمة: في غزوة بدر الكبرى، والقادسية، واليرموك، ونهاوند، هو سر انتصارهم في معركة وادي برباط أو وادي لَكُّهْ، فبالإسلام انتصروا، وقد رفعت تعاليم هذا الدين معنويات المجاهدين قادةً وجنوداً، وبعثت فيهم إرادة القتال التي لا تُقهر. وكان هذا السر وراء فتوحاتهم شرقاً وغرباً، فقضت على الفرُس، وهزمت الرُّوم، وسارت رايات النصر من بلد إلى بلد، فأصبحت بلاد المسلمين لا تغيب عنها الشمس أبداً. وبالإضافة إلى أن هذا الدين رفع المعنويات وبعث إرادة القتال، فقد أعطى الفرصة لظهور القادة المتميزين والجنود المتميزين أيضاً، لتستكمل حلقات عوامل النصر المعنوية والمادية المعروفة، وهي: المعنويات العالية، والقيادة المتميزة، والجنود المتميزين. وكانت تلك الحلقات متوفرة في المسلمين الفاتحين، فقد كان طارق قائداً متميزاً حقاً، برزت سماته القيادية طيلة أيام المعركة الحاسمة، كما برزت في إصراره الشديد على المطاردة المتّصلة التي لا هوادة فيها. كما كان جنود طارق جنوداً متميزين حقّاً، برزت سماتهم القتالية في إدامة التماس بالقوط، وإدامة قتالهم ليلاً ونهاراً بلا كلل ولا ملل، بدون إعطاء فرصة للقوط للاستراحة من عناء القتال، ودون أن يكترثوا

بتصاعد أعداد الشهداء الذين تساقطوا في ميدان القتال، فقد استشهد واحد من كل أربعة، ولابد أن يكون الجرحى أضعاف الشهداء فانتصروا على القوط بالشهداء المقبلِين، وانهزم القوط بالقتلى المدبِرين، وهذا هو الفرق بين الجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية المرتكزة على العقيدة الراسخة، والجيش الذي لا يتحلى بالمعنويات العالية. وكما فتحت معركة القادسية الحاسمة أبواب العراق للمسلمين الفاتحين، وفتحت معركة اليرموك الحاسمة أبواب بلاد الشام لهم، وفتحت معركة نَهاوَند أبواب بلاد فارس، وفتحت معركة بابليون الحاسمة أبواب مصر للفاتحين، فقد فتحت معركة وادي لَكُّهْ الحاسمة أبواب الأندلس للمسلمين الفاتحين، فكانت معارك الفتح التي تلتها معارك ثانوية، لأنها معارك: استثمار الفوز، كما يطلق على أمثال تلك المعارك الثانوية التي تجرى بعد المعركة الحاسمة، معارك: استثمار الفوز، في المصطلحات العسكرية الحديثة، لأن الفاتحين يقاتلون فيها جيوشاً محليّة، تتّسم بصغر حجمها، وقلّة تدريبها، وجمع كثير من جنودها على عجل قسراً وبدون استعداد كافٍ ولا تدريب مناسب، وبضعف قيادتها المحلية، وبانهيار معنويات رجالها. وليس معنى ذلك، أن المقاومة في معارك استثمار الفوز، مقاومة واهنة باستمرار، بل قد تشتد المقاومة أحياناً، كما سنلمس ذلك في معارك فتح الأندلس، التي تلت معركة الفتح الحاسمة، ولكن النصر يكون مضموناً، مهما اشتدت المقاومة وتأخر الفتح أياماً معدودات، ولن يكون ذلك شيئاً مذكوراً إلى جانب النصر المحقق المضمون. وقد فتح طارق شطر الأندلس، وفتح موسى بن نُصير شطر الأندلس، ولكن ينبغي أن يعزى فضل الفتح كله لطارق، لأنه المنتصر في المعركة الحاسمة لفتح الأندلس، وما فتحه طارق، وما فتحه موسى، بعد تلك المعركة الحاسمة، كان من نتائج معارك استثمار الفوز، التي تثمر باستمرار النصر المحقق المضمون.

6 - فتوح طارق قبل عبور موسى بن نصير إلى الأندلس

6 - فتوح طارق قبل عبور موسى بن نُصَيْر إلى الأندلس أ - الموقف العام بعد المعركة الحاسمة: لم تكد أخبار انتصار المسلمين على جيش لذريق في معركة حاسمة على أرض الأندلس، تصل إلى المسلمين في شمالي أفريقية، حتى أقبل المسلمون نحو طارق من كل وجه، وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من مركب وقُشْر (1)، فلحقوا بطارق (2). وفاض البربر على الأندلس، وأخذوا يستقرّون في النواحي المفتوحة. وتضخّم تعداد جيش طارق إلى حدّ يصعب معه تقديره، بعد هذه المعركة الحاسمة، وأسلم الآراء هو القول: بأن جيش المسلمين تضخم تضخّماً عظيماً. ورأى طارق، أنه لن يستطيع التقدم للفتح بمثل هذه الجحافل الضخمة من المجاهدين دفعة واحدة، لصعوبة السيطرة على أرتالها المتزايدة، ولصعوبة تعسكرها في مكان واحد في وقت واحد، ولمشاكل تأمين أرزاقها ومياهها وعلف حيواناتها من مكان واحد في وقت واحد، فآثر أن يفرقهم إلى أرتال صغيرة بقيادات مسئولة، للنهوض بواجبات معينة في الفتح (3). وكان من نتائج انتصار المسلمين على القوط في المعركة الحاسمة، ظهور اضطراب في شئون الأندلس كلها، التي لا تزال تحت سيطرة القوط: "وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع، وتهاربوا من السهل، ولحقوا _______ (1) القشر: في الأصل، السَّمكة قدر شبر، ويراد بها هنا الزورق الصغير. (2) نفح الطيب (1/ 243) وتاريخ الأندلس (48) نص ابن الكردبوس. (3) انظر: فجر الأندلس (75).

ب - فتوح المدن الثانوية:

بالجبال" (1). وحسب حزب غيطشة، أن الفرصة قد سنحت لهم، لإعلان واحد منهم ملكاً مكان الطاغية المهزوم (2)، وفعلاً بذل وَقِلَة (أخيلا) جهداً كبيراً لكي يستصدر من مجلس طليطلة قراراً، باعتباره ملكاً على الأندلس، خلفاً للملك لذريق، ولكن الأمر لم يستقر له، لأن الشائعات كانت تملأ الجو بأن لذريق لم يُقتل ولا يزال حياً يرزق. وعمل حزب غيطشة من جهة أخرى، على تشجيع طارق، للاستمرار في التقدم فاتحاً، حتى يتمّ لهم القضاء على لذريق وأنصاره نهائياً، وما كان طارق بحاجة إلى تشجيع أحد للنهوض بالفتح، فقد سار قدماً في تطبيق خطته العامة لفتح الأندلس. أما يليان، فقد ثبت بقواته في ناحية الجزيرة الخضراء (3). ذلك هو الموقف العام بالنسبة للمسلمين من جهة، وبالنسبة للقوط من جهة أخرى، قبل أن يستثمر المسلمون انتصارهم على القوط في المعركة الحاسمة، لتحقيق أهدافهم في الفتح. ب - فتوح المدن الثانوية: كانت المعركة الحاسمة، وما جرى بعدها من مطاردة طارق للقوط الهاربين، حول مدينة شَذُوْنَة، دون أن يفتح المسلمون هذه المدينة. ويبدو أن أهلها ومَن لاذ بها من القوط الهاربين وحامية المدينة من الجيش القوطي المحلي، قد قرروا الدفاع عن المدينة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وبدأ _______ (1) نفح الطيب (1/ 163) برواية الرازي. (2) Saavedra.op.cit.p.76، وللرازي إشارة هامّة تؤيّد هذا الرأي، فقال: "إن يليان قال لطارق: قد فضضت جيوش القوم ورعبوا، فاصمد لبيضتهم، وهؤلاء أدلاء من أصحابي مهرة، ففرِّق جيوشك معهم في جهات البلاد، واعمد أنت إلى طليطلة، فاشغل القوم عن النظر في أمرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم "، مما يدلّ على أنّ كبار القوط كانوا يدبرون شيئاً في عاصمتهم، وأن يليان نصح طارقاً بالإسراع إلى طليطلة رأساً ليتدارك الأمر، انظر نفح الطيب (1/ 114) برواية الرازي. (3) البيان المغرب (2/ 10).

طارق يجني ثمار جهاده وانتصاره في وادي لَكُّةْ، فبدأ بحصار شذونة ( Sidonia) وفتحها عَنْوَة بعد حصار. ومضى إلى ميدنة المَدُور (1) ( Almodovar) وهي مدينة مَوْرور ( Moron) (2) فافتتحها أيضاً. ثم عطف طارق على مدينة قَرْمُوْنَة (3) ( Carmona) ففتحها أيضاً. واتجه طارق نحو مدينة إِشْبِيْلِيِة (4) ( Sevilla, Seville) فتم له فتحها صلحاً، إذ صالحه أهلها على الجِزْيَة. وزحف طارق إلى مدينة إِسْتَجّة (5)، فعسكر حول المدينة، وضرب حولها الحصار. وقد أبدت حامية المدينة، مقاومة مستميتة للدفاع عنها، وكانت المدينة تمثل المركز الأول للمقاومة، إذ كانت فلول القوط قد تجمعت هناك (6). وبعد معركة قاسية، حقق المسلمون نصراً آخر على الرغم من مقتل وجرح العديد من رجالهم (7)، وغنموا في هذه المعركة العديد من الخيول _______ (1) المدور: حصن حصين مشهور بالأندلس، بالقرب من مدينة قرطبة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 417)، وانظر ابن الشباط (109) برواية عريب، ونفح الطيب (1/ 260) برواية الرازي. (2) التاريخ الأندلسي (13) وجغرافية الأندلس وأوروبا (64). (3) ورد اسمها في معجم البلدان (7/ 62): قرمونية، وهي كورة بالأندلس، يتصل عملها بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 62)، وانظر: تاريخ الأندلس (135 - 138) نص ابن الشباط حول فتحها. (4) إشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس، ليس بالأندلس أعظم منها، وبها قلعة ملك الأندلس، وهي قريبة من البحر، يطلّ عليها جبل (الشرف)، وهو جبل كثير الشجر والزيتون، وهي على شاطئ نهر عظيم تسير فيه المراكب، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 254) وتقويم البلدان (174 - 175). (5) إستجة: اسم كورة متصلة بأعمال (ريّة)، بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متصلة بأعمال قرطبة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 224). (6) أخبار مجموعة (9) ونفح الطيب (1/ 244). (7) ابن الشباط برواية عريب (112) والرازي (67 - 68) وابن القوطية (9) وأخبار مجموعة (9 - 10) وفتح الأندلس (7 - 8) وابن الأثير (4/ 513) والبيان المغرب برواية الرازي =

التي كانوا في حاجة ماسة إليها، وتفرق من بقي من فلول القوط إلى المدن الأندلسية الأخرى. ومن الطريف، أن طارقاً ظفر بالعِلْج صاحب إسْتَجَّة، فقد كان مُغترّاً سيئ التدبير، فخرج إلى النهر وحده لبعض حاجاته، فصادف طارقاً هناك قد أتى لمثل ذلك، وطارق لا يعرفه. ووثب عليه طارق في الماء، فأخذه وجاء به إلى معسكر المسلمين، فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة، فصالحه طارق على ما أحبّ، وضرب عليه الجزية، وخلّى سبيله، ولعلّه عاون في استسلام المدينة للمسلمين، فقد كانت في موقع حصين، يساعدها على الدفاع المدبّر، كما كان فيها حماة من القوط الهاربين ومن أهل المدينة بأعداد لا يستهان بها، ساعدهم على الدفاع المديد، ولكن المسلمين فتحوها أخيراً بعد أن تكبدوا خسائر لا يستهان بها من الشهداء والجرحى. وازدادت خشية القوط من المسلمين، وبشكل خاص عندما تبين لهم أن هيمنة طارق أصبحت مؤثرة وفعّالة في مناطق عديدة من بلاد الأندلس. وقد كان بعضهم يعتقد أول الأمر، أن هدف طارق، هو الحصول على الغنائم والعودة إلى الشمال الأفريقي، كما فعل طريف بن مالك من قبله، ولكنهم حين رأوا تقدمه السريع، هجروا مناطق السهول من البلاد، ولجأوا إلى الجبال وبقية المدن الحصينة الأخرى (1). وأصبحت حالة القوط ممزّقة بعد موت لذريق (2)، نتيجة من نتائج انتصار المسلمين الحاسم، وعمد دوق ( Duke) كل منطقة إلى الاستقلال بناحيته، وضرب الخوف والارتباك أطنابها في صفوف القوط، فاتخذت البلاد المهمّة مثل قُرْطُبَة وطَلَيْطُلَة وماردة والبيرة لها حكاماً ............................................................... _______ = (2/ 8) ونفح الطيب برواية الرازي (1/ 260). (1) أخبار مجموعة (9 - 10) وابن الأثير (4/ 513) والبيان المغرب (2/ 8 - 9) برواية الرازي، ونفح الطيب (1/ 260) برواية الرازي. (2) Chr. 754,P.147. (no.36) حولية سنة 754 م.

مستقلِّين (1). والواقع أن لهذه المدن، ولغيرها، في أيام لذريق وأسلافه من ملوك الأندلس، حكاماً مستقلين، ولكنهم كانوا يرتبطون بالملك ويخضعون لأوامره وتوجيهاته، فلما قضى المسلمون على لذريق، كما قضوا على معظم جيشه الذي هو جيش المملكة المسئول عن حمايتها والدفاع عنها، وليس جيشاً محلياً مسئولاً عن حماية منطقة معينة والدفاع عنها، لم يبق في الأندلس ملك يجمع شمل الحكام تحت سيطرته ورايته، ولم يبق جيش للملك يفرض سيطرته على الحكام وعلى مناطقهم، ويعين الملك على فرض سيطرته، ويسيطر على أرجاء البلاد كافة ويجمع شملها ويوحِّد كلمتها، فأصبح حكام المدن الأندلسية والمناطق الأندلسية بطبيعة الحال حُكاماً مستقلين، كل واحد منهم هو المسؤول الأول عن حماية مدينته أو منطقته والدفاع عنها، إذ لم يبق من يدافع عنهم بعد القضاء على الملك وجيشه، بفضل انتصار المسلمين على القوط في معركة وادي لَكُّهْ الحاسمة، وليس كما يحاول إظهاره بعض المؤرخين الأجانب، بأنه أثر من آثار يليان وحزب غيطشة في القوط، لا أثر من آثار انتصار المسلمين على القوط. واستبان لطارق كثرة مَن معه من المجاهدين، وصعوبة الاستفادة منهم جميعاً في حملة واحدة، وضعف مقاومة القوط المندحرين، فاستمع إلى نصيحة يليان بأن يفرِّق جنده في بعوث جانبية قائلاً له: "قد فتحت الأندلس، فخذ من أصحابي أدلاّء، ففرِّق معهم جيوشك، وسر معهم إلى مدينة طُلَيْطُلَة" ففرق جيوشه من إِسْتِجَّة (2). ووجه طارق من إِسْتِجَّة سرايا جنده إلى عدّة جهات، فبعث جيشاً بقيادة مُغِيث الرُّومي مولى الخليفة الوليد بن عبد الملك لفتح مدينة قُرْطُبَة ( Cordoba) في سبعمائة فارس، فاستطاع مغيث فتح المدينة دون مشقة كبيرة بفضل _______ (1) الرازي نشر جاينجوس (69)، وقارن: Livemore.P.288 (2) فتح الأندلس (8).

شجاعته وصدق المجاهدين المسلمين (1). وأرسل جيشاً إلى مدينة مالَقَة (2) ( Malaga) وآخر إلى كورة إَلُبِيرَة (3) ( Elvira) حيث افتتح مدينتها غَرْناطة (4) ( Granada) وكذلك إلى كورة تُدْمير (5) ( Tudmir) وكانت قاعدتها أُورْيُولة (6) ( Orihuela) التي حلّت مدينة مُرْسِيَة (7) ( Murcia) محلّها قاعدة لكُوْرَة مُرْسِيَة بدلاً من تُدْمير (8). وقد حدثت معارك عديدة في هذه المناطق، فاستطاع المسلمون فتح عدة مدن فيها (9)، يقول الرازي: "ففرّق طارق جيوشه من إِسْتِجَّة، فبعث مغيثاً الرومي مولى الوليد بن عبد الملك إلى قُرْطُبَة - وكانت من أعظم مدائنهم - في سبعمائة فارس، لأن المسلمين ركبوا جميعاً خيل العجم، ولم يبق فيهم راجل، وفَضَلت عنهم الخيلُ، وبعث جيشاً آخر إلى مَالَقَة، وآخر إلى غَرْناطة _______ (1) نفح الطيب (1/ 261). (2) مالقة: مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (ريّة)، سورها على ساحل البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 367). (3) إلبيرة: كورة كبيرة من الأندلس، واسم مدينة أيضاً، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، وفيها عدة مدن منها قسطيلية وغيرهما، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 322) و2/ 330). (4) غرناطة: أقدم مدن كورة إلبيرة من أعمال الأندلس وأعظمها وأحسنها وأحصنها، يشقها نهر قَلُوم ويعرف الآن بنهر حدارة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 280). (5) تدمير: كورة بالأندلس تتصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقي قرطبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372)، وانظر ما جاء حول الفتح في: البيان المغرب (2/ 9 - 11) والإحاطة (1/ 101) ونفح الطيب (1/ 259 - 265). (6) أوريولة: مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تدمير بساتينها متصلة ببساتين مرسية، انظر معجم البلدان (1/ 373). (7) مرسية: مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 24 - 25). (8) الروض المعطار (34 و 62 و 181) ونفح الطيب (1/ 259 - 265). (9) التاريخ الأندلسي (64).

مدينة إِلْبِيْرَة، وسار هو في معظم الجيش إلى كورة جَيَّان يريد طُلَيْطلة" (1). ثم ينقل المَقَّري عق الرازي ما يتعلق بفتح تُدْمير، فيقول: "وأما مَن وُجِّه إلى مَالَقَة ففتحوها، ولجأ علوجها إلى جبال هناك ممتنعة، ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجه إلى إِلْبِيْرَة، فحاصروا مدينتها غَرْناطة، فافتتحوها عَنْوَة" (2)، "ومضى الجيش إلى تُدْمِير، وتُدْمِير: اسم العِلْج صاحبها، سُميت به، واسم قصبتها: أُورْيُولَة، ولها شأن في المَنَعَة، وكان ملكها عِلْجاً داهية" (3). وهذا يعني، أن سرية مَالَقَة التحقت بعد فتح مَالَقَة بسرية إِلْبيْرَة، وافتتحا تُدْمِير سويّة، فتكون على هذا عدد السرايا التي أرسلها طارق ثلاثاً، بدلاً من أربع (4). وقد اعترض بعض المؤرخين المحدثين، على عملية طارق في فتح جنوب شرقي الأندلس وكبار مدائنه مثل مالَقَة وغرْناطة، وأُورْيُولَة، وادّعوا أن ذلك غير صحيح، لأن المسلمين لم يفتحوا هذه النواحي إلاّ في ولاية عبد العزيز بن موسى بن نُصير (5). وذكروا: أنه لا يستبعد أن يكون طارق قد بعث سرايا صغيرة إلى هذه النواحي وغيرها لمجرد الاستطلاع لا للفتح، وكان الجند عنده قد كثروا، ففرّق أعداداً منهم في جماعات من رجال يليان يدلونهم على الطريق (6). _______ (1) نفح الطيب (1/ 260 - 261) والإحاطة في أخبار غرناطة، ابن الخطيب (1/ 101). (2) نفح الطيب (1/ 263) والإحاطة (1/ 101). (3) نفح الطيب (1/ 264). (4) التاريخ الأندلسي (65). (5) انظر ترجمته في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار. (6) فجر الأندلس (77).

ج - فتح قرطبة:

وهذا الاعتراض خطأ بلا شك، لأن المصادر المعتمدة تؤكد أن طارقاً بعث السرايا لهذا الفتح، كما أن طارقاً لا يمكن أن يتقدم شمالاً بإتجاه طُلَيْطلَة ويترك جناحه الأيمن ومؤخرته في خطر التعرض المعادي، لوجود بلدان تخضع للقوط وتعادي المسلمين، وبدون تطهير تلك المناطق، تبقى خطوط مواصلاته معرّضة للتهديد المعادي المباشر، وهذا ما لا يسكت عنه قائد حصيف قادر مثل طارق ولا يمكن أن يغض الطرف عنه في أي حال من الأحوال. وكان فتح عبد العزيز بن موسى بن نُصير لهذه المناطق ليس فتحاً جديداً، بل إن مدنها انتقضت على المسلمين، فأعاد عبد العزيز فتحها من جديد. وهناك روايات تنص على أن طارقاً هو الذي قاد جيش قُرطبة وفتحها (1)، ويبدو أن الرواية الأولى أصحّ، لأن هدف طارق في فتح قرطبة كان ثانوياً بالنسبة إلى هدفه في فتح طليطلة عاصمة البلاد ومركز مقاومتها، كما سيرد ذلك وشيكاً. ج - فتح قُرْطُبة: عهد طارق إلى مغيث الرومي بقيادة الحملة المتوجهة إلى قرطبة. ويقال بأن مغيثاً هذا، كان أسيراً رومياً من الشرق، وإنه كان مولى للخليفة الوليد بن عبد الملك أو لأبيه عبد الملك بن مروان (2). ولكن الأكثر احتمالاً، هو أن مغيثاً كان رومياً من شمالي إفريقية، ويؤيد هذا الرأي اطلاع مغيث ومعرفته الواسعة بهذه المنطقة وبالأندلس أيضاً (3). وقد تقدم مغيث على رأس سرية _______ (1) قارن: ابن القوطية (9) والرقيق (76) وابن الشباط (115 - 116) والرسالة الشريفية (192). (2) فتوح مصر والمغرب (207) وأخبار مجموعة (10) والبيان المغرب (2/ 9) ونفح الطيب برواية ابن حيان (3/ 12 - 13). (3) قارن: أخبار مجموعة (31).

د - فتح طليطلة:

مؤلفة من سبعمائة فارس من إِسْتِجَّة إلى قرطبة، بينما زحف طارق ببقية رجاله إلى طليطلة. وصل مُغيث إلى ضواحي قرطبة، وعسكر في شَقُندَة ( Seconda) قرب ضفاف نهر الوادي الكبير، فوجد أن حاكم المدينة القوطي لا يزال موجوداً هناك، ترافقه حامية مكوّنة من نحو أربعمائة أو خمسمائة رجل، أما بقية سكان المدينة، فقد غادروها إلى طليطلة. وأفلح مغيث في اقتحام المدينة بسبب تهدم أسوارها، فانسحب حاكمها مع حاميته، وتحصنوا في كنيسة تقع خارج الأسوار تدعى: سان أسيكلو ( San Acisclo) حيث ضرب عليهم الحصار لمدة ثلاثة أشهر. وعندما أيقن هؤلاء بعدم قدرتهم على الاستمرار في المقاومة، حاول حاكم المدينة وقائد حاميتها الهرب إلى طليطلة، ولكنه وقع في أسر المسلمين، وأبيدت الحامية بأجمعها. وبعد ذلك اتخذ مغيث قصر المدينة سكناً له، بينما سكن رجاله في المدينة (1). وكان من عوامل انتصار المسلمين على القوط، أنهم استطاعوا قطع الماء عن المحصورين، وكان يجري إلى الكنيسة في مجرى تحت الأرض، فلم يفطن إليه المسلمون أولاً، حتى اكتشفه رجل من السود ممن كان مع المسلمين (2)، ولكن المحصورين صبروا صبراً طويلاً رغم قطع الماء عنهم، حتى استسلموا أخيراً، وأسر حاكم المدينة وقائدها (3) وأبيد رجاله (4). د - فتح طُلَيْطُلَة (5): _______ (1) الرازي نشر جاينجو ص (69 - 70) وأخبار مجموعة (13 - 14) وفتح الأندلس (8) والبيان المغرب (2/ 9 - 10) ونفح الطيب برواية الرازي (1/ 261 - 263)، وقارن: Saavedra.p.85 (2) نفح الطيب برواية الرازي (1/ 165). (3) فجر الأندلس (82). (4) البيان المغرب (2/ 11). (5) طليطلة: مدينة كبيرة بالأندلس، يتصل عملها بعمل وادي الحجارة، وتقع على =

سار طارق بمعظم جنوده (1) إلى كورة جَيَّان (2) في طريقه إلى عاصمة القوط: طُلَيْطُلَة ( Toledo) وقد اتّبع طريقه الطريق الروماني القديم الذي يمرّ بمدينة جَيَّان ( Jaen) والذي يدعى: طريق هانيبال (3) ( Anibal) مخترقاً هضاب الأندلس وجبال سيرا مورينا (جبل الشارات)، وكان القوط قد فرّوا من طُلَيْطُلَة نحو الشمال بأموالهم وآثار قديسيهم، ولم يبق من سكانها غير عدد قليل من يهود ونصارى. وفتح طارق المدينة، وأبقى على من بقي من سكانها، وترك لأهلها عدّة كنائس، وترك لأحبارها حرية إقامة الشعائر الدينية، وأباح للنصارى من القوط والرومان اتباع شرائعهم وتقاليدهم، واختار لحكمها وإدارتها أوباس مطرانها السابق وأخا الملك وتيزا (4). وسار طارق من طليطلة لملاحقة الهاربين، مخلفاً وراءه حامية من المسلمين للدفاع عن المدينة، واتخذ طريق وادي الحجارة، فعبر السلسلة الجبلية المسماة: ( Cerro de san juan del Viso) عند ممر سمي على اسمه بفج طارق (5). وعندئذ وصل إلى مدينة خلف الجبل تسمى: مدينة المائدة (6)، وهذه المدينة هي قلعة هنارس ( Alcala Hanares) التي تقع شمال شرقي مدينة _______ = شاطئ نهر تاجة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 56). (1) نفح الطيب (1/ 244). (2) جيّان: مدينة لها كورة واسعة بالأندلس، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3/ 185). (3) يذكر المقري أنّ طارقاً سار إلى طليطلة في الطريق المار بجيّان، أي أنه اتبع طريق هانيبال الروماني، لأنه كان طريقاً معموراً في ذلك الوقت، وفيه تمر اليوم سكّة حديد بالأندلس، انظر نفح الطيب (1/ 167) و Saavedra.op.cit.79 (4) دولة الإسلام بالأندلس (1/ 50) وانظر التاريخ الأندلسي (65). (5) من المحتمل أنّ هذا المكان يقع بالقرب من ( Bibtrak) أو ( Buitrago) ، وهي المدينة التي تشرف على الممر الجبلي الذي يصل بين قشتالة الجديدة وقشتالة القديمة، انظر: Gayangos.vol.I.P.533 (6) ابن القوطية (9) وأخبار مجموعة (14) وفتح الأندلس (9) وابن الأثير (4/ 564) والبيان المغرب (2/ 12) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 264 - 265) والرسالة الشريفية (191).

مَدْريد (1). واسم المائدة، مشتق من مائدة عَثر عليها طارق، وهي كما يُروى تعود إلى سليمان بن داوود عليهما السلام (2). ولكن ابن حيّان ينكر هذا الادِّعاء، ويذكر أن هذه المائدة صنعت من الذهب والفضة ومن معادن نفيسة أخرى، بتبرعات ومساهمة أغنياء القوط لكنيسة طليطلة، واستُخدمت من قبل القساوسة لحمل الأناجيل أيام الأعياد، وزينة توضع فوق مذابح الكنيسة (3). والاحتمال الغالب أنها كانت مذبحاً لكنيسة طليطلة أكثر من كونها مائدة حقيقية، حملت إلى هذا المكان القصي الحصين من قِبَل الهاربين من القساوسة ورجال الدين المسيحي (4)، وكان أسقف طليطلة نفسه سَنْدَرِد ( Sindered) من بين الذين تمكنوا من الهرب في أثناء الفتح، ونجح فعلاً في الوصول إلى إيطاليا (5). وبعد افتتاح قلعة هنارس غنم طارق هذه المائدة مع التحف الثمينة الأخرى (6). _______ (1) Saavedra.P.79. (2) فتوح مصر والمغرب (207) والإدريسي (187 - 189) وأخبار مجموعة (15) وفتح الأندلس (9) وابن الأثير (4/ 564) والبيان المغرب (2/ 12) والنويري (22/ 28). (3) نفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 272). (4) قارن: فجر الأندلس (78 - 79). (5) Chr. 754.P.147 (no.35) (6) يذهب معظم المؤرخين المسلمين إلى أنّ طارقاً غنم هذه التحفة الثمينة مع غيرها من التحف في مدينة المائدة، وهذه هي في الغالب قلعة هنارس، وهي بالطبع ليست مائدة سليمان بن داود عليهما السلام - إن كانت لسليمان مائدة - وهي ليست كذلك بمائدة أصلاً، إذ لا يُعقل أن يهتمّ القوط ولا غيرهم بصناعة مائدة بمثل هذه الفخامة، ولكنّها على الغالب مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، إذ لم تكن في قلعة هنارس إذ ذاك كنيسة كبيرة يحتمل وجود مثل هذا المذبح الفخم فيها، ويفهم ذلك من عبارة صريحة لابن حيان يقول فيها: "وهذه المائدة المنوّه عنها المنسوبة إلى سليمان النبيّ عليه السلام، لم تكن له فيما يزعم رواة العجم، وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم، كان أهل الحسبة منهم، إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس، فإذا اجتمع عندهم ذلك المال، صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضّة، تحمل الشمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت أيام =

وكان الصيف قد انقضى، وأقبل شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ثلاث وتسعين الهجرية (تشرين الأول 711 م) ومعه برد الخريف، ففضّل طارق وأصحابه العودة إلى طليطلة لكي يقضوا الشتاء فيها (1)، وكانت الغنائم قد أثقلت جيش طارق إلى حدّ عظيم. ومع هذا، فهناك روايات أخرى، تشير إلى أنه استمر في فتوحه، فوصل إلى جلِّيقِيّة (2) ( Galicia) وأَسْتُرْقَة (3) ( Astorga) وما يجاورهما من مناطق (4)، الأمر الذي يصعب تصديقه، خاصة إذا أخذنا بنظر الإعتبار، إطلالة الشتاء، ووعورة المنطقة (5). وتغلغل طارق عميقاً في أنحاء الأندلس، بشكل لا يتناسب مع ما لديه من قوّات مقاتلة (6). وفي ذلك يقول ابن حَيّان - فيما ينقله _______ = المناسك، ويصفّونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها، فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذا السبيل" ... ، وبقيّة العبارة تدلّ صراحة على أن تلك المائدة إنما كانت لمذبح كنيسة طليطلة، ونقل المائدة إلى قلعة هنارس، فيما يبدو، لتهريبها من المسلمين، ولوضعها في مكان حصين، وكانوا يظنون أنّ المسلمين يصعب عليهم الوصول إليه بسهولة ويسر. والمصادر الإسلامية تصف هذه المائدة بأنها: "كانت من زبرجدة خضراء، حافاتها وأرجلها منها"، والغالب أنهم كانوا يريدون أنّها كانت محلاّة بالزبرجد الأخضر، انظر فتوح مصر والمغرب (205) وأخبار مجموعة (17 و 19) والبيان المغرب (1/ 14) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 272) وفتح الأندلس (9). (1) أخبار مجموعة (15) وابن الأثير (4/ 564) والبيان المغرب (2/ 12) والنويري (22/ 28) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 456) والرسالة الشريفية (192). (2) جلِّيقية: ناحية قرب ساحل البحر المحيط من ناحية شمالي الأندلس في أقصاه من جهة الغرب، انظر معجم البلدان (3/ 131). (3) إسترقة: بلد بناحية جليقية قرب ساحل المحيط وقرب مدينة ليون، انظر قادة فتح المغرب (1/ 268). (4) ابن القوطية (9) وابن الأثير (4/ 564) والرسالة الشريفية (162) والنويري (22/ 28) ونفح الطيب (1/ 265). (5) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (174). (6) قادة فتح المغرب العربي (1/ 251).

المَقَّري في نفح الطيب -: "ومضى خلف من فرّ من أهل طليطلة، فسلك إلى وادي الحجارة ( Guadalajar) ثم استقبل الجبل فقطعه في فجّ سمي به بعد، فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل، ....... ، ثم مضى إلى المدينة التي تحصنوا بها خلف الجبل، فأصاب بها حُلِيّاً ومالاً، ورجع ولم يتجاوزها إلى طليطلة، سنة ثلاث وتسعين. وقيل: إنه لم يرجع، بل اقتحم أرض جلِّيقِيّة واخترقها حتى انتهى إلى مدينة أسْتُرْقَة، فدوّخ الجبهة، وانصرفَ إلى طليطلة، والله أعلم" (1)، فقد عاد من مدينة المائدة، لأن الشتاء كان قد اقترب، وكان الإجهاد قد نال من المسلمين، وثقلوا بالغنائم، والأرجح أنه قام بحملاته نحو هذين البلدين القاصيين بعد ذلك بزمن ليس بالقصير (2)، وقد استغرقت عمليات الفتح التي قام بها طارق، قبل لقائه بموسى بن نُصير وإنجازاته أقل من سنة، ربما بعدّة شهور (3). بقي عليّ أن أشير إلى تعاون المسلمين ويهود الأندلس، فهناك إشارات كثيرة في المصادر الإسلامية إلى هذا التعاون في أثناء فتح الأندلس، وتروي هذه المصادر أن المسلمين كرّروا ما فعلوه في قُرطبة وطليطلة على بقية المدن الأندلسية المفتوحة الأخرى، فحين يتم لهم فتح مدينة من المدن، يعمدون إلى ضم سكانها من يهود إلى المسلمين المدافعين عنها، حاميةً لها، بعد حركة المسلمين إلى فتح جديد (4). ومن الناحية الأخرى، فإن المصادر اللاتينية لا تشير إلى أيّ نوع من تعاون المسلمين مع يهود الأندلس، وبصورة خاصة حولية سنة (754 م) وحولية بلدة _______ (1) نفح الطيب (1/ 264 - 265)، وانظر الروض المعطار (179). (2) فجر الأندلس (80). (3) التاريخ الأندلسي (66). (4) الرازي نشر جاينجوس (72) والإحاطة برواية ابن القوطية (1/ 101) وأخبار مجموعة (12 و 14 و 16) وابن الأثير (4/ 564) والبيان المغرب (2/ 12) ونفح الطيب برواية الرازي (1/ 263 - 264).

قرطبة، وحولية الفونسو الثالث. ولكن لذريق الطليطلي ( Rodericus Toletanus. Roderic of Toledo) ولوقا دي توي ( Lucasde Tuy) = (Lucas of Tuy) قد ذكروا بأن يهود الأندلس ساعدوا المسلمين في الفتح (1). ولا يمكن تجاهل روايات المصادر الإسلامية إلى هذا التعاون، ومع هذا فإنه من غير الممكن تجاهل أن قصة هذا التعاون قد بولغ فيها كثيراً (2)، ولم يُفهم القصد منها تماماً كما ينبغي. ومن المحتمل أن يهود الأندلس حاولوا مساعدة المسلمين حينما أصبح هؤلاء فعلاً في الأندلس منتصرين، وذلك نتيجة للاضطهاد الذي لاقاه يهود الأندلس على يد ملوك القوط (3)، ولكن من المستحيل أن يكون هناك أي اتفاق سابق أو مؤامرة - كما يحاول أن يبرهن بعض المؤرخين الإسبان (4) - بين المسلمين ويهود الأندلس لتسليم البلاد إلى المسلمين، إذ لم يكن بمقدورهم أن يفعلوا ذلك لضعفهم وتفككهم وانهيار معنوياتهم وشعورهم بمركب النقص، فهم كانوا بحاجة إلى مساعدتهم وإلى من يساعدهم، ولم يكونوا قادرين على مساعدة أحد بالقوة، لافتقارهم إلى القوة. ومن المفيد في هذا المجال، أن نلاحظ، أن هذه الاتهامات قد رفضت من قبل مؤرخي يهود، باعتبارها أساطير معادية للسامية ( Anti-Semitic Logends) (5) . _______ (1) Toderic of Toledo (d.1247 A.D.) , De rebus Hispaniae,111,23-24 (Schett, Hispaniae illustratae, Frankfurt a/n, 1603, 111, 67-68) ; Lucas of Tuy, Chronicon Mundi, 111,Era 748 (Schott,op,cit.,1V,70) in Katz,the Jews in the Visigothic and Frankish ... , pp.116-117. (2) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (172). (3) راجع الفصل الأول من كتاب: الفتح والاستقرار العربي والإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس، عن اضطهاد القوط ليهود. (4) R.Anador de los Rios , Historia Social , Politica y religiosa de los. judios de Espana y Portugal , Madrid , 187576, Vol.1.p.101,cit. Ashtor.op. cit., Vol.1.P.22, A. Ballesteros y Beratta, Historia de Espana: Su inbluencia en la historia Universla, vol.11,p.107. (5) Bare,op.cit.,Vol.1.p.23;Ashtor,op.cit.,vol.1.p.22

والواقع هو أن يهود الأندلس، قبل الفتح الإسلامي للأندلس، كانوا مضطهدين من ملوك القوط ومن القوط أنفسهم، فلما انتصر المسلمون على القوط، عرض يهود خدماتهم على المسلمين، الذين رفعوا عنهم الظلم وعاملوهم بالحسنى معاملة إنسانية، كدأبهم مع المظلومين بعامة وأهل الكتاب منهم بخاصة، فعاونوا حاميات المدن الأندلسية المفتوحة من المسلمين، بإنذارهم المبكر بنوايا القوط وتحركاتهم، والمسلمون وحدهم يدافعون عن المدن المفتوحة، بالاستعانة بالعيون والأرصاد والجواسيس من يهود الأندلس، باعتبارهم من أهل تلك المدن، وأعرف الناس بمداخلها ومخارجها ومواطن ضعفها وقوتها، ولم يتطرق مصدر من المصادر الإسلامية إلى أن يهود الأندلس دافعوا عن المدن المفتوحة مع المسلمين بالسلاح، ولم تتطرق تلك المصادر إلى أن يهود الأندلس قاتلوا القوط مع المسلمين. ولقد عاون يهود الأندلس المسلمين الفاتحين، لأن المسلمين كانوا أعداء القوط، وعدوّ عدوي صديقي - كما يقول المثل العربي المشهور - ولكن هذا السبب ليس كافياً بالنسبة للعقلية اليهودية المعروفة، والسبب المهم هو أن المسلمين هم المنتصرون، والقوط هم المغلوبون، فهم دائماً مع المنتصر على المغلوب، ومع القوي على الضعيف، لأنهم يستفيدون من المنتصر لحمايتهم وتوقع الانتفاع منه في مصالحهم المادية والمعنوية. ثم إن المسلمين الفاتحين أصبحت بيدهم مقاليد الأمور في المدن المفتوحة، وهم حكام الأندلس اليوم وغداً. أما القوط، فقد كانوا حكام الأمس، ولا فائدة ترتجى منهم اليوم أو غداً، ويهود مع من بيده مقاليد الأمور، الحاكم الذي يستطيع أن يفيد ويضر، لا مع من لا يستطيع أن يفيد ويضر، وليس له من الأمر أي شىء. وقد ذاع عدل المسلمين ومعاملتهم الناس بالحسنى، بينما جرّب يهود الأندلس القوط، فلم يجدوا منهم إلاّ الظلم والاضطهاد، فعاونوا أصحاب العدل على أصحاب الظلم، وأصحاب الرحمة على أصحاب الاضطهاد.

7 - فتوحات طارق بعد عبور موسى بن نصير إلى الأندلس

ولكن يهود الأندلس كانوا مع المسلمين في الأندلس، ما داموا أقوياء متحدين، فلما ضعفوا وتفرقوا، وأصبحوا دويلات بعد أن كانوا دولة واحدة، وقوي الإسبان واشتد ساعدهم، وأخذوا يعملون على استعادة بلادهم من المسلمين بالسياسة والحيلة والتآمر تارة، وبالقوة تارة أخرى، أصبح يهود الأندلس مع الأسبان على المسلمين، فلما استولى الإسبانيون على إسبانيا، وانحسر حكم المسلمين عن الأندلس، لقي يهود إسبانيا من الإسبان جزاء سِنِمار، واضطُهد مَن بقي منهم في إسبانيا اضطهاداً ذكّرهم باضطهاد القوط لهم قبل الفتح الإسلامي، وحينذاك فقط، قال قائلهم: كانت أسعد أيام يهود الأندلس، طيلة تاريخهم في الأندلس، هي أيام الحكم الإسلامي في الأندلس، ففي تلك الأيام وحدها عرفنا الحرية والعدل والرخاء والتسامح، ولم نكن نعرف هذه القيم قبل المسلمين، ولا عرفناها بعدهم! إن يهود الأندلس، كبقية يهود العالم، في كل زمان ومكان، يعملون من أجل مصالحهم فقط، لا من أجل أشخاصٍ معينين أو أمم معينة، أو مبادئ وقيم معينة، فهم يعاونون مصالحهم، ويتعاونون مع مصالحهم، وهم يعينون من ينفعهم في مصالحهم، ويتعاونون معه، فمصلحتهم أولاً وقبل كل شيء، والتعاون والمعاونة من أجل تلك المصالح الذاتية. ذلك هو مظهر تعاونهم سراً، في نقل الأخبار ونشر الإشاعات وخلق الفتن والتجسس، لهم الغُنْم دوماً دون الغُرْم، والمنفعة دون الضرر، ولهم مصالحهم وعلى غيرهم تحمل المسئولية. 7 - فتوحات طارق بعد عبور موسى بن نُصَيْر إلى الأندلس أ - بين موسى وطارق: كان رد الفعل لانتصار حملة طارق عظيماً في شمالي إفريقية، فبعد

سماعهم أخبار النصر الذي أحرزه طارق على لذريق، اتجه البربر نحو الأندلس من كل صوب، واجتازوا المضيق بكل ما وقعت عليه أيديهم من قوارب ومراكب، وبعد وصولهم استوطنوا المناطق السهلة من البلاد التي هجرها سكانها الأصليون، الذين اضطروا إلى اللجوء نحو القلاع والحصون، أو هربوا إلى المناطق الجبلية (1). وبعد أن فتح المسلمون عاصمة البلاد وكسروا قوات لذريق وقضوا على كل أمل للقوط في العودة إلى الحكم، تقدم أبناء غيطشة إلى طارق يطلبون إليه الوفاء لهم بما وعدهم من الكرامة وحسن الجزاء، ويبدو أنهم كانوا يطمعون أن ينسحب المسلمون من الأندلس ليعود أبناء غيطشة إلى الحكم من جديد، فلما تبين لهم أن طارقاً ومن معه جاءوا ليبقوا لا ليرحلوا، وأنهم جاءوا لنشر الإسلام بالدعوة إلى الله، سُقط في أيديهم، ووجدوا أن لا مندوحة لهم عن القناعة بما يمنحهم المسلمون إيّاه، فمنحهم طارق ضياع أبيهم - وكان عددها كبيراً - وأمضاها لهم. ويبدو أنهم طمعوا بالمزيد، فلم يجبهم طارق إلى ما سألوا، لأن ذلك يخالف ما وعدهم به، وهو منحهم ضياع أبيهم بلا زيادة ولا نقصان، فاستأذنوا طارقاً في المسير إلى موسى بن نُصير في إفريقية، وسألوه الكتابة إليه بشأنهم معه، وما أعطاهم من عهد، ففعل. ولما بلغوا موسى، أقرّ طارقاً على ما فعل. ويبدو أنهم ألحّوا على موسى بالزيادة، فأحالهم على الخليفة نفسه (2)، فأقرّ عهد موسى وطارق (3). وكان طارق على صلة بقائده موسى بن نُصير: يفتح الفتوحات باسمه وبتعليماته وأوامره ووصاياه، ويخبره عن كل شيءٍ أولاً بأوّل منذ بداية الفتح، ويستشيره بكل ما يحتاج إلى المشورة، "اتصل الخبر بموسى بكتاب طارق إليه، فكتب به، موسى إلى ........................................... _______ (1) نفح الطيب برواية الرازي (1/ 259). (2) نفح الطيب برواية الرازي (1/ 167 - 168). (3) فجر الأندلس (83).

الوليد" (1). وبعد سنة من عبور طارق، وتفرّق جيشه وتوزيعه على المناطق والمدن التي فتحت، خاف طارق أن يُغلب، وأن يستغل القوط قلة جيشه، فأرسل إلى موسى يستنجده (2). والأمثلة على اتصال طارق بموسى في المصادر الإسلامية كثيرة جداً، مما يدل على أن الانسجام والتعاون والوفاق كانت سائدة بين موسى وطارق. وبلغت فتوحات طارق أسماع موسى، فغضب موسى لعصيان طارق لأوامره، فقد أمره موسى ألاّ يتعدى قرطبة على قول، أو موضع هزيمة لذريق في وادي لَكُّهْ على قول آخر (3)، فسارع موسى إلى عبور المجاز ودخول الأندلس. وهناك مَنْ ينصّ، على عبور موسى بن نُصير إلى الأندلس كان بسبب استدعاء طارق إياه (4)، فقد كتب طارق إلى موسى: " إن الأمم قد تداعت علينا من كل ناحية، فالغوث ... الغوث ... "، فلما أتاه الكتاب، نادى في الناس وعسكر، فاستخلف عبد الله بن موسى بن نصير على إفريقية وطنجة والسّوس (5)، وكتب ساعة قدم عليه كتاب طارق إلى مروان بن موسى أنه يأمره بالمسيرة، فسار مروان بمن معه، حتى أجاز إلى طارق قبل دخول أبيه موسى. وخرج موسى بن نصير والناس معه، حتى أتى المجاز، فأجاز بمن _______ (1) تاريخ الأندلس (48) وابن خلدون (4/ 254). (2) الإمامة والسياسة (2/ 74 - 75) وفجر الأندلس (89) وتاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (92) والتاريخ الأندلسي (68). (3) البيان المغرب (2/ 18 - 19). (4) البيان المغرب (2/ 19). (5) السوس: أ - السوس الأدنى: كورة كبيرة بالمغرب مدينتها طنجة. ب - السوس الأقصى: أقصى بلاد المغرب على المحيط، والسوس الأقصى اسم مدينة أطلق اسمها على كورة السوس الأقصى ذات المدن والقرى الكثيرة. ج - والسوس: مدينة بالمغرب كانت الروم تسميها قمونية، وبين السوس الأدنى والسوس الأقصى مسيرة شهرين، وبعده المحيط الأطلسي، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 172) والمشترك وضعاً (256) والمسالك والممالك (34).

زحف معه في جموعه (1). هذان السببان مقبولان غاية القبول، من الناحية العسكرية العلمية البحت، فقد شعر موسى أن المسلمين قد استرسلوا بالفتح، أكثر مما ينبغي، بالنسبة للقوات المتيسرة لديهم، وأن خطوط مواصلاتهم في شبه الجزيرة الواسعة الأرجاء في خطر داهم، فقد بَقيت مدن الشرق والغرب الأندلسية لم تفتح بعد، وكان لابد من فتحها، وإلاّ تعرض المسلمون الفاتحون لخطر عزل قواتهم عن بعضها، والقضاء عليها وهي متفرقة ضعيفة في كل مكان تحل فيه، وقطع خطوط مواصلاتها الواهنة لامتدادها بعيداً عن قواعدها، ولأن أجنحتها مكشوفة لوجود مدن معادية غير مفتوحة قريبة منها وتستطيع التأثير فيها بسهولة وسرعة، ولأن قوات المسلمين كانت قليلة جداً، بالنسبة إلى طول خطوط مواصلاتها وإلى سعة البلاد وكثافة سكانها. وفعلاً حدث ما توقعه طارق وموسى، فقد أصبحت قسم من قوات المسلمين منعزلة أو شبه منعزلة، بعيدة عن إمكان دعمها بقوات إسلامية كافية عند الحاجة، وأصبح موقف المسلمين بصورة عامة في الأندلس خطيراً للغاية، مما جعل طارقاً يستغيث بموسى، فلا يرى موسى حلاًّ مُرضيًا إلاّ أن يعبر إلى الأندلس بنفسه مع قوات إسلامية كافية، لمعالجة الأمور هناك، فحشد لحملته هذه كل قواته المتيسرة: عشرة آلاف من العرب، وثمانية آلاف من البربر، في سفن صنعها خصيصاً لذلك، يحفِّزه شغف بالفتح رغماً من شيخوخته، ونزل بولاية الجزيرة، حيث استقبله الكونت يُليان، وذلك في شهر رمضان من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (2) حزيران - تموز 712 م). _______ (1) الإمامة والسياسة (2/ 74 - 75)، وفي البلاذري (232): إنّ موسى كتب إلى طارق كتاباً غليظاً، لتغريره بالمسلمين، وافتتانه عليه بالرأي في غزوه، وأمر ألا يتجاوز قرطبة. (2) أخبار مجموعة (15) وفتح الأندلس (10) وئفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 269) والرسالة الشريفية (192). ويذكر ابن حبيب (223) وكل من الرازي وعريب ابن =

وأكاد أتبين بوضوح، أن موسى كان يعرف حرص الخليفة الوليد بن عبد الملك على أرواح المسلمين حرصاً لا مزيد عليه. وأنه كان يمانع من ركوب البحر ومن فتح الأندلس حرصاً على أرواح المسلمين، وأنه وافق على ركوب البحر وفتح الأندلس أخيراً بعد إلحاح موسى بن نصير عليه وتزيين أمر الفتح له وتهوين أمر ركوب البحر عليه، على أن تبقى مسئولية العملية كلها على عاتق موسى وحده دون سواه، إذا لحق بالمسلمين ضرر، وغُرِّر بهم، فقد كتب موسى إلى الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح الأندلس، فأجابه الوليد: "أنْ خضها بالسرايا، حتى ترى وتختبر بشأنها، ولا تُغرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال"، فلما راجعه موسى، أنه ليس ببحر زخّار، إنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه، أجابه الوليد: "وإن كان، فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه" (1)، وهكذا بقي موسى مع موافقة الوليد، المسئول الأول عن عملية العبور والفتح، ولن يتساهل معه الوليد إذا لحق بالمسلمين خسائر بالأرواح دون مسوِّغ منطقي مقبول. لقد كان نزول موسى إلى الأندلس لسبب حربي واضح، وهو تدعيم الفتح وترصينهُ، وحتى يحول دون وقوع كارثة أكيدة بالمسلمين، من جرّاء تغلغل طارق في الأندلس تغلغلاً لا يتناسب مع ما لديه من رجال. وقد يرد على البال - وبخاصة بالنسبة للمدنيين - أن أعداد المسلمين تكاثروا في الأندلس بعد انتصاراتهم المتوالية، فقد زحف البربر بأعداد ضخمة إلى برّ الأندلس، واستوطنوا سهولها التي نزح عنها سكانها الأصليون، ولكن تعداد المسلمين الإجمالي في الأندلس، ليس هو المهم، بل المهم هو تعداد المقاتلين منهم، المدربين على القتال، والمجرِّبين في _______ = سعد أن موسى أبحر بعشرة آلاف رجل فقط، انظر ابن الشباط (116 - 117) والبيان المغرب (12/ 13) ونفح الطيب (1/ 277). (1) نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320)، وانظر التاريخ الأندلسي (46).

الميدان، فقد اختار موسى قوات طارق قبل إبحارها معه إلى الأندلس، واختار له جنود المدد وقيادتهم حين طلب طارق المدد، أما الذين جاءوا للارتزاق والسكنى من غير المدربين والمجرِّبين، فلا قيمة قتالية لهم في ميادين القتال. أما ما تردد في مصادر التاريخ الإسلامي، من أن موسى ما كاد يسمع بأخبار الفتح، حتى أكل الحسد قلبه، وقرر أن ينال هو الآخر نصيبه من شرف الفتح (1)، وأنه أساء معاملة طارق وضربه بالسوط (2)، فمغالى به، إذ لا يُعقل أن يصدر ذلك عن تابعي جليل وقائد فاتح عرف بالعقل والإتزان والمروءة كموسى بن نصير. ثم إن طارقاً كان مولى لموسى، يعمل بأوامره، وينفذها نصاً وروحاً، وكان يكتب إليه أخبار الفتح مفصلاً، فلو أن موسى حسد طارقاً أو أساء الظن به، لاستطاع إزاحته عن طريقه، وذلك بعزله أو استدعائه، إلى القيروان، فليس من المعقول أن يستطيع طارق مخالفة أوامر مولاه موسى في شيءٍ. ولعل أوضح دليل، على مبلغ التزام طارق بطاعة موسى، وأنّه كان مثالاً للطاعة والنظام، أنه بعث بأولاد غيطشة إلى مولاه موسى، عندما قدموا إليه في طليطلة وقالوا له: "أنت أمير نفسك، أم على رأسك أمير؟ "، فقال طارق: "بل على رأس أمير، وفوق ذلك الأمير أمير عظيم" (3)، وهذا يدل على منتهى الضبط وتقدير المسئولية والالتزام بسلسلة المراجع. وأوضح دليل، على أن قدوم موسى إلى الأندلس، كان لمعاونة طارق لا لتأديبه، وأنه قدم الأندلس لأغراض عسكرية بحت، هو أن موسى لم يذهب للقاء طارق بعد نزوله أرض الأندلس، وإنما انصرف إلى فتح كبار البلاد _______ (1) ابن الأثير (4/ 215) والبداية والنهاية (9/ 83) والبيان المغرب (2/ 19) وابن خلدون (4/ 117) ونقح الطيب (1/ 251). (2) فتح مصر والمغرب (283). (3) نفح الطيب (1/ 249).

الجنوبية والغربية التي خلّفها طارق دون فتح، وذلك لحماية جناح طارق الأيسر من جهة، ولتدعيم قواعد الفتح المتقدمة في الأندلس، ولتثبيت قوات العدو بإشغالها في جبهات عديدة بقوات المسلمين الضاربة، فلما تم له ذلك سار إلى طارق ولقيه في طَلَبِيرَة (1) على مقربة من طُليطلة، ويقال: إن الملاقاة بين طارق وموسى حدث في مكان يدعى المعرض ( Almaraz) بين نهري تاجُهْ ( Tajo) والتيتار ( Tietar) قرب طَلَبيرَة غربي طُليطلة (2). وحين التقيا قال موسى لطارق: "يا طارق! إنه لن يجازيكَ الوليد بن عبد الملك على بلائك، بأكثر من أن يمنحك الأندلس، فاستبحه هنيئاً مريئاً"، فقال طارق: "أيها الأمير! والله لا أرجع عن قصدي هذا، ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي"، ولم يزل طارق يفتح وموسى معه، إلى أن بلغ إلى جِلّيقيّة، وهي على ساحل البحر المحيط (3). _______ (1) طلبيرة: مدينة بالأندلس من أعمال طليطلة كبيرة، قديمة البناء، على نهر تاجُهْ، بضم الجيم. وهي ( Talavera de la Raina) إلى الغرب من طليطلة، انظر التفاصيل في: معجم البلدان (7/ 53) وابن الأبار (2/ 257) والروض المعطار (127) وآثار البلاد وأخبار العباد (545) وصفة المغرب والأندلس للإدريسي (187) وجغرافية الأندلس وأوروبا (89). (2) فتح مصر والمغرب (207) وأخبار مجموعة (18) وفتح الأندلس (11) والبيان المغرب (2/ 16) والرسالة الشريفية (193) ونفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 271)، وقارن: Saavedra.p.98. (3) نفح الطيب (1/ 227)، فأين ذلك مما جاء في كتاب: فتح مصر والمغرب (283): "وأخذ موسى بن نُصير طارق بن عمرو، فشدّه وثاقاً وحبسه وهمّ بقتله. وكان مغيث الرومي غلاماً للوليد بن عبد الملك، فبعث إليه طارق: إنك إن رفعت أمري إلى الوليد، فإنّ فتح الأندلس كان على يديّ، وأنّ موسى حبسني يريد قتلي، أعطيتك مائة عبد ... وعاهده على ذلك ... فلما أراد موسى الإنصراف، ودّع موسى بن نصير، وقال له: لا تعجل على طارق، ولك أعداء، وقد بلغ أمير المؤمنين أمره، وأخاف عليك وجده! فانصرف مغيث وموسى بالأندلس! "فلما قدم مغيث على الوليد، أخبره بالذي كان من فتح الأندلس على يدي طارق، وبحبس موسى إياه، والذي أراد به من القتل، فكتب الوليد إلى موسى، يقسم له =

......................................................................... _______ = بالله، لئن ضربته لأضربنّك، ولئن قتلته لأقتلنّ ولدك به، ووجه الكتاب مع مغيث الرومي ... فقدم به على موسى الأندلس، فلما قرأه أطلق طارقاً وخلّى سبيله، ووفى طارق لمغيث بالمائة عبد التي كان جعل له" ... انتهى!! وأقول: إن هذا الذي ذكره ابن عبد الحكم في كتابه: فتح مصر والمغرب، يناقض ما ذكره هو أيضاً في ص (283) من نفس الكتاب، فقد ذكر في ص (280): "فأجاز موسى من الخضراء، ثم مضى إلى قرطبة، فتلقاه طارق، فترضّاه وقال له: إنّما أنا مولاك، وهذا الفتح هو لك"، ثمّ ذكر في نفس الصفحة أيضاً: "ويقال: إنّ موسى هو الذي وجّه طارقاً بعد مدخله الأندلس إلى طليطلة، وهي النصف ما بين قرطبة وأرْبُونَة، وأربونة أقصى ثغر الأندلس" وهذا يدل على أنّ موسى كان منسجماً مع طارق، ويدل على أنه لم يحبسه ولم يهمّ بقتله، وإنّ كل ما جاء حول ذلك لا نصيب له من الصحة. وابن عبد الحكم على جلالة قدره مؤرخاً وعالماً، يذكر الروايات المختلفة، أسوة بغيره من المؤرخين القدامى، كأنّه يحشد المعلومات المتيسرة، دون أن يترك شاردة ولا واردة منها، تمهيداً لمن يأتي بعده من المؤرخين، ليناقش تلك الروايات، ويرجح منها ما كان راجحاً، ويبدي رأيه بالذي لا يراه صواباً، فجزاه الله عن المؤرخين خيراً. وفي كتاب فجر الأندلس (86): "ولا نرى إلا تفسيراً واحداً لانفراد ابن عبد الحكم من بين المراجع الموثوق فيها بذه الرواية، هو أنها كانت معروفة في المشرق، مجهولة عند أهل الأندلس. وأما وجودها في المشرق فمرجعه على أغلب الظن إلى مغيث الرومي، فقد كان محنقاً على موسى، مولعاً بالكيد له، لأنه كان يرى أنه مولى الوليد، وأنه أولى بولاية الأندلس - كما سنرى - فانتهز فرصة ذهابه إلى المشرق لإبلاغ الوليد أخبار انتصارات المسلمين، وأخذ يبالغ في مساءات موسى ويختلق عليه، حتى لقد أنكر عليه كلّ فضل في الفتح - كما يرى في رواية ابن عبد الحكم الآنفة الذكر - وانتشرت قالاته بين أهل قصر الخليفة وبين أهل المشرق، وسجلها المؤرخون المشرقيون الذين يمثلهم ابن عبد الحكم في هذه الناحية". وأما الأندلسيون، وهم أحرى أن يعرفوا مثل هذا الخبر على صحّته، لأن أخبارهم أُخذت عن ناس حضروا بأنفسهم هذه المواقف، فلا يعرفون إلاّ أنّ موسى: "وضع السّوط على رأس طارق وونّبه"، كما يقول صاحب الأخبار المجموعة، وقد كان مستطيعاً أن يقول: إنّ موسى ضرب طارقاً بالسّوط، بدلاً من قوله: وضع السّوط على رأسه، فقط" .... انتهى.

ولم يلبث طارق وموسى أن تعاونا تعاوناً وثيقاً، فترك موسى طارقاً على قيادته، وسار كل منهما في اتجاه، متعاونين متساندين، وهذا واضح من قول ابن حيّان: "قالوا: ثم إن موسى اصطلح مع طارق، وأظهر الرضى عنه، وأقرّه على مقدّمته، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه، وسار موسى خلفه في جيوشه" (1). لقد تحمل جيش طارق من الأعباء ما يزيد على طاقته، لدرجة أجهد الجند وعرّضهم للأخطار، فقد اقتحم هذا الجيش الأندلس، وصادم القوط في مواقع موضعية وموقعة حاسمة، وتوغّل في قلب البلاد، واستولى على حاضرتها قبل أن يستفيق القوط من الصدمة، كل ذلك جرى في وقت قصير. ثم إن المقاومة القوطية بدأت تتكون وتترعرع وتشتد بالتدريج في نواحي البلاد، وبخاصة في جهة غربي الأندلس، حيث تصلح المناطق الجبلية المهجورة في إقليم استرامادور لأن تكون أوكاراً لرجال المقاومة القوطية، وهذا يفسِّر لنا خط سير الحملة التي قادها موسى بن نصير (2)، فحمي الجناح الأيسر المكشوف لقوات طارق، وحرم المقاومة القوطية من فوصة التعرّض بخطوط مواصلات المسلمين، التي تربط قواتهم الأمامية بقواعدها المتقدمة في الأندلس. وهذا ما يفسر لنا أهم سبب من أسباب توقف طارق في طُليطلة وعدم تغلغله في الفتح، فقد حرص موسى - وهو على حق - على توقف _______ = ولا أرى أنّ مغيثاً يفتري على الخليفة الكذب، وهو الصادق المؤتمن، وليس بالإمكان إتّهام موسى بمثل هذه التهمة، لأنّ كذبها سيظهر حتماً، لعدم إمكان إخفاء مثل تلك التهمة الكبرى، ولا يمكن أن نصدق أنّ مغيثاً ينقل للخليفة غير الواقع والصدق، ويبدو أن مغيثاً لا علم له بهذه القصة، وقد وضعت على لسانه من بعده، لذلك لم يصدقها أحد، ولم ينقلها أهل الأندلس عن ابن عبد الحكم، لأنهم لم يصدّقوا الحادث والحديث والراوي، ومن حق كلّ إنسان ألاّ يصدّق ما يبدو عليه التزوير والانحراف والإفتراء. (1) نفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 172) (2) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (92).

ب - فتوح موسى قبل لقاء طارق:

طارق عن الانطلاق شمالاً أو شرقاً أو غرباً للفتح، خوفاً من محاولة القوط قطع مواصلات قوات طارق، وحتى لا يتعرض جناحا قوات طارق الأيمن والأيسر لخطر تعرض المقاومة القوطية المحتملة، مما يسبب لها خسائر فادحة بالأرواح. والواقع، أن موسى كان يعمل مع طارق من أول نزوله الأندلس، بتعاون وثيق، وأن خروج طارق للقاء موسى عند طَلَبِيرَة لم يكن لمجرّد اللقاء، بل لغرض آخر حربي سنعرفه، وقد أتم الرجلان الفتح على أحسن ما يكون القادة تعاوناً. (1) ب - فتوح موسى قبل لقاء طارق: نزل موسى في جبل الفتح (جبل طارق)، ثم دخل الجزيرة الخضراء وأقام فيها أياماً للراحة والتأهب، فلما عزم السير، جمع حوله رايات العرب ووجوه الكتائب، وعددها يزيد على عشرين راية، فأجمعوا السير إلى إِشْبِيلِية وغزو ما بقي من غربي الأندلس حتى أكْشُوْنبة (2). وزحف موسى إلى شَذُوْنة، ومنها سار إلى قَرْمُوْنَة ورَعْواق (3) ( Guadaira Alca) ففتحها، وبهذا أمِّنت خطوط مواصلات المسلمين من الجزيرة الخضراء إلى قرطبة، إذ أصبحت سلسلة مدائن الجزيرة وشَذونة ورعواق وقَرْمُونة وإسْتجّة وقرطبة في يد المسلمين، وأصبح بإمكان موسى أن يتجه نحو الغرب _______ (1) انظر التفاصيل في: قادة فتح المغرب العربي (1/ 251 - 255) وفجر الإسلام (87) (2) أكشونبة: مدينة بالأندلس، يتصل عملها بعمل لشبونة، وهي غربي قرطبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 317) وفيه وردت أكسبونبة. (3) ورد اسم هذه المدينة في المصادر العربية بصيغ مختلفة: رعوان، زعواق، رَعواق، ويبدو أن الصواب هي: رعواق، وهي قلعة جوادايرا، انظر: نفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 270) وأخبار مجموعة (16) وفيهما ذكر فتح قرمونة قبل إشبيلية، وانظر فجر الأندلس (92).

ليفتح إشْبِيلِية كبيرة مدائن شبه الجزيرة بعد طُليطلة إذ ذاك. واتجه موسى بقواته إلى إِشْبيلِية، ففتحها المسلمون بعد بضعة أشهر من الحصار، ويبدو أن سكانها فتحوا أبوابها للمسلمين بعد أن طال الحصار واشتد القتال. وأما حاميتها القوطية، فانسحبت إلى لَبْلَة (1) على مصب وادي آنة، ومنها إلى أَكْشُونِبَة ثم إلى بَاجَة (2)، وهناك استقرّت تنتظر الحوادث. وسار موسى على رأس قواته قاصداً مارِدَة (3)، متبعاً طريقاً رومانياً قديماً كان يصل البلدتين، واستولى في طريقه على بلدة تسمى لَقَنْت (4) سلّم له أهلها دون مقاومة، فسموا لذلك: موالي موسى (5). ولما أدرك موسى ماردة، وجدها أحصن وأقوى مما ظنّها، فقد كان الهاربون من فلول القوط قد تجمعوا فيها، لأنها بلد بعيد صعب المنال وعر المسالك، فأقام موسى محاصراً البلد بقية الصيف والشتاء التالي، ولم يسلّم البلد إلاّ في الأول من شهر شوال سنة أربع وتسعين الهجرية (30 حزيران - _______ (1) لبلة: قصبة كورة بالأندلس كبيرة، يتصل عملها بعمل أكشونبة وهي شرق من أكشونبة وغرب من قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام، أربعة وأربعون فرسخاً، وهي بريّة بحرية، انظر معجم البلدان (7/ 319). (2) باجة: مدينة من أعمال الأندلس، تتصل بنواحي ماردة، وهي ضمن اثنتي عشرة مدينة قاعدتها ماردة، انظر المشترك وضعاً والمفترق صقعاً (33) وجغرافية الأندلس وأوروبا (63). (3) كورة متصلة من نواحي الأندلس، متصلة بحوز فِرّيش بين الغرب والجوف من أعمال قرطبة، واحدى القواعد التي تخيرتها الملوك للسكنى، وهي مدينة رائعة كثيرة الرخام، فيها آثار قديمة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 360). (4) لقنت: حصنان من أعمال ماردة بالأندلس: لقنت الكبرى، ولقنت الصغرى، وكلّ واحدة تنظر إلى صاحبتها، انظر معجم البلدان (7/ 336). وقال ابن القوطية: "ثمّ قصد من إشبيلية، إلى لقنت، إلى الموضع المعروف بفجّ موسى، في أوّل لقنت إلى ماردة"، انظر افتتاح الأندلس (9). (5) فتح الأندلس (11)، وانظر تعليق ( Joaquin de Gonzales) بخصوص هذه العبارة (93) من الترجمة، وانظر فجر الأندلس (93).

ج - لقاء القائدين:

يونيو 713 م) بعد قتال طويل، هلك فيه نفر كبير من حامية البلدة بسبب كمائن أخفاها موسى في مقاطع الصخر أمام مخارج البلد، وقد استُشهد أثناء محاولات نقب السور نفر من المسلمين، سقطت عليهم دبابة كانوا قد اختفوا تحتها لينقبوا طبقة من السور مبنية من شيء يشبه التُرابة (1) الصلبة. ولم يسلِّم أهل البلد إلاّ بعد أن عاهدهم موسى على: (أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقِيَّة للمسلمين، وأموال الكنائس وحليِّها لها)، وهي شروط سيكون لها أثر في تحديد العلاقة بين المسلمين والقوط فيما بعد (2). وأقام موسى في ماردة أكثر من شهر، يرتِّب أحواله، وينظِّم أمورها، ويريح رجاله، ويكمل نواقصهم في السلاح والتجهيزات ووسائط النقل من الحيوانات، استعداداً لاستئناف الفتوح. ج - لقاء القائدين: من الواضح أن موسى أحسّ أن عناصر المقاومة القوطية في ناحية ماردة، كانت أقوى مما لقي المسلمون في أماكن أندلسية أخرى، وعرف أن فلول القوط وأنصار لذريق بخاصة، كانوا يتجمعون في تلك المناطق الجبلية الوعرة _______ (1) الترابة: الإسمنت. (2) وردت هذه العبارة الهامة عن ذلك الاتفاق في: أخبار مجموعة (18) ونفح الطيب (1/ 171)، وقد أورد هذان الكتابان تفاصيل مهمة مما فعله المسلمون حتى استطاعوا الاستيلاء على هذا الحصن المهم. ومن ذلك قصة المسلمين الذين استشهدوا تحت الدبابة التي كانوا يختبئون تحتها لنقب سور البلد، وذكروا أن هذا الموضع يسمى إلى وقتهما: (برج الشهداء) لهذا السبب. ويذكران أيضاً حيلة موسى مع أهل ماردة وتلوينه شعره من أبيض إلى أحمر إلى أسود إرهاباً لهم، وانظر تفصيل فتح ماردة في: الرازي نشر جلينجوس (78) وأخبار مجموعة (16 - 18) وابن الأثير (4/ 565 - 565) والبيان المغرب (2/ 14 - 15) والنويري (22/ 28 - 29) وفجر الأندلس (93) والفتح والاستقرار العربي الإسلامي (196) والتاريخ الأندلسي (74 - 78).

ظنّاً منهم أنّ المسلمين إذا وصلوا إليها، فإن طبيعتها الجبلية الوعرة ستساعد المقاومة القوطيّة على الدفاع الرصين، حيث يمكن التسرب منها إلى نواحي قَشْتَالة (1) واسترامادور إذا أخفقوا في الدفاع، وفعلاً لاقى موسى عقبات في طريقه من ماردة إلى طُليطلة، فخفّ طارق للقاء موسى بالظاهر، ونجدته بالواقع، حتى يخفف الضغط على قوات موسى من جهة، وليجبر المقاومة القوطية على مجابهة قوات موسى وقوات طارق في آن واحد، ويضطرّها على الانسحاب. والذي أخّر طارق عن الخروج للقاء موسى، منذ عبوره إلى الأندلس، حتى هذه الأيام، يمكن تفسيره بأن موسى، رأى أن مقام طارق بطليطلة يؤمِّنه من عمل يقوم به قوطها، فلما فرغ من أمر ماردة، وأراد السير نحو طليطلة، أحسّ أن الطريق طويل محفوف بالمخاطر، لأن فلول القوط كانت تتجالب (2) وتتجمّع في تلك النواحي. فلما رأت موسى يأخذ في الطريق وجدت الفرصة سانحة لاعتراضه ومنازلته في معركة لها ما بعدها، وكان هذا هو السبب الذي حفّز طارقاً إلى المسير للقاء موسى. ولا يعقل سكوت طارق عن الذهاب إلى مولاه موسى طيلة أشهر الشتاء رغم وجوده على مقربة منه، إلاّ بأنّ موسى لم يطلب إلى طارق المجيء إليه إلاّ في تلك الأيام، حينما أحسّ ببعض ما كان يدبّر حوله في هذه المناطق الجبلية الوعرة. والوقع أن حشود القوط تربصت بالمسلمين في تلك المنطقة، ولبثوا يتحينون الفرصة للانقضاض على جيوش المسلمين. ولم يكن موسى ليستطيع السير من ماردة إلى طليطلة وهؤلاء في طريقه، فكان لابد له من القضاء عليهم، ولهذا استدعى طارقاً ليلقاه في منتصف الطريق بين ماردة وطليطلة، فسار طارق نحو مائة وخمسين ميلاً، وانتظر مولاه في وادي الأرّوكامبو ( Arrocampo) في مكان يسمى المعرض ( Almaraz) بين التاجة ونهر _______ (1) قشتالة: إقليم عظيم بالأندلس، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 93). (2) البيان المغرب (15).

التيتار ( Tietar) قرب طلبيرة غربي طليطلة. (1) أما موسى فسار في طريق ماردة سلمنجة بحذاء نهر أُطلق عليه اسمه، وهو نهر موسى ( Valmuza) (2) . وإذا كان حدث شيء بين القائدين، فلا يعدو أن يكون مناقشة بعض القضايا، أو استفهامه من طارق خطته وإبداء الملاحظات عنها، "وعلى توغله بالمسلمين، وتغريره بهم" (3)، حيث اندفع بهذه السرعة إلى قلب البلاد. وحين: "خرج إليه طارق وتلقّاه، فتعتّب عليه موسى وقال له: ما دعاك إلى الإيغال والتّقحّم في البلاد بغير أمري؟ " (4). فاعتذر له طارق بخطته العسكرية أمام الظروف المحيطة والضرورة الداعية لأسلوبه القتالي (5). وقد تمكن طارق من حسم القضية مع سيِّده، وأظهر نواياه الحسنة، وعرض على موسى كل ما أصابه من غنائم وكنوز في فتوحاته (6). ويبدو أنه كان موفقاً أيضاً في _______ (1) فتح مصر والمغرب (207) وأخبار مجموعة (18) وفتح الأندلس (11) والبيان المغرب (2/ 16) والرسالة الشريفية (193) ونفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 271)، وفجر الأندلس (99)، وقارن: Saavedra.P.98 (2) وتعيين اتجاه موسى على هذا النحو، يعيننا على تحديد المكان الذي التقى فيه بطارق على وجه التقريب. فابن عذارى يقول: "اتفق الأكثرون على أنّ التقاءهما كان على طليطلة (لما بلغه مسير موسى إليه، فلقيه بمقربة من طلبيرة)، كما قال الرازي، وذكر الطبري أنه كان على قرطبة. ولما كانت بعض المراجع الأجنبية تقول بأنّ الّلقاء وقع عند ناحية تسمى ( Almaraz) وهو لفظ عربي الأصل يرجع إلى أصله العربي: (المعرض) وهو مكان على مقربة من طلبيرة، فإننا نستطيع القول بأنّ الّلقاء بين موسى وطارق وقع هناك، انظر البيان المغرب (2/ 17) وأخبار مجموعة (18) و Saavedra.op.cit.p.98 و Rodericus Tolitanus. de rbus Hispaniae.1.111.cap.XXIV. (3) البيان المغرب (1/ 16). (4) تاريخ الأندلس (25 مقدمة المحقِّق) و (149 نص ابن الشباط) والحلة السيراء (2/ 334). (5) التاريخ الأندلسي (90). (6) أخبار مجموعة (19) وابن الأثير (4/ 565) والبيان المغرب (2/ 16 - 17) والنويري =

إقناع موسى بوجهة نظره في الفتح، وبضرورة استقرار المسلمين الدائم في البلاد المفتوحة، وهذا الأمر واضح جداً من التفاهم المتبادل، والتعاون المشترك الذي ساد بين القائدين خلال فتوحاتهما المشتركة (1): "ثم إن موسى اصطلح مع طارق، وأظهر الرضى عنه، وأقرّه على مقدمته، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه، وسار موسى خلفه في جيوشه" (2)، كما ذكرنا ذلك. لقد كان عبور موسى إلى الأندلس لسبب حربي واضح، وكان باستدعاء طارق له، فجاء منقذاً لا منتقماً. كما كان توجه طارق للقاء موسى لسبب حربي واضح أيضاً، لأن قوات موسى أصبحت مهددة بحشود المقاومة القوطية. فقدم إلى موسى بمبادرة منه أو بطلب من موسى، وما حدث في سير الحوادث هو الدليل القاطع على سبب اللقاء بين القائدين. فقد انقضَّت حشود المقاومة القوطية التي كانت في تلك المنطقة الجبلية الوعرة على جيش موسى في ناحية يسميها مؤرخو المسلمون: السَّواقي، وهي ( .... de los Cornejos) على مقربة من تمامس ( Tamames) (3) فردّ المسلمون على القوط بهجوم مقابل وثبتوا للقوط حتى أفْنَوْهم عن آخرهم (4). ويبدو أن اشتباك المسلمين بالقوط في معركة السَّواقي، شجع نفراً من بقايا القوط وأنصارهم في طليطلة على نقض طاعة المسلمين، فانتهزوا فرصة خروج طارق وجنده منها، ووثبوا بها، فاضطرّ موسى إلى فتحها من جديد، _______ = (22/ 29) ونفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 273). (1) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (181). (2) نفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 172). (3) فتح الأندلس (8) والإمامة والسياسة (2/ 156). (4) لا عبرة بمن ذكر أنّ لذريق قُتل في هذه المعركة، وأنّ قبره في فيزيو معروف حتى زمان الفونسو الكبير الذي ذكر في حولياته: أنه رأى وقرأ عليه لوحة تقول: هنا يرقد لذريق ملك القوط ( Hic requiescir Rudericus rex gothorum) ، فقد قضى لذريق نحبه في المعركة الحاسمة التي قادها طارق، كما ذكرنا، والقبر وما مسجل عليه مزوّر كما هو واضح، وكثيرة هي القبور المزورة كما هو معروف.

ودخولها دخول المنتصر (1). أليس هذا الذي حدث في معركة السَّواقي، وفتح طليطلة ثانية، دليلاً قاطعاً، على أن المسلمين بقيادة طارق بعد تغلغلهم العميق في البلاد، أصبحوا في خطر جسيم، لانكشاف جناحيهم: الأيمن والأيسر، ولتهديد خطوط مواصلاتهم الطويلة الواهنة، فكان عبور موسى هو لدرء هذا الخطر الجسيم، كما أن بقاء طارق في طليطلة دون فتح جديد، ودون لقاء موسى، بالرغم من مضي مدة طويلة من الزمن على عبور موسى، هو لتثبيت حشود المقاومة القوطية في أماكنها دون التعرض بقوات موسى وقوات طارق لأطول مدة ممكنة. كما أن حركة طارق للقاء موسى في طريقه إلى طليطلة، وهو طريق جبلي وعر فيه حشود المقاومة القوطية المتربِّصة بالمسلمين، كان لمعاونة موسى على اجتياز الطريق المحفوف بالمخاطر سالماً آمناً، أو ضمان إحراز النصر على القوط إذا اشتبكوا بالمسلمين، لأن اشتباكهم بقوات موسى وقوات طارق أصعب عليهم من اشتباكهم بقوات موسى وحدها. إن كل ما حدث يدلّ على أن القائدين كانا يعملان لمصلحة المسلمين العليا، لا لمصلحتهما الشخصية الضيقة، فلا مجال لتصديق ما زعمه بعضهم من حدوث مشادات بينهما، قد تصدق على إطفاء ما يعتلج في صدور الصبيان من حزازات، دون أن يخطر أمثالها ببال قائدين عظيمين. وبالإمكان ذكر أدلّة جديدة، على أن موقف طارق والمسلمين في الأندلس، نظراً لاندفاعهم السريع في عمق البلاد، كان موقفاً خطيراً للغاية وواهناً إلى أبعد الحدود، وهو السبب في استنجاد طارق بموسى، وعبور موسى بنفسه إلى الأندلس، لمعالجة الموقف الراهن وملافاة أخطاره، ولو أن الأمر أصبح لا يحتاج إلى أدلة جديدة، ولكن استكمال البحث بالدرجة الأولى، هو الذي يحملني على ذكرها بإيجاز، ثم لتكون أدلة جديدة تضاف _______ (1) فتح الأندلس (12).

د - الفتح المشترك بين القائدين:

إلى الأدلّة السابقة. فقد ذكرنا أن طارقاً فتح مدينة شَذُوْنة عَنْوَة بعد معركته الحاسمة مع القوط، كما فتح مدينة قَرْمُوْنَة وإِشْبِيلِيَة وإِسْتِجَّة وطُليطلة. وفتحت سراياه قُرطُبَة ومالَقَة وإِلْبِيرة وكورة تُدْمِير وغَرْناطة وأُورْيُولَة. وذكرنا في فتوح موسى قبل لقائه بطارق، أنه فتح شَذُونَة وقَرْمُونة ورعواق وإشبِيليِة ومارِدة ولَقَنْت. ومعنى ذلك، أنّ كثيراً من المدن التي فتحها طارق لأول مرّة، استعادها القوط، مما يهدّد أجنحة قوات طارق، ويهدد خطوط مواصلاته، فاضطر موسى أن يستعيد فتحها من جديد، لتأمين جناحي طارق الأيمن والأيسر وخطوط مواصلاته، ولتفتيت المقاومة القوطية أينما وجدت. وحتى طُليطلة، بعد أن غادرها طارق بوقت قليل، لكى يلاقي موسى وهو في طريقه إليها، استعادها القوط، فاضطر موسى أن يستعيد فتحها من جديد. لقد عزّز عبور موسى موقف المسلمين بقيادة طارق في الأندلس، وأزاح عنهم ما كان يخشونه من أخطار، وأمن خطوط مواصلات المسلمين، وحمى أجنحتهم حماية كاملة، وفتّت قوات القوط، وبدّد حشودهم في الجبال الوعرة، وجعل آمالهم في استعادة ما فتحه المسلمون إلى حوزتهم سراباً، وأظهر لهم بالقوة تارة وبالسياسة تارة أخرى، أن الخيار الوحيد المفتوح أمامهم، هو الاستسلام للمسلمين، والتعاون معهم في إدارة البلاد، ومعاونتهم في تعميرها، فقد جاء المسلمون ليبقوا لا ليرحلوا. ومضى موسى وطارق إلى طليطلة، ليقضيا فصل الشتاء معاً هناك، وليرتاح المسلمون ويكملوا استعدادتهم لفتح جديد. د - الفتح المشترك بين القائدين: كان هدف موسى وطارق ..............................................

السَّوْقِي (1)، هو فتح شمالي الأندلس، وقد بدأ بانتهاء فصل الشتاء وحلول فصل الصيف، أي حوالي شهر جمادى الثانية من سنة خمس وتسعين الهجرية (آذار - مارس 714 م) وزحف الجيش الإسلامي، على مقدِّمته طارق، وسار موسى خلفه على جيوشه، نحو مدينة سَرَقُسْطَة (2) ( Zaragoza) : " المدينة البيضاء" (3)، ففتحا المدينة دون قتال شديد على ما يبدو، فأقاما هناك سوية ينظمان أحوالها، وأنشأ فيها مسجداً خططه التابعي الجليل حَنَش بن عبد الله الصَّنعاني (4). وأوغلا في البلاد، لا يمرّان بموضع إلاّ فُتح عليهما، وكانت _______ (1) السَّوْقيّ: الاستراتيجي، من السَّوْق، وكانت تستعمل في الجيش العراقي منذ الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي. (2) سرقسطة: تعريب للاسم الروماني: قيصر أجستا ( Saesar Augusta) لأن أغسطس قيصر هو الذي أسسها سنة (23 ق. م) على أطلال المدينة الإيبيرية القديمة التي كانت تعرف عند الإيبيريين باسم: سلدوبا ( Salduba) ، وهي من أطيب البلاد، نقع على نهر إبْرُهْ الذي مجراه ينصب في البحر الأبيض المتوسط بساحل طُرطوشة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 71) ونصوص عن الأندلس لابن الدلائي (21 - 23). (3) الروض المعطار (96). (4) حنش بن عبد الله الصنعاني: هو حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة أبو رشيد، من صنعا دمشق، روى عن فضالة بن عُبيد ورُويفع بن ثابت وأبي هريرة وأبي سعيد، وروى عنه ابنه وقيس بن الحجاج وجماعة. غزا المغرب، وسكن إفريقية، وعداده في المصريين، وهو تابعي كبير ثقة، دخل الأندلس، وكان مع علي بن أبي طالب بالكوفة. بعد استشهاد عليّ رضي الله عنه، غزا المغرب والأندلس. كان حنش إذا فرغ من عشائه وحوائجه، وأراد الصلاة من الليل، أوقد المصباح وقرب المصحف وإناء فيه ماء، فكان إذا وجد النعاس استنشق بالماء، هاذا تعايا في آية نظر في المصحف، وكان إذا جاءه سائل مستطعم لم يزل يصيح بأهله: "أطعموا السائل"، غني يُطعم، نزل مصر، ومات سنة مائة الهجرية، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وذلك لأنّ عبد الملك حين غزا المغرب مع معاوية بن خُديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين الهجرية، فحفظ له ذلك. غزا الأندلس مع موسى بن نصير، وله بها آثار، ويقال: إنّ جامع سرقسطة من ثغور الأندلس من بنائه، وأنّه أوّل من اختطّه. وفي رواية: إنّ أبا المهاجر دينار بعث حنش بن عبد الله الصنعاني إلى جزيرة شريك (في إفريقية)، فافتتحها، انظر =

الغنائم جسيمة، ولم يعارضهما أحد إلاّ بطلب صلح، وموسى يجيء على أثر طارق في كل ذلك، ويُكمل ابتداءه، ويوثِّق الناس على ما عاهدوه عليه (1). وكانت طلائع المسلمين لم تكد تشرف على سَرقُسطة حتى رعب أسقفها بنسيو ( Bencio) ومَنْ معه من الرُّهبان، فجمعوا كتبهم المقدّسة وقرّروا الهجرة من البلد، والفرار بهذه الذخائر، فلم يلبث موسى أن أرسل إليهم رسولاً يؤمنهم ويعطيهم عهده، فسكنت مخاوفهم، وعدلوا عن مغادرة المدينة (2)، وفتحت المدينة البيضاء: سرقسطة أبوابها للمسلمين سنة خمس وتسعين الهجرية. ولم يكد المسلمون يستقرون في سَرَقُسْطَة بعد فتحها، حتى توجه طارق وموسى إلى مناطق حول تلك المدينة وفتحا تلك المناطق، كما فتحا مدناً _______ = التفاصيل في: تهذيب ابن عساكر (5/ 9 - 11) ومعجم البلدان (5/ 392 - 393) والاستقصا (1/ 71) وتاريخ علماء الأندلس (1/ 125) رقم 391 وجذوة المقتبس (202) رقم 403 وبغية الملتمس (278) رقم 687 وقادة فتح المغرب العربي (1/ 139) و (1/ 152). (1) نفح الطيب (1/ 255 - 256). (2) في فجر الأندلس (102): "ويبدو أنّ ما لقيه المسلمون من الشدّة عند ماردة والسّواقي، وما دهمهم من ثورة أهل طليطلة، مال بهم إلى الشدة، فنراهم في غزوتهم هذه أميل إلى العنف مما كانوا عليه قبل ذلك، فبينما كان طارق يحتلّ المواقع احتلالاً سلمياً، فيؤمّن أهلها، ولا يكاد يأخذ إلا ما كان من أملاك القوط وأملاك الكنيسة، نسمع من الآن فصاعداً عن نهب البلاد وإحراقها ورعب أهلها وخروجهم منها على وجوههم، ويبدو كذلك أنّ هذا كان نتيجة سياسة موسى، وقد عرفناه شديداً قاسياً عظيم الميل إلى المغانم والأسرى والسبايا، هذا وإن العرب أنفسهم - وعلى رأسهم الخليفة - أنكروا عليه هذا المسلك "، كما ورد في: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (100 - 101) مثل هذا المعنى. وما ورد في قصة الأسقف بنسيو في أعلاه، يناقض هذا الرأي الذي مصدره المستشرقون، ويعطي نموذجاً واقعياً حياً لرحمة المسلمين للمغلوبين. فإذا ظهرت شدة من موسى في بعض المواقف، فلأنّ الموقف الحربي قد يتطلب ذلك، انظر قادة فتح المغرب العربي (1/ 266).

أخرى في تلك الناحية: وشْقَة (1) ( Huesca) ولارِدَة (2) ( Lerida) وطَرَّكُوْنَة (3) ( Tarragona) وبَرْشَلُونة (4) ( Barcelona) وأحب موسى سيره نحو البرت، ولكن جنده روِّعوا لما شاهدوه من قفر تلك النواحي وقلّة عمرانها، ثم إن أهلها كانوا يتكلمون اللغة الباسكية (لغة الباسك)، فوقعت من جند موسى موقعاً غريباً، وظنوا أنهم لا يتكلمون (6)، وزهد المسلمون في هذه البلاد التي يسكنها قوم كالبهائم (7). وحين أوغل موسى وجاوز سرقسطة، اشتدّ ذلك على الناس وقالوا: (أين تذهب بنا؟! حسبنا ما في أيدينا!) وكان موسى قد قال حين دخل إفريقية وذكر عُقْبَة بن نافع: (لقد كان غرّر بنفسه حين وغل في بلاد العدو، والعدو عن يمينه وعن شماله وأمامه وخلفه، أما كان معه رجل رشيد؟!)، فسمعه حَنش بن عبد الله الصَّنعاني في حينه، فلما بلغ موسى ذلك المبلغ من التغلغل عمقاً في الفتح، قام حنش فأخذ بعنانه، ثم قال: "أيها الأمير! إني سمعتك وأنت تذكر عقبة بن نافع تقول: لقد غرّر بنفسه وبمن _______ (1) وشقة: بليدة بالأندلس، وتعدّ من الثغر الأعلى من ثغور الأندلس مع لاردة وغيرها، انظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 423) ونصوص عن الأندلس (24) وجغرافية الأندلس وأوروبا (95). (2) لاردة: مدينة مشهورة بالأندلس، شرقي قرطبة، تتصل أعمالها بأعمال طركونة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 313). (3) طرّكونة: بلدة بالأندلس، متصلة بأعمال طرطوشة، وهي مدينة قديمة على شاطئ البحر، انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 44). (4) برشلونة: مدينة أندلسية مشهورة، قريبة من طرطوشة، انظر التفاصيل في تقويم البلدان (182 - 183) وجغرافية الأندلس وأوروبا (96 - 99). (5) فجر الأندلس (103) وتاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (101) ودولة الإسلام في الأندلس (1/ 53) والتاريخ الأندلسي (92). (6) في البيان المغرب 12/ 18): "وفتح بلاد البشكنس وأوغل في بلادهم، حتى أتى قوماً كالبهائم، وغزا بلاد الإفرنج"، وانظر فجر الأندلس (103). (7) البيان المغرب (2/ 24) والإمامة والسياسة (2/ 78) وقادة فتح المغرب العربي (1/ 266).

معه، أما كان معه رجل رشيد؟! وأنا رشيدك اليوم! أين تذهب؟ تريد أن تخرج من الدنيا؟! أو تلتمس أكثر مما آتاك الله عزّ وجل، وأعرض مما فتح الله عليك، ودوّخ لك؟! إني سمعت من الناس ما لم تسمع، وقد ملأوا أيديهم وأحبوا الدّعة)، فضحك موسى ثم قال: "أرشدك الله، وكثر في المسلمين أمثالك"، ثم انصرف قافلاً إلى الأندلس، وهو يقول: (أما والله، لو انقادوا إليّ، لقدتهم إلى رومِيّة (روما)، ثم يفتحها الله على يديّ إن شاء الله" (1). ولكن موسى ومعه طارق، استطاعا أن يعيدا إلى رجالهما نشاطهم وحماستهم للفتح، وبينما كانا يعدّان العدّة لفتح جلِّيْقِيَّة (2) إذ أتاه مُغيث الرّومي (3) رسول الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروَان، يأمره بالخروج من الأندلس، والكفّ عن التوسع في البلاد، وأن يشخص إلى دمشق، فساءه ذلك، وقطع به عن إرادته، إذ لم يكن في الأندلس بلد لم يدخله المسلمون غير جِلِّيْقِيَّة، فكان شديد الحرص على اقتحامها (4). وكان موسى قد أوفد علي بن رَباح (5)، وكان رجلاً صالحاً في نحو الثمانين من عمره، وهو من _______ (1) الإمامة والسياسة (80 - 81)، وانظر ما جاء حول ذلك في قادة فتح المغرب العربي (1/ 266 - 267). (2) جلِّيقيّة: ناحية قرب ساحل المحيط، من ناحية شمالي الأندلس، في أقصاه من جهة الغرب، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3/ 131) وتقويم البلدان (184 - 185) وجغرافية الأندلس وأوروبا (71 - 73). (3) مغيث الرومي: انظر ترجمته في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار. (4) نفح الطيب (1/ 258). (5) علي بن رباح: هو أبو عبد الله علي بن رَباح بن نُصَير اللّخمي، كان فاضلاً جليلاً من جملة التابعين، يروي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم عمرو بن العاص وولده عبد الله، وعُقبة بن عامر وأبو هريرة وعائشة أم المؤمنين زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة يكثر تعدادهم، وكان إذا انفرد يستذكر ما حفظ من أحاديث نبويّة خوفاً من نسيانها. ولد سنة خمس عشرة الهجرية، وكان أعور، ذهبت عينه يوم الصواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثمانين الهجريّة. وكانت له مع عبد العزيز بن مروان منزلة، وهو الذي زفّ أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد =

التابعين (1) مع مغيث الرّومي مولى الوليد بن عبد الملك، رسولين إلى الخليفة ينهيان إليه أخبار الفتوح، يوم كان موسى في طُليطلة بعد أن استعاد فتحها من جديد، وذلك سنة أربع وتسعين الهجرية، فعاد مغيث إلى موسى بما أمره به الوليد. ولكن قدوم مُغيث، لم يصرف موسى عن المضي في إتمام هذه الفتوح التي صاحبها التوفيق إلى هذه الساعة، فبذل جهده للبقاء في الأندلس بعض الوقت، ريثما يتم فتح جلِّيْقِيّة، ولاطف مغيثاً من أجل ذلك، وسأله إمهاله إلى أن ينفِّذ عزمه في فتح جَلِّيْقِيّة، والمسير معه أياماً، ويكون شريكه في الأجر والغنيمة، ففعل مغيث ومشى معه (2). وقد وهب مغيثاً القصر الذي ينسب إلى مغيث في عهد المسلمين، وهو: (بلاط مغيث) بجميع أرضه من أرض الخمس (3)، نظير إمهاله بعض الوقت ومصاحبته في غزوة جلِّيْقِيّة. وقبِل مغيث هذه الشروط، فلما اطمأن موسى إلى ذلك، بادر بالسير شمالاً لفتح قَشْتَالة (4) القديمة Old Castille) أو ( Castilla la Vieja تأميناً للحدود الشمالية _______ = بن عبد الملك، ثم عتب عليه عبد العزيز، فأغزاه إفريقية، إلى أن توفي بها، ويقال: إن وفاته كانت في سنة أربع عشرة ومائة الهجريّة، وقيل توفي سنة سبع عشرة ومائة الهجرية، انظر التفاصيل في: تاريخ علماء الأندلس (1/ 310) رقم 915 ورياض النفوس (1/ 77 - 78) ونفح الطيب (1/ 260 - 261)، وانظر الإمامة والسياسة (2/ 75 - 76) حول إيفاده إلى الوليد بن عبد الملك من قبل موسى بن نصير. (1) دخل الأندلس أربعة من التابعين هم: علي بن رباح اللّخْمي، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن زياد الحبليّ، وحنش بن عبد الله الصنعاني، وحيوة بن رجاء التميمي، وفي بغية الملتمس (51): إنّ محمد بن أوس الأنصاري وهو من التابعين غزا الأندلس مع موسى بن نُصير، وانظر تاريخ علماء الأندلس (1/ 310)، هذا بالإضافة إلى موسى بن نُصير الذي كان من التابعين أيضاً. (2) نفح الطيب (1/ 258). (3) الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية (204). (4) قشتالة: إقليم عظيم بالأندلس، قصبته اليوم طليطلة، انظر معجم البلدان (7/ 93) وجغرافية الأندلس وأوروبا (72).

لإقليم طُليطلة (1). والحديث عن إقناع مغيث بالغنيمة والقصر، لإبقاء موسى على رأس جيشه، ليستكمل تحقيق أهدافه في الفتح، ليس من السهل تصديقه ولا قبوله، فهو رشوة لتأجيل تنفيذ أمر الخليفة الواضح الصّريح، وقد كان مغيث قوياً أميناً لا يتقبل الرشوة ولا يرتضى لنفسه مخالفة أوامر الخليفة الصريحة الواضحة، والذي يبدو أن الخليفة أمر مغيثاً أن يُشخص موسى معه إلى دمشق، دون أن يأمره بإشخاصه فوراً، فكان لمغيث أن يتصرف في أمر موسى بحرية مطلقة، فرأى أن الموقف العسكري يتطلب بقاء موسى ردحاً من الزمن في الأندلس، لاستكمال فتوحاته، واقتنع برأي موسى بضرورة بقائه لغزو منطقة جلِّيْقِيَّة، حتى لا يتعرض إقليم طليطلة لتعرض قوطي، كما لم يجد مغيث محذوراً من بقاء موسى في قيادته، فلا اعتراض له على أمر الخليفة، كما لا يستطيع أن يعترض، فكان لبقاء موسى فائدة للفتح دون ضرر على الخلافة، لذلك اقتنع مغيث بالسير مع موسى ومرافقته في فتحه، فكانت الغنيمة والقصر جزاء جهاده لا جزاء تراخيه في تنفيذ أمر الخليفة أو جزاء التخلي عن التنفيذ. والغريب أن المستشرقين ركّزوا على هذه الفرية، وبالغوا في شرحها وتوضيحها وتسليط الأضواء عليها، فصوّروا في هذا الفصل مغيثاً متواطئاً مع موسى على الخليفة، ثم صوّروه في الفصل الثاني عدواً لدوداً لموسى، يُشنّع على موسى لدى الخليفة لأنه كان يرى نفسه أحق من موسى بتولي الأندلس، وليس ذلك من خلق التابعين وتابعي التابعين، ولا كان الدسّ والافتراء والكذب والحسد والرشوة من أخلاقهم، فإذا لم يكن مقنعاً، للمؤرخ الذي تتبع خلق أولئك الرجال، فالتناقض المكشوف في موقف مغيث - بحسب ادعاءات المستشرقين - لابد أن يكون مقنعاً، إذ كيف يمكن أن نصدق أن مغيثاً يفتري ما يفتري على موسى بحضور الخليفة، ثم يسكت عنه موسى في _______ (1) Saavedra.op.cit.p.113-114

تقاضيه الرشوة لقاء تراخيه في تنفيذ الأمر الخليفي؟ وهل من المعقول أن يعفو الخليفة عن المتراخي في تنفيذ أمره لقاء رشوة معروفة وليست سِرّاً. وبالطبع استفاد المستشرقون من المصادر الإسلامية في ترويج هذه الادعاءات، وما ذلك أراد مؤلفوها. وسنرى سبب استدعاء موسى إلى دمشق وشيكاً، حيث لا نجد محلاّ لمثل هذه التخرّصات. وكان يتفرّع من سَرْقُسْطة طريقان رومانيان يتجهان من الشرق إلى الغرب: الأول يذهب بحذاء نهر إبْرُهْ (1) ( Ebro) - ( الإبرو) حتى هارو ( Haro) ومن هناك يتبع بروفيسكا ( Barivlesca) ثم أمَايَة (2)، ثم لِيُون (3) وأسترقة. والثاني ينفصل من الطريق الأول عند بدايته، ويتجه نحو قَلُوْنية وبَلَنْسِيَة (4)، ويلتقي بالطريق الممتد من ماردة إلى أسترقة في مدينة بنافنتي، وكان لابد لموسى من السير في كل من هذين الطريقين. فقسم جيشه قسمين: قسم بقيادته، والآخر بقيادة طارق. واختار موسى الطريق الثاني، وعهد إلى طارق بالسير في الطريق الأول، أدنى سفوح جبال كَنْتبرية، وشرع طارق بمهاجمة البشكنس (5) غربي نهر إبره، فلم يجد صاحب الناحية فُرْتُون ( Fortunius) بداً من الدخول في طاعة المسلمين، بل اعتنق الإسلام، ومنه تسلسل بنو _______ (1) نهر إبره: ويقع في شمال شرقي الجزيرة الإيبيرية، ويصب في البحر الأبيض المتوسط عند طرطوشة، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (57). (2) أماية: إحدى المدن الأندلسية، وهي إحدى مدن الجزء الثالث بحسب تقسيمات الأندلس القديمة، وهي: ( Amaya) ، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (62). (3) ليون: مدينة بالأندلس في منطقة جليقية، انظر التفاصيل في تقويم البلدان (184 - 185). (4) بلنسية: كورة ومدينة بالأندلس شرقي قرطبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 279) وتقويم البلدان (178 - 179). (5) البشكنس: الباسك.

قَسِيّ (1) أصحاب الثغر الأعلى (2)، الذين لهم ذكر كثير في تاريخ الأندلس (3)، ثم تابع طارقٌ سيره، واستولى على أمايَة واسترقة اللتين ذكرهما قسم من المؤرخين خطأ في حملة طارق التي كانت سنة اثنتين وتسعين الهجرية (4) (711 م) كما فتح مدينة ليون (5) في هذه السنة أيضاً. وسار موسى نفسه على الضفة الشرقية لنهر إبره في إقليم قَشْتالة (6)، فأطاعه معظم من مرّ بهم من رؤساء هذه المناطق. وقد لقي مقاومة عند قرية تسميها بعض المراجع بارو أو بازو في مقاطعة بلد الوليد الحالية (فاليا دوليد Valladolid) ولم يلبث أن تغلّب عليهم، ثم سار متابعاً فتوحه. وبدلاً من أن يعرِّج على استرقة ليلتقي فيها بجيش طارق، انحرف إلى الشمال واخترق باب تارنا ( Tarna) وسار متابعاً مجرى نهر النالون ( Nalon) ثم حطّ رحاله عند قلعة لُكْ ( Lucus Asturum الرومانية و Maria de Lugo اليوم) غير بعيد عن أَبِيط ( Oviedo) وما زال بها حتى فتحها. وسار موسى حتى بلغ خيخون ( Gijon) _______ (1) بنو قَسِيّ: كان قَسِيّ قومِس الثّغر في أيام القوط، فلما افتتح المسلمون الأندلس التحق بالشام، وأسلم على يدي الوليد بن عبد الملك، فكان ينتمي إلى وَلائه، فولد قسي فرتون، وبنو قسي من المولدين، انظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (502 - 503)، وانظر نشاطهم في الأندلس في كتاب: نصوص عن الأندلس (32 و 35 و40 و 41 و 49 و 165). (2) الثغر الأعلى: ويشمل سرقسطة عاصمة هذا الثغر، ولاردة، وتطيلة، ووشقة، وطرطوشة، وغيرها. وكان هذا الثغر يواجه برشلونة ومملكة نافار، وتمثله اليوم منطقة أراغون ( Aragon) ، راجع الآثار الأندلسية (78) والحلل السندسية (1/ 206) و (2/ 114) وجغرافية الأندلس وأوروبا (95). (3) انظر فجر الأندلس (104). (4) تاريخ افتتاح الأندلس (35) وأخبار مجموعة (15). (5) أخبار مجموعة (28)، وقد جعل هذا المصدر فتح هذه الحصون الثلاثة في سنة (711 م)، وهو خطا واضح، انظر فجر الأندلس (104). (6) قشتالة: إقليم عظيم بالأندلس، عاصمته طليطلة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 93).

وأقرّ بها حامية، وجعلها حصناً لما فتحه من البلاد في هذه النواحي البعيدة، ثم بعث سرية من فرسانه أدركت البحر عند صخرة بلاي ( Peka de Pelayo) على البحر الأخضر (1)، فطاعت الأعاجم، ولاذوا بالسلم وبذل الجزية، وسكنت العرب المفاوز، وكان العرب والبربر كلما مرّ قوم منهم بموضع استحسنوه، حطّو به ونزلوه قاطنين (2). وهكذا وصلت جيوش موسى حتى البحر المحيط، فاطمأن إلى أنه فتح شبه الجزيرة كلها، لذلك شعر أنه لم يّعُد هناك أي معنى للاسترسال في الفتح، وكان موسى يخلِّف في كل مدينة وقلعة يفتحها حامية من المسلمين، فتفرّق جنده، وطال السّير بمن بقي منهم معه، ونال منهم الجهد، فمالت نفوسهم إلى العودة، لذلك اكتفى موسى بوصوله إلى خيخون، وأزمع العودة، وهو يعلم أن أعداداً كبيرة من القوط قد تراجعوا أمامه، واجتمعوا في نواحي أشتوريش وجِلِّيقيّة، وأنهم يكوِّنون الخميرة الأولى لاستعادة الأندلس من المسلمين في المستقبل - كما حدث ذلك فعلاً - ولو لم ينشغل العرب عن البقية الباقية من القوط بعد ذلك بحروب ومنازعات قبلية فيما بينهم، لاستطاعوا القضاء عليهم بسهولة ويسر، ولكن العرب شُغلوا بأمور أنفسهم، فاستطاعت هذه الحفنة القوطية أن تطمئن في هذه النواحي القاصية القاحلة، وأن تنمو بالتدريج وتقوى وتشتد، لتنتهز في المسلمين كل فرصة تسنح، ولتستعيد ما تستطيع استعادته مرحلياً من الأندلس كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ومن الواضح جداً، أن موسى ترك جبهة القتال مُكرهاً لا بمحض إرادته، فقد كان الخليفة يريد عودته إلى دمشق، وكان مغيث يتربص به ليتولى العودة معه، فلما انتهى موسى في فتوحه إلى هذا الحد القصي في نظر الخليفة _______ (1) هو المحيط الأطلسي، وكان يسمى أيضاً: الأقيانوس، وبحر الظلمات. (2) نفح الطيب (1/ 258)، وانظر فجر الأندلس (104 - 105) وتاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (102 - 103).

ومغيث، كان لابد له أن يعود، لا إلى طليطلة أو قرطبة فقط، بل إلى دمشق رأساً، فقد كان مغيث الرومي رسول الخليفة يتعجله، وكان الوليد بن عبد الملك معجلاً عليه لا يريد أن يتمهل، إذ أن رسولاً آخر من الوليد، يكنى: أبا نَصْر، بعثه إلى موسى، عندما استبطأه في القفول، فأتاه وهو في مدينة لُكْ بناحية جلِّيقية (1). _______ (1) نفح الطيب (1/ 276)، وفي فجر الأندلس (106) ورد: "حتى لتذهب الروايات، إلى أنّ الوليد، بعث إليه رسولاً آخر، اسمه: أبو نصر، لقيه في لك، فأخذ بعنان فرسه، وأمره بالعودة؛ وذلك أمر مستبعد، لأن مغيثاً وصل موسى في سرقسطة في أوائل الربيع، ولما تنقضي على وصوله ثلاثة أشهر، ولا يتفق أن يكون الخليفة قد استطال هذه المدة القصيرة، فأرسل يتعجّل، وربما كان أبو نصر هذا كنية لمغيث كما يظن جايانجوس". وأقول: قد وردت ترجمة مغيث الرومي في نفح الطيب (4/ 11 - 13) وفي غيره من المصادر، وهو لا يكنّى: أبا نصر في تلك المصادر كلها. ولماذا نستبعد قدوم الرسول الآخر الذي أرسله الوليد إلى موسى، وقد انقضت على وصول الرسول الأول ثلاثة أشهر، وهي مدّة طويلة، وبخاصة بعدما استقرّ في ذهن الوليد أنه يريد أن يشق عصا الطاعة، انظر الإمامة والسياسة (2/ 75 - 76)، وأنّ موسى يطمع في فتح غالة والوصول إلى رومة، انظر الإمامة والسياسة (2/ 81)، بل الوصول إلى أرض الشام عن طريق إفرنجة (فرنسا)، انظر نفح الطيب (1/ 259)، في الوقت الذي سئم المسلمون فيه الفتح، وأظهروا رغبتهم في العودة إلى قرطبة؟؟ لقد كان الخليفة الوليد بن عبد الملك حريصاً غاية الحرص على سلامة المسلمين، فعارض منذ البداية في إقحامهم في بحر شديد الأهوال، فلما علم بما شرع به موسى من فتح غالة، اشتدّ قلقه وأرسل أبا نصر رسولاً ثانياً إلى موسى يستعجله القفول إلى دمشق، وإذا كان مغيث قد وافق على إكمال موسى لفتوحه، فلأنّ مغيثاً قائد يقدِّر أهمية الموقف العسكري الراهن، ويقدِّر أهمية إكمال الفتح لحاضر المسلمين ومستقبلهم في الأندلس، أما أبو نصر - كما يبدو - فلم يكن قائداً، وهو منفِّذ قويّ أمين للأوامر، شديد الضبط والربط، لا يقبل بعذر ولا ينصت إليه، فمن الواضح أنّ أبا نصر شخصية ثانية غير مغيث ومختلفة عنه كل الاختلاف. وفي نفح الطيب (1/ 58) نص صريح وهو: "وقفل معهم - أي مع موسى وطارق - الرسولان: مغيث وأبو نصر"، انظر تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (103 - 104) وقادة فتح المغرب العربي (1/ 270 - 271).

وهناك بعض المؤرخين، يذكرون أن موسى بن نُصير، بعد أن افتتح سرقسطة، بعث سراياه إلى قطالونة، ففتحت بَرْشَلونَة (1)، ومن هناك اخترقت جبال البرتات (البرانس) وتوغلت في بلاد غالة (2)، فاستولت على أُرْبُونة (3) ( Narbonne) وصخرة إينيون ( Avignon) وحصن لودون على وادي ردونة، وهو وادي نهر الرُّون (4). ولا نستبعد أن تكون بعض قوات موسى قد افتتحت برشلونة ولاردة وجزء من إقليم قطالونية، وأنها قد وصلت إلى جبال البرتات واجتازتها إلى قَرْقَشُونة (5)، فهو نفس الطريق الذي اتبعه السَّمح بن مالك (6) بعد ذلك بسنوات، ولكن فتح موسى هذا لم يكن فتحاً مُسْتَداما، إتما كان فتحاً وقتياً بقوات استطلاعية خفيفة، استطاعت جمع المعلومات عن تلك _______ (1) برشلونة: وتسمى أيضاً برشنونة، وهي مدينة مصاقبة للأندلس وقريبة من طرطوشة، تقع في شمال شرقي الأندلس، على البحر الأبيض المتوسط، ويعتبرها بعض جغرافيّ العرب، أثها ليست من الأندلس، انظر تقويم البلدان (182 - 183)، ويراها بعضهم أنها من الأندلس، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (96)، والثاني هو الصواب، فهي من الأندلس. وتُكْسَر الشين في برشِلونة، عند بعض الجغرافيين العرب. (2) الغال: بلاد الغال ( Gaul أو Gallia) و ( Gallos) ، وهي تمثّل قسماً كبيراً من فرنسا أو جنوبها أحياناً، وكان يسمونها: غاليوش، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (59). (3) أربونة: مدينة شمال شرقي قرقوشة، تقع على السّاحل الفرنسي الجنوبيّ، انظر ما جاء عنها في تقويم البلدان (182 - 183). (4) نفح الطيب (1/ 256). (5) قرقشونة: وهي ( Carcassonne) بلد في جنوبي فرنسا قريبة من حدود إسبانيا الشمالية، وفي معجم البلدان (7/ 59): إنّ المسافة بين قرقشونة وقرطبة خمسة وعشرون يوماً. وفي نفح الطيب (1/ 260): إنّ موسى انتهى إلى حصن من حصون العدو يقال له: قرقشونة، وانظر تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط (14) - الأمير شكيب أرسلان- مصر- 1352 هـ. وفي نفح الطيب (1/ 218) وابن خلدون (4/ 117): إنّ موسى توغّل في الأندلس إلى برشلونة من جهة الشرق وأربونة في الجوف، ويعتبر البكري مدينة قرقشونة من الجزء الأول الأندلسيّ، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (60). (6) السمح بن مالك: سترد ترجمته في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار.

المنطقة من بلاد فرنسة، تمهيداً لفتحها فيما بعد (1). _______ (1) في البيان المغرب (2/ 24) ونفح الطيب (1/ 259)، أنّ موسى انتهى إلى صنم، فوجد في صدره مكتوباً، "يا بني إسماعيل! إلى هنا منتهاكم، وإذا سألتم: إلى ماذا ترجعون؟ أخبرناكم؟ ترجعون إلى اختلاف ذات بينكم، حتى يضرب بعضكم رقاب بعض" ومن الواضح أنّ هذه أسطورة من الأساطير، وهي قصة جغرافية، نسجت فيما بعد، تقريراً لما حدث بين الفاتحين فعلاً، وأدّى بهم إلى ضياع الفردوس المفقود (الأندلس) منهم، وخروجهم منها أذلاء مغلوبين حين تفرّقوا وأختلفوا وتخلّوا عن عقيدتهم التي قادتهم إلى النصر، فأصبحوا مسلمين جغرافيين، لا مسلمين حقيقيين، وعرباً من قوارير، أو بالجنسية - حسب - لا عرباً حقّاً، وكانوا قد دخلوها أعزاء فاتحين منتصرين متّحدين موحّدين، متمسكين بعقيدتهم مضحّين في سبيلها بالغالي والرخيص، فكان بأسهم على أعدائهم شديداً، فانتصروا وعزّوا، فأصبح بأسهم بينهم شديداً، فاندحروا وذلّوا. تلك هي عبرة الأسطورة للمسلمين اليوم وغداً، فهي في معناها واقع مرير قد حدث، وهي فى مبناها أسطورة من الأساطير.

الإنسان

الإنسان 1 - عودة القائدين إلى دمشق أ - العودة: بادر موسى بالعودة من لُكْ بجلِّيقية مع أبي نصر الرسول الثاني للوليد بن عبد الملك، وكان مع أبي نصر رسَالة من الوليد إلى موسى، يوبِّخ الوليد بها موسى، ويأمره بالخروج من الأندلس، وألزم رسوله إزعاجه (1)، فأخذ موسى في طريق العودة أواخر سنة خمس وتسعين الهجرية (منتصف صيف 714 م) (2). وفي طريقه من لُكْ، التقى بطارق الذي كان عائداً من حملة له على أراغون ( Aragon) في الثغر الأعلى (3)، فسار الاثنان معاً إلى طليطلة. أما غالبية جنودهما، ففضلوا البقاء في المدن والأرياف المفتوحة، حيث استقروا وأقاموا منازلهم (4). ومرّ موسى بطليطلة وقرطبة في طريقه إلى إشبيلية، حيث عَيّن هناك ابنه عبد العزيز (5) والياً على الأندلس، وترك معه مساعدين من أمثال حبيب بن أبي عُبَيْدة الفِهْري (6) وكثيراً من القادة المسلمين الآخرين مع رجال _______ (1) نفح الطيب (1/ 276). (2) كانت مغادرة موسى من إشبيلية إلى شمالي إفريقية في شهر ذي الحجّة من سنة خمس وتسعين الهجرية (أيلول- سبتمبر- 714 م). (3) الثغر الأعلى: ويشمل سرقسطة عاصمة هذا الثغر، ولاردة، وتطيلة، ووشقة، وطرطوشة وغيرها، وكان هذا الثغر يواجه برشلونة ومملكة نافار، وتمثله اليوم منطقة أراغون، أنظر جغرافية الأندلس وأوروبا (95). (4) نفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 276). (5) عبد العزيز بن موسى بن نصير: سترد ترجمته المفصلة في كتابنا "قادة فتح الأندلس والبحار". (6) ورد اسمه في البيان المغرب (2/ 30): حبيب بن أبي عبده بن عقبة بن نافع، وكذلك =

قبائلهم، ليدافعوا عن البلد ويحموه (1). وقد اختار موسى إشبيلية عاصمة للبلاد، وذلك بسبب قربها من البحر والمضيق، كما جعلها أيضاً قاعدة بحرية للمسلمين في الأندلس (2). وركب موسى البحر، ومعه طارق ومغيث الرومي وأبو نصر وكبار الجند، في شهر ذي الحجة من سنة خمس وتسعين الهجرية (أيلول- سبتمبر 714 م)، ومعهم يُليان، وقد أبحر موسى ومَن معه من إشبيلية، وهو متلهِّف على الجهاد الذي فاته، آسف على ما لحقه من إزعاج، وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه من بلاد إفرنجة (فرنسا)، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يصل بالناس إلى الشام، مؤمِّلاً أن يتخذ مُخْتَرَقَه (3) بتلك الأرض طريقاً مُهْيعاً (4)، يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحراً (5). وتذهب بعض المصادر العربية، إلى أن موسى استصحب معه ثلاثين ألف رأس من الأسرى (6)، وفي ذلك مبالغة واضحة، فهذا العدد الضخم من الأسرى، يحتاج إلى وسائط نقل هائلة لنقلهم برّاً وبحراً من الأندلس إلى دمشق، ويحتاج إلى تدابير إدارية من الصعب جداً تحقيقها، والغالب أن عدداً قليلاً من الأسرى رافق موسى في رحلته هذه، وأما الباقون منهم، فقد تُركوا _______ = في المعجب من تاريخ المغرب (34). أما في تاريخ افتتاح الأندلس (36)، فقد ورد اسمه: حبيب بن أبي عبيدة. (1) أخبار مجموعة (19) وفتح الأندلس (17) وابن الأثير (4/ 566) والمراكشي (8) والبيان المغرب (2/ 23) والنويري (22/ 29) وابن خلدون (2/ 255) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 276) والرسالة الشريفية (210). (2) أخبار مجموعة (19) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 276) والرسالة الشريفية (210)، وهي قاعدة متقدِّمة. (3) مخترقة: أي المكان الذي يخترقه، أي يسلكه ويجتاز البلاد منه. (4) مهيعاً: الواضح البيِّن، وهو أيضاً الواسع المنبسط. (5) نفح الطيب (1/ 277). (6) أنظر نفح الطيب (1/ 277).

في المزارع يزرعونها ويديمونها، وفي الأعمال الإدارية الأخرى يديرونها ويدبّرون أمرها. ولكنه استصحب معه مائة رجل من أشراف الناس: من قريش ومن الأنصار، ومن سائر العرب ومواليها. وأخرج معه من وجوه البربر مائة رجل: منهم أبناء كسيلة، وملك السّوس الأقصى، وملك قلعة أوساف، وملك ميورقة ومنورقة، ومعه الغنائم من الذهب والفضة والجوهر، محمولة على ثلاثين ومائة عجلة (1)، فكان مع موسى أربعمائة رجل (2)، بل هناك رواية أن موسى دخل دمشق ومعه ثلاثون من خيرة أسرى القوط، ألبسهم أفخر الثياب، وسار بهم في موكبه، ليدلّ على عظم الفتح الذي تم على يديه (3). واستخلف موسى ابنه عبد الله على إفريقية، وابنه مروان على طنجة والسّوس (4)، فمرّ بطريق عودته بالقيروان (5)، ثم قدم مصر سنة خمس وتسعين الهجرية (كانون الأول - ديسمبر 714 م)، فأقام هناك ثلاثة أيام، يأتيه أهل مصر في كل يوم، فلم يبق شريف إلاّ وقد أوصل إليه موسى صلة ومعروفاً كثيراً، وأهدى لولد عبد العزيز بن مروان فأكثر لهم، وجاءهم بنفسه فسلم عليهم، ثم سار متوجهاً حتى أتى فلسطين (6). ولما قدم موسى ومعه طارق إلى الوليد بن عبد الملك في دمشق، كان قدومه عليه وهو في آخر شكايته التي تُوفي فيه، إذ بلغا دمشق سنة ست وتسعين الهجرية (كانون الثاني - يناير 715 م) أي قبل وفاة الوليد بأربعين _______ (1) أنظر التفاصيل في: الإمامة والسياسة (2/ 82). (2) تاريخ افتتاح الأندلس (36). (3) أنظر: فجر الأندلس (107). (4) ابن حبيب (231 - 232) وفتح مصر وإفريقية (210) وأخبار مجموعة (19) وفتح الأندلس (18) وابن الأثير (4/ 566) وابن الكردبوس (50) وابن الشباط (123) والبيان المغرب (2/ 18 - 19 و 44) ونفح الطيب (1/ 277). (5) المعجب في تلخيص أخبار المغرب (34). (6) الإمامة والسياسة (2/ 82 - 83).

يوماً (1)، وتوفي الوليد في الخامس عشر من جمادى الثانية من سنة ست وتسعين الهجرية (25 شباط - فبراير 715 م)، فخلفه في الحكم أخوه سليمان بن عبد الملك الذي كان مستاء أيضاً من موسى، فتروي المصادر أنه حينما اقترب موسى من بلاد الشام، كتب إلى موسى، يأمره بتأخير وصوله إلى دمشق، حتى يموت الوليد، وبذلك يتسنى لسليمان الحصول على الكنوز التي جلبها موسى معه، وينال فخر الفتح لنفسه. ولكن موسى أهمل طلب سليمان، وتقدم إلى دمشق (2). وكان سليمان بعث إلى موسى مَن لقيه في الطريق قبل قدومه على الوليد، يأمره بالتريث في مسيره، وألاّ يعجل، فإن الوليد بآخر رمقه، فقرأ موسى الكتاب، وقال: "خنت والله وغدرت وما وفيت! والله لا تربّصتُ ولا تأخّرت ولا تعجّلت! ولكني أسير بمسيري، فإن وافيته حيّاً لم أتخلّف عنه، وإن عجلت منيّته فأمره إلى الله"، فرجع الرسول إلى سليمان، فأعلمه (3). وقد أبى موسى أن يتجاوب مع سليمان، لأن دِينه منعه من هذا التجاوب، فقدم على الوليد وهو حي، فسلم له الأخماس والمغانم والتّحف والذخائر، فلم يمكث الوليد إلا يسيراً بعد قدوم موسى حتى توفي، واستُخلف سليمان، فحقد عليه وأهانه (4). وقيل: إن موسى وصل إلى دمشق بعد وفاة الوليد، فقدم على سليمان حين .............................................................. _______ (1) فجر الأندلس (107)، ولم تكن مقابلة الوليد لموسى مقابلة حسنة بسبب تماديه في سياسته فى أثناء فتح الأندلس، وتباطؤه فى إطاعة أوامر الخلافة، أنظر ابن الأثير (4/ 566) والنويري (22/ 30) وابن الكردبوس (50). وانظر كذلك: Chr. 154. p. 149. (no.4) وسترد أسباب مقابلة الوليد لموسى بجفاء، وأسباب سحبه وسحب طارق معه من الأندلس إلى دمشق وشيكاً. (2) ابن الكردبوس (50) والبيان المغرب (2/ 20) ونفح الطيب (1/ 280 - 281). (3) الإمامة والسياسة (2/ 83)، وانظر البيان المغرب (2/ 25). (4) نفح الطيب (1/ 262) و انظر تاريخ افتتاح الأندلس (36).

استُخلف (1). والصواب، هو أن موسى وطارقاً وصلا إلى دمشق قبل موت الوليد، وكان الوليد مريضاً، فمثُلَ موسى بحضرة الوليد، ولكن الوليد لم يقابله مقابلة حسنة بسبب تماديه في سياسته في أثناء فتح الأندلس، وتباطئه في إطاعة أوامر الخلافة (2)، وكان مع موسى وطارق كميات هائلة من الغنائم والأسرى والهدايا الثمينة من الذهب والفضة واللؤلؤ، كما حملا أيضاً (المائدة) المشهورة وكثيراً من الكنوز الأندلسية الأخرى. ولكن الظّاهر أن قلب الوليد كان متغيِّراً على موسى تغيّراً لا سبيل إلى إصلاحه، لذلك لم يُحسن الوليد لقاء موسى، ثم لم يلبث الوليد أن لقي ربه وخلفه أخوه سليمان، وهو أشدّ غضباً من أخيه على موسى، ولهذا كان طبيعياً ألاّ ينتظر موسى خيراً كثيراً من سليمان، وأن يُدرك أن أيام مجده وعزِّه قد مضت مع أمس الدابر (3). بيد أننا نستبعد صحة ما يبالغ به قسم من المؤرخين من أفاعيل سليمان بموسى، فمن المستبعد ما يقال: إن سليمان كان يقيم موسى في الشمس حتى يكاد يغمى عليه من شدة التعب والجهد والحر (4)، وأن سليمان حبسه وأمر بتقصي حسابه (5)، فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه، حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته، فيقال: إن لَخْماً (6) حملت عنه من أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً، وقيل: حمّله سليمان غرم مائتي ألف، فأدى مائة ألف وعجز، فاستجار بيزيد _______ (1) فتوح مصر والمغرب (284)، وانظر المعجب في أخبار المغرب (1/ 35). (2) ابن الأثير (4/ 566) والنويري (22/ 30) وابن الكردبوس (50). (3) قادة فتح المغرب العربي (1/ 279). (4) أنظر التفاصيل في الإمامة والسياسة (2/ 84 - 85). (5) تقصّي حسابه: أي تتبعه وشدّد البحث عنه لتعرف حقيقته، أنظر ما جاء حول ذلك في نفح الطيب (1/ 212). (6) بنو لخم: هو مالك بن عَدي بن الحارث بن مُرَّة بن أُدد بن زيد بن يَشْجُب بن عريب بن زيد بن كُهْلان بن سَبَأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (418 - 422)، وكان موسى من بني لخم.

بن المُهلَّب (1)، فاستوهبه من سليمان، فوهبه إياه، إلاّ أنه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية (2)، وأن سليمان ألزم موسى أن يطوف بالقبائل محروساً يستجديها مالاً يفتدي به نفسه، حتى لقد كان يستجدي الدرهم والدرهمين، فيفرح بذلك موسى، ويدفعه إلى الموكلين به، فيخفّفون عنه العذاب (3)، لأن _______ (1) يزيد بن المُهَلَّب بن أبي صُفْرة: أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح بلاد ما وراء النهر- مخطوط. (2) نفح الطيب (1/ 262). (3) أنظر التفاصيل في نفح الطيب (1/ 265 - 266)، وفي الإمامة والسياسة (2/ 84 - 85): "لما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك، بعث إلى موسى، فأُتي به، فعنّفه بلسانه، فكان مما قال له يومئذ: اجترأت، وأمري خالفت، والله لأقللنّ عددك ولأفرقنّ جمعك، ولأبددنّ مالك، ولأضعنّ منك ما كان يرفع غيري ممن كنت تمنيه أماني الغرور، وتخدعه من آل أبي سفيان، وآل مروان! فقال له موسى: والله يا أمير المؤمنين، ما تعتلّ عليّ بذنب، سوى أني وفيت للخلفاء قبلك، وحافظت على مَن ولي النعمة عندي فيه، فأما ما ذكر أمير المؤمنين من أنّه يقلّ عددي، ويفرِّق جمعي، ويبدِّد مالي، ويخفض حالي، فذلك بيد الله وإلى الله، وهو الذي يتولّى النعمة على الإحسان إليّ، وبه أستعين، ويعيذ الله عز وجل أمير المؤمنين ويعصمه أن يجري على يديه شيئاً من المكروه لم أستحقه ولم يبلغه ذنب اجترمته، فأمر سليمان أن يوقف في يوم صائف شديد الحر على طريقه، وكانت بموسى نسمة (ربو)، فلما أصابه حرّ الشمس وأتعبه الوقوف، هاجت عليه، وجعلت قِرب العرق تنصبّ منه، فما زال كذلك حتى سقط، وكان عمر بن عبد العزيز حاضراً، إلى أن نظر سليمان إلى موسى، وقد وقع مغشياً عليه، قال عمر بن عبد العزيز: ما مرّ بي يوم كان أعظم عندي، ولا كنت أكرب من ذلك اليوم، لما رأيت من الشيخ موسى، وما كان عليه من بُعد أثره في سبيل الله، وما فتح الله على يديه وهذا يُفعل به! فالتفتَ إليّ سليمان، فقال: يا أبا حفص! ما أظنّ إلاّ قد خرجت من يميني! فقال عمر: فاغتنمت ذلك منه، فقلت: يا أمير المؤمنين! شيخ كبير بادن، وبه نسمة قد أهلكته، وقد أتيت على ما فيه من السلامة لك من يمينك، وهو موسى البعيد الأثر في سبيل الله، العظيم الغناء عن المسلمين. قال عمر: منعني من الكلام فيه، ما كنت أعلم من يمينه وحقده عليه، فخشيت إن ابتدأته أن يلحّ عليه، وهو لحوح. قال عمر: فلما قال لي ما قال آخراً، حمدت الله على ذلك، وعلمت أنّ الله قد أحسن إليه، وأنّ سليمان قد ندم فيه. فقال سليمان: مَن يضمّه؟ فقال يزيد بن المهلّب: أنا أضمّه يا أمير المؤمنين. قال: =

سليمان لو كان قد أنزل بموسى هذه المساءات لما ترك أولاده ولاة على إفريقية والأندلس، ولأن موسى كان أثيراً على نفس يزيد بن المُهلَّب الذي كان مقرّباً جداً من سليمان بن عبد الملك وصاحب الأمر في دولته (1)، ولأن عمر بن عبد العزيز كان من أقرب المقرّبين إلى سليمان، ومن المستحيل أن يرضى عمر بن عبد العزيز عن مثل تلك التصرفات، دون أن يقول كلمة الحق، لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولأن سيرة سليمان الذي وصفه المؤرخون، بأنه مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز (2)، لا تستقيم مع اتهامه بالتنكيل بموسى، وهو _______ = وكانت الحال بين يزيد وسليمان لطيفة خاصة. قال سليمان: فضمه إليك يا يزيد، ولا تضيّق عليه. قال: فانصرف به يزيد، وقد قدم إليه دابة ابنه مخلد، فركبها موسى، فأقام أياماً. قال: ثمّ إنه تقارب ما بين موسى وسليمان في الصلح، حتى افتدى منه بثلاثة آلاف دينار" ... انتهى. ومن الواضح أن المبالغة والتناقض يسودان هذه الرواية، فسليمان لا يتورّع من تعذيب شيخ فانٍ عذاباً يقربه من حافة القبر، وسليمان تارة قاس غاية القسوة، وهو رحيم غاية الرحمة تارة أخرى في نفس الوقت، بحيث يوصي بهذا الشيخ خيراً، فلا يرضى أن يضيق عليه أحد! كما أن هذه القصة تناقض ما جاء عن سليمان من مزايا، فهو: "مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلى السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز ... " .. الخ، كما جاء في الطبري (5/ 304)، فكيف يقوم بتعذيب شيخ له ماضٍ مجيد، كما وصفه عمر بن عبد العزيز بالذات، وكما يعرف عنه الناس جميعاً؟! كما أن هناك تناقضاً فاضحاً بين هذه القصة، وبين ما جاء في القصص التي نوهنا عنها في أعلاه، ويبدو أن هذه القصة وأمثالها من جملة القصص الموضوعة للتشنيع بسليمان وغيره من رجال العرب المسلمين الخلفاء ومَن عمل معهم في تلك الأيام الذهبية من تاريخ العرب والإسلام، وبخاصة في مجال الفتوح شرقاً وغرباً، وأمثال هذه القصص ظاهرة التهافت والتناقض، لا تستقيم مع خلق العرب وتعاليم الإسلام، التي كانت سائده في المجتمع العربي الإسلامي حينذاك. (1) أنظر قادة فتح المغرب العربي (1/ 278 - 279). (2) الطبري (5/ 304).

ب - أسباب استدعاء موسى وطارق:

شيخ كبير، له ماضٍ ناصع مجيد في خدمة العرب والمسلمين. وأرى أن من المستبعد أن يعاقب سليمان تابعياً جليلاً هو موسى بن نصير، ويعاقب مَن معه من أمثال طارق بن زياد، لأنهما أسسا ملكاً وقضيا حياتهما مجاهِدَين في سبيل الله، لمجرّد قالة ظالمة أو وشاية كاذبة. وحتى مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، لم يكن لسليمان يد فيها، لأن سليمان غضب لمقتل عبد العزيز، وأرسل إلى الأندلس عاملاً من قبله للتحقيق في مقتل عبد العزيز، والقبض على قتلته، وإرسالهم إليه (1). لقد كان موقف سليمان من موسى ومَن معه سليماً، وحقائق التاريخ تعلو دائماً على المبالغات المدسوسة عن قصد أو عن غير قصد. ولكن، لماذا عزل الوليد بن عبد الملك موسى عن إفريقية والأندلس، وأقرّ سليمان هذا العزل؟. لماذا استدعى الوليد موسى وطارقاً من ساحات القتال على عجل، ولم يمهلهما حتى يحققا كل أهدافهما في الفتح؟. (2) ب - أسباب استدعاء موسى وطارق: كان للخلفاء أساليب خاصة، لمعرفة تفاصيل أعمال ولاتهم وقادتهم وتصرفاتهم، للاطمئنان إلى أنّ أولئك القادة والولاة، لا يخرجون عن الخطة التي رسمها لهم الخليفة، وليحول الخلفاء - جهد الإمكان - دون خروج _______ (1) أنظر تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (106 - 107)، وفي أخبار مجموعة (22): "ولما بلغ سليمان مقتل عبد العزيز بن موسى، شقّ ذلك عليه، فولّى إفريقيّة عبيد الله بن يزيد .... وأمره سليمان فيما فعله حبيب بن أبي عبيدة وزياد بن النابغة من قتل عبد العزيز، بأن يتشدّد في ذلك، وأن يقفلهما إليه ومَن شاركهما في قتله من وجوه النّاس ... ". (2) قادة فتح المغرب العربي (1/ 280).

الولاة والقادة عليهم، عند سنوح الفرصة المناسبة لهم. من تلك الأساليب الخاصة التي يسيطر بها الخلفاء على ولاتهم وقادتهم، وبخاصة في الأصقاع النائية عن عاصمة الخلافة، هي إرسال من يعتمدون عليهم من الرجال، لينقلوا إليهم بدقة وسرعة وأمانة، كل ما يرونه ضرورياً، لجعل الخلفاء مطمئنين من سير الأمور، في مختلف البلاد والأمصار، كما يريدون. وكان مُغيث الرومي أحد من كان يعتمد عليه الوليد بن عبد الملك، لأن عبد الملك بن مروان كان قد أدّبه مع ولده الوليد، وقد نشأ بدمشق، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها. وقد وقع بينه وبين طارق، ثم وقع بينه وبين موسى، فرحل معهما إلى دمشق، ثم عاد ظافراً عليهما إلى الأندلس. وكان مغيث مشهوراً بحسن الرأي والكّيْد (1). وكان يطمع بولاية الأندلس، فلما عزم سليمان على تولية طارق بن زياد الأندلس استشار مغيثاً، فعرفه عن عزمه، وقد بالغ في إيذاء موسى عند سليمان (2). ويُروى لمغيث شعر خاطب به موسى وطارقاً، منه قوله: أعَنْتُكُمُ ولكن ما وفيتُم ... فسوف أعيث في غربٍ وشرق وعارض يوماً في محفل من الناس موسى بن نصير، فقال له موسى: "كُفَّ لسانك"، فقال مغيث: "لساني كالمِفْصَل (3)، ما أكفه إلاّ حيثُ يقتل" (4). والظاهر أن مغيثاً لم يدّخر وسعاً في تشويه سمعة موسى عند الوليد، وعند سليمان من بعده، طموحاً في تولي الأندلس من بعد موسى، ولكن كان مغيث صادقاً في اتهامه، إذ حقّق سليمان جميع ما رُمي به موسى عنده، فأغرمه غرماً _______ (1) نفح الطيب (3/ 13). (2) نفح الطيب (3/ 13). (3) المفصل: بكسر الميم، الّلسان، ويروى بفتح الميم والصاد: المَفْصَل، أنظر لسان العرب (4/ 38). (4) نفح الطيب (4/ 13).

عظيماً (1)، ومن هذا يتضح أن مغيثاً رمى موسى بعدم الأمانة في التصرّف بالغنائم. فهل كان اتهام موسى بنزاهته حقاً؟ الواقع أن مغيثاً ليس وحده من اتهم موسى بالغلول أو بعدم تطبيق تعاليم الإسلام في الغنائم نصّاً وروحاً، فقد ذكروا أن سليمان بينما كان يقلّب هدايا موسى التي جاء بها من الأندلس وإفريقية إلى دمشق، إذ انبعث رجل من أصحاب موسى يقال له: عيسى بن عبد الله الطويل من أهل المدينة المنورة، وكان على الغنائم، فقال: "يا أمير المؤمنين! إن الله أغناك بالحلال عن الحرام، وإني صاحب هذه المقاسم، وإن موسى لم يخرج خُمساً من جميع ما أتاك"، فغضب سليمان، وقام عن سريره، فدخل منزله، ثم خرج فقال للناس: "نعم، قد أغناني الله بالحلال عن الحرام"، وأمر بإدخال ذلك بيت المال (2). ولكن ذلك لا يكفي لإثبات التهمة الموجّهة إلى نزاهة موسى، وهو الذي عُرف بالتديّن، وكان ورعاً تقياً لله (3). ولو ثبت عليه لما توسّط له عمر بن عبد العزيز عند سليمان، فعفا عن موسى (4)، وعمر بن عبد العزيز معروف بالتزامه بتعاليم الشرع الحنيف. ولا شك في نزاهة موسى، فقد أغناه الله هو الآخر بالحلال عن الحرام، فلماذا يتردى إلى مهاوي الخيانة في أمانته، وقد فتحت عليه أبواب الخير؟ لقد كان كريماً سخيّاً، فأعطى من الغنائم مَن أعطى، ولم يستأثر بما أخذ من الغنائم لنفسه ولمصلحته الشخصية حسب. فما هي أسباب استدعاء موسى من الأندلس إلى دمشق وعزله؟. _______ (1) نفح الطيب (1/ 285). (2) فتوح مصر والمغرب (284). (3) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب (1/ 224)، وانظر رياض النفوس (1/ 78) ووفيات الأعيان (4/ 403). (4) الإمامة والسياسة (2/ 2/ 92 - 93).

يبدو أن الوليد، ومن بعده سليمان، اعتقدا أن موسى غرّر بالمسلمين، وأنه عرّضهم للمهالك، بتغلغله عميقاً في الأندلس، كما أنهما خشيا من طموح موسى في التغلغل إلى بلاد أبعد من الأندلس، فيقود المسلمين إلى روميّة (1)، وأن موسى: "أجمع أن يأتي المشرق من ناحية القُسطنطينيّة، ويتجاوز إلى الشّام دروبه ودروب الأندلس، ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية، مجاهداً فيهم، مستلحماً لهم، إلى أن يلحق بدار الخلافة"، فنُمِي هذا الخبر إلى الوليد، فاشتدّ قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما همّ به موسى غَرَرٌ بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسرّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع، وكتب له بذلك عهده، ففتّ ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها، وأنزل ابنه عبد العزيز لسدِّها وجهاد عدوِّها (2). والظاهر أن الخلفاء لم يكونوا مطمئنين على أمن المسلمين في الأندلس حتى بعد الوليد وسليمان، فقد فكّر عمر بن عبد العزيز في إقفال المسلمين من الأندلس وإخلائها، إذ خشي تغلب العدو عليهم (3)، فإذا كان هذا ما يعتقده عمر بن عبد العزيز الذي تولى الخلافة سنة تسع وتسعين الهجرية (4)، فلماذا نلوم الوليد وقد استدعى موسى سنة خمس وتسعين الهجرية (5)، والفتح كان في أوّله، والأندلس جد بعيد عن دار الخلافة؟. وإذا كان عمر بن عبد العزيز، قد خشي على المسلمين في الأندلس، بعد استقرار الفتح فيها، فكيف لا يخشى الوليد ومن بعده سليمان، على المسلمين في الأندلس، من طموح موسى في التغلغل بهم بعيداً بعيداً إلى _______ (1) الإمامة والسياسة (2/ 81). (2) نفح الطيب (1/ 218). (3) تاريخ افتتاح الأندلس (39) وأخبار مجموعة (23). (4) الطبري (5/ 304). (5) نفح الطيب (1/ 318) وفتح مصر والمغرب (284).

روميّة وإلى القسطنطينية؟. لقد كان طموح موسى في التوسع بالفتح، سبباً واضحاً لاستدعائه إلى دمشق، وهذا السبب - فيما أرى - من الأسباب الجوهرية لاستدعائه. وهناك سبب آخر، لا يقل خطورة عن السبب السابق، هو اتهام موسى بالخلع، فقد ذكروا أن الوليد بن عبد الملك لما بلغه سير موسى إلى الأندلس، ووُصفت له، ظنّ أنه يريد أن يخلع، ويقيم فيها، ويمتنع بها، وقيل له ذلك. وأبطأت كتب موسى عليه، لاشتغاله بما هناك من العدو، وتوطئته للفتح (1)، مما زاد في شكوك الوليد بنيات موسى بمحاولته الاستقلال أو التحرر من سلطان الخلافة. ولعل الذين أدخلوا هذه الشكوك في روع الوليد، لم ينسوا أن يذكروا له سيطرته التامة هو وأولاده ومواليه على إفريقية والأندلس، مما ضاعف تلك الشكوك، وجعلها بعيدة عن الحدس، قريبة من التصديق. ولعل اتِّهام موسى بالخلع، هو الذي يفسر لنا، لماذا لم تختلف نظرة سليمان عن سلفه الوليد إلى موسى مع ما بين الخلف والسلف من تناقض كثير - كما هو معروف - ذلك لأن أصحاب السلطان، إذا اختلفوا في كل شيء، فإنهم يتفقون على شيء واحد، هو عدم التغاضي عن كل مَن يريد التحرّر من ربقتهم والاستقلال عنهم، سواء كان إتهامه حقاً بذلك أم كان باطلاً. كما أنهم كانوا ولا يزالون يدخلون في حسابهم أسوأ الاحتمالات، لمقاومة الذين يخرجون عليهم أو الذين يتهمونهم بالخروج عليهم زوراً وبهتاناً، ويكفي أن يأخذوا المتهم أخذاً في حالات الظن وفي حالات اليقين. سأل سليمان مغيثاً عن طارق بن زياد، وقد أراد أن يوليه الأندلس خلفاً لموسى، فقال: "كيف أمر طارق بالأندلس؟ " فقال مغيث: "لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها، لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا"، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان، وبدا له في ولايته (2)، وهذا يدل بوضوح، على _______ (1) الإمامة والسياسة (1/ 75)، (2) نفح الطيب (4/ 12).

السياسة التي كان يتبعها سليمان في تولية الولاة، إذ يستبعد عن الولاية كل مَن يخشى خطره من بعيد أو قريب. وكان يزيد بن المُهَلّب بن أبي صُفْرَة، من أقرب المقربين إلى سليمان بن عبد الملك، وكان لموسى يد على المهلب بن أبي صفرة (1)، وقد سأل يزيد يوماً موسى: "أريد أن أسألك، فاصْغ إليّ"، فقال موسى: "سل عمّا بدا لك"، فقال: "لم أزل أسمع عنك، أنّك من أعقل الناس، وأعرفهم بمكايد الحروب، ومُداراة الدنيا، فقل لي: كيف حصلت في يدي هذا الرجل (يعني: سليمان بن عبد الملك) بعد ما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء البحر الزَخَّار (2)، وتيقنت بُعدَ المرام واستصعابه واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها، واستكملت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرِّك، وحصل في يدك من الذّخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد مَن لا يرحمك. ثم إنك علمت أن سليمان وليّ عهد، وأنه المُوالي بعد أخيه، وقد أشرف على الهلاك لا محالة (3)، وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التّهلكة، وأحقدت مالكك ومملوكك "يعني سليمان وطارقاً"، وما رضا هذا الرجل إلاّ بعيد، ولكن لا آلو جهداً (4) "، فقال موسى: "يا ابن الكرام! ليس هذا وقت تعديد، أما سمعت: إذا جاء الحَيْنُ (5)، غطّى على العين؟! "، فقال يزيد: "ما قصدتُ بما قلت لك تعديداً وتبكيتاً، وإنّما قصدت تلقيح العقل، وتنبيه الرأي، وأن أرى ما عندك! "، فقال موسى: "أما رأيت الهُدْهُد يرى الماء تحت الأرض عن بُعد، ويقع في _______ (1) أنظر: الإمامة والسياسة (2/ 94 - 95)، وانظر سيرة المهلّب في كتابنا: قادة فتح السند والأفغان. (2) البحر الزخار: الطّامي الممتلئ الجيّاش بالأمواج. (3) أشرف على الهلاك: أراد أنّه قارب الموت لسوء حاله. (4) لا آلو جهداً: لا أقصّر فيما لدي من الجهد والوسع أن أبذله في إرضائه عنك. (5) الحَيْن: الهلاك.

الفخّ وهو بمرأى عينه؟! " (1). وسهر يزيد بن المهلب عند موسى ليلة، فقال له: "يا أبا عبد الرحمن! في كم تعد مواليك وأهل بيتك؟ "، فقال موسى: "في كثير"، فقال يزيد: "يكونون ألفاً؟ " فقال موسى: "وألفاً وألفاً إلى منقطع النفس! "، فقال يزيد: "وأنت على ما وصفتَ، وألقيت بيدك إلى التهلكة؟! أفلا أقمت في قرار عزِّك وموضع سلطان، وامتنعت بما قدمت به؟ فإن أُعطيت الرضى، وإلاّ كنت على عزِّك وسلطانك"، فقال له: "والله لو أردتُ ذلك، لما نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني آثرت الله ورسوله، ولم نَرَ الخروج من الطاعة والجماعة" (2). تلك هي أسباب استدعاء موسى وطارق من الأندلس إلى دمشق وعزلهما، وهذا لا يمنع من وجود أسباب تافهة أخرى، أخذها على موسى وطارق كل من الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك. فما علاقة طارق بمجمل تلك الأسباب؟. لقد اتهم موسى بنزاهته، فقيل: إنه لم يخرج خمساً من جميع مغانمه، ولم يُتّهم طارق بمثل هذه التهمة من أحد، وليس هناك أي نص في المصادر يتهمه بنزاهته. وقد كان موسى مسئوله المباشر، وكان مولى موسى، وكان في جيش طارق قبل عبور موسى إلى الأندلس، مَن يرفع عنه أمره إلى موسى، فلا يخفى من أمر طارق على موسى شيء، ولا نعلم أن موسى حاسب طارقاً على نزاهته أو شكّ في نزاهته. وحين قدم طارق إلى دمشق مع موسى، لم يُحاسب من الخليفة ولا من غير الخليفة على نزاهته، ولم يتطرّق الشك حوله من ناحية نزاهته إلى أحد من المسئولين أو إلى أحدٍ من غير المسئولين. أما السبب الثاني، وهو اتهام موسى بالتغرير بالمسلمين، من وجهة نظر الوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان بن عبد الملك، فإن طارقاً يُشارك في هذه _______ (1) نفح الطيب (1/ 215). (2) البيان المغرب (2/ 25 - 26)، وانظر أيضاً البيان المغرب (1/ 42).

التهمة أيضاً، إن لم تكن تهمته في التغرير أجسم من تهمهّ موسى بها وأضخم، فقد تغلغل في الأندلس بالعمق، وعرّض جناحيه: الأيمن والأيسر لخطر التعرّض القوطي عليهما، كما عرّض خطوط مواصلاته للخطر أيضاً، مما حدا بموسى إلى العبور للأندلس، لمعالجة الموقف الخطير الذي أصبحت قوات المسلمين تتعرض له في حينه، فعالج موسى الموقف، ورصّن وضع قوات المسلمين، وأبعد عنها الخطر الوشيك الداهم. ولا يمكن تبرئة طارق من تهمة التغرير بالمسلمين، وسترد مناقشة ذلك في الحديث عن سماته القيادية. أما اتهام موسى بالخلاعة، وهو السبب الثالث، فاتهام باطل من أساسه، وقد احترق به طارق كما احترق به موسى، باعتباره أحد موالي موسى، ولم تكن تلك التهمة في الواقع إلاّ في خَلَد الخليفة ومَن يشايعه في ظنونه وأوهامه. والحق، أن موسى أصبحت له شعبية طاغية في إفريقية والمغرب والأندلس بخاصة، وفي سائر بلاد المسلمين بعامة، لفتوحاته العظيمة، وانتصاراته الباهرة، ولفضله وإحسانه على الناس مادياً ومعنوياً. كما أصبحت لطارق شعبية طاغية في الأندلس وبين البربر بخاصة، وفي إفريقية وسائر بلاد المسلمين بعامة، لفتوحاته العظيمة، وانتصاراته الباهرة، ولشجاعته الفذّة، وإقدامه النادر. والشعبية الطاغية، إذا تحلّى بها قائد من القادة، فإن ذلك لا يُريح المسئول الأعلى، ويجعله يخشى ذلك القائد، ويظن به الظنون، ومن تلك الظنون اتهامه بالخلع، حتى ولو كان بعيداً عن التفكير بذلك، كما كان الحال بالنسبة لموسى وطارق. وشعبية موسى الطاغية، وشعبية طارق الطاغية، هي التي أدّت إلى سحبهما عن الأندلس إلى دمشق، وحرمانهما من قيادتهما المنتصرة الموفقة، وحرمان الفتح من جهودهما المثمرة، حيث خافت الخلافة منهما على

الخلافة، وخشيت الخلافة من إقدامهما على الخلع، وهما في بلاد قصيّة عن عاصمة الخلافة، بعيدة عن مراكز قوتها، بين رجالهما الذين يدينون لهما وحدهما الولاء، لأنهم لا يعرفون غيرهما، وهم يعيشون برخاء ونعمة بفضلهما. ولكن الخلع لم يخطر على بال موسى، كما لم يخطر على بال طارق، فاحترق موسى بنيران تهمة هو بريء منها، واحترق طارق بنيران موسى بدون ذنب يستحق عليه العقاب. وأياً كانت أسباب حنق الوليد وسليمان على موسى ومولاه طارق، فإن فاتحي الأندلس لم يلقيا الجزاء الحق، بل غمط حقهما وفضلهما، وأبدت الخلافة بهذا الجحود والنكران، أنها لم تقدِّر البطولة في هذا الموطن قدرها (1). ولعلّ عذر الوليد ومن بعده سليمان، أن موسى كان يمثل خطراً شديداً على الخلافة بعد امتداد سلطانه إلى أعماق إفريقية والمغرب، وأوروبا، وسيطرته على تلك الأصقاع النائية سيطرة شخصية وبأولاده ومواليه وأتباعه، وسيطرته في الأندلس كانت بطارق، مما فسح المجال لتقولات خصوم موسى وحاسديه عليه وعلى أعوانه البارزين - وعلى رأسهم طارق -. ومن الواضح، أن موسى - في حقيقة أمره - كان بعيداً كل البعد عن الاختلاس، ولكنه كان كريماً جداً، ولم يكن تغلغله في تلك الأصقاع النائية التي جعل الخلفاء يظنون أنه غرّر بالمسلمين وعرّضهم للأخطار، إلاّ عن رغبته الأكيدة في الفتح ونشر رايات الإسلام، مع تمكّنه وثقته الكاملة بقابليته وقابليّة رجاله على تحمل أعباء هذا الفتح العظيم وتبعاته، فكان المسلمون في أمنٍ ودعة لا في خطر وشِدّة - كما حسب الخلفاء وتصوّروا -. كما أن موسى لم يفكر أبداً بالخلع والاستقلال عن الخلافة، فقد كان إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها، وشدّة ضبطه وابتعاده عن شقّ عصا الطّاعة، _______ (1) دولة الإسلام في الأندلس (58) وانظر فجر الأندلس (109).

والانزلاق في مهاوي الفتن والفرقة، كل ذلك يجعله بعيداً غاية البعد عن اتهام خصومه وحاسديه له بالخلع أو الاستقلال الذاتي، خاصة وأنه كان في ذلك الوقت كان قد بلغ الثمانين من عمره، وهي سن لا تشجع مَن بلغها على المغامرة، وتجعل من صاحبها إنساناً ذا تجربة وخبرة، بعيد النظر، مقدِّراً لعواقب الأمور. لقد ذهب موسى ومعه طارق، ضحية الدسّ والحسد، فخسر العرب المسلمون بتنحيتهما بطلين من ألمع أبطالهم، وفاتحَيْن من أعظم فاتحيهم، ورجلَيْن من أنبغ رجالاتهم، وقائدَيْن من أبرز قادتهم، وكانت تنحيتهما نكسة قاصمة للفتح الإسلامي في الأندلس وأوروبا (1). وقد بقي في الأندلس، جيوب من القوط، لم يتم القضاء عليها نهائياً، ولو بقي موسى وطارق لقضيا عليها قضاءً مبرماً. وهذه الجيوب من بقايا القوط، هي التي نمت وانتعشت واستردت الأندلس من المسلمين بعد حين، كما هو معروف. ولو بقي موسى وطارق في الأندلس، لأصبح فتح الأندلس فتحاً مستداماً، كفتوح البلاد والأمصار الأخرى. ولكن هل خسر العرب والمسلمون موسى وطارقاً وحدهما نتيجة للدس والحسد؟؟!! _______ (1) قادة فتح المغرب العربي (1/ 286).

2 - الرجل

2 - الرّجل كان طارق مع موسى بن نصير في رحلته الطويلة من الأندلس إلى دمشق، وقد احترق طارق بنار موسى كما ذكرنا، فسحب من قيادته في الأندلس، وأصبح مع موسى رجلاً بلا غد، له رصيد في الفتح وتاريخ، ولكن السّلطة تخلّت عنه إلى الأبد. وقد توفي موسى سنة سبع وتسعين الهجرية (1) (718 م) وهو في الحج برفقة الخليفة سليمان بن عبد الملك (2)، وكانت وفاة موسى بوادي القُرى (3)، ولم يعد من حجه إلى دمشق. ولا ندري هل كان طارق مع موسى في رحلة حجه، أم بقي في دمشق؟ كما لا ندري أبقي في دمشق بعد رحيل موسى عن هذه الدنيا، أم رحل طارق إلى إفريقية أو الأندلس؟. وعلى كل، فكان لطارق عَقِب لهم ذكر في الأندلس، وكانوا ينكرون ولاء طارق لموسى إنكاراً شديداً (4)، ويذكر قسم منهم أنه من قبيلة صَدِف العربية من حضرموت، ويذكر قسم آخر، أنه من موالي قبيلة صَدِف وليس بمولى موسى بن نصير. كما يذكر قسم منهم، أن طارقاً من بني ليث من قُضَاعة (5)، _______ (1) تاريخ العلماء ورواة العلم بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (442) والحلة السيراء (2/ 334) والعبر (1/ 115 - 116) وشذرات الذهب (1/ 113) ونفح الطيب (1/ 254). (2) الإمامة والسياسة (2/ 101). (3) وادي القرى: وادٍ بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 375). (4) نفح الطيب (1/ 254) برواية الرازي. (5) أنظر: نفح الطيب (1/ 254) برواية الرازي و (1/ 239) وأخبار مجموعة (6).

كما ذكرنا ذلك في الحديث على: نسبه وأيامه الأولى، فلا ندري هل عاد طارق إلى الأندلس بعد موت موسى، أم رحل إليها عقبه، أو رحل إليها قسم منهم، ومتى؟ ومن المرجح أن عقبه هم الذين رحلوا إلى الأندلس، لأن طارقاً لو رحل إليها، لذكر رحيله المؤرخون، ولما سكتوا عنه. ومن الواضح، أن طارقاً نَفْزاوِيّ من البربر ومن إفريقية، كما ذكرنا ذلك من قبل، ولم يدّعي أنه عربي، ولكن من جاء بعده من ولده ادّعى ذلك. وقد ولد مسلماً، إذ كان أبواه وجده مسلمين، فهو من أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام، إذ أسلم والد طارق أيام عُقبة بن نافع، والتحق طارق بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، جعله من أشد المقربين إلى موسى بن نصير (1). ولا نعلم بالضبط متى تم اتصال طارق بموسى ولا بمكانه، ولكننا نعلم أنه ولاّه مقدمته في فتح مدينة طنجة، فلما فتحت هذه المدينة ولاّه موسى على إدارة وقيادة هذه المدينة، وكان ذلك في حدود سنة تسعين الهجرية (708 م) وأبقى معه عدداً قليلاً من العرب لنشر الإسلام بين البربر (2). وقد ظهر اسم طارق لأول مرة، بعد خروج موسى من القيروان لفتح مدينة طنجة، فولاّه موسى مقدمته، مما يدل على تبادل الثقة بين موسى وطارق، ولا تكون هذه الثقة إلاّ نتيجة لتجربة عملية طويلة، نجح فيها طارق بالنسبة لموسى، فحصل على ثقة موسى الكاملة به، فولاّه قيادة مقدّمته، فهل كانت _______ (1) الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي - فتح العرب للأندلس - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (43 - 44) العدد الثاني - السنة العاشرة - رمضان 1397 هـ - مؤسسة مكة للطباعة والإعلام. (2) ابن حبيب (222) وفتح مصر والمغرب (204 - 205) وابن الأثير (4/ 540) ووفيات الأعيان (5/ 320).

هذه التجربة التي نجح فيها طارق في إفريقية والمغرب حسب، وقد مكث موسى فيها سنوات قليلة، أم أن هذه التجربة سبقت قدوم موسى إفريقية والمغرب، واستمرت بعد ذلك في إفريقية والمغرب؟؟ والجواب على ذلك صعب، لأن المصادر المعتمدة لا تيسر الجواب الواضح، إذ لا نصوص تدلّ عليه أو تشير إليه، فمثل هذه الثقة لا تتكوّن بسهولة وسرعة، فمن المحتمل أنّ طارقاً اتصل بموسى في مصر قبل توليه، إفريقية والمغرب، وليس ذلك ببعيد الاحتمال، ولكن لا دليل عليه من النصوص المتيسرة في المصادر المعتمدة. على كل حال، نجح طارق إدارياً في ولايته على طنجة، فقد أصبح موثوقاً به من البربر بخاصة، ومن أهل المدينة بعامة، وأصبح موضع حبّهم وولائهم، وقد تخطت شعبية طارق حدود ولايته إلى ما جاورها من الولايات، فكان سبباً من أسباب استمالة يُليان إلى المسلمين، مهما تكن الأسباب الأخرى، فاتصل يُليان بطارق، وكان طارق صلة ارتباط يُليان بموسى بن نصير، وسبباً من أسباب تسليم سَبْتَة للمسلمين سلماً بدون قتال، ومعاونة يُليان وتعاونه مع المسلمين في فتح الأندلس، كما ذكرنا ذلك. ولا مجال للشك، فى أن اتصال يُليان بطارق وموسى، وتسليم سبتة للمسلمين سلماً، بعد أن استعصى عليهم فتحها بالقتال، وتعاون يُليان مع المسلمين ومعاونته لهم في فتح الأندلس، كان حسنة من حسنات طارق، تُعرف له وتُذكر بالشكر والعرفان. كما كان التفاف البربر حول قيادته في طنجة أولاً، وفي الأندلس ثانياً، دليلاً على تمتعه بالخلق الكريم. ولا أحد يدري أين ولد طارق؟ ولا أيامه الأولى قبل اتصاله بموسى بن نصير؟ ولا أيامه بعد رحيل موسى عن هذه الدنيا إلى جوار الله؟ كما لا يعرف أحد عن عدد أولاده ولا أسمائهم، ومتى جرى رحيل بعضهم أو رحيلهم إلى الأندلس، ولا يدري أحد هل رحل أولاد طارق إلى الأندلس، أم رحل

أعقابهم، كل ذلك غير معروف! كما لا يدري أحد متى مات وأين مات، وكم كان عمره يوم توفي؟. وقد ذكرنا نص خطبة طارق في رجاله، قبل أن يخوضوا المعركة الحاسمة، معركة وادي لَكُّهْ، وتروى لطارق كذلك أبيات من الشعر، لا بأس من ذكرها هنا، وهي: ركبنا سَفِيناً بالمجاز مُقَيَّراً ... عسى أن يكون الله مِنّا قد اشترى نُفُوساً وأمولاً وأهلاً بجَنَّةٍ ... إذا ما اشْتَهَيْنَا الشَّيء منها تَيَسَّرا ولسنا نُبالي كيف سَالت نُفُوسُنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أَجْدَرا وهذه الأبيات مما يُكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلوّ طبقتها (1). وهي ليست من الشعر البليغ، ولكنها من النظم الموزون المقفّى، وهي إن دلّت على شىء، فإنما تدل على إيمان طارق العميق بالإسلام، ومبلغ حبّه للجهاد في سبيل الله واستعداده للتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله بالمال والنفس والأهل. ومن الواضح أن هذه الحماسة الدينية لطارق، كانت وراء اندفاعه الشديد في طريق الفتح. وهذه الأبيات، في معانيها مقتبسة من قوله تعالى: ((*إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي الْتَّوْرَاةِ وَالْلإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*)) (2). "وكان طارق حسن الكلام، ينظم ما يجوز كتبه" (3)، إنه كان بليغ العبارة في نثره، قوي الأسلوب، متين التراكيب، كما يشهد على ذلك خطابه التاريخي، وإنه كان ينظم الشعر، ومهما قيل في ضعف شعره وقلّته، فإن نثره _______ (1) أنشد في المُسْهَب وابن اليَسَع في المُعْرِب لطارق من قصيدة قالها في الفتح، أنظر نفح الطيب (1/ 215). (2) الآية الكريمة من سورة التوبة (9/ 111). (3) نفح الطيب (1/ 231) برواية بشكوال.

وشعره يدلاّن على معايشة العرب معايشة طويلة، فلا يُستبعد أن يكون قد رحل إلى مصر أو بلاد الشام أو كان مع موسى في البصرة يوم كان هناك، ولكن لا دليل يثبت تلك المعايشة إلاّ نثره ونظمه، وقد تكون تلك المعايشة تمت في إفريقية مثلاً (تونس) في أحد حواضرها كالقيروان، التي كانت يومذاك تعج بالعرب الفاتحين وأبنائهم وذويهم ومواليهم. ومن ثقة موسى به قائداً وإنساناً، وثقة البربر به ومحبتهم له واعتمادهم عليه: "لو أمر أهلها بالصلاة إلى أيّ قبلة شاءها لتبعوه، ولم يروا أنهم كفروا" (1)، وعدم اتهامه بنزاهته، يمكن أن نستنتج، أنه كان مسلماً حقاً، قوي الإيمان، راسخ العقيدة، مجاهداً صادقاً، قوياً أميناً، نزيهاً لم يتلوث بمال حرام، ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا عقاراً، دمث الأخلاق، حليماً كريماً سخياً، محباً للناس محبوباً منهم، شهماً غيوراً. ولا أعرف قائداً فاتحاً، له في تاريخ الفتوح ما لطارق في تاريخ الفتوح، بخل عليه التاريخ إنساناً كما بخل على طارق الإنسان، فاقتصر تاريخه على مجده في الفتح، وهو مجد عظيم، دون أن يشمل تاريخه إنساناً، وقد عوّض عليه مجده في الفتح ما فاته إنساناً، وحسبه ما فتح عوضاً مجزياً. _______ (1) نفح الطيب (4/ 12).

القائد

القائد 1 - سماته القيادية عامة: يتميز طارق على مَن سبقه من قادة الفتح الإسلامي، وعلى مَن عاصره منهم، بأنه أول قائد غير عربي تولّى منصب القيادة، في دولة تختار قادتها من العرب المسلمين، ولا تُولي القيادة مسلماً غير عربي، بل ينبغي أن يكون القائد عربياً مسلماً. كما تولى طارق القيادة، وهو غير عربي، على قادة من العرب، وعملوا بإمرته وتحت لوائه دون تردد ولا تذمّر. لقد كان طارق من البربر، تولى قيادة جيش المسلمين لفتح الأندلس، على عهد الوليد بن عبد الملك، أحد خلفاء بني أمية وأكثرهم فتحاً، وكانت الدولة الأموية تلتزم العرب وتتعصب لهم، فلا تُولي القيادة إلاّ من عربياً أصيلاً. ولم يسبق أن تولّى منصب القيادة منذ جاء الإسلام وبدأ الفتح الإسلامي، إلى أيام طارق، إلاّ عربي مسلم أصيل. بل لم يتسنّم طارق هذا المنصب الرفيع في القيادة حسب، بالرغم من نسبه إلى غير العرب، فقد أصبح أيضا قائداً على عدد من القادة العرب المسلمين في الأندلس، كانوا مع المدد البالغ تعداده خمسة آلاف مجاهد، الذين أمدّ بهم موسى بن نصير طارقاً (1) فعمل هؤلاء القادة العرب بقيادة طارق، وساروا بإمرته، وخضعوا لسلطته، ونفّذوا أوامره ووصاياه دون تردد. بل لم يكن العربي المسلم، ليتولى منصب القيادة، في عهد الدولة الأموية، إلاّ إذا كان عربياً أصيلاً لا من قوارير، ذا حَسَب ونسب، رئيساً على قبيلته، أو من بين أفراد عائلة ذلك الرئيس. ولكن ليس كل رئيس قبيلة يتولى منصب قيادتها وقيادة غيرها من القبائل والشعوب الإسلامية الأخرى، ولا كل _______ (1) أخبار مجموعة (7).

فرد من أفراد عائلة رئيس القبيلة يتولى منصب القيادة، فهذا المنصب يتولاّه رئيس القبيلة أو أحد أفراد عائلته، إذا اتّسم بسمات قيادية معينة تؤهله للقيادة، أما الذي لا يتسم بتلك السمات، فلا يتولى القيادة، ويتولاها من يتسم بها من أفراد عائلة رئيس القبيلة، لأن القائد الذي لا كفاية له، يقود رجاله إلى الموت والهزيمة، ولا يقودهم إلى السلامة والنّصر، ولا أحد يُولّي مَن لا كفاية له، ولا أحد يتولى القيادة بلا كفاية، وبخاصة في أيام الحرب وفي ميادين القتال. لقد كانت القيادة، في تلك الأيام، يتولاها: العربي المسلم أولاً، والعربي الأصيل ذو الحسب والنسب ثانياً، وذو الكفاية العالية في القيادة ثالثاً وأخيراً. كان خالد بن الوليد - مثلاً - من بني مخزوم، وهم بطن من عشرة أبطن من قريش، انتهى إليها الشّرف قبل الإسلام (2)، فكان في بني مخزوم القُبَّة وأعِنَّة الخيل، أما القُبَّة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فهي قيادة الفرسان في الحروب (2)، وكان أبوه الوليد ذا مكانة مرموقة بين سادات قريش، فهو عدلها يكسو الكعبة عاماً، وتكسوها قريش بأجمعها عاماً آخر (3)، لشرفه ورجاحة عقله واتزانه، لذلك تيسرت تلك الشروط لخالد في أنه عربي أصيل ذو كفاية قيادية عالية، فتولى القيادة، لأنه تميز على آل بيته وأهله بالكفاية القيادية العالية، فتولاها دونهم، ولم يتسنّمها غيره من إخوته وذوي قرباه. وما يُقال عن خالد، يقال عن غيره من القادة، فكلهم من العرب المسلمين، ذوي الحسب والنسب والكفاية القيادية المتميزة؛ حتى جاء طارق، فكان قائداً من غير العرب، فما الذي حمله إلى القيادة حَمْلاً ولم يكن _______ (1) هم: بنو هاشم، وبنو نوفل، وبنو أميّة، وبنو عبد الدار، وبنو تَيمْ، وينو أسد، وبنو مخزوم، وبنو عَدِيّ، وبنو جُمَح، وبنو سَهْم، أنظر سيرة ابن هشام (1/ 143 - 144). (2) أسد الغابة (2/ 93) والاستيعاب (2/ 27). (3) أنساب الأشراف (1/ 60) والسيرة الحلبية (1/ 347).

فما هي مجمل تلك المزايا؟

عربياً أصيلاً؟ ما الذي جعل القيادة تسعى إليه، وهو من البربر؟ لا بد وأن تكون لديه مزايا قيادية فذّة، مهّدت له الطريق لتولي القيادة، وتغلبت على العقبات التي كانت تحول بينه وبين أمثاله من غير العرب، لتولي القيادة في تلك الأيام من عهد بني أمية في التاريخ الإسلامي العريق. فما هي مجمل تلك المزايا؟ لم يأخذ موسى حشوداً من العرب المسلمين معه إلى إفريقية والمغرب، فقد سار من مصر مصحوباً ببعض المتطوِّعين من رجال القبائل العربية هناك (1)، واعتمد في فتوحه على العرب والبربر الموجودين في إفريقية والمغرب، ولم يكن تعداد العرب المسلمين بالنسبة إلى تعداد البربر المسلمين الذين يتزايدون يوماً بعد يوم شيئاً مذكوراً، فكان العرب المسلمون أقلية، والبربر المسلمون أكثرية، ولا مجال لموسى إلاّ في التعاون مع البربر المسلمين، فاستعان بهم فتمكن من توسيع نطاق فتوحاته، لتشمل من القيروان إلى المحيط الأطلسي (2). وبعد أن أخضع موسى القبائل البربرية في إفريقية، قرر أن يبذل جهوداً فعالة لافتتاح المغرب، فأرسل ثلاث حملات: قاد الأولى بنفسه (3)، وقاد الحملتين الثانية والثالثة قائدان مرءوسان من قادته (4)، فنجح موسى في محاولاته الثلاث نجاحاً باهراً، أرضى بها كلاً من عبد العزيز بن مروان والي مصر ومسئوله المباشر، والخليفة في دمشق، اللذين أبديا إعجابهما بحملاته الناجحة وكثرة ما حمله إليهما من غنائم (5). _______ (1) أخبار مجموعة (3 - 4) ونفح الطيب (1/ 230 و 250). (2) Cf. p.Guichard, Al J Andalus. P. 284 (3) المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب (117 - 118) والبيان المغرب (1/ 41). (4) البيان المغرب (1/ 41 - 42) وابن خلدون (4/ 402). (5) ابن حبيب (224) وفتح مصر والمغرب (203 - 204) وفتح الأندلس (12) والرسالة =

وفي الحملة الناحجة التي قادها موسى، من هذه الحملات الثلاث، زحف موسى مصحوباً بطارق على مقدّمته إلى طنجة، ففتحها، ثم توغل جنوباً ففتح مناطق واسعة جداً، وكالن توغله ناجحاً للغاية. وقد امتازت تلك الحملات التي قام بها موسى وقائداه، بضراوة شديدة، ولكن ما أن يعتنق البربر الإسلام، إلاّ ويُقرّ الفاتحون زعماءهم في الرئاسة، مقابل مساهمة كل قبيلة بربرية بعدد كافٍ من المجاهدين والانضمام إلى جيش المسلمين، فاستطاع موسى أن يجند أعداداً هائلة من مختلف قبائل البربر، مثل: كُتَامَة، وهَوَّارة، وزَنَاتة، ومَصْمُودَة (1)، فوحد موسى هؤلاء المجاهدين الجُدد من البربر، ووضعهم جميعاً في حامية طنجة بقيادة طارق الذي عينه حاكماً على هذه المدينة في حدود سنة تسعين الهجرية (708 م)؟ ولم يُبْقِ مع طارق إلاّ القليل من العرب المسلمين، الذين كانت مهمتهم نشر تعاليم الإسلام بين البربر (2)، وغادر الجيش الإسلامي بقيادة موسى إلى القيروان، حيث استقر موسى ومَن معه هناك، وبقي طارق وجيشه البربري في طنجة قائداً ووالياً. ومنذ ذلك الوقت، تمت سيطرة موسى بن نصير على الشمال الإفريقي، أي سيطرة الدولة الإسلامية، على تلك المناطق النائية، بعد سبعين سنة من الاقتتال بين الفاتحين المسلمين وبين البربر، هي المنطقة الكائنة بين بَرْقة (3) على الحدود الليبية المصرية والمحيط الأطلسي. وما كان موسى ليستطيع _______ = الشريفية (165) والنويري (22/ 22 - 23). (1) البيان المغرب (1/ 43 - 44) وعبيد الله بن صالح - تحقيق بروفنسال (224). (2) ابن حبيب (222) وفتح مصر والمغرب (204 - 205) وذكر بلاد الأندلس (رقم 85ج) ص: 83 - 84 وابن الأثير (4/ 540) ووفيات الأعيان (5/ 320) والبيان المغرب (1/ 42) والنويري (22/ 22) وابن خلدون (4/ 402) و (6/ 220 و 437) ونفح الطيب (1/ 239) والسلاوي (1/ 96). (3) برقة: اسم صقع كبير، يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وإفريقية، واسم مدينتها: إنطابلس، وتفسيره الخمس مدن، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 133) والمسالك والممالك (32).

تحقيق هذه السيطرة الكاملة، لولا تطبيق روح الإسلام في السير على سياسة التعاون والاندماج بين العرب المسلمين والبربر المسلمين، وكان بإمكان أسلاف موسى أن يحققوا النصر في تلك الأصقاع النائية بوقت أقصر لو اتبعوا منذ البداية سياسة أبي المهاجر (1) دِينَار الإيجابية في هذا المجال (2). ومن الواضح، أن أول مزية من مزايا قيادة طارق، التي أهّلته لتولي منصبه القيادي، هي أنه بربري، فقد كان السواد الأعظم من جيشه والأغلبية المطلقة من البربر المسلمين، وكان العرب المسلمون في طنجة أقلية مطلقة أيضاً، يقتصر واجب رجالها على الدعوة إلى الله، فهم من الدعاة لا من القادة، فرأى موسى أن يولي طارقاً على قومه البربر المسلمين، فهو منهم وإليهم، يعرف آمالهم وآمالهم، ويستطيع التفاهم معهم وحل مشاكلهم ومعالجة معضلاتهم بسهولة ويسر، وهو أقدر على قيادتهم وإدارتهم من عربي مسلم غريب عنهم، كما أنه قادر على التأثير في نفوس البربر، لأنه ليس غريباً عنهم، ويتقبّلون التعامل معه أكثر مما يتقبلون التعامل مع قائد أو إداري غريب عليهم، يشعرون أنه سيِّدهم وهم تَبَع له وهو مفروض عليهم، بعكس شعورهم بالنسبة لقائد أو إداري من البربر، يشعرون أنهم أنداد له، وهو ليس مفروضاً عليهم، بل من أبنائهم. ولكن مزيته البربرية وحدها لا تكفي لتولي القيادة، فيبدو أنه كان مؤمناً صادقاً، حَسُنَ إسلامُه، وأصبح ولاؤه للإسلام وتعاليمه، وبذلك رضي الدعاة العرب أن يعملوا معه وبإمرته وإدارته وتوجيهه، ولولا ذلك لرفضه البربر المسلمون والدعاة العرب في مثل تلك الأيام في أيام الفتح والجهاد والدعوة إلى الله. وقد ولاه موسى على مقدمته في حركته لفتح طنجة، وقد كان موسى من _______ (1) أبو المهاجر دينار: أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا قادة فتح المغرب العربي (1/ 137 - 149). (2) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (143).

ألمع قادة الفتح الإسلامي، ولا يمكن أن يولي على مقدمته إلاّ مَن كانت له سمات قيادية متميزة، لأن المقدمة مسئولة عن أمن سائر الجيش، ومسئولة عن الحصول على المعلومات عن العدو والأرض، وهي التي تُيَسِّر تقدم الجيش إلى الأمام بسهولة وانطلاق، ومسئولة عن منع العدو من الحصول على المعلومات عن جيش المسلمين، لئلا يستفيد من تلك المعلومات في ضربه وعرقلة تقدمه في المكان والزمان الجازمين، وهي مسئولة عن تطهير الطريق ليتقدم الجيش بسرعة واندفاع، ولا يمكن أن ينهض بهذه المسئوليات إلا قائد متميز. والذي يبدو، أن موسى، جرّب طارقاً، في مسيرته الطويلة الشاقة، من القيروان إلى المحيط الأطلسي، فأثبت طارق أنه جدير بالثقة، فولاّه موسى على مقدمته أولاً، فكانت أول الغيث، ثم انهمرت عليه المناصب بعد ذلك. وقد كان موسى على صلة وثيقة بطارق، لأن طارقاً هو مولى موسى، ومن مواليه المقربين، ولكن موسى لم يُقدِم على تولية طارق القيادة، لأن طارقاً مولاه، فليس هناك مَن يولي القيادة في أيام الحرب مَن لا يستحقها، حتى ولو كان ابنه أو شقيقه، ولا يُولي في مثل تلك الظروف غير ذوي الكفاية القيادية العالية من القادرين على تحمل أعباء القتال وقيادة الرجال، لأن مَن يُولِّي منصباً قيادياً في أيام الحرب لمن لا تتوفر فيه الكفاية والمزايا القيادية المطلوبة، تكون العاقبة الوخيمة هزائم واندحاراً وخسائر فادحة عليه، وعلى جيشه وعلى القائد الذي تولى القيادة اعتباطاً وعلى الأمة والبلاد، ولا يمكن أن يقع في مثل هذا الخطأ الشنيع قائد متميز مثل موسى ولا أي قائد آخر. إن مفتاح مزايا قيادة طارق، هو أنه كان المثال الشخصي لرجاله في الشجاعة والإقدام، فهو لا يكتفي بإصدار الأوامر لرجاله، بل هو أول من يبدأ بتنفيذها على نفسه، بشكل يكون فيه أسوة حسنة للذين يعملون معه، إن استطاعوا. ولم يكن طارق من القادة الذين يقودون رجالهم من الخلف: يُصدر أوامره

إليهم، ويطالبهم بتنفيذها، ثم يقبع في الخلف آمناً مطمئناً بعيداً عن الخطر. إنه من القادة الذين يقودون رجالهم من الأمام: يصدر أوامره إلى رجاله، ويقول لهم اتبعوني، وافعلوا ما تروني أفعل، ثم يكون القدوة لرجاله في الشجاعة والإقدام، والتضحية والفداء. كان يُتْعِب نفسه، أكثر مما يتعب رجاله، فكان لا ينام ويُنِيم. ولكي تتضح سمات طارق القيادية، لا بد من ضرب الأمثال، لكي نستنتج منها تلك السمات بوضوح وجلاء. وحين أصبح المسئول عن فتح الأندلس، أعدّ خطة الفتح المفصّلة، وبدأ بتنفيذ مراحلها في رمضان من سنة إحدى وتسعين الهجرية (آب - أيلول = أغسطس - سبتمبر 710 م)، وذلك بإرسال حملة استطلاعية بقيادة أبي زَرْعة طَريف بن مالك المعافري، مؤلفة من أربعمائة راجل ومائة فارس. ونجحت مهمة طريف الاستطلاعية نجاحاً باهراً، فقرر طارق أن يقود الحملة المقبلة، تنفيذاً لمراحل خطة الفتح. لقد كان طارق قائداً يبدأ أعماله بالاستطلاع المفصّل، ليكون على بيِّنةٍ من أمره، ولا يخطو خطوة إلاّ بعد جمع المعلومات الضرورية بالاستطلاع، فلا يضع خطوته إلاّ في موضع أمين، واضح المعالم غير مجهول التفاصيل، فهو يعمل دائماً بالنور، ولا يعمل أبداً في الظلام، وتلك سمة مهمة من سمات القائد الحصيف. وفي عملية عبور جيش طارق من مدينة سَبْتة إلى بر الأندلس، برزت ثلاث سمات من سمات قيادته: الأولى: استئثاره بالخطر لحماية رجاله وإيثارهم بالأمن، والثانية: حرصه الشديد على أرواح رجاله، والثالثة: المبالغة في بذل جهده للاطمئنان على سلامة العملية في الإنزال، والتأكد من إكمال عبور رجاله كافة كما ينبغي دون تخلف بعضهم عن العبور، وإنجاز عملية العبور بدون خسائر تذكر مادياً ومعنوياً. فقد أبحر طارق من سبتة على رأس الوجبة الأولى من رجاله ليلاً، وجرى

إنزال رجاله في مكان وَعْرٍ من الشاطئ الأندلسي، وسهل عملية الإنزال باستخدام المجاذيف وبراذع الخيل التي أُلقيت على الصخور لتلافي خطرها على رجاله، فتمكن طارق من إنزال هذه الوجبة من رجاله على الشاطئ بصورة مفاجئة دون أن يراه أحد من العدو (1). ولما اطمأن طارق إلى سلامة هذه الدّفعة من رجاله، عاد بالسفن الفارغة إلى البر الإفريقي في سبتة، وحمل الدفعة الثانية من رجاله على السفن، وعاد بهم إلى البر الأندلسي، حيث جرى إنزالهم، حتى قال بعض المؤرخين: إن طارق كان آخر من عبر الأندلس (2)، وهذا صحيح، فقد عبر مع الدفعة الأولى، ثم عبر مع الدفعة الثانية، وبذلك اطمأن إلى عبور آخر رجل من رجاله بسلام، فقد أبحر طارق مع أول جماعة، وأخفى نفسه في الجبل حتى الليلة التالية، حيث أرسل المراكب مرة أخرى لكي تعود ببقية رجاله (3)، وما أخفى طارق نفسه في الجبل، بل عاد ليرافق الجماعة الثانية من رجاله، فقد قاد فعلاً المجموعة الأولى إلى الشاطئ الأندلسي، ولكن ما أن هبطت تلك المجموعة بسلام، حتى عاد بالمراكب إلى سبتة لكي يُشرف على بقية العملية، ومن ثم أبحر مع المجموعة الأخيرة من الرجال (4). وكان تعداد رجال طارق الذين جرى إنزالهم في هذه المرحلة سبعة آلاف رجل، وهم الذين عبروا المضيق مع طارق. وتضم المجموعة الأخرى خمسة آلاف رجل، وهم الذين أرسلوا فيما بعد مَدداً لطارق من قبل موسى بن نصير (5)، وضمت الحملة سبعمائة رجل من السُّودان (6). وهذا يُظهر لنا، أن _______ (1) ابن الكردبوس (46) والبيان المغرب (2/ 9). (2) ابن الشباط (106) والبيان المغرب (2/ 6) برواية الرازي، ونفح الطيب (1/ 254). (3) فتح مصر والمغرب (205 - 206). (4) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (164). (5) نفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 231 - 232) وأخبار مجموعة (7) وابن الأثير (4/ 561 - 563). (6) ذكر بلاد الأندلس رقم: 85ج ص: 84 وفتح الأندلس (5).

طارقاً من أولئك القادة الذين يقدمون على إنجاز ما يُكلَّفون به من مهمات عسكرية بكل عزم وبدون تردد، دون خلق المعاذير أو اختلاقها للتملص من تحمّل المسئولية، والتهرّب من الأخطار المتوقعة. ومن الواضح، أن تقبل طارق مهمة العبور للفتح، بقوّة لا تزيد عن سبعة آلاف رجل فقط، لفتح بلاد واسعة، لها ملك ونظام راسخ وجيش عريق، يمكن أن يعد من طارق حباً للمسئولية، كما أن الإقدام على تنفيذ الأوامر الصادرة إليه من مرجعه بدون تردد وبشجاعة، دليل على تمتع طارق بحب المسئولية. وهي سمة من سمات القادة الكبار، وتمتعه بالشجاعة، وبالضبط المتين، والشجاعة والتحلي بالضبط المتين من سمات القادة الكبار أيضاً. وبهذه المناسبة، فإن القادة العسكريين، من ناحية تحمل المسئولية، صنفان: صنف يتحمل المسئولية، ولا يتردد في تنفيذ الأوامر الصادرة إليه، حتى إذا كان التنفيذ صعباً جداً، فهو يبدأ بالتنفيذ، ثم يطالب بمعاونته ما وجد إلى ذلك سبيلاً. وصنف يتهرب من المسئولية ويتملص منها، حباً بالعافية والسلامة، فيختلق المعاذير أو يخلقها، فإذا اضطر إلى تنفيذ ما عُهِدَ إليه نفّذه متذمراً. والصنف الأول الذي يتحمل المسئولية من القادة، هم الذين يُفلحون في أداء واجباتهم، ويقودون إلى النصر. أما الصنف الذي يخاف المسئولية من القادة، فهم الذين لا يُفلحون أبداً في أداء واجباتهم، ولا يقودون رجالهم إلاّ إلى الهزيمة. وظهرت سمة جديدة من سمات قيادة طارق، في تحصين مواضع إنزال قواته في جبل طارق (1)، فمن واجب المقاتل أن يحصّن موقعه فوراً وبدون تأخير بعد احتلاله مباشرة، ليستعين بموقعه المحصن على الثبات أولاً، وليحمي نفسه من رصد العدو وسهامه المصوبة إليه: "فلما حصلوا في الجبل، بنَوْا سوراً على أنفسهم يسمى: سور _______ (1) ذكر بلاد الأندلس رقم: 85ج ص: 84 - 85 والبيان المغرب (2/ 9) وابن خلدون (4/ 254) ونفح الطيب (1/ 232).

العرب ... إلخ ... " (1). والحرص على بناء هذا السمور لحماية جيش طارق، دليل على تمتّعه بمزية: الأمن، وهو مبدأ من مبادئ الحرب، يستحثّ القائد على أمن قواته من نظر العدو ورصده ومن أسلحته المصوبة إليه، كما أن التحصين يساعد على الثبات. وظهرت سمة: رفع المعنويات في قيادة طارق، في معركته الخاطفة على بَنْج (2) ( Banj) ، حيث قضى طارق على قوات بَنج، ولم يَنج من جندها إلاّ واحد اسمه: بِلْيَاسِن، أسرع إلى معسكر لذريق في أقصى شمالي الأندلس (3)، وأخبره بنزول المسلمين البلاد، وإبادة قوات بنج إبادة كاملة. ومن الواضح جداً، أن انتصار المسلمين الساحق، على قوات القوط، وإبادتها عن بكرة أبيها، أدى فيما أدى، إلى رفع معنويات الفاتحين، وإنهيار معنويات القوط، وارتفاع المعنويات عامل من عوامل النصر، وائهيارها عامل من عوامل الهزيمة. وبالرغم من ثقة طارق بنفسه، وثقته برجاله، وارتفاع معنويات المسلمين، إلاّ أن طارقاً حين علم باقتراب لذريق وقواته المتفوقة الضاربة من مواضع المسلمين، كتب إلى موسى يستنجده فأرسل إليه جيشاً قرابة خمسة آلاف مقاتل، بقيادة طريف بن مالك (4)، فقويت بالمدد نفس طارق ونفوس مَن معه. وتكرّر استنجاد طارق بموسى، بعد تغلغله بالعمق في الأندلس، فأصبحت ميمنة المسلمين وميسرتهم مهددة بالعدو، كما أصبحت خطوط مواصلاتهم بقواعدها المتقدمة والأمامية مهددة بالعدو أيضاً، فكتب طارق إلى موسى: "إن الأمم قد تداعت علينا من كل ناحية، فالغوث ... _______ (1) البيان المغرب (2/ 9). (2) البيان المغرب (2/ 10). (3) نفح الطيب (1/ 149). (4) العبر (4/ 254) ونفح الطيب (1/ 233).

الغوث" (1) فعبر موسى إلى الأندلس، باستدعاء طارق إياه (2). وهذا يظهر مزيتين مهمتين من مزايا طارق القيادية، هما: تقديره الصائب للموقف العسكري، ومطالبته بالمدد في الوقت الذي يحتاج إلى المدد، دون أن يغتر بالمعنويات العالية التي يتحلى بها ويتحلى بها رجاله، وبالانتصارات المتوالية على العدو القوطي. والمزية الثانية، هي حرصه العظيم على أمن رجاله، فلا يفسح المجال لتعرضهم إلى التهلكة دون مسوِّغ. وهاتان المزيتان من أهم المزايا التي يتصف بها القادة العظام في التاريخ. فإن تقدير الموقف الصائب في الزمان والمكان المناسبين يدل على تمتع القائد بالذكاء الألمعي، وبمزية سبق النظر، فيتوقع الأحداث قبل وقوعها، ويُعدّلها ما يمكن أن تُعالج به علاجاً ناجعاً. أما الحرص على أمن قوات القائد، فهو الذي يحفظ لها معنوياتها من الانهيار، ويجعلها تثق بالقائد وتنفذ أوامره طوعاً عن طيبة خاطر، مهما يعترض سبيلها من مصاعب ومعضلات. وقد ظهرت مزيّة: الشجاعة، في طارق، في مواقف كثيرة، فضرب بشجاعته لرجاله أروع الأمثال، وكان أسوة حسنة لهم، حتى كانت خسائر رجاله في معركة لَكُّهْ، وهي المعركة الحاسمة بين المسلمين بقيادة طارق، وبين القوط بقيادة لذريق، ثلاثة آلاف شهيد، من مجموع جيش طارق الذي كان اثنى عشر ألف مقاتل، أي أن خمسة وعشرين بالمائة من جيش المسلمين استشهدوا في هذه المعركة الحاسمة، فقد قسم طارق الغنائم بعد انتصاره على القوط في هذه المعركة على تسعة آلاف من المسلمين (3)، أي أن هؤلاء هم الذين سَلِموا، واستُشهد الباقون. ويقول طارق في خطبته على رجاله قبل الاشتباك بالقوط في تلك المعركة الحاسمة: " .... ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بنفسي، لا أقصِّر حتى أُخالطه _______ (1) الإمامة والسياسة (2/ 74 - 75). (2) البيان المغرب (2/ 19). (3) نفح الطيب (1/ 163).

أو أُقتل دونه" (1)، و: "ما فعلت من شيءٍ فافعلوا مثله، إن حملتُ فاحملوا، وإن وقفت فقفوا .... ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيّبه حتى أُخالطه أو أُقتل دونه" (2)، فهو لا يريد من رجاله شيئاً أكثر من أن يفعلوا ما يفعله ويقتفوا آثاره في الشجاعة والإقدام. ومن الواضح، أن تأثير طارق في رجاله كان عظيماً، فقد كان قدوتهم في الشجاعة، وخير دليل على شجاعتهم ما أنجزوه في الفتوح، وما أحرزوه من انتصارات، وما بذلوه من تضحيات. ومن الأمثلة التي تدل على شجاعة طارق النادرة، أن العِلْج صاحب إِسْتَجَّة خرج إلى النهر وحده لبعض حاجاته، فصادفه طارف هناك، وكان طارق قد أتى لمثل ذلك، وطارق لا يعرفه. ووثب طارق على العلج صاحب إِسْتَجَّة في الماء، وأخذه أخذاً وقاده إلى معسكر المسلمين، فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة، فصالحه طارق على ما أحبّ، وضرب عليه الجزية، وخلّى سبيله. وكان طارق يحاصر المدينة، فاستسلمت للمسلمين، ووفّى العلج أمير المدينة بما عاهد عليه طارقاً (3)، ولا يمكن أن يبتعد قائد عن جيشه، ويخرج وحده بعيداً عن رجاله، فيصاول رجلاً من الأعداء ويأسره، ثم يظهر أن الأسير أمير المدينة المحاصرة وبيده الحل والعقد ومصير المدينة، فيفتدي نفسه بتسليم المدينة للفاتحين، بعد أن قاومت مقاومة شديدة مدة طويلة. وطارق في مزيّة الشجاعة، يشابه خالد بن الوليد في هذه المزية، فقد كان خالد أيضاً يترصّد قائد أعدائه، فإذا استمكنه هاجمه هجوماً مباشراً، حتى يقتله أو يأسره؛ وقَتْلُ القائد في تلك الأيام، يؤدي غالباً إلى انهيار معنويات _______ (1) مجلة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد (5/ 222 - القسم الفرنجي) وسراج الملك (159) وتاريخ الأندلس لابن الكردبوس، ووصفه لابن الشباط (154 - 155) تحفة الأنفس لابن هذيل نقلاً عن: دولة الإسلام في الأندلس (1/ 41). (2) الإمامة والسياسة (2/ 74) ووفيات الأعيان (4/ 404 - 405) وتاريخ الأندلس لابن الكردبوس ووصفه لابن الشباط (154 - 155) ونفح الطيب (1/ 225 - 226). (3) نفح الطيب (1/ 260) وانظر أخبار مجموعة (9/ 10) وابن الأثير (4/ 563) والبيان المغرب برواية الرازي (2/ 8 - 9).

رجاله، فلا يبقى أمامهم غير الاستسلام. ولعل مما يدل دلالة واضحة، على تمتع طارق بالذكاء الخارق، والكياسة، وحسن التدبير والسياسة، والمقدرة على استقطاب ثقة الناس به من رجاله ومن أعدائه، ما فعله طارق مع يُليان صاحب سبتة، فقد استعصت هذه المدينة على الفاتحين، ونجحت في صدهم عن أسوارها خائبين. وقد تطرقنا بما فيه الكفاية عن أسباب ثبات سبتة أمام الفاتحين، وأسباب استسلام يُليان للمسلمين وتسليم سبتة لهم صلحاً بدون قتال، وتوطيد صلته المباشرة بالمسلمين في التعاون معهم ومعاونتهم في الفتح. ولكن صلة يُليان المباشرة بطارق واتصاله به - لأن طارقاً كان على طنجة التي على حدود سبتة - وهو السبب المهم في استسلام يليان للمسلمين وتسليم سبتة لهم سلماً بدون قتال. تلك هي سمات قيادة طارق البارزة: ذكاء خارق، وكياسة واتِّزان وحصافة، وحسن التدبير وحسن السياسة، والقابليّة على استقطاب الثقة به إنساناً وقائداً، ونسبه البربري الذي آثر عليه نسبه إلى الإسلام، وإيمانه العميق الراسخ بتعاليم الذين الحنيف، وتجربة عملية ناجحة في القيادة، يقود رجاله من الأمام، ويكون قدوة حسنة لهم بالأعمال لا بالأقوال، يستأثر دون رجاله بالخطر ويؤثرهم بالاطمئنان، يبذل جهداً في جهاده أكثر مما يبذله أيّ رجل من رجاله، حريص غاية الحرص على أرواح رجاله، يتحلى بالضبط المتين، ويتحمل المسئولية كاملة ويحبها، يبذل قصارى جهده لرفع معنويات رجاله، ويهتم بأمن جيشه كل الاهتمام، يسبق النظر فيُعدّ لكل ما يُحتمل وقوعه من علاج، لا يجتاحه الغرور ولا يستخذي للأماني، يقدِّر الموقف العسكري تقديراً واقعياً صائباً، يتميز بالشجاعة النادرة والإقدام. تلك هي مجمل سمات قيادة طارق، التي أهّلته بحق لتولي منصب القيادة، على عهد بني أميّة، وعلى قادة من العرب، رضوا بقيادته، وتعاونوا معه، وعاونوه في ميادين ................................................

2 - طارق ومزايا القيادة العامة:

القتال (1). وهي سمات تؤهِّل مَن يتحلّى بها، أن يتولى المناصب القيادية، إذا استطاع أن يبرز تلك السمات عملياً، أمام الذين بيدهم تولية القادة. ولعل من المفيد تطبيق مزايا قيادة طارق، على مزايا القادة المعروفة في كتب الدراسات العسكرية المعتمدة، زيادةً في الإيضاح، لا زيادة في التّعريف. 2 - طارق ومزايا القيادة العامة: أ - لقد كان طارق: ذا قرار سريع صحيح، حاضر البديهة، يعالج المواقف الحربية المتبدلة بسرعة وبشكل غير متوقّع، بإصدار القرار السريع الصائب المناسب، في الوقت المناسب، دون أن يضيِّع الوقت سدى، فتضيع الفرصة السّانحة التي لا تعود من جديد. فقد أقلع طارق على رأس الجماعة الأولى من رجاله، وكان إقلاعه من سَبْتَة، بسبب رغبة طارق في إيجاد مكان ملائم للإنزال على الشاطئ الأندلسي، وربما كان المكان الذي قصده أولاً منطقة الجزيرة الخضراء التي تقابل سبتة، ولكن طارقاً قرر التخلي عن الإنزال في هذا المكان القريب، لأنه وجد جماعة من القوط، فيه حاولت منعه من الإنزال، فأبحر منه ليلاً إلى مكان وعْرٍ من الشاطئ. وقد حاول تسهيل عملية الإنزال، باستخدام المجاذيف وبراذع الخيل التي ألقيت على الصخور لتلافي خطرها، وبهذه الطريقة تمكن طارق من الإنزال _______ (1) مثل طريف بن مالك، وعبد الله بن عامر المعافري الجد الأعلى للمنصور بن أبي عامر وغيرهما، وهما من أشهر العرب المساهمين في جيش طارق، أنظر: ابن بسام - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة - (1/ 40) - القاهرة - 1945، والحلة السيراء (1/ 275) والبيان المغرب (2/ 256 - 257) والإحاطة (2/ 102) وأعمال الأعلام (59) ونفح الطيب (1/ 396 و 399) وذكر بلاد الأندلس (رقم 85ج ص:147 - 148) و (رقم 558 ص: 205).

المفاجئ، من غير أن يراه أحد على الشاطئ (1)، فتم إنزال جماعته الأولى بسلام دون خسائر تذكر، وكوّن بإنزالها رأس الجسر الواجب إقامته لتأمين عبور المسلمين وإنزالهم على البر الأندلسي بسلام ودون خسائر تذكر. ومن هذه العملية الصغيرة، المتمثلة في عبور الوجبة الأولى من رجال طارق إلى الأندلس، يبدو قراران سريعان صحيحان: الأول: قراره تبديل مكان الإنزال من الجزيرة الخضراء إلى جبل طارق، للتخلص من مقاومة القوط للإنزال. والثاني: في استخدام المجاذيف وبراذع الخيل على الصخور لتلافي خطرها على رجاله. ويمكن استنتاج قراراته السريعة الصحيحة، في كل عملياته الحربية التي استمرت أربع سنوات في الأندلس، وهي كثيرة جداً لا تحصى، فلا عملية بدون قرار سريع صحيح، وإلاّ كانت الهزيمة، ولا نعرف هزيمة لطارق في حياته العسكرية، مما يدل على أنه كان ذا قرار سريع صحيح على الدوام، ولعل تولية طارق مقدمة موسى في فتح طنجة، ومقدمة موسى بعد عبوره إلى الأندلس، خير دليل على تمتعه بالقرار السريع الصحيح، لحاجة قائد المقدمة إلى مثل هذا القرار. ب - وكان طارق يتحلى بالشجاعة الشخصية، وكل عملياته في فتح الأندلس، تدل على أنه كان شجاعاً مقداماً، من الطراز الأول شجاعة وإقداماً، وقد ذكرنا أمثلة على شجاعته النادرة قبل قليل، ولعل هذه الشجاعة هي التي لفتت نظر موسى بن نصير وغيره من المسئولين، ولفتت إليه أنظار رجاله من العرب والبربر، فكان أسوة حسنة لهم في الشجاعة والإقدام. ج - وكان طارق يتحلى: بالإرادة القوية الثابتة، فإقدامه على العبور إلى الأندلس لفتحها، على رأس سبعة آلاف مقاتل فقط، دليل واضح على قوة إرادته وثباتها. وإقدامه على خوض المعركة الحاسمة على رأس اثني عشر _______ (1) ابن الكردبوس (46) وفي البيان المغرب (2/ 9) يورد رواية مشابهة عن عبور طارق ونزوله على الجبل.

ألف مقاتل فقط، لمصادلة القوط، وهم أضعاف أضعاف قوته، بقيادة ملك القوط لذريق وحشد من قادته، على أرض الأندلس التي يعرفها القوط لأنها أرضهم، ويجهلها المسلمون لأنها ليست بلادهم، دليل واضح جلي على قوة إرادة طارق وثباتها. وتغلغل طارق بالعمق في الأندلس، وهو في نحو تسعة آلاف مقاتل، دليل واضح على قوة إرادة طارق وثباتها. إن تمتع طارق، بمزية: الإرادة القوية الثابتة، قد لا تحتاج إلى دليل. د - وكان طارق يتمتع بمزية: تحمل المسئولية، وكان لا يتحملها حسب، بل يحبّها، فهو يتحمل المسئولية ويحبها، ولعل قبوله بمهمة فتح الأندلس، بقوة لا تزيد على سبعة آلاف مقاتل، خير دليل على تحمله للمسئولية وحبها، وعدم التملّص منها، والتهرب من عواقبها. هـ - وكان طارق يتحلى بمزية تمتعه: بنفسية لا تتبدّل، في حالتي النصر والهزيمة، والسراء والضراء، واليسر والعسر. لقد كان أحد رجال البربر، فقدّمه جدُّه إلى مصاف القادة المرءوسين، ثم أصبح والياً على منطقة طنجة الواسعة، وقائداً على حاميتها من البربر. واستمر نجمه في الصعود، فتولى قيادة مستقلة، لها ارتباط مباشر بموسى بن نصير، وفي الأندلس، أصبح قائداً فاتحاً، تخضع البلاد المفتوحة من الأندلس لسلطته المباشرة. وعبر موسى إلى الأندلس، فأصبح طارق من جديد قائداً مرءوساً، ثم بدأ نجمه بالهبوط، حتى سُحب من قيادته بأمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأصبح رجلاً بلا غد، لا يعرف مستقبله ولا مصيره. وحل في الشام، بعد أن قطع المسافة الطويلة الشاسعة بين الأندلس ودمشق، برفقة مولاه موسى بن نصير، فما عرف أحد من المؤرخين وغيرهم، أن نفسية طارق تبدلت في حالتي العز والذل، والسلطة وبلا سلطة، والقيادة وبدون قيادة، بل بقي نفسياً صابراً محتسباً، لم يغتر بمظاهر السلطان، ولا استكان لمظاهر الخذلان، لأنه لم يكن يعمل لنفسه في جهاده وجهوده، بل كان يعمل لله من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين

العليا، وليس لمصلحته الشخصية مكان ولا مكانة حثى يفرح إذا ربحت، ويحزن إذا خسرت، وهذا هو سر صبره الجميل، وبقاء نفسيته ثابتة لا تتبدل. و- وكان طارق يتمتع بمزية: سبق النظر، وهذه المزية تجعل القائد يتوقع ما سيقوم به العدو قبل وقوع الأمر بوقت كافٍ، ويتخذ التدابير الضرورية لإحباط ما يقوم به العدو. أي أن سبق النظر، هي عملية اكتشاف نيات العدو المقبلة، واتخاذ الاجراءات الكفيلة بإحباط النشاط المعادي في الزمان والمكان المناسبين. وقد ظهرت مزية سبق النظر في طارق، بصورة جلية وواضحة في استنجاد طارق بموسى، حين علم باقتراب لذريق وقواته المتفوقة من مواضع المسلمين، قبل اشتباك المسلمين بالقوط في معركة لَكُّهْ، وهي المعركة الأندلسية الحاسمة، فأرسل موسى إلى طارق خمسة آلاف مقاتل مدداً، وبهذا المدد قويت نفس طارق ونفوس مَن معه وبهذه النجدة التي انضمت إلى جيش طارق، استطاع طارق إحراز النصر على القوط. وتكرر استنجاد طارق بموسى بعد تغلغله بالعمق في الأندلس، فعرّض ميمنة المسلمين وميسرتهم وخطوط مواصلاتهم لخطر معادٍ عظيم. وقد سبق طارق النظر، فاستنجد بموسى، فبادر موسى إلى نجدته بنفسه، وعبر إلى الأندلس، وقضى على الخطر الداهم الذي كان يتهدد المسلمين قبل عبوره، وقضى بالتعاون مع طارق على المقاومات القوطية التي أخذت تشتدّ شيئاً فشيئاً بالتدريج. وما كان بإمكان طارق أن ينتصر على القوط في المعركة الحاسمة، لو لم يسبق النظر فيستنجد بموسى، فيصله المدد، فيقوى المسلمون به مادياً ومعنوياً، ويحرزون النصر المؤزر على القوط. وما كان بإمكان طارق، أن ينجو بجيشه المعرّض جناحاه وخطوط مواصلاته إلى تعرض مُعَادٍ، لو لم يسبق النظر، فيستنجد بموسى، فيعبر موسى بنفسه على رأس قوات ضاربة، يُزيل بها الخطر المحدق بجيش

طارق، ويقضي بالتعاون مع طارق على مراكز المقاومة القوطية أو على أخطر مراكزها في جبال الأندلس على أصحّ تعبير. ز- وكان يتمتع بمزية: معرفة النفسيات والقابليات لرجاله، فأكثرهم من البربر، عاش معهم، وعاشوا معه. أما العرب الذين كانوا في جيشه، فقد كان أكثرهم معه في طنجة يعمل في مجال الدعوة، فلما عبر إلى الأندلس، استمروا على عملهم في مجال الدعوة، وتحملوا أعباء الجهاد بالإضافة إلى واجبهم الأصلي، فكانوا كالمجاهدين الآخرين، إن لم يتفوقوا عليهم في طلب الشهادة والاستقتال في سبيل الله. وبهذه المناسبة، فقد كان علماء السّلف الصالح، وهم الدعاة إلى الله، لا يتخلفون عن تحمل أعباء الجيش بأمانة وإخلاص، وكانوا حين يذكرون: أن الجهاد فرض، لا يكتفون بهذا الكلام، بل يطبقونه عملياً على أنفسهم، وليس سراً أن نسبة القراء من شهداء معركة اليمامة بين المسلمين بقيادة خالد ابن الوليد وبين بني حَنِيفَة المرتدين بقيادة مُسَيْلَمة الكذّاب، كانت أعلى من نسبة شهداء المسلمين الآخرين، فقد شهد المعركة من المسلمين نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل (1)، فاستشهد من المسلمين ألف ومائتا شهيد (2)، منهم خمسمائة من القراء (3) وحدهم، أي أن خمسة وأربعين بالمائة من الشهداء كان من القراء، وهم علماء المسلمين، بينما كان تعدادهم بالنسبة للمسلمين الآخرين قليلاً (4)، وهكذا كان علماء المسلمين يُقرنون الأقوال بالأفعال، بل كانوا يقولون قليلاً، ويفعلون كثيراً، وهذا هو سر استجابة الناس لهم وإقبالهم عليهم. _______ (1) جاء في كتاب: فضائل القرآن لابن كثير ص (12) ملحق بالجزء التاسع من تفسير ابن كثير ما يلي: "التفّ حول مسيلمة من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهّز الصدّيق أبو بكر لقتاله خالد بن الوليد في ثلاثة عشر ألفاً". (2) الطبري (2/ 519). (3) الطبري (2/ 519) وابن الأثير (2/ 140). (4) أنظر التفاصيل في كتابنا: بين العقيدة والقيادة (212 - 213).

وبالإضافة إلى معرفة طارق لرجاله في أيام السلم، فقد تضاعف معرفته بهم في أيام الحرب، فليس كأيام الحرب تربط المقاتلين وتعمق تعارفهم وتكشفهم على حقيقتهم، إذ يستمر الاتصال المباشر بينهم ليلاً ونهاراً في تعاون وثيق، فتنكشف نفسياتهم وقابلياتهم، ويُعرف الشجاع من الجبان، والصادق من الكاذب، والمستقيم من المنحرف، لأن التعامل بين المقاتلين يزداد، والميدان يُظهر الشجاع من الجبان. وقد كان طارق، بما عُرف عنه، من اتصال وثيق بالبربر والعرب، الذين معه، على معرفة بنفسيات رجاله وقابليتهم، لا تكاد تخفى عليه من أمرهم خافية، فيستخدم الرجل المناسب للواجب المناسب استناداً على نفسيته وقابليته، ولا يكلف رجلاً يجهل طوايا نفسه وخبايا قابليته، إلاّ بعد اختياره، لمعرفة الواجب الذي يستطيع النهوض به، رغبة لا رهبة، وطوعاً لا كرهاً، وباقتدار لا بعجز، لذلك استطاع طارق أن يحقق النصر بقواته القليلة، على القوط بقواتهم المتفوقة، لأنه يستخدم الرجل المناسب للواجب المناسب بموجب نفسيته وقابليته لا يموجب عوامل أخرى. ح - وكان يتحلى بمزية: الثقة المتبادلة، فقد كان رجلاً مستقيماً صادقاً أميناً، مجاهداً حقاً، شجاعاً مقداماً، ألفاً مألوفاً، يطبق أوامره على نفسه، كما يطبقها على رجاله، إن لم يكن يحرص على تطبيقها أكثر من حرص أي رجل من رجاله. وقد كان يردد دائماً: اعملوا ما أعمل، فلا يطالب أحداً من رجاله أن يعمل غير ما يعمل هو شخصياً، إذ يبدأ بالعمل أولاً، ثم يطالب الآخرين أن يقتفوا آثاره في عمله لا في قوله، فإذا كان الهجوم، كان أول المهاجمين، أمام رجال الصّوْلة في الهجوم، مستهدفاً قائد العدو بالذات، غير مكترث بما حول ذلك القائد من حُماة وحماية. لقد كان في مزاياه يستحق أن يثق به رجاله، فأولوه ثقتهم الكاملة، ويستحق أن يثق به رئيسه المباشر، وهو موسى بن نصير، ورئيسه الأعلى، وهو الخليفة في دمشق، فأولوه ثقتهم الكاملة، وجعلوه قائداً من قادة الفتح،

وكلفوه بمهمة فتح الأندلس، وكان ذلك المنصب القيادي وتلك المهمة في الفتح، بالنسبة لطارق باعتباره من البربر لا من العرب، وبالنسبة للنظام الحاكم يومذاك، من الغرائب المستحدثة التي لا سابقة لها، ولكن مزايا طارق جعلته موضع ثقة رؤسائه، كما جعلته موضع ثقة مرءوسيه. وكان طارق، يبادل رجاله ثقة بثقة، والثقة المتبادلة هي العمود الفقري لكل نصر، وانتصارات طارق وفتوحاته دليل على ثقته برجاله، ودليل على أنهم كانوا يستحقون تلك الثقة. ط - وكان يتحلى بمزية: المحبة المتبادلة، فقد كانت مزاياه تجعله محبوباً من رجاله، كما أنه كان يبادلهم حباً بحب، كما كان يبادلهم ثقة بثقة. كما كان طارق محبوباً من رؤسائه أيضاً، ولولا ذلك لنحّوه من منصبه القيادي، وولّوا مكانه مَن يُحبّون. ولعل أحسن دليل على حب رجال طارق لطارق، ما وصف به مُغيث الرّومي طارقاً. فقد ذكروا أن سليمان بن عبد الملك أراد أن يولي طارقاً على الأندلس، فاستشار سليمان مُغيثاً في تولية طارق، وقال له: (كيف أمره بالأندلس؟)، فقال: "لو أمر أهلها بالصلاة إلى قِبْلَة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا" (1). لقد كان طارق يحب رجاله، ويحب رؤساءه، وكان رؤساؤه ورجاله يبادلونه حباً بحب، مما جعل التعاون بين القيادة والرجال تعاوناً وثيقاً، لأنه نابع من القلب، وليس بسبب إغراء ووعيد وضغط وإكراه. ي - وكان يتمتع بمزية: الشخصية القوية النافذة، فما كان لمثله، أن يخترق الحدود والقيود، المؤدِّية إلى منصب القيادة، لو لم يكن ذا شخصية قوية نافذة. وقد كان موسى بن نصير الذي ولى طارقاً القيادة، مُلْتَزَماً من عبد العزيز بن _______ (1) نفح الطيب (3/ 13).

مروان الذي كان على مصر، وكان موسى معنياً بإقناع الخليفة وعبد العزيز بن مروان بقابليته قائداً، وأنه قادر على فتح مناطق شاسعة، وتزويد الخلافة ومصر بالغنائم، محاولاً تخفيف الانطباع السَّيء الذي كوّنه عنه الخليفة بسبب العمل الذي اتُّهم به في البصرة. لذلك كان موسى معنيّاً باختيار القادة القادرين من ذوي الكفاية العالية، ومنهم طارق، لتحقيق ما يصبو إليه من فتوح ومغانم، ولا يكون القائد القادر إلاّ ذا شخصية قوية نافذة، لأنها إحدى مزايا كفاية القائد العالية، أما القائد الإمَّعة المتردد الذي يخالف المسئولية، فلا مكان له بين قادة الفتح في تلك الأيام. ك - وكان طارق يتمتع بمزية: القابلية البدنية، ولا نصوص تشير إلى ذلك في المصادر المعتمدة، ولكن يمكن استنتاج أن طارقاً كان يتحلى بهذه المزية، من سير أعمال طارق في ميادين القتال. فقد ولاّه موسى على مقدمته في مسيرة فتح طنجة، وولاّه على مقدمته أيضاً بعد عبور موسى إلى الأندلس، ولا يُولى قيادة المقدمة إلاّ قائد يتّسم بالنشاط وسرعة الحركة والتنقل من مكان إلى آخر على عجل، ولا يكون ذلك كما ينبغي إلاّ لقائد ذي قابلية بدنية متميزة. كما أن تولية طارق على جيش من جيوش المسلمين، متوجِّه لفتح الأندلس، بما في ذلك من مصاعب ومشاق، دليل على أنه كان يتمتع بقابلية بدنية متميزة. وتحمل أعباء الحرب، من حركة مستمرة، وتنقل مستمر، وقتال بما فيه من صولات وجولات، في مختلف فصول السنة بما فيها من حرّ وبرد وأمطار، لا ينهض بأعبائها إلا من كان ذا قابلية بدنية متميزة. وإقدام طارق على ممارسة القتال في مقدمة الصفوف الأولى، ومهاجمة قادة القوط قبل غيرهم، وانقضاض طارق على أمير إسْتَجَّة وهو في ماء النهر، وأخذه أخذاً بالقوة، وحمله قسراً إلى معسكر المسلمين، أدلّة واضحة على تمتع طارق بمزية القابلية البدنية المتميزة.

3 - في تطبيق مبادئ الحرب:

وأكاد أتبين بوضوح، أن قابليته البدنية الخارقة، كانت من أسباب إقدام موسى على توليته منصب القيادة المرموقة. ل - الماضي الناصع المجيد، من سمات القائد الناجح المنتصر، ولا شىء عن ماضي طارق في المصادر المعتمدة التي بين أيدينا. فقد برز طارق لأول مرة سنة تسعين الهجرية (708 م) حين تولى مهمة قيادة مقدمة موسى في سيرته لفتح طنجة، ثم ولاّه على طنجة بعد فتحها وجعله قائداً لحاميتها من البربر، ولم يبق مع طارق إلاّ القليل من العرب الذين كانت مهمتهم نشر تعاليم الإسلام بين البربر (1). ومن الواضح أن ماضيه المجيد مرتكز على سجاياه إنساناً وقائداً، فقد تقدم بتلك السّجايا لا بحسبه ونسبه: فهو قائد عصامي بحق. ولا يبدو أنه كان من أشراف البربر أو رؤسائهم وملوكهم، فقد كان مع موسى أبناء كسيلة وملك السوس الأقصى، فولّى طارقاً القيادة دونهم، فلو كان موسى يُولي ذوي الحسب والنسب من البربر، لولى هؤلاء دون طارق، ويبدو أن سجايا طارق ومزاياه قدّمته، حين أخرت سادة البربر وأشرافها. إن طارقاً كان أول جَد لعقبه في الأندلس، فكان موضع فخرهم واعتزازهم، كما كان موضع فخر المسلمين وتاريخهم. والإسلام كان أباه، وحَسَبه بالإسلام فخراً وماضياً مجيداً، وحاضراً حميداً. 3 - في تطبيق مبادئ الحرب (2): _______ (1) ابن حبيب (222) وفتح مصر والمغرب (204 - 205) وذكر بلاد الأندلس (رقم 85ج ص: 83 - 84) وابن الأثير (4/ 540) ووفيات الأعيان (5/ 320) والبيان المغرب (1/ 42) والنويري (22/ 22) وابن خلدون (4/ 402) و (1/ 220 و 437) ونفح الطيب (1/ 239) والسّلاوي (1/ 96). (2) مبادئ الحرب: هي المبادئ الجوهرية التي تنشىء في القائد السجيّة السليمة في =

أ - اختيار المقصد وإدامته:

أ - اختيار المقصد وإدامته (1): كان مقصد طارق في عملية الإنزال، ثم الانطلاق شمالاً في الجزيرة الأندلسية، واضحاً جلياً هو: فتح الأندلس، والبقاء فيها، أسوةً بالبلاد التي فتحها المسلمون قبل الأندلس. وقد كان هذا المقصد، من اختيار موسى، وكان على طارق مهمة وضعه في حيز التنفيذ العملي، وإدامة تحقيقه بمراحل متعاقبة، تبدأ بحشد القوة الكافية للإنزال، وإعداد وسائط نقل الجيش الإسلامي من البر الإفريقي إلى البر الأندلسي، وإجراء عملية العبور، وإنزال الجيش الإسلامي إلى البر الأندلسي، وإتخاذ رأس جسر من القوة الإسلامية النازلة، وتأمين حماية رأس الجسر وتطويره ليصبح قاعدة أمامية متقدمة للمسلمين، وتحصين تلك القاعدة وحمايتها، والانطلاق منها انسياحاً في البلاد للفتح ..... إلخ ....... كما جرى عملياً في الفتح. ومن الواضح، أن الفتح هو المقصد الذي جرى اختياره، ولكن إدامة هذا المقصد يجري بمراحل، لكل مرحلة من مراحله مقصد واضح أيضاً، كالرافد يصب في النهر الكبير، والرافد يمثّل مقصد كل مرحلة، والنهر الكبير يمثل المقصد الرئيس وهو: الفتح، وتلك الروافد، تديم النهر الكبير، الذي هو المقصد الرئيس، وهو الفتح، لهذا فإن مقاصد مراحل عملية الفتح بمجموعها تتفق مع المقصد الرئيس وتديمه ولا تتناقض معه وتضعفه في حال من الأحوال. لقد كان طارق يعرف حق المعرفة مقصده، وقد بذل قصارى جهده _______ = تصرفاته الحربيّة، وهي العناصر الأساسية التي يتكوّن منها مسلك القائد في أعماله القيادية بصورة طبيعية وغير متكلفة. (1) اختيار المقصد وإدامته: في كلّ حركة حربيّة، من اللاّزم اختيار المقصد وتعريفه بوضوح، والمقصد النهائيّ هو تحطيم إرادة العدو على القتال. ويجب أن نوجه كلّ صفحة من صفحات الحرب نحو هذا المقصد الأعلى، ولكن لكلّ صفحة من تلك الصفحات مقصد محدود، يجب أن يُعرف بوضوح.

ب - التعرض:

لتحقيقه، وسهر بدأب وعزم على إدامته، بما عُرف عنه من أمانة وإخلاص. ب - التّعَرض (1): كان طارق قائداً تعَرضياً في كل عملياته القتالية التي خاضها في الأندلس، ولا نعلم أنه خاض معركة دفاعية واحدة في الأندلس، منذ حلّ فيها إلى أن غادرها. وكان في اتخاذه مبدأ: التّعَرض، مسلكاً له في قيادة رجاله، موفقاً ناجحاً، فقد انتصر على القوط، ولم يُهزم في أية معركة خاضها، وأجبر القوط على الرغم من تفوقهم العَدَدِي والعُدَدِي على المسلمين، على اتخاذ مسلك الدفاع، فلم يُفلحوا حتى في مسلك الدفاع الذي اتخذوه، ودأبوا على الانسحاب من مواضعهم الدفاعية إلى مواضع دفاعية جديدة، لأنهم لم يستطيعوا الثبات أبداً أمام تيار زخم تعرض المسلمين. ج - المباغتة (2): المباغتة، هي إحداث موقف لا يكون العدو مستعداً له، والكتمان من أهم الوسائل التي تؤدي إلى المباغتة. لقد طبق طارق مبدأ المباغتة، في كثير من عملياته العسكرية، فقد عبر من سبتة، وفيها كثير من عيون القوط وعملائهم، ولم يعبر من ميناء إسلامي _______ (1) التعرّض: هو الهجوم على العدو لسحقه، ولا يتمّ الحصول على النّصر إلاّ بالتعرّض وحده، أما الدفاع فلا يؤدي إلى النّصر. (2) المباغتة: أهم مبادئ الحرب وأبعدها أثراً في الحرب، وتأثيرها المعنوي عظيم جداً، وتأثيرها من الناحية النفسيّة يكمن فيما تحدثه من شلل متوقّع في تفكير القائد الخصم. وهذه هي بعض الوسائل التي يمكن بها الحصول على المباغتة: أ - بكتمان الاستعدادات للخطط الحربية، وبكتمان جسامة القوات الاحتياطية. ب - بالتنقل السريع للقوات من مكان إلى آخر، تمهيداً لإنزال الضربة على موضع لا يتوقّعه العدو. ج - باستخدام الأرض التي يصعب استخدامها لوعورتها مثلاً أو لأنّها مغمورة بالمياه، أو بعبور الموانع التي تُعتبر غير قابلة للعبور. د - باستخدام أسلحة جديدة غير متوقعة أو أساليب تعبويّة جديدة.

د - تحشيد القوة:

معروف مثل طنجة، لأن القوط كانوا يتوقعون عبور المسلمين من طنجة، باعتبار أن المسلمين طهّروا المنطقة من عيون القوط وعملائهم، ولم يكونوا يتوقعون عبور المسلمين من سبتة، لأنها كانت تعجّ بالرَّتَل الخامس (1) من عملاء القوط وعيونهم، فاستطاع طارق كتمان حركة عبوره، فباغت القوط بهذا العبور. كما جرى عبور المسلمين ليلاً، فكان الظلام الدامس، حجاباً ساتراً للمراكب والقوارب التي استخدمها المسلمون في العبور. وحين وجد طارق، أن الجزيرة الخضراء، لا تخلو من مقاومة قوطية، وقد تعرقل إنزال قواته على البر الأندلسي، وتكبّدها خسائر في الأرواح، مما قد يؤدي إلى إخفاق عملية الإنزال دون مسوِّغ منطقي معقول، أقدم طارق فوراً على توجيه رجاله بوسائل نقلهم البحري إلى منطقة جبل طارق، وأجرى إنزال قواته هناك بدون أية مقاومة قوطية تذكر، لأن تلك المنطقة كانت خالية تماماً من القوط، وكان القوط يفكرون أنّ المسلمين لا ينزلون قواتهم في تلك المنطقة الوعرة، لصعوبة الإنزال عليها، لأنها صخرية شديدة الوعورة، تعرقل الإنزال، وتؤذي النازلين عليها من الرجال. وتطبيق طارق لمبدأ المباغتة كثير جداً، نكتفي بالأمثلة التي أوردناها، خشية أن يطول الحديث. د - تحشيد القوّة (2): عبر طارق على رأس سبعة آلاف مجاهد، وقبل المعركة الحاسمة التي خاضها على القوط بقيادة لذريق، أمدّه موسى بخمسة آلاف مجاهد، فخاض المعركة الحاسمة باثني عشر ألف مجاهد. ولما أكمل طارق فتح طليطلة، _______ (1) الرتل الخامس: كناية عن الجواسيس والوكلاء والعيون والأرصاد والموالين وأصحاب المصالح الشخصية، وأصحاب العلاقة الدينيّة والعنصرية والمذهبية .. الخ .. (2) تحشيد القوّة: هو حشد أكبر قوّة أدبيّة وبدنيّة، وأعظم قوّة معنويّة وماديّة، لاستخدامها في المكان والزمان الجازمين.

أصبحت قوات المسلمين في خطر محدق، لتزايد وطأة المقاومة القوطية، ولانكشاف جناحيها الأيمن والأيسر، ولتعرض خطوط مواصلاتها للانقطاع؛ فقدم موسى على رأس قوات ضاربة من المسلمين، لترصين موقف قوات طارق في الأندلس، واستئناف الفتح، وهكذا اهتم طارق بتطبيق مبدأ: الحشد، بما يناسب ظروفه الراهنة (1). وإذا نوقش أسلوب تطبيق طارق، لمبدأ: تحشيد القوة، على الطريقة العسكرية الحديثة، من عسكري مختص بمثل هذه البحوث والدراسات، فربما يتورّط بإصدار استنتاجات خاطئة، وبخاصة إذا نوقش أسلوب طارق لهذا المبدأ، اعتماداً على الناحية المادية من التحشّد حسب، إذ أن حشد سبعة آلاف مجاهد للعبور من أجل تحقيق الفتح، وحشد اثنى عشر ألف مجاهد للمعركة الحاسمة التي خاضها طارق على القوط بقيادة لذريق، إذ ما جدوى حشد سبعة آلاف مجاهد لمواجهة مملكة وشعب وبلاد شاسعة؟ وما جدوى حشد اثني عشر ألف مجاهد لمواجهة مائة ألف قوطي أو ثمانين ألف قوطي؟ وكيف يمكن أن ينتصر واحد في الهجوم على سبعة في الدفاع عن بلده؟ والمعروف أن المهاجم ينبغي أن يكون خمسة أمثال المدافع على الأقل، ليمكن أن يكون الهجوم ناجحاً! لقد كان تفوق القوط على المسلمين (مادياً) فواقاً ساحقاً، فكان المسلمون مقصرين في تطبيق مبدأ، تحشيد القوة، من الناحية المادية، ولكن المسلمين كانوا متفوقين على القوط (معنوياً) فواقاً ساحقاً. وكان نابليون يقول: (إن الجيش يتألف من 75% معنوياً، ومن 25% مادياً)، وآخر ما استقرت عليه آراء الخبراء العسكريين العالميين، بعد تطور الأسلحة وظهور الأسلحة النوويّة، هو: إن الجيش يتألف من 50% مادياً _______ (1) كان مبدأ تطبيق تحشيد القوة، بالنسبة للمسلمين، قياساً على الناحية المادية في القوّة وحدها، غير كافٍ، لأن التفوّق المادي كان دوماً إلى جانب القوط، ولكن التفوق المعنوي كان إلى جانب المسلمين، فانتصرت الفئة القليلة على الكبيرة بإذن الله.

و 50% معنوياً)، فلا يزال للمعنويات وزن مرموق حتى في العصر الحديث، الذي يمكن أن نطلق عليه: العصر المادي، لأن اهتمام الناس عامة بالناحية الروحية المتمثلة بالدين، في هذا العصر، أقل بكثير من اهتمامهم بهذه الناحية في القرون الخالية. وقد كان اهتمام المسلمين بالدين الحنيف عظيماً، في القرن الأول الهجري، الذي كان خير القرون بلا مراء، من ناحية التمسك بالدين والاهتمام به: "خير الناس قَرْني، ثم الذين يلُونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ أقوام تسبق شهادةُ أحدهم يمينَهُ، ويمينُه شهادته" (1) - كما قال عليه الصلاة والسلام - واهتمام المسلمين بالدين، رَفَعَ معنوياتهم، لأن أحدهم كان يحرص على الموت، كما كان يحرص غيرهم على الحياة، وكان كل فرد منهم يتمنى أن يموت قبل صاحبه لينال الشهادة، وكان كل فرد من غيرهم يتمنى أن يموت صاحبه قبله، كما قال خالد بن الوليد لأحد قادة الرّوم في معركة اليرموك الحاسمة، لذلك كانت معنويات المسلمين عالية جداً في ذلك القرن، وهذه المعنويات اكتسحت أمامهم تفوق عدوهم المادي عليهم، وقادتهم إلى النصر. إن تطبيق المقاييس المادية الشائعة في هذا العصر كثيراً، على أسلوب تطبيق طارق وأمثاله من القادة المسلمين مبدأ: تحشيد القوة، لا يخلو من محاذير يؤدي إلى استنتاجات خاطئة. ومن المهم في هذا المجال، ألاّ ننسى القرن الذي حارب فيه طارق، والمعنويات العالية التي كان يتحلى بها المسلمون المجاهدون يومذاك، وأثر المعنويات العالية في إحراز النصر. وصدق الله العظيم: ((* كَمْ مِنْ فِئَةً قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ*)) (2). _______ (1) رواه عن ابن مسعود، الشيخان البخاري ومسلم، والإمام الترمذيّ، والإمام أحمد بن حنبل في مسنده، أنظر مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي 2/ 13. (2) سورة البقرة- الآية: 249.

هـ - الاقتصاد في المجهود:

ولعل انتصار المسلمين شرقاً وغرباً، بالرغم من تفوق عدوهم عليهم مادياً، في القرن الأول الهجري، خير دليل على أن المقاييس المادية وحدها، لا تصلح في التطبيق على المسلمين، في ذلك القرن بالذات، للحكم لهم أو عليهم في تطبيق مبدأ تحشيد القوّة. وإلاّ فكيف نعلل انتصارهم في الأندلس، على الكثرة الكثيرة، في القرن الأول الهجري؟ فلما أصبحوا كثرة كثيرة بعد قرون من فتح الأندلس واستيطانهم في ربوعها، هُزموا وخسروا ما فتحه أجدادهم، وطُرد مَن طُرد منهم، وشُرِّد مَن شُرِّد، وقُتل من قتل، ونُصِّر مَن نُصِّر منهم قسراً؟ إن انتصارات المسلمين في القرن الأول الهجري، قرن الفتوح والانتصارات، كان انتصار عقيدة بلا مراء. هـ - الاقتصاد في المجهود (1): إذا كان بالإمكان حدوث اختلاف بين الباحثين، حول تطبيق طارق مبدأ: تحشيد القوّة، فليس بالإمكان حدوث مثل هذا الاختلاف في تطبيق طارق مبدأ: الاقتصاد في المجهود، إذ أن تطبيقه كان مثالياً حقاً، وكيف لا يكون كذلك، وقد تم الإنزال بسبعة آلاف مجاهد، وتم بهذه القوة الصغيرة نسبياً بالنسبة للقوات القوطية المتفوقة مراحل: تأسيس رأس جسر للمسلمين في البر الأندلسي، وتكوين قاعدة أمامية متقدمة للمسلمين في منطقة جبل طارق وحمايتها، والانطلاق شمالاً، وفتح المنطقة الشاسعة بين جبل طارق ووادي لَكّة، كل ذلك جرى بسبعة آلاف مجاهد حسب. وجاء المدد من موسى إلى طارق قبل خوض المسلمين معركة وادي لَكّهْ، وهي المعركة الأندلسية الحاسمة، وكان المدد خمسة آلاف مجاهد فقط، _______ (1) الاقتصاد بالمجهود: هو استخدام أصغر القوّات للأمن أو لتحويل انتباه العدو إلى محل آخر، أو صدّ قوّة معادية أكبر منها، مع بلوغ الغاية المتوخاة. إن الاقتصاد بالمجهود، يدل على الاستخدام المتوازن القوى، والتصرّف الحكيم بجميع المواد لغرض الحصول على التّحشّد المؤثّر في الزمان والمكان الحاسمين.

و- الأمن:

فخاض طارق المعركة الحاسمة باثني عشر ألف مجاهد، وانتصر على القوط انتصاراً حاسماً، بعد أن تكبّد المسلمون ثلاثة آلاف شهيد. وانطلق جيش طارق شمالاً، من وادي لكّهْ، حتى تم فتح طُليطلة وعدد كبير من المدن الأندلسية الكبرى، بقوات إسلامية لا تزيد عن تسعة آلاف مجاهد. وتحقيق هذه الانتصارات المتعاقبة للمسلمين والفتوح، بمثل قواته القليلة في عَدَدها وعُدَدها، الكثيرة بمعنوياتها ومَددها، يمكن اعتباره مثالاً رفيعاً لتطبيق مبدأ: الاقتصاد في المجهود، ينبغي أن يكون أسوة حسنة في هذا المجال. و- الأمن (1): أمّن طارق حماية قواته في مراحل عملياته للفتح كافة، وبذل غاية جهده لمنع العدو من الحصول على المعلومات عن قواته، واستطاع الحصول على المعلومات الضرورية عن القوط عَدَداً وعُدَداً وتنظيماً وقيادة، مستفيداً من شتى المصادر لجمع تلك المعلومات، وبذلك طبق مبدأ: الأمن. وهناك أمثلة كثيرة على تطبيق مبدأ: الأمن، عملياً، في عمليات طارق العسكرية، تحقيقاً لمقصده الرئيس في فتح الأندلس، فعملية طُريف بن مالك المعافري الاستطلاعية إلى برّ الأندلس، هي في جوهرها لجمع المعلومات المفصلة عن القوط، وطبيعة أرض الأندلس؟ وكان طارق يبدأ أعماله العسكرية بالاستطلاع، ليكون على بيّنة من أمره، ولا يخطو خطوة إلاّ بعد جمع المعلومات الضرورية بالاستطلاع، فلا يضع خطوته إلاّ في موضع أمين، فهو دائماً يعمل في النور لا في الظلام. وقد ولاّه موسى على مقدمته في عملية فتح طنجة، وولاّه على مقدمته بعد _______ (1) الأمن: هو توفير الحماية للقوّة ومواصلاتها، لوقايتها من المباغتة، ومنع العدو من الحصول على المعلومات عن القوة وتسليحها وتنظيمها وتعدادها وقيادتها، وعن الأرض التي ستجري عليها المعارك القادمة.

ز - المرونة:

عبوره إلى الأندلس، ومعنى ذلك أن طارقاً خبير جداً: بجمع المعلومات عن العدو، وبحرمان العدو من جمع المعلومات عن قوات المسلمين، وبحماية قوات المسلمين من مباغتة العدو لها بالمكان أو الزمان أو الأسلوب. إن تعداد الأمثلة العملية، على تطبيق مبدأ: الأمن، في عمليات طارق الحربية، قد يطول بدون جدوى، إذ أن تطبيقه لهذا المبدأ، لا يحتاج إلى دليل، ويكفي أن نتذكر أنه استطاع مباغتة القوط في كثير من المواقف، دون أن يستطيع القوط مباغتته. ز - المرونة (1): كانت قوات طارق، تتحرك إلى أهدافها، بكفاية وسرعة، بل كانت سرعتها في بعض الأحيان تخرج عن حدودها، فتُصبح اندفاعاً لا حركة سريعة، كما جرى في حركة قوات طارق بعد المعركة الحاسمة، حتى تم لها فتح طُليطلة، حيث كان اندفاعها سريعاً، وكان سببه: الحرص على تشتيت تجمعات القوط، لكي لا تُصبح قوات ضاربة مؤثرة من جهة، ومطاردة فلول القوط لإجبارها على الإستسلام من جهة ثانية. وكانت عملية طارق متفتحة مرنة، فإذا أعدّ خطة من الخطط، فرأى الموقف الراهن يقتضي تبديلها أو تحويرها، لم يتأخر أبداً عن التبديل أو التحوير، لتلائم خطته الموقف الراهن الجديد، ولا يبقى مصرّاً على خطته _______ (1) المرونة: إنّ المبدأ الذي كان يُسمى قبل الحرب العالمية الثانية مبدأ: قابليّة الحركة، أصبح في الوقت الحاضر مبدأ: المرونة. ذلك لأنّ: قابلية الحركة، تدلّ على الحركة الماديّة، وهي عمليّة نسبيّة، لا يُعبّر عنها تعبيراً صحيحاً، إلاّ بالمقارنة مع قابلية حركة العدو. إنّ المرونة، تعني أكثر من ذلك، إنّها لا تتضمن قوّة الحركة حسب، بل قوّة العمل السريع كذلك، فعلى القائد أن يكون مرن الفكر، وعليه أن يطبق تلك المرونة عند وضع الخطط لحملته، وأن تكون خططه بشكل يمكِّنه من أن يُعدِّل بسرعة عمليات قوّاته، حين تضطرّه الظروف غير المنظورة إلى هذا التعديل.

ح - إدامة المعنويات:

الأولى، لسبب أو لآخر، دون مسوِّغ مقبول. فقد أبحر طارق من سبتة، بسبب رغبته في إيجاد مكان ملائم للإنزال في منطقة الجزيرة الخضراء على الساحل الأندلسي، ولكن طارقاً تخلى عن الإنزال في ذلك المكان، حين وجد جماعة من القوط حاولت منعه من الإنزال، فأبحر منه ليلاً إلى مكان وعر على الشاطئ، وهو جبل طارق، وتمكن من الإنزال المفاجئ في المكان الجديد، دون أن يراه أحد على الشاطئ (1). وهكذا استبدل طارق خطة جديدة بخطته الأولى، فنجح في إنزال رجاله بدون مقاومة معادية تذكر، ونجح في مباغتة العدو بهذا الإنزال. والأمثلة على تبديل خطط طارق أو تحويرها، يغني عنها المثال السابق، للدلالة على تمتع عقلية طارق بالمرونة المطلوبة. ح - إدامة المعنويات (2): كانت الثقة والمحبة متبادلتين بين طارق ورجاله، ليس بالنسبة لرجاله من البربر، بل بالنسبة لرجاله من العرب أيضا قادةً وجنوداً، فقد كانت لطارق مزايا إنساناً وقائداً، تجعله موضع ثقة رجاله ومحبتهم، كما كان يبادلهم ثقة بثقة ومحبة بمحبة، لذلك كان التعاون بين القيادة والرجال وثيقاً. وكانت عوامل رفع المعنويات لجيش المسلمين عامة، متيسِّرة إلى أبعد الحدود في القرن الهجري الأول، وهي: العقيدة الراسخة أولاً، والقيادة ذات الكفاية العالية ثانياً، والانتصارات الباهرة ثالثاً وأخيراً. لقد كان المسلمون متمسِّكين بالإسلام، وأثر الإسلام في رفع المعنويات _______ (1) ابن الكردبوس (46)، وانظر البيان المغرب (2/ 9) الذي يذكر أن طارقاً أجرى إنزال رجاله في منطقة جبل طارق. (2) المعنويّات: الصّفات التي تميّز الجيش المدرّب عن العصابات غير المدرّبة: بها تظهر الطاعة القائمة على الحب، وتبرز الشجاعة في القتال، والصّبر على تحمّل المشاق، وتبرز كلّ المزايا التي تجعل المقاتل مطيعاً باسلاً صبوراً.

ط - الأمور الإدارية:

معروفة، ومنه: الحياة المستمرة للشهداء والأجر العظيم للمجاهدين. وكان المسلمون يومئذ يقودهم: أكثرهم تديناً، وأعظمهم كفاية، وأفضلهم سجايا، وأحمدهم سيرة، لذلك كانت الثقة بين الرئيس والمرءوس متبادلة، والتعاون بين القادة والجنود وثيقاً. وكانت الانتصارات باهرة، بفضل العقيدة المنشئة البنّاءة والقيادة الرصيفة القادرة. لذلك كانت عوامل تيسّر المعنويات العالية بين جيوش المسلمين واضحة للعيان، وهي التي يسّرت النصر منذ إنزال قواته على البر الأندلسي، إلى قبل المعركة الحاسمة بسبعة آلاف مجاهد فقط، ويسّرت له النصر على لذريق ومَن معه في المعركة الحاسمة، وكانوا في نحو مائة ألف مقاتل إلى ثمانين ألف مقاتل بجيش من المسلمين تعداده اثنا عشر ألفاً، ويسّرت له فتح المنطقة الأندلسية الممتدة من منطقة وادي لَكّهْ إلى طليطلة بقواته التي تبلغ تسعة آلاف مجاهد، وكان لمعنويات المسلمين وإدامتها أثر حاسم في إحراز هذه الانتصارات (1). ط - الأمور الإدارية (2): مهما تكن خطة العمليات دقيقة مرنة معقولة، فلا تؤتي ثمراتها المرتقبة إذا تعذر تنفيذها من الوجهة الإدارية، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: إن نجاح كل خطة من خطط العمليات مرهون بنجاح خطتها الإدارية والواقع أن القوط كانوا متفوقين إدارياً على المسلمين، فأرزاقهم وكساؤهم ومساكنهم متيسرة بشكل أفضل مما هي متيسرة لدى المسلمين، لأن القوط يقاتلون في بلادهم، والمسلمون يقاتلون بعيداً عن بلادهم. وكانت وسائط تنقل القوط أفضل مما كان بحوزة المسلمين منها، وبخاصة _______ (1) أنظر التفاصيل في بحث: المعنويات (13 - 28) في كتابنا: الإسلام والنّصر- بيروت - دار الفكر - 1392 هـ. (2) الأمور الإدارية: الغذاء، الكساء، السّكن، الطبابة، البيطرة، التنقل، السّلاح، التجهيزات ... الخ ..

قبل خوض المسلمين معركة الأندلس الحاسمة في وادي لَكُّهْ، فاستعان المسلمون بمراكب يُليان للعبور، وغنم المسلمون خيول القوط، فأصبحوا فرساناً بعد المعركة الحاسمة، وكان أكثرهم قبلها من المشاة. كما استغنى المسلمون في عبور المدد الذي بعث به موسى إلى طارق، عن سفن يُليان، وعبروا بالسفن التي صنعها لهم موسى في مصانع السفن بتونس. وكان كل مجاهد يتسلم أسلحته الخاصة به التي تعود إليه ملكيتها، كما كان يتجهز بالملابس الخاصة به أيضاً. ومع ذلك كان لدى كل قائد مستودع للسلاح والتجهيزات، يُسلِّح بها مَن لا يستطيع أن يسلح نفسه، ويجهّز بها مَن لا يستطيع أن يجهِّز نفسه بما يحتاج من تجهيزات، وغالباً ما يكون هؤلاء من فقراء المسلمين المعدمين، الذين لم يسلِّحهم ويجهِّزهم أغنياء المسلمين، فقد كان الأغنياء يجاهدون بأموالهم كما يجاهدون بأنفسهم، ومن الجهاد بالأموال تسليح الغُزاة وتجهيزهم وحملهم أيضاً. وكانت مشكلة الغذاء بالنسبة للمسلمين غير معقّدة، فقد كانوا يكتفون بأبسط الغذاء كالتمر والسَّوِيْق (1)، فإذا غنموا ما يؤكل نعموا به، وإلاّ صبروا. أما السّكن، فكانت الخيمة كافية لهم، فهي مسكنهم في الصحراء وفي التنقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فإذا وجدوا سكناً مريحاً آووا إليه، وإذا لم يجدوا كانت الخيام هي المأوى. وكان في جيش المسلمين عامة مَن يداوي الجرحى ويسهر على شفائهم، وبخاصة من نساء المجاهدين. وكان هناك مَن يداوي حيوانات المجاهدين من البياطرة، الذين مارسوا معالجة الحيوانات مدة من الزمن وراثياً مع آبائهم وأجدادهم، أو بالتعلّم من الذين يمتهنون البيطرة. لقد كانت الأمور الإدارية، بصورة عامة، في جيش المسلمين، أقل كفاية وإتقاناً، مما هي عليه في جيش القوط، ولكنها لم تكن مهملة في جيش _______ (1) السّويق: طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشّعير، سُمي بذلك لانسياقه في الحلق. (ج): أسْوِقَة.

ي - التعاون:

المسلمين. ولعل طبيعة المسلمين زُهداً وتقشفاً، في أيام الفتوح، هي التي سهلت عليهم تحمل نواقص الأمور الإدارية، وزادت من صبرهم عليها، إذ لم يكونوا قد اعتادوا ترف العيش وتعودوا عليه. ي - التّعاون (1): كان التعاون وثيقاً بين طارق ورجاله في عمليات الفتح، منذ بدايتها إلى أن سُحب طارق من جبهة القتال في الأندلس إلى دمشق، فقد كان طارق كما ذكرنا يثق برجاله ويثقون به، وكان يحبهم ويحبونه، وكان يتمتع بمزايا قيادية تجعله قريباً من قلوب رجاله أثيراً عليهم، لذلك كان التعاون وثيقاً بين القيادة ورجالها، لأنه ينطلق من أسس رصينة، ولا ينطلق من خوف أو رغبة، ولا من سلطة أو رهبة. وكان التعاون وثيقاً أيضاً، بين طارق ومسئوله المباشر موسى بن نصير، فقد لَبَّى موسى كل مطالب طارق، فبادر إلى إرسال المدد إليه فوراً بعد طلبه، فوصل المدد إلى طارق في المكان والزمان المناسبين، أي في ساحة القتال، قبل الاشتباك في المعركة الحاسمة - معركة وادي لَكُّهْ. ولما استنجد طارق بموسى ثانية بعد فتح طليطلة وتعرّضت قوات المسلمين إلى خطر محدق، من جرّاء تغلغلها بالعمق فى الأندلس، بادر موسى بالعبور على رأس المدد، وبذل قصارى جهده للقضاء على مواطن الخطر الذي كان محدقاً بقوات طارق في الأندلس، ولم يتأخر موسى عن معاونة طارق والتعاون معه، تحقيقاً للفتح. كما صنّع موسى السفن محلياً، فأنشأ مصنعاً حربياً لصنع السفن، واستطاع أن يحمل المدد على سفنه لا على سفن يُليان، كما جرى في عبور جيش طارق إلى البر الأندلسي، في بداية الفتح. ولم يقتصر طارق، على وضع مبدأ: التعاون، في حيِّز التطبيق العملي، _______ (1) التّعاون: توحيد الطاقات الماديّة والمعنويّة كافة، لبلوغ الغرض، وهو إحراز النصر على العدو وإجباره على الإستسلام دون قيد ولا شرط.

4 - نقطة الضعف:

بينه وبين رجاله، وبينه وبين رئيسه المباشر موسى بن نصير، بل وضع هذا المبدأ في حيِّز التطبيق العملي، بينه وبين يُليان ومَن معه، فاستفاد من سفنهم في العبور، وسخّرهم عيوناً وأرصاداً ومصدراً لاستقطاب المعلومات الضرورية عن القوط وعن طبيعة الأرض في الأندلس، واستفاد منهم أدلاّء في مسيرته عبر الأندلس. كما كان طارق يستشير يُليان ويتقبَّل آراءه، وبخاصة بعد نجاح يُليان في اجتياز تجربة إخلاصه لطارق، وثبات إخلاصه، وقناعة طارق بذلك: " .. فهربوا إلى طليطلة - يريد القوط - وغلقوا مدائن الأندلس. وأقبل يُليان إلى طارق، فقال له: قد فرغت بالأندلس، وهؤلاء أدلاّء من أصحابي، فرِّق معهم جيوشك، وخذ أنت إلى طليطلة، ففرّق جيوشه من إسْتِجَّة .. " (1) فقبل طارق نصيحة يُليان، وأرسل جيوشه إلى مَالَقَة وإلْبِيرَة ومُرْسِيَة وقُرْطُبَة (2). كما تعاون طارق مع يهود الأندلس، الذين كانوا متذمِّرين من القوط وملكهم تذمراً شديداً، فأنصفهم المسلمون بما عرف عنهم من عدل وتسامح، وأزاحوا عنهم ما كانوا يعانونه من اضطهاد الملك والقوط، فاستفاد منهم طارق عيوناً وأرصاداً، ينقلون له الأخبار عن القوط ونواياهم، ويكشفون له ما يبيِّته القوط للمسلمين، وقد تطرقنا إلى ذلك، وكان يهود الأندلس متطوعين في نقل تلك المعلومات عن القوط للمسلمين، ولم يثبت لديّ أنهم عاونوا في القتال، بل اقتصر تعاونهم على جمع المعلومات عن القوط، ونقلها للمسلمين نكاية بالقوط وتقرّباً من المسلمين. لقد طبق طارق مبدأ: التعاون، تطبيقاً سليماً. 4 - نقطة الضعف: _______ (1) أخبار مجموعة (9 - 10). (2) الرازي نشر جاينجوس (16) وأخبار مجموعة (9 - 10) وفتح الأندلس (9) وابن الأثير (4/ 563) والبيان المغرب (2/ 9 و 11) والنويري (22/ 27) ونفح الطيب برواية الرازي (1/ 260 - 261).

تغلغل طارق بقواته القليلة نسبياً تغلغلاً بالعمق في الأندلس، امتد من جبل طارق حتى طُليطلة، فعرَّض بحق تلك القوات إلى خطر عظيم، لأنه كشف جناحيها: الأيمن والأيسر، وعرّض خطوط مواصلاتها للانقطاع، فأصبح خطر القوط يهدّد قوات طارق، ليس من أمام، باعتبار أن العدو في الجبهة أمام المسلمين، بل من يمين الجيش الإسلامي، ومن يساره، ومن خلفه، وأصبح مهدداً بقطع خطوط مواصلاته، التي تربطه بقاعدة المسلمين الأمامية المتقدمة في جبل طارق، وقاعدة المسلمين الأمامية فى سَبْتَة وطنجة، وقاعدة المسلمين الرئيسة في القيروان. لذلك قرّر موسى بن نصير، أن يتولى تلافي الأمر بنفسه، بالعبور على رأس قوات المدد، وبذل قصارى جهده بما عرف به من سمات قيادية متميزة، للقضاء قضاءً مبرماً على مواطن الخطر التي كانت محدقةً بقوات طارق في الأندلس، وحماية جناحيهما الأيمن والأيسر حماية كافية، وتأمين خطوط مواصلاتها بقاعدتها الأمامية المتقدمة، وبقواعدها الأمامية على البر الأفريقي القريب من الشواطئ الأندلسية وبقاعدة المسلمين الرئيسة في إفريقية والمغرب في القيروان. وأسرع موسى بإنزال قواته على البر الأندلسي في منطقة جبل طارق، ثم دخل الجزيرة الخضراء وأقام فيها أياماً للراحة. وكان مجرد وصول موسى على رأس قواته إلى البر الأندلسي، قد أثّر في معنويات المقاومة القوطية، وجعلها تحسب حساب هذه القوات الإسلامية الجديدة، وتتريث في التعرض بقوات طارق، ريثما ينكشف الموقف وتتضح الأمور. وزحف موسى إلى شَذُوْنَة، فاستعاد فتحها، وكان طارق قد فتحها بعد المعركة الحاسمة مباشرة، ويبدو أن القوط استعادوها من المسلمين. وتحرك موسى من شذونة إلى قَرْمُوْنَة ورعواق، ففتحها أيضاً، وبذلك أُمِّنت خطوط مواصلات المسلمين من الجزيرة الخضراء وجبل طارق إلى

قُرطبة، وكان طارق قد فتح قرمونة، ويبدو أن المقاومة القوطية استعادتها من المسلمين، ففتحها موسى ثانية. ومن الواضح، أن سقوط شذونة وقرمونة بعد فتحها من طارق لأول مرة، عرّض خطوط مواصلات طارق للانقطاع، مما يكبِّدها خسائر فادحة بالأرواح ويجبرها على الاستسلام، فكان من أول ثمرات عبور موسى إلى البر الأندلسي، استعادة فتح هاتين المدينتين من جديد، تأميناً لخطوط مواصلات قوات طارق في الأمام، وترصيناً لموقفها في الثبات، وقضاء على مراكز المقاومة القوطية في مؤخّرة قوات المسلمين. واتجه موسى نحو الغرب، ليفتح مدينة إشبيلية كبيرة مدائن الأندلس بعد طليطلة إذ ذاك، ففتحها موسى بعد بضعة أشهر من الحصار، وكان طارق قد فتح هذه المدينة لأول مرة، ويبدو أن القوط استعادوها من المسلمين، فاستعادها موسى إلى المسلمين بعد قتال مرير. وسار موسى على رأس قواته إلى مارِدَة، وكان الهاربون من فلول القوط قد تجمعوا فيها، لأنها بلد بعيد صعب المنال وعر المسالك، فبقي موسى محاصراً البلد بقية الصيف والشتاء التالي، ولم يسلِّم البلد إلاّ بعد عشرة أشهر من الحصار الصعب المديد، مما يدل على صلابة عود المقاومة القوطية في هذا البلد المنيع. وكان الطريق بين ماردة إلى طليطلة جبلياً وعراً، وكان ملغوماً بالمقاومة القوطية المتنامية، فتوجه موسى إلى طليطلة، وتوجه طارق من طليطلة باتجاه ماردة، فالتقى القائدان في وسط الطريق بين طليطلة وماردة، بعد مقاومة شديدة وقتال متواصل، فقد كانت المقاومة القوطية قد اتخذت من المواقع الجبلية جيوباً للمقاومة، وساعدت وعورة المنطقة على نجاح هذه المقاومة، ولكن قوات طارق وموسى كبّدوا المقاومة القوطية خسائر فادحة، دون أن يستطيعوا استئصال شأفتها من الجذور. وكانت المعركة التي شهدها موسى وطارق في طريق ماردة طليطلة معركة

قاسية، أُطلق عليها معركة: السّواقي، ثبت المسلمون لهجوم القوط ثباتاً راسخاً، وصبروا على مقاومة الهجوم صبراً جميلاً، ثم ردّوا على هجوم القوط بهجوم مقابل، فانتصر المسلمون على القوط. ويبدو أن اشتباك المسلمين بالقوط في معركة السواقي، شجع نفراً من بقايا القوط وأنصارهم في طليطلة على نقض طاعة المسلمين، فانتهزوا فرصة خروج طارق وجنده منها، ووثبوا بها، وسيطروا على مقاليدها، فاضطر موسى على استعادة فتحها من جديد، ودخولها دخول المنتصر. وحين كان موسى محاصراً ماردة انتقضت إشبيلية من جديد، فوجه موسى ابنه إلى اشبيلية ففتحها للمرة الثالثة، ثم نهض إلى لَبْلَة (1)، وباجَة، ففتحهما أيضاً. وقد سار عبد العزيز بن موسى بعد ذلك على رأس جيشه لاستكمال فتح الأندلس غرباً: البرتغال حالياً، فكانت له فتوح في غربي الأندلس (2)، وبذلك أبعد موسى الخطر الذي يهدد جناح قوات طارق الأيسر، بفتوح عبد العزيز بن موسى. كما بعث موسى ابنه عبد الأعلى (3) إلى جنوبي الأندلس وجنوب شرقي الأندلس، وكان ذلك بعد إستعادة فتح إشبيلية للمرة الثانية، فاستطاع عبد الأعلى أن يستعيد فتح مالَقَة وإلبيرة، وكان التعاون بين الأخوين في الفتح وثيقاً. وكما أبعد موسى الخطر الذي يهدد جناح قوات طارق الأيسر بفتوح _______ (1) لبلة: قصبة كورة بالأندلس كبيرة، يتصل عملها بعمل أكشونبة، وهي شرق من أكشونبة وغرب من قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام أربعة وأربعون فرسخاً، وبينها وبين إشبيلية إثنان وأربعون ميلاً، وهي بريّة بحرية غزيرة الفضائل والثمر والزروع والشجر، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 319). (2) عبد العزيز بن موسى بن نصير: ترد ترجمته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار، وفيه تفاصيل فتوح عبد العزيز. (3) عبد الأعلى بن موسى بن نصير: ترد ترجمته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار، وفيه تفاصيل فتوح عبد الأعلى.

عبد العزيز بن موسى أبعد موسى الخطر الذي يهدد جناح قوات طارق الأيمن بفتوح عبد الأعلى بن موسى، وبهذه الجهود المكثفة التي بذلها موسى بمعاونة طارق الذي ثبت في طليطلة بالرغم من إحاطة القوط به إحاطة السّوار بالمعصم، وبمعاونة ولدي موسى اللذين فتحا غرباً وشرقاً، فأمّنا جناحي طارق المكشوفين: الأيمن والأيسر، كما أصبحت خطوط مواصلات قوات طارق آمنة أيضاً، وأصبح المسلمون الفاتحون في الأندلس بعيدين عن الخطر، قريبين من الأمن، وبذلك استطاع موسى بمعاونة طارق، الانطلاق شمالاً لاستكمال الفتح. أليس هذا الذي حدث في معركة السّواقي، بين فلول القوط وقوات موسى بن نصير بمعاونة طارق، وفتح موسى ثانية المدن الأندلسية التي فتحها طارق قبله ثم انتقضت، وفتح موسى طليطلة ثانية بعد انتقاضها منتهزة فرصة مغادرتها من طارق بوقت قليل، دليلاً قاطعاً على أن المسلمين بقيادة طارق قد تغلغلوا في الأندلس بالعمق أكثر مما ينبغي، وأنهم بعد تغلغلهم الذي لا يتناسب مع حجم قواتهم، أصبحوا في خطر محدق جسيم، فكان عبور موسى هو لدرء هذا الخطر المحدق الجسيم؟. ثم أليس بقاء طارق في طليطلة دون التحرك لفتح جديد، ودون التوجه للقاء موسى، بالرغم من مرور مدة طويلة من الزمن على عبور موسى إلى الأندلس، هو لتثبيت حشود المقاومة القوطية في أماكنها، دون التعرض بقوات موسى وقوات طارق لأطول مدة ممكنة، بل لحماية طليطلة بالذات من هجمات المقاومة القوطية واحتمال استعادتها من المسلمين؟ ثم أليس حركة طارق للقاء موسى في طريقه إلى طليطلة، وهو طريق جبلي وعر، فيه حشود المقاومة القوطية المتربصة بالمسلمين، كان لمعاونة قوات موسى، على اجتياز هذا الطريق المحفوف بالمخاطر بأمن وسلامة، أو ضمان إحراز النصر على القوط إذا اشتبكوا بالمسلمين، لأن اشتباكهم بقوات موسى وقوات طارق، أصعب عليهم بكثير من اشتباكهم بقوات موسى وحدها؟.

لقد كان تغلغل طارق بقواته القليلة نسبياً، بالعمق في الأندلس، هو نقطة الضعف، في قيادة طارق، فقد كان تغلغل قواته عمقاً لا يتناسب مع حجمها في حال من الأحوال. ولا يمكن أن تخفى نقطة الضعف هذه على طارق، بما عرف عنه من سجايا قيادية عملية لا تتكرر إلاّ نادراً. ويمكن تعليل أسباب وقوع طارق في هذا الخلل الذي كان يمكن أن يأتي على فتوحه ويكبّد قواته خسائر فادحة مادياً ومعنوياً، بأنه لم يكن يعمل وحده في الأندلس، ولا كان فتحها يهمه وحده، فقد كان موسى بن نصير مسئوله المباشر إنساناً وقائداً، مطلعاً على موقف طارق إطلاعاً مفصلاً، فكان لا يتهاون في إمداد قواته بالرجال، ويحرص على مصير قوات طارق حرص طارق عليها. كما كان مصير فتوح طارق لا تهمّ طارق وحده، بل تهمّ موسى بالدرجة التي تهمّ طارقاً، إن لم يكن يهمّ موسى أكثر مما يهمّ طارقاً - وبخاصة وأن الخليفة يحاسب موسى على مصير قوات طارق ومصير فتوحه، لو لحق بقوات طارق وفتوحه ضرر من جرّاء إهمال موسى في المدد أو تقصيره، لذلك بادر موسى إلى قيادة المدد بنفسه رغم شيخوخته، مبالغة في حرصه على معاونة طارق والتعاون معه، وقطع الخطر الذي تعانيه قواته، والعمل على إكمال الفتوح إلى نهايتها المرجوة، التي يتمناها موسى كما يتمناها طارق. ومن الواضح جداً، أن موسى، كان بإمكانه أن يولّي أحد أبنائه قيادة المدد، أو يولّي هذا المدد أحد قادته المرءوسين، وكان أولاد موسى قادرين على تحمل أعباء قيادة المدد عن أبيهم الشيخ، وكان قادة موسى المرءوسون مجرَّبين في الفتوح والمعارك وقادرين على تحمل أعباء قيادة المدد أيضاً، ولكن موسى قرر أن يتحمل مسئوليته كاملة، بعد أن وجد مبلغ ما يحيق بقوات طارق من أخطار جسيمة، فزجّ نفسه في معارك واضحة المخاطر، ولكن حرصه على مصير المسلمين والفتح غطّى على ما توقعه من مشقات وأخطار، فآثر سلامة المسلمين وراحتهم على سلامته وراحته.

لقد كان طارق، يستند على ركن ركين في قيادته، فقد كانت الثّقة متبادلة إلى أبعد الحدود، بين طارق وموسى رئيسه المباشر في القيادة، لذلك كان يُقْدم على النهوض بواجبه قائداً، حتى إذا كان النهوض به لا يخلو من الأخطار كان يعلم علم اليقين، أن هناك مَن يشاركه في تحمل تلك الأخطار مشاركة تُبدِّدها تبديداً، وتجعلها أثراً بعد عَيْن. ولو أن الثقة لم تكن متبادلة بين طارق وموسى، لاختلف الأمر اختلافاً جذرياً، ولما أقدم طارق على مجازفة عسكرية دون مسوِّغ، ولكنه كان يعلم أن موسى لا يمكن أن يتخلى عنه، وأن المدد سيجعل من المجازفة نصراً لامعاً. وكان هناك ما يسوِّغ لطارق واندفاعه في العمق الأندلسي، من الناحية العسكرية الفنية البحت، فبعد خروج طارق من المعركة الحاسمة، معركة وادي لكّه، منتصراً على القوط بقيادة ملكهم لذريق انتصاراً حاسماً، كان عليه أن يطارد فلول القوط بتماس شديد، وألاّ يفسح لهم المجال للتجمع تحت لواء واحد بقيادة واحدة من جديد، لذلك طارد فلولهم حول ساحة المعركة الحاسمة، وكبّدهم خسائر فادحة بالأرواح في مطاردته التي نهضت بها سراياه نهوضاً موفقاً. وقد لجأ قسم من القوط إلى مدينة شذونة القريبة جداً من ساحة المعركة الحاسمة، فاقتضى الموقف العسكري، أن يفتح طارق هذه المدينة، ليُطهرها من فلول القوط الذين احتموا بها. وكان فلول القوط قد انسحبوا إلى إستِجّة، فطاردهم طارق إلى هذه المدينة، وفتحها وبدّد. فلول القوط التي لجأت إليها. وبعد فتح إستجة، انسحب القسم الأكبر من فلول القوط إلى طُليطلة، باعتبارها أكبر مدنهم وعاصمة ملكهم: للدفاع عنها، والاحتماء بها، والتعاون مع حاميتها المحلية في صدّ المسلمين عن فتحها. كما انسحب بعض فلول القوط، إلى المدن المجاووة لمدينة إستجة، بأعداد أقل من الأعداد التي أخذت طريقها إلى طليطلة، فكان على طارق أن يطارد تلك

الفلول في معاقلها الجديدة، وعلى رأسها مدينة طليطلة، فتوجه على رأس القسم الأكبر من رجاله إلى طليطلة، وفرق السريا إلى المدن المجاورة لإستجة، عاملاً بنصيحة يُليان، لأنها تحقق هدفه الحيوي في مطاردة فلول القوط أينما وُجدوا وحيثما اتجهوا، كما تُحقق هدفه فى الفتح؛ وهكذا فرض الموقف الراهن نفسه على طارق، فازداد تغلغله في عمق البلاد، وتوسعت جبهته، وكان هذا التغلغل والتوسع في الجبهة لا مفرّ منه، بالنظر للموقف العسكري الراهن، على الرغم من خطره الداهم على قوات المسلمين. لقد اضطر طارق على اتخاذ هذا المسلك اضطراراً، وهو يعلم حق العلم محاذيره. ومن الواضح أن طارقاً، بعد انتصاره على القوط في المعركة الحاسمة، وكانت قوات القوط متفوقة على قوات المسلمين تفوقاً ساحقاً في تلك المعركة - كما ظهر لنا من دراسة المعركة - وهو يرى طارق انسحاب فلول القوط بأعداد ضخمة من ساحة المعركة في اتجاهات مختلفة، على غير هدى وبصيرة غالباً، وعلى هدى وبصيرة نادراً، فكان الموقف الراهن، يقضي عليه أن يطارد الفلول القوطية، مستفيداً من حالة انهيارها المادي والمعنوي، نتيجة لقتل ملكها أولاً، ولهزيمتها ميدانياً ثانياً، إذ لا يمكن أن يستمر هذا الانهيار طويلاً، فمن الواجب استغلاله بأقصى ما يمكن دي مطاردة سريعة مدبرة، خوفاً من أن يستعيد القوط تماسكهم المادي والمعنوي، ويتجاوزوا مدة الانهيار الذي يعانونه، والذي لا يمكن إدامته وتعميق آثاره، إلاّ بالمطاردة الفورية، وهذا ما طبقه طارق عملياً، فقاده إلى التغلغل عمقاً، وإلى توسيع جبهة المسلمين، بدون أن يزداد تعداد المسلمين في حينه. والواقع أن طارق كان أمامه مسلكان لا ثالث لهما: أن يكتفي بانتصاره في المعركة الحاسمة، ويتخذ موضعاً دفاعياً مناسباً، ريثما تصل إليه الإمدادات، ثم يستأنف مسيرته لاستكمال ما بدأه من فتوح. ومحذور هذا المسلك، أن يستعيد فلول القوط رشدهم، الذي فقدوه من جراء هزيمتهم وقتل ملكهم، وجسامة خسائرهم بالأرواح والأموال،

5 - مجمل السمات:

وحينذاك يمكن أن يهاجموا قوات طارق في مواضعها الدفاعية، ويمكن أن يستعيدوا ما فقدوه من مدن أندلسية من المسلمين، وبخاصة وأن التفوق العَدَدي والعُدَدي مع القوط على المسلمين. وحتى في حالة وصول المدد إلى المسلمين، وهم بهذه الحالة، من تجمع القوط واستعادة معنوياتهم، فإن انتصار المسلمين عليهم يكون أصعب بكثير من حالتهم في تفرقهم وانهيار معنوياتهم، مما يجعل اتخاذ هذا المسلك من طارق، غير مأمون العواقب، ولا مضمون النتائج. والمسلك الثاني الذي كان أمام طارق، هو مطاردة فلول القوط بسرعة وبتماس شديد، وهذا هو المسلك الذي اتخذه طارق، وطبَّقه عملياً في مسيرة الفتح. لقد كان أمام طارق مسلكان صعبان، أحلاهما مُرّ، فاختار المسلك الذي يناسب المجاهدين الصادقين في القرن الأول الهجري، خير القرون، وقرن الفتوح الإسلامية المجيدة. وما كان بإمكانه أن يختار المسلك الأول، مسلك الدفاع، لأنه كان قائداً تعرضياً لا قائداً دفاعياً، ولا تنطبق مقاييس طارق على مقاييس القادة في العصر الحديث، فقد كانت أسبقية المقاييس بالنسبة لطارق وقادة الفتح الإسلامي قاطبة، للمقياس الروحي، فأصبحت أسبقية المقاييس اليوم، للمقياس المادي، وشتّان ما بين المقياسين. ولكل عصر مقاييسه المعتبرة، ولكل زمان دولة ورجال. 5 - مجمل السِّمات: أ - سِماته الخاصة: ذكاء خارق، وكياسة واتِّزان وحصافة، وحسن التدبير وحسن السياسة، والقابلية على استقطاب الثِّقة به إنساناً وقائداً، ونسبه البربري الذي آثر عليه نسبه إلى الإسلام، فهو طارق ابن الإسلام بحق لا طارق ابن البربر نسباً،

ب - سماته العامة:

وإيمانه الرّاسخ العميق بتعاليم الدين الحنيف، وتجربة عملية ناجحة في القيادة، يقود رجاله من الأمام ويكون قدوة حسنة لهم بالأعمال لا بالأقوال، يستأثر دون رجاله بالخطر، ويؤثرهم بالاطمئنان، يبذل جهداً في جهاده أكثر من أيّ رجل من رجاله، حريص غاية الحرص على أرواح رجاله، يتحلى بالضبط المتين، ويتحمل المسئولية كاملة ويحبّها، يبذل قصارى جهده في رفع معنويات رجاله، يهتم بأمن جيشه كل الاهتمام، يسبق النظر، ويُعِد لكل ما يحتمل وقوعه ما يناسب من حلول، لا يجتاحه الغرور في حالة النصر ولا يستخذي في حالة الاندحار، يُقدِّر الموقف العسكري تقديراً واقعياً صائباً، يتميّز بالشجاعة النادرة والإقدام. ب - سِماته العامة: كان ذا قرار سريع صحيح، يتميز بالشجاعة الشخصية، وكان ذا إرادة قوية ثابتة، له نفسية رصينة لا تتبدّل في حالتي النصر والهزيمة، يتحمل المسئولية ويحبّها ولا يتهرب منها ويلقيها على كواهل الآخرين، يتمتع بمزية سبق النظر، وعلى معرفة مفصلة بنفسيات رجاله وقابلياتهم، يثق برجاله ويثقون به، يثق برؤسائه ويثقون به، يحب رجاله ويحبونه، وكان ذا شخصية قوية نافذة، يتمتع بالقابلية البدنية المتميزة، وله ماضٍ ناصع مجيد في ميدان الجهاد. وكان يعرف مبادئ الحرب بالفطرة، ويطبقها عل عملياته العسكرية تطبيقاً ناجحاً، ومن المعلوم أن مبادئ الحرب لا تتغير، ولكن أساليب الحرب هي التي تتغير. ج - تلك هي سمات طارق الخاصة والعامة، التي قدَّمَتْه لتسنّم منصب القيادة، ثم جعلت منه قائداً لامعاً من أبرز قادة الفتح الإسلامي، لا يُذكرون إلاّ ويذكر معهم. وسمات قيادة طارق، تشابه إلى حدّ بعيد سمات قيادة خالد بن الوليد، فإذا كان خالد بطل فتوح المشرق، فطارق بطل فتوح المغرب. وإذا كان خالد

بطل العرب المسلمين، فطارق بطل البربر المسلمين. وإذا كان خالد من بني مخزوم من قريش، فإن طارقاً لم يكن من بني مخزوم ولا من قريش، وإذا كان لنسب خالد أثر في تسنّمه القيادة، فلا أثر لنسب طارق في تسنمه القيادة، وهو بحق القائد العصامي الذي بنى مجده بمزاياه وكفاياته، وهو الجَدّ الأول لعَقِبِه وعَقِب عقِبه يعتزّون بالانتساب إليه، ويفخرون بسجاياه وفتوحه. تلك هي مجمل سماته الخاصة والعامة، لعلّها تفيد الذين يؤثرون الإيجاز على الإطناب، ولعلّها تفيد الذين لا يتسع وقتهم لدراسة الشروح والتفصيلات.

طارق في التاريخ

طارق في التاريخ يذكر التاريخ لطارق، أنه فتح شطر الأندلس، وكان أول قائد بدأ بفتح الأندلس فتحاً مستداماً. ويذكر له، أنه شارك موسى بن نصير في فتح ولاية طنجة الواسعة الأرجاء من المغرب. ويذكر له، أنه فتح مدينة سبتة المغربية سِلْماً، بعد أن استعصى فتحها على الفاتحين عَنْوَة. ويذكر له، أنه كان إدارياً لامعاً، برز في إدارته الحازمة على ولاية طنجة المغربية. ويذكر له، أثه كان سياسياً حصيفاً، استمال يُليان بالحسنى، حيث عجز السيف عن استمالته. ويذكر له، أنه أول قائد غير عربي، تسنّم منصباً قيادياً كبيراً، بمجهوده وجهاده ومزاياه، لا بنسبه وحسبه وكفايته حسب. ويذكر له، أنه كان قائداً لامعاً، من ألمع قادة الفتح الإسلامي، في القرن الأول الهجري، قرن الفتوح والانتصارات. ويذكر له، أنه أول من نشر العربية لغةً، والإسلام ديناً، في الفردوس العربي المفقود. ويذكر له، أنه كان من أشجع الشجعان، لا يُبالي أَوَقَع الموت عليه، أو وقع هو على الموت. ويذكر له، أنه في سماته القيادية يشابه خالد بن الوليد، فهو خالد فتوح المغرب، كما كان خالد بن الوليد قائد فتوح المشرق، وكان طارق بطل غير العرب المسلمين، كما كان خالد بطل العرب المسلمين. ويذكر له، أنه في مزاياه القيادية، يشابه المثنّى بن حارثة الشّيباني، فهو

بطل فتوح الأندلس، كما كان المثنى بطل فتوح العراق. ويذكر له، أنه غنم مغانم جسيمة في الأندلس، ولكنه لم يخلّف أرضاً ولا داراً، ولم يُورث درهماً ولا ديناراً. ويذكر له، أنه كان محبوباً من البربر، تتوجه حشودهم بأمره إلى الجهاد، بدون سؤال ولا جواب. ويذكر له، أنه لمع سنوات معدودات فاتحاً، ثم سطع حتى بهر الناس شرقاً وغرباً، ولكنه انطفأ فجأة، فاندثر إنساناً، وبقيت فتوحه لا تندثر أبداً. ويذكر له، أنّ بقدر حديث المؤرخين عنه قائداً، بقدر إغفال الحديث عنه إنساناً، فطارق القائد معروف جداً، وطارق الإنسان مجهول جداً. ويذكر له، أن فتوحه الأندلسية، قوبلت بالعقوق، وقضى أيامه بعد رحيله من الأندلس إلى دمشق، مغموراً مجهول المكانة والمكان. ويذكر له، أنه احترق بنار مولاه موسى، فتحمَّل ما تحمَّله موسى ثابتاً صابراً محتسباً، دون أن يقترف ما يستحق عليه العقاب. ويذكر له، أنه لم يحاسب كما حوسب غيره في تصرفه بالأموال، بل كانت جريمته الأولى والأخيرة، أنه ذو شعبية طاغية في المغرب والأندلس، فيخشى على السُّلطة من شعبيته وعواقبها، ويُخشى من الناس أن يستغلّوه في مصاولة السُّلطة، ويُخشى من استجابته للناس، فيضع السُّلطة في اختبار عسير. ويذكر له، أن الخروج على السُّلطة، كان يدور في خَلَد حاسديه من الطامعين في ولاية الأندلس، ولا يدور في خلده طرفة عَيْن، لأنه كان أكبر من المناصب، تسعى إليه ولا يسعى إليها، ويعتبرها تكليفاً لا تشريفاً. ويذكر له، أن السُّلطة أقصته عن القيادة، اعتماداً على ما سمعته عنه لا على ما تحققته منه، فذهب ضحيّة الوشاية والافتراء، لا ضحية الواقع واليقين، وخسر الفتح بإقصائه قائداً لا يتكرر إلاّ نادراً، وكانت الخسارة بإقصائه قائداً وإنساناً لا تعوّض.

رحم الله القائد الفاتح، البطل المجاهد، الإداري الحازم، السياسي البارع، التقي، الذكي الألمعي، طارق بن زياد فاتح شطر الأندلس.

طريف بن مالك فاتح جزيرة طريف والجزيرة الخضراء

طَريف بن مالك فاتح جزيرة طريف (1) والجزيرة الخضراء (2) نسبه وأيامه الأولى هو طَريف بن مالك من البربر، يكنى: أبا زُرْعَة (3)، وهو طريف البربري مولى موسى بن نصير (4)، الذي تُنسب إليه جزيرة طريف (5). وطريف ينتسب إلى قبيلة بَرغَواطة البربرية (6) من البرانس، ومن المعلوم أن البربر قسمان: البرانس، والبتر، وكانت قبيلة بَرَغْواطة تسكن الإقليم المواجه للبحر المحيط شمال وادي أمّ ربيع (7)، حول منطقة مدينة الرباط الحالية. _______ (1) جزيرة طريف: جزيرة صغيرة في بحر الزقاق (مضيق جبل طارق)، وطريف بليدة في جنوبيّ الأندلس، أنظر تقويم البلدان (188)، والجزيرة والمدينة منسوبتان إلى طريف بن مالك الذي فتحهما، أنظر تقويم البلدان (166). (2) الجزيرة الخضراء: مدينة أمام سبتة من برّ الأندلس الجنوبيّ، وهي طيِّبة نزهة، توسّطت مدن السّاحل، وأشرفت بسورها على البحر، ومرساها أحسن المراسي للجواز، وأرضها أرض زرع وضرع، وبخارجها المياه الجارية والبساتين النضيرة، ونهرها يعرف بوادي العسل، وهي من أجمع المدن لخير البر والبحر، أنظر تقويم البلدان (172 - 173) ومعجم البلدان (3/ 99). (3) البيان المغرب (2/ 5) ونفح الطيب (1/ 253). (4) موسى بن نصير: أنظر سيرته المفصّلة في: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (5) نفح الطيب (1/ 229 و 253 و 285). (6) فتوح مصر والمغرب والأندلس (254) - ابن عبد الحكم- نشر شارل توري ( Torrey) - ليدن- 1920 م. (7) تاريخ المغرب العربي (43)، والإقليم حول منطقة مدينة الرباط الحالية.

وسنجد أن طريفاً ليس من قبيلة برغواطة حسب، بل هو رئيسها، وكان له دور كبير في تلك القبيلة، من ناحيتي: العقيدة، والقتال، أي في توجيهها الفكري، وفي قيادتها في ميادين القتال. وتذهب بعض المصادر، إلى أنه كان من أهل اليمن، فهو أبو زُرعَة طريف بن مالك المَعَافِري (1)، الاسم طبق الكنية (2)، والمعافر باليمن والأندلس ومصر (3)، والأصل من اليمن لأنهم من سبأ. وهو طريف بن مالك النّخَعِي (4)، والنّخعُ بن عامر من سبأ (5) أيضاً، وسَبَأ من اليمن. ومن الواضح، أن طريفاً ليس عربياً، فهو ليس من المعافر ولا من النخع، وهو بعد ذلك ليس من اليمن، بل هو بربري من المغرب، ظهر أثره في البربر على عهد موسى بن نصير، وظل أثره فيهم بعد عهد موسى بن نصير، ولم يبرح المغرب في العهدين، وظل مع البربر واحداً منهم حتى توفاه الله. ويبدو أن والد طريف، وهو مالك، كان مسلماً، بدليل اسمه العربي الإسلامي، مما يدل على أن طريفاً ولد وشب وترعرع في بيت إسلامي، ولعلّ تدينه لفت إليه الأنظار، بالإضافة إلى مزاياه وكفاياته الأخرى، وكان قربه من موسى بن نصير قد أتاح له الفرصة السانحة لتولي منصباً قيادياً، فنجح في منصبه القيادي نجاحاً ظاهراً. وقد كان من أقرب المقرّبين إلى موسى بن نصير من البربر: طارق بن زياد، وطريف بن مالك، فاستعان بهما في قيادة البربر، وبخاصة في مهمة فتح الأندلس. وأخبار طريف في أيامه الأولى نادرة جداً، وقد برز لأول مرة في توليته _______ (1) المعافري: نسبة إلى يَعْفُر بن مالك بن الحارث بن مُرَّة بن أُدَد بن زيد بن يَشْجُب بن عَرِيب بن زيد بن كَهْلاَن بن سَبَأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (418). (2) نفح الطيب (1/ 254) برواية الرازي. (3) جمهرة أنساب العرب (418). (4) ابن خلدون (4/ 254) ونفح الطيب (1/ 233) نقلاً عن ابن خلدون. (5) النّخِع بن عامر بن عُلَّة بن جَلد بن مالك بن أَُدَد بن زيد بن يَشْجُب بن عَرِيب ابن زيد بن كَهْلان بن سبأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (412 - 414).

الفاتح

قيادة على جماعة من البربر، لتحقيق استطلاع في الأندلس، وربما بقي طريف مجهولاً لو لم يتَسنّم هذا المنصب القيادي، الذي سترد أخباره وشيكاً. الفاتح بدأ موسى بن نصير استشارته للخلافة في دمشق، وكان الخليفة القائم حينذاك هو الوليد بن عبد الملك بن مروان (86 هـ- 96 هـ)، بعد اتصالاته بيُلْيَان (1) صاحب مدينة سَبْتَة أو قبل اتصالاته بيليان. وقد تردّدت الخلافة بادئ الأمر في الموافقة على القيام بمثل هذه العملية الكبيرة: فتح الأندلس، خوفاً على المسلمين من ركوب البحر، ومن صعوبة القتال بحراً وبرّاً، وهي تعلم أن خبرة المسلمين والعرب منهم بخاصة في فنون القتال البحري قليلة جداً. فقد كتب موسى بن نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، يخبره بالذي دعاه إليه يليان (من فتح الأندلس) من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها. وكتب إليه الوليد: "أن خُضْها بالسرايا، حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال". وراجعه موسى: "أنه ليس ببحرٍ زَخّار، وإنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه"، فكتب إليه: "وإن كان، فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه" (2). وأرسل موسى في شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين الهجرية (آب: أغسطس - أيلول: سبتمبر 710 م) سرية استطلاعية إلى جنوبي الأندلس، مؤلفة من خمسمائة مجاهد، منهم مئة فارس، والباقي من المشاة، بقيادة أبي _______ (1) أنظر ما جاء عن يليان وعن اتصالاته بموسى بن نُصَير وطارق بن زياد، في سيرة طارق بن زياد، في كتاب: قادة فتح الأندلس والبحار. (2) نفح الطيب (1/ 253).

زُرْعَة طريف بن مالك، وهو مسلم من البربر (1). وعبر هذا الجيش الزّقاق، والزّقاق اسم يطلق أحياناً على المضيق بين الأندلس وشمالي إفريقية (2)، من سبتة، بسفن يليان أو غيره، ونزل في جزيرة بالوما ( Isla de las Plomas) في الجانب الإسباني، وعُرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد: جزيرة طريف (3) ( Tarifa) ومن ذلك الموقع، الذي اتخذه طريف وسريته الاستطلاعية القتالية قاعدة أمامية متقدمة، قام طريف وسريته بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل الأندلسي الجنوبي بإرشاد يليان وصحبه، وأغار على الجزيرة الخضراء، فأصاب غنيمة كبيرة، ورجع سالماً في رمضان أيضاً سنة إحدى وتسعين الهجرية، فلما رأى الناس ذلك تسرّعوا إلى الغزو (4)، وتشجعوا على فتح الأندلس. وخفت قوة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعون المسلمين، كما قامت تلك القوة بحراسة موقع إنزال المسلمين في جنوبي الأندلس، وكانت نتيجة الغارة الاستطلاعية التي قادها طريف، أن المسلمين غنموا مغانم كثيرة وسبياً عديداً، وقوبلوا بالإكرام والترحيب، وشهدوا كثيراً من دلائل خصب الجزيرة وغناها، وعادوا في أمنٍ وسلام. وقصّ قائدهم طريف على موسى نتائج رحلته، فاستبشر بالفتح، وجدّ في أهبة الفتح، كما تشجع موسى وأخذ يستعد لإرسال حملة عظيمة تقوم بالفتح المستدام (5). لقد كانت مهمة سرية طريف، مهمة استطلاعية، هدفها الحصول على _______ (1) نفح الطيب (1/ 160 و 229 و 233 و 253) والروض المعطار (8 و 127) والبيان المغرب (2/ 5). (2) تاريخ الأندلس (130) نصّ ابن الشباط، والروض المعطار (83 و 127) ومقدمة ابن خلدون (1/ 427) ونفح الطيب (1/ 127 و 129 و 145 و 229 و 232 و 245 و 252). (3) دولة الإسلام في الأندلس (1/ 40) وفجر الأندلس (67)، وانظر الفتح والاستقرار العربي والإسلامي في شمالي إفريقيا والأندلس (162). (4) ابن الأثير (4/ 561). (5) Saavedra. OP. Cit. PP. 64

المعلومات عن طبيعة الأرض والسكان وأساليب قتالهم ودرجة ضراوتهم، وتفاصيل قيادتهم، ومبلغ الثقة المتبادلة بين القيادة والسكان، ومبلغ حرص السكان والقيادة على الدفاع عن أرضهم (1)، وكان لقيام طريف بعدّة غارات في المنطقة دون أن يلاقي أيّة مقاومة (2)، نتيجة مهمة واحدة، هي: عدم حرص القيادة والسكان على الدفاع عن أرضهم كما ينبغي، وهي نتيجة على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لخطط الفتح، وبالنسبة للمسلمين الفاتحين. ولكن مهمة سرية طريف الاستطلاعية، لم تقتصر على هذه الناحية من جمع المعلومات عن أهل الأندلس وطبيعة أرضهم حسب، بل تتعدّاها إلى استطلاع حقيقة نوايا يليان ومَن معه تجاه السلطة القائمة في الأندلس، والمتمثلة بالملك لذريق ونظامه، وحقيقة نواياه ومَن معه تجاه المسلمين الفاتحين. وقد أثبتت سرية طريف الاستطلاعية، أن يليان ورجاله يحقدون على لذريق، ولا يتأخرون عن التشبث بكل وسيلة ممكنة للقضاء عليه، وأنهم من أجل التنفيس عن حقدهم عملياً، يضعون كل طاقاتهم المادية والمعنوية للتعاون مع المسلمين في ميدان القتال ومعاونتهم، وكان التأكد من تلك النوايا ضرورياً لاستكمال الإعداد للفتح، وقد تأكد لموسى بن نصير وطارق بن زياد، أن يليان ومَن يشايعه صادقون في معاونتهم وتعاونهم مع المسلمين الفاتحين، وأن غرضهم هو التعاون والمعاونة وليس خدعة بل حقيقة لا غبار عليها. وهذا مثال على مبلغ حرص المسئولين يومئذ، خلفاء وقادة، على أرواح _______ (1) الاستطلاع نوعان: الاستطلاع بدون قتال، بأفراد قلائل، والاستطلاع بالقتال، بقوّة قادرة على القتال، تستطيع الحصول على المعلومات بالقتال، كسرية طريف، أنظر كتب التدريب التعبوي الرسميّة. (2) أخبار مجموعة (1) وفتح الأندلس (5) وابن الكردبوس (45) وذكر بلاد الأندلس (84) وابن الأثير (4/ 561) والبيان المغرب (2/ 5) والنويري (22/ 26) ونفح الطيب (1/ 160 و 253 - 254).

الإنسان

المسلمين، وقد أدّى طريف ورجاله واجبهم الاستطلاعي المزدوج على أتم ما يرام، وكان استطلاعه تمهيداً لوضع خطة فتح الأندلس موضع التنفيذ العمليّ في ميادين القتال (1). الإنسان لم نَعُد نسمع عن طريف، بعد هذه السريّة الاستطلاعيَّة الموفقة التي قادها مستطلعاً أحوال الأندلس سكاناً وأرضاً للمسلمين، وبدأ عملياً تطبيق خطة فتح الأندلس، ومهّد لهذا الفتح تمهيداً موفقاً. ولكنه ظهر مرة أخرى من جديد، على مسرح الحوادث في المغرب، ولعب دوراً خطيراً في الثورة التي قادها مَيْسَرة البربري المَدْغَرِي (2) في المغرب الأقصى (3)، وكانت أول حركة خارجية قام بها المغرب على المسلمين، وكان ذلك سنة سبع عشرة ومائة الهجرية (4) (735 م). وقائد الثورة ميسرة المدغري، نسبة إلى قبيلة مَدْغَرة، وهي من القبائل البترية من البربر، يُلقبه بعض المؤرخين بـ: الفقير (5)، وربما كان هذا لقبه بين أتباعه نسبة إلى فقره وزهده، بينما يلقبه آخرون بـ: _______ (1) أنظر عن عملية طريف الإستطلاعية: نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320)، وأنظر التاريخ الأندلسي (46). (2) أنظر التفاصيل في: ابن الأثير (5/ 190 - 194) والبيان المغرب (1/ 52 - 54). (3) المغرب الأقصى: في ساحل البحر المحيط غرباً إلى تلمسان شرقاً، ومن سبتة إلى مراكش ثمّ إلى سجلماسة وما في سمتها شمالاً وجنوباً، أنظر تقويم البلدان (122) وأحسن التقاسيم (215 - 236) والأعلاق النفيسة (347 - 353) والمسالك والممالك لابن خرداذبة (85 - 93) ومختصر كتاب البلدان (78 - 88) وصفة المغرب (2 - 29) والمسالك والممالك للاصطخري (33 - 38) وهو المملكة المغربية في الوقت الحاضر، أنظر تاريخ المغرب العربي (12). (4) ابن الأثير (5/ 191). (5) فتوح مصر والمغرب (218).

الحقير (1)، استهانة به، وهؤلاء خصومه من أعداء الخوارج. وكان الرجل في مبدأ حياته بسيطاً عمل سقّاء يبيع الماء في سوق القيروان، مركز الإشعاع الديني، حيث العلماء والفقهاء وأهل الزهد والورع والتقوى. وكان بين هؤلاء مَن يدعو إلى العودة بالإسلام إلى نقائه الأول، ويقف في وجه الإجراءات التي تخلّ بمبدأ: الإخاء والمساواة بين جميع المسلمين، فكانوا كما يبدو يروِّجون عن غير قصد لمبادئ الخوارج، أي لمبادئ الثورة على الدولة (2). وقد كان ميسرة يسعى إلى تحقيق المساواة في الأعطيات بين العرب والبربر في الجيش الإفريقي، فقصد ميسرة على رأس وفد من المغاربة يبلغ حوالي عشرين رجلاً دمشق للفت نظر هشام بن عبد الملك إلى مطالب المغاربة، فطال مقامهم بباب الخليفة دون جدوى. وتتلخص مطالب المغاربة؛ في أن أمير المغرب عندما يغزو بجنده العربي وبالمغاربة، فإنه يحرم المغاربة من نصيبهم من الغنيمة ويقول: "هذا أخلص لجهادكم"، وإذا حاصر مدينة قال: "تقدَّموا" وأخّر جنده، وأراد ميسرة ومن معه أن يعرفوا: أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا (3)؟!. وموضع الشكوى في هذه الرواية هو: تمييز العرب على المغاربة، مما يتضمن عدم تطبيق مبدأ المساواة والإخاء بين المسلمين، مما يعتبره بعضهم خروجاً على مبادئ الإسلام. وعاد ميسرة وجماعته من الشام بعد أن خاب رجاؤهم في إنصاف الخليفة، فخرجوا من المعارضة الصامتة إلى الثورة المسلحة. وبدأت الثورة في طنجة في موطن مدغرة قبيلة ميسرة، حيث أعلن نفسه إماماً وبايعه الناس (4). وسرعان ما انضمت إلى قبيلته جميع قبائل المنطقة من غمارة ومكناسة وبرغواطة، وكانت دعوة الخوارج منتشرة في قبيلة برغواطة بفضل طريف _______ (1) البيان المغرب (1/ 52). (2) ابن الأثير (5/ 191). (3) أنظر التفاصيل في الطبري (4/ 254 - 255) وابن الأثير (3/ 92 - 93). (4) ابن الأثير (5/ 191) وفتوح مصر والمغرب (218).

رئيسها (1)، ولا نعرف متى اعتنق طريف مذهب الخوارج هل كان قبل نهاية القرن الأول الهجري، أم بعد نهايته في بداية القرن الهجري، ومن المرجح أن يكون في بداية القرن الثاني، لأن نهاية القرن الأول، كان بالنسبة للبربر ومنهم طريف، مليئاً بالأحداث الجسام، وعلى رأسها فتوح الأندلس، وما أعقبها من ترصين الفتوح، وتوطيد أقدام الفاتحين، وترسيخ جذور الفتوح والفاتحين. أما بداية القرن الثاني الهجري، فقد أصبح البربر أكثر تفرغاً، وبدا التناقض بينهم وبين العرب يطفو على السطح، فكان لا بد من أن يملأوا فراغهم بعمل ما، فكان هذا العمل تلك الثورة العارمة للبربر على العرب. وبعد القضاء على ثورة ميسرة ومَن كان معه من الخوارج الصُّفريّة سنة أربع وعشرين ومائة الهجرية (2) (741 م)، تفرق أصحابه في البلاد، فلجأ طريف إلى بلاد تامَسْنا على ساحل البحر المحيط بين مصبّي وادي سَلا وأم الربيع حيث تستقر قبيلة برغواطة البربرية، وهناك تزعم بربر المنطقة من برغواطة (3). وكان طريف من جملة قواد ميسرة ومَن جاء بعده في ثورة الخوارج الصُّفرية بالمغرب (4)، فلما انتهت تلك الثورة بالإخفاق، حلّ طريف ببلاد تامَسْنا (منطقة مدينة الرباط الحالية، وما حولها)، فقدَّمه البربر على أنفسهم، فوُلِّي أمرهم، وكان على دين الإسلام. وبقي أميراً على البربر في تلك البلاد - ليس على برغواطة حسب - بل على جميع بربر تلك البلاد، حتى تُوفي. وترك أربعة أولاد، فَوَلِيَ الأمر بعده صالح بن طريف، وكان مولده سنة عشر ومائة الهجرية (728 م)، فتنبَّأ فيهم، وشرع لهم ديانة، وسمَّى نفسه: صالح المؤمنين، وعهد إلى ابنه إلياس بديانته، وأمره ألاّ يُظهر ذلك إلاّ إذا قوي أمره، وحينئذٍ يدعو إلى مذهبه، ويقتل مَن خالفه من قومه. وخرج صالح إلى _______ (1) فتوح مصر والمغرب (254). (2) البيان المغرب (1/ 56). (3) البكري (138) والبيان المغرب (1/ 223). (4) البيان المغرب (1/ 57).

المشرق، وزعم أنه يعود إليهم في دولة السابع من ملوكهم، وزعم أنه هو المهدي الأكبر الذى يخرج في آخر الزمان لقتال الدجّال، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوْراً، وتكلم لهم في ذلك بكلام كثير نسبه لموسى عليه السلام ولسَطيْح الكاهن (1) وغيره (2). وقد كان ابتداء أمر صالح خلفاً لوالده طريف سنة أربع وعشرين ومائة الهجرية (3) (741 م)، أي في سنة عودة طريف من حرب الخوارج متعاوناً معهم وقائداً مرؤساً لهم في ثورتهم على الدولة، ويبدو أن طويفاً لم تطل مدّته رئيساً على تلك المنطقة من بلاد المغرب، فخلفه ابنه صالح الذي استغل شدّة جهل (4) البربر في تلك المنطقة النائية، فزعم لهم ما زعم، وصدَّقوا مزاعمه لجهلهم في حينه. لقد كان طريف أبا ملوك برغواطة البربرية، وهو من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام (5)، ومن الواضح أن طريفاً لم يكن يعرف هذا النسب، ولم ينتسب إليه، وأن أولاده الذين حكموا البربر بصفة دينية منحرفة، هم الذين ادّعوا لأنفسهم هذا النسب، لإعطاء انحرافهم الديني مسحة النّسب إلى الأنبياء، قد يقنع البربر في جهلهم حينذاك، ولكنه لا يقنع البربر الذين كانوا على درجة من العلم بهذا الانحراف، لذلك اقتصر انحراف عَقِب طريف على برغواطة، فنُسب هذا الانحراف إلى قبائل الإقليم، فعرف بـ: زندَقة بَرْغَواطة (6). _______ (1) أحد كهّان اليمن في الجاهلية، واسمه ربيع بن ربيعة، أنظر ابن الأثير (1/ 418 - 419). (2) أنظر التفاصيل في البيان المغرب (1/ 223 - 224)، وانظر البكري (138) والاستبصار (198). (3) البيان المغرب (1/ 57). (4) البيان المغرب (1/ 57) والاستبصار (197). (5) البيان المغرب (1/ 223)، واسحاق هو ابن إبراهيم عليه السلام. (6) د. سعد زغلول عبد الحميد - تاريخ المغرب العربي - (417) دار المعارف بالقاهرة - =

وكان سبب انضمام طريف إلى الخوارج وثورتهم، هو انحراف بعض ولاة الدولة عن العدل ومبادئ الإسلام، فقد تولّى عُبَيْدَ الله بن الحَبْحَاب (1) إفريقية والمغرب كله لهشام بن عبد الملك بن مروان. واستخلف ابن الحبحاب على طنجة ابنه إسماعيل، وجعل معه عمر بن عبد الله المُرادِي (2). وأساء عمر بن عبد الله المرادي السِّيرة، وتعدى في الصدقات والعُشُر، وأراد تخميس البربر، وزعم أنهم فَيْءٌ للمسلمين، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله، وإنما كان الولاة يُخَمِّسون مَن لم يُجِبْ للإسلام، فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة (3). فلما سمع البربر بذلك نقضوا الصلح على ابن الحبحاب، وتداعت عليه بأسرها مسلمها وكافرها، وعظم البلاء. وقدّم مَن بطنجة من البربر على أنفسهم مَيْسَرة السقّاء ثم المدغريّ، وكان خارجياً وصُفريّاً وسقّاء، وقصدوا طنجة، فقاتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه، واستولوا على طنجة، وبايعوا مَيْسَرة بالخلافة، وخوطب بأمير المؤمنين (4)، وكثر جمعه بنواحي طنجة من البربر وقوي أمره، وكان ذلك سنة سبع عشرة ومائة الهجرية (5) (735 م). والخوارج الصُّفرية، هم أتباع زياد بن الأصفر، وهم في آرائهم أقل تطرّفاً من الأزارقة وأشدّ من غيرهم (6). وقد خالفوا الأزارقة في مرتكب الكبيرة، _______ = 1965 م. (1) عبيد الله بن الحبحاب: مولى بني سلول، وكان رئيساً نبيلاً، وأميراً جليلاً، بارعاً في الفصاحة والخطابة، حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعها، أنظر البيان المغرب (1/ 51). (2) ابن الأثير (5/ 191). (3) البيان المغرب (1/ 51 - 52). (4) يقصد بها: الإمامة، كما هو معروف عند الخوارج، وخاصة في ذلك الوقت المبكر. (5) ابن الأثير (5/ 191). (6) أنظر ما جاء عن المبادئ التي تجمع الخوارج كتاب: تاريخ المذاهب الإسلامية (1/ 75 - 78).

فالأزارقة اعتبروه مشركاً، ولم يكتفوا بتخليده في النار، بل زادوا أنه يُعد مشركاً. أما الصُّفرية فلم يتّفقوا على إشراكه، وقد اعتنق مذهبهم كثير من الصالحين شرقاً وغرباً (1). وبالنسبة لطريف، فإن ثورة البربر كانت عارمة، لم يتخلف عنها أحد، فما كان بإمكانه أن يتخلف وحده عنها، وقد جرفته روح الجماعة. كما أن شعار الثورة في مقاومة الانحراف لا غبار عليه، فلا يرضى الإسلام أن يُخَمّس البربر المسلمون ولا يرضى المسلمون الصالحون من الفقهاء والمحدثين بهذا التّخميس، كما أن التفرقة بين المسلمين على أساس الجنس لا يقرُّه الإسلام كما هو معروف. أما اتِّهام طريف بانحرافه عن الإسلام (2)، فقد كذبه مَن اتَّهمه بهذه التهمة في كتابه الذي اتّهمه فيه (3)، كما لم تأخذ بهذا الاتهام المصادر المعتمدة الأخرى، فقد نسبت زندقة برغواطة إلى صالح ابن طريف لا إلى طريف (4)، فالتهمة الموجهة إلى طريف ولدت ميِّتة، لم يصدقها أحد، ولم يأخذ بها أحد. ويبدو أن طريفاً، كان قادراً حازماً (5)، كان كريماً مضيافاً شهماً غيوراً مؤمناً تقياً، ولو لم تكن هذه الصفات الإنسانية فيه، لما ارتضته برغواطة رئيساً عليها، ثم أصبح على قبائل بلاد تامسنا في المغرب الأقصى رئيساً عليهم من الناحيتين الدينية والدنيوية في آن واحد وبلا منازع. وعلى الرغم من أن المصادر المعتمدة، بخلت في الحديث عنه إنساناً _______ (1) الشيخ محمد أبو زهرة - تاريخ المذاهب الإسلامية (1/ 88 - 89) - القاهرة - بلا تاريخ. (2) البيان المغرب (1/ 57). (3) البيان المغرب (1/ 224). (4) البكري (134) والاستبصار (197). (5) فجر الأندلس (66).

القائد

بخلاً لا يناسب ما قدمه للمسلمين من جهود مثمرة، فأخباره في تلك المصادر قليلة جداً، إلاّ أنه يبدو بجلاء أنه كان رجلاً من رجال المسلمين الأبرار، الذين سخّروا مواهبهم لخدمة مصلحة المسلمين العليا، ولم يسخِّروها لخدمة مصلحتهم الشخصية، وحسبه بذلك عملاً من الأعمال الباقية التي لا تُنْسى. القائد كان طريف أحد موالي موسى بن نصير كما ذكرنا، فكان بتماس شديد مع أمير إفريقية والمغرب، وكان موسى دائب الحركة كثير النشاط، يسير من فتح إلى فتح في ولايته، حتى قضى على الفتن الداخلية قضاءً مبرماً، وأشاع الأمن والاطمئنان بين السكان، وفرض هيبة الدولة وسلطانها، وفتح ما لم يُفتح من قبل. ويبدو أن طريفاً، برز من جملة مَن برز في عمليات موسى العسكرية، فلفت إليه الأنظار، ومنهم نظر موسى. وكان موسى بعد أن سيطر على إفريقية والمغرب سيطرة كاملة، يتطلع إلى فتح الأندلس، فقد كان حاضر إفريقية والمغرب ومستقبلهما بالنسبة لتوطيد أركان الفتوح فيهما، مهدّداً من الروم أولاً ومن القوط الغربيين في الأندلس ثانياً، وقد هاجم موسى قواعد الروم في البحر الأبيض المتوسط: صِقِلِّيَة وسَرْدانِيَة، وفتح مَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة (1)، لغرض حماية فتوح إفريقية والمغرب من الروم، لأن الهجوم أنجع وسائل للدفاع؛ وبقي على موسى فتح الأندلس، لوضع حدّ نهائي لتهديد القوط الغربيين - الذين يحكمون الأندلس - لحاضر ومستقبل فتوح المسلمين في إفريقية والمغرب. _______ (1) أنظر تفاصيل ذلك في سيرة عبد الله بن موسى بن نُصَير في كتاب: قادة فتح الأندلس والبحار.

وفاتح موسى الخلافة في دمشق، حول فتح الأندلس، إذ لم يكن بإمكانه أن يُقدم على تنفيذ مثل هذه العملية الكبرى بدون موافقة الخلافة الصريحة، وكان الخليفة يومها الوليد بن عبد الملك ابن مروان الذي كان حريصاً أعظم الحرص على أرواح المسلمين، وكان يرفض بشدّة وحزم وإصرار كل محاولة للتغرير بالمسلمين وتعريضهم للمخاطر دون مسوِّغ، وقد وافق على مضض على اقتراح موسى الخاص بمحاولة فتح الأندلس الذي كان موسى يريد وضعه في ميدان التطبيق العملي، بعكس الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي كان يرى في هذا الفتح نوعاً من التغرير بالمسلمين، فكان الوليد لا يتردد في الإقدام على إلغاء عملية فتح الأندلس برمتها، في حالة تعرّض سرايا الاستطلاع التي مهّدت لخطة الفتح للإخفاق. لذلك بذل موسى غاية جهده في تنفيذ أمر الخليفة أولاً: "أن خُضها بالسرايا، حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تُغرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال" (1)، وأن تكون سرية الاستطلاع التي تمهِّد للفتح مختارة المقاتلين بقيادة قائد مختار أيضاً، ينجح في مهمتة القيادية الصعبة، ويُقنع الخليفة بنجاحه أن موسى لا يغرّر بالمسلمين، بل يقودهم إلى النصر. وأي قائد عام، في مكان موسى بن نصير، في حرصه العظيم على فتح الأندلس، يشترط عليه الخليفة، أن يبدأ عملية الفتح بالاستطلاع بالسرايا، فإذا نجحت سرايا الاستطلاع كان له ما يريده من فتوح في الأندلس، وإلاّ فلا فتوح في الأندلس إذا أخفقت سرايا الإستطلاع، وتوضع عملية الفتوح كلها على الرف، فإنه لا بد أن يختار قائداً متميزاً لقيادة سرايا الاستطلاع، ويختار له رجاله أو يسمح له باختيارهم، ليضمن نجاح مهمة الاستطلاع، فيرضي الخليفة، وتبدأ عملية الفتح. وأرى أن موسى، حين اختار طريفاً، لقيادة سرية استطلاعية، يتوقف عليها _______ (1) نفح الطيب (553).

مصير الإقدام على فتح الأندلس، لا بد من أن تتيسر فيه مزايا قيادية متميزة، تؤهله لتولي مثل هذه المهمة المصيرية الصعبة، لا لينجح في تحقيق مهمته كما ينبغي حسب، بل ليتفوق في نجاحه، وحينذاك يصبح الخليفة مرحباً بالفتح لا متخوفاً على المسلمين منه. ومفتاح مزايا شخصية طريف القيادية، تتركز في إيمانه العميق، فهو مجاهد صادق. وهو شجاع مقدام، يعتبر الشهادة أُمْنِية من أعزّ أمانيه، وهو متزن غير متهوِّر، لا يخطو خطوة بدون حساب، وهو كذلك ذكي ألمعي الذكاء. وتلك هي أبرز مزاياه القيادية، التي جعلت موسى بن نصير يوليه أهمّ وأخطر منصب قيادي مصيري، فنهض بأعبائه بنجاح عظيم. أما مجمل مزاياه القياديّة الأخرى، فيمكن تعدادها بإيجاز شديد. فقد كان من أولئك القادة الذين يتمتعون بمزية: إصدار قرار صحيح سريع لأخذ المبادرة، ووضع الحلول الناجعة للمعضلات، في الوقت والمكان الجازمين، دون إضاعة الوقت سدى. وكان على جانب عظيم من: الشجاعة الشخصية، فبقي مجاهداً في ساحات الفتوح حتى توقف مَدّ الفتوح، ثم دأب على القتال حتى نهاية أيامه في هذه الحياة. وكان ذا إرادة قوية ثابتة، لا يضعف ولا يهون، ولا ينحرف عن هدفه ولا يتزعزع، ولا يسالم ولا يستسلم. وكان يتحمل المسئولية، ويحبها، ولا يتهرب منها، ولا يتملّص من أعبائها، ولا يلقيها على عواتق الآخرين رغبة بالسلامة والعافية. وكان له نفسية لا تتبدّل، في حالتي النصر والاندحار، واليسر والعسر، والرخاء والشدّة. وكان لذكائه المفرط، يتمتع بمزية: سبق النظر، فكان يتوقع ما يُعدِّه العدو له من خطط للإيقاع بقواته، فيضع الخطط التي تُحبط خطط العدو، وتؤدي به

إلى الهزيمة، وتؤدي برجاله إلى النصر. وكان على معرفة وثيقة بنفسيات وقابليات رجاله، فهو واحد منهم نسباً ومصيراً، وهو معهم في السراء والضراء وحين البأس، فكان يولي الرجل المناسب العمل المناسب، الذي يناسب نفسيته وقابليته، مما يؤدي إلى النجاح أو الامتياز بالنجاح. وكان يثق برجاله، ويثقون به، ويسيرون تحت قيادته إلى الموت دون خوف، ثقة به، لأنه يؤثرهم بالأمن، ويستأثر دونهم بالخطر، ويحرص على أرواحهم أكثر مما يحرص على روحه، ولا يغرّر بهم في حال من الأحوال. وكان يثق برؤسائه، وكان رؤساؤه يثقون به، ولولا ثقة موسى به، لما ولاّه مثل هذا المنصب الخطير. وكان يحب رجاله، وكان رجاله يحبونه، لأنه يتمتع بالمزايا التي تحبِّب الإنسان إلى الناس، كما كان موضع حب رؤسائه، وكان يبادلهم حباً بحب. وكان ذا شخصية قوية نافذة، يؤثِّر في أتباعه بالمُثُل التي يؤمن بها ويحملها، فهو يعمل لهم أكثر مما يعمل لنفسه، ويحب لهم ما يحبه لنفسه، ولا يريد منهم غير ما يريده من نفسه ومن أهله، فهو ينصفهم قبل أن يطالبه أحد بالإنصاف. وكان يتمتع بالقابلية البدنية المتميزة، فهو في ريعان الشباب، حين تولى منصبه القيادي، وقد بقي متمتعاً بالقابلية البدنية حتى في أيامه الأخيرة، والدليل: أنه بقي مقاتلاً رهيباً، لم يتخلّ عن سيفه، في يوم من الأيام. وكان من ذوي الماضي الناصع المجيد، فهو من رؤساء البربر، كان رئيساً قبل أن يتولى القيادة، ثم رئيساً قائداً، فلما تخلّت عنه القيادة، بقي رئيساً لا ينازعه في رئاسته منازع. وكان يطبق مبادئ الحرب بصورة تلقائية، وهذه المبادئ ثابتة في كل زمان ومكان، ولكن الأساليب الحربية هي التي تتبدّل باستمرار. فقد كان يطبق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته، وكان قائداً تعرّضياً، لم يتخذ

أسلوب الدفاع في حربه. وكان يطبق مبدأ المباغتة، ولعلّ عبوره في سفن يُليَان، أو سفن التجار الذين يعملون مع يليان، كان الهدف منه مباغتة القوط بالعبور، وهم يظنون أن السفن تعود للتجار الموالين لهم، ولا تعود للمسلمين الفاتحين، إذ من المعلوم، أن موسى بن نصير، كان يمتلك كثيراً من المراكب والسفن التي يستغنى بها عن سفن يليان وأتباعه، ولكن موسى استفاد من سفن يليان لإخفاء العبور، ولمباغتة القوط في الساحل الأندلسي بالعبور وبالإنزال. وكان يطبق مبدأ: تحشيد القوة، ويستغل طاقات رجاله كافة، في تحقيق هدفه في الاستطلاع والفتح. وكان يطبق مبدأ: الاقتصاد في المجهود، فيعرف هدفه، ويستعمل القوة المناسبة لتحقيق هدفه، دون إفراط ولا تفريط. وكان يحرص أعظم الحرص على تطبيق مبدأ: الأمن فلا نعرف أن العدو استطاع مباغتة قواته، وقد استطاع أن يباغت عدوّه في عمليته الاستطلاعية، فحقق هدفه، وغنم غنائم كبيرة نسبياً، وعاد إلى قاعدته سالماً. وكان يطبق مبدأ: المرونة، فكانت خططه قابلة للتطوير والتحوير عند الحاجة، وكانت قابليته على الحركة جيدة للغاية. وكان يضع مبدأ: التعاون، نصب عينيه، فهو ييسِّر التعاون الوثيق بين رجاله أفراداً وصُنوفاً، وهو يتعاون مع يليان ورجاله ويسهّل التعاون بينهم وبين رجاله، وهو يتعاون مع قيادته العليا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وكان يعمل على: إدامة المعنويات، بالعقيدة الراسخة، والقيادة الحصيفة، والانتصارات المتعاقبة، لأنه يعلم حق العلم، أن الرجال الذين يتمتعون بالمعنويات العالية، ينتصرون على الرجال الذين يعيشون بمعنويات منهارة. وكان يهتم: بالأمور الإدارية، فالجندي يمشي على بطنه، والمقاتل لا يصبر طويلاً على الجوع والعطش، ولا على نقص الأمور الإدارية ملبساً

النصر، وكانت بالنسبة لقوة طريف جيدة للغاية، وكان وضع رجاله الإداري أفضل بكثير من وضع غيرهم من الفاتحين شرقاً وغرباً. وكان يساوي نفسه بأصحابه، ويعيش معهم كما يعيشون، ويحاول ألاّ يتميز عليهم بمظهر من مظاهر الدنيا، ولا يرضى أن يتميز أحد من أصحابه على غيره مادياً أو معنوياً. وكان يؤمن بمبدأ: الشورى، فيستشير رجاله، ويشاورهم فيما يعترضه من مشاكل، ويطبق مشورتهم. لقد تقدّم طريف على غيره من البربر المسلمين، بمزاياه القيادية التي لفتت إليه الأنظار، فولاه موسى منصباً قيادياً، في ظروف غير اعتيادية، لينهض بتحقيق هدف مصيري صعب، في أيام يصعب فيها على غير العرب المسلمين الوصول إلى المناصب القيادية، لأنها كانت للعرب المسلمين وحدهم دون سواهم، ولكن طريفاً وطارق بن زياد وحدهما من البربر توليا منصبين قياديين في فتوح الأندلس، وكانا قبل ذلك من أقرب المقربين إلى موسى بن نصير ومن أبرز المقربين إليه من البربر المسلمين. كما تولى طارق منصبه القيادي بمزاياه القيادية أولاً وقبل كل شىء، ولكن قربه من موسى بن نصير، أتاح له فرصة إظهار تلك المزايا للعيان، وربما لو كان بعيداً عن موسى، لما استطاع موسى اكتشاف تلك المزايا القيادية في طارق بسهولة ويسر، ولما أتاح له الفرصة الملائمة لتولي منصبه القيادي الرفيع، فكانت تولية طارق لمزاياه القيادية أولاً، ولقربه من موسى صاحب السلطة في اختيار القادة وتوليتهم ثانياً، كذلك كان الأمر بالنسبة لطريف، فقد شقَّ طريقه إلى منصبه القيادي بمزاياه القيادية أولاً، وبتماسه الشديد بموسى. وعلى كل حال، فقد كان طريف على حسن ظنّ موسى بن نصير به، وعند حسن ظن طارق بن زياد أيضاً، وعند حسن ظن المسلمين الفاتحين في الأندلس، وكان تولّيه منصباً قيادياً مكسباً لا شك فيه للقيادة العامة وللفتح والفاتحين.

طريف في التاريخ

طَرِيْف في التاريخ يذكر التاريخ لطريف، أنه كان من أوائل البربر المسلمين، الذين تولوا منصباً قيادياً في فتوح الأندلس، في عهد كانت فيه المناصب القيادية للعرب المسلمين وحدهم دون سواهم. ويذكر له، أنه قاد سرية استطلاعية، إلى بر الأندلس فنجح في تحقيق أهداف القيادة العامة، نجاحاً باهراً. ويذكر له، أنه أول مَن مهّد لوضع خطّة فتح الأندلس، في موضع التنفيذ، فاستطاع المسلمون الفاتحون فتحها، خلال ثلاث سنوات. ويذكر له، أنه كان يميل بطبعه إلى معاناة القتال، فبدأ حياته مجاهداً في ساحات الفتوح، وبقي يمارس هوايته المفضلة في القتال، حتى رحل عن هذه الحياة. ويذكر له، أنه كان رئيساً من رؤساء إحدى القبائل البربرية المسلمة، ولكن نطاق رئاسته توسّع بالتدريج، حتى شمل في رئاسته عدة قبائل بربرية مسلمة، تحل في منطقة مدينة الرباط الحالية الشاسعة المنعزلة. ويذكر له، أن اسمه لا يزال علماً على جزيرة أندلسية، كان أول مَن وضع قدمه في رحابها، وأنزل رجاله في أرجائها، فعرفت باسمه منذ ذلك التاريخ ولا تزال. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنّاته، جزاء ما قدّم للإسلام والمسلمين من جهود مادية ومعنوية في الفتح وفي غير الفتح قائداً وإنساناً.

مغيث الرومي فاتح قرطبة

مغِيْث الرُّومِيّ فاتح قُرْطُبَة (1) نسبه وأيامه الأولى هو مغِيث الروميّ، مولى الوليد بن عبد الملك (2)، أو مولى عبد الملك بن مروان (3)، والصواب أنه مولى عبد الملك بن مروان، فهو الذي أدبه (4)، ولا تناقض بين الرواتين إلاّ من الناحية اللّفظية حسب، فقد كان مغيث مولى عبد الملك، فلما تُوفي وأصبح ابنه الوليد خلفاً له، أصبح مولى الوليد بن عبد الملك. ومغيث رومي (5) الأصل، وقيل: إنه ليس برومي على الحقيقة، وتصحيح نسبه، أنه مغيث بن الحارث بن الحُوَيْرِث بن جَبَلَة بن الأيْهَم الغَسّاني (6)، _______ (1) قرطبة: مدينة عظيمة بالأندلس وسط بلادها، وكانت عاصمة لملكها وقصبتها، أنظر التفاصيل في المسالك والممالك (35) ومعجم البلدان (7/ 52) وتقويم البلدان (174 - 175) وآثار البلاد وأخبار العباد (552) وجغرافية الأندلس وأوروبا (100). (2) فتوح مصر والمغرب (279) ونفح الطيب (1/ 260 - 261) و (3/ 14). (3) البيان المغرب (2/ 9). (4) نفح الطيب (3/ 12). (5) نفح الطيب (3/ 12). (6) جبلة بن الأيهم الغساني: آخر ملوك غَسَّان، وقد أسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم ارتدّ وتنصّر بعد ذلك ولحق بالروم، وكان سبب تنصّره، أنّه مرّ بسوق دمشق، فأوطأ رجلاً فرسُه، فوثب الرجل ولطمه، فأخذه الغسانيون وأدخلوه على أبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقالوا: "هذا لطم سيدنا"، فقال أبو عبيدة: "البيِّنة أن هذا لطمك؟! "، فقال جبلة: "وما تصنع بالبيِّنة؟ "، فقال: "إن كان لطمك لطمتُه بلطمتك"، قال: "ولا يُقْتل؟! "، قال: "لا! "، قال: "ولا تقطع يده؟ "، قال: "لا، إنما أمر الله بالقِصاص، فهي لطمة بلطمة"، فخرج جبلة ولحق بأرض الروم =

سُبِيَ من الروم بالمشرق وهو صغير، فأدّبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد، وأنجب في الولادة، فصار بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة، وسادوا وعظم بيتهم، وتفرعت دَوْحَتهم، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس (1) وغيره (2). والمرجح أنه رومي، فقد نُسب إلى الروم وهو على قيد الحياة، وكان مولى لبني أمية، وكان بإمكانه أن يُظهر نسبه إلى جَبَلَة بن الأيْهَم وإلى ملوك الغساسنة في حياته، فلما أصبح أولاده من ذوي السلطة والثراء في الأندلس، أرادوا أن يجمعوا بين الحسب المرموق والنسب العريق، في عهد كان للنسب فيه مكانة كبيرة جداً، وبخاصة للنسب العربي الأصيل إلى إحدى القبائل الأصيلة، في عهد بني أُميّة، فانتسبوا إلى الغساسنة، فسجّل لهم انتسابهم هذا أحد المؤرخين، ثم تناقلها المؤرخون عن بعضهم، الخلف عن السّلف. ووضع نسبه واضح، ولا يبدو أنه المسئول عن وضعه، بل هو من وضع عَقِبه، فهم المسئولون عن هذا الوضع، الذي أرادوا به الفخر ومنافسة أصحاب النسب في نسبهم العريق. ونشأ مغيث في دمشق، وتأدب مع بني عبد الملك، فأفصح في العربية، وصار يقول من الشعر والنثر (3)، ما يجوز تدوينه، وتدرّب على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام في مضايق الحروب، حتى تخرّج في ذلك تخرُّجاً أهّله للتقدم على الجيش الذي فتح قُرطبة (4). لقد نشأ مغيث وترعرع وشبّ في أحضان البيت المالك: بيت الخليفة عبد الملك بن مروان، وتعلّم جنباً إلى جنب الوليد بن عبد الملك. وكان _______ = ولم يزل هناك إلى أن هلك، أنظر المعارف (644). (1) عبد الرحمن بن معاوية الداخل: أنظر سيرته المفصّلة في نفح الطيب (3/ 27 - 55). (2) نفح الطيب (3/ 12) عن الحجازي. (3) نفح الطيب (3/ 12) عن الحجازي. (4) نفح الطيب (3/ 12 - 13).

التعليم النظري لاستيعاب العلوم المتيسرة السائدة حينذاك ميسوراً، ليس لبني أميّة ومَن حولهم وحدهم دون غيرهم من الناس، بل كان ميسوراً للناس كافة من الراغبين في تلقي العلم. وربما يكون الفرق الوحيد بين تعليم أبناء الخلفاء ومَن حولهم وبين أبناء غيرهم من سائر المسلمين، هو أن أبناء الخلفاء ومَن حولهم، يتلقون العلم على أساطين العلماء وجهابذة الشيوخ، وغيرهم يتلقى العلم عن هؤلاء الأساطين والجهابذة وعن المتصدِّين للتعليم من العلماء والشيوخ الآخرين. وقد نشأ مغيث في دمشق عاصمة الخلافة، ليتعلم القرآن الكريم وعلومه، والحديث النبوي الشريف وعلومه، والتاريخ والسِّير وأيام العرب قبل الإسلام وبعده، وعلوم اللغة صَرْفاً ونَحواً وبلاغةً وبياناً وشعراً ونثراً، كما تعلم فنون الأدب في مجالي الشعر والنثر، وحفظ نماذج من أقوال الخطباء والأدباء والشعراء، ولم يغفل الحساب والهندسة وتقويم البلدان. وكان الخلفاء بخاصة والعرب بعامة، في تلك الأيام، يعتبرون اللّحن في اللّغة عيباً من أشنع العيوب، "فتأدّب مغيث بدمشق مع بني عبد الملك، فأفصح بالعربية، وصار يقول من الشعر والنثر ما يجوز كتبه" (1). وكما كان الخلفاء يحرصون على تعليم أبنائهم ومَن حولهم العلوم المختلفة والآداب والفنون، كانوا يحرصون أيضاً على تعليم أولادهم العلوم العسكرية العملية والنظرية. وقد تعلم مغيث العلوم العسكرية النظرية، مثل: إقامة المعسكرات، تنظيم المعسكر، اختيار المعسكر، وشروط المعسكر الجيد، فنون التعبية: كإخراج المقدّمات والمؤخرات والمجنبات، وأساليب الحماية، والاستفادة من الأرض، وزرع الربايا والكمائن. ومعالجة المشاكل غير المتوقعة، وتأمين القضايا الإدارية في الميدان، وطرق رفع المعنويات، وكل هذه العلوم تلقّن _______ (1) نفح الطيب (3/ 12) عن الحجازي.

الفاتح

من مجاهدين مجرّبين لهم في ميادين الجهاد باع طويل. كما تدرّب على الفنون العسكرية العملية: ركوب الخيل، والرمي بالسهام، والتصويب الدقيق، والضرب بالسيوف، والطعن بالرماح، والسباحة، وتحمل المشاق العسكرية: سيراً على الأقدام مسافات طويلة، والحرمان من الطعام والشراب مدة من الزمن، وتحمل التقلبات الجوية حراً وبرداً ومطراً وثلجاً، "وتدرّب على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام في مضايق الحروب، حتى تخرّج في ذلك تخرجاً أهّله للتقدم على الجيش ... " (1). ولكن مثل هذا التدريب العسكري وحده لا يكفي، لأنه تدريب (فردي)، فلابد من تلقي التدريب الإجمالي، وهو ممارسة الجهاد قائداً أو جندياً في ساحات الجهاد، ليطبق ما تعلمه (فرداً) من فنون عسكرية نظرية وعملية على القتال ضمن المقاتلين تطبيقاً عملياً، إذ لا فائدة من التدريب الفردي، إلاّ إذا طُبّق عملياً في التدريب الإجمالي، وأفضل أنواع هذا التدريب هو ممارسة القتال عملياً. وقد كان أسلوب التدريب على القتال شائعاً في أيام الأمويين بالنسبة لأولاد الخلفاء ومَن حولهم، وبالنسبة لأولاد المسلمين كافة، فكان من نصيب مغيث أن يتدرب في ميادين الجهاد الإفريقي والمغربي والأندلسي، كما سنرى ذلك وشيكاً. الفاتح دخل مغيث الأندلس مع طارق بن زياد (2)، وكان الوليد بن عبد الملك هو الذي وجّهه إلى الأندلس ................................................ _______ (1) نفح الطيب (3/ 12 - 13) عن الحجازي. (2) نفح الطيب (3/ 12).

غازياً (1)، ولا نعلم بالضبط متى وجّهه إلى هذا الواجب، وكان عبور طارق إلى الأندلس في يوم الإثنين الخامس من شهر رجب سنة اثنتين وتسعين الهجرية (2) (27 نيسان - أبريل - سنة 711 م)، فلابد من أن يكون مغيث قد بُعث إلى إفريقية والمغرب قبل هذا التاريخ. وكان موسى بن نصير قد فاتح الوليد بن عبد الملك بفتح الأندلس واستأذنه بفتحها، فكتب إليه الوليد: "أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال" (3). وبعث موسى في رمضان من سنة إحدى وتسعين الهجرية (710 م) سرية استطلاعية إلى جنوبي الأندلس، بقيادة طريف الملقب بأبي زُرعَة (4)، وهو مسلم من البربر (5)، فمن المحتمل أن الوليد بعثه قبيل الشروع في عمليات فتح الأندلس إلى تلك المنطقة، للإشراف على سير تلك العمليات، ومن المرجح أنه أرسله بعد فتح طنجة التي كانت سنة تسع وثمانين الهجرية (6)، وقبل عبور طريف إلى الأندلس، أي في أوائل سنة إحدى وتسعين الهجرية. وكان مغيث على خيل طارق بن زياد (7)، وبعد أن فتح مدينة إسْتَجّة (8)، فزق جيوشه من هذه المدينة، فبعث مغيثاً إلى قرطبة، وكانت من أعظم مدائنهم، في سبعمائة فارس، لأن المسلمين ركبوا جميعاً خيل القوط، ولم _______ (1) نفح الطيب (3/ 14). (2) نفح الطيب (1/ 119) والبيان المغرب (2/ 6). (3) نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320)، وأنظر التاريخ الأندلسي (46). (4) ترجمته المفصلة في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار. (5) نفح الطيب (1/ 160 و 229) والروض المعطار (8 و 127) والبيان المغرب (2/ 5)، وأنظر التاريخ الأندلسي (45). (6) ابن الأثير (4/ 540). (7) فتوح مصر والمغرب (279). (8) إستجّة: اسم كورة بالأندلس، متصلة بأعمال ريّة، بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متّصلة بأعمال قرطبة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 224).

يبق فيهم راجل، وفَضَلت عنهم الخيل. وكَمن المسلمون بعُدْوَة نهر شَقُنْدَة ( Secunda) في غَيْضَة أرْز شافحة، وأرسلوا الأدلاّء فأمسكوا راعي غنم، فسئل عن قرطبة، فقال: "رحل عنها عظماء أهلها إلى طُلَيْطِلَة، وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس من حُماتهم مع ضعفاء أهلها". وسُئل عن سورها، فأخبر أنه حصين عال فوق أرضها، غير أنه فيه ثُغرة، ووصفها لهم (1). وشقندة هذه، هي حيّ الرّبَض (الضاحية) في جنوبي قرطبة، في الضفة الأخرى من نهر الوادي الكبير (2) ( Guadalquivir) مقابل قرطبة. وتربّص المسلمون على الضفة اليسرى من نهر الوادي الكبير بالقوط، وأخذوا يستطلعون أخبار القوط، ويجمعون المعلومات عنهم قبل أن يعبروا النهر ويهاجموا البلد. وكان أهل قرطبة كارهين لأمر القوط عامة، لأن القوط كانوا مختصين أنفسهم بالجزء الغربي من البلد، وتركوا جزءه الشرقي لأهل البلد الأصليين، كما كان الرومان قبلهم يفعلون (3)، وأقاموا سوراً بينهم وبين أهل البلد الأصليين حتى لا يقرب هؤلاء مساكنهم كأنهم منبوذون. وكان البلد حصيناً حوله سور من الحجر الضخم، ولكن الظاهر أنه كان متداعياً في بعض أجزائه، فيه ثغرات يمكن النفوذ منها، وكان الجزء الذي يقابل القنطرة التي تقع على النهر، والتي كانت مهدّمة في حينه من السور وما وراءه من البلد، هو الجزء المخصص لسكان البلد الأصليين من الإيبيريين الرومان، وفيه الكنيسة الجامعة (الكاتدرائية). ولم يصعب على المسلمين الإتصال بنفر من سكان قرطبة المحليين، وبمعونة هؤلاء استطاعوا العبور في ليلة من ليالي آب (أغسطس) (4) غزيرة المطر، وكان عبور المسلمين نهر الوادي الكبير في _______ (1) البيان المغرب (2/ 9 - 10) ونفح الطيب (1/ 260 - 261). (2) جغرافية الأندلس وأوروبا (139). (3) Saavedra. OP. Cit. P. 81-82 (4) يقول الرازي: "وأقبل المسلمون رويداً حتى عبروا نهر قرطبة ليلاً، وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور، فلم يظهروا عليه، ضيقاً بالذي نالهم من المطر والبرد، =

مواجهة باب القنطرة، أو باب الصورة، نسبة إلى تمثال أسد كان قائماً على مقربة من السور، وظل قائماً أيام المسلمين، وجعل مغيث ورجاله يدورون حول السور يلتمسون ثغرة فيه يدخلون منها إلى قرطبة (1). وحاول المسلمون التعلق بالسور، فلم يجدوا مُتَعلّقا، ورجعوا إلى الراعي في دلالتهم على الثغرة التي ذكرها، فأراهم إياها، فإذا بها غير متسهّلة التسنّم، إلاّ أنه كانت في أسفلها شجرة تين مكّنت أفنانها من التعلّق بها، فصعد رجل من أشِدّاء المسلمين في أعلاها، ونزع مغيث عمامته فناوله طرفَها، وأعان بعض الناس بعضاً، حتى كثروا على السّور. وركب مغيث ووقف من خارج، وأمر أصحابه المرتقين للسور بالهجوم على الحرس، ففعلوا وقتلوا نفراً منهم، وكسروا أقفال الباب، وفتحوه. ودخل مغيث ومَنْ معه، وفتحوا المدينة عَنْوَة (2). وهاجم مغيث ومَن معه من المسلمين قصر الملك (3)، وقد بلغ الملك دخول المسلمين المدينة، فبادر بالفرار عن البلاط في أصحابه، وهم في زهاء أربعمائة فارس، وكانوا مقيمين مع الحاكم في الجزء الغربي من قرطبة، الذي سيعرف في أيام المسلمين بالمدينة أو القصبة (يسمى اليوم لافيليا = المدينة)، وكان الملك مقيماً وحده في قصر منيف من الضاحية التي ستعرف أيام المسلمين برَبَض الورّاقين، وأسرع الملك إلى حاميته القوطية، فطارده المسلمون، ففز بجنده إلى كنيسة قريبة تسمى كنيسة اشيسكلو ( San Acisclo) (4) وتحصَّن فيها، فحاصرها المسلمون. واستمر الحصار _______ = فترجّل القوم حتى عبروا النهر، وليس بين النهر والسّور إلاّ مقدار ثلاثين ذراعاً"، أنظر نفح الطيب (1/ 261). (1) فجر الأندلس (80 - 81). (2) نفح الطيب (1/ 261) وأنظر البيان المغرب (2/ 10). (3) حاكم المدينة، وقصر الملك هو البلاط: ( Palatum) عن اللاتينية كما هو معروف. (4) يسمي صاحب الأخبار المجموعة هذه الكنيسة: شنت أجلح، وقد ورد في تقويم قرطبة لعريب الذي نشره دوزي، أنّ هذه الكنيسة هي سان أثيسكلو بالعجمية، أنظر =

نحو ثلاثة أشهر، حتى استطاع المسلمون قطع الماء عن المحصورين، وكان يجري إلى الكنيسة في مجرى تحت الأرض، وقصة اكتشاف مصدر هذا الماء، أن مغيثاً ضاق بطول حصار المدينة، فتقدم إلى رجل أسود من رجاله اسمه رَباح، وكان ذا بأس ونَجْدَة، وأمره بالكُمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفّة الأشجار، لعلّه يظفر بعلج يقف به على خبر القوم، ففعل وبصر به أهل الكنيسة فأسروه وحبسوه في الكنيسة. ومكث في إسارهم سبعة أيام اطّلع خلالها على مصدر الماء الذي يأتي عبر قناة، ثم فرّ من الكنيسة ليلاً، وأخبر مغيثاً عن موضع الماء ومصدره، فأمر مغيث بطلب قناة الماء في الجهة التي أشار إليها الأسود حتى أصابوها، فقطعوها عن جَرْيتها إلى الكنيسة، وسدّوا منافذها. وأيقن المحصورون في الكنيسة بالهلاك، فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا عليه، فأوقد النار عليهم حتى أحرقهم، فسمّيت: كنيسة الحرقى (1)، ومن المستبعد أن يُقدم المسلمون على حرق الكنيسة، وفيها نحو أربعمائة فارس من القوط، لأن الكنيسة ظلت بعد ذلك في أيام المسلمين زماناً طويلاً، وليس فيها للنار أثر (2)، ولم يسبق للمسلمين الإقدام على حرق الكنائس على مَن فيها من البشر، ولا مسوِّغ بحرقها بعد انقطاع الماء عنها، لأن استسلام حاميتها بعد انقطاع الماء عنهم أصبح مضموناً، وثباتهم لن يطول إلاّ ريثما ينفذ ماؤهم، وإلاّ ماتوا عطشاً، فلا يُقدم على حرق الكنيسة، في مثل هذا الموقف الراهن الذي تعيشه، بانقطاع الماء عنها، مسلم ولا غير مسلم أيضاً. ويبدو أن قصة حرق الكنيسة لم تحظ بتصديق المصادر المعتمدة، فلم تذكر في مصدر من المصادر الإسلامية (3)، لأنها متهافتة لا ترقى إلى حقيقة _______ = الأخبار المجموعة (12)، وأنظر سافدرا (85) هامش (1). (1) نفح الطيب (1/ 263) برواية الرازي. (2) فجر الأندلس (82). (3) أنظر مثلاً: البيان المغرب (2/ 10).

من حقائق التاريخ. ورغب ملك قرطبة أن يتخلص من الموقف الحرج الخطر الذي حاق برجاله، عند إيقانه أنه هالك إذا بقي معهم، ففرّ عن رجاله وحده بعد أن استغفلهم، ورام اللّحاق بطُلَيْطِلَة. وعلم مغيث بهرب الملك، فبادر الركض خلفه وحده، فلحقه بقرب قرية تُطِيلَة هارباً وحده، وهي قرية قريبة من قرطبة، وكان تحت هذا الهارب فرس أصفر ذريع الخَطْوِ. والتفت الملك ودُهِش لما رأى مغيثاً يطارده مطاردة عنيفة بلا هوادة، فزاد في حثّ فرسه، فقصر به، فسقط عن الفرس، واندقَّت عنقه، فقعد على ترسه مستأسراً، قد هاضته السقطة، فقبض عليه مغيث، وسلبه سلاحه، وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن بعضهم استأمن، وبعضهم هرب. إلى جِلِّيقِيَّة (1). وفي رواية: أن مغيثاً استنزل أهل الكنيسة، بعد أسره لمليكهم، فضرب أعناقهم جميعاً، فمن أجل ذلك عُرفت بكنيسة الأسرى (2)، وأنه اختار القصر لنفسه والمدينة لأصحابه (3). وسكن مغيث قصر الملك الذي أصبح فيما بعد مقام الأمراء والخلفاء، بعد أن عُدّل وأضيفت إليه أجزاء كثيرة. وقد ترك المسلمون كنيسة الأسرى لنصارى قرطبة، فظلت أكبر كنائسهم في عاصمة الأندلس الإسلامية، طالما بقيت المدينة في حوزة المسلمين (4). ومن الواضح أن المقصود بملك قرطبة، هو حاكم قرطبة، ولكن المصادر العربية تلقبه بلقب الملك، لأنه أكبر مسئول رسمي في المدينة، والواقع أنه كان في الأندلس ملك واحد، وكان على المناطق حكام، يرتبطون بالملك، _______ (1) جليقيّة: ناحية قرب ساحل البحر المحيط من ناحية شمالي الأندلس في أقصاه من جهة الغرب، أنظر معجم البلدان (3/ 131). (2) نفح الطيب (1/ 262 - 265) وأنظر البيان المغرب (2/ 10). (3) نفح الطيب (1/ 265). (4) فجر الأندلس (82).

الإنسان

ويديرون مناطقهم في السلام، ويدافعون عنها في الحرب، فهو في واقعه إداري قائد. وهكذا انتهت ملحمة فتح قرطبة، استبسل فيها المسلمون وقاتلوا قتال الأبطال، كما أحسن القوط في دفاعهم، وصبروا وصابروا، ولكن بقدر ما بلغ مغيث قائداً تحمَّل القسط الأكبر من الفتح، بقدر ما تخنَّث حاكم القوط وقائدهم وتحمَّل القسط الأكبر من كارثة الهزيمة. فكان مغيث نعمَ القائد، وكان قائد القوط بئس القائد. وقد فتح مغيث قرطبة في شوال من سنة اثنتين وتسعين الهجرية (711 م)، ثم فتح الكنيسة التي تحصّن بها حاكم قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (1) (712 م). الإنسان كان مغيث أسيراً، أسره الروم وهو صغير (2)، فأدّبه عبد الملك ابن مروان مع ولده الوليد، فكان مولى عبد الملك ومولى ابنه الوليد من بعده (3). وهو رومي بالرغم من ادّعاء أولاده بأنه عربي من غسّان، ومن المحتمل أنه كان من الروم الذين عاشوا في شمالي إفريقية، فقد كان خبيراً بإفريقية عارفاً بها (4). وقد نشأ في بيت عبد الملك وترعرع فيه، إلى جانب أكبر أولاد عبد الملك وولي عهده الوليد بن عبد الملك، فأصبح أحد أفراد العائلة المالكة وجزءاً منهم لا يتجزأ، مصيرهم مصيره، ومستقبلهم مستقبله، ويهمّه أمرهم، ويهمهم أمره، كما أصبح موضع ثقتهم الكاملة. _______ (1) نفح الطيب (3/ 12). (2) نفح الطيب (3/ 12). (3) أخبار مجموعة (10) والبيان المغرب (2/ 9) ونفح الطيب (3/ 12 - 13). (4) أخبار مجموعة (31).

وكان للخلفاء في مختلف أمصار الدولة، مَن يُطلعهم على حقيقة الأوضاع فيها، إلى جانب الولاة والقادة، فلا يستطيع الولاة والقادة أن يُخفوا على الخلفاء شيئاً يهمّ الخلافة، وكان مغيث أحد هؤلاء الذين يثق بهم الخليفة، ويجب أن يطّلع على أمور الولاة والقادة والرعيّة عن طريقهم، فأوفده الوليد ليرافق الحملة الأندلسية، وينقل إليه أخبار الفتوح كما يجب أن تُنقل، لا كما يحب الولاة والقادة أن تُنقل، والفرق بين النّقلين كبير. ودخل مغيث الأندلس مع طارق (1)، وكان على تماس شديد به، فهو مدير مخابرات الخلافة في الأندلس دون أن يكون واجبه مجهولاً من طارق بن زياد أو من موسى بن نصير، وبعد أن استقر طارق وموسى، في طليطلة، أرسل موسى وفداً إلى دمشق يتألف من مبعوثين هما: مغيث وعلي بن رباح اللّخْمِي وهو من التابعين (2)، لينقلا إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك أخبار الفتح (3). ولكن الوليد بن عبد الملك أعاد مغيثاً إلى الأندلس، وأمره أن يبلغ موسى بالخروج من الأندلس والكف عن التوسع في البلاد، وأن يشخص موسى إلى دمشق، فعاد مغيث إلى موسى بما أمره به الوليد. ولم يصرف قدوم مغيث موسى عن المضي في إتمام خطته في الفتح، فلاطف مغيثاً وسأله إمهاله إلى أن ينفّذ عزمه في فتح جِلِّيقِيَّة، وأن يسير معه أياماً، ويكون شريكه في الأجر والغنيمة، ففعل مغيث ومشى مع موسى (4)، وقد وهب مغيثاً القصر الذي ينسب إلى مغيث في عهد المسلمين، وهو: (بلاط مغيث) بجميع أرضه من أرض الخُمُس (5)، وهو قصر حاكم قرطبة، _______ (1) نفح الطيب (3/ 12). (2) أنظر سيرته في: تاريخ علماء الأندلس (1/ 310) ورياض النفوس (1/ 77 - 78) ونفح الطيب (1/ 260 - 261). (3) الإمامة والسياسة (2/ 75 - 76). (4) نفح الطيب (1/ 258). (5) الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية (204).

نظير إمهاله بعض الوقت في غزو جلِّيقِيَّة. وقَبِلَ مغيث هذه الشروط، فلما اطمأن موسى إلى ذلك، بادر بالمسير شمالاً لإكمال فتوحه (1). والحديث عن إقناع مغيث بالغنيمة والقصر، لإبقاء موسى على رأس جيشه في الأندلس، من أجل استكمال خطّة الفتح كاملة، ليس من السهل تصديقه ولا قبوله، فهو رشوة لتأجيل تنفيذ أمر الخليفة الواضح الصريح، في استقدام موسى من الأندلس، وقد كان مغيث قويّاً أميناً، لا يتقبّل الرشوة، ولا يرتضي لنفسه مخالفة الخليفة الصريحة الواضحة في حال من الأحوال، والذي يبدو أن الخليفة أمر مغيثاً أن يُشخص موسى إلى دمشق، دون أن يأمره بإشخاصه فوراً، وترك الحرية لمغيث أن ينفِّذ أمره دون تقييده بوقت معين محدود، فكان لمغيث أن يتصرف في أمر موسى بحرية مطلقة. ورأى مغيث أن الموقف العسكري يتطلب بقاء موسى ردحاً من الزمن في الأندلس لاستكمال فتوحاته، واقتنع برأي موسى بضرورة بقائه لغزو منطقة جِلِّيقِيّة التي كانت مركز حشود المقاومة القوطية، حتى لا يتعرض إقليم طليطَلة لتعرض قوطي متوقع، قد يتسع نطاقه ليهدّد فتح المسلمين كله للأندلس إلى الخطر، كما لم يجد مغيث أي محذور لبقاء موسى في قيادته، وهو حاضر، والخليفة غائب، ويرى الحاضر ما لا يرى الغائب، ومغيث ليس متّهماً من الخليفة، وهو موضع ثقته الكاملة به، فلا اعتراض للخليفة على بقاء موسى مدة من الزمن لا تطول، من أجل مصلحة الفتح في الأندلس، ومن أجل حاضر الفتح ومستقبله. كما أن موسى لم يعترض على تنفيذ أمر الخليفة، كما لا يستطيع أن يعترض عليه، فكان لبقاء موسى فائدة للفتح، دون ضرر على العلاقة، لذلك اقتنع مغيث بالسير مع موسى ومرافقته في فتوحه الجديدة، وكانت الغنيمة والقصر جزاء جهوده وجهاده لا جزاء تقاعسه وتراخيه في تنفيذ أمر الخليفة، أو جزاء التخلّي عن هذا التنفيذ. _______ (1) Saavedra. OP. Cit. P. 113-114

والغريب أن المستشرقين ركّزوا على هذه الفرية، وبالغوا في شرحها وتوضيحها وتسليط الأضواء عليها، فصوروا مغيثاً في فصل من فصولهم متواطئاً مع موسى على الخليفة، وصوّروه في فصل آخر عدوّاً لدوداً لموسى، يشنِّع على موسى لدى الخليفة، لأنه كان يرى نفسه أحق من موسى بتولي الأندلس (1)، وليس ذلك من خلق التابعين وتابعي التابعين، ولا كان الدسّ والافتراء والحسد والرشوة من أخلاقهم. فإذا لم يكن ذلك مقنعاً للمؤرخ الذي تتبع خلق أولئك الرجال، فالتناقض المكشوف في موقف مغيث - بحسب ادعاءات المستشرقين - لابد من أن يكون مقنعاً، إذ كيف يمكن أن نصدِّق أن مغيثاً يفتري ما يفتري على موسى بحضور الخليفة، ثم يسكت عنه موسى في فضح تقاضيه الرشوة، لقاء تراخيه في تنفيذ الأمر الخليفي؟ وهل من المعقول أن يعفو الخليفة عن التراخي في تنفيذ أمره لقاء رشوة معروفة مكشوفة وليست سِرّاً من الأسرار؟ ثم كيف يكون مغيث مع موسى على الخليفة مرة، ويكون مع الخليفة على موسى مرة أخرى!! وبالطبع استفاد المستشرقون من المصادر العربية الإسلامية، في ترويج هذه الادعاءات وما أراد مؤلفوها ذلك. وبعد أن استكمل موسى خطة فتحه، ومغيث معه، أخذ مغيث يتعجل موسى، وكان الوليد بن عبد الملك معجلاً عليه لا يريد أن يتمهّل إذ أن رسولاً آخر من الوليد، يكنّى: أبا نَصْر، بعثه إلى موسى، عندما استبطأه في القفول، فأتاه وهو بمدينة لُكّ بناحية جلِّيقِيّة (2). وبادر موسى بالعودة مع أبي نصر من لُكْ، وكان مع أبي نصر رسالة من الوليد إلى موسى يأمره بالخروج من الأندلس، فغادر موسى الأندلس مع طارق بن زياد ومغيث وأبي نصر في شهر ذي الحجة من سنة خمس وتسعين الهجرية (3) (أيلول - سبتمبر - 714 م). _______ (1) نفح الطيب (3/ 12 - 13). (2) نفح الطيب (1/ 276). (3) نفح الطيب (1/ 277).

ولما قفل موسى بن نصير إلى المشرق وأصحابه، سأل مغيثاً أن يُسلِّم إليه العِلْجَ صاحب قرطبة الذي كان في إساره، فامتنع عليه، وقال: "لا يؤديه للخليفة سواي"، وكان مغيث يُدِلّ بولائه من الوليد بن عبد الملك، فهجم عليه موسى فانتزعه منه، فقيل لموسى: "إن سِرْتَ به حيّاً معك، ادّعاه مغيث، والعلج لا ينكر قوله، ولكن اضرب عنقه"، ففعل، فاضطغنها عليه مغيث، وصار إلْباً مع طارق السّاعي عليه (1). ومن الصعب تصديق، أن موسى يُقدم على قتل العلج بعد أن أصبح بحوزته، حتى لا يدّعيه مغيث لنفسه، لأن علاقة العلج بمغيث أشهر من أن لا تعرف على حقيقتها، فلا مسوِّغ لقتل العلج لتغطية قصة أسره من مغيث، كما أن من الصعب تصديق أن موسى يُقدم على اغتصاب العلج من مغيث، فقد كان مع موسى في رحلته إلى المشرق ما لا يُحصى من الرجال والنفائس (2)، ما يمكن أن يُعَدّ العلج، إلى جانبها أمراً تافهاً لا يُؤْبَهُ به، ولا مجال أن نجعله مشكلة بين موسى ومغيث، ولا مسوِّغ لذلك. ولما قدم موسى وطارق بن زياد ومغيث وأبو نصر إلى الوليد بن عبد الملك في دمشق، كان قدومهم عليه وهو في آخر شكايته التي تُوفي فيها، إذ بلغوا دمشق سنة ست وتسعين الهجرية (كانون الثاني - يناير - 715 م)، أي قبل وفاة الوليد بأربعين يوماً (1). وخلف الوليد أخوه سليمان بن عبد الملك الذي كان مستاءً أيضاً من موسى، لأن طارق بن زياد ومغيثاً رمياه بالخيانة، وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج صاحب قرطبة، وقالا له: (إنه قد غَلّ جوهراً عظيماً أصابه، لم تحوِ الملوك من بعد فتح فارس مثله)، فلما وافى سليمان وجده ضغيناً عليه، فأغلظ عليه واستقبله بالتأنيب والتوبيخ، فاعتذر _______ (1) نفح الطيب (1/ 279) و (3/ 13 - 14). (2) أنظر التفاصيل في الإمامة والسياسة (2/ 82) وتاريخ افتتاح الأندلس (36)، وأنظر فجر الأندلس (107). (3) ابن الأثير (4/ 566) والنويري (22/ 30) وابن الكردبوس (50).

له ببعض العذر (1). وقد كان للخلفاء أساليب خاصة، لمعرفة تفاصيل أعمال ولاتهم وقادتهم وتصرفاتهم، للاطمئنان إلى أن أولئك القادة والولاة، لا يخرجون عن الخطّة العامة التي رسمها لهم الخلفاء، وليحول الخلفاء جهد الإمكان دون خروج الولاة والقادة عليهم عند سنوح الفرصة المناسبة لهم للخروج. ومن تلك الأساليب الخاصة التي يسيطر بها الخلفاء على ولاتهم وقادتهم، وبخاصة أولئك الذين يعملون في الأصقاع النائية عن عاصمة الخلافة، هي إرسال مَن يعتمدون عليه من الرجال، لينقل إليهم بدقّة وسرعة وأمانة كل ما يراه الخلفاء ضرورياً لجعلهم مطمئنين على سير الأمور في مختلف البلاد والأمصار كما يريدون (2). وكان مغيث أحد هؤلاء الذين كان الوليد بن عبد الملك يعتمد عليهم، وقد وقع بينه وبين طارق، ثم وقع بينه وبين موسى، فرحل معهما إلى دمشق، ثم عاد ظافراً عليها إلى الأندلس. وكان مغيث مشهوراً بحسن الرأي والكيد (3)، وكان يطمع بولاية الأندلس، فلما عزم سليمان على تولية طارق بن زياد، استشار مغيثاً، فصرفه عن عزمه، وقد بالغ في إذاية موسى عند سليمان (4). والظاهر أن مغيثاً لم يدّخر وسعاً في تشويه سمعة موسى عند الوليد بن عبد الملك، وعند سليمان بن عبد الملك من بعده، طموحاً لتولي الأندلس من بعد موسى، ولكن كان مغيث صادقاً في اتهامه، إذ حقّق سليمان جميع ما رُمي به موسى عنده، فأغرمه غرماً عظيماً (5). ولا شك في نزاهة موسى بن نصير، ولكنه كان على جانب عظيم من الجود _______ (1) نفح الطيب (1/ 279 - 280). (2) قادة فتح المغرب العربي (1/ 281). (3) نفح الطيب (3/ 13). (4) نفح الطيب (3/ 13 - 14). (5) نفح الطيب (1/ 280).

والكرم، فأعطى من الغنائم مَن أعطى، ولم يستأثر بما أخذ منها لنفسه ولمصلحته الشخصية حسب (1). لقد كان مغيث مخلصاً لبني أميّة، أميناً على مصلحتهم، ساهراً على جمع المعلومات التي تعمّهم، وكان ضابط مخابرات لهم من الطراز الأول. وقد عاد إلى الأندلس بعد رحيل موسى وطارق برفقته إلى دمشق، وأنجب في الولادة، فصار منهم بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة، وسادوا وعظم بيتهم، وتفرعت دَوْحَتُهم، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) صاحب الأندلس وغيره (2)، وقد فتح قرطبة، فدخل بلاط صاحبها واختطّه (3)، ومعنى ذلك أنه أضاف إليه إضافات جديدة، ثم وهبه موسى بن نصير إلى مغيث مع أرضه (4) كما ذكرنا ذلك قبل قليل. ووقع بينه وبين طارق بن زياد، ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير (5)، مشاكل ومشادّات، وهذا ما يحدث بالطبع بين القائد ومَنْ معه، وبخاصة في الظروف القتالية الصّعبة. ولمغيث من الشعر ما يجوز كَتْبه، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقاً، يكفي منه هنا قوله: أَعَنْتُكُمُ ولكِنْ ما وَفَيْتُمُ ... فسوفَ أَعيثُ في غربٍ وشرق (6) ويبدو من شعره هذا، أنّه كان عاتباً على موسى وطارق، فنفّس عن نفسه بالشعر الذي منه هذا البيت. وقد تأدّب بدمشق مع بني عبد الملك، فأفصح بالعربية، وصار يقول من _______ (1) أنظر التفاصيل في قادة فتح المغرب العربي (1/ 282 - 283). (2) نفح الطيب (3/ 12) و (3/ 45). (3) أخبار مجموعة (12). (4) الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية (204). (5) نفح الطيب (3/ 12). (6) نفح الطيب (3/ 14).

الشعر والنثر ما يجوز كَتْبُه. وعنوان طبقته في النثر، أن موسى بن نصير قال له، وقد عارضه بكلام في محفلٍ من الناس: "كُفَّ لسانك"، فقال: "لساني كالمفصل، ما أكفّه إلاّ حيث يقتل" (1). ومن الصعب تقدير منزلته شاعراً وناثراً، بهذا البيت من الشعر، وهذا المقطع من النثر، ولكنهما دليل على كل حال أنه أفصح بالعربية، وهو الرومي نسباً، العربي لساناً. وكان مشهوراً بحسن الرأي والكيد، فقد ذكروا أنه لما حصل بيده صاحب قرطبة وحريمه، رأى فيهنّ جارية كأنّها بينهنّ بدر بين نجوم، وهي تكثر التعرّض له بجمالها، فوكل بها مَن عرض عليها العذاب إن لم تُقِرَّ بما عزمت عليه في شأن مغيث، وأنه قد فطن من كثرة تعرّضها له بحسنها لما أضمرته له من المكر، فأقرّت أنها أكثرت التعرّض له لتقع في قلبه، إذ حُسْنُها فَتَّان، وقد أعدّت له خرقة مسمومة لتمسح بها ذَكَرَه عند وقاعها، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها، وقال: "لو كان نفس هذه الجارية في صدر أبيها، ما أخذت قرطبة من ليلة" (2). وأراد سليمان عبد الملك، أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق بن زياد، فاستشار سليمان مغيثاً في تولية طارق، فقال له: "كيف أمره بالأندلس؟ "، فقال مغيث: "لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا"، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان، وبدا له في ولايته. ولقيه طارق بعد ذلك، فقال له: "ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرتَ"، فقال مغيث: "ليتك تركتَ لي العِلْجَ فتركتُ لك الأندلس"، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه صاحب قرطبة الذي حصل في يده، فلم يمكنه منه، فأغرى به سيّده موسى بن نصير، وقال له: "يرجع إلى دمشق، وفي يده عظيم من عظماء الأندلس، وليس في أيدينا مثله، فأي فضل _______ (1) نفح الطيب (3/ 12 و 14). (2) نفح الطيب (3/ 13).

يكون لنا عليه؟ "، فطلبه منه، فامتنع من تسليمه، فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث، ثم ضرب عنقه (1)، كما ذكرنا. فإذا صحّت هذه الروايات أو لم تصحّ، فإنه كما قيل عنه: كان مشهوراً بالرأي والكَيْد، وأنه كان على جانب كبير من الذكاء والفطنة وحضور البديهة، وأنه كان منتبهاً أشدّ الانتباه إلى ما حوله ومَنْ حوله، وليس من السهولة أن يُؤخذ على حين غُرّة، أو يتغلب عليه أحد، وأنه كان طموحاً يحب التملّك والمال حبّاً جمّاً. لذلك كان أحد مسئولي مخابرات الدولة الكبار المرموقين، الذين يفرض كفايته على الخلفاء، فاستعان به الوليد بن عبد الملك، ثم استعان به سليمان بن عبد الملك (2)، دون أن يستطيع الاستغناء عنه أو يُسدل عليه ستاراً من ستائر النسيان. حتى الخليفة هشام بن عبد الملك الذي تولى الخلافة سنة خمس ومائة الهجرية (3) (723 م) بعد موت يزيد بن عبد الملك، الذي خلف عمر بن عبد العزيز، الذي خلف سليمان بن عبد الملك، الذي خلف الوليد عبد الملك، الخليفة هشام هذا الذي أخرج أحد قادته إلى إفريقية (4)، عهد إليه أن يطيع مغيثاً مولى الوليد، لمعرفته بالبلد (5)، مما يدل على أنه بقي غير مجهول المكانة والمكان لكفاياته المتميّزة، وإخلاصه للبيت الأموي إخلاصاً لا شائبة فيه. ولكن مغيثاً قُتِل في إفريقية (6)، في منطقة طنجة، وكان مع جيش الدولة في قتال الخارجين من البربر، وكان قتله سنة ثماني عشر ومائة الهجرية (7) (736 م). فإذا كان عبد الملك قد أدّب مغيثاً مع ولده الوليد بن _______ (1) نفح الطيب (3/ 13). (2) نفح الطيب (3/ 14). (3) ابن الأثير (5/ 123). (4) أخبار مجموعة (30). (5) أخبار مجموعة (31). (6) أخبار مجموعة (34). (7) أنظر التفاصيل في ابن الأثير (5/ 190 - 194).

القائد

عبد الملك (1)، فمات الوليد سنة ست وتسعين الهجرية (2) (714 م) عن اثنتين وأربعين سنة (3)، فمعنى ذلك أن الوليد قد ولد سنة أربع وخمسين الهجرية (673 م)، ومغيث بعمر الوليد، أكبر منه قليلاً أو أصغر منه قليلاً، لأن عبد الملك بدأ في تأديبهما في سنة واحدة، أي أن مولد مغيث كان سنه أربع وخمسين الهجرية (673 م)، ووفاته كانت سنة ثماني عشرة ومائة الهجرية (736 م)، أي أن عمره كان أربعاً وستين سنة قمرية، وثلاثة وستين شمسيّة. وقد أنْسَلَ مغيث في قُرطبة بني مغيث (4)، ولا علم لنا بعددهم ولا بأخبارهم، عدا ما ذكر عن أن عبد الرحمن بن مغيث تولّى منصب الحجابة لعبد الرحمن الداخل (5) لا أكثر ولا أقل، وأخبار مغيث على العموم إنساناً قليلة للغاية، وبالرغم من قِلّة أخباره، فإنه يبدو أنه كان إنساناً عظيماً. القائد تدرّب مغيث على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام في مضايق الحروب، حتى تخرّج في ذلك تخرُّجاً أهّله للتقدم على الجيش الذي فتح قرطبة، وكان مشهوراً بحسن الرأي والكيد (6)، وقد وجهه الوليد بن عبد الملك إلى الأندلس غازياً، ففتح قرطبة (7)، وكان على خيل طارق بن زياد (8) في الأندلس. تلك عناصر شخصية مغيث القيادية: تدريب لا يقتصر على الفروسية _______ (1) ابن الأثير (5/ 9). (2) ابن الأثير (5/ 8). (3) ابن الأثير (5/ 9) مع روايات مختلفة أخرى. (4) نفح الطيب (3/ 12). (5) نفح الطيب (3/ 12) و (3/ 45). (6) نفح الطيب (3/ 12 - 13). (7) نفح الطيب (3/ 14). (8) فتوح مصر والمغرب (279).

واستعمال السلاح والقضايا التعبويّة، بل يشمل التدريب العنيف فى تحمل المشاق والصبر على المكاره واجتياز العقبات، ومواجهة المعضلات بحسن الرأي لا بحدّة العاطفة حتى يجد لكل معضلة حلاً مناسباً، وقدرة على إعداد الخطط المرنة السليمة القابلة للتنفيذ المؤدية للنصر. هذه المزايا القيادية، تجتمع في مجاهد، لا يتخلف عن الجهاد، ويعتبره على المسلم فرضاً، رشّحته لقيادة الفرسان، لأنه سريع الحركة، ألمعي الذكاء، فلما نجح في مهمّته قائداً للفرسان، تسنّم قيادة مستقلة، فى جبهة حيوية من جبهات القتال، فأثمرت كفاياته ومزاياه وجهاده فتحاً مبيناً، فكان فتح قرطبة إحدى تلك الثمرات. وظل مجاهداً في ساحات الجهاد الإفريقية والمغربية والأندلسية، حتى آخر لحظة من لحظات حياته، فسقط مضرجاً بدمائه دون أن يسقط السيف من يده. فإذا تجاوزنا مجمل عناصر سماته القيادية، إلى تعداد تفاصيل تلك السمات بإيجاز شديد، وجدنا أنه صاحب قرار صحيح سريع، لأنه ألمعي في عسكريته، ذكي في فطرته، حريص على جمع المعلومات عن عدوه وعن الأرض التي ستكون ميداناً لجهاده. وكان يتحلى بالشجاعة الشخصية النادرة، فهو الذي تربّص بصاحب قرطبة، وهو الذي طارده وحده دون الاستعانة برجاله، وهو الذي أسره وقاده إلى معسكر المسلمين، الواقع أن الأثر الشخصي لشجاعة مغيث النادرة، واضح كل الوضوح، ليس في سير الأحداث لفتح قرطبة فسحب، بل في سائر أعماله في القتال، حتى وهب روحه رخيصة دفاعاً عن تماسك المسلمين ووحدتهم. وصيانة لحاضر الفتوح ومستقبلها. وكان ذا إرادة قوية لا تلين، فإذا أيقن بأنه على صواب، لم يتهاون في وضع الأمور في نصابها، مستسهلاً الصعب، مستهيناً بالخطر. وكان يتحمل المسئولية ويحبها، ولا يتهرب منها أو يتخلى عنها، محاولاً

إلقاءها على عواتق الآخرين. وكان له نفسية متماسكة رصينة، لا تتبدّل في حالتي اليسر والعسر، والنصر الاندحار. وكان يسبق النظر، ويضع نفسه موضع العدو، ويفكِّر بما عساه أن يفعل لو كان مكانه، ثم يُعِدّ لكل ما يتوقعه من نشاطات معادية وخطط، ما يكون مستعداً به سَلَفاً لمعالجة التحديات، فلا يؤخذ على حين غرة، ويكون مستعداً باستمرار لمعالجة ما يتوقعه من أحداث، في المكان والزمان الجازمين. وكان على معرفة دقيقة بنفسيات رجاله وقابلياتهم بخاصة، لأنه على اتصال مباشر مستمر، وبنفسيات وقابليات الفاتحين في الأندلس بعامة، لأنه المسئول الأول عن المخابرات في الأندلس، ومن واجبه أن يعرف نفسيات الفاتحين وقابلياتهم، ليكون قادراً على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وكان يثق برجاله ويثقون به، ويثق برؤسائه ويثقون به، وكان موضع ثقة الخليفة بالذات وموضع اعتماده. وكان يحب رجاله ويحبونه، وكان موضع حب الخليفة وموضع رجائه، فقد كانا معاً صغيرين، وتعلما معاً، وعاشا معاً، وأصبح مصيراهما مصيراً واحداً، كأنهما أخَوَان وليسا بأخوين. وكان يتمتع بشخصية قوية نافذة، يحسب حسابها الكبير قبل الصغير، حتى لكأنّ شخصيته كانت طاغية على شخصية موسى بن نصير وطارق بن زياد (1)، وقد وقع بينه وبين طارق، ثم وقع بينه وبين موسى سيِّد طارق، مما يدل على قوة شخصيته. وكان يتمتع بقابلية بدنية متميّزة، فقد كان في شبابه يوم كان في الأندلس أيام الفتح، وظلّ متمتِّعاً بقابليته البدنية الفائقة حتى آخر يوم من أيامه، حيث _______ (1) نفح الطيب (3/ 12).

كان يمارس القتال في ميادين الجهاد أقوى ما يكون على تحمل مشاق القتال. وقد نصّت المصادر المعتمدة، على أنه تدرب في فتوّته على مصاعب التدريب العنيف، استعداداً لأيام الجهاد. وكان من ذوي الماضي الناصع المجيد، فقد عاش وتربّى في دار الخلافة، بإشراف الخليفة، مع أبنائه، وكان مولى الوليد بن عبد الملك، وليس ذلك بالقليل. وأضاف إلى ذلك جهاده في الأندلس وفتحه قرطبة، فأصبح الجدّ الأول لآل بيته: بني مغيث، الذين صار لهم شأن في الأندلس وبخاصة في مدينة قرطبة. وكان يعرف مبادئ الحرب ويطبقها بشكل تلقائي، ومن المعروف أن مبادئ الحرب ثابتة في كل زمان ومكان، وهي لا تتبدّل أبداً، أما أساليب الحرب، فهي التي تتبدّل بتبدّل العوامل المختلفة، كتبدّل الأسلحة وتطورها، وتبدّل وسائل النقل، إلى غير ذلك من العوامل المعروفة. فقد كان مغيث ماهراً في اختيار المقصد وإدامته، لذكائه وتيسّر المعلومات الوافية لديه عن عدوّه، فإذا وضع الخطة المناسبة لتحقيق مقصده، سار بخطوات ثابتة على طريق تحقيقه، ولا يتهاون في بذل ما يستطيع من جهد في سبيل جعل مقصده واقعاً، بعد أن كان خطّة فقط. وكان قائداً: تعرّضياً، لم يتّخذ أسلوب الدفاع في جهاد، لأنه يعلم أن المدافع لا ينتصر، والمنتصر هو الذي يتعرّض، ويديم تعرّضه. وكان يطبّق مبدأ: المباغتة، فقد باغت صاحب قرطبة بعبور أسوار المدينة، وباغته بقطع الماء على كنيسته، وباغته بمطاردته وأسره. وكان يحشد قوته، ويستفيد من طاقاتها كافة في تحقيق هدفه، ولا يتخلّى عن قسم منها ليبقى متعطلاً دون جدوى. ولكنه كان: يقتصد بالمجهود، فيحرص على أرواح رجاله حرصه على روحه، ولا يغرِّر بهم أو يعرِّضهم للتهلكة، ويضع القوة المناسبة لتحقيق الهدف المناسب.

وكان يحرص غاية الحرص على أمن رجاله، وقد باغت عدوّه في مواقف كثيرة، ولا نعرف أن عدوه باغت رجاله في موقف واحد، مما يدلّ على حرصه الفائق على تأمين الأمن لرجاله. وكانت خططه مرنة، قابلة للتطوير والتحوير، وليست جامدة لا تُطور ولا تحوّر، وكانت قابلية الحركة في قوّته سريعة نسبيّاً، فقد كان رجاله من الفرسان، وليس فيهم من المشاة. وكان يطبق مبدأ: التعاون، بين رجاله أولاً، وبينهم وبين الأدلاء من جماعة يُلْيَان ثانياً، وبينهم وبين المتعاونين معهم ومعه من سكان البلاد الأصليين ثالثاً، وبينهم وبين القيادة العامة للمسلمين في الأندلس رابعاً وأخيراً. وكان يديم معنويات رجاله، بالعقيدة الراسخة، والقيادة الواعية، والانتصارات المتعاقبة، فكانت معنويات رجاله عالية إلى أبعد الحدود، وهذا ما يعلل لنا إقدامهم وهم في سبعمائة فارس، على فتح قرطبة، التي كانت من أكبر مدن الأندلس، إن لم تكن أكبرها. وكان يهتم غاية الاهتمام بأمور رجاله الإدارية، فلا نعلم أنهم عانوا من نقص في أحد نواحيها، وقد كان مجاهدو الأندلس، من الناحية الإدارية، في بحبوبة يُغبَطون عليها من مجاهدي ساحات الفتوح الأخرى شرقاً وغرباً، ومع ذلك فقد كان من سمات المجاهدين حينذاك التقشف المطلق، لأنهم كانوا معنيين بأرواحهم أكثر بكثير من عنايتهم بأجسادهم، فإذا أصاب أحدهم شيئاً من السَّويق والتّمر ليسدّ بهما رمقه حمد الله وشكره. وكان يساوي نفسه برجاله، ولا يتميّز عليهم بشىء، ويعيش كما يعيشون، في الخيام تارة، وفي العراء تارة أخرى، ويشاركهم في السرّاء والضرّاء وقد يستأثر دونهم بالخطر، ويؤثرهم بالأمن، كما فعل بمطاردة صاحب قرطبة وحده، معرِّضاً نفسه للخطر، دون أن يستعين برجل من رجاله ليعينه في مطاردة صيده السّمين.

مغيث في التاريخ

وقد كان يطبِّق مبدأ الشّورى، أسوة بالقادة المسلمين، الذين كانوا لا ينفكون يطبّقون هذا المبدأ في الحرب، وقد ظل مستشاراً للمسئولين طيلة حياته، قادة وولاة وخلفاء، حتى قُتل وهو يمارس مهنة المستشار للقائد في أصعب الظروف والأحوال، بإيعاز من الخليفة هشام بن عبد الملك الذي أمر القائد أن يستشيره ويستفيد من خبرته وتجاربه. ولعل أوضح ما كان يتميز به مغيث من سمات، هو هوايته العارمة لجمع الأخبار والمعلومات من شتى مصادرها، واستغلال تلك الأخبار والمعلومات لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولمصلحة ولاة أمورهم من خلفاء وقادة وولاة. ولا عجب في ذلك، فقد كان صاحب سر الخليفة "رجل مخابرات" في الأندلس، وكان مجاهداً من الطراز الأول وقائداً فاتحاً. مُغِيْث في التاريخ يذكر التاريخ لمغيث، أنه كان صاحب سرّ الخليفة الوليد بن عبد الملك في الأندلس، وكان المسئول الأول أمام الخليفة عن أمن المسلمين الفاتحين في الأندلس. ويذكر له، أنه شارك مشاركة وثيقة في فتح الأندلس، وأنه فتح مدينة قرطبة، وأنه مجاهد صادق وقائد فاتح. ويذكر له، أنه كان يتمتع بكفاية عالية جداً في جمع الأخبار والمعلومات، وكان يستفيد منها قائداً، ويفيد بها الخلافة أيضاً. ويذكر له، أنه فرض كفايته على الخلفاء بعد الوليد بن عبد الملك، فظل موضع ثقة الخلفاء، حتى قُتل على عهد هشام بن عبد الملك. ويذكر له، أنه حرص على واجباته، مجاهداً وقائداً ومستشاراً، طيلة حياته، وبقي موضع ثقة القادة والولاة والخلفاء في إفريقية والمغرب

والأندلس ودمشق. ويذكر له، أنه قُتل في معركة على الخارجين، فسقط مضرجاً بدمائه دون أن يسقط السيف من يده. رحم الله مغيثاً، القائد الفاتح، المجاهد الصادق، صاحب سرّ الخلفاء وموضع ثقتهم، جزاء ما قدّم من أعمال جليلة، في الفتح وفي بناء الدولة والدفاع عن حاضرها ومستقبلها.

فهرس الجزء الأول

فهرس الجزء الأول الموضوع ...................................................... الصفحة - ترجمة المؤلف ...................................................... 7 الأندلس وما جاورها وجزر البحر المتوسط قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه الأولى 1 الموقع والحدود ................................................ 55 2 المدن .......................................................... 58 - جزيرة، الجزيرة الخضراء ....................................... 58 - طليطلة، قرطاجنّة الجزيرة، بنبلونة .............................. 59 - قرطبة، شقندة، شذونة ........................................ 60 - إستجة، قادس، مرسية، شريش ................................ 61 - المدور، إشبيلية، مالقة ......................................... 62 - إلبيرة، غرناطة، تدمير، أوريولة ................................ 63 - جيان، جليقية، أسترقة ........................................ 64 - طلبيرة، أكشونبة، قرمونة، رعواق، لبلة ....................... 65 - باجة، ماردة، لقنت .......................................... 66 - قشتالة، سرقسطة، وشقة، لاردة، طركونة .................... 67 - برشلونة، أماية، ليون، بلنسية ................................ 68 - أربونة، قرقشونة، بلانة ...................................... 69 - مولة، بسقرة، إلة، لورقة، يابرة، شنترين ...................... 70 - قلمرية، اشتورش، لشبونة، بطليوس، مدينة وليد .............. 71 - المرية، وادي الحجارة، مدينة سالم، دانية ...................... 72 - تطيلة، طرطوشة، شنب ياقب، سلمنكة ...................... 73 - قورية، برغش، قسطلونة، استوريس، أبدة .................... 74 - بياسة، بربطانية، ببشتر ...................................... 75 - بقيرة، برمنش، قبرة، بيانة، قلهرة ............................ 76

- قلعة أيوب، قلعة رباح، جبل طارق، المنكب ......................... 77 - شوذر، مجريط، ميرتلة، منت شون، منت لون، ترجيلة ............... 78 - شنتمرية، شنتبرية، طولوز، شاطبة ................................... 79 - طرش، برذيل، الأرض الكبيرة، المنارة ............................... 80 - بربشتر، أقليش، قونكة، البسيطة، شنتجالة .......................... 81 - ليون، طلمنكة، زمورة، كورنية ..................................... 82 - الحمة، أراغون، نبارة، ترول ........................................ 83 - جريقة ............................................................. 84 3 الثغور الأندلسية - الثغر الأعلى ....................................................... 85 - الثغر الأوسط ...................................................... 85 - الثغر الأدنى ........................................................ 86 4 جبال الأندلس 5 الأنهار - نهر إبرة، الوادي الكبير ............................................. 90 - نهر تاجة، النهر الأبيض ............................................. 91 - المجمل ............................................................. 92 السكان الموارد الاقتصادية ................................................... 101 - المناخ العام ....................................................... 101 - الموارد الزراعية والحيوانية ........................................ 103 - المعادن و الأحجار الكريمة ....................................... 106 - المصنوعات الأندلسية والتصدير .................................. 111 تاريخ الأندلس قبل الفتح الإسلامي وفي أيامه الأولى 1 في أوربا وإفريقية ................................................ 115 2 في إسبانيا ....................................................... 125 - يليان ........................................................... 142 - يليان و المسلمون الفاتحون ....................................... 145

فتح الأندلس - الموقف العام .................................................... 151 - فتح طريف ..................................................... 155 - فتح طارق بن زياد .............................................. 156 الفتح المشترك - فتح موسى بن نصير ............................................. 157 - فتح مغيث الرومي، فتح عبد العزيز بن موسى .................... 157 - فتح عبد الأعلى، فتح عبد الله ................................... 158 - فتح السمح ..................................................... 159 عبرة الفتح - التوقيت ......................................................... 160 - أسباب النصر ................................................... 162 حضارة العرب والمسلمين في الأندلس - الجذور ......................................................... 165 - العرب في أوج مجدهم ........................................... 175 - مدينة النور والحب .............................................. 184 - علوم العرب وآدابهم ............................................ 192 الكارثة ............................................................ 206 طارق بن زياد فاتح شطر الأندلس - نسبه وأيامه الأولى .............................................. 216 - في فتح طنجة ................................................... 221 جهاده في الأندلس 1 مقدمات الفتح - الأسباب ........................................................ 227 - الاستطلاع ..................................................... 233 2 الفتح - الخطة العامة ................................................... 237 - المناوشات التمهيدية ............................................ 242 معركة وادي برباط، المعركة الحاسمة في فتح الأندلس

- الموقف العام .................................................... 247 (أ) الخطبة، الرفض ................................................ 254 - القبول ......................................................... 259 خطبة طارق من المصادر والمراجع - نص ابن حبيب ................................................ 266 - نص ابن قتيبة .................................................. 266 - نص الطرطوشي ............................................... 267 - نص الاشبيلي ................................................. 269 - نص ابن خلكان ............................................... 271 - نص ابن الشباط ............................................... 273 - نص ابن هذيل ................................................ 274 - نص المقري ................................................... 276 (ب) حرق السفن ............................................... 282 سير المعركة الحاسمة (أ) قوات الطرفين ............................................... 284 (ب) التوقيت ................................................... 286 (ج) ميدان القتال ............................................... 286 (د) سير القتال .................................................. 289 فتوح طارق قبل عبور موسى إلى الأندلس (أ) الموقف العام ................................................. 302 (ب) فتوح المدن الثانوية ......................................... 303 (ج) فتح قرطبة ................................................. 309 (د) فتح طليطلة ................................................ 310 فتوح طارق بعد عبور موسى (أ) بين موسى وطارق .......................................... 317 (ب) فتوح موسى قبل لقاء طارق .............................. 326 (ج) لقاء القائدين .............................................. 328 (د) الفتح المشترك ............................................. 333 الإنسان ....................................................... - عودة القائدين إلى دمشق .................................... 346 - أسباب استدعاء موسى وطارق .............................. 353 الرجل ........................................................ 363 القائد ......................................................... 368 - سماته القيادية عامة .......................................... 368 - طارق ومزايا القيادة العامة .................................. 381 - في تطبيق مبادئ الحرب ..................................... 389

- نقطة الضعف ................................................... 402 مجمل السمات (أ) سماته الخاصة .................................................. 410 (ب) سماته العامة .................................................. 411 طارق في التاريخ .................................................. 413 طريف بن مالك ................................................... 416 - نسبه وأيامه الأولى .............................................. 416 - الفاتح .......................................................... 418 - الإنسان ........................................................ 421 - القائد .......................................................... 427 - طريف في التاريخ ............................................... 433 مغيث الرومي ..................................................... 434 - نسبه وأيامه الأولى .............................................. 434 - الفاتح .......................................................... 437 - الإنسان ........................................................ 443 - القائد .......................................................... 452 - مغيث في التاريخ ............................................... 457

قَادَةُ فَتْحِ الأَنْدَلُس اللِّوَاءُ الرُّكن محمُود شيت خطّابْ رَحِمَهُ اللهُ المُجَلدُ الثَاني مُؤَسَسَة عُلُوم القُرْآن بيروت مَنَار للنّشر والتَوْزِيع دمشق

جمَيع الحقوق محفوظة الطّبعَة الاولى 1424 هـ - 2003 م

السمح بن مالك الخولاني فاتح شطر جنوبي فرنسة

السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّ فاتح شطر جنوبيّ فرنسة نسبه وأيامه الأولى هو السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّ، نسبة إلى قبيلة خَوْلان. وخولان هو فَكْل بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرَّة بن أُدَد بن زيد بن يَشْجُب بن عَرِيْب بن زيد بن كَهْلان بن سَبأ (1). ولا نعلم عن أيامه الأولى شيئاً، وأوّل ذكر ورد له في بعض المصادر، هي: أنّ الخلفاء كانوا إذا جاءتهم جبايات الأمصار والآفاق، يأتيهم مع كلّ جباية عشرة رجال، من وجوه النّاس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينارٌ ولا درهمٌ، حتى يحلف الوفد بالله الذي لا إله إلاّ هو، ما فيها دينار ولا درهم إلاّ أُخِذَ بِحَقِّه، وأنّه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذريّة، بعد أن أخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه. وأتى وفد إفريقيَّة بخراجها، وذلك أنّها لم تكن يومئذٍ ثغراً، فكان ما فضل بعد أعطيات الأجناد وفرائض الناس ينقل إلى الخليفة، فلما وفدوا إلى الخليفة بخراج إفريقية في زمان سليمان بن عبد الملك أُمروا بأن يحلفوا، فحلف الثمانية، ونكل إسماعيل بن عُبيد الله مولى بني مخزوم (2)، ونكل بنكوله السَّمح بن مالك الخولاني، فأعجب ذلك عمر بن عبد العزيز من فعلهما، ثمّ ضمَّهما إلى نفسه، فاختبر منهما صلاحاً وفضلاً؛ فلما ولي عمر بن عبد العزيز، ولّى إسماعيل إفريقيّة، وولّى السَّمح بن مالك الأندلس (3)، وهذا يدل على أنّه كان يعمل في إفريقيّة على عهد _______ (1) جمهرة أنساب العرب (418). (2) أنظر سيرته في البيان المغرب (1/ 48). (3) أخبار مجموعة (22 - 23) وأنظر البيان المغرب (1/ 48).

الفاتح

سليمان بن عبد الملك، وأئه كان بارزاً بين العاملين هناك، فيكون أحد أفراد الوفد الذين يحملون الخراج من إفريقية إلى عاصمة الخلافة في دمشق، ممثلاً لوالي إفريقية ومَن معه من الأجناد وأهل البلاد. الفاتح في شهر رمضان من سنة مائة الهجرية (نيسان - مايس = أبريل - مايوم 719 م)، ولّى عمر بن عبد العزيز على الأندلس السَّمح بن مالك الخولاني (1). ولمّا تولّى السَّمح الأندلس، نشطت حركة الفتوح عبر جبال البرتات (2) نشاطاً عظيماً، لأنّ السَّمح كان رجلاً عميق الإيمان، جمّ النّشاط، فلم يكد يستقرّ في الأندلس، حتى نهض الفتح فيما وراء جبال البرتات، فتوغل في بلاد غالة (3) (فرنسة)، وبالتحديد في جنوبيّ فرنسة. وعبر السَّمح على رأس جيشه جبال البَرْتات، ففتح مدينة أَرْبُوْنَة (4) سنة مائة الهجرية (719 م) بعد حصار استمر ثمانية وعشرين يوماً، وكان فتحها عَنّوَة، ثم حصّنها وشحنها بالميرة نظراً لأهمية موقع هذه المدينة الجغرافي (5)، ولا يزال في هذه المدينة شارع باسم _______ (1) ابن الأثير (5/ 55) وابن خلدون (4/ 257) ونفح الطيب (1/ 235) و (3/ 15). (2) جبال البرتات أو البرت، هي المعروفة عندنا خطأ بالبرانس. والبرت هو اللفظ اللاتيني ( Porta) أي الباب أو الممر في الجبال، ولهذا تسمى في العربية أيضاً بجبال الأبواب، أنظر الهامش (1) من ص: 242 - فجر الأندلس. (3) Gauluis نسبة إلى بلاد الغال، والفرنسيس يقولون الغول. (4) أربونة: مدينة في شمال شرقي قرقشونة، تقع على الساحل الفرنسي الجنوبيّ، أنظر ما جاء عنها في تقويم البلدان (182 - 183)، وأنظر ما جاء عنها في تاريخ غزوات العرب - شكيب أرسلان (64 - 70). (5) تاريخ غزوات العرب (66).

السَّمْح (1). وموقع أَرْبُوْنَة هو على ارتفاع عشرة أمتار فقط عن سطح البحر، وعلى مسافة أربعة عشر كيلو متراً منه إلى الشرق، ونهر الأود يمرّ بالقرب منها، والسهول التي بينها وبين البحر كونتها الرواسب التي أبقاها هذا النهر، ومناخ المدينة شبيه بمناخ المدن العربية، أي أنّها لطيفة الشتاء نادرة الثلج، حارة القَيْظ، لولا نسمات لطاف تهبّ عليها أحياناً من جهة البحر، فتخفِّف من حرارتها. وأكثر حاصلات أربونة من الكَرَم، وفيها جميع أشجار البلاد الحارة كالتين والزيتون والصُبَّيرة. ويمر بأربونة جدول اسمه: روبين ( La Robine) مشتق من قناة الجنوب المستمدة من نهر الأود. وأربونة من أقدم المدن، عثروا فيها على آثار الآدميين من العصر الحجريّ، وعلى قبور مما قبل التاريخ (2). وهناك روايات تدلّ على أنّ موسى بن نُصَيْر (3) أرسل سراياه، ففتحوا أربونة من جملة ما فتحوه (4) وذلك سنة خمسٍ وتسعين الهجرية (714 م)، ولكن فتح موسى هذا لم يكن فتحاً مستداماً، إنّما كان فتحاً وقتيّاً بقوّات استطلاعية خفيفة، استطاعوا جمع المعلومات المفصّلة عن تلك المنطقة الحيوية من بلاد فرنسة، تمهيداً لفتحها مِن السَّمح بعد خمس سنين فقط. ويجدر بنا قبل أن نمضي في تتبّع غزوات السَّمح لأنحاء فرنسة، أن نقول كلمة موجزة في مملكة الفرنج. كان الفرنج شعب من القبائل الجرمانية، استقرّت منذ أواخر القرن الخامس للميلاد، بين نهر الرّين والبحر في إقليم فلاندز وما إليه - البلجيك الحديثة - ثم على ضفاف الرّين الوسطى والموز. _______ (1) يطلق الفرنسيون على السَّمح اسم: زاما، واسم الشارع: ( Rue, de Zama) ، وأنظر تاريخ غزوات العرب (66). (2) تاريخ غزوات العرب (64 - 65). (3) أنظر سيرته المفصلة في: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (4) نفح الطيب (1/ 259).

وفي نهاية القرن الخامس الميلادي كان زعيم هذه القبائل أمير شجاع يدعى كلوفيس، بدأ حكمه في مدينة تورني، وفي سنة (486 م) غزا شمالي فرنسة وانتزعه من يد الحاكم الروماني. ثم استولى على معظم جنوبي فرنسة، واعتنق النصرانية وجعل باريس عاصمة له. وتابع أبناء كلوفيس سياسته. فوسّعوا مملكتهم إلى شطر ألمانيا وإيطاليا. ولكن السلطة المركزية ضعفت بالتدريج، فأصبح لكل منطقة أمير. وكان أمير منطقة أكويتانا في جنوبي فرنسة هو الدوق أودو قوياً مسيطراً، وفي أيامه اخترق السّمح جنوبي فرنسة (1). وبعد أن انتهى السَّمح من أمر أربونة التي افتتحها عَنْوَة، وشحنها وشحن المدن المجاورة لها بالمجاهدين، واستكمل فتح ولاية سبتمانيا القوطيّة، توغّل في غالة حتى وصل إلى طَلُّوْزَة (2) ( Toulouse) ، وكانت يومئذ عاصمة أكويتانا، وفي محاولة لفتح هذه المدينة بالقوّة، أحاطها المسلمون بالخنادق وبقيّة آلات الحصار. وكان أودو ( Eudo) دوق أكويتانا أحد أحفاد أسرة كلوفيس، أقوى أمراء الفرنج في جنوبي فرنسة وأشدّهم بأساً، وكان أثناء الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنج، قد استقلّ بأكويتانا وبسط حكمه على القسم الأكبر جنوبي فرنسة، من الّلوار إلى البرنية، والتفّ حوله القُوْط والبُشْكَنْس، وأخذ يطمح إلى انتزاع حكم الفرنج أو ملك أسرته، ولكنّه اضطرّ إلى مقاومة المسلمين، وشُغل عن تحقيق طموحه. وكان السَّمح قد فتح ولاية سبتمانيا القوطيّة، وأقام فيها حكومة إسلامية، ووزّع الأرض بين المسلمين الفاتحين والسكّان الأصليين، وفرض الجزية _______ (1) أنظر التفاصيل في دولة الإسلام بالأندلس (1/ 76 - 79). (2) طلوزة: ويسميها قسم من العرب تولوز، وطولوشة، وهي: (= Tolosa Toulouse) كما تكتب بالإنكليزية والفرنسية، وهي مدينة طولوز جنوبي فرنسة، أنظر ما جاء حولها في تاريخ غزوات العرب (13). وتسميها قسم من المراجع العربية: طرسونة، وطرسونة هذه في مدن تطيلة، ولا علاقة لها بطلوزة، أنظر معجم البلدان (6/ 41) والروض المعطار (123) والحلل السندسية (2/ 172) وجغرافية الأندلس وأوروبا (91).

على النصارى، وترك لهم حريّة الاحتكام إلى شرائعهم. وفي زحفه نحو الشرق لفتح أكويتانا، قاومه البشكنس والقوط سكان تلك الأنحاء مقاومة عنيفة، ولكنّه تغلّب عليهم. وقصد طولّوز، وكان الدوق أودو قد حشد في تلك الأنحاء جيشاً ضخماً، فسار على رأس جيشه لردّ المسلمين. وعلم السَّمح بذلك، فارتدّ عن مهاجمة طولّوز، ليلقى جيش الدوق أودو، رغم تفوّق جيش الفرنج على جيش المسلمين بالعَدَد (1)، حتى وصف مؤرخو العرب كثرة جيش الفرنج بقولهم: "إنّ العِثْيَرْ (2) المتطاير من زحف أقدامهم، كان يغطي عين الشمس من كثرتهم"، فتلا السَّمح لرجاله الآية الكريمة: ((*إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ*)) (3). ولمّا تلاقى الجمعان، خُيِّل أنّ الجبال تلاقى بعضها ببعض، وكانت المعركة من أهول ما يتصوّره العقل، وكان السَّمح يظهر في كلّ مكان، وسيفه يقطر دماً وهو يرفع معنويات رجاله بقوله وبفعله، وكان كالفحل الهائج لا يردّ رأسه شيء، أو كالأسد الزائر يحمل على العدو فلا يقف أحد في وجهه (4). _______ (1) دولة الإسلام في الأندلس (1/ 80). (2) العثير: الغبار. (3) الآية الكريمة من سورة آل عمران (3/ 160). (4) أخبار مجموعة (34) ونفح الطيب (3/ 15) والببان المغرب (2/ 25 - 26)، وتذكر المراجع العربية أنّ هزيمة السَّمح كانت عند طرسونة، والأصح أن يقال أنها عند طرسكونة ( Tarascon) على مقربة من طولّوز عند مصب نهر الرون، وقد ذهب إلى هذا الرأي سافدرا، معتمداً على ما ذكره إيزيدور الباجي، من أنّ السَّمح استشهد عند طولّوز (طولوشة) في موقعة حامية بينه وبين دوق أكويتانا، وقد ذهب إيزيدور إلى أنّ هزيمة المسلمين كانت قاصمة، كما يقرر صاحب مدوَّنة مواسياك كذلك أنّ هزيمة السَّمح ومقتله كان عند طولوز، أنظر الهامش الرقم (1) من كتاب فجر الأندلس (246)، وانظر تاريخ غزوات العرب (71) ودولة الإسلام في الأندلس (1/ 80) وفجر الأندلس (245)، وأنظر ما جاء حول استشهاد السَّمح في: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس (336 - 337) وبغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس للضبّي (316) وابن الأثير (5/ 489) وابن خلدون (4/ 257).

الإنسان

واشتد القتال بين الجانبين، وصبر المسلمون صبراً كريماً، حتى قُتلوا عن آخرهم - كما يقول ابن حيّان - وكانت جنود الفرنج قد تكاثرت على المسلمين وعليه، وأحاطت بالمسلمين (1)، فاستُشهد يوم التروية (2) سنة اثنتين ومائة الهجرية (3)، أو أنّه استُشهد يوم عَرَفة (يوم الحج) من سنة اثنتين ومائة الهجرية (10 حزيران - يونيو سنة 721 م) (4). ولم تستطع فلول الجيش الإسلامي العودة، إلاّ بفضل ما أبداه أحد كبار الجند - وهو عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي (5) - من الجهد، فقد أقامه العسكر رئيساً عليهم، فبذل الهمّة في جمع شتاتهم والتقهقر بهم، حتى عاد إلى الأندلس (6). وسقط القائد المجاهد مضرّجاً بدمائه، فخسر روحه وربح الشهادة، وأصبح في عِداد القادة الشهداء. الإنسان _______ (1) نفح الطيب (3/ 15). (2) يوم التروية: الثامن من ذي الحجّة، وفي رواية أنه استشهد يوم عرفة، أنظر البيان المغرب (2/ 26). (3) ابن الأثير (5/ 489) والبيان المغرب (2/ 26) وابن خلدون (4/ 257)، وفي جذوة المقتبس (237)، أنه استشهد في ذي الحجة يوم التروية سنة ثلاث ومائة الهجرية، وكذلك في بغية الملتمس (316)، ومن الواضح أن صاحب البغية نقل الخبر من صاحب الجذوة، وجمهور المؤرخين يعتبرون استشهاده سنة اثنتين ومائة الهجرية. (4) فجر الأندلس (245)، وفي دولة الإسلام بالأندلس (1/ 80): في 9 يونيو 721 م، وذكر أنّ معظم المصادر الأجنبية أن الموقعة كانت سنة 721 م (102 هـ) متفقة بذلك مع الرواية الإسلامية. (5) أنظر سيرته في: جذوة المقتبس (274) وبغية الملتمس (365) والبيان المغرب (2/ 28) ونفح الطيب (3/ 15). (6) نفح الطيب (3/ 15).

السَّمح بن مالك الخَوْلاني، ثمّ الحَيَّاوِي، أمير الأندلس (1)، وقد ذكرنا نسبته إلى خَوْلان، والحياوي نسبة إلى الحَيا، بطن من خَوْلان (2). ولا نعلم شيئاً عن أولاده وعائلته، فليس لهم ذكر في المصادر التي تتحدّث عنه وتذكره، وقد ذُكر أحد أحفاده وهو إسحاق بن قاسم بن سَمُرَة بن ثابت بن نَهْشَل بن مالك بن السَّمحْ بن مالك الخَوْلانِيّ، سكن قُرْطُبَة، أصله من الجزيرة، وكان معلِّماً، مما يدلّ على بقاء عقب السَّمح في الأندلس. ولكن تعريفه بأنّ أصله من الجزيرة غامض، فهذا التعبير في المصادر الأندلسية يختلف عنه في المصادر المشرقية، فقد يعني في المصادر المشرقية أنّه من جزيرة العرب أو من الجزيرة التي هي بين نهري الفرات ودجلة، أو من جزيرة ابن عمر، بينما قد يعني في المصادر الأندلسيّة أنّه من الجزيرة الخضراء، أو من جزيرة طَريف، ولا يمكن معرفة تلك الجزيرة إلاّ بالنص عليها. وقد تتبعت وصف ابن حزم الأندلسي في كتابه: جمهرة أنساب العرب، تعبير: "أصله من الجزيرة"، فقد ورد تعبير الجزيرة، عشرين مرّة في هذا الكتاب، وهو يريد بهذا التعبير الجزيرة التي بين نهري الفرات ودجلة، وتُعرف بـ: الجزيرة، ووصفها وحدودها معروفة في كتاب البلدانيين العرب، وهي الجزيرة التي بين النهرين. ومعنى ذلك، أنّ أصل السَّمح من الجزيرة التي تقع بين النهرين: الفرات ودجلة. وقد ذكرنا المناسبة التي عرف بها عمر بن عبد العزيز السّمح، فلمّا تولى عمر الخلافة، ولّى السَّمح على الأندلس، وقد ذكرنا تاريخ توليته. ولمّا ولّى عمر بن عبد العزيز السَّمح على الأندلس، أمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا يعدل بهم عن منهج الرِّفق، وأن يُخَمِّس ما غلب عليه من أرضها وعقارها، ويكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها، وكان رأي عمر بن _______ (1) جذوة المقتبس (274) وبغية الملتمس (265) واللباب (1/ 331). (2) الأعلام (3/ 203). (3) تاريخ علماء الأندلس (72) وجمهرة أنساب العرب (418).

عبد العزيز نَقْل المسلمين من الأندلس، وإخراجهم عنها، لانقطاعهم عن المسلمين واتِّصالهم بأعدائهم، فقيل له: "إنّ الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها، فأَضْرَب عن ذلك! " فقدم السَّمح الأندلس، وامتثل ما أمره به عمر رضي الله عنه، من القيام بالحقّ، واتِّباع العدل والصدق، فانفرد السَّمح بولايتها، وعزلها عمر عن ولاية إفريقيَّة، اعتناءً بأهلها وَتَهمُّماً بشأنها. وكان المسلمون إذ فتحو قُرْطُبَة، وجدوا فيها آثار قنطرة فوق نهرها، على حنايا وثائق الأركان من تأسيس الأمم الغابرة، قد هدمها مدود النهر على مرّ الأزمان، فلمّا اتّصل خبرها بعمر بن عبد العزيز، أمر السَّمح بابتنائها، فصُنعت على أتمّ وأعظم مما بُنِيَ عليه جسر، من حجارة سور المدينة. وفي سنة إحدى ومائة الهجرية، ورد كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على السَّمح بالأندلس، يأمره ببناء القنطرة بصخر السُّور، وبناء السور باللّبن، ويأمره بإخراج خمس قرطبة، فخرج من الخمس البطحاء المعروفة بالرَّبَض، فأمر عمر أن يتّخذ بها مقبرة للمسلمين، فتمّ ذلك (1). وكانت قنطرة قرطبة من بنيان الأعاجم قبل فتوح المسلمين بنحو مائتي سنة، ولكن الزمن أثّر فيها حتى سقطت حناياها، ومحيت أعاليها، وبقيت أرجلها وأسافلها، وعليها بنى السَّمح قنطرته الجديدة، وهي إحدى عجائب الدنيا، طولها ثمانمائة ذراع، وعرضها عشرون باعاً، وارتفاعها ستون ذراعاً، وعدد حناياها ثماني عشرة حَنِيَّة، وعدد أبراجها تسعة عشر برجاً (2). ومن الواضح أن تنفيذ خطة تجديد بناء هذه القنطرة، دليل على كفاية السَّمح الإداريّة والتنفيذيّة أيضاً. لقد كان عمر بن عبد العزيز، يفكِّر في إقفال المسلمين من الأندلس، إذ خشي تغلب العدو ................................................ _______ (1) البيان المغرب (2/ 26) وانظر ابن الأثير (5/ 489) وابن خلدون (4/ 257) ونفح الطيب (1/ 235 و 338 و 480) و (3/ 15). (2) نفح الطيب (1/ 480) نقلاً عن مناهج الفكر.

عليهم (1)، ولانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين (2)، فقيل له: إنّ المسلمين قد تكاثروا بها واستقروا، فعدل عن مشروعه، "قالوا وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإنّ مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلاّ أن يستنقذهم الله برحمته" (3)، ويبدو أنّ هذه الأمنية سُجِّلت بعدما حدث ما حدث في الأندلس، وخسرها المسلمون، وخسروا كثيراً من أرواحهم وأملاكهم، وما هو أغلى من الأرواح والأملاك، ولكن عقلاء المسلمين حالوا في حينه بينه وبين تنفيذ رغبته في إقفال المسلمين من الأندلس، لأنّ المسلمين كانوا قد تكاثروا فيها، وأصبح من الصعب إقفالهم، ولكن هذه الفكرة تدل بوضوح على بعد نظر عمر ابن عبد العزيز وصدق توقّعه للحوادث والأحداث قبل وقوعهما. وقد قرّر عمر بن عبد العزيز بعد اختيار السَّمح لولاية الأندلس، أن تكون ولاية مستقلة عن إفريقيّة والمغرب، تابعة للخلافة مباشرة، ومرتبطة بها، لما رآه من أهميتها واتِّساع رقعتها وشئونها، وكانت إلى ذلك الحين تابعة لعامل إفريقيّة والمغرب وإليه تعيين ولاتها. وقدم السَّمح الأندلس في شهر رمضان من سنة مائة الهجرية، مزوّداً بتوجيه عمر في أن يتّبع الرفق والعدل، وأن يُقيم كلمة الحق والدين. وكان السَّمح وافر الخبرة والحكمة والعقل، فقبض على زمام الأمور بحزم وهمّة، وبادر بقمع المنازعات والفتن، وإصلاح الإدارة والجيش، وخمّس جميع أراضي الأندلس التي فُتحت عَنْوَة، أي أنّه مسحها وقرّر عليها الخراج بنسبة الخُمس. وقد وصف ما فعله المسلمون في مسألة الأرض الأندلسية، أحد مؤرخي الغرب الأجانب فقال: "وقد ترك الفاتحون للإسبان الذين أسلموا أو خضعوا _______ (1) افتتاح الأندلس (12). (2) الأخبار المجموعة (23) وفتح الأندلس (24). (3) الأخبار المجموعة (23) ونفح الطيب (3/ 15).

- سواء أكانوا جنداً أم نبلاء - حقوقهم في ملكيّة أملاكهم كلّها أو بعضها، مع فرض ضريبة عقارية عليهم مشابهة للخراج هي (الجزية) على الأراضي المنزرعة والأشجار المثمرة، واتّبعت هذه القاعدة نحو بعض الأديار - كما حدث في الامتياز الذي مُنح لمدينة قُلُمْرِيَة - وأُبيح لهؤلاء الملاّك فوق ذلك حريّة التّصرف في أملاكهم، وهو حقّ، كان وفقاً للقوانين الرومانية القديمة مقيّداً أيّام القوط. وأما ما زاد على الخمس التي استولى عليها الفاتحون، فقد وُزِّع بين الرؤساء والجند، وبين القبائل التي يتألّف منها الجيش. "وقد روعي في توزيع الأراضي، أن تخصّص الولايات الشمالية، وهي جلِّيْقِيَّة ولِيُوْن والأسترياس للبربر، وأن تخصّص الولايات الجنوبية، أعني الأندلس، للقبائل العربية. وكان يُفرض على العمال الملازمين ( Siervos) من القوط، الذين يشتغلون بزرع الأرض، أن يدفعوا للسيد أو القبيلة المالكة ثلثي أو ثلاثة أخماس المحصول. وكان من أثر ذلك، أن تحسنت أحوال المزارعين، كما أدّى في نفس الوقت إلى تقسيم الملكية وتمزيق الملكيّات الكبيرة. كذلك تحسّن حال العبيد، لأنّ المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان الإسبان والرُّومان والقُوْط، لأنّه كان يكفي أن يدخل العبد في الإسلام ليغدو حرّاً" (1). لقد اهتم عمر بن عبد العزيز بضبط أموال الأندلس وتنظيم أمر خراجه، وهو أمر لم يُعنَ به واحد ممن سبقه من الخلفاء، فبالإضافة إلى توجيهاته لعامله السَّمح حول ذلك. انتدب مولى من ثقاته يسمى جابراً، وبعثه لتعزيز السَّمح في مهمّته (2). والبطحاء المعروفة بالرّبَض، وهي التي خرجت من الخمس، لا تعني إلاّ خمس إقليم قرطبة (3)، وما يقال عن قرطبة يقال عن _______ (1) Altamira. Historia de Espana. V. 1. P. 217-218.، نقلاً من كتاب: دولة الإسلام في الأندلس (1/ 73 - 74). (2) افتتاح الأندلس (12). (3) فتح الأندلس (24).

غيرها من أقاليم ومدن الأندلس التي خُمِّست هي الأخرى. ولم يكد السَّمح يمضي في تنظيم شئون البلاد المالية، حتى اجتمع له مبلغ كبير من المال، وكانت قنطرة قرطبة الرومانية التي كانت مقامة على نهر الوادي الكبير للاتصال بنواحي جنوبي الأندلس قد تهدَّمت، ولم يعد الناس يستطيعون العبور إلاّ في السُّفن، وكان المسلمون بأمسّ الحاجة إلى قنطرة متينة يستطيعون العبور عليها، فوجد السَّمح أنّ بناء هذه القنطرة هو من أهمّ ما ينبغي أن ينفق فيه هذا المال المتجمِّع، فكتب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يستأذنه في ذلك، فأذن له، فقام السَّمح: "ببنائها، فصنعت على أتمّ وأعظم ما عُقد عليه جسر في معمورة الأرض، من حجارة سور المدينة، وكانت القنطرة القديمة موصولة الرّقبة بباب المدينة القبلي بها، وقد تصدّعت هذه القنطرة في أيام الإمام عبد الرحمن الداخل" (1). ويبدو أن السَّمح كان ماضياً في تنظيم البلد وإحصاء أمواله، ولكن الظروف لم تمهله، لأنّ خلافة عمر بن عبد العزيز لم تطل، وهو لم يُوَلَّ إلاّ بعد أن انقضى منها نحو العام، وكان عليه إلى جانب هذا العمل الإداري أن ينشط للفتوح في أوقاتها، وكان عظيم الرغبة في الجهاد (2)، وقد أبدى في جميع أعماله حزماً ورفقاً وعدلاً، فالتفّ الزعماء حوله، وخبت الفتنة، وهدأت الخواطر، واستقرَّ النِّظام والأمن (3). وبالرغم من أنّ ولايته على الأندلس، كانت سنتين وثمانية أشهر (4)، وقيل: كانت سنتين وأربعة أشهر، وقيل: ثلاث سنين (5)، وهي مدّة قليلة جداً، إلاّ أنّ إصلاحاته الإدارية والمالية واضحة للعيان، فكان عند حسن ظنّ _______ (1) فتح الأندلس (25). (2) فجر الأندلس (138 - 139). (3) دولة الإسلام في الأندلس (1/ 74). (4) نفح الطيب (3/ 15) وانظر البيان المغرب (2/ 26). (5) البيان المغرب (2/ 26).

القائد

عمر بن عبد العزيز الذي اختاره لولاية الأندلس، وعند حسن ظنّ المسلمين في الأندلس بخاصة، والمسلمين في كلّ مكان بعامة، إذ كانت فيه أمانة وديانة (1)، وكان على جانب عظيم من القابلية الإداريّة والتنظيميّة والتنفيذيّة. القائد لعل مفتاح المزايا القياديّة لشخصيّة السَّمح، تبدو واضحة في أنّه كان أحد المجاهدين الصادقين، الذين كانوا يتمنّون على الله تعالى، أن يهبهم الشّهادة، لتكون خاتمة أعمالهم في هذه الحياة، فوهب روحه رخيصة في سبيل الله، لا فرق لديه أن يقع على الموت أو يقع الموت عليه، ما دام ذلك لإعلاء كلمة الله ونشر الإسلام، والنهوض بفريضة الجهاد لضمان حاضر الفتح الإسلامي ومستقبله بمجاهدة الأعداء الذين يحاولون التعرّض بحدوده الشمالية، ويحرضون على استعادة الأندلس إلى حكّامه القوط من جديد. وحين وجد أنّ الفرنج متفوقون على قوّاته عَدَداً، لم يكترث بهذا التفوّق كما ينبغي، بل قَبِلَ المواجهة ولم يحاول التملّص منها، في محاولة لاستكمال استعداداته، ثم مواجهة الفرنج بعد ذلك، لضمان النّصر على الفرنج، ومن ثَمّ استئناف التقدّم شرقاً في فرنسة للفتح. وخطّة الإنسحاب من ميدان المعركة قبل حصول المواجهة بين الجانبين، لا يجهلها السَّمح ولا يجهلها غيره، ولكنّه لم يطبِّقها ولم يأخذ بها، لأنّ المسلمين يوم ذاك لم يكونوا ينتصرون على أعدائهم لتفوّقهم على الأعداء في عَدَدهم، بل العكس هو الواقع، فقد كان العدو غالباً هو المتفوّق على المسلمين عَدَداً، ولكن المسلمين كانوا ينتصرون بإيمانهم العميق الذي يدفعهم إلى الاستقتال طلباً للشّهادة، أي أنّ المسلمين كانوا دائماً يتفوقون على أعدائهم بمعنوياتهم العالية، فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن _______ (1) ابن الأثير (5/ 55).

الله، وانتصار المسلمين انتصار عقيدة بلا مراء. إنّ الفتح الإسلامي، في سعة رقعته، وسرعة تحقيقه، خلال القرن الأول الهجري، الذي هو خير القرون، خير دليل على انتصار العقيدة الراسخة في معارك الجهاد، وكان السَّمح أحد قادة الفتح الإسلامي، الذي كان حافزه الأول والأخير، إيمانه الراسخ، وحرصه على خدمة الإسلام والمسلمين، ورغبته في الشهادة، فليس من العدل والإنصاف في شيءٍ تقريباً، أن نحاسبه بالمقاييس الماديّة الشائعة في العسكرية الحديثة، بعد أن أصبحت المادة كلّ شيءٍ تقريباً؛ وحتى رفع المعنويات تكون بوسائل ماديّة؛ والسَّمح قد عاش في قرن كانت فيه المقاييس المادية ثانوية بالنسبة للمقاييس المعنوية، وهو القرن الأول الهجري، يوم كان الإسلام في مَدِّه العارم، يكتسح كلّ شيء، ولا يقف أمامه شيء. ليس من العدل والإنصاف أن نقول: ما دام السَّمح قد علم بحشود الفرنج المتفوقة، فكان عليه أن ينسحب من ميدان المعركة، إلى منطقة إسلاميّة آمنة، حيث يكمل استعداداته للقتال، ثمّ يستأنف الفتح، ويكون احتمال انتصاره حينئذٍ على الفرنج كبيراً. لأنّ محاسبة أمثال السَّمح، بمثل هذا المنطق المادي ليس عدلاً ولا إنصافاً، فقد كان بوادٍ، وكانت المادة بوادٍ آخر. ولو كان للناحية المادية اعتبار، كالاعتبار الذي لها في هذه العصور، في غياب العقيدة الراسخة، لما كان فتح إسلاميّ، ولما أصبح ذلك الفتح فتحاً مستداماً، لأنه ليس فتح سيف حسب، بل فتح عقيدة قبل أن يكون فتح سيف، فلا عجب من انحسار ما استولى عليه الرومان والروم والفُرس واليونان والأمم الأخرى، وبقاء الفتح الإسلامي ثابتاً رصيناً، لأنّ ما استولت عليه الأمم احتلال واغتصاب، وما استولى عليه المسلمون فتح، وشتّان بين الاحتلال والاغتصاب الزائلين وبين الفتح الباقي. إنّ المقاييس الماديّة كانت غائبة في أيام الفتح، وكانت المقاييس الروحية هي السائدة، وعلى هذا الأساس يمكن محاسبة السَّمح لا على أساس

المقاييس المادية حسب. وإدراك السَّمح أنّ الفرنج متفوقون عليه، ومع ذلك لم يَهُن ولم تتزعزع معنوياته، دليل على أنه كان قائداً بصيراً بالأمور، لا تخفى عليه منها خافية، فلم يُؤْت من قِبَل غفلته، بل أُتِيَ من قِبَل حرصه على الشهادة وحرص رجاله عليها، فحقّق الله لهم وله أمنيتهم، فكان لهم إحدى الحُسْنَيين: النّصر أو الشهادة. وما كان لمثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو مَن هو عدلاً واستقامة، أن يولّي السَّمح أخطر منطقة من مناطق المسلمين وبلادهم، وهي الأندلس، لو لم يجد فيه الكفاية المتميِّزة في الإدارة والقيادة، فقد كان الوالي يومئذ إدارياً وقائداً، بل كانت سِمة القيادة فيه تعلو على سِمة الإدارة، وكان عمر وأمثاله من الخلفاء، يحرصون غاية الحرص على أن يضعوا الرجل المناسب في الواجب المناسب. كما أنّ فصل الأندلس عن ولاية إفريقيّة والمغرب، وجعل الأندلس مستقلّة عن ولاية إفريقيّة والمغرب بعد تولية السَّمح من عمر بن عبد العزيز، دليل على ثقة عمر بكفاية السَّمح في الإدارة والقيادة، وإلاّ لما فصل الأندلس وجعلها مرتبطة بالخلافة مباشرة، ولأبقاها كما كانت عليه من قبل، تابعة لولاية إفريقيّة والمغرب. لقد كان السَّمح من القادة القادرين على إصدار القرار الصحيح السريع، وقراره في مواجهة الفرنج المتفوِّقين على المسلمين، بالنسبة للتفكير السائد في حينه، وبالنسبة لتفكير السَّمح، كان قراراً صحيحاً، أمّا بالنسبة للتفكير السائد اليوم، وبالنسبة لفكر العسكريين المحدثين، فقد كان قراراً غير صحيح، ولابد من الرجوع إلى الفكر السائد في حينه، للحكم على صحّة قرار السَّمح أو عدم صحته. وكان يتمتّع بشجاعة شخصية نادرة، ولولا شجاعته لما واجه الفرنج المتفوقين على المسلمين عَدَداً، وقاتلهم قتال الأبطال. وكان ذا إرادة قويّة ثابتة، إذا عزم على أمر، واعتقد أنّ تنفيذه صواب،

مضى في تنفيذه قوياً ثابتاً. وكان يتحمّل المسؤولية، ويحب تحمّلها، ولا يتملص منها، أو يلقيها على عواتق الآخرين، خوفاً على نفسه من العواقب. وكان ذا نفسية لا تتبدّل، لأنّه مؤمن قويّ الإيمان، فهو بخيرٍ أبداً، إذا أصابه الخير شكر، وإذأ أصابه الضرّ صبر. وكان يتمتّع بمزيّة سبق النظر، فقد حصّن أربونة وحماها بالرجال، فثبتت طويلاً أمام الغزاة، ولولا ذلك لاستسلمت للغزاة. وكان يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم، فيُحمِّل كلّ رجل منهم ما يستطيع حمله، ويضع الرجل المناسب في الواجب المناسب، استناداً إلى نفسيّته وقابلياته. وكان يثق برجاله ويثقون به، ويثق بقيادته العليا وتثق به، فقد كان يعمل لغيره أكثر مما يعمل لنفسه، ويخدم مصلحة الإسلام والمسلمين أكثر من خدمة مصالحه الشّخصيّة. وكان يحبّ رجاله، ويبادلونه حبّاً بحبّ، ويحبّ قيادته العليا، وتبادله حبّاً بحبّ، وكانت مزاياه الإنسانية تجعله آلفاً مألوفاً. وكان يتمتّع بشخصية قويّة نافذة، يصدح بالحق بحضور الخليفة سليمان بن عبد الملك، فلفت إليه نظر عمر بن عبد العزيز - كما ذكرنا - وهذا موقف من مواقفه الكثيرة التي تدلّ على متانة شخصيته ورصانتها وقوّتها. وحركته الدائبة بلا كلل ولا ملل إدارياً وقائداً، وإنجازه الإداري وفي الفتح، دليل على تمتّعه بالقابلية البدنيّة المتميِّزة. وكان ذا ماض ناصع مجيد، يتميّز بالطهر والعفاف والنزاهة المطلقة والنظافة المثالية، بالإضافة إلى أنّه كان عربياً معروف النسب، غير مجهول المكان والمكانة. وكان يستشير رجاله ويشاورهم، ولا يقطع بأمر مصيري يهمّهم بدون استشارتهم والعمل بما يرونه. وكان يستشير الخلافة، كما فعل في قضية

قنطرة قرطبة، فقد عرض أمرها على عمر بن عبد العزيز، وتلقّى توجيهاته حولها، ونفّذ تلك التوجيهات. وكان لا يميِّز نفسه عن رجاله بشىءٍ ماديّ أو معنوي، ولا يتميّز عليهم في المظهر أو المَخْبَر، بل يساوي نفسه بهم، فكأنّه فرد منهم، لا يستطيع مَنْ لا يعرفه حين يراه معهم أن يعرف أنّه القائد وأنّهم الجنود، لأنّه كان يساوي نفسه برجاله في كلّ شيء، منطلقاً من إيمانه المطلق بمبدأ: المساواة. وكان يطبِّق مبادئ الحرب بشكل عفويّ في معاركه، وهذه المبادئ ثابتة في كلّ زمان ومكان. فقد كان يطبِّق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته، فهو يعرف ما يريد، ويُعدّ الخطّة المناسبة لتحقيق ما يريد، ويضع تلك الخطة في موضع التنفيذ، ولا يزال دائباً وراء مقصده، حتى يحقِّقه كاملاً غير منقوص. وكان قائداً تعرّضياً، لم يتّخذ خطة الدفاع، حتى في حالة تفوّق الفرنج على المسلمين الذين بقيادته، ولا نعلم أنّه سلك مسلكاً غير مسلك التعرّض، في جهاده من أجل إعلاء كلمة الله. وكان يحاول مباغتة العدو في المكان أو الزمان أو الأسلوب، ولا نعلم أنّ عدوّه استطاع مباغتة القوّات التي تعمل بقيادته في يوم من الأيام. وكان يحشد رجاله للنهوض بواجباته فى الجهاد، ويستغلّ كلّ الطّاقات الماديّة والمعنوية المتيسِّرة للحشد. وكان يحرص غاية الحرص على أمن قوّاته، ويتّخذ التدابير اللاّزمة لحمايتها في المعسكر والحركة وفي أثناء القتال، وبعد القتال وفي صفحات القتال كافة. وكانت خططه مرنة، يمكن تبديلها وتعديلها وتحويرها وتطويرها حسب الظروف، كما أنّ قابليته على الحركة نسبياً جيدة، لتطبيق خططه العسكريّة. وكان يؤمِّن التعاون بينه وبين رجاله أفراداً وجماعات وصنوفاً، كما كان يؤمِّن التعاون بينه وبين قيادته العليا، وكان التعاون بين الجميع وثيقاً.

السمح في التاريخ

وكان يديم معنويات رجاله، بالعقيدة الراسخة، والقيادة المتميِّزة، والانتصارات المتعاقبة، وكان السَّمح كتلة من المعنويات العالية، فتنتقل المعنويات منه إلى رجاله، فقد كان يملأ - بحقّ - الأعين قدراً وجلالاً، يرفع المعنويات ويديمها. وكان يهتمّ في الأمور الإداريّة الخاصة برجاله، ويبدو أنّ وضعهم الإداري كان جيداً، بل هو أفضل من الوضع الإداري لأمثالهم من المجاهدين في مختلف الأقطار والأمصار شرقاً وغرباً، لأنّ الأمور الإدارية كانت متيسرة في الأندلس حينذاك. لقد كان السَّمح قائداً جيداً، ولو بقي مدة أطول من الزمن، لحقق للمسلمين فتوحات جديدة في أرجاء فرنسة. السّمح في التاريخ يذكر التاريخ للسَّمح، أنّه كان على جانب عظيم من التقوى والورع، لذلك لم يكن يخشى في الحقّ لومة لائم، ويصرّح بالحقّ ولو كان مرّاً. ويذكر له، أنّه كان إدارياً حازماً، سار على طريق تخميس أرض الأندلس خطوات واسعة مثمرة، ولو طال عمره، لأكمل تخميسها كما ينبغي. ويذكر له، أنّ له آثاراً في البناء والتشييد، في قنطرة قُرطبة وسورها، وفي تحصين أربونة وغيرهما من المدن الأندلسية والفرنجيّة. ويذكر له، أنّه فتح أربونة وما حولها من المدن والقرى، وحصّنها وحشدها بالرجال، لحمايتها من هجمات الفرنج. ويذكر له أنّه بذل روحه رخيصة من أجل عقيدته وأبناء عقيدته، ولم يبذل عقيدته وأبناء عقيدته من أجل روحه، فمات شهيداً في ساحات الجهاد، وسقط مضرّجاً بدمائه، دون أن يسقط سيفه من يمينه. ويذكر له أنّه رحل عن الدنيا، دون أن يترك خلفه درهماً ولا ديناراً، ولا

أرضاً ولا عقاراً. ويذكر له أنّه كان والياً قائداً، ولكنّه كان يؤثر أن يكون غازياً، على أن يبقى والياً، وأن يعيش في ظلال السيوف، على أن يعيش في ظلال القصور. رحم الله رحمة واسعة، الإداري الحازم، القائد الفاتح، التقيّ النّقيّ، البطل الشهيد، السَّمح بن مالك الخَوْلانِيّ.

عبد العزيز بن موسى بن نصير اللخمي فاتح شطر الأندلس

عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر اللَّخْمِيّ (1) فاتح شطر الأندلس نسبه وأيّامه الأولى هو عبد العزيز بن موسى بن نُصَيْر بن عبد الرحمن بن زيد (2) من بني لَخْم (3)، ويقال: إنّه مولى لَخْم (4)، وقيل: إنّه من أراشَة من بَلِيّ (4)، وقيل من بَكْر بن وائل (6)، ويذكر أولاده أنّه من بكر بن وائل، وغيرهم يقول: إنّه مولى (7). وادِّعاء أولاده وأحفاده، بأنّه من بَكر بن وائِل، بعد أن استقروا وملكوا وتأثّلوا، في وقت كان فيه الفخر بالنّسب سِمة العصر، عصر بني أميّة، قد يؤخذ مأخذ الدعاوة لهم بالنّسب المُفَضّل لا بمأخذ تقرير الواقع. كما أنّ _______ (1) ورد اسم أبيه: موسى بن نُصَيْر الّلخمِي في المعارف (570) واليعقوبي (3/ 22) والبداية والنهاية (9/ 171) ورياض النفوس (1/ 77). ولخم: هو مالك بن عَديّ بن الحارث بن مرَّة بن أدد، أنظر جمهرة أنساب العرب (422)، وهم من بني سعد العشيرة بن مذحج من سبأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (410 - 422)، وأنظر بطون لخم في جمهرة أنساب العرب (477). (2) البيان المغرب (1/ 32). (3) بغية الملتمس (457) ونفح الطيب (1/ 254) وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس (2/ 114) والنجوم الزاهرة (1/ 235). (4) بغية الملتمس (457) وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) ووفيات الأعيان (4/ 402) والولاة والقضاة (52). (5) البلاذري (248)، وأراشة بن عُبيلة بن قِسْميل بن فَرَان بن بَلِيّ بن عمرو بن الحافي بن قُضاعة، أنظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (442). (6) نفح الطيب (1/ 234) والبيان المغرب (1/ 32). (7) جل فتوح الإسلام - ملحق بجوامع السيرة لابن حزم الأندلسىّ (344).

ادِّعاء مَن كان عليهم لا معهم بأنهم موالي، كان نتيجة لتعالي أولاد عبد العزيز بالنسب المفتعل، فهو رد فعل تلقائيّ لهذا التعالي الموهوم، فلا يُؤخذ به ولا يُصَدَّق، لأنّ دوافعه عاطفيّة لا واقعيّة. إنّه عربيّ (1) من بني لَخْم، أبوه موسى بن نُصَيْر الَّلخْمِيّ (2) فاتح الأندلس المشهور، وكان والياً على إفريقيّة والمغرب من أواخر سنة خمس وثمانين الهجرية (704 م) أو أوائل سنة ست وثمانين الهجريّة (705)، كما شغل عدة مناصب إدارية وقياديّة قبل ذلك، تدلّ على أنّه كان قريباً من بني أُميّة ومَن يعمل معهم في الإدارة والقيادة. ولم يكن جَدُّه نُصَير، بعيداً عن مراكز السّلطة في الإدارة والقيادة أيضاً، وأصله من سبايا بلدة عَيْن التّمر (3) الذين سباهم خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة الهجرية (633 م)، فقد وجد خالد أربعين غلاماً يتعلّمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم وقال: "وما أنتم؟! "، فقالوا: "رُهُن! "، منهم نُصَير أبو موسى بن نُصَير، فقسّمهم خالد في أهل البلاد (4)، فأصل عبد العزيز من عين التّمر (5). وقد أعتق نُصيراً بعضُ بني أُميَّة، فرجع إلى الشَّام (6)، ثم أصبح من حرس معاوية بن أبي سفيان (7) رضي الله عنه، ثمّ أصبح على حرس معاوية (8)، وعلى جيوشه (9)، وكانت منزلته عند معاوية _______ (1) البلاذري (248) والنجوم الزاهرة (1/ 235). (2) أنظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (3) عين التّمر: بلدة قريبة من الأنبار (مدينة الفلّوجة على الفرات القريبة من بغداد في غربيها) غربيّ الكوفة، بقربها موضع يقال له: شفاثا، معروف اليوم، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 253). (4) الطبري (2/ 577) وأنظر ابن الأثير (2/ 151). (5) البداية والنهاية (9/ 171). (6) البلاذري (248) ومعجم البلدان (7/ 267). (7) ابن خلدون (4/ 187). (8) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب (1/ 224). (9) نفح الطيب (1/ 224).

مكينة. ولما خرج معاوية لقتال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يخرج معه نُصير، قال له معاوية رضي الله عنه: "ما منعك من الخروج معي، ولي عندك يد لم تكافئني عليها؟ "، فقال: "لم يمكنِّي أن أشكرك بكفري مَنْ هو أولى بشكري منك! "، فقال: "ومَنْ هو؟ "، فقال: "الله عزّ وجلّ"، فأطرق معاوية مليّاً، ثمّ قال: "أستغفر الله"، ورضي عنه (1). ولا نعلم متى وُلِد، فالمصادر المتيسرة سكتت عن تاريخ مولده، كما سكتت عن أيامه الأولى، ولكنّنا نستطيع أن نستنتج: كيف نشأ وترعرع واستوى على عوده شاباً يشقّ طريقه في الحياة، بالمقارنة مع لِداته في عصره، الذين عاشوا في بيئة مشابهة من الناحية الاجتماعية لبيئته العامّة في مجتمعه العربي الإسلامي، ولبيئته الخاصة في أسرته القريبة من بني أُميّة ذوي الجاه والسّلطة، التي يتولّى فيها أبوه موسى المراكز الإدارية والقيادية المرموقة، والذي كان يتولّى فيها جَدُّه نُصَير المراكز الإدارية والقيادية أيضاً، فهو وأمثاله يُربّون تربية تفيد عقولهم بالعلم وتفيد أبدانهم بالتدريب العسكري، ويخالطون العلماء والقادة والإداريين عن كثب، فيتلقّون منهم عصارة تجاربهم في الحياة، ويتعلّمون منهم كيف يواجهون المعضلات وكيف يجدون الحلول الناجعة لها، فإذا أصبحوا كفاية وعُمْراً قادرين على العطاء، أُعطيت لهم الفُرص لإبداء كفايتهم في ميدان الإدارة أو في ميدان القيادة، أو في الميدانيين معاً، فأما الزَّبَد فيذهب جُفاءً، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض، فما كلّ مَن عمل في الإدارة لمع في الإدارة، ولا كلّ مَن عمل في القيادة أصبح قائداً فاتحاً. لقد نشأ عبد العزيز وترعرع وشبَّ في ظروف ملائمة كلّ الملائمة لاستكمال مزاياه الشخصيّة، فأبوه وجدّه من المقربين للبيت الأموي المالك، وظروف والده الإداريَّة والقياديّة بخاصة لا تخلو من مشاكل صعبة، تُعين _______ (1) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/ 224 - 225).

على التّعلم النظري والتدريب العملي. وكان التّعليم النّظريّ، لاستيعاب العلوم المتيسّرة السّائدة حينذاك، ميسوراً لأبناء الإداريين والقادة الكبار ولغيرهم من الناس، إذ كان العلماء وقتذاك يعتبرون التّعليم والتّعلم من أجلّ العبادات. لذلك نشأ عبد العزيز ليتعلّم علوم القرآن الكريم والحديث النّبويّ الشَّريف، ويدرس التاريخ والسِّيَر وأيام العرب قبل الإسلام وبعده، ويُتقن علوم الّلغة، ويتلقى فنون الأدب شعراً ونثراً، ويتعلّم الحساب والهندسة وتقويم البلدان. كما أنّ التدريب العملي بالممارسة، كان ميسوراً له في القضايا السياسية والإدارية والعسكرية، فهو إلى جانب والده الذي كان على المغرب وإفريقية إدارياً وقائداً، وعلى الأندلس إدارياً وفاتحاً، يسمع ويرى كيف تُعطى القرارات الخطيرة وكيف تُعالج المشاكل الصّعبة. كما تدرّب عملياً على الفنون العسكرية: ركوب الخيل، والرّمي بالسِّهام، والضّرب بالسيوف، والطّعن بالرِّماح، والسباحة، وتحمّل المشاق سيراً وجوعاً وعطشاً، وهو ما نُطلق عليه في المصطلحات العسكرية الحديثة: التدريب العنيف. ولكنّ هذا التدريب العملي عسكرياً لا يكفي وحده، لأنّه تدريب فَرْدِيّ، فلا بدَّ من تلقِّي التدريب الإجمالي، وهو ممارسة الجهاد جندياً وقائداً في ساحات القتال، ليطبِّق ما تعلّمه من تدريب فرديّ، على القتال بصورة عمليّة، وهذا ما نطلق عليه اليوم تعبير: تطعيم المعركة، إذ لا فائدة من التدريب الفردي إلاّ إذا طُبِّق عملياً في التدريب الإجمالي، وأفضل أنواع التدريب الإجمالي هو القتال الفِعْلِي. وكما تدرّب على الفنون العسكريّة العملية، تدرّب كذلك على الفنون العسكريّة النّظرية: أساليب القتال، والقضايا التّعبويّة، واختيار المعسكرات، وطرق الدِّفاع والهجوم، والانسحاب والمطاردة، ومعالجة الأمور العسكرية في الميدان، والقضايا الإداريّة. ويبدو لي أنّ هذه الفنون العسكرية النظريّة لم

تكن مكتوبة يومذاك في صفحات أو كتاب كما نعرفه اليوم، كما كانت معروفة بالتجربة العمليّة، يتلقّاها أصحاب الرغبة فيها من الفتيان، من أصحاب الخبرة فيها من المجاهدين والفرسان؛ وكما كان كثير من الآداب والعلوم والفنون، تُحفظ عن ظهر قلب ويلقِّنها العالِمون بها للمتعلمين، كذلك كانت علوم العسكرية وآدابها وفنونها تحفظ عن ظهر قلب، ويلقِّنها العالِمون بها الممارسون لها والمجرِّبون، للمتعلِّمين في المجال النظري والعملي، وبهذا الشكل كانت تسير أمور التّعليم والتدريب العسكريّين في القرن الأول الهجريّ، قبل تدوين العسكريّة العربيّة الإسلاميّة من بعد ذلك كما هو معروف. وقد طبّق عبد العزيز الفنون العسكريّة النظريّة عمليّاً في ميدان الجهاد، وبذلك جمع التدريب الفنّي النظري والعملي، ووضع معلوماته العسكريّة النظريّة في حيِّز التنفيذ. ولعلّ مما زاد في فرصه تعليماً وتدريباً، هو تلقّي علومه وتدريباته في كنف والده القائد الإداريّ الّلامع موسى بن نصير، وبخاصة بعد تولّي موسى إفريقيّة والمغرب في أواخر سنة خمس وثمانين الهجريّة، أو في أوائل سنة ست وثمانين الهجرية، حيث شهد فتوح موسى في المغرب، فلما عبر موسى إلى الأندلس في رمضان من سنة ثلاث وتسعين الهجريّة (1) (712 م)، ازدادت فُرص عبد العزيز التعليميّة والتدريبية عملياً في الفتوحات، حتى إذا نضج وأصبح قادراً على تولّي مهام القيادة، ولاّه أبوه موسى منصباً قيادياً، فأضاف بقيادته فتحاً جديداً على فتوح طارق بن زياد وفتوح والده موسى بن نُصير. _______ (1) ابن الأثير (4/ 215)، وفي فتح مصر والمغرب (280): إنّ موسى خرج إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين، ويحدِّد الرازي تاريخ خروجه من إفريقيّة إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين، أنظر نفح الطيب (1/ 259) وكذلك في النجوم الزاهرة (1/ 266)، وذكر عبد الملك بن حبيب أنّ موسى دخل الأندلس في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين، أنظر نفح الطيب (1/ 231).

الفاتح

وظلّ عبد العزيز في كنف والده موسى الذي كان قائداً عاماً في الأندلس وإفريقيّة والمغرب، وكان عبد العزيز في تلك المدّة قائداً مرءوساً لوالده موسى، فلمّا استُدعي موسى وطارق بن زياد من الأندلس إلى دمشق، خلّف موسى ابنه عبد العزيز على الأندلس (1) وكان ذلك في ذي الحجّة من سنة خمس وتسعين الهجرية (2) (714 م)، فأصبح والياً على الأندلس وقائداً عاماً على قوّات المسلمين فيها. ولم نجد لعبد العزيز نشاطاً في القيادة أو الإدارة أيام كان مع أبيه في إفريقيّة والمغرب، وظهر نشاطه في القيادة أولاً بعد العبور إلى الأندلس مع أبيه، ثم ظهر نشاطه في القيادة والإدارة معاً بعد رحيل والده موسى عن الأندلس، مما يدلّنا على أنّه كان في إفريقيّة والمغرب صغيراً على المناصب القياديّة والإدارية، فأصبح في أيام عبوره إلى الأندلس في عُمْر يناسب تولّي المناصب الإدارية والقيادية، فمن المحتمل أن يكون عمره سنة ثلاث وتسعين الهجرية قد جاوز العشرين على الأقل. لقد تهيّأ لعبد العزيز: العلم المكتسب، والتجربة العمليّة، فآتت ثمراتها في مناصبه التي تولاّها قائداً وإدارياً. الفاتح 1 - فتح إشْبِيْلِيّة (3) ثانية: رافق عبد العزيز أباه موسى بن نُصَير في عبوره إلى الأندلس، وكان معه في فتوحه الأندلسيّة، فلما كان موسى محاصِراً مدينة _______ (1) نفح الطيب (1/ 235). (2) تاريخ افتتاح الأندلس (36) وأخبار مجموعة (19) والبيان المغرب (2/ 30). (3) إشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس، ليس بالأندلس أعظم منها، وبها قلعة ملك الأندلس، وهي قريبة من البحر، وهي على شاطئ نهر، ويطلّ عليها جبل الشرف، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 254).

مَارِدَة (1)، ثار عجم (2) إشبِيليّة وارتدّوا وقاموا على مَن فيها من المسلمين. وتجالب فلّهم من مدينة لَبْلَة (3) وبَاجَة، وقتلوا من المسلمين نحو ثمانين رجلاً (4). وأتى فلّ المسلمين موسى من إشبيليَة وهو بماردة، فلمّا أن فتح ماردة وجّه ابنه عبد العزيز في جيش إلى إشبيلية، ففتحها وقتل أهلها. ونهض عبد العزيز إلى لَبْلَة وباجة ففتحهما أيضاً، واستقامت الأمور وعلا الإسلام (5)، ثمّ انصرف عبد العزيز إلى إشبيلية (6). وقد استعاد عبد العزيز فتح إشبيلية ثانية سنة أربع وتسعين الهجرية (7) (713 م)، وكان طارق قد فتحها لأول مرّة صلحاً، إذ صالحه أهلها على الجزية، وذلك سنة اثنتين وتسعين الهجرية (711 م)، ولكنها انتقضت _______ (1) ماردة: كورة واسعة من نواحي الأندلس، بينها وبين قرطبة ستة أيام، ولها حصون وقرى، أنظر معجم البلدان (7/ 360). (2) عجم إشبيلية: هم القوط الغربيون، وهم قسم من القوط، وجماعة رئيسة من الجرمان، انفصلوا من القوط الشرقيين في أوائل القرن الرابع الميلادي، وقد توغلوا في شمالي إسبانيا، ثمّ وسّعوا ممتلكاتهم الإسبانية على حساب الوندال. وأخيراً أصبح تاريخ القوط الغربيين في صميمه هو تاريخ إسبانيا، واعتنقوا الكاثوليكية واندمجوا مع الإسبان، وكان آخر ملوكهم لذريق الذي هزمه طارق بن زياد، أنظر الموسوعة العربية الميسرة (1407 - 1408). (3) لبلة: قصبة كورة في الأندلس كبيرة، يتصل عملها بعمل أكشونبة وغربيّ قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام: أربعة وأربعون فرسخاً، وبينها وبين إشبيلية اثنان وأربعون ميلاً، وهي بريّة بحريّة، غزيرة الفضائل والثمر والزروع والشجر، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 319). (4) البيان المغرب (2/ 22) ونفح الطيب (1/ 272) وأخبار مجموعة (18) وابن الأثير (4/ 565) والنويري (22/ 29). (5) البيان المغرب (2/ 22) ونفح الطيب (1/ 272) وأخبار مجموعة (18) وابن الأثير (4/ 565) والنويري (22/ 29). (6) البيان المغرب (2/ 22) ونفح الطيب (1/ 272) وابن الأثير (4/ 565). (7) أخبار مجموعة (18) وابن الأثير (4/ 565) والبيان المغرب (2/ 15) والنويري (22/ 29) ونفح الطيب (1/ 271).

2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

فاستعاد فتحها موسى بن نصير سنة ثلاث وتسعين الهجريّة (712 م)، ثم استعاد فتحها من جديد عبد العزيز بن موسى بن نصير سنة أربع وتسعين الهجريّة (713 م) كما ذكرنا ذلك قبل قليل. وانتقاض القوط في إشبيلية وغيرها، وشدّة مقاومتهم في كثير من المدن والمواضع، دليل واضح على أن المسلمين الفاتحين لاقوا صعوبات عظيمة في فتح الأندلس، وليس كما يزعم بعض المؤرخين الغربيين بخاصة، أنّ فتحها كان نزهة من النزهات، لا مشقّة فيها ولا صعوبة، وكانت مغانم بدون مغارم!! 2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس: وجّه موسى بن نصير ابنيه عبد العزيز وعبد الأعلى إلى جنوبي وجنوب شرقى الأندلس، وكان هذا على الأغلب بعد استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة، لأنّ أسبقيّة أهداف موسى في عبوره إلى الأندلس، هي القضاء على مراكز المقاومة الرئيسية للقوط، خشية أن تنجح في قطع خطوط مواصلات قوّات طارق بن زياد، التي تغلغلت بالعمق، فأصبحت خطوط مواصلاتها مهددة بالقطع، وكانت مراكز المقاومة القوطية الرئيسية في إشبيلية وماردة. فلمّا نجح موسى في تحقيق هذا الهدف، ونجح في استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وبَاجَة، أصبح معنياً بتأمين جناح قوّات طارق بن زياد وقوّاته الأيمن، فوجّه لتحقيق هذا الهدف ولديه: عبد العزيز وعبد الأعلى. ولم يوجّهها لتحقيق هذا الهدف قبل ذلك، كما تصوّر بعض المؤرخين الأجانب، وتابعهم بعض مؤرخي العرب والمسلمين، لأنّ موسى كان محتاجاً لقواته كافة للقضاء على المقاومة القوطية في إشبيلية ومارِدَة، وقد وجدنا ما عاناه موسى في استعادة فتح ماردة من عناء ووقت (1)، مما سوّغ له الاحتفاظ بكامل قوّاته، وبأولاده الذين هم من أخلص معاونيه ومن أقرب من _______ (1) الرازي (78) وأخبار مجموعة (16 - 18) وابن الأثير (4/ 564 - 565) والبيان المغرب (2/ 14 - 15) والنويري (22/ 28 - 29) ونفح الطيب (1/ 270 - 271) =

يشدّ أزره في الملمّات. فلما حقّق هذا الهدف، استطاع أن يوجِّه ابنه عبد العزيز أولاً، لاستعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجة، وهي من معارك استثمار الفوز، ثم وجّه عبد العزيز وعبد الأعلى وَلَديْه لتحقيق هدفه الثاني، وهو تأمين جناحه الأيمن وجناح قوّات طارق بن زياد الأيمن أيضاً. واستطاع عبد الأعلى بالتعاون مع أخيه عبد العزيز، أن يستعيد فتح مالقة (1) ( Malaga) وإِلْبِيْرَة (2) ( Elvira) ثم توجّه عبد العزيز إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد، قد التقى بالقرب من أُورْيُوْلَة (3) ( Orihuela) بالدوق تُدْمِيْر ( Theodemir) حاكم هذه المقاطعة، وكان هذا الرجل ذا خبرة عظيمة وتقدير صائب للأمور، قاوم مدة هجوم المسلمين بقيادة طارق بن زياد، ولكنّه أخفق في صدّ المسلمين، ففتحوا مقاطعته وكبدوه خسائر فادحة بالأرواح والممتلكات، فتوصّل أخيراً إلى عقد معاهدة صلح بينه وبين المسلمين في شهر رجب من سنة أربع وتسعين الهجرية (4) (نيسان - أبريل - 713 م)، وبموجب هذه المعاهدة، التي ذكر تفاصيلها المؤرخون العرب والمسلمون وغيرهم، حصل تدمير على شروط مناسبة جداً للصلح، فقد اعتُرف به حاكماً على سبعة مدن تقع ضمن منطقته، وهي: أُورْيُوْلَة، وبَلانَة (5) ( Villena) ، ولَقَنْت (6) Alicante)) ،.............................................. _______ (1) مالقة: مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (ريّة)، سورها على ساحل البحر، بين الجزيرة الخضراء والمريّة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 397). (2) إلبيرة: كورة كبيرة بالأندلس واسم مدينة أيضاً، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 322) و (2/ 320). (3) أُوْرْيُوْلَة: مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تدمير، بساتينها متصلة ببساتين مرسية، أنظر معجم البلدان (1/ 373). (4) أخبار مجموعة (12 - 13). (5) بلانة: إحدى مدن كورة تدمير بالأندلس، التي تتصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقي قرطبة، أنظر التفاصيل فى معجم البلدان (2/ 371 - 372). (6) لقنت: حصنان من أعمال لاردة بالأندلس: لقنت الكبرى، ولقنت الصغرى، وكلّ واحدة تنظر إلى صاحبتها، أنظر معجم البلدان (7/ 336).

ومُوْلَة (1) ( Mula) ، وبسْقَرة (2) ( Bigastro) وإلة (3) ( Ello) ، ولُوْرَقَة (4) ( Lorca) ، كما احتفظ بإدارته الداخلية لهذه المدن، على شرط أن يدفع جزية سنوية تقدّر بدينار ذهبي واحد، لكلّ فرد من أفراد منطقته، أما العبيد فتؤخذ عنهم نصف هذه الكمية. وقد وافق تدمير على تقديم كميات معيّنة من القمح والشعير، والخل والعسل والزيت على كلّ فرد حرّ من أفراد منطقته ونصفها على العبيد، كما وافق ألاّ يقوم أحد من رعيته بتجاهل هذه المعاهدة أو الإخلال بشروطها، وألاّ يأووا للمسلمين آبِقاً (2)، ولا عدوّاً، ولا يكتموا عنهم خبراً يتعلق بأعدائهم، وبالمقابل فإنّهم لن يُقتلوا، ولن يُسْبَوا، أو يجردوا من ممتلكاتهم، أو يُفرّق بينهم وبين أولادهم ونسائهم، ويُسمح لهم بممارسة شعائرهم الدّينية بحريّة، ولن تُحرق كنائسهم (6). وبعد استقرار الأمور في المنطقة الجنوبية الشرقيّة من شبه جزيرة الأندلس، عاد عبد العزيز إلى إشبيلية. وقد توقف قسم من المؤرخين الأجانب عند معاهدة عبد العزيز وتدمير، وناقشوا تلك المعاهدة مناقشة مَن لا يعرف حقيقة تعاليم الإسلام في القتال، وهي: الإسلام، أو الجِزية، أو القتال. وهذه التعاليم تقضي، بأنّه إذا أراد المسلمون غزو بلد من البلدان، وجب _______ (1) مولة: إحدى مدن كورة تدمير، أنظر معجم البلدان (2/ 371 - 372) وجغرافية الأندلس وأوروبا (127 و 128 و 129). (2) بسقرة أو بسكرة: إحدى مدن كورة تدمير، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372). (3) إلة: يبدو أنّها إحدى مدن كورة تدمير، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372). (4) لورقة: مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، وبها حصن ومعقل محكم، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 342). (5) آبِق: هارب. وأبَقَ: هرب، فهو آبِق وأبوق. (6) أنظر التفاصيل في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (523 - 533) ط2 - بيروت - 1393 هـ.

عليهم أولاً وقبل كلّ شيء، أن يدعو أهله إلى الإسلام، فإن أسلموا كانوا هم وسائر المسلمين سواء، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم؛ وإن لم يُسلموا دَعَوْهم أن يسلِّموا بلادهم للمسلمين، يحكمونها، ويبقى أهل البلاد على دينهم إن شاءوا، على أن يدفعوا الجزية للمسلمين، فإن قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكانوا في ذمّة المسلمين يحمونهم ويدافعون عنهم؛ وإن لم يقبلوا الإسلام، ولا الدخول تحت حكمه ودفع الجزية، أُعلنت عليهم الحرب وقوتلوا (1). تلك هي المبادئ التي تسيطر على تعاليم الإسلام في الفتح: الإسلام، الجزية، القتال، باتِّفاق الفقهاء، وبالتطبيق العملي في الفتوح الإسلامية في معارك الفتوح كافة. ولكن الذين توقفوا عند هذه المعاهدة من المؤرخين الأجانب، فزعموا: "أنّ هذا النوع من المعاهدات المتساهلة، ربما يشير إلى أنّ سياسة موسى بن نُصير، كانت تهدف إلى خلق نوع من التعاون مع سكّان البلاد في إدارتها بعد الفتح، وهذه السياسة ستمكنه من أن يضع حامية صغيرة في كلّ مدينة مهمة، ويترك إدارة شئونها الداخليّة كما كانت من قبل دون تدخّل في النظام الإداري للبلاد، وربما كان الدافع إلى ذلك، هو ظروف موسى وقلة مَن معه من رجال القبائل العرب الذين كان عددهم لا يكفي للهيمنة على كلّ الأندلس وإدارتها!! " ... الخ ... ومن المؤسف حقاً، أنّ قسماً من المؤرخين العرب والمسلمين تابعوا هذه الأفكار الأجنبية، وما فعله عبد العزيز، كما لم يفعل موسى وسائر قادة الفتح الإسلامي، غير تطبيق تعاليم القتال في الإسلام نصّاً وروحاً، فدفع تدمير الجزية، كما دفع غيره الجزية شرقاً وغرباً، فبقي وبقوا في قيادة أنظمتهم، وأصبحوا من أهل الذِمّة، ولأهل الذمّة رعاية في الإسلام، تتسم بالتسامح _______ (1) أنظر التفاصيل في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (523 - 533) ط2 - بيروت 1393 هـ.

3 - فتوح البرتغال:

والتواصل لا يعرفها دين من الأديان الأخرى، وهي من صلب تعاليم الإسلام. 3 - فتوح البرتغال: في الوقت الذي كان موسى بن نُصَيْر وطارق بن زياد، يقومان بفتوحاتهما في شمالي الأندلس، كان عبد العزيز يقوم بفتح وسط البرتغال. فقد عاد عبد العزيز كما ذكرنا، إلى إشبيلية، ومن ثم إلى مارِدَة، حيث ولاّه أبوه القيادة العامة للبلاد المفتوحة، ومن باجَة زحف إلى يَابُرَة (1) ( Evora) وشَنْتَرِيْن (2) ( Santaren) وقُلُمْرِيَّة (3) ( Caimbra) ، وظلّ متجهاً إلى أقصى الغرب، بقصد ملاقاة الفرق الإسلامية في أَسْتُرْقَة (4) ( Astorga) . وقد قام عبد العزيز بهذا الفتح قبل رحيل أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق: "فلم يبق في الأندلس بلدة دخلها المسلمون بأسيافهم، وتصيّرت ملكاً لهم، إلاّ قسّم موسى بن نُصير بينهم أراضيها، إلاّ ثلاثة بلاد، وهي: شَنْتَرِيْن وقُلُمْرِيَّة في الغرب، وشَيَّة (5) في الشرق، وسائر البلاد خُمِّسَت وقُسِّمت بمحضر _______ (1) يابرة: بلد في غربي الأندلس، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 849)، وتقع في البرتغال الحالية. (2) شنترين: مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة، في غربي الأندلس، ثم في غربي قرطبة، على نهر تاجة، قريب من انصبابه في البحر المحيط، وهي حصينة، بينها وبين قرطبة خمسة عشر يوماً، وبينها وبين باجة أربعة أيام، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 300) وتقويم البلدان (172 - 173). (3) قلمرية: مدينة في غربي الأندلس، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 151)، وتقع في البرتغال الحالية. (4) أسترقة: إحدى مدن ولاية ماردة المهمة، وهي أي ولاية ماردة هي ولاية البرتغال القديمة، وهي في شمالي البرتغال حالياً، أنظر: دولة الإسلام في الأندلس (69 و130). (5) شَيَّة: تقع في منطقة لاردة ووشقة ( Huesca) ، وهي ضمن الثغر الأعلى الذي كانت سرقسطة عاصمته، أنظر: جغرافية الأندلس وأوروبا (95)، والمعلومات عن هذه المدينة الأندلسية قليلة.

التابعين الذين كانوا؟ مع موسى بن نُصير" (1)، ومعنى هذا عبد العزيز افتتح شَنْتَرِيْن وَقُلُمْرِيَّة صلحاً، وذلك أثناء وجود أبيه في الأندلس، وبذلك فتح ما بقي من مدائن الأندلس (2). ومن الواضح، أنّ طارقاً وموسى، لم يفتحا جميع أنحاء شبه الجزيرة الأندلسيّة، فبقيت مناطق لم تصل إليها جيوش الإسلام بعد. وقد تجمّعت في بعض الأقاليم غير المفتوحة، وفي الجيوب الجبليّة النائية الوعرة، مراكز للمقاومة القوطية ضدّ المسلمين، فاقتضى الأمر إخماد تلك المقاومات وإتمام فتح الأندلس (3). ولم يكن موسى، ليترك ابنه عبد العزيز - وهو القائد الذي عرف بشجاعته ومهارته - عاطلاً في أيامه. ولو مضى عبد العزيز مع قوّات أبيه في فتوحه شمالاً، لظهر له أثر واضح في الفتح كما ظهر لغيره مثل طارق بن زياد، وذلك في الصفحة الأخيرة من فتوحات موسى بن نُصير. كما أنّ وجود عبد العزيز في باجَة القريبة من تلك المناطق غير المفتوحة، لابدّ أن يغريه بفتحها. والأهم من كلِّ ذلك، أنّ الموقف العسكري الذي كان موسى يحسب حسابه بكلّ دقّة، يحتِّم عليه أن يحمي جناح تقدّمه الأيسر، فقد كان هذا الجناح مكشوفاً أيام طارق بن زياد، وأصبح مكشوفاً بعد تغلغل موسى في فتوحه شمالاً، وإلاّ تعرّض جناحه الأيسر لتهديد المقاومة القوطيّة، وتعرضت خطوط مواصلاته الطويلة إلى تهديد العدو القوطيّ الرابض في غربي الأندلس (البرتغال)، فلم يكن باستطاعة موسى أن يتقدّم شمالاً في فتوحه، ما لم يؤمِّن جناحه الأيسر، بالقضاء على مراكز المقاومة القوطيّة، وذلك بفتح تلك المراكز، التي هي المدن البرتغالية، ولم يكن هناك أولى بفتحها من عبد _______ (1) الرحلة الشريفيّة إلى الأقطار الأندلسية (200). (2) تاريخ افتتاح الأندلس (36). (3) قادة فتح المغرب العربي (1/ 273).

العزيز الذي كان في باجَة القريبة من غربيّ الأندلس. والذي يؤيد أن عبد العزيز فتح ما فتح في شرقيّ الأندلس وفي غربيّ الأندلس، في أيام وجود أبيه موسى في الأندلس، وليس بعد رحيله عنها إلى دمشق، أنّ هذا الفتح كان لتأمين جناحيّ قوّات طارق بن زياد وموسى بن نُصير بعد عبوره إلى الأندلس، ولتأمين خطوط مواصلات قوات المسلمين المندفعة عمقاً نحو الشمال، للقضاء على المقاومة القوطية الرئيسة في عقر دارها في المناطق الوعرة والجبليّة، ولفتح المدن والمناطق الأندلسيّة غير المفتوحة في شمالي الأندلس. فلما أتمّ موسى تحقيق أهدافه في الفتح، وأتمَّ طارق بن زياد تحقيق أهدافه في الفتح أيضاً، وأكمل عبد العزيز تأمين خطوط مواصلات قوات المسلمين بقيادة موسى وطارق المتغلغلة بالعمق شمالاً، وأكمل تأمين جناح تلك القوات الأيمن وجناحها الأيسر، وفتح ما فتح شرقاً وغرباً، ولم يبق أمامه غير ترصين ما فتحه، فلما غادر موسى الأندلس إلى الشام وبرفقته طارق بن زياد، أصبح على عاتق عبد العزيز ترصين ما فتحه موسى وطارق إضافة إلى ما فتحه هو، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، وبخاصة وأنّه لم بمكث طويلاً على الأندلس بعد رحيل والده موسى عنها، إذ رحل هو الآخر عنها لا إلى دمشق، كما فعل أبوه، بل إلى جوار الله، كما سيرد ذلك وشيكاً. وبهذه المناسبة فقد أثار بعض المؤرخين الأجانب بعض التساؤلات عن عبد العزيز وتابعهم عليها بعض المؤرخين العرب والمسلمين، فقالوا: "وبعد إقرار الأمور في المنطقة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة، عاد عبد العزيز، إما حسب رغبته، وإمّا لأنّه استُدعي من قبل والده"، وهذا التساؤل وأمثاله لا محلّ له ولا مسوِّغ، فتوجيه عبد العزيز للفتوح شرقاً وغرباً، كان ضمن الخطّة السَّوْقِيّة للفتح، وأهدافه تعيَّن له من القائد العام الذي هو أبوه موسى بن نُصير، فالقائد المرءوس مقيّد بتنفيذ الخطّة العامة ومسئول عن تنفيذ الجزء الخاص به منها، وله الحرية الكاملة في تنفيذ ما يخصه من الخطة السوقية

بطريقته التعبويّة الخاصة، فإذا أنجز واجبه كاملاً، فإنّ توجيهه لتنفيذ واجب جديد ضمن الخطة السَّوْقِيّة، يكون بأمر القائد العام وليس حسب رغبته وهواه، فليس للرغبة والهوى مجال في مثل هذا المجال، بل هي أوامر يصدرها القائد العام، وينفذها القائد المرءوس، وليس في الأمر رغبة شخصية، بل الأمر كلّه واجب ينفّذ، والضبط المتين هو السائد، والموقف جدّ صارم وطاعة كاملة. وتمّت فتوح عبد العزيز خلال سنة أربع وتسعين الهجرية (713 م) وسنة خمس وتسعين الهجرية (714 م)، أي حين كان أبوه موسى على الأندلس، ولا أرى أنّ القوّات التي قادها عبد العزيز كانت قوات جسيمة، بل هي قوات خفيفة، مؤلّفة من الفرسان، سريعة الحركة، تستغل قابليتها في التنقّل السريع، لتحقيق أهدافها في الفتح. ذلك لأنّ المقاومة القوطيّة كانت تتمركز في المناطق الوعرة والجبلية في شمالي الأندلس، وفي المدن الأندلسية الشمالية النائية، وكان على موسى وطارق بن زياد، أن يقضيا على جذور المقاومة وعلى أصولها، وأن يجتثا جذورها من مراكزها الرئيسة في المناطق الوعرة والجبليّة في شمالي الأندلس، والمدن الأندلسية الحصينة في تلك المناطق الصّعبة النائية، لذلك كان من الصّعب الاستغناء عن قسم كبير من قوّات المسلمين التي كانت تعمل بقيادتهما المباشرة، لأنّ هدفهما في تطهير المقاومة القوطيّة، وفتح المدن الأندلسية الشمالية كانا بحاجة ماسة إلى قوّات جسيمة، لإمكان تهيئة أسباب تحقيقهما، كما أنّ المقاومة القوطية في وسط البرتغال، لم تكن مقاومة عنيفة، ولا يمكن مقارنتهما بالمقاومة القوطيّة في شمالي الأندلس، لذلك اكتفى موسى بتخصيص قوّات خفيفة لابنه عبد العزيز من أجل تحقيق أهدافه في تفتيت المقاومة القوطية في غربيّ الأندلس وفتح مدنها، فنجح عبد العزيز في ذلك نجاحاً باهراً.

الإنسان

الإنسان اْوّل ما ظهرت كفاية عبد العزيز الإداريّة بوضوح، كان بالصّلح الذي عقده بينه وبين تدمير. وهذا هو نص كتاب الصّلح الذي كتبه عبد العزيز بن موسى، لتدمير بن غبدوش: بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ من عبد العزيز. إلى تدمير. أنّه نزل على الصّلح، وأنّه له عهد الله وذمّته، أن لا يُنزع عنه ملكه، ولا أحداً من النصارى عن أملاكه، وأنهم لا يُقتلون ولا يُسبون، أولادهم ولا نساؤهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا تحترق كنائسهم ما تَعَبّد كذا، (وصحتها تقيّد) وما نَصَح، وأنَّ الذي اشتُرط عليه أنّه صالح على سبع مدائن: أوريولة وبَلَنْتِلَة ولقنت ومولة وبَقْسَر وأنَّهْ ولورقة، وأنّه لا يأوي لنا عدوّاً، ولا يخون لنا أمناً، ولا يكتم خبراً عَلِمَهُ، وأنّه عليه وعلى أصحابه دينار كلّ سنة، وأربعة أمداد قمح، وأربعة أمداد شعير، وأربعة أقساط طِلا (1)، وأربعة أقساط خلّ، وقسط عسل، وقسط زيت، وعلى العبد نصف ذلك. كتب في رجب من سنة أربع وتسعين من الهجرة. شهد على ذلك: عثمان بن أبي عبيدة القرشيّ، وحبيب بن عبيدة الفِهريّ، وعبد الله بن ميسرة الفهميّ، وأبو قائم الهُذَلِيّ" (2). وبهذه المعاهدة أصبح تدمير ومَن بقي معه على النصرانية، من أهل الذمة، في حماية المسلمين ورعايتهم، ولا مجال للتعليلات التي ذهب إليها _______ (1) الطِّلا: الطِّلاء، وهو ما طبخ من عصير العنب. ص: 259. (2) بغية الملتمس - طبعة مدريد 1884 - 1885 م ص: 259 والرازى في ترجمته الإسبانية، الفقرة (12) نقلاً عن: فجر الأندلس (114 - 115).

المستشرقون، وتابعهم عليها بعض المؤرخين العرب والمسلمين، فمكانة أهل الذمّة بين المسلمين معلومة، وحمايتهم واجية، ورعايتهم أمانة، والالتزام بالعهود مُحَتَّم على المسلمين. ومن الواضح أن عبد العزيز عقد هذه المعاهدة في أيام أبيه على الأندلس، لأنّها عُقدت سنة أربع وتسعين الهجريّة، وموسى بن نُصير غادر الأندلس سنة خمس وتسعين الهجرية، فلا مجال للتشكيك في موعد عقدها. وتدمير هذا هو ابن ( Ergobados) (1) ، وهو يقرأ: إمّا غوبادوش أو جوبادوش، وهو قريب من الاسم العربي الذي أطلقه عليه العرب (2)، وكان تدمير أحد كبار قادة غيطشة ملك الأندلس الذي اغتصب ملكَه لذريقُ، وكان نصرانياً مثقفاً، استطاع بعلمه وفضله اكتساب احترام المسلمين. وما دام تدمير لم يُسلم، وعقد الصّلح مع المسلمين على الجزية، فقد أصبح من أهل الذمّة، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. وحين غادر موسى بن نُصير الأندلس، ولّى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وترك معه مَن يعاونه من أقدر الرجال، مثل حبيب بن أبي عُبَيْدَة الفِهْرِي، أحد أحفاد عُقْبَة بن نافع الفِهْرِي، وترك مع ابنه كثيراً من القادة المسلمين الآخرين مع أفراد قبائلهم، ليدافعوا عن الأندلس (3) ويحموه، وقد اختار موسى إشبيلية عاصمة للبلاد، بسبب قربها من البحر والمضيق، كما جعلها أيضاً قاعدة بريّة بحرية للمسلمين في الأندلس (4). وبدأت مشاكل عبد العزيز، بعد مغادوة موسى الأندلس إلى دمشق، _______ (1) Saavedra. OP. Cit. P. 81 (2) كما جاء ذلك في: بغية الملتمس (269 و 337 و 400) وفي نظم العقيان لأحمد بن أنس العذري: غبدوش. (3) أخبار مجموعة (19) وفتح الأندلس (17) وابن الأثير (4/ 566) والبيان المغرب (2/ 23) ونفح الطيب (1/ 271) وابن خلدون (4/ 255). (4) أخبار مجموعة (19) ونفح الطيب (1/ 276) والرسالة الشريفية (210) وابن الأثير (4/ 566).

فأصبح يحارب في جبهتين: الجبهة الداخلية المتمثلة في الطّامعين بحكم الأندلس، المنافسين له على ولايتها، يشجِّعهم على ذلك موقف الخلافة من موسى بن نُصَير، في اضطهاده ومحاسبته حساباً عسيراً، فكان التيار السّائد على عبد العزيز لامعه. والجبهة الخارجية، المتمثلة بالمقاومة القوطيّة المتربِّصة بالفاتحين، التي تنتهز الفرصة للانقضاض على الفاتحين، وإعادة المناطق المفتوحة إلى الحكم القوطي من جديد. وقضى عبد العزيز في ولايته نحو سنتين، عنى خلالهما بتحصين الثُّغور وقمع الخروج والعصيان، وأبدى همّة في تنظيم الحكومة الجديدة وإدارتها، وأنشأ ديواناً لتطبيق الأحكام الشرعيّة وتنسيقها. وشجع الزواج بين العرب والإسبان، وتزوج أجيلونا (إيجلونا) التي تسميها المراجع العربية: أَيْلُه (أيلونا) أو أم عاصم، وكانت أيلونا قبل ذلك زوجاً للذريق (1)، فيما تذهب إليه المراجع: "وكانت قد صالحت على نفسها في وقت الفتح، وباءت بالجزية، فأقامت على دينها، فحظيت عنده وغلبت على نفسه" (2) فتزوجها بعد خروج أبيه موسى من الأندلس، فجاءته من الدنيا بشيء كثير لا يُوصف (3). وانتهز الطامعون بولاية الأندلس، المنافسون له بولايتها فرصة زواجه بأيلونا المسيحيّة، فزعموا أنّها ملكت زمام زوجها، فتابعها في كثير مما أرادت (4)، وأنّها عملت له تاجاً من الذّهب والجوهر، وحملته على أن يلبسه، لأنّ: "الملوك إذا لم يُتوّجوا، فلا ملك لهم" كما قالت، وما زالت به حتى قَبِل أن يلبسه إذا خلا إليها، فشاع تتويجه في خيار جند المسلمين، فلم _______ (1) وقال الواقدي ونقله ابن عبد الحكم، إنّها كانت ابنة لذريق لا زوجته، أنظر أخبار مصر (212) وفتوح مصر والمغرب (285) والبيان المغرب (2/ 23)، وضبطت فيه أَيْلُه. (2) فتح الأندلس (21) وابن الأثير (5/ 22). (3) فتوح مصر والمغرب (285). (4) فجر الأندلس (130).

يكن لهم هَمٌّ إلاّ كشف ذلك، حتى رأوه عياناً، فقالوا: تنصّر! ثم هجموا عليه، فقتلوه (1). ولم تقف حرب الإشاعة على عبد العزيز إلى هذا الحد، ويبدو أنّ قصّة لبس التاج وتنصّره، تؤثِّر في الرأي العام لجند المسلمين في الأندلس، باعتبار أنّهم يرفضون كلّ انحراف عن تعاليم الإسلام، ولكنّ مثل تلك الإشاعة، لا تؤثّر في الذين خبروا مزايا عبد العزيز تقيّاً نقيّاً ورعاً، كما لا يصدِّقها العقلاء الذين في السُّلطة أو خارجها، فأشاعوا أنّه: "لما بلغ عبد العزيز بن موسى ما نزل بأبيه وأخيه عبد الله بن موسى الذي كان في القيروان على إفريقيّة والمغرب وآل بيته، خلع الطاعة وخالف، فأرسل إليه سليمان بن عبد الملك رسولاً فلم يرجع، فكتب سليمان إلى حبيب بن أبي عبيدة بن عُقبة بن نافع ووجوه العرب سراً بقتله، فلما خرج عبد العزيز إلى صلاة الفجر، قرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ سورة الواقعة، فقال له حبيب: حقّت عليك يا ابن الفاعلة! وعلاه بالسيف، فقتله" (2)، وقد ركز قسم من المستشرقين على تصديق اتّجاه عبد العزيز إلى الاستقلال عن الخلافة بالأندلس (3)، وتابعهم على تصديق هذا الزّعم المتهافت قسم من مؤرخي العرب والمسلمين. وأمّا القول بأنّ الخليفة سليمان بن عبد الملك أوعز بقتله، فقول لا يجد ما يؤيِّده من الواقع ومن التفكير السّليم، لأنّ الخليفة لم يكن عاجزاً عن عزله إن أراد، وقد سبق للخليفة عزل أبيه موسى وهو أقوى منه وأكبر مكانة وأنصع تاريخاً وأكثر أتباعاً، فعزله بسهولة ويسر، واستخرجه من الأندلس مع رجل أو رجلين من رجال للخليفة، دون أن يستطيع موسى تحريك ساكناً. كما لم يكن سليمان ليخشى ثورته بالجند، لأنّ الجند كان مختلفاً عليه، وليس _______ (1) البيان المغرب (2/ 23). (2) البيان المغرب (2/ 23 - 24) وفتح الأندلس (23). (3) أنظر مثلاً: Losmozarales de Espana,:ibid, p. 778 Vol, 1, p.147-C.Julian F.j.Simonet: Historia de

بمعقول أن يكون حقد سليمان على عبد العزيز أشدّ من حقده على أبيه موسى، ما أوعز سليمان بقتل موسى ولا فكّر بذلك، ولا قتله حين أصبح في دمشق رجلاً بلا غد. ومصداق ذلك، أن سليمان لما بلغه: "مقتل عبد العزيز بن موسى، شقّ ذلك عليه، فولّى إفريقيّة عُبَيْد الله بن يزيد القريشي، لا أدري لمن من قريش (يريد محمد بن يزيد مولى قريش والي إفريقية)، وإلى إفريقيّة كان أمر الأندلس وطَنْجَة وكلّ ما وراء إفريقية، وأمره سليمان فيما فعله حبيب بن أبي عُبَيْدة وزياد بن النّابغة من قتل عبد العزيز، بأن يتشدّد في ذلك، وأن يقفلهما إليه ومَن شركهما في قتله من وجوه النّاس. ثمّ مات سليمان، فسرّح عبيد الله بن يزيد والي إفريقيّة على الأندلس الحرَّ بن عبد الله الثَّقفي، وأمره بالنظر في شأن قتل عبد العزيز" (1) مما يفهم صراحة أنّ الأمر دُبِّر بغير علم الخليفة، وأنّ الخليفة لا علاقة له بقتل عبد العزيز. ولم يكن من سمات خُلق سليمان بن عبد الملك الإقدام على الاغتيالات أو التحريض عليها، فقد وصف سليمانَ المؤرِّخون بأنّه: "مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السُّجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز" (2)، فلا يتّهمه بالاغتيال، أو يصدِّق هذا الاتّهام، عاقل غير متحيِّز. كما أنّ عبد العزيز، لو أراد الاستقلال بالأندلس عن الخلافة، لأعدّ لذلك عدته، التي من أوّلها: إبعاد غير الموثوق بهم من صفوف جنده، واتِّخاذ الحماية الكافية لنفسه، وتقريب مَن يعينه سلى تحقيق ما يصبوا إليه. ولم يتّخذ عبد العزيز شيئاً من هذه التدابير، ولو اتّخذ شيئاً منها، لما سهل على الطّامعين والمنافسين له اغتياله بسهولة ويُسر. أمّا اتِّهامه بأنّه ضعيف مترف مُستَخذٍ لزوجه، وأنّه تنصّر، فلا سبيل إلى تصديق ذلك، فقد أقام مع زوجه أيلونا في دار متواضعة قريبة من موضع _______ (1) أخبار مجموعة (22 - 23). (2) الطبري (5/ 304).

اجتماع المسلمين ومكان صلاتهم. ولو كان ضعيفاً مترفاً لسكن أحد قصور إشبيلية الفخمة، ولما استقرّ في دار متواضعة، ليكون قريباً من رجاله ومن مسجده. أمّا أنّه تنصّر، فقد كان خيّراً فاضلاً (1)، ومن خير الولاة (2)، ولمّا أُحضر رأس عبد العزيز بين يدي سليمان، حضر أبوه موسى، فقال له سليمان: "أتعرف هذا؟ "، قال: "نعم، أعرفه صوّاماً قوّاماً، فعليه لعنة الله إن كان الذي قتله خيراً منه" (3). والمعقول، أنّ عبد العزيز ذهب ضحيّة الطامعين بولاية الأندلس والمنافسين له على الحكم، وبخاصة بعد أن أصبح أبوه موسى وأهل بيته من المغضوب عليهم، فكان موقف عبد العزيز في مدّة ولايته ضعيفاً، وأصبحت الفرصة سانحة أمام الطّامعين والمنافسين له: "ثمّ اجتمعوا على أيوب بن حبيب الَّلخْمِيّ الذي قُتل عبد العزيز بمشورته"، مما يدلّ بوضوح على أنّ الأمر تمّ في الأندلس بعد أن تشاور الطّامعون والمنافسون له، فشنّوا حرب الإشاعة، وكان موقف عبد العزيز يومئذ بعد نكبة أبيه واهناً، فنجح أعداؤه في قتله وتولّى السّلطة بعده، ولو إلى حين. ويبدو أنّ حال عبد العزيز مع جنده لم يكن على ما ينبغي، لا لأنّهم كانوا ساخطين عليه، بل لأنّ نفراً منهم كان شديد التّطلع والطموح، وكان هؤلاء النّفر في الظّاهرين في جنده وكبار رجاله. لقد أصبح عبد العزيز والياً على الأندلس منذ مبارحة أبيه موسى الأندلس في صفر من سنة خمس وتسعين الهجرية (تشرين الأول - تشرين الثاني - أكتوبر - نوفمبر من سنة 713 م)، وجرى اغتياله في رجب سنة سبع وتسعين _______ (1) نفح الطيب (1/ 234) وابن الأثير (5/ 489). (2) نفح الطيب (1/ 281). (3) جذوة المقتبس (271) وبغية الملتمس (386).

الهجرية (1) (كانون الثاني - يناير من سنة 716 م)، فقضى في ولايته زهاء عامين فقط، أنجز ما أنجز خلالهما من أعمال جِسام، ذكرنا قسماً منها، وكان بإمكانه أن ينجز أعمالاً أكبر مما أنجزه وأكثر، لولا أنّ نفسه كانت طوال أيام ولايته مروّعة ينتابها الخوف على مصير أبيه موسى بن نُصير، ومصير أسرته، فمال إلى السّكون والانتظار والترقب، وبهذا وحده يمكن أن نعلّل عدم نشاطه في العمل (2)، وقد عرفناه إلى ذلك الحين رجلاً مقداماً نشيطاً لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ويُتعب من يعمل معه دون أن يَتعب، فقد كان من أولئك القلائل الذين لا ينامون ولا يُنيمون. ولا عبرة في ذكر شيء من حرب الإشاعة في بعض المصادر المعتمدة، التي أشاعها أعداء عبد العزيز عليه طمعاً بولاية الأندلس ومناصبها العليا، فقد تردّد ذكرها على ألسنة الناس وتناقلوها دون تدقيق ولا تمحيص، فسجّلها أحد المؤرخين ثقة بها أو كشفاً لزيفها، ثمّ تناقلها عنه غيره بالتدريج، ولا غبار على أنّها من الإشاعات المغرضة التي لا تُصدّق، فما كلّ ما خطّته المصادر صواب، ولا يخلو مصدر من هفوات. وقد كان موسى بن نُصير من التابعين (3)، فيكون عبد العزيز ابنه من تابعي التابعين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. _______ (1) البيان المغرب (2/ 34)، وأنظر جذوة المقتبس (271)، وفي بغية الملتمس (386): أنّه قتل سنة تسع وتسعين الهجرية. (2) فجر الأندلس (129). (3) تاريخ العلماء والرواة بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (457) ووفيات الأعيان (4/ 402) والبداية والنهاية (9/ 171).

القائد

القائد لئن كان طارق بن زياد، قد ترك ثغرة خطرة على فتحه، بالرغم من عظمة ذلك الفتح، هو تغلغله بالعمق في الأندلس، إلى مسافات لا تتناسب مع ما كان لديه من قوّات، فكانت خطوط مواصلاته مهدّدة بالانقطاع عن قاعدته الأمامية المتقدِّمة في جبل طارق، وقواعده في طَنْجَة وسَبْتَة والقيروان، وكان جناحاه الأيمن والأيسر مهددين بحشود المقاومة القوطية المتنامية. ولكن اعتماد طارق على قيادة موسى بن نُصير، قائده المباشر، سوّغ له هذا التغلغل عمقاً في الأندلس، لأنّه كان يثق ثقة مطلقة بأنّ موسى لن يتركه وحده في مصاولة القوط، ولن يسمح للمقاومة القوطية أن تقطع خطوط مواصلاته، أو تعرِّض جناحيه للخطر الدّاهم، وفعلاً كان موسى عند حسن ظنِّ طارق به، فلم يفسح المجال للمقاومة القوطية أن تلحق الضرر بقوّات طارق، وعمل على ملافاة الخطر من تغلغل طارق فوراً وفي الزمان والمكان المناسبين. ولئن كان الهدف الرئيس من عبور موسى بن نُصير إلى الأندلس، هو لحماية قوّات طارق من خطر تعرّض خطوط مواصلاتها للانقطاع، ومن خطر تعرّض جناحيها للتهديد المعادي، ولحرمان المقاومة القوطية من محاولة قطع خطوط مواصلات قوّات طارق وتهديد جناحيها المكشوفَيْن. فإنّ عبد العزيز في الواقع، هو الذي نفذ عملياً خطّة الانقاذ لقوات طارق التي وضَعها موسى، وعبر إلى الأندلس من أجل تنفيذها، فاستعاد فتح إشبيلية من جديد، ورصّن قوّات المسلمين في لَبْلَة وباجَة، وبذلك حمى خطوط مواصلات طارق وموسى من القطع، كما فتح جنوبيّ وجنوب شرقي الأندلس، وبذلك حمى جناح قوّات طارق وموسى الأيسر، فأصبحت بذلك قوّات المسلمين في الأندلس، على الرغم من تغلغلها عمقاً نحو الشمال، في أمان واطمئنان، ولا تخشى قطع خطوط مواصلاتها، ولا تحذر تهديد

جناحيها، وتفتّتت المقاومة القوطيّة شرقاً وغرباً، وأصبح الفتح الأندلسي فتحا مستداماً، ولم يبق للمقاومة القوطية أثر ولا تأثير إلاّ في الجبال الشمالية التي تفصل بين الأندلس من جهة وفرنسا من جهة أخرى. لقد كان أثر عبد العزيز بمعاونة أخيه عبد الأعلى، في الفتح الأندلسيّ، وفي ترصين ذلك الفتح، وفي حماية القوّات الإسلامية الفاتحة، عظيماً للغاية في واقعه وفي حاضر المسلمين في الأندلس ومستقبلهم، دون أن يُعطى الأهمية المناسبة له من المؤرخين قديماً وحديثاً. فهو الذي تولّى الأندلس: "بعد قُفُول أبيه عنها ... فضبط سلطانها، وضمّ نَثَرَها، وسدّ ثغورها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، مما كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلاّ أنّ مدّته لم تطل ... " (1). ومعنى ذلك، أنّ بقاءه والياً لم يطل أمده، لتظهر مزاياه القيادية في الفتوح وفي إحراز الانتصارات الباهرة. وبالإمكان إضافة عامل آخر، على قِصر مدّته والياً، هو أنّ ظروفه الراهنة، بعد غضب الخلافة على أبيه موسى وعلى أهل بيته، لم تكن ملائمة لاستئناف الفتوح وإحراز الانتصارات، إذ كان هو الآخر مصيره معلّقاً في مهبّ الريح، ومن المتوقّع أن يُصيبه ما أصاب أباه وأهل بيته عاجلاً أم آجلاً، فكان بحقّ منهكاً نفسياً، لا يدري ما تخبِّؤه له الأيام من مِحَن ومصائب، ولا يستطيع والٍ في مثل موقفه هذا غير المضمون أن يفعل ما فعله عبد العزيز أو يحقِّق ما أنجزه. ومن المعلوم أنّ الوالي يومئذ هو القائد العام على البلاد، فهو إداريّ وقائد، يعمل في القضايا الإداريّة، كما يعمل في القضايا العسكرية، فهو إداري وقت السّلام، إداريّ وقائد وقت الحرب. وقد ظهر لنا، أنّ عبد العزيز قد تهيّأت له في أيامه الأولى مزيتان من مزايا القائد الّلامع، هما: العلم المكتسب، والتجربة العمليّة. _______ (1) نفح الطيب (1/ 181) وأنظر البيان المغرب (2/ 24).

وبقي علينا، أن نتدارس معاً، المزيّة الثالثة للقائد الّلامع، وهي: الطبع الموهوب، لاستكمال دراسة المزايا الثلاث: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية. إنّ مفتاح شخصيّة عبد العزيز القياديّة، هو أنّه إذا قرّر فتح مدينة من المدن أو منطقة من المناطق، ووضع الخطة التّعبويّة المناسبة لتحقيق هدفه، فإنَّه يبذل قصارى جهده لتحقيق هدفه بالحُسنى، فيفاوض لعقد معاهدة للصّلح، تجعل التعايش بين الغالب والمغلوب ممكناً، وتقلّل من الخسائر المادية - وبخاصة في الأرواح - بين الجانبين المتحاربين، وتجعل بنود السّلام تخفق على رءوس المتحاربين بدلاً من أن تدقَّ بينهم طبول الحرب. فإذا نجح في تحقيق هدفه بالسّلام لا بالحرب، فذلك ما يصبو إليه ويتمناه، وإلاّ فلا مفرّ من القتال، إذا لم يبق من وسيلة للتفاهم إلاّ القتال. والأسبقية في تحقيق الهدف، بالنسبة لعبد العزيز، هو للسَّلام أولاً، وللقتال ثانياً، إذا لم يُفلح في تحقيق هدفه بالسَّلام، وإذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً، فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها، والكيّ آخر الدواء. وهو في هذه المزية القياديّة، يشابه أبا عُبَيْدَة بن الجّراح رضي الله عنه (1)، وهو على طرفي نقيض من خالد بن الوليد رضي الله عنه (2)، وطارق بن زياد رحمه الله، فقد كان خالد وطارق شديدين على الأعداء: إمّا أن يستسلم لهم العدو فوراً، وإلاّ قاتلوه بعنف شديد فوراً، حتى يستسلم لهما عَنْوَة دون قيد أو شرط. وقد عقد عبد العزيز معاهدة للصلح بينه وبين تدمير، جعلت التّعايش بين المسلمين والإسبان في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس ممكناً ومريحاً، ولكنّه لم يستطع أن يعقد معاهدة للصلح بينه وبين ما فتحه من مدن غربي _______ (1) أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح الشّام ومصر (54 - 81). (2) أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (51 - 237) وكتابنا: خالد بن الوليد المخزوميّ.

الأندلس في البرتغال، فنشب القتال بين المسلمين والقوط، ولكن هذا القتال كما يبدو لم يكن عنيفاً لا يُبْقي ولا يَذَر، بل كان كالدواء يتناوله المريض للشفاء، فإذا شفي أو قارب حدود الشفاء، تخلّى عن الدواء. وهكذا كان القتال في غربي الأندلس، قليل الخسائر على الجانبين، فلمّا تمّ الفتح بادر عبد العزيز إلى مواساة المتضرّرين من جرّاء القتال. فإذا تجاوزنا مفتاح شخصية عبد العزيز القياديّة، إلى سمات قيادته بإيجاز، نجد أنه كان يتحلّى بسمة: إصدار القرار الصحيح السّريع، فقد كان ذكياً حاضر البديهة متعلِّماً، مثابراً على الحصول على المعلومات عن العدو، والأرض التي يقاتل عليها، من شتى مصادر الحصول على المعلومات، ومنها العيون والاستطلاع. وكان يتحلّى بالشجاعة والإقدام، فكان يقود رجاله من الأمام، ولا يقودهم من الخلف، ويكون أُسوة حسنة لرجاله بشجاعته الشّخصيّة. وكان ذا إرادة قويّة ثابتة، إذا عزم على أمر نفّذه، وإذا أصدر أمراً أصرّ على تنفيذه، وكان يُقدم على تحقيق أهدافه في الفتح بعزم وإصرار. وكان من أولئك القادة الذين يتحملون مسئولياتهم كاملة، ولا يتهرّبون منها، أو يلقونها على عواتق الآخرين. وكان ذا نفسية لا تتبدّل في حالتي النّصر والاندحار، واليُسر والعُسر، فما عرفناه ضَعُفَ أو أبدى ضعفاً، حين أصبح والده موسى مغضوباً عليه من الخليفة، بل ظلّ يزاول أعماله، أقوى ما يكون ثباتاً ونشاطاً، حتى أتاه اليقين. وكان يتمتّع بمزية: سبق النّظر، فيتوقّع ما سيحدث، ويتصوّر ما سيقع، ويُعدّ لكلّ شيء عدّته حلاًّ لما عسى أن يجابهه من معضلات. وكان يعرف نفسيّات رجاله وقابلياتهم، فيكلِّف كلّ واحد منهم ما يناسبه من واجبات تناسب نفسيته وقابليته، ولكنّه لم يكن يعرف نيّات مَنْ حوله من كبار رجاله، فتآمروا على اغتياله دون أن يكتشف نياتهم قبل وقت مناسب من

التنفيذ، لأنّه لم يؤذِ أحداً منهم، ولم يَظلم أحداً، فما كان يتوقع أن يؤذيه أحد أو يظلمه، وكان عليه أن يحتاط لنفسه، فالوقاية خير من العلاج. وكان يثق برجاله ويثقون به، والتآمر على اغتياله ليس دليلاً على عدم ثقة رجاله به، وهؤلاء الذين تآمروا عليه يُعدّون على الأصابع، وهم لا يمثِّلون سائر رجاله، الذين كانوا يبادلونه ثقةً بثقة، ويرونه قائداً يستحق الثقة الكاملة به. وكان يحب رجاله، ويبادلونه حبّاً بحب، وآية حبّه لهم أنّه حرص على أرواحهم في ميادين القتال، فلم يقاتل إلاّ بعد أن أعيته وسائله كافة في تحقيق أهدافه بدون قتال. كما أنّه لم يفرّط برجل من رجاله بأي شكل من الأشكال وبأي أسلوب من الأساليب، وأبقاهم حوله بتماس شديد معه، حتى رحل إلى جوار الله. وكان ذا شخصية قويّة نافذة مؤثِّرة فيمن حوله من رجاله ومن الإسبان الذين فتح بلادهم، ولولا تلك الشخصية المتميِّزة، لما استطاع السّيطرة على الأندلس، بعد أن تسامع النّاس، بأنّ أباه أصبح في عِداد المغضوب عليهم من الخليفة، وأنّ مركز عبد العزيز والياً وقائداً أصبح مهدداً بالعزل اليوم أو غداً. وكان يتمتّع بقابلية بدنيّة متميّزة، فقد كان في ريعان الشباب، واستطاع مشاركة رجاله في ميادين القتال صيفاً وشتاءً، وتعباً وعناءً، وتنقّلاً وثواءً. وكان ذا ماضٍ ناصع مجيد، فهو ابن فاتح الأندلس، موسى بن نُصَير، وهو قد أضاف إلى أمجاد أبيه مجداً جديداً في الفتح وفي ميادين القتال. وكان يطبِّق مبادئ الحرب كافةً بصورة فطريّة، فهذه المبادئ ثابتة أبداً، ولكنّ الأساليب القتاليّة هي التي تتغيّر باستمرار. فقد كان عبد العزيز يطبّق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته، فكان يختار مقصده بالضبط، ويفكّر في أقوم طريقة للوصول إليه، ثم يضع الخطّة المناسبة للحصول عليه. وكان قائداً تعرضياً، لم يتّخذ الدفاع مسلكاً له في تحقيق أهدافه

العسكرية، ولكنّه كان يتعرّض إذا لم ينجح في حمل عدوّه على الصّلح. وكان يطبِّق مبدأ المباغتة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن قبل أن يباغت عدوّه، يحاول أن يحقِّق هدفه بلا قتال بالمفاوضات لعقد الصلح، فإذا لم ينجح في تفادي القتال، حاول أن يباغت عدوّه بالمكان أو بالزمان أو بالأسلوب. أما العدو، فلم يستطع أن يباغت قوّات عبد العزيز في يوم من الأيام. وكان يطبّق مبدأ: حشد القوّة، لتكون جاهزة لقتال العدو، دون تفريط في جزء منها بلا مسوِّغ، ولم تكن قوّاته في حينه كبيرة، لذلك لم يكن بمقدوره الاستغناء عن جزء منها. ولم يكن يُغفل مبدأ: الاقتصاد في المجهود، فكما كان لا يفرِّط بجزءٍ من قوّاته دون مسوِّغ، كان يحول دون التفريط بجزء منها دون مسوِّغ أيضاً، وقد كان من أولئك القادة الذين لا يغرٍّرون برجالهم، ويحرصون على أرواحهم حرصاً لا مزيد عليه. وكان يسهر على: أمن رجاله، وقد نوّهنا بمبلغ حرصه على أرواحهم، وذكرنا أنّه لا يغرّر بهم، وأنّ العدو لم يستطع مباغتة رجاله في يوم من الأيام، مما يدلّ على أنّه كان يطبق مبدأ: الأمن، بشكل يدعو إلى التقدير. وكان يطبِّق مبدأ: المرونة، في خططه التعبوية، فالمقصد من العملية واضح لديه، والخطة مرسومة سلفاً لتحقيق المقصد، ولكن الخطة قابلة للتحوير والتّطوير بالنسبة للظروف والأحوال، فلا يصرّ على تطبيق خططه إذا اقتضت الظروف إدخال التعديلات عليها، ما دامت تلك التعديلات لا تؤثِّر في تحقيق المقصد المطلوب. وكان لا يتوانى عن: التعاون، بين قوّاته، تعاوناً وثيقاً، وبين قوّاته وقوّات غيره من قادة المسلمين، كما فعل مع قوّات أخيه عبد الأعلى، وبين قوّاته وقوّات القيادة العامّة التي كان أبوه موسى على رأسها، وقد لمسنا همّته في استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة لتأمين خطوط مواصلات طارق وموسى،

وهمّته في فتح مدن جنوبي وجنوب شرقي الأندلس وغربيِّها، لتأمين جناحي طارق وموسى الأيمن والأيسر، فأصبحت قوّات المسلمين آمنةً مطمئنّة، وكانت قبل فتوح عبد العزيز في خطر عظيم. وكان يطبِّق مبدأ: إدامة المعنويات، بثلاثة عوامل، هي العقيدة الرّاسخة، التي هي التّمسك بالدين الحنيف، وبالنّصر المؤزر، الذي أحرزه عبد العزيز وطارق وموسى، وبالقيادة القادرة المتميِّزة، التي هي قيادة عبد العزيز ومن قبله قيادة طارق وموسى، فكانت معنويات المسلمين في الأندلس عالية جداً، لأن عوامل إدامة المعنويات الثلاثة كانت متيسرةً يومذاك. وكان عبد العزيز معنياً بالأمور الإداريّة، فلا نعلم أنّ قوّاته عانت من نقص في ناحية ما، من نواحيها الإدارية، بل كان وضعها الإداري جيداً للغاية، ويكفي أن نتذكّر ما حمله موسى معه من غنائم جسيمة من الأندلس، حين غادرها إلى دمشق. ومهما قيل في المبالغة بجسامة تلك الغنائم، فإنَّها تبقى دليلاً على أنّ المسلمين كانوا يعيشون في الأندلس عيشاً هو أقرب إلى الرفاهية والثراء منه إلى الفقر والعوز. ولا يمكن أن تكون القيادة الأندلسية تمتلك كلّ هذا الثراء الباذخ العريض، دون أن يظهر ذلك على القوّات الإسلاميّة التي تقودها في مسيرة أمورها الإداريّة. إنّ قوّات المسلمين في الأندلس كانت في بحبوحة من العيش، ويمكن أن يكون وضعها من النّاحية الإداريّة، أفضل من وضع سائر قوّات المسلمين، في سائر أمصار الدولة الإسلامية، شرقاً وغرباً. ويبدو أن عبد العزيز، كان يساوي بينه وبين رجاله، فكان يعيش بينهم، ويصلّي في مسجدهم، ولو أنّه اتّخذ حرساً لنفسه، وجماعة مختارة من رجاله لحمايته، ومكاناً خاصاً به في المسجد للصّلاة، لصعب على المتآمرين عليه في تنفيذ خطتهم في اغتياله، ولكنّهم استطاعوا اغتياله بسهولة ويسر، مما يدلّ على أنّه كان يساوي نفسه برجاله، ولا يتميَّز عليهم في شيءٍ من المظاهر الخارجيّة، التي يحاول أن يتميّز بها أصحاب السُّلطة والحكم.

عبد العزيز في التاريخ

وكان يشاور رجاله في كلّ ما يصادفه من مشاكل ومعضلات، وبخاصة أولئك النفر من القادة والرؤساء الذين خلّفهم موسى مع ابنه عبد العزيز، قبل رحيله عن الأندلس، وأوصاهم به خيراً، وأوصاه بهم خيراً، فكان عبد العزيز عند حسن ظن أبيه موسى به، في اعتماده على أولئك النفر وثقته بهم، وركونه إليهم، واستشارتهم في أموره العامة. ولكنّهم لم يكونوا عند حسن ظنّ موسى بهم، إذ كانوا مع موسى ومع عبد العزيز يوم كانت الأيام مقبلة عليهم، فلما أدبرت عنهم انقلب قسم منهم على عبد العزيز، ودبّروا له المكايد، وحاربوه بالإشاعات الملفّقة، حتى اغتالوه وهو يصلّي في المسجد، ففاز بالشهادة، ولم يفوزوا بشيء. ولم تطل مدة بقائه قائداً عامّاً بعد رحيل أبيه موسى عن الأندلس، لكي يتيسّر له الوقت الكافي لإنجاز فتوح جديدة، ولم تكن ظروفه الراهنة التي تحيط به وتؤثر فيه نفسيّاً، مساعدة لإبراز كفاياته قائداً لامعاً، فلا يستطيع محلِّل لقابلياته القيادية، أن يجيب على تساؤل المتسائلين: هل كان عبد العزيز قائداً موهوباً؟ هل كانت قيادته تتّسم بمزية: الطبع الموهوب؟ إنّ الفرصة لم تسنح له أن يثبت ذلك، فمضى دون أن يأخذ حقّه كاملاً في هذه الحياة، ومع ذلك فلا أحد ينكر عليه قائداً متميّزاً، كان بالإمكان أن يلمع أكثر مما لمع، وينجز أكثر مما أنجز، لو طالت مدّة قيادته، وحسنت ظروف حياته، ولكنَّ الرياح جرت بما لا تشتهي السّفن، والمرء مُقَدَّر لما خُلق له. عبد العزيز في التاريخ يذكر التاريخ لعبد العزيز، أنّه كان السّاعد الأيمن لأبيه موسى ابن نُصَيْر فاتح شطر الأندلس، في فتوحه الأندلسيّة. ويذكر له، أنّه فتح مناطق واسعة جداً في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، وطهّر تلك المناطق من جيوب المقاومة القوطيّة.

ويذكر له أنّه فتح الشّطر الأكبر من البرتغال، غربي الأندلس، وفتح مدنها، وقضى على جيوب المقاومة القوطيّة في أرجائها. ويذكر له، أنّه استعاد فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة من جديد، ودحَر المقاومة القوطيّة التي استولت عليها بعد فتحها من المسلمين. ويذكر له، أنّه قضى على تهديد المقاومة القوطيّة لخطوط مواصلات قوّات طارق بن زياد وموسى بن نصير في الأندلس، وعلى جناحي تلك القوات الأيمن والأيسر، مما أتاح لطارق وموسى التغلغل شمالاً في الفتح. ويذكر له، أنّه اغتيل ظلماً وعدواناً، فنال باغتياله شرف الشهادة. ويذكر له، أنّه كان مجاهداً صادقاً، وإدارياً حازماً، وكان يعمل بأمانة وإخلاص، للإسلام والمسلمين، مجاهداً وإدارياً، دون كلل ولا ملل. ويذكر له، أنّه رحل وهو في ريعان الشباب، فكأنّه كان يغالب الزّمن، ليخلِّف من بعده، ما لم يخلفه الشيوخ فتحاً ومآثر وأمجاداً. رحمه الله، جزاء ما قدم للعرب والمسلمين، من خدمات لا تنسى، قائداً وفاتحاً وإدارياً وشهيداً. لقد رحل عن هذه الدنيا، ولكن آثاره في الأندلس وفي صفحات التاريخ، لن ترحل أبداً.

عبد الأعلى بن موسى بن نصير اللخمي فاتح مالقة وإلبيرة

عبد الأعلى بن موسى بن نُصَيْر اللَّخْمِيّ (1) فاتح مالَقَة (2) وإِلبِيْرَة (3) نسبه وأيّامه الأولى هو عبد الأعلى بن موسى بن نُصَيْر بن عبد الرحمن بن زيد (4) من بني لَخْم (5)، ويقال: إنّه مولى لَخْم (6)، وقيل: إنّه من أراشَة من بَلِيّ (7)، وقيل من بَكْر بن وائل (8)، ويذكر أولاده أنّه من بكر بن وائل، وغيرهم يقول: إنّه _______ (1) ورد اسم أبيه: موسى بن نُصَيْر الّلخمِي في المعارف (570) واليعقوبي (3/ 22) والبداية والنهاية (9/ 171) ورياض النفوس (1/ 77). ولخم: هو مالك بن عَديّ بن الحارث بن مرَّة بن أدد، أنظر جمهرة أنساب العرب (422)، وهم من بني سعد العشيرة بن مذجح من سبأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (410 - 422)، وأنظر بطون لخم في جمهرة أنساب العرب (477). (2) مالقة: مدينة بالأندلس عامرة، من أعمال (ريّة)، سورها على ساحل البحر، بين الجزيرة الخضراء والمرية، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 367). (3) إلبيرة: كورة كبيرة بالأندلس، واسم مدينة أيضاً، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 322) و (2/ 320). (4) البيان المغرب (1/ 32). (5) بغية الملتمس (457) وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس (2/ 114) والنجوم الزاهرة (1/ 235) ونفح الطيب (1/ 254). (6) بغية الملتمس (457) وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس (2/ 114) وجذوة المقتبس (317) ووفيات الأعيان (4/ 402) والولاة والقضاة (52). (7) البلاذري (248)، وأراشة بن عُبيلة بن قِسْميل بن فَرَان بن بَلِيّ بن عمرو بن الحافي بن قُضاعة، أنظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (442). (8) نفح الطيب (1/ 234) والبيان المغرب (1/ 32).

مولى (1). وادِّعاء أولاده وأحفاده، بأنه من بَكْر بن وائل، بعد أن استقرّوا فى إفريقية والمغرب والأندلس وملكوا وتأثّلوا، وأصبح لهم أجداد يفاخرون بأمجادهم، وبخاصة موسى بن نصير فاتح شطر الأندلس وأوّل جدّ لهم لا تخفى مفاخره، في وقت كان فيه الفخر بالنسب سِمة من سمات العصر البارزة، عصر بني أميّة، قد يؤخذ مأخذ الدعاوة لهم بالنّسب المفضّل لا بمأخذ تقرير الواقع، كما أن ادِّعاء مَن كان عليهم لا معهم بأنهم موالي، كان نتيجة من نتائج تعالي أولاد موسى بن نصير بالنّسب المزوّر لا بالنسب السّليم، فهو ردّ فعل تلقائي لهذا التعالي الموهوم المفتعل، فلا يؤخذ به ولا يُصدّق أيضاً، لأن دوافعه عاطفية عن الحق والواقع. إنه عربي (2)، من لخْم، أبوه موسى بن نصير اللّخْمِي (3)، فاتح شطر الأندلس المشهور، وكان والياً على إفريقية والمغرب في أواخر سنة خمس وثمانين الهجرية (704 م) أو أوائل سنة ست وثمانين الهجرية (705 م)، كما شغل عدّة مناصب إدارية وقيادية قبل ذلك، تدل على أنه كان قريباً من بنى أميّة ومَن كان يعمل معهم في المناصب الإدارية والقيادية العليا. ولم يكن جدّه نصير بعيداً عن مراكز السلطة في الإدارة والقيادة أيضاً، وأصله من سبايا بلدة عّيْن التَّمْر (4) الذين سباهم خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة الهجرية (633 م)، فقد وجد خالد أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسر عنهم وقال: (وما أنتم؟!) فقالوا: (رُهُنٌ!)، منهم نصير أبو موسى بن نصير، فقسّمهم خالد في أهل _______ (1) جل فتوح الإسلام - ملحق بجوامع السيرة لابن حزم الأندلسيّ (344). (2) البلاذري (248) والنجوم الزاهرة (1/ 235). (3) أنظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 221 - 309). (4) عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار (مدينة الفلّوجة حالياً) غربيّ الكوفة، بقربها موضع يقال له: شفاثا، لا يزال معروفاً اليوم، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 253).

البلاد؛ (1) ثم أصبح من حرس معاوية بن أبي سفيان (2)، ثم أصبح على حرس معاوية (3)، وعلى جيوشه (4)، ولكنه لم يشهد معه قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (5). ولا نعلم متى وُلد، وأين، ولا نعلم عن أيامه الأولى شيئاً، ونستطيع أن نستنتج أنه نشأ وترعرع واستوى على عوده، بالمقارنة مع لِداته في عصره، الذين عاشوا في بيئة مشابهة لبيئته الاجتماعية، فهو أمثاله يربّون تربية تفيد عقولهم بالعلم، وتفيد أبدانهم بالتدريب العسكري، ويخالطون العلماء والقادة والإداريين عن كثب، فيتلقّون منهم عصارة علومهم وتجاربهم في الحياة، ويتعلمون منهم كيف يواجهون الأحداث، وكيف يجدون الحلول المجدية للمعضلات، فإذا أصبحوا كفايةً وعُمراً قادرين على العطاء، مُنحوا الفُرص لإبداء كفاياتهم في ميدان الإدارة، أو في ميدان القيادة، أو في الميدانين معاً، فتظهر معادنهم الأصلية، ويُكتب لهم النجاح أو الإخفاق. لقد نشأ عبد الأعلى وترعرع في ظروف ملائمة كل الملائمة، لاستكمال مزاياه الشخصية، فتلقى مختلف العلوم والآداب والفنون المعروفة يومذاك، وتدرّب على الفنون العسكرية العملية والنظرية، وتلقى تجارب القادة والإداريين، وبخاصة تجارب والده موسى الغنية بالعمل والإنتاج والآلام والآمال. وقد طبّق الفنون العسكرية النظرية عملياً في ميدان القتال، وبذلك جمع التدريب الفني النظري والعملي، ووضع معلوماته العسكرية النظرية في حيِّز التنفيذ العملي. ولما عبر موسى إلى الأندلس في رمضان من سنة ثلاث وتسعين _______ (1) الطبري (2/ 577) وأنظر ابن الأثير (2/ 151). (2) ابن خلدون (4/ 187). (3) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب (1/ 224). (4) نفح الطيب (1/ 224). (5) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب (1/ 224 - 225).

الفاتح

الهجرية (1) (712 م)، ازدادت فرص عبد الأعلى في التّعليم والتدريب عملياً في الفتوحات، حتى إذا أصبح قادراً على تولي مهام القيادة، ولاّه أبوه موسى منصباً قيادياً، فأضاف بقيادته فتحاً جديداً على فتوح طارق بن زياد، وفتوح أبيه موسى وأخيه عبد العزيز (2). ولم نجد لعبد الأعلى نشاطاً في القيادة أو الإدارة أيام كان مع أبيه في إفريقية والمغرب، وظهر نشاطه أول ما ظهر بعد عبور أبيه موسى إلى الأندلس، مما يشير إلى أنه كان في إفريقية والمغرب صغيراً على المناصب الإدارية والقيادية، فأصبح في أيام عبوره إلى الأندلس برفقة أبيه موسى في عُمْر يناسب تولي المناصب الإدارية والقيادية، فمن المحتمل أن يكون عمره سنة ثلاث وتسعين الهجرية قد جاوز العشرين سنة على الأقل. لقد تهيّأ لعبد الأعلى مزيتان من مزايا القيادة الثلاث الرئيسة: العلم المكتسب، والتجربة العملية. وبقي السِّمة الثالثة للقيادة، وهي: الطبع الموهوب، ولا ندري هل تهيأت له هذه السِّمة أم لا، لأن مدّة قيادته لم تطل، وظروفه الراهنة في حينها لم تكن ملائمة له، كما أنّ إنجازاته في الفتح كانت قليلة جداً نسبياً، وهذه العوامل الثلاثة: المدة، والظروف، والإنجازات، لم تيسِّر له إظهار مواهبه القيادية كما ينبغي، فكانت تلك العوامل الثلاثة عليه لامعة، فمضى إلى أجله ومعه سرّ موهبته القيادية، لم يسجلها المؤرخون، ولا يستطيع أحد معرفتها حتى اليوم. الفاتح وجه موسى بن نُصَيْر ولديه: عبد العزيز وعبد الأعلى، إلى جنوبي وجنوب _______ (1) ابن الأثير (4/ 215). (2) أنظر التفاصيل في فقرة: نسبه وأيامه الأولى، من سيرة أخيه عبد العزيز بن موسى بن نُصير، في كتاب: قادة فتح الأندلس والبحار.

شرقي الأندلس، وكان هذا على الأغلب، بعد استعادة عبد العزيز فتح إشبيلية (1) ولَبْلَة (2) وباجَة (3)، لأن أسبقية أهداف موسى بعد عبوره إلى الأندلس، هي القضاء على مراكز المقاومة الرئيسة للقوط، وأسبقية هذه المراكز حسب خطورتها هي: المقاومة القوطية في المناطق الشمالية للأندلس، وقد توجّه موسى وطارق بن زياد للقضاء عليها والمقاومة القوطية في وسط الأندلس، التي تهدِّد خطوط مواصلات المسلمين، وهي منطقة إشبيلية ولبلة وباجة، وقد وجه موسى ابنه عبد العزيز، فقضى عليها. والمقاومة القوطية في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، التي تهدّد جناح المسلمين الأيمن، وقد وجه موسى ابنيه: عبد العزيز وعبد الأعلي لمعالجتها. وأخيراً، المقاومة القوطية في غربي الأندلس، وقد وجّه موسى ابنه عبد العزيز، بعد انتهائه من معالجة المقاومة القوطية في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، فقضى عبد العزيز على تلك المقاومة، وبذلك أصبحت خطوط مواصلات المسلمين، وجناحاهم: الأيمن والأيسر، آمنة مطمئنة، وأصبح موقف قوّات المسلمين سليماً. واستطاع عبد الأعلى، بالتعاون مع أخيه عبد العزيز، أن يستعيد فتح مَالَقَة ( Malaga) وإلْبِيرَة ( Elvira) وكان ذلك سنة أربع وتسعين الهجرية (4) (713 م). _______ (1) إشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس، ليس بالأندلس أعظم منها، وبها قلعة ملك الأندلس، وهي قريبة من البحر، على شاطئ نهر، يطلّ عليها جبل الشّرف، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 254). (2) لبلة: قصبة كورة في الأندلس كبيرة، يتصل عملها بعمل أكشونبة، وهي شرقي أكشونبة وغربيّ قرطبة، بينها وبين قرطبة على طريق إشبيلية خمسة أيام: أربعة وأربعون فرسخاً، بينها وبين إشبيلية إثنان وأربعون ميلاً، وهي بريّة بحريّة، غزيرة الثمر والزروع والشجر، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 319). (3) باجة: مدينة بالقرب من لبلة وضمن قصبتها. (4) الإحاطة (1/ 101) ونفح الطيب (1/ 275).

الإنسان القائد

وكان طارق بن زياد، قد سبق له فتح هذه المنطقة سنة ثلاث وتسعين الهجرية (712 م)، فاستعاد عبد الأعلى فتحها من جديد، مما يدل أن المقاومة القوطية استطاعت استرجاعها من المسلمين، وبذلك هدّدت جناح قوّات المسلمين الأيمن، كما أنها أصبحت تهدّد خطوط مواصلاتهم تهديداً خطيراً، فكان الموقف العسكري يحتّم على المسلمين القضاء على مراكز المقاومة القوطية في تلك المنطقة، واستعادة فتح المنطقة بكاملها من جديد، وقد استطاع الأخوان: عبد الأعلى، وعبد العزيز، بالتعاون بينهما، تحقيق هذا الهدف الحيوي الكبير. الإنسان القائد 1 - الإنسان: ظنَّت المصادر والمراجع العربية والإسلامية والأجنبية أيضاً، على عبد الأعلى بذكر أخباره إنساناً، في قديمها وحديثها، فلا ذكر له إلاّ نادراً في عدد محدود من المصادر والمراجع التي وصلت إلينا. وكمثال على ذلك، فإن الشيخ أحمد بن محمد المَقَّري صاحب كتاب: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فى سبعة مجلدات كبار، والذي جمع فأوعى جميع جاء عن الأندلس في المصادر العربية الإسلامية تقريباً حتى سنة وفاته في جمادى الآخر من سنة إحدى وأربعين وألف الهجرية (1041 هـ =1631 م)، لم يذكر عبد الأعلى إلا مرتين في صفحة واحدة من صفحات مجلداته السبع، في خبر عابر عن استعادة فتح قسم من المدن الأندلسية، ثم لم يعد إلى ذكره مرة أخرى! وكل الذي نعرفه عنه إنساناً، أنه كان أحد أولاد موسى بن نصير الذي استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز، فلما عبر البحر إلى سبتة، استخلف

2 - القائد:

عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله (1)، ورافقه إلى دمشق مروان (2). ورحل عبد الأعلى عن الأندلس بعد رحيل أبيه عن الأندلس ورافق أباه إلى دمشق (3)، وانقطعت أخباره هناك، فلا ندري متى توفي وأين؟ وهل كان له عَقِب أم لا؟ ومتى وُلد ومتى توفي؟ وما هي أعماله؟ إنه كالشهاب الساطع ظهر فجأة فخطف الأبصار بنوره، ثم اختفى فجأة إلى الأبد، فلا يعرف أحد عنه شيئاً. 2 - القائد: أوسع ما ورد عن فتوحه، ما جاء في نفح الطيب وهذا هو نصّ ما ورد عنه: "وقيل: إن موسى بن نصير، أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تُدْمِير ففتحها، وإلى غرناطة ومالقة وكورة رَيَّة، ففتح الكلّ. وقيل: إنه لما حاصر مالقة، وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفظ، كان يخرج إلى جِنان له إلى جانب المدينة طلباً للراحة من غُمّة الحصار، مت غير نصب عينٍ ولا تقديم طليعة، وعرف عبد الأعلى بأمره، فأكمنَ له في جنَبَات الجنّة التي كان ينتابها قوم من وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم، أرصدوا له ليلاً، فظفروا به وملكوه، فأخذ المسلمون البلد عنوة، وملأوا أيديهم غنيمة" (4)، وما ذكرناه في سيرته فاتحاً، هو ما اتفقت عليه المصادر الأخرى مع ما جاء في نفح الطيب، وقد أشرنا إلى تلك المصادر. ومن جميع ما ذُكر عن فتوح عبد الأعلى، لا يمكن استنتاج سمات قيادته، ولكن يمكن أن نذكر، أن موسى بن نصير وغير موسى، لا يمكن أن يولي رجلاً _______ (1) ابن الأثير (4/ 566). (2) البيان المغرب (1/ 44). (3) البيان المغرب (1/ 44). (4) نفح الطيب (1/ 275).

من الرجال، حتى ولو كان ابنه أو قريبه، منصباً قيادياً أيام الحرب، إلاّ إذا كان ذلك الرجل حائزاً على المزايا القيادية التي يجب أن يتحلى بها القائد الذي يتولى منصباً قيادياً في زمن الحرب، حتى يمكن أن ينجح القائد في قيادته ويملأ منصبه، ويكون بمقدار منصبه أو أكبر منه، لا أن يكون أقل من منصبه كفايةً واقتداراً. لأن الكفاية العالية والاقتدار المتميز، هما العاملان اللذان يُعتبران من أهم عوامل إحراز النصر. أما الكفاية الواطئة والاقتدار الضعيف، فلا يؤديان إلاّ إلى الهزيمة، وما يتبع الهزيمة من خسائر مادية ومعنوية، تؤثر أول ما تؤثر في سمعة الذي ولىّ القائد القادر ومصيره، وتؤثر أول ما تؤثر في سمعة الذي ولىّ القائد الهزيل ومصيره. لذلك نجد أن الخلفاء لم يولوا أبناءهم كافة مناصب قيادية، بل ولَّوْا مَن يستحق هذا المنصب حسب، إذا وجدوا بين أبنائهم مَن يستحقه، وإلاّ ولّوا مَن يرون فيه الكفاية والاقتدار، واستعراض قائمة القادة من أبناء الخلفاء وغيرهم، خير دليل على ذلك. وعلى ذلك، فإن موسى بن نصير، وهو مَن نعرف، من ألمع قادة الفتح الإسلامي، وأكثرهم كفاية واقتداراً، لا يمكن أن يولي عبد الأعلى منصب القيادة، إلاّ إذا كان يتحلى بالكفاية العالية والاقتدار المتميز، وبخاصة في أيام استشراء المقاومة القوطية في الأندلس، فأصبحت تهدّد خطوط مواصلات قوات المسلمين وجناحيهم الأيمن والأيسر بأفدح الأخطار. ومن المعلوم أن موسى لم يولِّ منصب القيادة أبناءه كافة، بل اكتفى بتوليه عبد العزيز وعبد الأعلى في فتوح الأندلس، وكان له أبناء كثيرون، تذكر التاريخ قسماً منهم، ونسي قسماً منهم، وحتى الذين تذكرهم وذكرهم التاريخ، لم يتولوا مناصب قيادية جميعاً، بل تولاّها قسم منهم فقط، كما هو معروف. ويبدوا أن موسى بن نصير ولّى ابنه عبد الأعلى منصباً قيادياً في زمن الفتوح، وفي ظروف عصيبة بالغة الخطورة، قد يؤدي إخفاق المسلمين في معركة واحدة من معارك الفتوح، إلى انهيار معنوياتهم وارتفاع معنويات القوط، وإلى تكبيد المسلمين خسائر فادحة بالأرواح، وقد تؤدي إلى إخفاق خطط الفتح أو

عرقلة مسيرته على الأقل. لذلك فإن إقدام موسى على تولية ابنه عبد الأعلى منصبا قيادياً مهماً في جبهة حيوية، دليل على أن عبد الأعلى كان يتحلَّى بصفات قيادية أصيلة، منها: القدرة على إصدار القرار الصحيح السريع، والشجاعة الشخصية، والإقدام، والإرادة القوية الثابتة، وتحمل المسئولية كاملة، وعدم التهرب منها وإلقائها على عواتق الآخرين، ونفسيّة لا تتبدل في حالتي النصر والهزيمة واليسر والعسر، وسبق النظر وإعداد الخطط المناسبة لما يتوقع حدوثه سلفاً، ومعرفة نفسيات من يعمل معه وقابلياتهم، فيستخدم الرجل المناسب للواجب المناسب، يثق برجاله ويثقون به، ويحبهم ويحبونه، ذو شخصية قوية نافذة، وقابلية بدنية متميزة لأنه في عز شبابه، وله ماض ناصع مجيد، يكفي أنه ابن موسى بن نصير، وله هو في الفتوح نشاط يذكر. وكان يطبق مبادئ الحرب، فيعرف كيف يختار مقصده وكيف يعمل على إدامته، وكان قائداً تعرّضياً لم يتخذ أسلوب الدفاع في حربه، وكان يطبق مبدأ: المباغتة أهم مبادى الحرب على الإطلاق، قد طبق على صاحب مالقة مبدأ المباغتة، فأخذه أخذاً وهو في إحدى بساتينه، ثم فتح مدينته عنوة. وكان يطبق مبدأ: حشد القوة، فكان يستغل قواته المتيسرة استغلالاً كاملاً في المكان والزمان الجازمين. ولكنه كان يطبق مبدأ: الاقتصاد في المجهود، فلا يغرِّر برجاله، ولا يعرِّضهم للمهالك، ولا يفرِّط بأرواحهم دون مسوِّغ. وكان يطبق مبدأ: الأمن، فلم يستطع عدوّه أن يباغت قوّاته في يوم من الأيام، وقد استطاع أن يباغت عدوّهُ كما ذكرنا. وكانت خططه مرنةً يمكن تعديلها أو تحويرها، كما كان مرناً في قابليته على الحركة والتنقل. وكان يطبق مبدأ: التعاون، فتعاونت قواته لتحقيق أهدافه في الفتح، وتعاون مع أخيه عبد العزيز في الفتح، وتعاون مع قيادته العامة تعاوناً وثيقاً في تحقيق خططها المرسومة له. وكان يطبق مبدأ: إدامة المعنويات، بالعقيدة الراسخة أولاً، وبالقيادة المقتدرة ثانياً، وبالانتصارات المؤزّرة ثالثاً وأخيراً.

عبد الأعلى في التاريخ

وكان يطبق مبدأ: الأمور الإدارية، فلا نعرف أن قواته جاعت أو شكت من نقص في أمورها الإدارية، إذ كان المسلمون في الأندلس في ثراء وسعة وبحبوحة من العيش. وكان يساوي نفسه مع رجاله، ويستشيرهم عند الملمّات. ولو لم تكن هذه المزايا في عبد الأعلى، لما ولاّه أبوه موسى منصب القيادة، في ظروف قتالية خطيرة. إنه قائد جيد، لم تسمح له ظروفه أن يظهر كفاياته كما يحب ويرضى. عبد الأعلى في التاريخ يذكر التاريخ لعبد الأعلى، أنه كان من أكبر أعوان والده موسى ابن نصير فاتح شطر الأندلس، في فتوحه الأندلسية. ويذكر له، أنه فتح مناطق واسعة جداً، في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، وطهّر تلك المناطق من جيوب المقاومة القوطية. ويذكر له، أنه عاون في القضاء على المقاومة القوطية في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، فحمى جناح قوات المسلمين الأيمن في الأندلس. ويذكر له، أنه سطع فجأة كالنجم، فبهر بفتوحه الأنظار، ولكنّه اختفى فجأة كما سطع فجأة، وبقيت آثاره في الفتح والتاريخ. رحمه الله، جزاء ما قدّم للعرب والمسلمين من فتوح لا تُنسَى، قائداً فاتحاً، نشر العربية لغة، والإسلام ديناً، في جزء كبير من الفردوس المفقود.

عبد الله بن موسى بن نصير اللخمي فاتح جزيرتي ميورقة ومنورقة

عبد الله بن موسى بن نُصَيْر الَّلخْمِيّ (1) فاتح جزيرتي مَيُوْرقَة (2) ومَنُوْرَقَة (3) نسبه وأيّامه الأولى هو عبد الله بن موسى بن نُصَيْر بن عبد الرحمن بن زيد (4) من بني لَخْم (5)، ويقال: إنّه مولى لَخْم (6)، وقيل: إنّه من أراشَة من بَلِيّ (7)، وقيل من بَكْر بن وائل (8)، ويذكر أولاده أنّه من بكر بن وائل، وغيرهم يقول: إنّه مولى (9). _______ (1) ورد اسم أبيه: موسى بن نُصَيْر الّلخمِي في المعارف (570) واليعقوبي (3/ 22) والبداية والنهاية (9/ 171) ورياض النفوس (1/ 77). ولخم: هو مالك بن عَديّ بن الحارث بن مرَّة بن أدد، أنظر جمهرة أنساب العرب (422)، وهم من بني سعد العشيرة بن مذجح من سبأ، أنظر جمهرة أنساب العرب (410 - 422)، وأنظر بطون لخم في جمهرة أنساب العرب (477). (2) ميورقة: جزيرة في شرقيّ الأندلس، بالقرب منها جزيرة يقال لها: منورقة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 229). (3) منورقة: جزيرة عامرة في شرقيّ الأندلس، قرب ميورقة، أنظر معجم البلدان (8/ 185). (4) البيان المغرب (1/ 32). (5) بغية الملتمس (442) ونفح الطيب (1/ 254) وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس (2/ 114) والنجوم الزاهرة (1/ 235) ووفيات الأعيان (4/ 402) والولاة والقضاة (52). (6) بغية الملتمس (442) وجذوة المقتبس (317). (7) البلاذري (248)، وأراشة بن عُبيلة بن قِسْميل بن فَرَان بن بَلِيِّ بن عمرو بن الحافي بن قُضاعة، أنظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (442). (8) نفح الطيب (1/ 234) والبيان المغرب (1/ 32). (9) جل فتوح الإسلام - ملحق بجوامع السيرة لابن حزم الأندلسيّ (344).

وادعاء أولاده وأحفاده، بأنه عربي من بكر بن وائل، بعد أن استقروا وملكوا في إفريقية والمغرب والأندلس، وتأثّلوا وأصبح لهم مكان ومكانة وشأن بين الناس، في وقت كان الفخر فيه بالنَسَب سِمة من سِمات ذلك العصر، عصر بني أميّة في دولتهم، قد يُؤخذ بمأخذ الدّعاوة لأنفسهم بالنسب المرموق المفضّل، لا بمأخذ تقرير الواقع والصّدق. كما أن ادِّعاء مَن كان عليهم لا معهم من الناس، بأنهم من الموالي لا من العرب، قد يكون نتيجة من نتائج تفاخر أولاد عبد الله وأحفاده وتعاليهم بادِّعاء النسب المفتعل الموهوم، فهو ردّ فعل متوقّع لذلك التفاخر، بالتزوير والتعالي بالاختلاق، فلا يؤخذ به بمأخذ الجّد ولا يُصدّق، لأن دوافعه عاطفية لا واقعية، ووهمية لا حقيقيّة. إنه عربي (1)، جده نصير أبو موسى، وكان اسم نصير: نصراً، فصُغِّر (2)، وكان نصير من بين سبايا بلدة عَيْن التَّمْر (3)، الذين سباهم خالد بن الوليد المخزومي سنة اثنتى عشرة الهجرية (633 هـ)، فقد وجد خالد أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: "وما أنتم؟! "، فقالوا: "رُهُن! "، منهم نصير أبو موسى بن نصير وجدّ عبد الله بن موسى بن نصير، وكان ينسب نصير إلى بني يَشْكُر (4) وهو ليس منهم، فقسمهم خالد في أهل البلاد (5)، فأصل عبد الله من عين التّمر (6). وقد أعتق نُصيراً بعضُ بني أميّة، فرجع إلى الشام (7)، ثم أصبح من حرس _______ (1) البلاذري (248) والنجوم الزاهرة (1/ 235). (2) البلاذري (248). (3) عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار (الأنبار=الفلوجة: على الفرات، غربي بغداد) غربيّ الكوفة، بقربها موضع يقال له: شفاثا، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 253). (4) بنو يشكر بن بكر بن وائل، أنظر التفاصيل في جمهرة أنساب العرب (308). (5) الطبري (2/ 577) وأنظر ابن الأثير (2/ 151). (6) البداية والنهاية (9/ 171). (7) البلاذري (248) ومعجم البلدان (7/ 267).

معاوية بن أبي سفيان (1)، ثم أصبح على حرس معاوية (2)، وعلى جيوشه (3)، وكانت منزلة نُصير عند معاوية مكينة، فلما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب، لم يخرج معه نصير، فقال له معاوية: "وما منعك من الخروج معي، ولي عندك يد لم تكافئني عليها؟؟ "، فقال: "لم يمكنّي أن أشكرك بكفري مَن هو أولى بشكري منك! "، فقال: "ومَن هو؟! "، فقال: "الله عزّ وجلّ"، فأطرق معاوية مليّاً، ثم قال: "أستغفر الله"، ورضي عنه (4). ونشأ عبد الله وترعرع وشبّ، في أحضان أبيه موسى الذي كان قائداً ووالياً، في ظروف ملائمة لاستكمال شخصيته، بالعلم والتدريب وبالاتصال المباشر بالقادة والولاة والعلماء، وأهل التجارب. وكان التعليم النظري لاستيعاب العلوم المتيسِّرة السّائدة في حينه ميسوراً، ليس لأبناء القادة والولاة والمترفين حسب، بل لأبناء الناس من مختلف الطبقات. فنشأ عبد الله ليتعلم القرآن وعلومه، والحديث النبوي الشريف وعلومه، والتاريخ والسِّير وأيام العرب في الجاهلية والإسلام، وأتقن علوم العربية صَرْفاً ونحواً وبلاغةً وبياناً وشعراً ونثراً، وحفظ نماذج من أقوال الخطباء والبلغاء والشعراء، ولم يُغفل الحساب والهندسة وتقويم البلدان. وكما كان يحرص الآباء على تعليم أولادهم العلوم المختلفة والآداب والفنون، كانوا يحرصون أيضاً على تعليم أولادهم العلوم العسكرية العملية والنظرية، في تلك الأيام التي تعجّ بالجهاد والفتوح. وقد تعلم عبد الله العلوم العسكرية النظرية: إقامة المعسكرات، تنظيم المعسكر، اختيار مناطق التعسكر، وشروط المعسكر الجيّد، فنون التعبية كإخراج المقدّمات والمؤخرات والمجنبات، وأساليب الحماية المختلفة، _______ (1) ابن خلدون (4/ 187). (2) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفع الطيب (1/ 224). (3) نفح الطيب (1/ 224). (4) وفيات الأعيان (4/ 402) ونفح الطيب (224 - 225).

والاستفادة من الأرض، وزرع الربايا والكمائن، ومعالجة المشاكل غير المتوقعة وحل المعضلات، وتأمين القضايا المعنوية والإدارية، وكل هذه العلوم تُلقّن من قادة مجرِّبين لهم في الجهاد باع طويل. كما تدرّب عبد الله على الفنون العسكرية العملية: ركوب الخيل، والرمي بالسِّهام، والتصويب الدقيق، والضرب بالسيوف، والطعن بالرماح، والسباحة، وتحمّل المشاق العسكرية: سيراً على الأقدام مسافات طويلة في أيام متعاقبة وظروف قاسية صيفاً وشتاء، والحرمان من الطعام والشراب مدة من الزمن، والتعود على تناول الطعام الخشن والماء العسر، والابتعاد عن المأكل اللّين والشراب السائغ مدة التدريب، وهذا ما نطلق عليه في المصطلحات العسكرية الحديثة: التدريب العنيف. ولكن هذا التدريب العسكري وحده لا يكفي، لأنه تدريب (فردي)، فلابد من تلقّي التدريب (الإجمالي)، وهو ممارسة الجهاد قائداً وجندياً في ساحة القتال، ليطبق ما تعلمه (فرداً) من فنون عسكرية عملية، على القتال ضمن المحاربين تطبيقاً عملياً، وهذا ما نطلق عليه تعبير: تعليم المعركة، إذ لا فائدة من التدريب الفردي، إلاّ إذا طبّق عمليّاً في التدريب الإجمالي، وأفضل أنواع التدريب الإجمالي وأكثرها فائدة، هو ممارسة القتال عملياً في ميدان القتال. وقد كان أسلوب التدريب على القتال، شائعاً في عهد بني أميّة عامة، بما في ذلك أبناء الخلفاء والقادة والولاة. أما موسى بن نصير، فقد دأب على زجّ أولاده في معارك الجهاد، فزجَّ بعبد الله ومروان ابنيه في معارك الجهاد الإفريقية (1)، وزجَّ بعبد العزيز وعبد الأعلى في معارك الجهاد الأندلسية. وكان التدريب العملي في الأمور الإدارية ميسوراً أيضاً لعبد الله وسائر أبناء موسى بن نصير، لأنهم كانوا إلى جانب والدهم الذي كان والياً على إفريقية والمغرب، فكان عبد الله قريباً من أكبر ولاة بني أميّة ومن ألمعهم وأقدرهم، _______ (1) البيان المغرب (1/ 40).

يرى كيف يصرِّف الأمور، وكيف يصدر القرارات الخطيرة، فكان يرى ويسمع ما يحدث في القمَّة من تصريف أمور الدولة، وهذه تجارب عمليّة مفيدة للغاية في تكوين شخصية عبد الله، وإكمال تعلّمه وتدريبه. لقد تهيّأ لعبد الله العلم المكتسب، والتجربة العملية، مما كان له أثر عميق في تكوين شخصيته إدارياً وقائداً.

الفاتح

الفاتح 1 - في إِفْرِيْقِيَّة (1): أصبح عبد الله ساعد والده الأيمن، بعد أن أصبح والده على إفريقية والمغرب (2)، يستعين به في الفتوح، ومن الواضح أنه رافق أباه موسى بن نصير _______ (1) أطلق الفينيقيون لفظ: أفري ( Aphri) على أهل البلاد الذين كانوا يسكنون حول مدينتهم القديمة ( Utica) وعاصمتهم قرطاجنة مدينتهم الحديثة، وعنهم أخذه اليونان، فأطلقوه على أهل البلاد الأصليين الذين يسكنون المغرب من حدود مصر إلى المحيط. وقد سمّيت هذه المنطقة: (أفريكا)، أي بلاد الأَفْرِي، واستُعمل هذا الاسم للدلالة على هذه المنطقة. وأخذ معنى هذا الّلفظ يتّسع شيئاً فشيئاً كلّما اتّسع سلطان الرومان في إفريقيّة، فأصبحت ولاية إفريقية القنصلية تضم ولاية إفريقية الأصلية والجزء الشرقي من تونس الحالية، والمنطقة الداخلية التي تمتدّ حتى فَزَّان؛ أما بقية إفريقية الرومانية، فسمّي الجزء المقابل منها للجزائر الحالية: نوميديا، ويلي ذلك موريتانيا بقسميها القيصرية والطنجيّة، فإفريقيّة تشمل كل ما دخل في طاعة الروم من هذه القارة من برقة إلى طَنْجَة. وعن البيزنطيين أخذ العرب لفظ: إفريقية، فأرادوا به في أوّل الأمر كل ما يلي مصر غرباً حتى ساحل المحيط الأطلسي، وهذا هو مفهوم إفريقية العام الذي يكاد يعادل مفهوم المغرب. أما مفهوم إفريقيّة الخاص، فهو يعني الأجزاء الشرقية من المغرب التي تعادل ولاية إفريقيّة الرومانية الأصلية، أي البلاد التونسية الحالية مع بعض الأجزاء الغربيّة لولاية طرابلس (ومنها المدينة) والتخوم الشرقية لبلاد الجزائر العربية إلى بجاية في ولاية قسنطينة، وعلى ذلك فإنّ إقليم إفريقيّة هو أوّل أقاليم المغرب، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 300) وآثار البلاد وأخبار العباد (148) ووصف إفريقيّة للبكري (210)، وفيه جاء رسم موريتانيا هكذا ( Mauretania) ، وأنظر فتح العرب للمغرب (1 - 2) وتاريخ المغرب العربي (11)، والمؤرخون والجغرافيون العرب، يذكرون أنّ إفريقيّة سمّيت باسم شخص معيّن، أنظر معجم البلدان (1/ 300)، ومنهم مَنْ يذكر أنها مشتقة من لفظة: فرّق، أنظر تاريخ ابن خلدون (6/ 98). (2) المغرب عند المؤلفين الأوائل، يبدأ مما يلي إفريقيّة غرباً إلى سواحل المحيط، أنظر المسالك والممالك (33) ومعجم البلدان (8/ 103)، وفيه: أنّ الأندلس من المغرب =

في فتوحه، قبل أن يتولى قيادة مستقلة، وكان من أسباب مرافقته لأبيه: تدريبه عملياً في ميدان الجهاد، واختبار قدراته قائداً ومجاهداً. ويبدو أنه أصبح في سن يصلح معها تولي القيادة، بعد تدريبه على واجباتها عملياً، وبعد نجاحه في إبراز كفايته قائداً ومجاهداً، فولاّه أبوه القيادة في إفريقية، ليعمل تحت إشرافه قائداً مرءوساً. وكان أول فتوح موسى بن نصير في إفريقية قلعة زغْوان (1)، وبينها وبين القيروان مسيرة يوم كامل، وبنواحي زغوان قبائل من البربر، بعث إليهم موسى خمسمائة فارس، ففتحها، وغنم منها عشرة آلاف من السبايا، فكان ذلك السبي أول سبي دخل القيروان (2). ثم وجّه موسى ابنه عبد الله (3) إلى بعض نواحي إفريقية، فأتى بمائة ألف رأس من السبى. ثم وجه ابنه مروان (4)، فأتى بمثلها، فكان الخمس يومئذ ستين ألفاً. وكتب موسى إلى عبد العزيز بن مروان الذي كان يومئذ على مصر، والذي كان موسى مرتبطاً به مباشرة من الناحية الإدارية، يُعلمه بالفتح، ويُعلمه أن الخُمس بلغ ثلاثين ألفاً، وكان ذلك وهماً من الكاتب: كتب ثلاثين ألفاً بدلاً من ستين ألفاً، فلما قرأ عبد العزيز بن مروان الكتاب، وأن الخُمُس من السّبى ثلاثون ألفاً، استكثر ذلك، ورأى أنه وَهْمٌ من الكاتب لكثرته، فكتب إلى موسى يقول له: "إنه بلغني كتابك، تذكر أن خُمس ما أفاء الله عليك ثلاثون ألف رأس، فاستكثرت ذلك، وظننته وهماً من _______ = أيضاً. (1) زغوان: جبل بإفريقيّة بالقرب من تونس، وهو جبل منيف مشرف، يُرى على مسيرة الأيام الكثيرة، فيه قرى كثيرة آهلة كثيرة المياه والثمار، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 394). (2) البيان المغرب (1/ 40) والإمامة والسياسة (2/ 63). (3) ورد اسمه: عبد الرحمن بن موسى، في الإمامة والسياسة (2/ 63)، بينما ورد اسمه في البيان المغرب (1/ 40): عبد الله بن موسى، وكذلك في ابن الأثير (4/ 540)، وهو الصواب. (4) في ابن الأثير (4/ 540)، أنّه هارون لا مروان، والأول أصح.

الكاتب، فاكتب بالحقيقة". فكتب موسى: "قد كان ذلك وهماً من الكاتب على ما ظنّه الأمير! والخمس أيها الأمير ستون ألف رأس ثابتاً بلا وَهْم"، فلما بلغه الكتاب، عجب كل العجب وامتلأ سروراً، وكان الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز: "قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من رأيك في عزل حسّان (1) وتولية موسى، وقد أمضى لك أمير المؤمنين ما كان من رأيك وولاية مَن ولّيتَ"، فكتب عبد العزيز إلى أخيه يعلمه بالفتح وبكتاب موسى (2). ومن الواضح، أن هناك مبالغة شديدة في عدد الأسرى، فإذا كان الخمس ستين ألفاً، فمعنى ذلك أن تَعْداد السّبي يكون ثلاثمائة ألف. فإذا كان سبي زغوان عشرة آلاف، وسبي عبد الله مائة ألف، وسبي مروان مائة ألف، فيكون المجموع عشرة آلاف ومائتي ألف، لا ثلاثمائة ألف (3). وقد ورد في مصدر آخر، أن تعداد سبي عبد الله، بلغ ألف رأس (4) فقط، وهذا عدد مناسب معقول، فإذا كان تعداد سبي مروان ألف رأس أيضاً، وتعداد سبي موسى في زغوان مثل هذا العدد، فيكون مجموع السبي ثلاثة آلاف رأس، ويكون الخمس من هذا السبي ستمائة رأس، لا ستين ألفاً، بيد أن الناسخ أخطأ في النقل، فأضاف لكل عدد صفرين إلى اليمين من العدد الحقيقي الأصلي. ودلالة أعمال موسى بن نصير هذه، أنه استطاع القضاء على جيوب المقاومة في إفريقية، وأنه استطاع إخضاع قبائل البربر التي خرجت على الطاعة، بعد مسير حسّان بن النعمان إلى المشرق، وأنّ، موسى أراد أن يحلّ _______ (1) حَسَّان بن النّعمان الأزديّ الغسّاني: أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 172 - 220). (2) البيان المغرب (1/ 40) والإمامة والسياسة (2/ 63). (3) قادة فتح المغرب العربي (1/ 231). (4) ابن الأثير (4/ 540).

2 - في البحر:

قضايا القبائل حلاً جذريّاً، فعاقب الخارجين عليه عقاباً صارماً. وبذلك استطاع موسى أن يجعل من منطقة القيروان وما حولها، قاعدة أمينة للمسلمين، ينطلق منها موسى وهو أمين على خطوط مواصلاته، لتنفيذ خططه في الفتح متغلغلاً في المغرب الأوسط (1) والمغرب الأقصى (2). وكان ما أنجزه موسى، تمَّ بمعاونة أولاده، وعلى رأسهم أكبرهم سنّاً: عبد الله (3)، ويبدو أن هذا الفتح الإفريقي، تمّ سنة خمس وثمانين الهجرية، قُبيل وفاة عبد العزيز بن مروان، لأن عبد العزيز توفي سنة خمس وثمانين الهجرية كما هو معلوم، أي سنة (704 م). 2 - في البحر: أ - في صِقِلِّيَة (4): أمر موسى بن نصير بالتأهّب لركوب البحر، وأعلمهم أنه راكب بنفسه، فرغب الناس وتسارعوا، فلم يبق شريف ممن كان معه إلاّ فقد ركب الفُلك. _______ (1) المغرب الأوسط: من شرقيّ وهران إلى آخر حدود مملكة بجاية، أنظر تقويم البلدان (122)، وأنظر التفاصيل عن المغرب في أحسن التقاسيم (215 - 236) والأعلاق النفيسة (347 - 353) والمسالك والممالك لابن خرداذبة (85 - 93) ومختصر كتاب البلدان (78 - 88) وصفة المغرب (2 - 29) والمسالك والممالك للإصطخري (33 - 38)، وهي جمهورية الجزائر في الوقت الحاضر، أنظر تاريخ المغرب العربي (12). (2) المغرب الأقصى: من ساحل البحر المحيط غرباً، إلى تلمسان شرقاً، ومن سبتة إلى مراكش إلى سجلماسة وما في سمتها شمالاً وجنوباً، أنظر تقويم البلدان (122) والمصادر المنوّه عنها في المادة (1) أعلاه، وهي المملكة المغربية في الوقت الحاضر، أنظر تاريخ المغرب العربي (12). (3) البيان المغرب (1/ 41) وابن الأثير (4/ 513). (4) صقلّية: من جزائر البحر الأبيض المتوسط المعروفة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 373).

وكان موسى قد مهّد لجهاده في البحر، بالاهتمام بعمران مدينة تُونس، وتوسيع دار الصناعة بها، وشق القناة التي توصل بين الميناء رادِس (1) وبين المدينة، على طول اثني عشر ميلاً، حتى أقحمه دار الصناعة، فصارت مشتى للمراكب إذا هبّت النوار والأرياح، ثم أمر بصناعة مائة مركب (2). وعقد موسى لواء هذه الغزو لابنه عبد الله، وأمّره على رجالها وولاّه عليهم، ثم أمره أن يتوجه إلى هدفه، وإنما أراد موسى بما أشار من مسيره، أن يركب أهل الجلد والنكاية والشّرف، فسمِّيت هذه الغزوة: غزوة الأشراف. وسار عبد الله بمراكبه، وكانت تلك الغزوة أول غزوة غُزيت في بحر إفريقية (البحر الأبيض المتوسط المقابل لإفريقية)، فأصاب في غزوته تلك صقلية، وافتتح مدينة فيها، فبلغ سهم الرّجل مائة دينار ذهباً، وكان المسلمون ما بين الألف إلى التسعمائة، ثم انصرف قافلاً سالماً، وكان ذلك في سنة خمس وثمانين الهجرية (3) (704 م). ومن الواضح أن هذه الغزوة كانت غارة من الغارات، ولم تكن فتحاً من الفتوح، ولكنها لم تكن غارة من غارات اقتناص المغانم، كما يتوهم قسم من المؤرخين الأجانب، فقد كانت المغانم ميسّرة في البر الإفريقي - كما رأينا - كما لم يكن المسلمون يومئذ يستهدفون المغانم غاية لهم من الغارات، بل كانت هذه الغارة دفاعية، فلا بد من أن الرّوم قد اتخذوا من صقلية قاعدة أمامية متقدمة لهم، ينطلقون منها للتعرض بالساحل الإفريقي الذي فتحه المسلمون، فكان الموقف العسكري يقضي على حماة تلك المناطق من المسلمين المرابطين على أرضها، أن يدافعوا عنها تجاه التعرّض الرّومي، بصدِّه أولاً، _______ (1) رادس: البحر الذي على ساحل تونس بإفريقيّة يقال له: رادس، وبذلك سمّي ميناؤها: ميناء رادس. ورادس: اسم موضع كالقرية، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 203 - 204). (2) الإمامة والسياسة (2/ 70). (3) الإمامة والسياسة (2/ 70 - 71).

وبالهجوم على قاعدة انطلاقه ثانياً. وكان الهجوم. على صقلية أنجع وسائل الدفاع عن الساحل الإفريقي، فليست غارة عبد الله يومئذ على صقلية إلاّ التعرّض بالرّوم الذين اتخذوا منها قاعدة أمامية متقدمة للتعرض بالساحل الإفريقي الإسلامي، وما كان أمام المسلمين من خيار غير تلقين الرّوم فيها، بالغارة عليها درساً لا ينسونه، وقد تولى عبد الله قيادة تنفيذ هذا الدرس على الرّوم في صقلية. وحين نقول: إن المسلمين يومئذ، لم يكونوا يستهدفون المغانم غايةً لهم من المغارات أو من مختلف أنواع الجهاد، فهذا لا يمنع أن يكون بينهم من يستهدف المغانم، ولكن القاعدة هي أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله، والاستثناء هو استهداف المغانم، والعبرة بالقاعدة لا بالاستثناء. وفي سنة سبع وثمانين الهجرية (705 م) أغزى موسى بن نصير ابنه عبد الله بن موسى سردينيا (1)، فافتتح نِوَلَة (2)، وعاد سالماً غانماً (3). وهذه غارة أخرى على قاعدة الرّوم الأمامية المتقدّمة، ومثل هذه الغارات التأديبية، مفيدة للغاية لحماية المناطق الساحلية من إفريقية، من غارات الرّوم البحريّة، ومن محاولاتهم التعرّضية المستمرة بالمسلمين في تلك المناطق، طمعاً في استعادة إفريقية إلى حكمهم من جديد. وتلك الغارات، لا تقنعهم عملياً بصعوبة الاستعادة حسب، بل تلقِّنهم درساً قاسياً في عقر دارهم وعلى قواعدهم البحرية، وتثبت لهم بالهجوم عليهم لا بالدفاع المُسْتكِن في المناطق المفتوحة، أن محاولات الإستعادة لن تمرّ بدون عقاب صارم، يضع حداً _______ (1) سردانية: جزيرة في بحر المغرب كبيرة، ليس هناك بعد الأندلس وصقلية أكبر منها، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 66). (2) نولة: حصن من أعمال مرسية بالأندلس، أنظر معجم البلدان (8/ 328)، ويبدو أنه حصن من حصون جزيرة سردانية، كما يدلّ على ذلك سياق الخبر. (3) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وأنظر العبر (1/ 104) وشذرات الذهب (1/ 98) والبداية والنهاية (9/ 77).

ب - في ميورقة ومنورقة:

حاسماً لتلك المحاولات. هكذا فتح المسلمون ما فتحوا، وهكذا حافظوا على ما فتحوا. ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة: بعد أن أنجز موسى بن نصير استعادة فتح المغرب الأوسط، وأكمل فتح المغرب الأقصى، وفتح طنجَة، أصبحت السواحل المغربية المواجهة لبعض جزر البحر الأبيض المتوسط وللأندلس، معرضة لهجمات الرّوم، لغرض استعادة تلك المناطق الغنية إلى سيطرتهم، ومن القوط الذين يحكمون الأندلس لغرض إبعاد المسلمين عن بلادهم، وحمايتها من غزو المسلمين المتوقع لها. وكان من جزر البحر التي اتخذها الروم والقوط قواعد متقدمة لهم، جزيرتا: ميورقة ومنورقة، وهما جزيرتان في البحر الأبيض المتوسط، بين صقلية وجزيرة الأندلس (1). وفي سنة تسع وثمانين الهجرية (707 م)، جهز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح هاتين الجزيرتين (2)، وغنم منها ما لا يحصى، وعاد سالماً (3). ويبدو أن المسلمين، بعد فتح هاتين الجزيرتين، تركوا فيهما حاميتين صغيرتين منهم، لحرمان الرّوم والقوط من الاستفادة منهما قاعدتين لقواتهم، للتعرض بالمسلمين في الساحل المغربي المقابل لهاتين الجزيرتين، وللاستفادة منهما في مراقبة النشاط البحري للروم والقوط، وإنذار المسلمين بكل نشاط معادٍ بوقت مبكِّر، لاتخاذ التدابير الضرورية الّلازمة لإحباطه. _______ (1) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وأنظر العبر (1/ 104) وشذرات الذهب (1/ 98) والبداية والنهاية (9/ 77). (2) النجوم الزاهرة (1/ 216)، وأنظر تاريخ خليفة بن خيّاط (1/ 305) وابن الأثير (4/ 540). (3) ابن الأثير (4/ 540).

الإنسان

أما بالنسبة للأندلس، فقد قضى المسلمون على نشاط القوط المعادي لهم فيها، والذي عرقل محاولات المسلمين لفتح مدينة سَبْتة على الساحل المغربي، القريبة من الأندلس، والتي يفصل بينها وبين الأندلس مضيق جبل طارق، فقد عاون الملك غَيْطَشَة آخر ملوك الأندلس قبل لذريق، حاكم سبتة الدوق يُلْيَان، على الثبات تجاه محاولة موسى بن نصير لفتح سبتة، فنجح يليان في صد المسلمين عن مدينته ولو لحين من الزمن لم يطل أمده. أما الأندلس ففتحها المسلمون ابتداء من سنة اثنتين وتسعين الهجرية (711 م) حتى سنة خمس وتسعين الهجرية (714 م)، وبذلك انتهى خطر القوط على الساحل المغربي من جهة، واطمأن المسلمون على حاضر الفتح الإسلامي في إفريقية والمغرب ومستقبله، وبخاصة الساحل الإفريقي والساحل المغربي على البحر الأبيض المتوسط، وذلك بحشد المرابطين في مدن الساحل، وبتصنيع السفن والمراكب الحربية محلياً بأيدي المسلمين وبمصانعهم الحربية، وبفتح الجزر المهمّة في البحر التي يمكن أن تكون قواعد للروم أو القوط أو أي عدوّ للمسلمين، وبالسيطرة على مياه البحر بالأسطول والمجاهدين وبالجزر المفتوحة. لقد أعدّ موسى بن نصير ابنه الأكبر عبد الله، ليكون خلفه على إفريقية والمغرب، لذلك وجّهه من أول الأمر إلى فتوح إفريقية والمغرب، وإلى فتوح الجزر التي تحمي سواحل إفريقية والمغرب، ولم يشغله في فتوح الأندلس، ليبقى متفرِّغاً إلى واجبه الأصلي: ولاية إفريقية والمغرب، وهي الولاية الرئيسة التي كانت الأندلس تابعة لها، إذ كان والي إفريقية والمغرب هو الذي يعيّن والي الأندلس. الإنسان حين استدعى الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان من الأندلس موسى بن

نصير إلى دمشق، استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز، فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله (1)، وكان ذلك سنة خمس وتسعين الهجرية (2) (714 م). وكان موسى قد استخلف ابنه عبد الله على إفريقية سنة ثلاث وتسعين الهجرية (712 م) حين عبر موسى إلى الأندلس فاتحاً، (3) فكان عبد الله على إفريقية والمغرب من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (711 م) في الواقع. ولم يكن استدعاء موسى من الأندلس إلى دمشق طبيعياً، ولكن بعد وصوله إلى دمشق، تسامع الناس باضطهاده، فأصبح مصير موسى ومصير أولاده في مهب الريح، حيث أصبح موسى من المغضوب عليهم من الخلافة، وأصبح أولاده تبعاً له كذلك، وأصبح موسى وآل بيته وبخاصة أولاده الذين يتولون مناصب إدارية وقيادية رجالاً بلا غد. ولم يطل انتظار عبد الله، فقد عزله سليمان بن عبد الملك بن مروان عن إفريقية والمغرب، وولّى مكانه محمد بن يزيد موْلى قُريش. فقد قال سليمان بن عبد الملك لرجاء بن حَيْوَة (4): "أريد رجلاً له فضلٌ في نفسه، أوليه _______ (1) ابن الأثير (4/ 516) والبيان المغرب (1/ 43 - 44) ونفح الطيب (1/ 286) وتاريخ خليفة بن خيّاط (1/ 311). (2) البيان المغرب (1/ 43) ونفح الطيب (1/ 234 و 277). (3) البيان المغرب (1/ 43) ونفح الطيب (1/ 233). (4) رجاء بن حيوة الكندي الشّامي الفلسطيني، ويقال: الأردنيّ: التّابعي الإمام، روى عن كثير من الصحابة وعن خلائق من التّابعين، وروى عنه جماعة من التابعين، وقال عنه بعض مَنْ رآه: "ما رأيت شاميّاً أفقه من رجاء بن حيوة"، وكان ثقة عالماً فاضلاً كثير العلم، وقال مَسْلَمة بن عبد الملك: "في كندة ثلاثة رجال، إنّ الله لينزل الغيث بهم، وينصر بهم على الأعداء، أوّلهم رجاء بن حيوة"، ومناقبه كثيرة مشهورة. قال البخاري: "قيل لرجاء، مالك لا تأتي السلطان؟ وكان يقعد عنهم، فقال: يكفيني الذي تركتهم له، يعني ربّ العالمين سبحانه وتعالى"، وكان قاضياً، وأجمعوا على جلالته وعظم فضله في نفسه وعلمه، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائة الهجرية رحمه الله، أنظر: =

إفريقية"، فقال له: "نعم"، فمكث أياماً، ثم قال: "قد وجدت رجلاً له فضل"، قال: "مَن هو؟ "، قال: "محمد بن يزيد مولى قريش"، فقال: "أدخله عليّ! "، فأدخله عليه. فقال سليمان: "يا محمد بن يزيد! اتّق الله وحده لا شريك له، وقم فيما ولّيتُك بالحق والعدل! وقد ولّيتكَ إفريقية والمغرب كله"، فودّع محمد بن يزيد سليمان بن عبد الملك وانصرف وهو يقول: "مالي عُذْرٌ عند الله إن لم أَعدل". وفي سنة سبع وتسعين الهجرية (715 م)، استقرّ محمد بن يزيد بإفريقية بأحسن سيرة وأعدلها. ثم وصله الأمر بأخذ عبد الله بن موسى بن نصير، وتعذيبه، واستئصال أموال بني موسى، فسجنه محمد وعذّبه، ثم قتله بعد ذلك. وكان سليمان قد أمره بأخذ أهل موسى وولده وكل من تلبّس به، واستئصال أموالهم وتعذيبهم، حتى يؤدوا ثلاثمائة ألف دينار (1). وقتْلُ عبد الله وتعذيبه وسجنه، بأمر سليمان بن عبد الملك، وتنفيذ عامله محمد بن يزيد، أمور يصعب تصديقها، وبخاصة قضية قتل عبد الله، إذ ليس من السهل قتل رجل مسلم في تلك الأيام، بدون اقتراف ما يسوِّغ قتله شرعاً. ومما يزيد في الشك بذلك، أن القتل جرى بأمر سليمان، وهو: "مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز"، كما وصفه المؤرخون، فمن الصعب أن نصدِّق أنه يأمر بقتل عبد الله، وهو قادر على حجزه أو ترحيله بسهولة ويسر، كما أن من الصعب تصديق أن محمد بن يزيد ينفِّذ حكم الإعدام بعبد الله، وهو من المعروفين بحسن السيرة والعدل، ويكفي أن رجاء بن حَيْوَة الإمام المحدِّث الفقيه التابعي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، قد زكّى محمد بن يزيد لولاية إفريقية والمغرب، ولو لم يكن عَدْلاً متميزاً بين العدول لما رشحه رجاء لهذا _______ = طبقات ابن سعد (7/ 454 - 455) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 190) وتهذيب التهذيب (3/ 265 - 266) والبداية والنهاية (9/ 304). (1) البيان المغرب (1/ 47).

المنصب ولما زكّاه. ولا عبرة بترديد قسم من المؤرخين قصة سجن عبد الله وقتله (1)، فهم ينقلون عن بعضهم بالتعاقب. والدليل على أن محمد بن يزيد لم يقتل عبد الله، ما ذكره بعض المؤرخين المعتمدين، من أن سليمان بن عبد الملك عزل عبد الله ابن موسى بن نصير، واستعمل محمد بن يزيد على إفريقية سنة سبع وتسعين الهجرية، فلم يزل عليها حتى مات سليمان (2)، ولا ذكر لسجن عبد الله وتعذيبه وقتله في تلك المصادر. ولعل مما يضاعف الشك، في صحة ما جاء، من أن محمد بن يزيد عامل سليمان بن عبد الملك قد سجن وعذّب وقتل عبد الله بن موسى، ما ذكره البلاذري، من أن عبد الله كان لا يزال حيّاً يرزق في القيروان، بعد رحيل محمد بن يزيد معزولاً عن إفريقية والمغرب: "ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (3)، ولّى المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم (4)، فسار أحسن سيرة، ودعى البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر بن عبد العزيز كتبُاً يدعوهم إلى ذلك، فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي، فغلب الإسلام على المغرب. ولما ولي يزيد بن عبد الملك (5)، ولّى يزيد بن أبي مُسْلِم (6) مولى الحجاج بن يوسف إفريقية والمغرب، فقدم إفريقية في سنة _______ (1) النجوم الزاهرة (1/ 235). (2) ابن الأثير (5/ 23)، من دون أن يذكر أنّ سليمان أمر محمد بن يزيد بسجن عبد الله بن موسى وتعذيبه وقتله، ولو كان سليمان قد أمر بذلك، لما أغفله المؤرخ ابن الأثير، ويبدو أنّه وجده خبراً متهافتاً يصعب تصديقه، فأغفله إغفالاًَ كاملاً، ولم يتطرّق إليه من قريب أو بعيد. (3) مات سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين الهجرية، فخلفه عمر بن عبد العزيز، أنظر ابن الأثير (5/ 37 - 38) والعبر (1/ 118) والبيان المغرب (1/ 48). (4) أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 48). (5) توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة الهجرية، فخلفه يزيد بن عبد الملك، أنظر ابن الأثير (5/ 58) و (5/ 17) والعبر (1/ 120) والبيان المغرب (1/ 48). (6) أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 48).

اثنتين ومائة الهجرية، وكان حرسه البربر، فوسم كل امرئ منهم على يده: (حَرَسِيّ) (1) فأنكروا ذلك وملّوا سيرته، فدبّ بعضهم إلى بعض وتضافروا على قتله، فخرج ذات عشية لصلاة المغرب، فقتلوه في مصلاه، فولَّى يزيد بن بِشْر بن صفوان (2) الكلبي، فضرب عنق عبد الله بن موسى بن نصير بيزيد، وذلك أنه اتُّهم بقتله وتأليب الناس عليه" (3)، ومعنى ذلك، أن محمد بن يزيد لم يقتل عبد الله، بل قتله يزيد بن بشر بن صفوان الكلبي، الذي تولى إفريقية والمغرب ليزيد بن عبد الملك، سنة ثلاث ومائة الهجرية (4) (721 م). ومن الواضح، أن رواية البلاذري هذه تُرجّح على الرواية الأولى، لأن من الصعب تصديق أن سليمان بن عبد الملك، هو الذي أمر بسجن عبد الله وتعذيبه وقتله، ويكفي أنه أمّرَه على المغرب وإفريقية بعد أبيه موسى بن نصير، ولم يعزله إلاّ في سنة سبع وتسعين الهجرية (5)، وإلاّ لما أبقاه في منصبه نحو سنتين، ولَعَزَله فوراً. ولأن من الصعب تصديق أن محمد بن يزيد، يمكن أن يُقدم على قتل عبد الله أو غيره ظلماً، وهو مَن هو في حسن سيرته وعدله (6)، ويكفي أنه مرشح رجاء بن حّيْوَة وهو من هو في استقامته وحرصه على مصلحة المسلمين العليا. أما يزيد بن أبي مسلم الذي قَدِمَ على إفريقية سنة اثنتين ومائة الهجرية والياً عليها ليزيد بن عبد الملك، فقد كان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي وصاحب شرطته، وكان ظلوماً غشوماً، وكان البربر يحرسونه، فقام على المنبر خطيباً فقال: "إني رأيت أن أرسم اسم: حَرَسِي، على أيديهم، كما تصنع ملوك الرّوم _______ (1) حرسيّ: مفرد حرّاس، وهم أعوان الملك. (2) أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 49). (3) البلاذري (323 - 324). (4) البيان المغرب (1/ 49). (5) تاريخ خليفة بن خياط (1/ 324). (6) البيان المغرب (1/ 43).

بحرسها، فأرسم في يمين الرّجل اسمه، وفي يساره: حَرَسِي، ليُعْرَفوا بذلك من بين سائر الناس، فإذا وقفوا على أحد، أسرع لِمَا أمرتُ به"، فلما سمعوا ذلك منه، أعني حَرَسه، اتفقوا على قتله، وقالوا: "جعلنا بمنزلة النصارى"، فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب، قتلوه في مصلاّه (1). وولّى يزيد بن عبد الملك، بِشْرَ بن صفوان الكلبي خلفاً ليزيد بن مسلم، فضرب عنق عبد الله بن موسى بن نصير بيزيد، وذلك أنه اتُهم بقتله وتأليب الناس عليه (2)، وهذا يدل على أن بشر بن صفوان، حقّق في أمر اغتيال يزيد بن مسلم، فوجد أن عبد الله بن موسى كان أحد المؤلِّبين على قتله، أو من أبرز المؤلِّبين، خاصة وأن بشر بن صفوان استصفى بقايا آل موسى بن نصير، ثم وفد على يزيد بن عبد الملك، فألفاه قد هلك (3). وهذه الرواية أقرب إلى التصديق، ومعنى ذلك أن عبد الله قد قُتل سنة ثلاث ومائة الهجرية (721 م)، وهي السنة التي تولى فيها بشر بن صفوان إفريقية والمغرب (4). لقد كان عبد الله والياً على إفريقية والمغرب لمدة أربع سنوات ابتداء من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (712 م) حتى سنة سبع وتسعين الهجرية (715 م). بصورة مستقلة، وكان السّاعد الأيمن لأبيه موسى بن نصير منذ تولية إفريقية والمغرب حتى غادرهما إلى الأندلس فاتحاً، ولاّه أبوه موسى من سنة ثلاث وتسعين الهجرية إلى سنة خمس وتسعين الهجرية (714 م)، وأقرّه سليمان بن عبد الملك عليها بعد استدعاء أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق سنة خمس وتسعين الهجرية، حتى عزله سنة سبع وتسعين الهجرية (5)، فكان إدارياً _______ (1) البيان المغرب (1/ 48). (2) البلاذري (323 - 324). (3) البيان المغرب (1/ 49). (4) البيان المغرب (1/ 49). (5) تاريخ خليفة بن خياط (1/ 324).

حازماً، ولا نعلم أنه قصّر بواجبه والياً. ولكن نشاطه بعد استدعاء أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق، ومحاسبة الخليفة سليمان له حساباً عسيراً، وبعد أن أصبح أبوه من المغضوب عليهم من الخليفة ومَن حوله، أصبح نشاطه محدوداً، وكان أقل من نشاطه قبل استدعاء أبيه، لأنه كان يعاني من القلق على مصير أبيه ومصيره ومصير آل موسى بن نصير، وكانت نفسيته مجهدة من جراء هذا القلق، كما أن تعاون الناس معه والتفافهم حوله، أصبح أقل من السابق، لأنهم كانوا يتوقعون تنحيته عن الولاية بين يوم وآخر، والناس دائماً مع (الواقف) الذي تكون الأيام له لا عليه. والمعلومات عنه في المصادر المعتمدة إنساناً، شحيحة جداً، فلا نعلم متى ولد، وما هي سماته إنساناً، ولا عَدَد أولاده، ولا تفاصيل إنجازاته إدارياً، فهناك نوع من التعتيم على تفاصيل حياة أبناء موسى بن نصير، ونوع من الغيوم الداكنة التي تحجب تفاصيل حياتهم، ولعلّ غضب الخلافة على موسى بن نصير، كان له أثر في قلّة المعلومات عن أبنائه، وله تأثير في المؤرخين الذين لم يذكروهم إلاّ نادراً. والذي نعرفه عن عبد الله، أنه كان أكبر إخوته، وقد عرفنا من إخوته: عبد العزيز الذي استخلفه موسى على الأندلس، وعبد الملك الذي استخلفه على سبتة وطنجة وما والاهما (1)، وعبد الأعلى الذي فتح بعض مدن شرقي الأندلس وجنوبي شرقيها (2)، ومروان الذي رافق أباه إلى دمشق (3). وكان موسى بن نصير من التابعين (4)، فابنه عبد الله من تابعي التابعين، رضوان الله عليهم أجمعين. _______ (1) ابن الأثير (4/ 566). (2) أنظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار. (3) البيان المغرب (1/ 44). (4) تاريخ العلماء والرواة بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (442) ووفيات الأعيان (4/ 202) والبداية والنهاية (9/ 171).

القائد

وليس عبد الله وحده، خدم بلاده وأمته إدارياً وقائداً، وجندياً فاتحاً، ثم قابله قومه بالعقوق، وعاقبوه على إحسانه بالاغتيال والنسيان، فهو أحد الذين تخلّى عنه الناس لأن النّظام السّائد تخلّى عنه، متناسين جهاده وجهوده وفتوحه، ولعلّ ماضيه المجيد أصبح وبالاً عليه، فسقط مضرّجاً بدمائه بسيوف لم تفرِّح عدوّاً في ساحات الجهاد، وضرّجت مجاهداً فاتحاً في بيت من بيوت الله. إنه حلقة من سلسلة طويلة جداً، تلقى أصحابها العقوق والنسيان، جزاء ما قدموه من جهود وإحسان. القائد مفتاح شخصية عبد الله قائداً، يكمن في شجاعته الشخصية وإقدامه، فقد تولّى قيادة حملة تأديبية في البحر مرتين: الأولى سنة خمس وثمانين الهجرية (704 م) على قاعدة الروم في صقلية، والثانية سنة سبع وثمانين الهجرية (705 م) على قاعدة الرّوم في سردينيا، وكانت الحملتان التأديبيتان البحريتان على الروم في قواعدهم الأمامية المتقدمة، التي ينطلقون منها للتعرض بالمسلمين الفاتحين في شمالي إفريقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ناجحتين للغاية، أعطى بهما عبد الله درساً للروم لن ينسوه، هو أن تعرّضهم بالمسلمين لن يمرّ بدون عقاب، وأن من الخير لهم أن يتخلّوا عن تعرّضهم بالمسلمين، لأنه لا يفيدهم في استعادة ما خسروه من مناطق في إفريقية فحسب، بل يعرّضهم لخسارة مناطق جديدة يمتلكونها في البحر، كجزر البحر الأبيض المتوسط وعلى رأسها جزيرتا: صقلية وسردانية، أكبر قاعدتين أماميتين متقدمتين لهم في جزر البحر الأبيض المتوسط. ومن الواضح، أن اقتحام البحر، وقيادة حملة بحرية، من قائد لم يَعْتَد ركوب البحر ولا معاناة أهواله، للهجوم على عدو مارس حروب البحر واعتاد

عليها، بحاجة إلى قيادة شجاعة مقدامة، لا تخشى أهوال تلك الحروب، ولا تجهل مشاقّها ومعضلاتها، وتُعد العُدّة لمجابهة المشقات وحل المعضلات. ومن الصعب على قائد عام، كموسى بن نصير، أن يولِّي ابنه البكر عبد الله، قيادة بحرية، دون أن يكون واثقاً من قابليات ولده وكفاياته واقتداره، وأنه سيكون عند حسن ظنّه به قائداً منتصراً، وعند حسن ظن المسلمين به قائداً لا يغرِّر بأصحابه، ولا يقودهم إلى المهالك، بل يحرص على أرواحهم حرصه على روحه، ويقودهم إلى النصر. وإلاّ، فما من والد، يمكن أن يغرِّر بابنه، ويغرِّر بالمسلمين، ويعرِّضه ويعرِّضهم لخطر داهم، إلاّ إذا كان واثقاً كل الثقة بابنه، لأن الحرب، وبخاصة البحرية منها، ليست نزهة من النزهات. وما قصّر موسى بن نصير في تأديب ابنه عبد الله وسائر أولاده وتعليمهم وتدريبهم، ثم بدأ بتزويد عبد الله بالتجربة العملية على القيادة والإدارة، منذ حلّ في إفريقية والياً عليها. ولكن التجارب العملية على القيادة، لا يمكن أن تأتي ثمارها ما لم يكن المجرِّب متّسماً بالمزايا القيادية المعروفة، والتجربة العملية لها دور في صقل تلك المواهب والمزايا وترسيخها وتنميتها. أما إذا كان المرء محروماً من المزايا القيادية، فلن تجديه التجارب العملية في ميادين القتال شيئاً، فكأنّه يضرب على حديد بارد، أو يغرس الزهر في صحراء. فما هي سمات عبد الله القيادية، التي صقلها ورسّخها ونمّاها بتجاربه العملية الميدانية برّاً أو بحراً؟ لقد كان ذكيّاً فطناً، لذلك كانت قراراته صحيحة وسريعة، وكان شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، يتحمّل المسئولية كاملة ولا يلقيها على عواتق الآخرين تهرّباً منها، يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة فلا يحيد عن قراره إذا اقتنع بسلامته ولا يتخلى عنه، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار واليُسر والعُسر، يسبق النظر، ويتوقع ما يمكن أن يقع، ويُعدّ لكل ما يُحتمل وقوعه الحلول المناسبة مبكّراً، يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم ويضع الرجل المناسب في الواجب المناسب، يثق برجاله ويثقون به، ويحبهم ويحبونه،

ويثق بقيادته العليا وتثق به ويحبّها وتحبّه، يتمتّع بشخصية قوية نافذة لا تضعف ولا تستكين، ولكنها لا تظلم ولا تجور، له قابلية بدنية متميزة لأنه كان في ريعان الشباب وفي أوج عطائه، وله ماضٍ ناصع مجيد، فهو ابن موسى بن نصير فاتح شطر المغرب وشطر الأندلس، وهو أيضاً من القادة الفاتحين والولاة اللاّمعين. وكان يطبق مبادئ القتال كافة بصورة تلقائية، فكان يختار مقصده ويديمه حتى يحقَّقه دون أن ينساه لحظة واحدة أو يتناساه، وكان قائداً تعرّضياً، لم يتّخذ الدفاع أسلوباً قتالياً له أبداً، وكان يباغت أعداءه في عملياته، كما باغتهم في صقلية وسردانية بالهجوم عليهم في وقت لا يتوقّعونه، كما باغت البربر الخارجين على الفاتحين بالهجوم الصاعق عليهم في وقت لا يتوقعونه أيضاً. وكان يحشد قوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويستخدمها في المكان والزمان الجازمين. ولكنه كان يقتصد بالمجهود، فلا يفرِّط برجاله دون مسوِّغ، ولا يغرِّر بهم، ويحرص على أرواحهم حرصه على روحه. وكان يطبّق مبدأ الأمن، فلا نعرف أن العدو استطاع مباغتة قواته في يوم من الأيام، وهذا دليل على أنه كان يؤمّن لقواته الحماية اللاّزمة، ويجمع المعلومات عن العدو بالتفصيل، ويعمل وهو مفتوح العينين. وكانت خططه مرنة، من ناحية سرعة تنقّل قواته برّاً وبحراً. ومن ناحية إمكان تبديلها أو تحويرها أو تطويرها في الوقت المناسب. وكان يتعاون مع قيادته تعاوناً وثيقاً، ويؤمّن التعاون بين صنوف قواته عامة وبين رجاله خاصة. وكان يديم معنويات رجاله، بالعقيدة الراسخة، والقيادة القادرة المتّزنة، والنصر المبين. وكانت أموره الإدارية جيدة، ولا نعلم أن رجاله شكوا من نقص أمر من أموره الإدارية كافة. كما كان مسئولاً عن إدامة قوات الفتح بالأندلس بالرجال والمواد الإدارية والسفن والمراكب، لأنه المسئول الإداري في قاعدة المسلمين الرئيسة: إفريقية والمغرب. وكان يطبق مبدأ: المساواة، بينه وبين رجاله، فيعيش بينهم كفرد منهم، لا

فرق بينه وبينهم في شىءٍ يميّزه عنهم، ولا يمكن أن ننسى موقفه من أحد الذين تولّوا إفريقية والمغرب بعد عزله، والذي أراد أن يتميّز حُرّاسه على سائر المسلمين بعلامات خاصة وشارات معيّنة، فاستنكر عبد الله هذا التمييز، وضحّى بحياته من أجل استنكاره، فإذا لم يكن هو الذي قاد حملة الاستنكار التي أدّت إلى قتل ذلك الوالي، فهو على الأقل كان من أبرز قادة تلك الحملة. وكان يؤمن بمبدأ: الشورى، فيستشير ذوي الرأي من رجاله في كل مشكلة تصادفه، ويتعاون معهم في إيجاد الحل الناجع لها. تلك هي مجمل مزايا عبد الله قائداً، ويبدو أن عبد الله شُغل في أيام والده بأمور إفريقية والمغرب الإدارية، فشغلته أمورها عن التفرّغ للفتح، وكان موضع ثقة أبيه موسى الكاملة، فلم يستطع أبوه موسى أن يوكل أمر إفريقية والمغرب إلى غيره، فوجّه طاقاته كلها في عمله والياً، وتفرع تقريباً تفرغاً كاملاً لهذا الواجب الإداري. وفتوحه في البر والبحر، على أهميتها لحاضر إفريقية والمغرب ومستقبلها، إلاّ أنها كانت قليلة جداً بالنسبة لكفاياته القيادية، فهي ومضات ساطعة ولكنها متقطعة، أظهرت شيئاً من كفاياته القيادية ومزاياه، دون أن تُظهر تلك الكفايات والمزايا كاملة، في فتوحات كثيرة مستدامة، وفي انتصارات عديدة مؤزّرة. ولم يكن وضعه النفسي مريحاً، بعد رحيل أبيه موسى إلى دمشق، وبعد أن انكشف أمر أبيه موسى في اضطهاده من الخلافة، وأن موسى وأبناءه أصبحوا من المغضوب عليهم من السلطة الحاكمة، وأصبحوا في ذمّة التاريخ، فجمّد طاقاته انتظاراً لمستقبل مجهول، لا يكون لصالحه على كل حال. إن ظروف عبد الله، لم تُتِح له استغلال كفاياته قائداً كما ينبغي، وما كان ليستطيع غيره من القادة، في مثل ظروفه التي عاناها، في عهد أبيه موسى وبعد رحيل أبيه، أن يُنجز أفضل مما أنجزه عبد الله في مجال الفتوح، فقد أصبح رغم إرادته والياً، وكان يتمنّى أن يكون غازياً، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ومهما قيل في ظروفه التي شغلته حيناً، وأقلقته حيناً، وصرفته عن العمل

عبد الله في التاريخ

حيناً آخر، فإن فتوحه في البر والبحر، تدلّ على أنه كان قائداً متميزاً. وقد برزت مزيتان من مزايا القيادة الرئيسة في عبد الله، بشكل واضح لا غبار عليهما: العلم المكتسب، والتجربة العملية. وبقيت المزية الثالثة: الطبع الموهوب، حالت ظروفه دون ظهورها، فلا أعرف هل كان يتمتّع بهذه المزية حقاً، وهي مزية تكشفها الفتوحات العظيمة والانتصارات الباهرة فقط. عبد الله في التاريخ يذكر التاريخ لعبد الله، أنه كان أكبر أولاد موسى بن نصير، وأنه كان ساعده الأيمن في معاونته والياً وقائداً. ويذكر له، أنه تولّى إفريقية والمغرب نحو أربع سنوات، ثلاث سنوات منها في أيام أبيه موسى، بعد عبوره إلى الأندلس فاتحاً، وسنة واحدة بعد استدعاء أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق، فقام بواجبه إداريّاً على أحسن ما يقوم به الولاة القادرون. ويذكر له، أنه تولّى القيادة في إفريقية، ففتح فتوحاً واسعة، وقضى على انتفاضة البربر في مناطق فتوحه، وغنم غنائم جسيمة. ويذكر له، أنه تولّى القيادة البحرية، ففتح مَيُورْقَة ومَنُورَقَة، وأغار على صِقِلِّية وسَرْدَانيَة، وانتصر في معاركه البحرية انتصارات باهرة، وغنم غنائم كبيرة، وضمن حماية ساحل إفريقية والمغرب في حاضرها ومستقبلها. ويذكر له أنه أشرف على القاعدة الرئيسة في القيروان، وقواعد المغرب في

سَبْتَة وطنجة وتونس، لإدامة الفتوح الأندلسية، وأمدّ الفاتحين بالرجال والمواد والمراكب لإدامة زخم الفتوح، وضمان استمرارية الانتصارات. ويذكر له، أنه كان قائد أول غزوة غُزيت في بحر إفريقية، المواجه للساحل الإفريقي، الذي فتحه المسلمون، وحافظوا عليه بالسيطرة الكاملة على البحر الأبيض المتوسط، وبفتح جزر البحر التي يستخدمها الروم قواعد أمامية متقدمة للتعرّض بالمسلمين في إفريقية والمغرب، وبإنتاج السفن والمراكب البحرية بالمصانع الإسلامية. ويذكر له، أن ظروفه حرمته من إظهار كفاياته القيادية، في الفتوح المستدامة، والانتصارات الباهرة. ويذكر له، أن أعماله إدارياً وقائداً، في خدمة بلاده وأمته، قوبلت بالعقوق، فسقط مضرّجاً بدمائه، بسيوف لم تُضرّج بدماء الأعداء في ساحات الجهاد. رحمه الله رحمة واسعة، جزاء ما قدم لأمته وبلاده من خدمات، والياً وغازياً، وإدارياً وقائداً، ومرابطاً ومجاهداً، فالله وحده لا ينسى مَن أحسن عملاً.

جزيرتا ميورقة ومنورقة

جزيرتا مَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة 1 - مَيُوْرَقَة أكبر الجزر الإسبانية في البحر الأبيض المتوسط المعروفة باسم جزر البليار. مساحتها (1405) أميال مربعة. يتميز ساحلها الشمالي الغربي بشدّة انحداره، ولكنه يصبح ساحلاً منخفضاً منحدراً على الجوانب الأخرى. وتمتد في الجبهة الشمالية الغربية سلسلة جبال تسير موازية للساحل، ويصل أقصى ارتفاعه عند قمة (سيلو دى تور ياس) نحو (5154) قدماً. وتزدهر النباتات في أوديتها، ولا سيما وادي موسى ووادي سوير، كما توجد في الجزيرة مقالع للرخام، وتوجد فيها بعض المعادن مثل الرصاص والحديد والفحم، ويعمل السكان بالزراعة، وتشتهر الجزيرة بزراعة الكروم، كما تشتهر بصناعة الأقمشة الصوفية والكتانية، وتربى في الجزيرة دودة القزّ، وتُصنّع منتجاتها. 2 - مَنُوْرَقَة الجزيرة الثانية من حيث المساحة في مجموع جزر البليار الإسبانية الواقعة في البحر الأبيض المتوسط، وتقع على مسافة سبعة وعشرين ميلاً في شمالي شرقي جزيرة ميورقة. مساحتها (271) ميلاً مربعاً، وساحلها مضرّس بشدة ولا سيما في شمالي الجزيرة، تنتظمه مجموعة من الأنهار والخلجان. مناخها لا يضاهي مناخ ميورقة في اعتداله، إذ تتعرّض الجزيرة في الخريف والشتاء إلى

رياح شمالية شديدة. تشمل زراعتها إنتاج محاصيل العلف والكروم والزيت والكتان، كما تزرع فيها أشجار الفاكهة، وتربى الماشية والأغنام والماعز. يستخرج الرخام الجيد من جبلها، ومعادنها تشمل الحديد والرصاص والنحاس. وتقوم فيها صناعة المنسوجات الصوفية والكتان والألياف.

نهاية الأندلس

نهاية الأندلس مستهل سقطت قواعد الأندلس الشهيرة، في سلسلة من المعارك والمحن الطّاحنة، التي تقلب فيها المسلمون في الأندلس، منذ انهيار صرح الخلافة الأموية في الأندلس، في أواخر القرن الرابع الهجري، وظهرت دول الطوائف الصغيرة المفكّكة، على أنقاض دولة عظيمة شامخة. وكان سقوط كل قاعدة من هذه القواعد الأندلسية الشهيرة، يمثّل ضربة مميتة للدولة الإسلامية في الأندلس، ويُحدث أعمق الأثر في جنبات الدول الإسلامية شرقاً وغرباً. وكان المسلمون الأندلسيون، كلما سقطت قاعدة من قواعدهم الشهيرة، في يد عدوّتهم القديمة المتربصة بهم - إسبانيا النصرانية - ألفَوْا عزاءهم في قواعدهم الباقية الأخرى، وهرعوا إليها استبقاء لحرياتهم ودينهم وكرامتهم، حتى لم يبق من تلك القواعد غير غرناطة وأعمالها تؤلف مملكة إسلامية صغيرة، استطاعت أن تثبت أمام العاصفة أكثر من قرنين من عمر الزمن. والحق أن مصير الأندلس، كان في مهب الريح، منذ أخفقت دول الطوائف في توحيد صفوفها، فغلب عليها الخلاف والتفرّق، وانحدرت إلى معترك الحرب الأهلية، تفسح لعدوّها الخَطِر مجال التفوق عليها، والضرب والتفريق بينها. وقد استطاع بعض العقلاء من الأندلسيين المسلمين، حتى في ذلك العصر، الذي كان الإسلام يسيطر فيه على معظم أنحاء الأندلس، أن يستشفوا ما وارء هذا التفرق من خطر داهم على حاضر المسلمين ومستقبلهم في الأندلس، فنرى ابن حَيَّان مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري، يقول لنا بعد أن يصف حوادث سقوط (بربشتر) من أعمال الثغر الأعلى (أراغون)، في يد النصارى في سنة 456 هـ (1063 م) وما اقترن بسقوطها من القتل والسّبى وشنيع الاعتداء: (وقد أشفينا بشرح هذه الحالة الفادحة،

مصائب جليلة مؤذنة بوَشْك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها، بما احتملوه عمّن قبلهم من آثاره. ولاشك عند ذوي الألباب، أنّ ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتجاري عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة). ويندد ابن حيان بعد ذلك بتواكل أهل الأندلس وتخاذلهم عن نصرة دينهم وإخوانهم (1). وبدا واضحاً، حينما سقطت طليطلة أول قاعدة إسلامية كبيرة، في يد النصارى في سنة 478 هـ (1085 م) أن الأندلس أضحت على وشك الفناء، وأن دول الطوائف المنهوكة الممزّقة، سوف تسقط تباعاً في يد النصارى الإسبان، وأن الإسلام سوف ينتهي في الأندلس. وقد ساد الفزع جنبات الأندلس كلها يومئذ، حتى قال شاعرهم حينما سقطت طليطلة: يا أهل أندلس شدّوا رحالكم ... فما المقام بها إلاّ من الغلط السلك ينثر من أطرافه ... وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط مَن جاور الشرّ لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيّات في سَنَط ولكن الدرس كما يبدو كان عميق الأثر، فجنح زعماء الطوائف إلى الرشاد، وجمعت المحنة كلمتهم، فقصدوا (المرابطين) إخوانهم في الدين، وكان المرابطون يومئذ في عنفوان دولتهم، وأميرهم يوسف بن تاشفين يبسط سلطانه القوي على أمم المغرب، من المحيط غرباً حتى تونس شرقاً. فاستجاب المرابطون إلى صريخ ملوك الطوائف، وعبروا البحر إلى الأندلس مع قوات ضخمة، والتقت قوات المسلمين المتّحدة بقيادة يوسف ابن تاشفين بالجيوش النصرانية المتحدة بقيادة الفونسو السادس زعيم إسبانيا النصرانية، في سهول الزلاّقة في شهر رجب من سنة 479 هـ (أكتوبر - تشرين الأول سنة 1086 م)، فأحرز المسلمون على النصارى نصراً عظيماً. وكانت موقعة الزلاّقة من أيام الأندلس المشهورة، وانتعشت دول الطوائف، وقويت نفوس _______ (1) نفح الطيب (مصر) (2/ 576).

المسلمين في الأندلس، وبدأت حياة جديدة. ولكن سرعان ما اختلف المرابطون مع الطوائف، فحطموا دول الطوائف، وبسطوا حكمهم على الأندلس زهاء نصف قرن. ولما سقطت دولة المرابطين في المغرب، وقامت على أنقاضها دولة الموحدين، عَبَرَ الموحدون البحر إلى الأندلس، وبسطوا عليها حكمهم زهاء قرن آخر، وفي ظلّ الموحدين، أحرزت الأندلس المسلمة كما أحرزت في الزلاقة أيام المرابطين، نصرها الحاسم على إسبانيا النصرانية، بقيادة يعقوب المنصور ملك الموحدين، وذلك في موقعة الأرك الشهيرة (591 هـ - 1194 م) (1)، ولكنها ما لبثت أن لقيت هزيمتها الحاسمة. بعد ذلك بقليل، على يد إسبانيا النصرانية في موقعة العقاب (609 هـ - 1212 م) (2)، وكانت هزيمة العقاب ضربة شديدة لسلطان الموحدين وللأندلس المسلمة، فعاد شبح الفناء يلوح للأندلس قوياً منذراً، وسرى هذا التوجّس إلى كُتّاب العصر وشعرائه، وظهر واضحاً في رسائلهم وقصائدهم، ومن ذلك ما قاله أبو اسحاق إبراهيم بن الدّباغ الإشبيلي معلقاً على موقعة العقاب: وقائلة أراك تطيل فكراً ... كأنك قد وقفت لدى الحساب فقلت لها أُفكِّر في عقاب ... غداً سبباً لمعركة العقاب فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كلّ باب (3) وفي خلال ذلك، كانت الأندلس، تضطرم بأشنع ضروب الخلاف والفتن، والثغور والقواعد يتناوبها الرؤساء والمتغلِّبون، وإسبانيا النصرانية تنزل ضرباتها المتوالية بالمسلمين، وتستولي تباعاً على القواعد والثغور. والحقيقة أن الجهد المضطرم الذي بذلته إسبانيا النصرانية يومئذ، لانتزاع القواعد الأندلسية لم يكن سوى الذروة من مرحلة طال أمدها، من حركة _______ (1) وتعرف في الإسبانية بموقعة: Alarcos (2) وتعرف في الإسبانية بموقعة: Las Navas de Talasa (3) نفح الطيب (مصر)، (2/ 582).

الاستيلاء والاسترداد النصرانية La Reconqista وقد بدأ هذا الاسترداد من جانب إسبانيا النصرانية لأراضيها المفتوحة منذ عصر مبكِّر جداً، أي منذ قامت المملكة النصرانية الشمالية عقب الفتح الإسلامي بقليل في حمى الجبال الشمالية، واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت منذ منتصف القرن الثامن الميلادي أن تدفع حدودها تباعاً نحو الجنوب، وكانت أولى القواعد الإسلامية التي سقطت هي (لُك) في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأندلسية، واسترقة في شمال نهر دويرة، وشلمنقة وشقوبية وسمورة وألبة في الناحية الأخرى من دويرة. ولم تتأثر الأندلس المسلمة كثيراً بفقد هذه القواعد الأولى، لبعدها ولقربها من المملكة النصرانية. ولكن الأندلس شعرت بالخطر الحقيقي، منذ استطاع النصارى عبور نهر التاجة متوسط شبه الجزيرة في غزوات قوية، واستيلائهم بعد ذلك على طليطلة ثالثة القواعد الأندلسية الكبرى بعد قرطبة وإشبيلية. ووضع نصر الزلاّقة، وقيام سلطان المرابطين في شبه الجزيرة حداً مؤقتاً لتقدم النصارى في وسط شبه الجزيرة وشرقيها. ولكن موجة جديدة من الغزو النصراني اجتاحت شمال شرقي الأندلس منذ بداية القرن السادس الهجري، فسقطت سرقسطة في يد النصارى (512 هـ - 1118 م) وتطيلة (524 هـ - 1129 م)، ثم تلتها لاردة وإفراغة وطرطوشة (542 هـ - 1148 م). وفي ذلك الوقت ذاته، بدأ سقوط القواعد الإسلامية في غربي شبه الجزيرة أي في البرتغال، فسقطت أُشبونة وشنترة وشنترين فى يد النصارى في سنة (542 هـ - 1147 م) وسقطت باجة بعد ذلك بقليل في سنة (556 هـ - 1161 م)، ثم تلتها بابرة في سنة (561 هـ - 1165 م). ْولما توطد سلطان الموحدين في الأندلس في أواخر القرن السادس الهجري، توقّفت حركة الاسترداد النصراني مدة من الزمن، ثم عادت تضطرم قوية بعد إحراز إسبانيا النصرانية لفوزها الحاسم على الموحدين في موقعة العقاب (609 هـ). ومنذ أوائل القرن السابع الهجري، اجتاحت الأندلس

مملكة غرناطة

المسلمة موجة عارمة من الغزو النصراني، فسقطت قواعد المسلمين التالية بيد النصارى: جزيرة ميورقة (627 هـ - 1229 م)، وأبّدة (631 هـ - 1233 م)، ثم قرطبة (633 هـ - 1236 م) وبياسة وإستجة والمدور (634 هـ - 1237 م) وبلنسيهّ (636 هـ - 1238 م) وشاطبة ودانية (638 هـ - 1240 م) ولقنت وأوريولة وقرطاجنة (640 هـ - 1242 م) ومرسية (641 هـ - 1243 م) وجيان (644 هـ - 1246 م)، ثم إشبيلية (646 هـ - 1248 م). واجتاحت غرب الأندلس في الوقت نفسه موجة مماثلة من الغزو النصراني، فسقطت بطليوس (626 هـ - 1228 م) وماردة (628 هـ - 1230 م) وشلب (640 هـ - 1242 م) وشنتبرية الغرب (647 هـ - 1249 م) وولبة (655 هـ - 1257 م)، ثم سقطت قادس (667 هـ- 1262 م)، وتلتها شريش (663 هـ - 1264 م). وهكذا لم يَأت منتصف القرن السابع الهجري - القرن الثالث عشر الميلادي - حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها قد سقطت في يد إسبانيا النصرانية، ولم يبق من الدول الإسلامية في الأندلس، سوى بضع ولايات صغيرة في طرف إسبانيا الجنوبي (1). مملكة غرناطة وأخذت الأندلس عندئذ، تواجهه شبح الفناء مرةً أخرى من جديد، وطافت بالأمة الأندلسية المسلمة التي احتشدت يومئذ بالجنوب الأندلسي، في بسيطها الضيِّق، ريح التوجّس والفزع، وعاد النذير يهيب بالمسلمين، أن يغادروا ذلك الوطن الذي يهدد مصيرهم بالخطر، والذي يتخاطف العدو أشلاءه الدامية، وسرى في الأمة الأندلسية شعور عميق بمصيرها المحتوم. ولكن شاء القدر، أن يرجأ هذا المصير بضعة أجيال أخرى، وشاء أن يسبغ _______ (1) محمد عبد الله عنان - نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين (12 - 16) ط2 القاهرة - 1378 هـ.

على الدولة الإسلامية في الأندلس حياة جديدة في ظل مملكة غرناطة، التي استطاعت أن تبرز من غمرة الفوضى ضئيلة في البداية، وأن توطد دعائم قوتها شيئاً فشيئاً، وأن تذود عن الإسلام ودولته الباقية بنجاح أكثر من قرنين. وكان من حسن طالع هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، أن شغلت عدوتها القوية إسبانيا النصرانية مدى حين، بمنازعاتها وحروبها الداخلية، فلم تستطع تحقيق غايتها الكبرى، وهي القضاء على دولة الإسلام في الأندلس، وعلى الأمة الأندلسية المسلمة بصورة نهائية، إلاّ بعد أن تهيأت لذلك جميع الظروف والأسباب. ولم يكن ذلك قبل مائتين وخمسين عاماً، عاشتها مملكة غرناطة الصغيرة، أبيّة كريمة، ترفع لواء الإسلام عالياً في تلك الربوع، التي افتتحها الإسلام قبل ذلك بعدّة قرون، وأنشأ بها المسلمون حضارتهم العظيمة التي حفلت بأرقى نظم الحياة المادية والمعنوية، وأرفع ضروب العلوم والفنون والآداب التي عرفت في العصور الوسطى (1). وقد كانت غرناطة وقت فتح الأندلس مدينة صغيرة من أعمال ولاية إلبيرة، تقع على مقربة من مدينة إلبيرة قاعدة الولاية من الناحية الجنوبية (2)، افتتحها المسلمون عقب انتصارهم على القوط بقيادة طارق بن زياد سنة (92 هـ - 711 م). ولما اضطرمت الفتنة بالأندلس، ودبّ الخلاف بين القبائل، عقب موقعة بلاط الشهداء سنة 732 م، واشتد التنافس على الإمارة بين الشاميين من ناحية، والعرب والبربر من ناحية أخرى، فرأى أمير الأندلس أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي أن يعمل على تهدئة الفتنة بتمزيق عصبة الشاميين، ففرّقهم في أنحاء الأندلس، وأنزل جند الشام بكورة إلبيرة، وجند حمص بإشبيلية، وجند فلسطين بشذونة والجزيرة، وجند الأردن بريّة، وهكذا نزل _______ (1) نهاية الأندلس (16 - 17). (2) إلبيرة: وبالإسبانية ( Elvira) ، مدينة رومانية قديمة كانت تسمى أيام الرومان ( Iliboris) ، وكانت عاصمة الولاية التي تسمى بهذا الاسم، وكانت أيام الفتح الإسلامي مدينة كبيرة عامرة.

الشاميون منذ البداية بولاية إلبيرة، وغدوا بمضي الزمن كثرة فيها. واستمرت إلبيرة قاعدة لهذه الولاية ومركز قضائها في ظل الدولة الأموية، حتى أواخر القرن الرابع، حينما انهارت الخلافة الأموية، وتعاقبت الفتن، وعاث البربر في البلاد، وخربت مدينة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى غدت غرناطة قاعدة الولاية مكانها، وغلب اسم غرناطة على الولاية نفسها، ومن ذلك الحين اختفى اسم إلبيرة كقاعدة من قواعد الأندلس، وذكر اسم غرناطة مكانها. والواقع أن إلبيرة وغرناطة تعتبران في معظم الأحيان، ولاسيما في المراحل الأولى لتاريخ الأندلس اسمين لمكان واحد، وقد جرى كثير من المؤرخين والجغرافيين على المزج بينهما (1). وغَرناطة، اسم قديم، يرجع إلى عهد الرومان والقوط، وقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فيرى قسم منهم أنه مشتق من الكلمة الرومانية ( Granata) أي الرمانة، وأنها سميت كذلك لجمالها وكثرة حدائق الرومان التي تحيط بها (2). ويرى قسم آخر أن التسمية ترجع إلى أصل قوطي أو أنها ترجع إلى أصل بربري مشتق من اسم إحدى القبائل، وأرجح الرأي الأول. وغرناطة تتمتع بموقع فائق في الحسن، فهي تقع في وادٍ عميق، يمتد من المنحدر الشمالي الغربي لجبال سييرا نفادا، وتظللها الآكام العالية من الشرق والجنوب، ويحدها من الجنوب نهر شنيل فرع الوادي الكبير (3)، وهو ينبع من جبال سييرا نفادا، ويخترقها فرعه المسمى نهر حدرّه (4) أو هدرة ( El Darro) ويلتقي به عند جنوبي المدينة. وقد كان شَنيل وفرعه حدره أيام المسلمين يفيض بالماء، ولاسيما في الصيف، حيث تذوب الثلوج، وكانت _______ (1) الإحاطة في أخبار غرناطة - ابن الخطيب (1/ 99 - 105) - القاهرة - 1955 م. (2) معجم البلدان (1/ 279 - 280). (3) شنيل: هو بالإسبانية ( Xanil) أو ( Genil) ، ويسمى أيضاً عند الأندلسيين بنهر سنجيل مشتقاً من اسمه الّلاتيني Singilis (4) في معجم البلدان (6/ 280) ورد اسم النهر: حدارُّه.

ضفافهما خضراء يانعة تغص بالحدائق الغناء، أما اليوم فقد جف مجرى شَنيل، وقلما يجري فيه الماء إلاّ القليل أيام الشتاء. وأما فرعه حدره فيخترق المدينة من الشرق عند سفح التل التي تقع عليه (الحمراء)، ويتصل بشنيل عند القنطرة الأندلسية القديمة. وهو يكاد يختفي اليوم، ولم يبق من مجراه سوى الجزء الصغير لتل الحمراء. أما جزؤه الذي كان يخترق وسط المدينة، فقد غُطِي اليوم بشارعها الرئيس الأوسط المسمى: (شارع الملكين الكاثوليكيين)، وامتداده في الميدان الكبير حتى قنطرة شنيل. وتشرف غرناطة من الجنوب الغربي، على بسيط أخضر وافر الخصب، هو المرج أو الفحص الشهير: ( La Vega) (1) الذي يمتد غرباً حتى مدينة لَوْشة، ومن الجنوب الشرقي على جبال سييرا نفادا (جبل شُلير أو جبل الثلج) التي تغطي الثلوج آكامها الناصعة. ويطلق الجغرافيون الأندلسيون اسم: شلير أو جبل الثلج على جبال سييرا نفادا، فأما شلير فهو محرّف عن اللاتينية ( Solarius) ومعناها جبل الشمس، وذلك لأن الشمس تسلِّط أشعتها الساطعة على تلك الجبال، فينعكس ضوؤها على الثلوج الناصعة التي تغطيها. وأما تسميتها بجبل الثلج، فهي ترجمة عربية مطابقة لاسمها القشتالي: ( Sierra Nevada) . وكانت غرناطة أيام الدولة الإسلامية، جنّة من جنّات الدنيا، تغص بالغياض والبساتين اليانعة، التي كانت لوفرة خصبها وروعة نضرتها تُعرف بالجنّات، فيقال للمزرعة أو البستان: (جنّة كذا) أو (جنّة فلان)، مثل جنة الجرف وجنّة العرض وجنة الحفرة، ومدرج منجد، ومدرج السبيكة، وجنة ابن عمران، وجنة العريف، وغيرها. وقد ذكر ابن الخطيب، أن هذه الجنات الغرناطية الشهيرة كانت تبلغ في عصره زهاء المائة. كما ذكر لنا، أن منطقة غرناطة كانت تضم زهاء ثلاثمائة قرية عامرة، منها ما كان يبلغ سكانه _______ (1) وهي كلمة إسبانية معناها: المرج، ويبدو أنها مشتقة من كلمة: (فحص) العربية.

الألوف، ومنها ما كان يملكه مالك واحد أو ملاك قلائل، هذا عدا الأملاك السلطانية والحصون (1). وبذلك نستطيع أن نقدِّر أن غرناطة كانت تضم أيام كانت عاصمة الدولة الإسلامية في الأندلس، أكثر من نصف مليون من الأنفس. أما المرج أو الفحص، فقد كان بسيطاً رائع الخضرة، يشبهونه بغوطة دمشق، وتخترقه الجداول والأنهار، ويغص بالقرى والجنات، ويهرع إليه الرواد في ليالي الربيع والصيف، فيغدو مسرح الأسمار والأنس. وكانت غرناطة نموذجاً بديعاً للعمارة الإسلامية، تغص بالصروح والأبنية الضخمة، وتتخللها الميادين والطرقات الفسيحة. وكانت مدينة: الحمراء أو دار الملك، أروع ما فيها، تطلّ على أحيائها في سمت من القبلة، تشرف عليه منها الشرفات البيض والأبراج السامية والمعاقل المنيعة، والقصور الرفيعة، تغشى العيون وتبهر العقول - كما يقول ابن الخطيب في كتابه: الإحاطة في أخبار غرناطة. وقد أشاد بمحاسن غرناطة وفضائلها كتَّاب الأندلس وشعراؤها، قال ابن الخطيب: بلد تحفّ به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره أما اليوم، فقد عُدَّت غرناطة مدينة متواضعة، لا يزيد سكانها على مائة وثلاثين ألفاً، وهي عاصمة الولاية الأندلسية المسماة بنفس الاسم. بالرغم من أنها فقدت بهاءها السابق، فإنها ما زالت تتّشح بطابع خاص من التحفظ والنبل المؤثر، وقد اختفت معظم خططها الإسلامية، وقامت على أنقاضها مدينة أوروبية حديثة، بيد أن غرناطة ما زالت مع ذلك تحتفظ ببقية من صروحها ومعالمها الأندلسية، وتجتمع هذه البقية بالأخص في قسمها الشرقي، حيث تربض أبراج (الحمراء) فوق هضبتها العالية. وأعظم آثارها _______ (1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1/ 122 - 123) وأنظر تفاصيل المقرى في (1/ 131 - 138) والهوامش حيث تبين مواقع هذه القرى وأسماؤها الإسبانية حالياً.

الباقية هي بلا ريب: قصر الحمراء الملكي الذي ما زال يحتفظ بكثير من روعته القديمة، وقصر جنّة العريف الواقع في شرقه على مسافة قليلة، وقد كان مصيفاً لملوك غرناطة. وبقية من قصر شنيل (1)، وهي تقع في ضاحية أرملة (أرمليا) على مقربة من شنيل، والخان (2) وهو ذو عقد عربي رائع، ويقع على مقربة من دار البريد. أما المسجد الجامع وبقية المساجد الإسلامية، فقد هدمت جميعاً، وقامت على أنقاضها الكنائس. وأما ما بقي من خططها الإسلامية، فهو ظاهر بالأخص في: حي البيّازين (3) الواقع في شمالها الغربي، والميدان الكبير الذي ما زال يحمل اسمه القديم: رحبة باب الرّملة (4)، وإلى جواره القيصرية القديمة (5)، وهذا فضلاً عما يبدو في كثير من دروبها الضيقة الصاعدة ومنازلها العديدة ذات الطراز الأندلسي، من الملامح الأندلسية الواضحة. كذلك بقيت قطعة كبيرة من أسوار غرناطة الإسلامية، وبضعة من أبوابها القديمة، مثل: باب البنود، وباب إلبيرة، وباب البيّازين، وباب فحص اللّوز، وباب الشريعة، وهو مدخل الحمراء الرئيس. وما تزال قنطرة شنيل قائمة على النهر عند التقائه بفرعه: حدرُّه، وتحمل اسمها الإسلامي القديم (6). وتوجد في متحف غرناطة الأثري طائفة كبيرة من اللّوحات والنقوش والتحف الأندلسية (7). _______ (1) هو القصر الذي يعرف في تاريخ غرناطة بقصر السيد، وقد أنشئ في سنة (615 هـ - 1218 م) أيام الموحدين، وكان أيام ملوك غرناطة يستعمل قصراً للضيافة، وهو بالإسبانية: Alcazar Genil. (2) الخان: هو بالإسبانية Alhandiga. (3) حي البيازين: وهو بالإسبانية Albaicin. (4) رحبة باب الرملة: وهي بالإسبانية Plaza de Gibrambla. (5) القيصرية القديمة: وهي بالإسبانية Alcaicaria. (6) اسمها: Puante del Genil. (7) أنظر التفاصيل في: نهاية الأندلس (17 - 22).

نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصريّة كانت غرناطة أيام الدولة الأموية، قاعدة متواضعة من قواعد الأندلس الجنوبية وهي تحتل مكانة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى كانت أيام الفتنة عقب انهيار الدولة الأموية في أواخر القرن الرابع الهجري، فأخذت القواعد الجنوبية تغدو بعد تخريب قرطبة، ونأي الثغور الشرقية والشمالية، مركز التجاذب والتنافس بين زعماء الفتنة. ووقعت غرناطة يومئذ من نصيب البربر، واستولى عليها زعيم صنهاجة زاوى بن زيرى واتخذها دار ملكه، وقامت في قرطبة دولة بني حمود الإدريسيّة، واستمرّت الحرب والفتنة مدى حين سجالاً بين المتغلبين من فلول بني أمية وبني عامر وفتيانهم ومواليهم، وبين زعماء البربر. ولما ظهر المرتضى، وهو من عقب بني أميّة، ودعا لنفسه بالخلافة، سار في عصبة الأمويين والموالي إلى غرناطة، لانتزاعها واتخاذها دار ملكه، فردّه عنها صاحبها زاوي الصنهاجى في موقعة دموية (408 هـ). واستقر زاوى في حكم غرناطة وأعمالها بضعة أعوام، ثم غادرها إلى دار قومه في تونس، واستخلف عليها ابن أخيه حبُّوس بن ماكس، فحكمها حتى توفي سنة (429 هـ). وخلفه في ولايتها ولده باديس وتلقّب بالمظفّر، واستولى على مالقة من يد الأدارسة (بني حمُّود)، واتسع ملكه، ولبث طول حكمه الذي استطال حتى سنة (467 هـ) في قتال مستمر مع بني عباد أمراء إشبيلية، أعظم وأقوى ملوك الطوائف يومئذ. ولما توفي باديس المظفر، خلفه في حكم غرناطة وأعمالها، حفيده عبد الله بن ملكيِّن بن باديس، واستمر في حكمها

إلى أن عبر المرابطون البحر إلى الأندلس في سنة (483 هـ) بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين، واستولوا عندئذ على غرناطة، كما استولوا على قواعد الأندلس الأخرى وانتهت بذلك دول الطائف التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية في الأندلس، وعاشت زهاء ستين عاماً. واستمر المرابطون في حكم الأندلس وقواعدها زهاء ستين عاماً أخرى، وتعاقب في حكم غرناطة عدة من أمراء اللمتونيين (1) وسادتهم، من قرابة يوسف بن تاشفين، فلما انهارت دولتهم في إفريقية، جاز الموحدون المتغلِّبون على دولتهم إلى الأندلس في سنة (540 هـ - 1146 م)، وأخذوا يستولون تباعاً على القواعد والثغور، وسقطت غرناطة بأيديهم بعد ذلك بثلاثة أعوام في سنة (543 هـ- 1148 م) بالرغم مما بذله المرابطون بقيادة قائدهم الشهير يحي بن غانية وحلفاؤهم النصارى من جهود عظيمة للدفاع عنها. ولبثت غرناطة كباقي القواعد الأندلسية في يد الموحِّدين، يتناوب حكمها الأمراء والسادة من بني عبد المؤمن وقرابته، حتى كانت ثورة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود سليل بني هود أمراء سرقسطة السابقين على الموحّدين، وانتزاعه معظم قواعد الأندلس من أيديهم. وذلك أنه لما توفي أبو يعقوب يوسف المستنصر بالله سلطان الموحِّدين في سنة (620 هـ) دون عقب، قام ابن أخيه أبو عبد الله محمد ولد يعقوب المنصور بالأندلس، وأعلن نفسه أميراً على بلنسية، باسم العادل بالله، وقام أخوه أبو علي إدريس في إشبيلية، واتخذ لقب المأمون، وبسط سلطانه على الأندلس، ولما توفي أخوه العادل أمير بلنسية قتيلاً بيد الثوار بعد ذلك بأربعة أعوام (624 هـ) خلفه في رياستها، وولى عليها أخاه السيد أبا عبد الله ليحكمها من قِبَله. ثم شُغِلَ المأمون في الأعوام القلائل التالية، بالعمل على توطيد سلطانه بالمغرب، واستبدّ بالحكم، واستعمل العنف الشديد، وقضى _______ (1) لمتونة: اسم قبيلة بربرية كان المرابطون ينتمون إليها، ولذا يسمون أحياناً باللمتونيين.

على رسوم المهدي وتعاليمه ونظام حكومته باعتبارها نظماً رجعية لا تتفق مع روح الدين الصحيح، فسرت روح السخط بين القبائل، وأخذ الزعماء المتوثبون الذين يرقبون الفرص. وبينما كان المغرب يضطرم بعوامل الثورة على هذا النحو، والمأمون يشغل بقمع الخوارج عليه، كان سلطان الموحِّدين بالأندلس يضطرب في الوقت نفسه، ويتداعى وينهار حكمهم تباعاً. ففي تلك الآونة، ظهر ابن هود يدعو إلى دعوة جديدة، تمثل فيها روح الأندلس الحقيقية، وهي: وجوب العمل على تحرير الأندلس من نير الموحِّدين والنصارى معاً. وكان المأمون حينما اشتد عليه الأمر بالأندلس، قد تحالف مع ملك قشتالة، وتنازل له عن عدد من القواعد والحصون، وتعهد بأن يمنح النصارى في أراضيه امتيازات خاصة، وذلك لقاء معاونة ملك قشتالة له على محاربة خصومه. وكان تحالف الموحِّدين مع النصارى على هذا النحو، يسبغ على دعوة ابن هود قوة خاصة، ويدفع الأندلسيين إلى الإنضواء تحت لوائه، وظهر ابن هود لأول مرة في أحواز مرسية في سنة (625 هـ - 1228 م) في الوقت الذي أخذ فيه سلطان الموحّدين يضطرب ويتصدع في الثغور والنواحي، ثم أغار على مرسية في عصبته القليلة، واستطاع أن ينتزعها من حاكمها السيد أبي العباس. وأخذ نجمه يتألق من ذلك الحين، فأعلن أنه يعتزم تحرير الأندلس من الموحدين والنصارى معاً، والعمل على إحياء الشريعة وسننها، ودعا للخلافة العباسية، وكاتب الخليفة المستنصر العباسي ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وتلقّب بالمتوكل على الله. ولم يمض سوى قليل، حتى دخلت في طاعته عدة من قواعد الأندلس، منها جيان وقرطبة وماردة وبطليوس، ثم استطاع أن ينتزع غرناطة قصبة الأندلس الجنوبية من المأمون في سنة (628 هـ - 1231 م). وفي العام التالي (629 هـ) توفى المأمون ملك الموحدين، وهو في طريقه إلى مراكش، ليعمل على إنقاذ عرشه من المتغلِّبين عليه. وبينما كان سلطان الموحدين بالأندلس يدنو سراعاً من نهايته، كانت دولتهم بالمغرب تدخل في

دور الانحلال، في ظل نفرٍ من الأمراء الضعاف، ثم تختتم حياتها بعد ذلك بنحو أربعين عاماً في سنة (668 هـ) لتقوم على أنقاضها دولة بني مرين. واستمر ابن هود حيناً يخوض معارك متعاقبة مع الموحدين والنصارى، ونشبت بينه وبين فرديناند الثالث (1) ملك قشتالة، في ظاهر ماردة معركة انتهت بسقوط ماردة وبطليوس في يد النصارى سنة (628 هـ - 1230 م) (2). وانتهز فرديناند الثالث ملك قشتالة تلك الفرصة التي اضطرمت فيها المملكة الإسلامية في الأندلس كلها بنار الحرب الأهلية، فسيّر قواته لمقاتلة ابن هود، وكان يبدو في نظره يومئذ زعيم الأندلس الحقيقي. وكان ابن هود في ذلك الوقت، قد استطاع أن يبسط سلطانه على الولايات والشواطئ الجنوبية، فيما بين الجزيرة الخضراء والمريّة، وفيما بين قرطبة وغرناطة، وكان يرى في مقاتلة النصارى عاملاً لتدعيم دعوته وسلطانه، فسار للقائهم، والتقى الجيشان في فحص شريش على ضفاف وادي لكّة، ولكن ابن هود هزم بالرغم من تفوقه في العدد، وكان ذلك في (أواخر 630 هـ - 1233 م)، وسار فرديناند بعد ذلك لاجتياح أبده، فسقطت في يده بعد حصار قصير (631 هـ - 1234 م). على أنّ سقوط قرطبة، كان أعظم ضربة نزلت يومئذ بالأندلس. كان ابن هود عقب هزيمته قد جمع قواته وسار لقتال خصمه ومنافسه الجديد محمد بن الأحمر في أحواز غرناطة. وألفى النصارى من جانبهم الفرصة سانحة للزحف على قرطبة التي كان فيها الأمر فوضى ليس فيها مَن يجمع الكلمة ويتزعم الدفاع عنها. وفاجأ القشتاليون بعض أبراج المدينة في البداية، ولكنهم رأوا أن الاستيلاء عليها ليس بالأمر السّهل، ولابد لتحقيقه من قوات جسيمة. وعلم فرديناند الثالث وهو في طريقه إلى ليون بما تم من استيلاء قواته على بعض أبراج المدينة، وبما تبين من ضعف وسائل الدفاع عنها، فارتد إليها _______ (1) وهي في الإسبانية فرناندو ( Fernando) . (2) نهاية الأندلس (26 - 27).

مسرعاً تلاحقه قواته من سائر الأنحاء. وبادر أهل قرطبة بالتأهب للدفاع عن مدينتهم، وأرسلوا إلى ابن هود أميرهم الشرعي يطلبون الغوث والإنجاد. وقدر ابن هود خطورة الموقف، واعتزم أن يسير إلى إنجاد الحاضرة المحصورة، ولكنه علم في طريقه أن جيش القشتاليين يفوق في الأهبة والكثرة، ووصله من جهة أخرى صريخ أبي جميل زيان أمير بلنسية لمعاونته ضد خايمي (1) ملك أراغون الذي اشتد في مناوراته وإرهارقه، ولاح له أن السير إلى بلنسية التي كان يطمح إلى امتلاكها أيسر وأجدى، فترك قرطبة لمصيرها مؤملاً أن يثبت أهلها دفاعاً عنها، أو يستطيع إنقاذها فيما بعد. ولبث النصارى على حصار قرطبة بضعة أشهر، ودافع أهل قرطبة عن مدينتهم ودينهم وحرياتهم أعنف دفاع وأروعه، ولكنهم اضطروا في النهاية، وبعد أن أرهقهم الحصار، وفقدوا كل أمل في الغوث والإنقاذ إلى التسليم. ودخل النصارى قرطبة في (23 شوال سنة 633 هـ - 29 حزيران - يونيو سنة 1236 م)، وفي الحال حوّلوا مسجدها الجامع إلى كنيسة (2)، وقد كان هذا شعارهم كلما دخلوا قاعدة أندلسية، إيذاناً بظفر النصرانية على الإسلام. وكان لسقوط قرطبة عاصمة الخلافة التالدة، أعظم وقع في الأندلس وفي سائر أصقاع العالم الإسلامي، وكانت ضربة مميتة أخرى صوبتها إسبانيا النصرانية، إلى قلب الأندلس المفككة المنهوكة القوى (3). _______ (1) خايمي: Jaime، وهو الاسم الإسباني لإسم يعقوب. (2) وما زال جامع قرطبة العظيم قائماً إلى اليوم بأروقته وعقوده وأعمدته الإسلامية كاملاً كما كان أبام المسلمين. بيد أنّه حوِّل إلى كنيسة قرطبة الجامعة، وأقيمت الهياكل في سائر جوانبه تحت عقوده القديمة، وأقيم في وسطه مصلّى على شكل صليب Crucero، وقد أزيلت قبابه ونقوشه الإسلامية، ولم يبق محتفظاً بنقوشه القديمة سوى محاريبه الثلاثة. وما زال هذا الأثر الأندلسي العظيم إلى جانب تسميته بكتدرائية قرطبة يحمل اسمه الإسلامي القديم: المسجد الجامع ( La Mezquita Aljama) ، أنظر الآثار الأندلسية الباقية (20 - 27) - محمد عبد الله عنان. (3) أنظر سقوط قرطبة في: ابن خلدون (4/ 169 و 183) ونفح الطيب (2/ 585) حيث =

ولم يلبث ابن هود أن توفي في أوائل سنة (635 هـ - 1237 م)، وكانت وفاته في ثغر ألمرية في ظروف غامضة، وقد كان سار إليها معتزماً أن ينقل بعض قواته في البحر لإنجاد أمير بلنسية، فقيل إن وزيره ونائبه في ألمرية أبا عبد الله محمد بن عبد الله الرميمي استضافه في قصره ودبر قتله غيلة، وزعم في اليوم التالي أنه توفي مصروعاً. وكان الرميمي قد قام بدعوته في ألمرية، ووفد عليه في مرسية، فقدّر عونه وولاّه وزارته وعيّنه حاكماً على ألمرية، ثم تغيّر عليه فيما يقال من أجل جارية حسناء أغراها الرميمي، فسار إلى ألمرية لمعاقبته، فخشي الرميمي العاقبة، فدبّر مصرعه ولجأ إلى الجريمة احتفاظاً بسلطانه (1). هكذا توفيّ ابن هود، وهو في ذروة سلطانه ومشاريعه، ولم تطل وثبته التي أشاعت في الأندلس مدة قصيرة أملاً سراباً، فانهارت بوفاته دولته التي لم يتح لها كثير من أسباب الاستقرار والأمن (2). وعلى أثر وفاة ابن هود وانهيار دولته، بادر خايمي ملك أراغون بانتهاز فرصته السانحة فغزا ولاية بلنسية، وكان قد استولى قبل ذلك بأعوام قلائل _______ = يشير إليه إشارة عابرة مع تحريف في التاريخ، وأنظر أيضاً تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين للمؤرخ الألماني أشباخ وترجمة محمد عبد الله عنّان (2/ 185 - 187) ونهاية الأندلس (27 - 28). (1) ابن خلدون (4/ 169) ونفح الطيب (2/ 582 - 583)، ولا يصدق العقل هذا الاتّهام، لأنّ ابن هود ولو كان على خلاف مع الرميمي، وقدم ألمرية خصيصاً لمعاقبته، لما قبل استضافة الرميمي وأتمنَ عدوّه على حياته، وكان بإمكانه أن يلجأ إلى مكان آمن في المرية، ثم يستدعي الرميمي ويعاقبه، دون أن يعرض حياته إلى الخطر من بعيد أو قريب، ويبدو أن المؤرخين: ابن خلدون وابن الخطيب، نقلا ما كان شائعاً بين الناس عن أسباب موت ابن هود، والإشاعات لا تصدق دائماً، فمنها ما يصدق، ومنها لا يصدق. (2) تراجع ثورة ابن هود ووفاته في: ابن خلدون (4/ 168 - 170) والإحاطة (2/ 90 - 94) ونفح الطيب (2/ 581 - 583) وأنظر تاريخ الموحدين والمرابطين في الأندلس (2/ 160 و 161 و 186 و 187).

على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في سنة (627 هـ - 1230 م)، وكانت بلنسية قد بقيت بيد الموحّدين، وتولى إمارتها السيد أبو عبد الله محمد أخو المأمون، وتلقب بالعادل كما ذكرنا، وكان منذ رأى خطر ابن هود على إمارته قد استغاث بملك أراغون وانضوى تحت لوائه، وتعهد له بأداء الجزية. عند ذاك ثار أهل بلنسية واختاروا لهم أميراً آخر هو أبو جميل زيان سليل آل مردنيش أمراء بلنسية السابقين، ففرّ أبو عبد الله أمام السّخط العام، والتجأ إلى ملك أراغون واعتنق النصرانية. ثم غزا خايمي بلنسية وحاصرها، ودافع أهلها عن مدينتهم ببسالة، واستغاث أميرها أبو جميل زيان بأمير تونس الحفصي فلم يغنم ذلك شيئاً. وسقطت بلنسية بيد النصارى في صفر سنة (636 هـ - 1238 م) (1)، وأتبع خايمي الاستيلاء على بلنسية بالاستيلاء على شاطبة ودانية في سنة (638 هـ - 1241 م). أما ولاية مرسية، فقد استولى عليها في البداية الأمير أبو جميل زيان عقب فقده لبلنسية، ولكن الزعماء المحليين آثروا الانضواء تحت حماية ملك قشتالة، فتقدموا إليه يلتمسون مهادنته ومحالفته على الوضع المأثور، وهو أن يسمح لهم باستبقاء المدن في طاعته وتحت حمايته، فأجابهم فرديناند إلى ملتمسهم، وبعث إليهم ولده ألفونسو. ودخل النصارى مرسية صلحاً سنة (641 هـ - 1243 م)، وبذلك سقطت ولاية بلنسية ومرسية وشرقي الأندلس كله بيد النصارى في أعوام قلائل فقط، وكانت نفس المأساة تتكرر في ذلك الوقت نفسه، بصورها وأوضاعها المحزنة في غربي الأندلس (2). وفي تلك الآونة، كانت عناصر الفتنة والفوضى تتمخض عن قيام مملكة إسلامية جديدة في جنوبي الأندلس هي مملكة غرناطة. وقيام هذه المملكة في الطرف الجنوبي للدولة الإسلامية القديمة، يرجع إلى عوامل جغرافية وتاريخية واضحة، ذلك أن القواعد والثغور الجنوبية التي تقع فيما وراء نهر _______ (1) ابن خلدون (4/ 167). (2) نهاية الأندلس (29 - 30).

الوادي الكبير آخر الحواجز الطبيعية بين إسبانيا النصرانية والأندلس المسلمة، كانت أبعد المناطق عن متناول العدو وأمنعها، وكانت في الوقت نفسه أقربها إلى الضفة الأخرى من البحر، إلى عُدْوَة المغرب وشمالي إفريقية، حيث تقوم دول إسلامية شقيقة، حيث تستطيع الأندلس وقت الخطر الداهم، أن تستمد الغوث والعون من إخوانها في الدين. وقد كان لها في ذلك منذ أيام الطوائف أسوة، بل لقد كان صريخ الأندلس يتردّد في تلك الآونة ذاتها على لسان شاعرها وسفيرها ابن الأبّار القضاعي، حينما دهم العدو بلنسية في سنة (636 هـ - 1238 م)، وكان الصريخ موجهاً من أميرها أبي جميل زيان إلى أبي زكريا الحفصي ملك إفريقية (تونس)، وهو الذي ردّده الشاعر في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلساً ... إن السبيل إلى منجاتها دُرساً (1) وكان موقف ابن الأحمر من هذه الحوادث شاذاً مؤلماً، فقد كان يقف إلى جانب أعداء أمته ودينه، وكان يبذل للنصارى ما استطاع من العون المادي والمعنوي، وكان معظم الزعماء المسلمين من حكام المدن والحصون الباقية، قد أيقنوا بانهيار سلطان الإسلام بالأندلس، يهرعون احتذاء أمثاله من الخونة، وإلى الانضواء تحت لواء ملك قشتالة. وكانت هذه المناظر المؤلمة، تتكرر في تاريخ الأندلس منذ الطوائف، حيث نرى كثيراً من الحكام المسلمين يظاهرون النصارى على إخوانهم في الدين، احتفاظاً بالملك والسلطان. ولكن ابن الأحمر، كان يقبل هذا الوضع المؤلم إنقاذاً لتراث لم يكتمل الرسوخ بعد، وتنفيذاً لأمنية كبيرة بعيدة المدى، ذلك أنه كان يطمح إلى جمع كلمة الأندلس تحت لوائه، وإدماج ما تبقى من تراثها وأراضيها في مملكة موحّدة، تكون ملكاً له ولعقبه، ولم تكن تحدوه رغبة في توسع يجعله _______ (1) تراجع هذه القصيدة في نفح الطيب (2/ 578) وما بعدها، وفي أزهار الرياض (3/ 207) وما بعدها، وفي نهاية الأندلس (30). وهي من غرر القصائد الأندلسية السياسية.

إلى الأبد أسيراً إلى حلفائه النصارى، مثلما كان يفعل أسلافه زعماء الطوائف، بل كانت تحدوه قبل كل شىء رغبة في الاستقلال، والتوطد داخل إمارته المتواضعة. وقد لبث يعمل على تحقيق هذه الغاية في ولاية غرناطة والولايات المجاورة، وهو يصانع النصارى ويتجنّب الاشتباك معهم، ويشهد التهامهم لأشلاء الوطن الممزق، وقلبه يتفطر حزناً وأسىً. على أن ابن الأحمر، لم يكن يعتزم المضي في ذلك المسلك المؤلم المهين إلى النهاية، فقد كانت نفسه الوثابة تحدثه. من وقت لآخر، بأن يحطم هذه الأغلال الشائنة التي صفّدته بها محالفة النصارى، وكان كلما آنس ازدياد قوته ورسوخ سلطانه، صلبت قناته وذكا عزمه. وكان يتجه ببصره إلى ما وراء البحر، إلى إخوانه في الدين في عدوة المغرب، وكانت حوادث المغرب تتمخض في ذلك الحين بالذات عن قيام دولة جديدة قوية هي دولة بني مرين الناشئة. ومع أن الكفاح بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بني مرين كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بني مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس، وعبر القائد أبو معروف محمد بن إدريس عبد الحق المريني، وأخوه الفارس عامر البحر، في نحو ثلاثة آلاف مجاهد، جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين. وكانت حوادث الأندلس المحزنة تحدث وقعها العميق في المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم في الدين، وكان علماء المغرب وأدباؤها وخطباؤها وشعراؤها يبثون دعوة الغوث والإنجاد، ومن ذلك قصيدة مؤثرة وضعها أبو الحكم مالك بن المرحل، وقرئت في جامع القرويين بفاس في يوم جمعة من أيام سنة 662 هـ، وبكى الناس تأثراً لسماعها، ومما جاء فيها: استنصر الدين بكم فاستقدموا ... فإنكم إن تسلموه يسلم لاذت بكم أندلس ناشرة ... برحم الدين ونعم الرحم

فاسترحمتكم فارحموها إنه ... لا يرحم الرحمن مَن لا يرحم ما هي إلاّ قطعة من أرضكم ... وأهلها منكم وأنتم منهمُ (1) وكان لاهتمام المغرب بإنجاد الأندلس صداه، وكان ابن الأحمر في الوقت نفسه قد بدأ يشعر بمقدرته على مواجهة النصارى والخروج على طاعتهم، وحماية مملكته الفتية من عدوانهم. ولما فاتحه النصارى بالعدوان وغزوا أراضيه في سنة (660 هـ - 1261 م) استطاع بمعاونة قوات من المتطوعين والمجاهدين الذين وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوّها في ميدان الحرب، لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين، ولما عبرت الكتائب المرينية بعد ذلك بقليل (662 هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر بن إدريس، أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى ولكن لمدة قصيرة فقط (2). وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة، ولكن الحوادث ما لبثت أن تجهمت للأندلس مرة أخرى، ذلك أن ملك قشتالة الفونسو العاشر، خشي هذه المبادرة على خططه وغزواته، وخشي بالأخص أن تتضاعف الإمدادات من وراء البحر، فيشتد ساعد أمير غرناطة، ومن ثم فقد عوّل أن يضاعف أهبته وضغطه على القواعد الأندلسية الباقية. ففي أواخر سنة (662 هـ - 1263 م) نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى (3)، ودخلها دون قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبي كثيراً منهم. وفي العام التالي (663 هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة في العمل على الاستيلاء _______ (1) راجع الذخيرة السنية (108 - 112) حيث يورد القصيدة بأكملها. (2) الذخيرة السنية (112). (3) سبق أن أشرنا إلى سقوط إستجة في يد النصارى سنة (1237 م)، أعني قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً، والظاهر أنّها بقيت خلال هذه المدة بيد حكامها المسلمين تحت حماية ملك قشتالة على نسق كثير من المدن الأندلسية الأخرى، التي لبثت حيناً بيد حكامها المسلمين بعد تسليمها صلحاً للنصارى.

على ما بقي من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحي الأندلس، وعادت الرسائل تترى إلى أمراء المغرب وزعمائه بالمبادرة إلى إمداد الأندلس وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خصوصاً وقد بدأ عدوان النصارى يحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر في ذلك الوقت على يد دون نونيو دي لارا (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663 هـ- 1264 م). وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر هدية ومالاً لمعاونته (1)، ولكن هذه المساعي لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعواماً أخرى تواجه عدوّها القوي بمفردها، وتتوجس من سوء المصير. ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصاً من أن يخطو خطوة جديدة في مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له في أواخر سنة (665 هـ - 1267 م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شريش والمدينة والقلعة وغيرها. وقيل: أن ما أعطاه ابن الأحمر يومئذ من البلاد والحصون المسوّرة للنصارى بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها في غرب الأندلس (2)، وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى (3). وهكذا خسرت الأندلس معظم قواعدها التالدة في نحو ثلاثين سنة فقط، في وابل مروِّع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسي الذي كان قبل قرن فقط، يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هي _______ (1) الذخيرة السنية (125). (2) أنظر الذخيرة السنية (127)، وقد سبق أن أشرنا إلى تنازل ابن الأحمر لملك قشتالة عن أرض الفرنتيرة، وفيها تقع شريش وقادس وغيرهما، ولكن هذا التنازل كان اسمياً، واضطر النصارى إلى الاستيلاء على هذه المدن بصورة فعلية، وكان سقوط شريش وقادس بيد الفونسو العاشر سنة 1262 م، والظاهر أنّ المقصود هنا: هو مصادقة ابن الأحمر على استيلاء النصارى على هذه القواعد. (3) يضع ابن الخطيب تاريخ عقد ابن الأحمر الصلح مع النصارى للمرة الثانية في سنة 662 هـ.

مملكة غرناطة (1). وقضى ابن الأحمر الأعوام القليلة الباقية من حكمه، في توطيد مملكته وإصلاح شئونها، وكان منذ سنة (662 هـ) قد أعلن البيعة بولاية العهد لمحمد أكبر أولاده، وبذلك أسبغ على رياسة بني نصر صفة الملوكية الوراثية (2). ولم تقع في تلك الأيام حوادث ذات شأن، فقد لزم النصارى السكينة حيناً. ولكن ظهرت عندئذٍ أعراض الانتقاض على بني أشقيلولة أصهار بني الأحمر ومعاونيه، وكان ابن الأحمر قد زوّج في سنة (664 هـ) إحدى بناته لابن عمه الرئيس أبي سعيد بن إسماعيل بن يوسف ووعده بولاية مالقة، فنمى ذلك إلى واليها أبي محمد بن أشقيلولة، وهو أيضاً زوج ابنته، فغضب لذلك، وأعلن العصيان والاستقلال بحكم المدينة، فسار ابن الأحمر لقتاله، تعاونه قوة من حلفائه النصارى، وحاصروا مالقة ثلاثة أشهر، ولكنهم ارتدّوا عنها خائبين (665 هـ - 1266 م). وعاد ابن الأحمر فسار إلى مالقة مرة أخرى سنة (668 هـ) ولكنه لم ينل منها مأرباً (3). وفي تلك الآونة، عاد النصارى إلى التحرّش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها فساداً، وعاد ابن الأحمر يتوجّس شراً من النصارى، فبعث إلى أمير المسلمين السلطان أبي يوسف المريني ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ولكن ابن الأحمر لم يعش ليرى نتيجة هذه الدعوة إذ توفي بعد ذلك بقليل. وكان محمد بن الأحمر يتمتّع بخلال باهرة من الشجاعة والإقدام وشغف الجهاد، والمقدرة على التنظيم، وكان جمّ التواضع والبساطة. وكان يعرف بالشيخ ويلقَّب بأمير المسلمين، وهو اللّقب الذي غلب على سلاطين غرناطة فيما بعد. وهو الذي ابتنى حصن الحمراء الشهير، وجعله دار الملك، وجلب _______ (1) نهاية الأندلس (40 - 42). (2) الإحاطة (2/ 65) واللمحة البدرية (36). (3) الذخيرة السنية (125 - 129).

له الماء، وسكنه بأهله وولده. وأما تسميته بابن الأحمر، فقد اختلفت في شأنها الرواية، ويقال: إن هذه التسمية ترجع إلى نضارة وجهه واحمرار شعره، ويرى بعضهم أنها أسبغت عليه لإنشائه حصن الحمراء، ولكن سوف نرى عن تاريخ الحمراء، أن هذا الاسم أقدم من الدولة النصريّة ببضعة قرون، وأنه لا صلة بين هذا الاسم الذي أطلق على الحصن والقصور الملكية التي أنشأها محمد بن يوسف وبنوه من بعده، وبين تلقيبهم ببني الأحمر. كما أنه ليس ثمة بين القبائل العربية أية قبيلة تحمل هذا اللقب، ويمكن أن ينسب إليها بيت غرناطة الملكي (1). وكان ابن الأحمر يباشر الأمور بنفسه، ويدقق في جمع الأموال والجبايات، حتى امتلأت خزائنه بالمال والسلاح. وكان يعقد للناس مجالس عامة يومين في الأسبوع، يستمع فيها إلى الظلامات وذوي الحاجات، ويستقبل الوفود، وينشده الشعراء. وكان يجري في تصريف شئون الملك على قاعدة الشورى، فيعقد مجالس يحضرها الأعيان والقضاة ومَن إليهم من ذوي الرأي، للاسترشاد برأيهم ونصحهم (2)، وكان في مقدمة وزرائه أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد زعيم جيان، وهو الذي مكنه من التغلب عليها. وتوفي محمد بن الأحمر في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة (671 هـ - كانون الأول - ديسمبر - 1272 م) على أثر سقطه من جواده، حين عودته من معركة ردّ فيها جمعاً من الخوارج الذين حاولوا الزحف على الحمراء، فحمل جريحاً إلى القصر، وتوفي بعد ذلك بأسبوعين، وقد قارب الثمانين من عمره، ودفن بالمقبرة العتيقة بأرض _______ (1) أنظر مقدمة الأطلس الحمراء ( Alhambra) الذي وضعه ( Owen Jones and Goury) ، وكتبها المستشرق جاينجوس ( London 1842) ص (5) الهامش، وتسمى الدولة النصرية على الأغلب بدولة بني الأحمر، ويؤثر ابن خلدون تسميتها بذلك الاسم، أنظر ابن خلدون (4/ 170 وما بعدها). (2) ابن خلدون (7/ 190) واللمحة البدرية (31).

طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

السبيكة (1). وكانت مملكة غرناطة قد رسخت دعائمها نوعاً ما، واستقر بها ملك بني نصر الفتي على أسس ثابتة. وكان من حسن الطالع أنه لم يظهر في مملكة غرناطة في بداية أمرها زعماء خوارج ينازعون بني نصر زعامتهم، ولذا لم نشهد في هذه المنطقة مأساة الطوائف مرة أخرى، وإن كان تاريخ الدولة النصرية لم يخلُ من ثورات وانقلابات محلية عديدة. وكان من الغرائب، أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، استطاعت أن تعيد لمحة من مجد الأندلس الذاهب، كما استطاعت بكثير من الشجاعة والجلد، أن تسهر على تراث الإسلام في الأندلس، زهاء مائتين وخمسين عاماً أخرى (2). طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال 1 - مملكة غرناطة وحدودها كانت مملكة غرناطة عند قيامها في أواسط القرن السابع الهجري، تشمل القسم الجنوبي من الأندلس القديمة، وتمتد فيما وراء نهر الوادي الكبير إلى الجنوب، حتى شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، ويحدها من الشمال ولايات جيّان وقرطبة وإشبيلية، ومن الشرق ولاية مرسية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط الممتد منها إلى الجنوب، ومن الغرب ولاية قادس وأرض الفرنتيرة. وكانت تشتمل عندئذ على ثلاث ولايات كبيرة، وهي ولاية غرناطة الواقعة في الوسط والممتدة جنوباً حتى البحر، وأهم مدنها العاصمة غرناطة، ووادي آش، وبسطة، وأشكر، وحصن اللّوز، ولوشة، والحامية، وأرجبة، وشلوبانية. وولاية المرية، وهي تمتد من ولاية _______ (1) الإحاطة (2/ 66)، وكان اسم السبيكة: يطلق على البسيط الذي يقع جنوب شرقي الحمراء. (2) نهاية الأندلس (44 - 46) وأنظر ما جاء عن ابن الأحمر في: The Moorish Empire in Europe, Scott: v. 11. p. 433-434.

2 - عناصر السكان

مرسية حتى البحر، وأهم مدنها ثغر المرية وألبيرة، والمنصورة، وبرشانة، وبرجة، ودلاية، وأندرش. وولاية مالقة، وهي تقع على البحر غربي غرناطة، وأهم مدنها ثغر مالقة، وبلش مالقة، وطرش، وقمارش، وأُرشذونة، وأنتقيرة، ورندة ومربلة، ويلحق بها الجزيرة الخضراء ومنطقة جبل طارق وطريف. وتخترق مملكة غرناطة في الوسط جبال سييرا نفادا (جبل شلير) الشاهقة، وهضاب البشرات الوعرة وبسائطها الخضراء، كما تخترقها عدة أنهار منها شنيل فرع الوادي الكبير، ونهر أندرس الصغير، وفي الشرق نهر المنصورة. وكانت خواصها الطبيعية التي تجمع بين مزيج مدهش من المروج والوديان الخصبة، والجبال والهضاب الوعرة، تمدها بثروات زراعية ومعدنية حسنة، ينمّيها ويضاعفها الشعب الأندلسي الموهوب، بذكائه ونشاطه وبراعته المأثورة، وهكذا كانت مملكة غرناطة الصغيرة، تستمد من مواردها الطبيعية أسباب القوة والمنعة والرخاء (1). 2 - عناصر السكاّن كانت منذ الفتح منزل قبائل الشام، وقد مكثت أعقاب هذه البطون مدى عصور كثيرة في تلك الولاية، ولما اضطرمت الفتن بالأندلس عقب انهيار الدولة الأموية، تقاطر البربر من الضفة الأخرى من البحر على قواعد غرناطة، ثم غدت مدى حين إمارة بربرية، وأصبح البربر عنصراً بارزاً في سكان هذه المقاطعة. وكانت الثغور الجنوبية بطبيعة الحال منزل البربر، كلما عبروا إلى الأندلس - خاصة أيام المرابطين والموحّدين - وكانت طوائف كثيرة من المجاهدين، تتخلّف في هاتيك الوديان النضرة وتستقر فيها، ويجذبهم _______ (1) نهاية الأندلس (47 - 48).

3 - المدجنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية.

خصبها ونعماؤها. ولما أخذت قواعد الأندلس الشرقية والوسطى تسقط تباعاً في أيدي النصارى، هرع إلى القواعد والثغور الجنوبية كثير من الأسر المسلمة الكريمة، التي آثرت الهجرة إلى أرض الإسلام، على التدجّن والبقاء تحت سلطان النصارى. على أنه بقيت في القواعد والثغور التي احتلتها النصارى من الأسر المسلمة التي حملتهم ظروف الأسرة ودواعي العيش على البقاء في الوطن القديم تحت حكم الإسبان النصارى، وأولئك هم المدجنون (1) (بالإسبانية Mudejares) أو أهل الدجن. وقد شاع استعمال هذا اللفظ منذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، أو بعبارة أخرى منذ كثر استيلاء النصارى على بلاد المسلمين، وكثر عدد الرعايا المسلمين الذين تضمّهم إسبانيا النصرانية. 3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية. ولهذا المجتمع الإسلامي الإسباني من المدجنين تاريخ طويل مؤثر، فقد لبث المدجنون عصراً يتمتعون في ظل ملوك قشتالة وأراغون، بنوع من الطمأنينة والرخاء والأمن، فكان يسمح لهم بالاحتفاظ بدينهم وشريعتهم ومساجدهم ومدارسهم، وكان لهم في العصور الأولى قضاة منهم يحكمون في سائر المنازعات التي تقع فيما بينهم وفقاً للشريعة الإسلامية. أما المنازعات التي تقع بين مسلم ونصراني، فكان ينظرها أحياناً قاضٍ نصراني، أو تنظرها محكمة مختلطة من قضاة من المذهبين. وكان من امتيازاتهم ألاَّ يدفعوا من الضرائب غير ما كانوا يؤدونه من قبل لملوكهم، ثم ترك هذا الامتياز بمضي الزمن. وأصدر الفونسو العاشر في سنة 1254 م لسكان إشبيلية امتيازاً يخولهم حق شراء الأرض من المسلمين في منطقتهم، مما يدل على أنه _______ (1) من دجن وتدجّن: أي أقام، ومصدره الدجن أو التدجّن، ومنه دواجن البيوت، وهي طيور وحيوانات أليفة مقيمة.

سمح للمسلمين بالاحتفاظ بأراضيهم، وكان لهم حق البيع والشراء في العقارات. فلما تطورت الحوادث، وغلبت النزعة الرجعية على المتغلبين النصارى في أواخر القرن الثالث عشر، صدر قانون يحرم على المسلمين شراء الأراضي من النصارى، ولكن ترك هذا القانون فيما بعد. وكان يسمع للمدجنين أيضاً بحمل السلاح، ويلزمون بتأدية الخدمة العسكرية، ويعتبر الإعفاء منها امتيازاً خاصاً. ثم أعفِي المدجنون بعد ذلك من الخدمة العسكرية نظير جزية سنوية يؤدونها، وكان انضمامهم إلى الجيوش النصرانية يقع في حدود نسبتهم العددية. ولما توالى استيلاء الإسبان على القواعد والثغور الأندلسية، كان يُخصَّص للمدجنين في كل مدينة مفتوحة حيّ خاص لإقامتهم، يفصل بينه وبين أحياء النصارى سور ضخم (1). وتوجد وثائق عربية في كتدرائية سرقسطة تلقي ضوءاً على تاريخ المدجنين وأحوالهم في مملكة أراغون منذ القرن العاشر الميلادي إلى القرن الخامس عشر، وهي عبارة عن طائفة من عقود البيع والشراء والوديعة وغيرها التي عقدت بين أفراد من المدجنين وبين المدجنين والنصارى. ويستفاد من تلاوتها أن المدجنين في مملكة أراغون كانوا حتى سنة 1492 م، إلى هذا العصر المتأخر، حتى بعد سقوط غرناطة في يد الإسبان، يحتفظون بدينهم الإسلامي، وأنه كانت ما تزال ثمة بعض مساجد قائمة في بعض أنحاء ولاية سرقسطة (2). وكانت مسألة التدجين هذه، وبقاء المسلمين في البلاد التي يستولي عليها النصارى، تثير كثيراً من المسائل الفقهية، وكان بعض الفقهاء يرمي أولئك المدجنين بالمروق عن الإسلام لبقائهم تحت حكم النصارى. على أن هذه الاعتبارات الدينية لم تحل دون بقاء طوائف كبيرة من المسلمين في الأراضي التي يقتطعها النصارى تباعاً من الوطن الأندلسي، وكانت الاعتبارات _______ (1) Dr. H. Ch. Lea: History of the Inquisition in Spain, v.pp. 62-64 (2) انظر نماذج من هذه الوثائق في: نهاية الأندلس (49 - 52).

الدنيوية، وظروف الأسرة، ودواعي العيش، تغلب على كلّ الاعتبارات الأخرى، وكان تسامح النصارى في البداية، وتركهم رعاياهم المسلمين، يتمتعون بتطبيق شريعتهم وأحكام دينهم فيما بينهم - كما ذكرنا - يخفف عن أولئك المدجّنين مرارة الانسلاخ عن مجتمعهم القديم، والانتماء إلى المجتمع النصراني. ولكن هذا الوضع أخذ يتبدّل منذ اتّسع نطاق التوسع النصراني في الأندلس، وزاد بذلك عدد المدجنين في مختلف المناطق الإسبانية المستولى عليها، وكانت الكنائس تبغض هذه الطوائف الإسلامية القائمة في قلب المجتمع النصراني، وتنقم على المدجنين هذه الدعة وهذا التسامح، وترى في احتفاظهم بدينهم ولغتهم نوعاً من التحدي المذموم، وتأخذ على ملوك قشتالة وأراغون تسامحهم في معاملتهم، وتسعى جاهدة لتحريضهم على اتباع سياسة الانتقام والعنف، إزاء أولئك الرعايا المسالمين. ومنذ أوائل القرن الثالث عشر تتوالى أوامر البابوية وقراراتها ضد المدجّنين، والحث على استرقاقهم أو تنصيرهم، ومن ذلك ما أمر به البابا أنُسنت الرابع في سنة 1248 م، ملك أراغون خايمي الأول، من وجوب استرقاق المسلمين في الجزائر الشرقية، ولكن خايمي لم يأبه بذلك الأمر. ولما استولى النصارى على ثغر بلنسية في سنة 1238 م، سمح للمسلمين أن يبقوا فيه كمدجّنين. وكان ملوك قشتالة وأراغون يعارضون هذه السياسة العنيفة، لبواعث وأسباب تتعلق بمصالحهم القومية ورخاء بلادهم، لأن المدجنين كانوا بين رعاياهم أفضل العناصر بين رعاياهم وأنشطها وأكثرها دأباً ومثابرة وأوفرها تأدية للضرائب، وكانوا الساعد الأيمن للنبلاء في زراعة أراضيهم واستغلالها، وكانوا يستأثرون بالتفوّق في العلوم والفنون والمهن، وكانوا أبرع الأطباء والمهندسين والبنائين، وكان لهم الفضل الأول في إدخال محاصيل عديدة في إسبانيا النصرانية، مثل القصب والقطن والأرز والتين والبرتقال واللّوز وغيرها، ومازالت مشاريع الرّي التي أنشأوها، ولاسيما في مناطق إسبانيا الشرقية والشمالية الشرقية، تشهد بعبقريتهم في هذا المضمار. وهم الذين

وضعوا أسس الصناعة الإسبانية، وكانوا أساتذة الصناعات الدقيقة، وكانت صناعاتهم، ولاسيما المنسوجات القطنية والحريرية، والفخار والخزف والجلود، نماذج بارعة تحذو حذوها الصناعة الأوروبية، فلم يك ثمة أشهر من خزف مالقة، ولا أقمشة مرسية، ولا حرير ألمرية وغرناطة، ولا أسلحة طليطلة، ولا منتجات قرطبة الجلدية، وكانت بلنسية التي تضم كتلة كبيرة من المدجنين، تعتبر من أغنى ثغور أوروبا بما تنتجه من السكر والنبيذ وغيرها من المنتجات العديدة. وكان المدجنون مثال النشاط والدأب، يزاولون التجارة بنجاح وشرف، وكانوا أفضل التجار وأوفرهم أمانة ونزاهة. ولم يكن بينهم متسولون، إذ كانوا يعولون فقراءهم، وكانوا مثلاً للنظام والسكينة، يحسمون منازعاتهم بأنفسهم، وعلى الجملة، فقد كانوا يؤلِّفون أصلح السكان الذين يمكن أن تحتويهم أي البلاد (1). وقد لبث ملوك قشتالة عصوراً يحرصون على الانتفاع بنشاط المدجنين وحمايتهم، ونستطيع أن نقول على ضوء الوثائق التي سبقت الإشارة إليها، إنه كانت ثمة طوائف كبيرة منهم حتى القرن الخامس عشر الميلادي، تعيش في أنحاء كثيرة من إسبانيا النصرانية محتفظة بدينها ولغتها وتقاليدها، وكانت البابوية تسير على خطتها من التحريض عليهم والمطالبة بتجريدهم من دينهم، والعمل على تنصيرهم بطريق الاضطهاد والعنف، وتردّد الكنيسة الإسبانية من جانبها هذا التحريض. ولكن هذه السياسة الباغية لم تحدث أثرها إلاّ ببطء، ولم يتسع نطاقها إلاّ في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي عندما أشرفت الدولة الإسلامية في غرناطة على نهايتها. وكان قيام مملكة غرناطة في ذاته، عنصراً من عناصر تكييف السياسة الإسبانية إزاء المدجنين، ذلك أن ملوك إسبانيا فوق ما كان يحدوهم من رغبة في المحافظة على مصالحهم وسكينة بلادهم بإيثار الرفق في معاملة المدجين، كانوا أيضاً يخشون سياسة الانتقام _______ (1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain , v.pp. 66-67 - Dr Lea: The Moriscos of Spain. P.57

من النصارى المقيمين في غرناطة. وفيما وراء البحر في بلاد المغرب، بل في الممالك الإسلامية الأخرى مثل مصر وتركيا وأرض الشام والجزيرة والعراق. على أن العوامل الاجتماعية والمحلية من جهة أخرى، كانت تحدث أثرها في مجتمع المدجنين. ذلك أنه بالرغم من جميع الفوارق التي كانت تفصل بينهم وبين النصارى، فقد جنح الكثير منهم إلى التشبه بجيرانهم، وانتهوا بمضي الزمن وأثر الاختلاط والتزاوج إلى فقد دينهم ولغتهم، ومميزاتهم الجنسية والقومية، والاندماج شيئاً فشيئاً في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهكذا أصبحوا بالتدريج قشتاليين ونصارى، وأضحى علماؤهم يكتبون كتب الدين والشريعة بالقشتالية للرجوع إليها. وقام أيضاً بين المدجنين أدب قشتالي استمر عصوراً حتى بعد إخراج العرب المتنصرين من إسبانيا (1). على أن المدجنين لبثوا بالرغم من هذا الاندماج الاجتماعي تطبعهم مسحة خاصة تباعد بينهم وبين المجتمع النصراني القديم (2). كان نظائر هؤلاء الأندلسيين المدجنين، جمهرة من النصارى الإسبان، يعيشون في القواعد والثغور الإسلامية، ويعرفون بالنصارى المعاهدين أو المستعربين ( Mozarabes) ، وقد لبثوا عصوراً يتمتعون في ظل الحكم الإسلامي بضروب الرعاية والتسامح. وكانت الحكومات الأندلسية حتى في أزهى عصورها، تحافظ على سياسة التسامح التي اتبعت إزاءهم منذ الفتح، وتعاملهم بالرفق وتحترم شعائرهم الدينية وتقاليدهم القومية، وتتجنب أيّة محاولة لإرغامهم على اعتناق الإسلام. وكان من ضروب هذه الرعاية، أن أُنشئ في ظل حكومة قرطبة منذ عهد الحكم بن هشام، ديوان خاص للنظر _______ (1) المقصود هنا أدب الألخمارو Aljamiado، وهو عبارة عن كتابة اللغة القشتالية المحرفة بحروف عربية مشكّلة، وكان العرب المتنصرون يضطرون إلى كتابة كتبهم الدينية بهذه اللغة بعد أن حرمت عليهم لغتهم العربية. (2) Dr Lea: History of the Inquisition, v. pp. 65

في شئون أهل الذمة (النصارى ويهود) يتولاه كبير من الأحبار النصارى يطلق عليه: (قومس أهل الذمة). وهكذا استطاعوا دائماً أن يحتفظوا بدينهم ولغتهم، ومميزاتهم القومية والاجتماعية. وكانت حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي، أفضل بكثير مما كانت عليه أيام القوط، وكثيراً ما كان يعهد إليهم بمناصب القيادة والوزارة، أو ينتظمون في البلاط والحرس الملكي. ومع ذلك فقد كانت منهم دائماً طوائف متعصبة تسيء استعمال هذا التسامح، وتحاول بمختلف الوسائل أن تكيد للإسلام ودولته، ومن ذلك ما حدث في عهد عبد الرحمن بن الحكم (أواسط القرن التاسع الميلادي) من الحوادث الدموية التي أثارها تعصب النصارى (1). وهكذا فإن النصارى المعاهدين، لم يشعروا دائماً بالولاء والإخلاص للدولة الإسلامية التي يعيشون في ظلها، والتي توليهم كثيراً من رعايتها ورفقها، وكانوا دائماً يتربّصون بها، وينتهزون الفرص لمناوأتها والكيد لها، ويستعدون عليها الوطن القديم، كلما اضطربت شئونها، وعصفت بها الثورة والحرب الأهلية. وكانت أعظم خيانة ارتكبوها من هذا النوع، في أواخر أيام المرابطين، حينما دعوا الفونسو الأول ملك أراغون - الملقب بالمحارب - عقب استيلائه على سرقسطة، إلى أن يسير إلى غزو الأندلس، بعد ما لاح من انحلال سلطان المرابطين فيها. واستجاب ملك أراغون لتحريضهم، وسار مخترقاً الأندلس بجيوشه، والنصارى والمعاهدون في كل قاعدة ينهضون إلى معاونته بوسائلهم، وذلك في سنة (519 هـ - 1125 م)، حتى انتهى إلى فحص غرناطة، وحاصرها حيناً، ثم غادرها إلى الجنوب، ونشب القتال بينه وبين المرابطين فهزمهم، ولبث حيناً يعبث في تلك الأنحاء، والنصارى المعاهدون يهرعون إلى شدّ أزره، ويمدّونه بالأقوات والمؤن. ثم عاد ثانية إلى الأندلس من أراغون، وقد انضم إلى جيشه آلاف من النصارى المعاهدين. ولفتت هذه _______ (1) محمد عبد الله عنّان - دولة الإسلام في الأندلس - ط2 (253 - 261).

الغزوة أنظار المسلمين إلى خطر بقاء أولئك المعاهدين في الثغور والقواعد الأندلسية، فانقلبت الحكومة الإسلامية إلى مطاردتهم، وأفتى القاضي أبو الوليد بن رشد (الجَدَّ) بإدانتهم في نقض العهد والخروج على الذمة، ووجوب تغريبهم وإجلائهم عن الأندلس، وأخذ أمير المرابطين علي بن تاشفين بهذه الفتوى، وغُرِّبَت ألوف من النصارى المعاهدين إلى إفريقية، وفُرِّقوا هناك إلى أماكن مختلفة، وهلك الكثير منهم بسبب الطقس وتغير وسائل التغذية، وضم السلطان كثيراً منهم إلى حرسه الخاص، وكانت هذه المحنة سبباً في تمزيق عصبتهم وإضعاف شوكتهم (1). وقد كان مجتمع المستعربين أو النصارى المعاهدين حتى في القواعد الأندلسية التي سقطت بيد إسبانيا النصرانية، وبسط عليها النصارى حكمهم، يتأثرون بمجتمع المدجنين وبأحواله وتقاليده، حتى أنهم كانوا يتخذون اللغة العربية لغة التعامل ولغة التخاطب أحياناً إلى جانب لسانهم القومي. على أن الكثرة الغالبة من المسلمين في القواعد الأندلسية الذاهبة، كانت تؤثر الالتجاء إلى أرض الإسلام والتشبث بلواء الدولة الإسلامية. وهكذا أخذت غرناطة تموج منذ أواسط القرن السابع الهجري بسيول الوافدين عليها من بلنسية ومرسية وقرطبة وإشبيلية وجيّان وبيّاسة وغيرها، وهكذا غدت مملكة غرناطة الصغيرة تضيق بسكانها المسلمين، بعد أن احتشدت بقايا الأمة الأندلسية المتداعية في تلك المنطقة الضيقة. ومن المرجّح أن مملكة غرناطة كانت تضمُّ في عصورها الأخيرة، زهاء خمسة أو ستة ملايين من الأنفس، وكانت غرناطة وحدها تضم أكثر من مليون نفس. _______ (1) أنظر الإحاطة (1/ 115 - 120) والحلل الموشية (70 و 81) وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ (155 و 157).

4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة وكانت هذه الهجرة الغامرة من مختلف القواعد الأندلسية في الشرق والغرب، إلى ذلك الوطن الأندلسي الجديد غرناطة، تضفي على التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة طابعاً خاصاً، وبالرغم من أن العناصر الأساسية التي تتكون منها الأمة الأندلسية، هي العرب والبربر والمولدون - وهم أعقاب الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح - لبثت على كرّ العصور دون تغيير، فإنه يلاحظ أن الجموع الوافدة على المملكة الإسلامية الجديدة، كانت تضم كثيراً من العناصر التي صقلتها حضارة أرقى، ومن ثم فإنه يمكن القول: إن الأمة الأندلسية الجديدة، كانت تمثل أطيب وأثمن ما بقي من القيم العنصرية والحضارية للأندلس. وكان المولّدون يمثلون في المجتمع الأندلسي الجديد مثولاً قوياً، وكان أولئك المولدون قد نَمَوْا بمضي الزمن حتى غَدَوْا عنصراً مهماً بين سكان الأمة الأندلسية، وكان العرب والبربر ينظرون إليهم بشيء من الريب، وكانوا بالرغم من تمتعهم في ظل الحكومات الإسلامية المتعاقبة بنفس الحقوق التي يتمتع بها باقي المسلمين، ينزعون إلى الثورة في أحيان كثيرة، وكان لهم شأن في إضرام بعض الثورات الخطيرة التي اضطرمت ضد حكومة قرطبة، مثل ثورة الربض، وثورة طليطلة أيام الحكم بن هشام، وثورة بني قسيّ في الثغر الأعلى، وقد كان جدهم الكونت قسيّ قوطياً نصرانياً. وكان المولدون أعوان ابن حفصون، أعظم وأخطر ثوّار الأندلس، وهو الذي استطاع بمؤازرتهم وبمؤازرة النصارى المعاهدين، أن يؤسس مدى حين مملكة مستقلة في منطقة رندة (أواخر القرن التاسع الميلادي)، وكان ابن حفصون مولداً يرجع إلى أصل نصراني. على أن المولدين كان لهم موقف آخر ضد القادمين من إفريقية، ففد وقفوا إلى جانب مواطنيهم الأندلسيين ضدّ المرابطين ثم الموحّدين، وكان عماد الثورة ضدّ المرابطين زعيم أندلسي من المولدين هو محمد بن سعد بن مردنيش أمير بلنسية ومرسية. وكان يتحدث

القشتالية، ويرتدي الملابس الإفرنجية، ويحشد في جيشه كثيراً من الضباط والجند النصارى (1). ولم يكن للعاطفة الدينية في تلك العصور وفي تلك الظروف دائماً كبير أثر، بل كانت تغلب في معظم الأحيان عواطف القومية والمصلحة الخاصة (2). كذلك كان بين سكان غرناطة أقلية يهودية قوية، معظمهم من طائفة (السفرديم) القديمة أو اليهود الإسبان، وكان ليهود في ظل الحكومات الإسلامية نفوذ يذكر، وكانت العروبة تغلب على السكان المدنيين في مملكة غرناطة، ولا سيما بعد أن نزح إليها - على أثر سقوط القواعد الأندلسية بيد النصارى - كثير من سادات البطون العربية القديمة، ويذكر لنا ابن الخطيب عشرات من الأنساب العربية العريقة التي كان ينتمي إليها أهل غرناطة. ويصف ابن الخطيب الغرناطيين بوسامة الوجوه، واعتدال القدود، وسواد الشّعر، ونضرة اللّون، وأناقة الملبس، وحسن الطاعة والإباء، يتحدثون بعربية فصيحة تغلب عليها الإمالة. ويصف نساءهم بالجمال والرشاقة والسِّحر وبنبل الخلال، ولكنه ينعي عليهنّ المبالغة في التفنّن بالزينة والتبهرج في عصره. أما الجند، فكانت فيهم كثرة ظاهرة من البربر، ولاسيما من قبائل زناتة ومغراوة وبني مرين، ويرجع ذلك إلى أن طوائف البربر التي تخلّفت منذ عهد المرابطين والموحّدين بالأندلس، كان أغلبها من الجند، وقد بقيت على عهدها تؤثر الجندية على الزراعة والمهن والفنون المدنية (3). وهكذا كان الشعب الأندلسي، حين آذنت شمسه بالمغيب، كما كان يوم مجده، يتكون من هذا المزيج العربي الإفريقي الأسباني الذي أطلق عليه الغربيون عبارة: (عرب الأندلس) أو (مسلمي الأندلس) (4). _______ (1) الإحاطة (2/ 87). (2) Dr. Lea: History of the Inquisition , v. 1. p. 50. (3) أنظر الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1955) - (1/ 140 - 145) واللمحة البدرية (27 - 28). (4) وهي بالإسبانية ( Los Moros) وبالإنكليزية ( The Moors) وبالفرنسية ( Les =

طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

وكانت الأمة الأندلسية، تتمتع حتى عصورها الأخيرة بحضارة زاهرة، كانت مثار التقدير والإعجاب في سائر الأمم الأوروبية، وكان يحجّ إليها وإلى معاهدها ومدارسها وجامعاتها العلمية كثير من التلاميذ والطلاب من مختلف أنحاء أوروبا. وكان الشعب الغرناطي، من أهل السنّة، يدين بمذهب مالك، وهو المذهب الذي غلب على الأمة الأندلسية منذ أواخر القرن الثاني الهجري، أعني منذ عصر هشام بن عبد الرحمن الداخل. ولم تتأثر غرناطة في نزعتها المذهبية ولا تقاليدها الدينية السمحة، بما توالى عليها من سيادة المرابطين والموحدين حيناً من الدهر (1). طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية 1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة يبدأ بقيام مملكة غرناطة طور جديد من أطوار الصراع يمكن أن نسميه: حرب الاسترداد القومية ( La Reconquista) وقد بدأت إسبانيا النصرانية هذه الحرب منذ منتصف القرن الخامس الهجري، أي حينما انهارت الدولة الإسلامية في الأندلس، وانتثرت إلى عدة دويلات صغيرة متنافسة هي دول الطوائف. وبلغت الأندلس أيام الطوائف من التفرق والضعف مبلغاً عظيماً، حتى لاح لإسبانيا النصرانية أن عهد الدولة الإسلامية أوشك على الزوال، وأن الفرصة قد سنحت لتضرب ضربتها الحاسمة. وكانت مملكة قشتالة تتزعم إسبانيا النصرانية، وتقودها في ميدان الصراع على المسلمين، وكان ملكها الفونسو السادس يعمل بذكاء لاستغلال منافسة الدول الإسلامية وتفرّق كلمتها، ويغلب أميراً على أمير، حتى انتهى بالاستيلاء على مدينة طليطلة من _______ = Maures) . (1) نهاية الأندلس (52 - 65).

يد صاحبها يحيى ذي النون، وذلك في صفر من سنة (478 هـ - أيار - مايو - 1085 م)، وكانت طليطلة أول قاعدة إسلامية عظيمة تسقط في يد إسبانيا النصرانية. ويعتبر بعض الباحثين سقوطها ختام التفوق السياسي للمسلمين في الأندلس، وبدء مرحلة التفوق السياسي لإسبانيا النصرانية. وعلى كل حال فقد كان سقوط طليطلة نذيراً خطيراً للمسلمين في الأندلس، يذكرهم بقوة العدو المتربص بهم، ويحذرهم عاقبة التنابذ والتفرّق، فاجتمعت كلمة أمراء الطوائف يومئذ على الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر في عدوة المغرب، وكان المرابطون يومئذ قد بسطوا سلطانهم على سائر بلاد المغرب، وبدت دولتهم قوية شامخة، فاستجاب ملكهم يوسف بن تاشفين إلى صريخ الأندلس، وكانت هزيمة إسبانيا النصرانية على يد قوات المغرب والأندلس في معركة الزلاقة (479 هـ - 1086 م) فاتحة حياة جديدة للأمة الأندلسية. ولما اضمحل سلطان المرابطين في الأندلس بعد ذلك بنحو ستين عاماً، خلفهم الموحِّدون في ملك المغرب والأندلس، وأحرز الإسلام على النصرانية نصراً حاسماً في معركة الأرك الشهيرة، التي انتصرت فيها جيوش يعقوب المنصور ملك الموحِّدين على جيوش الفونسو ملك قشتالة (591 هـ - 1195 م)، فانكمشت إسبانيا النصرانية إلى مدى حين، ولكنها عادت فاجتمعت كلمتها تحت لواء الفونسو ملك قشتالة، وسارت الجيوش النصرانية المتحدة إلى لقاء المسلمين بقيادة ملك الموحدين محمد الناصر ولد يعقوب المنصور، فأصيب المسلمون في موقعة العقاب بهزيمة فادحة (609 هـ - 1212 م) وأخذ سلطان الموحدين في الأندلس يتداعى من ذلك الحين، وبدأ مصير الأندلس يهتزّ في يد القدر، ولم تمض مدة وجيزة أخرى، حتى بدأت قواعد المسلمين في الأندلس تسقط تباعاً في يد النصارى: قرطبة (633 هـ)، بلنسية (636 هـ)، شاطبة ودانية (638 هـ)، مرسية (641 هـ)، إشبيلية (644 هـ)، وهكذا سقطت عدة من قواعد الأندلس التالدة، ومنها عاصمة الخلافة القديمة في يد إسبانيا النصرانية في مدة عشرة أعوام فقط، ولقيت

2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

الأندلس أعظم محنها في تلك المدة العصيبة، ولاح لإسبانيا النصرانية أن حرب الاسترداد القومية لن تلبث حتى تتوّج في أعوام قلائل أخرى، بالقضاء على ما بقي من تراث الإسلام في الأندلس. ولكن شاء القدر أن تتمخّض هذه المحنة التي اجتاحت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري، عن قيام دولة إسلامية جديدة، هي مملكة غرناطة، تتمتع بالرغم من صغرها بكثير من عوامل الفتوة والحيوية، وفي الوقت الذي خُيِّل فيه لإسبانيا النصرانية أنها أضحت على وشك الإجهاز على المملكة الإسلامية، كانت بذور صراع طويل الأمد تنمو وتتوطد. وإذا بالنهاية المرجوّة تستحيل إلى بداية جديدة. ولقد استطالت هذه المرحلة الأخيرة في حرب الاسترداد زهاء مائتين وخمسين عاماً، ثبتت فيه المملكة الإسلامية في غرناطة لهجمات إسبانيا النصرانية المستمرة، وعملت على استغلال كل فرصة للمطاولة والمقاومة، وأبدت في الجهاد على صغر رقعتها وضآلة مواردها، بسالة عجيبة. وكانت كلما شعرت بالخطر الداهم يكاد ينقضّ عليها ويودي بحياتها، استغاثت بجارتها المسلمة من وراء البحر، أو عصفت بإسبانيا النصرانية ريح الخلاف والتفرّق، فشغلتها عن إرهاق المملكة الإسلامية حيناً من الوقت، حتى شاء القدر بعد طول الجهاد، أن تنتهي هذه المعركة القاسية الطويلة، إلى نهايتها المحتومة، وأن تنهار المملكة الإسلامية الصغيرة تحت ضغط القوة القاهرة، وأن تختتم حياتها المجيدة أبيَّة كريمة. 2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس استمر هذا الصراع قروناً بين الأمة الأندلسية، وبين إسبانيا النصرانية، وكانت العوامل القومية والدينية تمتزج بأدوار هذا الصراع في معظم أطواره، وكانت تشتد وتخبو حيناً تبعاً لتطور الحوادث. ولما فتح المسلمون إسبانيا، وسيطرت الدولة الإسلامية على معظم أنحائها، قامت المملكة الإسبانية

النصرانية الناشئة في قاصية الشمال، ترقب الفرص للتوطد والتوسع. بيد أنها لم تجرؤ على تحدي المملكة الإسلامية، والنزول إلى ميدان الحرب قبل أواخر القرن التاسع الميلادي، ففي ذلك الوقت اضطرمت الأندلس بالفتن والثورات الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثوار، وكانت غزوات النصارى للأرض الإسلامية يومئذ، غزوات يغلب عليها حبّ الانتقام وجمع الغنائم والأسلاب، ولم يكن يطبعها شيء من تلك الروح الدينية العميقة، التي جمعت أوروبا النصرانية تحت لواء شارل مارتل لمحاربة العرب على ضفاف اللّوار، والتي حفَّزت شارلمان فيما بعد إلى عبور جبال البرنية وغزو الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل. غير أنه لما اشتد ساعد الأندلس في أيام عبد الرحمن الناصر (أواخر القرن العاشر الميلادي) وظهرت المملكة الإسلامية في أوج قوتها وظفرها، ونفذت الجيوش الإسلامية غير مرة إلى أعماق المملكة النصرانية، وشعر النصارى بالخطر الداهم على كيانهم، أخذت العوامل الدينية والقومية تستيقظ من سباتها، واتخذت المملكتان النصرانيتان: ليون ونافار على مقاومة الخطر الإسلامي. وكانت المعارك التي نشبت في تلك المدّة في عهد أردونيو الثاني وولده راميرو بين المسلمين والنصارى، تحدوها من الجانبين - فوق نزعتها القومية - نزعة دينية واضحة، فكانت غزوات المسلمين تحمل طابع الجهاد، ويهرع أهل الثغور إلى مرافقة الجيش لمقاتلة النصارى، وكان يرافق الجند النصارى إلى القتال جموع غفيرة من الأحبار ورجال الدين، يسقطون إلى جانب الفرسان في ساحة الوغى. وكانت هذه الصبغة القومية الدينية تبدو كلما اشتد الخطر من الجنوب على إسبانيا النصرانية. ففي أواخر القرن العاشر، في عهد الحاجب المنصور، حينما اشتدت وطأة الأندلس على إسبانيا النصرانية، وغزا المسلمون أقصى وأمنع معاقلها الشمالية، اتحدت الممالك النصرانية الثلاثة: ليون، وقشتالة ونافار ضد المسلمين في جبهة دفاعية موحّدة، وبدت كذلك موحّدة الرأي والقوى، حينما عبرت جموع البربر إلى الأندلس تحت لواء المرابطين، لتنقذ

الأندلس من خطر الفناء الذي كان يهدِّدها، من جرّاء تفرّق ملوك الطوائف. وكانت معركة الزلاقة تحمل في نظر المسلمين طابع الجهاد في سبيل الله، وتطبعها في نظر النصارى صبغة صليبية واضحة، ولم تكن نصراً للأندلس على إسبانيا فقط، بل كانت نصراً على النصرانية أيضاً. وكذلك كان نصر المسلمين أيام الموحِّدين في موقعة الأرك، ثم هزيمتهم بعد ذلك في موقعة العقاب، يحمل كلاهما من الجانبين هذا المعنى الديني العميق. ويجب أن نذكر أن الحروب الصليبية بدأت في المشرق بعد معركة الزلاّقة بقليل واستمرت تضطرم بين المسلمين والنصارى في مصر والشام زهاء قرنين. وبلغت ذروتها أيام الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي معاصر السلطان يعقوب المنصور الظافر في معركة الأرك. ولم يكن شك في أن النزعة الصليبية التي دفعت بجحافل الغرب إلى الشرق الإسلامي، كانت تحدث صداها قوياً في إسبانيا النصرانية وفي الغرب الإسلامي. وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الصليبيين تحاول أن تغزو مصر حصن الإسلام في المشرق أوائل القرن السابع الهجري، كانت قواعد الأندلس الكبيرة تسقط في أيدي النصارى، وكانت إسبانيا النصرانية تبدو يومئذٍ إزاء الأندلس موحّدة الرأي والقوى، كما كانت الجيوش الصليبية الأوروبية تسير إلى الشرق متحدة لتحقيق الغرض المنشود. وقد ظهر صدى النزعة الصليبية في إسبانيا على شكل آخر، هو قيام الجماعات الدينية المحاربة. ونعرف أن جماعات الفرسان الدينية قامت في الشرق في ظل الصليبيين، واشتهر منهم بالأخص جماعة فرسان المعبد أو "الداويّة"، كما تسميهم الرواية العربية، وفرسان القديس يوحنا أو الأسبتارية. وكانت هذه الجماعات الدينية المحاربة، تشدّ أزر الأمراء النصارى وتؤدي للصليبيين أثناء السلم والحرب خدمات جليلة. وكما أن قيامها في المشرق كان أثراً من آثار المعارك الصليبية، فكذلك كان قيامها في إسبانيا كان أثراً من آثار الصراع بين النصرانية وبين الأندلس المسلمة، ذلك أن

بعض الفرسان والرهبان الورعين المتحمسين، كان يحزنهم تفرّق الملوك النصارى وتخاذلهم أحياناً في مقاتلة المسلمين، وكانوا يرون أنه لابدّ من قيام جماعات غيورة مخلصة من الفرسان، تنذر نفسها للدفاع عن الدين وعن الأراضي النصرانية. وكانت قدوتهم في ذلك جماعات المسلمين من أهل الثغور المرابطة، فقد كانت هذه الجماعات المجاهدة التي ترابط عند حدود الأراضي الإسلامية، تبدي في محاربة النصارى بسالة منقطعة النظير، وتؤدي للجيوش الإسلامية أجلّ الخدمات. فلما أنشئت جماعة فرسان المعبد (الداوية) في بيت المقدس سنة (1119 م) عقب قيام المملكة اللاتينية بقليل، كان لقيامها صدى عظيم في إسبانيا، ولم تمض أعوام قلائل، حتى قامت أول جمعية دينية محاربة في أراغون على عهد الفونسو المحارب، في صورة فرع لجماعة فرسان المعبد، وأبدى الفونسو في تأييدها حماسة، وانتظم في سلكها الكونت ريموند برنجار أمير برشلونة، وأقطعت عدة حصون وأراض شاسعة على حدود أراغون، كما احتلت عدداً من الحصون في قشتالة، ونمت بسرعة، وأخذت تضطلع في ذلك الحين بدور مهم في سائر المواقع التي تنشب بين النصارى والمسلمين. وقامت في قشتالة بعد ذلك بقليل، أعظم الجمعيات الدينية المحاربة، ففي أواخر عصر القيصر الفونسو ريموند (1) ملك قشتالة، قامت حوالي سنة (1150 م) جمعية فرسان دينية قوية في بعض أديار سُلنقة، وسميت بجمعية القديس يليان، ثم سميت بعد ذلك بجمعية فرسان القنطرة. وفي سنة (1158 م) قامت جمعية دينية محاربة أخرى، ربما كانت أشهر وأقوى جماعات الفرسان التي ظهرت في إسبانيا في هذا العصر، وهي (جمعية فرسان قلعة رباح)، ونشأت لأول أمرها على يد جماعة من الرهبان الذين أبلوا في الدفاع عن تلك القلعة الحصينة ضد المسلمين، واتخذت قلعة رباح مركزاً _______ (1) Alfonso Raimundez، وتعرفه الرواية الإسلامية باسم أدفنش بن رجند أو السُّليطين.

لها. وقامت أيضاً في البرتغال عدة فروع لفرسان المعبد (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الأسبتارية). وظهرت هذه الجمعيات الدينية المحاربة ولا سيما فرسان القنطرة وفرسان قلعة رباح في كثير من المعارك التي نشبت في تلك العصور بين المسلمين والنصارى، وكان تدخلهم في كثير من الأحيان من عوامل النصر والإنقاذ للجيوش النصرانية. بيد أنهم بالرغم من صفتهم الدينية والصليبية، كانت تحدوهم بواعث وأطماع دنيوية، وكان ظمأ الكسب واجتناء المغانم روحهم المسيِّرة، وكانوا يسيطرون على قلاع كثيرة وأراضٍ واسعة، ويعيشون في بذخ وترف، بما يحصلون عليه من الإقطاعات والهبات والنذور الوفيرة، وكان تدخلهم في شئون السياسة والعرش يشتدّ أحياناً ويفضي إلى أحداث وتطورات خطيرة. كانت إسبانيا النصرانية حين بدأت حرب الإسترداد الحقيقية في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، عقب سقوط القواعد الأندلسية الكبيرة، تجيش إلى جانب نزعتها القومية بهذه النزعة الصليبية الواضحة، على أنه يمكن القول إن ظهور هذه النزعة الدينية العميقة في حروب إسبانيا النصرانية على المسلمين، لم يكن ملحوظاً بصورة واضحة حينما كان التفوق في القوة للأندلس المسلمة أيام الدولة الأموية، وحينما كان ثمة نوع من التوازن في القوى السياسية والعسكرية بين الأندلس المسلمة وإسبانيا النصرانية أيام المرابطين والموحِّدين. وتدل حوادث التاريخ الأندلسي حتى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، على أن التعصّب القومي والديني لم يكن دائماً ظاهرة بارزة بين النصارى والمسلمين، فقد كان الفريقان المتحاربان يحترم بعضهم بعضاً، وكان التعصّب الديني قاصراً على جماعات القساوسة والأحبار، لأن المسلمين كانوا متسامحين للغاية مع المسيحيين، حتى وُصِف المسلمون بالأناشيد الإسبانية القديمة بأنهم خصوم شرفاء، ولا يجيش النصارى نحوهم ببغض، لأنهم وجدوهم أفضل معاملة من القوط وأعدل حكماً وأكثر تسامحاً وأقل ضرائب مفروضة على النصارى. يقول دوزي: (إن الفارس الإسباني في

العصور الوسطى، لم يكن يحارب من أجل دينه أو وطنه، بل كان مثل (السيد) يحارب لكسب عيشه سواء في ظل أمير مسلم أو أمير نصراني. ولقد كان (السيد) نفسه أقرب إلى روح المسلم منه إلى الكاثوليكي (1)، وفي حياة (السيد) الكمبيدور (الكنبيطور) (2) نفسه أوضح مثل لاتجاهات الفروسية الإسبانية في تلك العصور، فقد نشأ (السيد) وظهر في كنف أمير مسلم، وتقلّب في خدمة الأمراء المسلمين والنصارى على السواء، بل لقد خدم الأمراء المسلمين أكثر مما خدم الأمراء النصارى، ولو لم يمت وهو في خدمة الجانب النصراني، لما حفلت به الأساطير الإسبانية، ورفعته إلى مرتبة البطل القومي (3)، وفي أحيانٍ كثيرة، نرى المرتزقة من الفرسان والجند النصارى يعملون في الجيوش الإسلامية. وفي مواطن عديدة من تاريخ إسبانيا النصرانية، نرى الملوك والأمراء النصارى خلال الحروب الأهلية يلوذون بحماية الأمراء المسلمين، فقد لجأ سانشو ملك ليون إلى حماية عبد الرحمن الناصر حينما استأثر أخوه أردونيو بالملك دونه، ولجأ الفونسو السادس ملك قشتالة إلى حماية المأمون بن ذي النون أمير طليطلة حينما تغلّب عليه أخوه سانشو الثاني وعاش في بلاطه حتى توفي أخوه، فلما ارتقى عرش قشتالة _______ (1) Dozy: Recherches sur l'Histoire de Litterature de l'Espagne Pendant le Moyenage; v. 11. p. 2.3 & 233. (2) وبالإسبانية ( El Cid Campeador) ومعناها: السيد الباسل جداً. (3) يختلف التفكير الغربي في تقديره للسيد الكمبيدور ومنزلته من البطولة، فيرى دوزي في كتابه ( Le Cid) أنّه ليس سوى جندي مغامر يجمع في شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله. ويجاريه في هذا الرأي معاصره الفرنسي رينان، ويقول: "إنّه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الأسطورة إلى حيّز التاريخ كما فقد السيد". ولكن الإسباني منندث بيدال يخالف هذا الرأي، ويبالغ في تقديره للسيد ويقول: "إنّ الشعر والتاريخ يتفقان في شأنه، وأنّه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً في ظلّ التاريخ ". La Espana del Cid; vol. 11. p. 594. R.M. Pidal.: وهكذا فقد دأب المؤلفون الإسبان على الانحياز المطلق، بل التعصب لكل ما هو إسبانيّ.

كان أعظم مشاريعه أن ينتزع طليطلة من يد القادر بن ذي النون ولد المحسن إليه. وفي سنة 990 م قدّم برمودو (برمند) الثاني أخته زوجة لحاكم طليطلة المسلم. ولم يكن زواج الأمراء المسلمين من الأميرات والعقائل النصارى أمراً نادراً، وربما كان تاريخ بلنسية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي أسطع مثل لهذا الامتزاج والتفاهم بين الفريقين المتحاربين. ولم يحجم أمراء المرابطين في الأندلس حينما انهارت دولتهم في إفريقية وبدأ الموحِّدون في انتزاع الأندلس من أيديهم، عن الاستعانة بالفونسو ريموند ملك قشتالة وحليفه غرسية ملك نافار على محاربة الموحِّدين. ولم ينقطع هذا التعاون بين المسلمين والنصارى، حتى بعد أن بدأت مرحلة الاسترداد الأخيرة، فقد كان محمد بن الأحمر في بداية أمره ينضوي كما ذكرنا تحت حماية ملك قشتالة. ونجد من الجانب الآخر أمراء النصارى يلوذون من وقت إلى آخر بحماية المسلمين، حتى في ذلك الوقت الذي تضاءلت فيه المملكة الإسلامية. فنرى الإنفانت فيليب حينما ثار على أخيه الفونسو العاشر، يلتجئ مع جماعة من النبلاء إلى حماية أبي يوسف المنصور ملك المغرب، ويستقر ضيفاً على بلاط غرناطة، حتى انتهى ملك قشتالة إلى مصالحتهم واسترضائهم (1218 م)، وفي سنة (1282 م) اضطر الفونسو العاشر نفسه حينما ثار عليه ولده سانشو، وانتزع منه العرش، إلى الاستعانة بالسلطان أبي يوسف، وأرسل إليه تاجه مقابل ما ينفقه على معاونته، فاستجاب إليه وأمده بالمال والجند، وفي سنة (1332 م) ثار حاكم الفرنتيرة النصراني ضدّ مليكه الفونسو الحادي عشر، وتحالف مع غرناطة وعاون بذلك في ردّ النصارى عن جبل طارق، وكانوا على وشك الاستيلاء عليه. ولما نشبت الثورة ضد ولده بَدرو القاسي (دون بطره) ونزع عن عرشه، ونشبت بينه وبين خصومه موقعة مونتيل الفاصلة سنة (1367 م)، كان إلى جانبه فرقة من الفرسان المسلمين، أمدّه بها حليفه الغني بالله ملك غرناطة، وهكذا كان التعاون السياسي

والحربي يجري بين الفريقين من آونة إلى أخرى، حتى في تلك العصور التي مال فيها نجم الأندلس إلى الأفول، ولم تكن تحول دون عقده عوامل القومية والدين. وكانت العلاقات التجارية أيام السلم تجري بانتظام، وتنظّم بمعاهدات وديّة بين الفريقين، ومن ذلك معاهدة الصداقة والتحالف التي عقدها محمد بن يوسف ملك غرناطة مع مَرْتين ملك أراغون، لتنظيم العلاقات والمبادلات الحرّة، وتنظيم التحالف السياسي بين المملكتين (1). ويجب ألاّ ننسى ما كان هناك من علاقات المودة والتفاهم بين جماعات الفرسان من الفريقين، وقد كانت الفروسية الإسبانية في العصور الوسطى، تقتبس كثيراً من تقاليد الفروسية الإسلامية وخلالها الرفيعة، وتنظر إليها بعين التقدير والاحترام. وكانت مباريات الفروسية تجمع بين أنبل الفرسان من الجانبين، وكانت كثيراً ما تعقد في العاصمة الإسلامية في جو من العطف والحماسة، ويهرع إلى شهودها ألوف من المسلمين والنصارى، وكانت هذه الاجتماعات المثالية التي تتسم بالبهجة والتي تجمع بين العنصرين الخصمين أبعد ما تكون عن الاعتبارات القومية والدينية، وقد كانت غرناطة التي اشتهرت بفروسيتها النبيلة البارعة، مسرحاً لكثير من هذه المباريات الشهيرة. تلك هي الصورة المتباينة، التي تقدمها إلينا معركة السلطان والقوة، ومعركة الحياة والموت، والحرية والاستعباد، بين الأندلس المسلمة وإسبانيا النصرانية، ذلك أن بواعث الدين والقومية لم تكن دائماً كل شيء في هذا الصراع المضطرم الطويل. ومع ذلك كانت النزعة الدينية للمسلمين والصليبيين للنصارى، تبدو كلما لاح شبح الخطر الداهم على كيان أحد الفريقين، أو كلما اتخذ النزاع بين الفريقين صبغة حاسمة، ولما شعرت إسبانيا النصرانية أنها أضحت بعد الاستيلاء على القواعد الأندلسية الكبيرة، وتضاؤل المملكة الإسلامية، في مركز التفوق والغلبة، لم يكن ثمة ما يدعو _______ (1) Dr. Lea: History of the Inquisition; v. 1. p. 52-55.

لأن تتخذ حرب الإسترداد التي تلت بعد ذلك بين إسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة، ألواناً دينية أو قومية عميقة، ذلك لأنّ معركة السلطان قد بتّ فيها نهائياً بظفر إسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس مسألة وقت فقط. وكانت إسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجّل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية، أو ردّها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر، على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قوياً واضحاً، وما كادت حرب الإسترداد تدخل في طورها الأخير، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية في جهود إسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة، ولما اتحدت إسبانيا النصرانية نهائياً. وتمَّ اندماجها في مملكة موحّدة بزواج فرديناند ملك أراغون وإيزابيلا ملكة قشتالة، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لوناً صليبياً عميقاً، يذكيها ويزيد من ضرامها حماسة هذه المملكة المتعصبة، ومن حولها الأحبار المتعصبون، وأسبغ على فرديناند لقب (الكاثوليكي)، وعلى إيزابيلا لقب: (الكاثوليكية). وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة في (2 كانون الثاني - يناير - سنة 1492 م) أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب، وأقام الرهبان القداس داخل قصر الحمراء، ودفنت الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند في غرناطة، تنويهاً بظفرهما على الإسلام. وكانت سياسة إسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة، منذ إكراهها على التنصير في عصر فرديناند، حتى مأساة النفي النهائي في عصر فيليب الثالث، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة، يصوغها أحبار الكنيسة، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسي المروّع ووسائله الدموية، وعلى الجملة فقد كانت جهود إسبانيا النصرانية في القضاء على الأمة الأندلسية، تمثل منذ بدايتها مأساة من أروع وأشنع مآسي التعصب الديني والقومي التي عرفها ................................................

مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

التاريخ (1). وهكذا، فحين كان المسلمون أقوياء، شاع تسامحهم في الأندلس ليس بين المسلمين حسب، بل بين النصارى أيضاً، فصانوا النصارى ومعابدهم، وأطلقوا الحرية الدينية إطلاقاً كاملاً، وكان النصارى بينهم سعداء غاية السعادة، في أمن واستقرار ودعة. فلما ضعف المسلمون وأصبح النصارى أقوياء، نصّروا المسلمين قسراً، وقتلوا وعذَّبوا وحرَّقوا، وأخيراً نَفَوْا ما تبقّى من المسلمين في إسبانيا، فلم يبق فيها مسلم واحد، كأنهم لم يكونوا فيها قروناً ولم يعمروها. ذلك ما حدث في الفردوس المفقود، لا ينكره النصارى ويعرفه العالم كله، وتسجله أسفار العرب والمسلمين وأسفار النصارى أيضاً، وكأنه مجد من الأمجاد للنصارى يفاخرون به ولا ينكرونه ولا يتنكرون له. مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر 1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه لما توفى محمد بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة، خلفه في الملك ولده وولي عهده أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقّب بالفقيه لعلمه وتقواه، وكان مولده في غرناطة سنة (633 هـ - 1235 م)، وهو الذي رتّب رسوم الملك للدولة النصريَّة، ووضع ألقاب خدمتها، ونظّم دواوينها وجبايتها، وخلع عليها بذلك صفتها الملوكية الزاهية. وكان يتمتع بكثير من الخلال الحسنة، من قوة العزم، وبعد الهمّة، وسعة الأفق، والبراعة السياسية. وكان عالماً أديباً، يقرض الشعر، ويؤثر مجالس العلماء والأدباء (2). ولأول عهده نشط ملك قشتالة الفونسو العاشر إلى محاربة _______ (1) نهاية الأندلس (66 - 75). (2) الإحاطة (1/ 565).

المسلمين، وكان مثل أبيه فرديناند الثالث، يرى أنّ دولة الإسلام في الأندلس قد دنت نهايتها، ويتربّص الفرصة بالمملكة الإسلامية الفتية، ويحاول كأبيه القضاء عليها قبل استفحال أمرها. ولم يكن ملك غرناطة بغافل عن الخطر الذي يتهدده في مشاريع قشتالة، وكان محمد بن الأحمر قد أوصى ولده بالحرص على محالفة بني مرِين ملوك العُدْوَة والاستنجاد بهم كلّما لاح شبح الخطر الداهم (1). وكان بنو مرين، وهم الذين استولوا على ملك الموحِّدين بعد ذهاب دولتهم، يومئذ في عنفوان قوتهم، وكانت مملكتهم الفتية، تشغل في نظر الأندلس ونظر إسبانيا النصرانية، نفس الفراغ الذي تركه ذهاب دولة المرابطين ثم دولة الموحِّدين، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الدولة الجديدة في ميدان السياسة والحرب نحو الأندلس الدور الذي أدّته المملكتان المغربيتان الذاهبتان. وبنو مرين بطن من بطون قبيلة زناتة البربرية الشهيرة، التي تنتمي إليها عدة من القبائل التي لعبت أدواراً بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة ومغيلة ومديونة وجراوة وعبد الواد وغيرهم. ومع ذلك فإن بني مرين يُرجعون نسبهم إلى العرب المضرية، وذلك بالانتساب إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار. وجدهم الأعلى جرماك بن مرين بن ورتاجي بن ماخوخ (2). وكانت القبائل المرينية في بداية أمرها من العشائر البدوية المتنقلة، تجول في هضاب المغرب وصحاريه جنوبي تونس، وتسير نحو المغرب أيام الصيف. وفي فاتحة القرن السابع الهجري، نشبت الحرب بينهم وبين بني عبد الواد، فتوغّلوا في هضاب المغرب، ونزلوا بوادي ملوية الواقع بين المغرب والصحراء، وأقاموا هنالك حيناً، وكانت قوى الموحِّدين قد تضعضعت منذ موقعة العِقاب (609 هـ) (3)، وسرت إلى دولتهم عوامل التفكك والانحلال. ولما توفّى ملكهم الناصر، وهو المهزوم في موقعة العقاب سنة (610 هـ) _______ (1) الذخيرة السنية (162) وابن خلدون (7/ 191). (2) الذخيرة السنية (10 و 11 و 16). (3) الذخيرة السنية (52 - 53) والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (2/ 3 و 5).

وولي بعده ولده يوسف المستنصر، وكان ولداً حدثاً ضعيف الهمّة والخلال، فانكبّ على لهوه وساءت أمور المملكة، وسرت إليها الفوضى. ففي تلك الآونة، بدأ فيها ملك الموحِّدين يهتزّ في يد القدر، نفذ بنو مرين إلى المغرب، وتوغّلوا في جنباته، واشتبكوا مع الموحِّدين لأول مرة سنة (613 هـ)، إذ حاول الملك المستنصر أن يقضي عليهم، فأرسل جيوشه لقتالهم، ولكنّها هزمت، ووصل بنو مرين إلى أحواز فاس، وكان أمير بني مرين يومئذ أبو محمد عبد الحق بن خالد بن محيو، ولكنّه قتل في بعض المواقع سنة (614 هـ)، فخلفه في الإمارة ولده أبو سعيد عثمان، واستمر يقود قومه في حرب الموحِّدين (1). وفي سنة (639 هـ - 1241 م) سيّر الرشيد ملك الموحِّدين جيشاً لقتال بني مرين، فهُزِم الموحِّدون هزيمة شنيعة، واستولى المرينيون على معسكرهم. وتوفى الرشيد في العام التالي، فخلفه في الملك أخوه أبو الحسن السعيد، فاعتزم أن يضاعف الجهد للقضاء على بني مرين، فسيّر لقتالهم سنة (642 هـ - 1244 م) جيشاً ضخماً، ونشبت بين الموحدين وبين بني مرين معركة هائلة، هُزِم فيها بنو مرين، وقُتِل أميرهم أبو معروف محمد بن عبد الحق، وكانت ضربة شديدة هزّت من عزائمهم مدى حين. وتولّى إمارة بني مرين بعد مقتل أبي معروف، أخوه أبوبكر بن عبد الحق الملقّب بأبي يحيى، وفي عهده اشتدّ ساعد بني مرين، واستولوا على مكناسة (643 هـ)، ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد (648 هـ - 1250 م)، وكان سقوط فاس حاضرة المغرب القديمة أعظم ضربة أصابت مملكة الموحِّدين، وكان نذير الانهيار النهائي. ثمّ استولوا على سجلماسة ودرعة (655 هـ). ولما توفى أبو يحيى سنة (656 هـ) تولى أخوه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق من بعده رياسة بني مرين، وجعل مدينة فاس حاضرة ملكه. وفي سنة (657 هـ) نشبت _______ (1) الذخيرة السنية (93 - 94).

الحرب بين بني مرين وبين الأمير يغمراسن بن زيان ملك المغرب الأوسط، فهُزم يغمراسن وارتدّ إلى تلمسان. وفي العام التالي (658 هـ) هاجم النصارى الإسبان في سفنهم سلا فجأة، وقتلوا وسبَوْا كثيراً من أهله، فبادر أبو يوسف بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه. ثم كانت الموقعة الحاسمة بين الموحِّدين وبني مرين، ففي سنة (667 هـ - 1269 م) سار الواثق بالله المعروف بأبي دبّوس ملك الموحّدين من مراكش لقتال بني مرين، والتقى الجمعان في وادي (عفّو) بين فاس ومراكش، فهزم الموحِّدون بعد معركة شديدة، وقتل منهم عدد كبير، واستولى أبو يوسف على معسكرهم ومؤنهم وخزائنهم. ثم سار إلى مراكش، فدخلها في المحرّم سنة (668 هـ) وتسمَّى بأمير المسلمين، وبذلك انتهت دولة الموحِّدين في المغرب كما انتهت في الأندلس أيضاً، بعد أن عاشت زهاء قرن وثلث القرن، وقامت مكانها دولة بني مرين، تسيطر على أنحاء المغرب الأقصى كلّه، وتستقبل عهداً جديداً (1). إلى تلك الدولة الجديدة الفتية، كانت تتّجه أنظار الأندلس، كلّما لاح لها شبح الخطر الداهم، فلعبت هذه الدولة في حوادث الأندلس الداخلية والخارجية أعظم دور. ولم تفت مؤسّس مملكة غرناطة أهمية التّحالف مع بني مرين والاستنصار بهم، فبعث قبل وفاته بقليل - كما ذكرنا - إلى السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق الملقّب بالمنصور يطلب إليه غوث الأندلس وإنجادها، وكان السلطان أبو يوسف حينما وصله صريخ ابن الأحمر في سنة (670 هـ) يسير إلى غزو تِلِمْسان، فلما وقف من الرُّسُل على حال الأندلس وما يهدِّدها من الأخطار، جمع أشياخ القبائل، واتّفق الجميع على وجوب إنجاد الأندلس والجهاد في سبيل الله. وأرسل السلطان إلى الأمير يغمراسن، صاحب تلمسان يعرض عليه عقد الصلح لكي يتمكّن من العبور إلى _______ (1) أنظر أصل بني مرين ونشأتهم في: الذخيرة السنية (10 و 16 و 94 و 99 و 123 و 124) والاستقصا (2/ 13 - 14) وابن خلدون (7/ 166 - 180)، وانظر نهاية الأندلس (86 - 88).

الأندلس، فأبى. واقتتل الفريقان على مقربة من وَجْدة في شهر رجب سنة (670 هـ - 1272 م) فهزم يغمراسن وفرّ جريحاً (1). وعاد أبو يوسف إلى المغرب مظفّراً، وهو يعتزم استجابة دعوة الأندلس وإنجادها. على أنه مضى أكثر من عامين قبل أن تسنح له الفرصة المرجوّة، فلما تولّى محمد الفقيه الملك، أرسل عقب ولايته بقليل وفداً من أكابر الأندلس إلى ملك المغرب ورسالة استغاثة، فشرحوا له حال الأندلس من الضعف ونقص الهبة وتكالب العدو القوي عليها، واستصرخوه للغوث والجهاد (2). وتتابعت رسل ابن الأحمر وبني اشقيلولة إلى السلطان أبي يوسف ينوِّهون بالخطر الداهم الذي يهدّد الأندلس، ويلتمسون إليه المبادرة بالإسعاف والإمداد، فاستجاب السلطان أخيراً لدعوتهم، وكتب إلى ابن الأحمر يطمئنه، ويعرب له عن عزمه على الجواز إلى الأندلس في فاتحة سنة أربع وسبعين وستمائة الهجرية (3). وخرج السلطان من فاس في رمضان سنة (673 هـ) للجهاد في ميدان الأندلس، وأرسل للمرة الثانية إلى الأمير يغمراسن صاحب تلمسان، يعرض عليه الصلح توحيداً للكلمة وتعضيداً للجهاد، فقبل يغمراسن وتمّ الصلح. وبادر السلطان، فجهّز ولده أبا زيان (4) في خمسة آلاف مقاتل، فعبر البحر من قصر المجاز (قصر مصمودة) إلى الأندلس، ونزل ثغر طريف في شهر ذي الحجة سنة (673 هـ - 1275 م) ونفذ إلى أرض النصارى حتى شَريش، وعاث فيها، وعاد مثقلاً بالسبي والغنائم. وقدّم إليه ابن هشام وزير ابن الأحمر ثغر الجزيرة، فنزل فيه، وجاز ابن هشام العدوة، فلقي السلطان أبا يوسف في معسكره على مقربة من طنجة، وكان السلطان قد أكمل أهبته، _______ (1) الذخيرة السنية (148) والاستقصا (2/ 16). (2) أنظر نص رسالة ابن الأحمر إلى أبي يوسف في الذخيرة السنية (159 - 161). (3) أنظر نص رسالة أبي يوسف إلى ابن الأحمر في الذخيرة السنية (162 - 163). (4) الذخيرة السنية (164) ولكن ابن خلدون يقول: إنّ السلطان بعث الجند مع ولده منديل (7/ 119)، ومنديل حفيد أبي يوسف لا ولده.

فعبر من قصر المجاز إلى الأندلس في صفر (674 هـ - حزيران - يوليه - 1275 م) في جيش كثيف من البربر، داعياً إلى الجهاد على سنّة أسلافه المرابطين والموحِّدين. وكان أبو يوسف قد اشترط على ابن الأحمر حينما استنجد به، أن ينزل له عن بعض الثغور والقواعد الساحلية، لتنزل فيها جنوده ذهاباً وإياباً، فنزل له عن رندة وطريف والجزيرة، ونزل أبو يوسف بجيشه في طريف، وهرع ابن الأحمر وبنو أشقيلولة إلى لقائه، واهتزت الأندلس كلها لعبور ملك المغرب. ولكن ابن الأحمر ما لبث أن غادره مغضباً لما رأى من تدخله في شئون الأندلس بصورة مريبة، ذلك أن بني أشقيلولة أصهار بني الأحمر، وفي مقدمتهم محمد بن أشقيلولة زعيم الأسرة وزوج أخت محمد بن الأحمر، وأخوه أبو الحسن زوج ابنته، كانوا يجيشون نحو عرش غرناطة بأطماع خفيّة. وكان أبو محمد ممتنِعاً بمالقة مغاضباً لملك غرناطة - كما ذكرنا - فلما عبر أبو يوسف إلى الأندلس، سار إليه وانضوى تحت لوائه. ولم يفلح أبو يوسف في التوفيق بين ابن الأحمر وبين أصهاره، وخشي ابن الأحمر عاقبة هذا التحالف بين أصهاره وبين أبي يوسف، فارتد إلى غرناطة حذراً متوجِّساً. ونفد أبو يوسف بجيشه إلى بسائط الفرنتيرة (1)، وكانت بيد النصارى، وعاث فيها، ثم توغّل غازياً ينسف الضياع والمروج، ويسبي السكان، حتى وصل إلى حصن المقورة وأبدة على مقربة من شرقي قرطبة. وعندئذٍ عوّل القشتاليون على لقائه دفاعاً عن أراضيهم. وخرج القشتاليون في جيش ضخم تقدّره الرواية الإسلامية بنحو تسعين ألف مقاتل (2)، وعلى رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة الدون نونيو دى لارا الذي تسميه المصادر العربية: (دونونه أو دننه أو ذنونه). وكان أبو يوسف قد ارتدّ عندئذٍ بجيشه إلى ظاهر _______ (1) الفرنتيرة: La Frontera، وهي السهل الواقع غربي مثلث إسبانيا الجنوبي (الجزيرة)، ويمتدّ من قادس جنوباً حتى طرف الغار. (2) الذخيرة السنية (169 - 170).

إستجة، ومعه حشد عظيم من الغنائم والأسرى، فأغلقت المدينة أبوابها واستعدّت للقتال. ووضع أبو يوسف الغنائم في ناحية تحت إمرة حرس خاص حتى لا تعيق حركاته، وعقد لولده أبي يعقوب على مقدمته، وخطب جنده وحثهم على الجهاد والموت في سبيل الله. ثم تقدّم لملاقاة النصارى، ويعضده بعض قوّات الأندلس برئاسة بني أشقيلولة. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى على مقربة من إستجة جنوب غرب قرطبة في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة (674 هـ - 9 أيلول - سنتمبر - 1275 م) فنشبت بين الفريقين معركة سريعة هائلة، هُزم النصارى على أثرها هزيمة شنيعة، وقتل قائدهم الدون نونيو دى لارا وأعدَاد كبيرة من جيشه (1)، وكان نصراً عظيماً أعاد إلى الأذهان ذكريات معركة الزلاقة ومعركة الأرك. وكان أوّل نصر باهر يحرزه المسلمون على النصارى منذ موقعة العقاب، ومنذ انهيار الدولة الإسلامية بالأندلس، وسقوط قواعدها العظيمة. وتبالغ الرواية الإسلامية في تقدير خسائر النصارى، فتقول: إنه قتل منهم في المعركة ثمانية عشر ألفاً، جمعت رءوسهم وأذّن عليها المؤذِّن لصلاة العصر، هذا في حين وفقاً لقولها أيضاً، لم يقتل من المسلمين سوى أربعة وعشرين رجلاً (2). وبعث السلطان أبو يوسف برأس دون نونيو إلى ابن الأحمر، فقيل إنه بعثه بدوره إلى ملك قشتالة مضمّخاً بالطيب، مصانعة له وتودّداً إليه. _______ (1) ابن خلدون (7/ 191) واللمحة البدرية (44) والإحاطة (1/ 573) والذخيرة السنية (170 - 172). (2) الذخيرة السنية (173)، ويستغرب الأستاذ محمد عبد الله عنّان من هذا التفاوت في الخسائر بين الطرفين، والواقع أنّ المهزوم يتكبد خسائر فادحة في هزيمته، لأنّ الفوضى والارتباك تقع في صفوفه، فقد يقتل الجندي صاحبه خطأ، وقد تستسلم الجماعة المنهزمة لأفراد، فيقتلون. وكانت معركة جنين سنة 1948 م بين العراقيين والصهاينة، فخسر فيها الصهاينة آلافاً، وخسر العراقيون (23) شهيداً، استقروا في مقبرة قباطبة بالقرب من جنين في أرض فلسطين، وهذه حقيقة قد تكون موضع استغراب المؤرخين بعد حين.

ولبث أبو يوسف بالجزيرة بضعة أسابيع، قُسّمت فيها الغنائم واستراحت الأجناد، ثم خرج للمرة الثانية في جمادى الأولى سنة (674 هـ)، وتوغّل غازياً في أرض قشتالة، حتى وصل إلى أحواز إشبيلية، فأغلقت المدينة أبوابها. وعاث أبو يوسف في تلك الأنحاء، ثمّ سار إلى شريش، فضرب حولها الحصار، فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها، وطلبوا إليه الأمان والصلح، فأجابهم إلى طلبهم، وعاد إلى قواعده مثقلاً بالغنائم والسّبى. وقضى بضعة أسابيع في الجزيرة الخضراء، ثم عبر البحر إلى المغرب في أواخر شهر رجب (674 هـ) بعد أن قضى في الأندلس زهاء خمسة (1). على أن هذا النصر الباهر، الذي أحرزه السلطان أبو يوسف المريني على النصارى، لم يحدث أثره المنشود في بلاط الأندلس، ذلك أن ابن الأحمر، جنح إلى الارتياب في نيات ملك المغرب، وبخاصة مذ أسبغ السلطان حمايته على بني أشقيلولة وغيرهم من الخوارج على ملك غرناطة، ومثلت بذهنه مأساة الطوائف وغدر المرابطين (2) بهم. وبعث ابن الأحمر إلى السلطان قبيل مغادرته الجزيرة الخضراء، يعاتبه لتصرفه في حقه بقصائد مؤثرة يستعطفه فيها ويستنصره، والسلطان يجيبه عنها بقصائد مثلها (3). وفي أوائل سنة 676 هـ، توفى أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة، فعبر ولده محمد إلى المغرب، ونزل عنها للسلطان، فبعث إليها السلطان حاكماً من قبله، فزاد ذلك في توجّس ابن الأحمر، وأرسل وزيره أبا سلطان عزيز الداني في بعض قواته إلى مالقة ليحاول الاستيلاء عليها، فلم يوفّق. ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى عبر السلطان أبو يوسف المنصور البحر إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة (677 هـ) - (1278 م) ونزل بمالقة، فاحتفل به _______ (1) الناشر: جاءت في المخطوطة غير محددة. ولعلها خمسة أسابيع. (2) ابن خلدون (7/ 198). (3) أنظر أمثلة من القصائد في نهاية الأندلس (92 - 93)، وأنظر ابن خلدون (7/ 198 - 200).

أهلها، ثم توغّل بجيشه في أرض النصارى يعبث فيها، ومعه بنو أشقيلولة في جندهم، حتى أحواز إشبيلية. واجتنب القشتاليون لقاءه، ثم دعا ابن الأحمر إلى لقائه، فوافاه عند قرطبة والريب يملأ نفسه. وتبادل الملكان عبارات العتاب والتعاطف، ولكن ابن الأحمر لم تطمئن نفسه، وعاد السلطان إلى المغرب دون أن تصفو القلوب. وزاد توجّس ابن الأحمر لحوادث مالقة وانحيازها إلى السلطان، وجال بخاطره أن التفاهم مع ملك قشتالة خير وأبقى. وفي أواخر سنة 677 هـ، استطاع ابن الأحمر أن يستولي أخيراً على مالقة، وذلك بإغراء صاحبها بالنزول عنها، والاستعاضة بالمنكب وشلوبانية (1). ثم سعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة والتحالف معه على منع عبور السلطان المنصور إلى الأندلس، ونزلت القوات القشتالية بالفعل في الجزيرة الخضراء وكاتب ابن الأحمر أيضاً الأمير يغمراسن ملك المغرب الأوسط، وخصم السلطان المنصور، يسأله العون والتحالف. وعلم المنصور بذلك، فأراد العبور فوراً إلى الأندلس، ولكن عاقته حوادث المغرب حيناً. وفي أوائل سنة (678 هـ)، بعث ولده الأمير أبا يعقوب إلى الأندلس في أسطول ضخم، ونشبت بينه وبين أسطول النصارى المرابط في بحر الزقاق معركة هائلة، هزم النصارى على أثرها، واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة الخضراء، فغادرها النصارى في الحال. وأراد أبو يعقوب أن يتبع نصره بعقد الصلح مع ملك قشتالة، والتحالف معه على قتال ابن الأحمر ومهاجمة غرناطة، فأنكر عليه أبوه السلطان ذلك. ثم زحف جند المغرب على ثغر مربلَّة، وهو من أملاك ابن الأحمر تريد الاستيلاء عليه، فامتنع عليهم. وانتهز القشتاليون تلك الفرصة، فزحفوا على _______ (1) المنكب بالإسبانية ( Almunecar) ، وشلوبانية بالإسبانية ( Salobrena) ، ثغران صغيران من ثغور مملكة غرناطة القديمة، يقع كلاهما جنوبي غرناطة على البحر الأبيض المتوسط، وتفصلهما عن بعضهما مسافة صغيرة.

غرناطة ومعهم بنو أشقيلولة، فلقيهم ابن الأحمر وردّهم على أعقابهم (679 هـ). بيد أنه بالرغم من هذا النصر المؤقت، أخذ يشعر بدقّة موقفه، وخطورة القوى التي يواجهها من القشتاليين والمغاربة. ومن جهة أخرى فإن السلطان المنصور يخشى عاقبة هذا التصرف على مصير المسلمين، وعلى ذلك فقد بعث إلى ابن الأحمر في وجوب عقد المودة والتفاهم، فلقي له مثل رغبته، وبادر السلطان إلى عقد أواصر الصلح والتحالف بين المسلمين، على أن ينزل ابن الأحمر عن مالقة للسلطان المنصور، لتكون قاعدة للعبور والغزو. وصفا جوّ العلائق على أثر ذلك بين ابن الأحمر وبني مرين، وشغل السلطان المنصور حيناً بمحاربة الخارجين عليه. ولم يمض قليل على ذلك، حتى عادت شئون الأندلس تستغرق اهتمام المنصور، وكانت شئون الأندلس قد غدت في الواقع عنصراً بارزاً في سياسة بني مرين، وكانت مملكة غرناطة حتى في ذلك الوقت الذي انكمشت فيه الدولة الإسلامية في الأندلس، تلعب دورها في شئون إسبانيا النصرانية كلما اضطربت فيه الحوادث. ولما سطع نجم الدولة المرينية فيما وراء البحر، اتجه إليها اهتمام النصارى، وكانت كلما وقعت في قشتالة حرب أهلية، لجأ هذا الفريق أو ذاك إلى مؤازرة غرناطة أو بني مرين على غرار ما كان يحدث في الماضي، ومن ذلك ما حدث في سنة (669 هـ - 1270 م) من خروج الإنفانت فيليب على أخيه الفونسو العاشر مع جماعة النبلاء والتجائهم إلى السلطان المنصور في طلب العون، واستجابته لدعوتهم واتخاذهم غرناطة قاعدة لجهودهم. وكادت تنشب من جراء ذلك حرب بين المسلمين والنصارى، لولا تدخّل فيولا ملكة قشتالة، واسترضائها للخوارج بمختلف المنح. وفي سنة 1282 م (أوائل سنة 681 هـ) ثار سانشو على والده الفونسو العاشر، وآزره معظم النبلاء، واستطاع أن ينتزع العرش لنفسه، فاتجه أبوه المخلوع إلى السلطان أبي يوسف المنصور، وأرسل إليه بالمغرب وفداً من الأحبار يستمدّ منه الغوث ضد ولده، فاستجاب السلطان لصريخه، وعبر

البحر في قوّاته إلى الأندلس في ربيع الثاني سنة (681 هـ) وهرع الفونسو إلى لقائه بالجزيرة الخضراء على مقربة من رندة مستجيراً به ملتمساً لنصرته، وقدّم إليه تاجه رهناً لمعونته، فغزا أبو يوسف أراضي قشتالة وحاصر قرطبة، ثم زحف على طليطلة وعاث في نواحيها، ووصل في زحفه إلى حصن مجريط (1) (مدريد). وتحاشى ابن الأحمر في البداية لقاء السلطان لفتور العلائق بينهما، ولتوجّسه من محالفة الفونسو، ورأى من جانبه أن يتفاهم مع سانشو ملك قشتالة الجديد، وزحف على المنكب، وهي من الثغور التي تحتلها قوات المغرب، فغضب السلطان وارتد لقتاله. وكادت تنشب بين الملكين المسلمين فتنة مستطيرة، لولا أن خشي ابن الأحمر العاقبة، وعاد إلى التفاهم مع المنصور، وصفا الجوّ بينهما نوعاً ما، وعاث المنصور في أراضي قشتالة مرة أخرى، وغصّ جيشه بالسّبي والغنائم ثم عاد إلى المغرب بعد أن ولّى على الجزيرة حاكماً من قبله. واستمرّت الحرب الأهلية أثناء ذلك في قشتالة بين الإبن والأب، ولبث هذا النضال الدموي زهاء عامين، حتى توفي الفونسو العاشر طريداً مهزوماً في سنة (683 هـ - 1284 م)، فكان لوفاته وقع عميق في غرناطة والمغرب، وأرسل كل من الملكين المسلمين عزاءه في الملك العالم المنكود، - وقد كان ألفونسو عالماً مؤرخاً - إلى بلاط قشتالة. وكان موقف المملكتين الإسلاميتين غريباً إزاء حوادث قشتالة، إذ كان ملك المغرب يؤازر الملك المخلوع، وكان ملك غرناطة بالرغم من عطفه على الفونسو العاشر، يؤازر ولده الخارج عليه. والحقيقة أنّ ابن الأحمر، كان يشهد تقاطر الجيوش البربرية إلى الجزيرة الخضراء بعين الجزع، ويتوجّس شراً من وجودهم بها. وقد كانوا يحتلون معاقلها وثغورها، ويظاهرون الخوارج عليه في مالقة والمنكب وغيرهما من القواعد الجنوبية، وكان يتوقع أسوأ العواقب من _______ (1) ابن خلدون (7/ 209 - 210) ونفح الطيب (2/ 539).

تدخل ملك المغرب في شئون الأندلس على هذا النحو، وكان مثَلُ المرابطين ومأساة الطوائف عبرة خالدة، تساوره دائماً، وتذكي جزعه. على أنّ موت الفونسو العاشر، وانتهاء الحرب الأهلية في قشتالة، خفف من هذا التوتّر بين المملكتين، وكان ابن الأحمر يذكر في الوقت نفسه، غدر ملك قشتالة، وخطر النصارى على مملكته، فيجنح بعد التأمّل إلى إيثار التفاهم مع ملك المسلمين. وفي صفر سنة (684 هـ) عبر السلطان المنصور للمرة الرابعة إلى الأندلس، وزحف في أراضي النصارى، وغزا مدينة شريش، وسار ولده أبو يعقوب إلى أحواز إشبيلية فعاث فيها. ثم زحف المنصور على قرمونة والوادي الكبير، وخرب جنده بسائط إشبيلية ولبلة وإستجة والفرنتيرة. وسُرّ ابن الأحمر لاجتياح أراضي قشتالة على هذا النحو، وبعث إلى السلطان مدداً من غرناطة، وجاءت الأساطيل المغربية فطاردت أساطيل العدو في بحر الزقاق واحتلته. ورأى سانشو ملك قشتالة تفاقم الأمر وعقم المقاومة، فجنح إلى طلب السلم، وبعث إلى السلطان وفداً من الأحبار يطلب الصلح ويفوِّض السلطان في اشتراط ما يراه، فاستجاب السلطان لرغبتهم، واشترط عليهم: مسالمة المسلمين كافةً، وأن يمتنع النصارى عن كل اعتداء على الأندلس، وعلى أراضي المسلمين ومرافقهم، وأن ترفع الضريبة عن التجار المسلمين بدار الحرب (بلاد الأعداء)، وأن تنبذ قشتالة سياسة الدسّ بين الأمراء المسلمين، فقبل النصارى جميع الشروط المطلوبة، وتعهّدوا بتنفيذها. وقدم سانشو بنفسه إلى معسكر السلطان، فاستقبله المنصور بحفاوة، وقدّم إليه طائفة من الهدايا، وتعهّد سانشو بتحقيق شروط الصلح كاملة، وسأله السلطان أن يرسل إليه قدراً من الكتب العربية التي استولى عليها النصارى من القواعد الأندلسية، فأرسل إليه ثلاثة عشر حملاً منها، وأرسلها السلطان إلى فاس، فكانت نواة المكتبة السلطانية واتّخذ المنصور تدابيره الأخيرة نحو شئون الأندلس، وندب ابنه

الأمير أبا زيان للنظر على الثغور الأندلسية، وأوصاه بألاّ يتدخّل في شئون ابن الأحمر. وكان من آثار التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور، أن ترك المنصور ببلاط غرناطة بعض قرابته من مشاهير الغزاة، وعليهم رئيس من بني العلاء أقارب بني مرين يسمى شيخ الغزاة، وتولّى بنو العلاء قيادة الجيوش الأندلسية عصراً، وكانت لهم في ميدان الحرب والجهاد مواقف مشكورة (1). وقفل السلطان المنصور راجعاً إلى الجزيرة ليستجمَّ ثم يعود إلى المغرب، ولكن لم تمضِ أشهر قلائل، حتى أدركه المرض، وتوفي بالجزيرة في المحرم سنة (685 هـ - آذار - مارس 1285 م) بعد حياة حافلة بصنوف الجهاد في المغرب والأندلس. وكان السلطان أبو يوسف المنصور من أعظم ملوك المغرب قاطبة، وكان يعيد بشغفه بالجهاد، وكثرة تعداد أفراد جيوشه وأهبته الحربية، ذكرى أسلافه العظام من أمثال يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن، ويعقوب المنصور. وخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب، وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس، خبيراً بها. واستمرت علائق بني الأحمر ببني مرين أعواماً أخرى على حالها من المودة والصفاء، وزادت توطداً حينما قبل سلطان المغرب أن ينزل لابن الأحمر طوعاً عن وادى آش. وذلك أن محمداً الفقيه كان قد عيّن صهره أبا إسحاق بن أبي الحسن بن أشقيلولة حاكماً على قُمارش ووادي آش، فلما توفى أبو إسحاق سنة (682 هـ) استردّ ابن الأحمر قمارش، وخرج عليه أبو الحسن ولد أبي إسحاق في وادي آش، وتحالف أولاً مع ملك قشتالة، فلما عقد السلم بين المسلمين والنصارى، أعلن أبو الحسن انضواءه تحت لواء ملك المغرب، فأغضى ابن الأحمر حيناً عن تصرفه. فلما اتّصلت وشائج المودة من جديد بينه وبين السلطان أبي يعقوب، سأله التنازل عن وادي آش، فأجابه سؤله، ورحل عنها الثائر أبو الحسن إلى المغرب ملتجئاً _______ (1) ابن خلدون (7/ 209 - 210) ونفح الطيب (2/ 539).

إلى بلاط فاس، وبذا استطاع ابن الأحمر أن يبسط سلطانه على الأندلس كلها (1). وفي أوائل سنة (690 هـ - 1291 م)، أغار سانشو ملك قشتالة على الثغور الأندلسية، ناكثاً لعهده، فأرسل السلطان أبو يعقوب إلى قائده على الثغور أن يغزو شريش وأرض النصارى، فزحف عليها وعاث فيها. وأعلن أبو يعقوب الجهاد، وتقاطرت بعوث المجاهدين إلى الأندلس، فبعث سانشو أسطوله إلى بحر الزقاق ليحول دون وصول الإمداد، فبعث السلطان أسطوله لمهاجمة الأسطول القشتالي، فهزم المسلمون في (آب - أغسطس - 1291 م)، ولكن هذه الهزيمة لم تثن ملك المغرب عن عزمه، فبعث أسطولاً آخر لمقاتلة النصارى، فانسحبت النصارى هذه المرة. وعبر السلطان أبو يعقوب إلى الأندلس في رمضان سنة (690 هـ) واقتحم أرض النصارى، وغزا شريش، ووصل في زحفه حتى أسوار إشبيلية وعاث فيها، ثمّ عاد إلى الجزيرة، وارتدّ عائداً إلى المغرب في أوائل سنة (691 هـ). وتوجّس ملك قشتالة من مشاريع سلطان المغرب، فسعى إلى محالفة ابن الأحمر، وحذّره من نيّات المغاربة، واستيلائهم على الثغور الأندلسية، ولا سيما ثغر طريف مدخل الجزيرة، وتفاهم الملكان على انتزاع هذا الثغر من المغاربة، واشترط ابن الأحمر أن تسلّم إليه طريف عقب انتزاعها. وسيّر سانشو أسطوله إلى بحر الزقاق ليحاصر طريف من ناحية البحر، وليحول دون وصول الإمداد إليها. وعسكر ابن الأحمر بقواته بمالقة على مقربة منها، يعاون النصارى بالإمداد والمؤن. وثبتت حامية طريف أربعة أشهر، ولكنّها اضطرت في النهاية إلى التسليم للنصارى في أيلول سنة (1292 م)، وهنا طالب ابن الأحمر سانشو بتسليمها له حسب شرطه في التعاون بين ابن الأحمر وسانشو، فأبى _______ (1) ابن خلدون (7/ 212 - 213).

سانشو وأعرض عن ابن الأحمر، مع أن ابن الأحمر نزل لسانشو مقابل طريف عن عدد من الحصون المهمّة، فأدرك ملك غرناطة عندئذٍ خطأه في الركون إلى وعود ملك قشتالة، وفي مغاضبة ملك المغرب حليفه الطبيعي، وسنده المخلص في ردّ عدوان النصارى. وعاد ابن الأحمر يخطب ودّ بني مرين مرة أخرى، وأوفد ابن عمّه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل ووزيره أبا عزيز الداني على رأس وفدٍ من كبراء الأندلس، إلى السلطان أبي يعقوب في طلب المودّة، وتجديد العهد، والاعتذار عن مسلكه في شأن طريف، فأكرم السّلطان وفادتهم، وأجابهم إلى طلب الصلح. ولما عاد الوفد إلى غرناطة سُرّ ابن الأحمر من كرم السلطان ونبل مسلكه، واعتزم الرحلة للقائه بنفسه، وتأكيد المودّة والاعتذار، فعبر البحر إلى العُدوة في أواخر سنة (692 هـ - 1292 م) ومعه طائفة من الهدايا الفخمة، ونزل بطنجة حيث استقبله بعض أبناء السلطان، ثم جاء السلطان بنفسه إلى طنجة، وتلقاه بمنتهى الإكرام والحفاوة، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة وأراضي الغربية، وعدّة حصون كانت من قبل في طاعة ملك المغرب. وعاد ابن الأحمر مغتبطاً بنجاح مهمّته، وأرسل السلطان معه حملة لغزو طريف بقيادة وزيره عمر بن السّعود، فحاصرتها حيناً ولكنها لم تظفر بافتتاحها (1). وكان لمحمد الفقيه، بالرغم من سمته العلمية، وقائع طيبة في ميدان الجهاد ضد النصارى، ففي المحرم من سنة (695 هـ - أواخر 1295 م) على أثر وفاة سانشو ملك قشتالة، زحف بجيشه على أرض قشتالة، وغزا منطقة جيَّان، ونازل مدينة قيجاطة (2)، واستولى عليها، وعلى عدّة من الحصون التابعة لها، وأسكن بها المسلمين، وفي صيف سنة (699 هـ - 1299 م) غزا _______ (1) ابن خلدون (7/ 217). (2) مدينة قيجاطة: هي بالإسبانية ( Quesada) ، وتقع شمال شرقي مدينة جيَّان، وجنوب شرقي مدينة أبدة. والقبذاق هي بالإسبانية ( Alcoudete) .

أراضي قشتالة مرة أخرى، وزحف على مدينة القبذاق الواقعة جنوب غربي جيَّان، ودخل قصبتها وتملكها، وأسكن المسلمين. واستمر محمد بن محمد بن الأحمر، أو محمد الفقيه في حكم غرناطة أعواماً أخرى، وهو ثابت العهد، مقيم على صداقة بني مرين، ومما هو جدير بالذكر أنه قبيل وفاته بقليل، عقد معاهدة صلح وتحالف مع ملك أراغون خايمي الثاني ضدّ قشتالة، وذلك تجديداً وتعديلاً لمعاهدة صلح وتحالف سابقة مع ملك أراغون خايمي الثاني كانت قد عقدت بين الطرفين في سنة (699 هـ - 1299 م)، وقد نُصَّ في هذه المعاهدة الجديدة على عقد: (صلح ثابت وصحبة ثابتة صادقة) وأن يلتزم كل من الفريقين عدم الإضرار بالآخر على يد أحد من رعاياه، وأن تكون أراغون معادية لأعداء غرناطة سواء من المسلمين أو قشتالة، وأن يُفتَح بلد كل من الفريقين لمن يقصده من تجار البلد الآخر مؤمنين على أنفسهم وأموالهم، وأخيراً يتعهّد ملك غرناطة بمعاونة أراغون ضد ملك قشتالة، وألا يعقد معه صلحاً إلاّ بموافقة حليفه، ويتعهد ملك أراغون لسلطان غرناطة بمثل ما تقدم، كما يتعهد السلطان بمعاونة حليفه بفرسان من عنده في أرض مرسية إذا احتاج إلى هذا العون، وألاّ يعترض سلطان غرناطة على ما يأخذه ملك أراغون من أراضي قشتالة، إلاّ المواضع التي كانت لغرناطة، فهذه تردّ إليها. وقد وقِّعت هذه المعاهدة في أواخر ربيع الثاني سنة (701 هـ - 31 ديسمبر كانون الأول - 1301 م) (1). ولم يمض على عقد هذه المعاهدة نحو ثلاثة أشهر حتى توفي السلطان محمد الفقيه في شعبان سنة (701 هـ - مايو - 1302 م) بعد أن حكم أكثر من ثلاثين عاماً، وقد زاد ملك بني الأحمر في عهده توطداً واستقراراً، بالرغم مما توالى عليه من الأحداث والخطوب. وكان وزيره في آخر عهده الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم اللخمي، _______ (1) أنظر الوثيقة في: محفوظات التاج الأراغوني، برقم 148.

2 - أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع وأحداث أيامه

وهو من مشايخ رندة، وكان من قبل من كتّاب ديوانه في ديوان الإنشاء، وكان رجلاً وافر العزم قوي الشكيمة، ولقب بذي الوزارتين لجمعه بين الكتابة والوزارة، وكان لحزمه وقوة نفسه أكبر أثر في استقرار الأمور في هذا العهد (1). 2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه وخلف محمد الفقيه ولده أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع، وكان ضريراً، ذا نباهة وعزم، عالماً شاعراً، يؤثر مجالس العلماء والشعراء، ويصغي إليهم ويجزل صِلاتهم، محباً للإصلاح والإنشاء، وكان من بين منشآته المسجد الأعظم بالحمراء، فهو الذي أمر ببنائه على أبدع طراز، وزوّده بالعُمد والنقوش والثريّات الفخمة، ولكنه لم يُحسن تدبير الملك والسياسة، وغلب عليه كاتبه وزيره ووزير أبيه من قبل أبو عبد الله محمد بن الحكيم اللّخمي، فاستبدّ بالأمر دونه وحجر عليه، فاضطربت الأمور، وأخذت عوامل الانتقاض تجتمع وتبدو في الأفق. وفي عهده القصير، اضطربت علائق مملكة غرناطة وبني مرين مرة أخرى، والواقع أنه في بداية عهده حاول إحكام المودة بينه وبين بني مرين، فأرسل وزير أبيه أبا عزيز الداني ووزيره ابن الحكيم إلى سلطان المغرب، ليجددا عهد المودة والصداقة، فوفدا عليه وهو بمعسكره محاصراً لتلمسان، فأكرم وفادتهما وطلب إليهما إمداده ببعض جنود الأندلس الخبراء في منازلة الحصون، فأرسلت إليه قوة منهم أدّت مهمتها أحسن أداء. ولاح أن أواصر المودّة أضحت أشدّ ما تكون توثيقاً بين الفريقين، ولكن ابن الأحمر عرض له _______ (1) يترجم له ابن الخطيب بإفاضة في الإحاطة (2/ 278) وما بعدها، وانظر سيرة السلطان محمد الفقيه في: نهاية الأندلس (85 - 102).

فجأة أن يعدل عن محالفة سلطان المغرب، وأن يعود إلى محالفة ملك قشتالة، فغضب السلطان أبو يعقوب لذلك، وردّ جند الأندلس (703 هـ). وبدأ ابن الأحمر أعمال العدوان، بأن أوعز إلى عمه وصهره الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل صاحب مالقة، أن يحرِّض أهل سبتة في الضفة الأخرى من البحر، على خلع طاعة السلطان، واستعد ابن الأحمر في الوقت نفسه لمحاربة السلطان إذا عنّ له أن يعبر إلى الأندلس، وجهّز الرئيس أبو سعيد حملة بحرية في مياه مالقة بحجة مدافعة النصارى، ثم سيّرها فجأة إلى سبتة، وذلك في (شوال سنة 705 هـ - 1306 م)، فكانت الحملة بقيادة عثمان بن أبي العلاء المريني، فاستولت على سبتة، وجاء الرئيس أبو سعيد فاستبدّ بأمرها، وأعلن انضواءها تحت لواء ابن الأحمر، وقبض على ابن العز في حاكمها من قبل السلطان وآله، وأرسل إلى غرناطة. ووقف أبو يعقوب على هذه الحوادث وهو تحت أسوار تلمسان، فوجد لذلك الغدر وجداً شديداً، فبعث حملة بقيادة ولده أبي سالم إلى سبتة، فحاصرها حيناً، ولكنه أخفق في الاستيلاء عليها، فارتد أدراجه. وخرج في أثره عثمان ابن أبي العلاء في جند الأندلس، وعاث في أحواز سبتة وما جاورها (سنة 706 هـ). وكان لتطور الحوادث على هذا النحو، أسوأ الأثر في نفس السلطان أبي يعقوب، فاعتزم أن يسير بنفسه إلى استرداد سبتة، ولكن حدث بينما كان يجدّ في الأهبة أن اغتاله كبير الخصيان، في مؤامرة دبّرها الخصيان للتخلّص منه خوفاً من أن يبطش بهم، فتوفي قتيلاً في ذي القعدة سنة (706 هـ - نيسان - أبريل 1307 م) ونشبت عقب مصرع السلطان حرب أهلية حول العرش بين ولديه أبي ثابت وأبي سالم، هُزِم فيها أبو سالم وقُتِل، واستقر أبو ثابت على العرش. وفي ذلك الحين، كان عثمان ابن أبي العلاء المريني يتوغّل بجنده في شمالي المغرب، وكان هذا الجندي الجريء يتجه بأطماعه إلى عرش المغرب، ويعتمد في تحقيقه على أنه سليل بني مرين. ولما توغّل بجنده

جنوباً، دعا لنفسه بالملك، واستولى على بعض الحصون، وأيّدته بعض القبائل، وهزم عساكر السلطان أبي يعقوب حينما تصدّى لوقفه. وانتهز فرصة مصرع السلطان ونشوب الحرب الأهلية بين ولديه، فزاد إقداماً وتوغلاً، واستفحل أمره، ولاح الخطر يهدِّد ملك بني مرين. وما كاد السلطان أبو ثابت ليستقر على عرش أبيه، حتى اعتزم أمره للقضاء على تلك الحركة الخطيرة، واسترداد سبتة، فسار إلى الشمال على رأس جيش ضخم في شهر ذي الحجة سنة (707 هـ). ولما شعر عثمان بن أبي العلاء بوفرة قوته وأهبته، بادر بالفرار مع جنده خشية لقائه. وزحف السلطان على الحصون الخارجة عليه، فأثخن فيها واستولى عليها. ثم سار إلى طنجة، وامتنع عثمان بن أبي العلاء بقواته في سبتة، فسار إليها السلطان، وضرب عليها الحصار الصارم، وأمر ببناء بلدة تيطاوين (تطوان) لنزول عسكره، ولكنه مرض أثناء ذلك وتوفى في (صفر سنة 708 هـ - حزيران - يوليه - 1308 م) (1). وخلفه على ملك المغرب أخوه السلطان سليمان أبو الربيع، وارتد بالجيش إلى فاس، تاركاً سبتة لمصيرها، فخرج في أثره عثمان بن أبي العلاء في قواته، ونشبت بين الفريقين معركة هُزِم فيها عثمان، وقُتِل من الأندلسيين عدد جمّ، فخشي عثمان العاقبة، وعاد إلى الأندلس مع آله، ولحق بغرناطة، وتابع السلطان أبو الربيع سيره إلى فاس، واستقام له الأمر. ولم تمض على ذلك أشهر قلائل حتى وقعت بالأندلس حوادث مهمّة، ذلك أن عوامل الانتقاض التي لبثت بضعة أعوام تعمل عملها في ظلّ محمد المخلوع، تمخّضت في النهاية عن نشوب الثورة. وكان مدبِّرها ومثير ضرامها أخوه أبو الجيوش نصر بن محمد الفقيه، ومن ورائه رهط من كبار الدولة، سئموا نظام الطغيان الذي فرضه محمد المخلوع ووزيره ابن الحكيم. _______ (1) ابن خلدون (7/ 237).

3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

وأضرمت الثورة في يوم عيد الفطر سنة (708 هـ - 1309 م) ووثب الخوارج بالوزير ابن الحكيم فقتلوه، واعتقلوا السلطان محمداً، وأرغموه على التنازل عن العرش، وتربّع أخوه نصر مكانه في الملك، ونفى السلطان المخلوع إلى حصن المنكب، حيث قضى خمسة أعوام في أصفاد الأسر، ثم أعيد بعد ذلك مريضاً إلى غرناطة، حيت توفى سنة (713 هـ) (1). ووقف سلطان المغرب على حوادث الأندلس، وبلغه أن أهل سبتة قد سئموا نير الأندلسيين، فبعث إليها حملة بقيادة تاشفين بن يعقوب، فلما وصلت إليها ثار أهل البلد، وطردوا جند ابن الأحمر وعماله، ودخلتها في الحال قوات المغرب واستولوا عليها، وذلك في شهر صفر سنة (709 هـ)، واغتبط السلطان بانتهاء هذه المغامرة التي شغلت بني مرين بضعة أعوام. 3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه كان سلطان غرناطة الجديد نصر بن محمد الفقيه يوم جلوسه فتىً في الثالثة والعشرين من عمره، وكان ولوعاً بالأبّهة والمظاهر الملوكية، وكان أديباً عالماً بارعاً في الرياضة والفلك، وقد وضع جداول فلكية قيِّمة، ولكنّه لم يُحسن السيرة، ولم يوفَّق في تدبير الأمور. وسرعان ما سخط عليه الشعب كما سخط على أخيه من قبل، فاضطربت الأحوال، وتوالت الأزمات، وكانت حوادث سبتة نذيراً بتفاقم التوتر بين بلاطي غرناطة وفاس. ومن جهة أخرى، فقد ساءت العلاقة بين غرناطة وقشتالة، وانتهز القشتاليون - كعادتهم - فرصة اضطراب الأحوال في غرناطة، فغزَوْا أرض المسلمين في أوائل سنة (709 هـ)، ووضع فرديناند الرابع ملك قشتالة مشروعاً جريئاً للاستيلاء على جبل طارق. وكانت الإمدادات المغربية قد انقطعت منذ استولى النصارى على طريف، وشُغِل بنو مرين بالحوادث والثورات _______ (1) الإحاطة (1/ 552 - 564) واللمحة البدرية (48 - 54).

الداخلية، وساءت علائقهم ببني الأحمر. ورأى فرديناند الرابع أن الفرصة سانحة ليضرب ضربته المفاجئة، فغزا الجزيرة الخضراء، وبعث أسطوله لحصار جبل طارق من البحر، وأوعز في نفس الوقت إلى خايمي ملك أراغون أن يحاصر ألمرية لكي يشغل الأندلس، فاستجاب لتحريضه، وذلك بالرغم من معاهدة التحالف والصداقة التي كانت تربطه بسلطان غرناطة. وبدأ حصار ألمرية وجبل طارق في وقت واحد في أوائل سنة (709 هـ)، وبذل النصارى للاستيلاء على ألمرية جهوداً جبارة، ونصبوا على أسوارها الآلات الضخمة، وحفروا في أسفل السور نفقاً واسعاً لدخولها، فلقيهم المسلمون تحت الأرض وردّوهم بخسارة فادحة. ونشبت بالقرب من ألمرية معركة بين جند الأندلس بقيادة عثمان بن أبي العلاء وجند أراغون، فهُزِم النصارى، واضطروا على رفع الحصار، ونجت ألمرية من خطر السقوط (1). ولكن ثغر جبل طارق كان أسوأ حظّاً، فقد شدّد النصارى حوله الحصار من البر والبحر، وبالرغم من هزيمتهم أمام المسلمين على مقربة من جبل طارق، فقد لبثوا على حصاره بضعة أشهر، حتى أضنى الحصار المسلمين وأرغموا على التسليم وسقط الثغر المنيع بيد النصارى في أواخر سنة (709 هـ - مارس سنة 1310 م) فكان لسقوطه وقع عميق في الأندلس والمغرب معاً، فقد كان باب الأندلس من الجنوب، وكان صلة الوصل بين المملكتين الإسلاميتين. وأدرك ابن الأحمر، على أثر هذه النكبة، فداحة الخطأ الذي ارتكبه بمجافاة بني مرين، فبادر بإرسال رسله إلى السلطان أبي الربيع، يبدي أسفه على ما سلف، ويسأله الصفح والصلح، فأجابه السلطان إلى طلبه. ونزل ابن الأحمر للسلطان عن الجزيرة ورندة وحصونها ترضية له وترغيباً في الجهاد، واقترن بأخت السلطان توثيقاً لوشائج المودّة، فارسل إليه السلطان المدد _______ (1) ابن خلدون (7/ 240) واللّمحة البدرية (62).

والأموال. وعادت علائق التفاهم والتحالف بين غرناطة وفاس إلى سابق عهدها. على أن هذا التحسّن في علائق المملكتين الإسلاميتين، لم تثن النصارى عن مشاريعهم تجاه غرناطة، ذلك أن الجيوش المغربية لم تعد تعبر إلى الجزيرة بكثرة، وكانت أحوال المغرب تحول بين بني مرين وبين استئناف الجهاد في الأندلس على نطاق واسع، وكانت أحوال غرناطة من جهة أخرى تشجع النصارى إلى التحرّش بها والإغارة على أراضيها. ولما رأى السلطان نصر تفاقم الأمور واشتداد بأس النصارى، لم ير وسيلة لاجتناب الخطر الذي يهدده سوى مصانعة فرديناند الرابع ملك قشتالة والتعهد له بأداء الجزية. وكان ذلك مما زاد في سوء سيرته وفي سخط الشعب عليه. ولم تلبث أعراض الثورة أن ظهرت في الجنوب، حيث أعلن الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل النصري صاحب مالقة وابن عم السلطان، الخروج والعصيان. ورشح الخوارج للملك مكان نصر، أبا الوليد إسماعيل، وهو حفيد لإسماعيل أخي محمد بن الأحمر رأس الأسرة النصرية. ولم يمض سوى قليل، حتى استطاع أبو سعيد وشيعته التغلب على ألمرية وبلّش وغيرهما من القواعد الجنوبية. وفي أوائل سنة (712 هـ - 1313 م) سار في قواته إلى غرناطة، وهرع السلطان نصر إلى لقائه، فكانت الهزيمة على نصر، فلجأ إلى غرناطة، ولكنه لم يلبث أن أذعن واضطر إلى التنازل عن العرش، وسار بأهله إلى وادي آش، وتولى حكمها حتى توفي سنة (722 هـ - 1322 م) (1). _______ (1) الإحاطة (1/ 393 - 394) والّلمحة البدرية (57 - 63) ونهاية الأندلس (104 - 106).

مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري وذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري وذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية 1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه جلس السلطان أبو الوليد إسماعيل على عرش غرناطة في شوال سنة (713 هـ - 1314 م)، وامتاز عهده بتوطيد الملك، واستقرار الأمور، وإحياء عهد الجهاد. وفي أوائل عهده غزا القشتاليون كعادتهم بسائط غرناطة، واستولَوْا على عدد من القواعد والحصون، وهزموا المسلمين هزيمة شديدة في وادي فرتونة (716 هـ). ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم، اعتزموا منازلة الجزيرة الخضراء والاستيلاء عليها، ليحولوا دون وصول الإمداد إلى المسلمين من عُدوة المغرب. ولكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر، فعدل القشتاليون عن مشروعهم، وعوَّلوا على مهاجمة الحاضرة الإسلامية ذاتها. وبادر ابن الأحمر بطلب الغوث والإمداد من السلطان أبي سعيد سلطان المغرب، فنكل عن معاونته، وطالب بتسليم عثمان بن أبي العلاء لما كان منه في حقّ بني مرين، فأبى ابن الأحمر خشية العواقب. وزحف القشتاليون على غرناطة بجيش ضخم يقوده الدون بِيدرو (دون بطره) والدون خوان الوصيان على الفونسو الحادي عشر ملك قشتالة، ومعهما عدّة من الأمراء القشتاليين، وفرقة من المتطوِّعة الإنكليز بقيادة أمير إنكليزي، فبادر المسلمون إلى لقائهم في هضبة إلبيرة على مقربة من غرناطة. وكان الجيش الغرناطي لا يتجاوز ستة أو سبعة آلاف جندي، منهم نحو ألف وخمسمائة فارس، ولكنّهم صفوة المقاتلة المسلمين، وكان قائده شيخ الغزاة أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء، جندياً جريئاً وافر العزم والبسالة، فلم ترعه كثرة الجيش المهاجم، وعوّل في الحال

على لقائه في معركة حاسمة. وفي 20 من ربيع الثاني سنة (718 هـ - مايس - مايو - 1318 م) التقى فرسان الأندلس بطلائع النصارى، وردّوهم بخسارة فادحة. ثم زحف أبو سعيد في نخبة من جنده، ونشبت بين الفريقين معركة شرسة، كانت الدائرة فيها على القشتاليين، فمزّقوا شرّ ممزق، وقتل منهم عدد جمّ بينهم دون بيدرو (دون بطرة) ودون خوان ورهط كبير من الأمراء والنبلاء والأحبار، وغرق منهم عند الفرار في نهر شنيل عدد كبير من الجيش النصراني وأسر منهم بضعة آلاف، واستمر القتل والأسر فيهم ثلاثة أيام. وخرج أهل غرناطة فرحين مستبشرين، يجمعون الأسلاب والأسرى، وظفر المسلمون بغنائم عظيمة، منها مقادير كبيرة من الذهب والفضّة. وكان على العموم نصراً مشهوداً أعاد ذكرى الجهاد المجيد. وكان معظم الفضل في إحرازه إلى الجند المغاربة وإلى شيوخهم بني العلاء الذين تزعموا الجيوش الأندلسية، وتولّوا قيادتها في تلك الأيام كما ذكرنا. ويعلّل ابن خلدون ظهور القادة والجند المغاربة في ميدان الجهاد بقرب عهدهم بالتقشف والبداوة. ووضع المسلمون جثّة الدون بيدور في تابوت من ذهب على سور الحمراء تنويهاً بالنصر وتخليداً لذكرى هذه المعركة (1). والواقع أن مملكة قشتالة كانت في أوائل القرن الرابع عشر في حالة سيئة، فقد نفدت مواردها من الرجال والأموال بسبب الحروب والثورات المتواصلة، والمرض والقحط، وكان إسراف البلاط، وبذخ الخلائل، واختلاس الموظفين، ومطالب رجال الدين، وجشع الأشراف، تستنفد الأموال العامة، وكانت الإدارة المالية بيد يهود ورجال الكنيسة، وكلاهما يناوئ الآخر، ويعمل على إحباط مساعيه، وكانت الوصايا المتعاقبة، وما تعمد إليه من اغتصاب الأموال، وسوء استعمال السلطة، وفساد القضاء، وتطاول الخلائل الملكية، وسحق الحقوق العامة والخاصة، وتفشي _______ (1) أنظر تفاصيل هذء المعركة الشهيرة في: ابن خلدون (4/ 172) و (7/ 250) والإحاطة (1/ 397) ونفح الطيب (1/ 210).

الجريمة، تثير غضب الشعب وسخطه، وكان اللّون الصليبي للحروب الإسبانية في ذلك العصر، يوطِّد نفوذ جماعة من الفرسان الدينية العديدة، وهي التي كانت في الواقع توجِّه مصائر الحرب والسياسة، بيد أنها كانت تخفي تحت ستار الدين رذائل كثيرة من الفجور والجشع والارتشاء وغيرها (1). وفي سنة (721 هـ - 1321 م) جدّد السلطان إسماعيل معاهدة الصلح مع ملك أراغون خايمي الثاني وذلك تحقيقاً لرغبته، ونصّ في هذه المعاهدة الجديدة على: أن يعقد بين الفريقين صلح ثابت لمدة خمسة أعوام تؤمن خلالها أرض المسلمين بالأندلس وأرض أراغون تأميناً تاماً براً وبحراً، وأن تباح التجارة لرعايا كل من الطرفين في أرض الآخر، وأن يتعهد كل من الملكين بمعاداة من يعادي الآخر، وألاّ يأوي له عدوّاً أو يحميه، وأن تكون سفن كل فريق وشواطئه ومراسيه آمنة، وأن يسرِّح كل فريق من يُؤْسَر في البحر من رعايا الفريق الآخر، وتضمنت المعاهدة نصاً خاصاً بتعهد ملك أراغون بألاّ يمنع خروج المدجنين من أراضيه إلى أرض المسلمين بأهلهم وأولادهم وأموالهم، وهو نص يلفت النظر، إذ كان المدجنون في هذا العصر يؤلِّفون أقليات كبيرة في بلنسية ومرسية وشاطبة وغيرها من القواعد الشرقية، وكان ملوك أراغون يحرصون على بقائهم وعدم هجرتهم لأسباب اقتصادية وغيرها (2). وعلى أثر معركة إلبيرة، تعاقبت غزوات المسلمين في أرض النصارى، وعادت الدولة الإسلامية الفتية تجوز عهداً من القوة بعد أن لاح أنها شارفت طور الفناء. ففي سنة (724 هـ - 1324 م) زحف السلطان إسماعيل على مدينة بيّاسة _______ (1) أنظر Scott: ibid, v. 11. p. 476-478. (2) Archivo de la Corona de Aragon, No. 151.

2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

الحصينة وحاصرها بشدّة، وأطلق المسلمون عليها الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع حتى سلّمت. وفي رجب من العام التالي (725 هـ) سار إسماعيل إلى مرتش واستولى عليها عَنْوَة، وكانت أعظم غزواته، وامتلأت أيدي المسلمين بالسّبي والغنائم، ثم عاد السلطان إلى غرناطة مكلّلاً بغار النصر. بيد أنه لم تمض على عودته ثلاثة أيام، حتى قتل بباب قصره غيلة، وكان قاتله ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة، وقد حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن ظفر بها في معركة مرتش وبعث بها إلى حريمه بالقصر. ولما عاتبه محمد ردّه بجفاء، وأنذره بمغادرة البلاط، فتربص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه، فحمل جريحاً حيث توفى على الأثر، وكان مصرعه في السادس والعشرين من رجب سنة (725 هـ) - (تموز - يونيه 1325 م). وكان السلطان إسماعيل يتمتّع بخلال باهرة، وكان يشتد في إخماد البدع وإقامة الحدود، وفي عهده حرِّمت المسكرات وطورد الفساد الأخلاقي، وحرم جلوس الفتيات في ولائم الرجال، وعومل يهود بشىء من الشدّة، وأُلزِموا أن يتخذوا لهم شعاراً بهم، هو عبارة عن العمائم الصفراء (1). وكان من أوائل أعماله، تجديد معاهدة الصداقة مع أراغون، وكان ملكها خايمي الثاني قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة، ففعل كما ذكرنا. 2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه وخلفه ولده أبو عبد الله محمد، وهو فتى يافع لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، وكانت أمه نصرانية تدعى علوة، وأخذ له البيعة وزير أبيه أبو الحسن _______ (1) الإحاطة (1/ 395 - 401) واللّمحة البدرية (71 - 74).

بن مسعود، وقام بكفالته بضعة أشهر حتى توفي، ثم خلفه في الوزارة وكيل أبيه محمد بن أحمد بن المحروق، فاستبدّ بالأمور واستأثر بكل سلطة، فحقد عليه السلطان الفتى، وكان رغم حداثته مقداماً قوي النفس، ولم يلبث أن بطش بوزيره المتغلِّب عليه، فقتل بأمره سنة (729 هـ). وكان من أوائل أعماله، تجديد معاهدة الصداقة مع أراغون، وكان ملكها خايمي الثاني قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة التي عقدت بينه وبين أبيه وانقضى أجلها المحدّد بانقضاء أعوامها الخمسة، فوافق السلطان على تجديدها بسائر نصوصها وشروطها، ووقّعت المعاهدة الجديدة في جمادى الثانية سنة (726 هـ - مايس - مايو - 1326 م) (1). ولأول عهده نشب الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة المغاربة وعلى رأسهم عثمان بن أبي العلاء، وامتنعوا ببعض الثغور الجنوبية ولا سيما ألمرية، وانضم إليهم عمّ السلطان محمد بن فرج بن إسماعيل، فقاموا بدعوته، ونشبت بين الفريقين عدّة معارك محلية كان النصر بينهما سجالاً فيها، وانتهز القشتاليون - كعادتهم - تلك الفرصة، فأثخنوا في الأراضي الإسلامية واستولوا على ثغر بيره وعدد من الحصون (2). ولما تفاقم عبث النصارى آثر السلطان التفاهم مع الخوارج عليه، وعقدت بينهما الهدنة على أن يستقروا بوادي آش باسمه وتحت طاعته. وتولى تدبير الأمور بعد مقتل ابن المحروق، الحاجب أبو نعيم رضوان النصري، فهدأت الفتنة واستقرّت الأمور نوعاً ما، ولكن ابن الأحمر كان يتوجّس شراً من اضطراب الأحوال في مملكته، ومن تربص النصارى بها، ورأى أن يتّجه بصريخه إلى بني مرين مرة أخرى، وكانت العلائق يومئذ على صفائها بين غرناطة وفاس، وكان بنو مرين حينما شغلوا بشئونهم الداخلية قد تركوا الجزيرة وحصونها لابن الأحمر (سنة _______ (1) Archivo de la Corona de Aragon , No. 148 (2) الإحاطة (1/ 544)، وبيره Vera بلدة حصينة تقع في شمال شرقي ولاية ألمرية على مقربة من البحر.

712 هـ)، فلما اشتدّت وطأة النصارى على غرناطة، عاد ابن الأحمر، فنزل عن الجزيرة إلى ملك المغرب السلطان أبي سعيد (سنة 729 هـ) لتكون رهينة ومنزلاً للأمداد المرجوّة من وراء البحر، ولكن النصارى استولوا على معظم حصونها وأضحى طريق الجواز ولا سيما بعد ضياع جبل طارق عسيراً محفوفاً بالمخاطر. وعبر ابن الأحمر في أواخر سنة (732 هـ) إلى عدوة المغرب، وقصد إلى فاس مستنجداً بملك المغرب السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن أبي يعقوب المريني، فاستقبله السلطان بمنتهى الحفاوة، وشرح له ابن الأحمر ما انتهت إليه شئون الأندلس، وما ترتّب على سقوط جبل طارق من قطع صلة الوصل بين المملكتين، ورجاه الغوث والعون. والواقع أن استيلاء النصارى على جبل طارق في سنة (709 هـ - 1310 م) كان أعظم نكبة منيت بها الأندلس منذ سقوط قواعدها الكبرى. وقد شعرت مملكة غرناطة بفداحة النكبة، وازداد منذ وقوعها توجّسها من المستقبل. وكان المسلمون قد جدّدوا تحصيناتها في منتصف القرن السادس الهجري، حينما عبر إليها خليفة الموحِّدين عبد المؤمن بن علي، وأسماها جبل الفتح، وأمر بتجديد حصنها الذي ما يزال قائماً حتى اليوم فوق الصخرة من ناحيتها الشمالية. وكان سلطان غرناطة يتوق إلى استرداد هذا المعقل درع مملكته من الجنوب، وكان فوق اضطرامه بعاطفة الجهاد، يرى خطر إسبانيا النصرانية يلوح داهماً ليس على الأندلس فقط، بل وعلى المغرب أيضاً. ذلك لأن الأندلس أخذت تبدو من ذلك الحين جناح المغرب وخطّه الدفاعي الأول من الشمال، ولابد من تأمين هذا الخط والسّهر على سلامته، وذلك بدعم قوة الأندلس وتأييدها، وردّ خطر النصارى عنها. ومن ثم فقد استجاب أبو الحسن لدعوة ابن الأحمر، وبعث معه الإمداد بقيادة ولده أبي مالك، لمنازلة جبل طارق وافتتاحها، وتلاقت على أثرها السفن تحمل المدد والعدد والمؤن، وحشد ابن الأحمر قواته، وزحف على الجزيرة واستولى عليها. وطوّق المسلمون جبل طارق من البر والبحر، ورابط أسطول المغرب في

بحر الزقاق ليحول دون وصول الإمداد إلى النصارى، وهرع ملك قشتالة الفونسو الحادي عشر في قوة من الفرسان، لإنجاد الحامية المحصورة، فبادر ابن الأحمر إلى مهاجمة النصارى، وهزمهم أمام جبل طارق تجاه البرزخ الإسباني. وكان أكبر الفضل في إحراز هذا النصر راجعاً إلى همّة الحاجب رضوان النصري وإقدامه وبراعته. ثم شدّد المسلمون الحصار على الثغر، فقطعوا كل صلاته من البر والبحر، فلم تمض بضعة أسابيع حتى ساءت حالة الحامية النصرانية، واضطرت على التسليم قبل مقدم الجيش القشتالي. وبذلك استعاد المسلمون الثغر المنيع في أواخر سنة (733 هـ - 1333 م) بعد أن لبث في حوزة النصارى أربعة وعشرين عاماً، وكان أكبر الفضل في استرداده راجعاً إلى معاونة السلطان أبي الحسن في البر والبحر. ولما رابط المسلمون والنصارى في الميدان وجهاً لوجه، ورأى ملك قشتالة أنه لا أمل في كسب معركة انتهت بظفر المسلمين، آثر الصلح، وانتهى الأمر بعقد الهدنة بين الملكين (1). واعتزم السلطان محمد بن إسماعيل بن الأحمر العودة بجنده إلى غرناطة، ولكنه ما كاد يغادر جبل طارق في اليوم التالي عائداً إلى عاصمة ملكه، حتى اغتاله في الطريق جماعة من المتآمرين بتحريض بني أبي العلاء (ذو الحجة سنة 733 هـ). وكان أولئك القادة المغاربة وعلى رأسهم شيخهم عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمرهم في الدولة، وأخذوا ينازعون السلطان في أمر تصرفاته، وبدأ ابن الأحمر يتبرم بتدخلهم واستبدادهم، وكان حينما عبر السلطان أبو الحسن قد خاطبه في شأنهم وسبيل الخلاص منهم. واستراب بنو أبي العلاء منه، وتوجّسوا شرّاً، فأتمروا للتخلّص منه قبل أن يبطش بهم، ولحق به المتآمرون حين عوده، واغتالوه طعناً بالرماح، وتركت جثته في العراء حيناً، حتى نقلت بعد ذلك إلى مالقة ودفنت بها (2). _______ (1) الإحاطة (1/ 540 - 552) والّلمحة البدرية (77 - 82) وابن خلدون (7/ 255). (2) ابن خلدون (7/ 263 - 264).

3 - أبو الحجاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه وولي العرش بعده أخوه أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد، وهو فتى في السادسة عشر من عمره، وكان من أعظم ملوك بني نصر وأبعدهم همّة. وأرفعهم خلالاً. وكان عالماً شاعراً يحمي الآداب والفنون، وهو الذي أضاف إلى قصر الحمراء أعظم منشآته وأروعها. وما كاد يتبوّأ العرش، حتى عُنِي بتتبّع بني أبي العلاء قتلة أخيه، وتجريدهم من وظائفهم، وتمزيق عصبتهم، والقبض على شيوخهم، وكان ذلك في الوقت نفسه تحقيقاً لرغبة السلطان أبي الحسن. ثم نفاهم في السفن إلى تونس، وانتهت بذلك رياستهم بالأندلس، بعد أن طالت زهاء نصف قرن. ولما نزلوا على سلطان تونس أبي يحيى، طالب السلطان أبو الحسن بتسليمهم، فأرسلهم إليه أبو يحيى ولكن مع طلب الشفاعة فيهم، فعفا عنهم أبو الحسن، وأكرم مثواهم مدى حين، ولكنه عاد وقبض عليهم بتهمة التآمر عليه، وأودعهم السجن (1). وقام بتدبير الأمور للسلطان أبي الحجّاج وزير أخيه الحاجب أبو النّعيم رضوان، وكان هو الوزير القوي الذي لعب في تاريخ غرناطة دوراً مهماً، من أصل نصراني قشتالي أو قطلوني، وسبي طفلاً في بعض المواقع، فأخذ إلى الدار السلطانية، ونشأ في بلاط السلطان أبي الوليد إسماعيل (2). وظهرت نجابته وصفاته الممتازة، فعهد إليه بتربية ولده أبي عبد الله محمد. ولما تولَّى محمد الملك بعد أبيه، تولى وزارته الحاجب رضوان، فأظهر في تدبير الشئون كفاية متميزة، وقاد بعض الغزوات الناجحة إلى أرض النصارى، فغزا في سنة (732 هـ) أراضي قشتالة شرقاً حتى لورقة ومرسية وعاث فيها. وفي العام التالي غزا مدينة باغة واستولى عليها (3)، ولما تولى الملك السلطان _______ (1) ابن خلدون (7/ 264). (2) الإحاطة (1/ 515). (3) الإحاطة (1/ 548 - 549).

يوسف، وقع الإجماع على اختياره للوزارة، واستقرّت الأمور في عهده وساد الأمن والرخاء. وينوِّه ابن الخطيب - وهو معاصر للحاجب وصديقه - بصفاته ومواهبه ويسميه: (حسنة الدولة النصرية وفخر مواليها). وكان من أعظم مآثره إنشاء مدرسة غرناطة الشهيرة، فأقام لها صرحاً فخماً، ووقف عليها أوقافاً جليلة، وغدت غير بعيد من أعظم مناهل العلم في الأندلس والمغرب. وأمر ببناء السور الأعظم حول ربض البيازين، وأنشأ عدداً كبيراً من الأبراج الدفاعية، وأصلح كثيراً من الحصون الداخلية، ولكنه كسائر المتغلبين على السلطان، استبدّ بالأمر، واستأثر بكل سلطة. فلما شعر السلطان يوسف باشتداد وطأته، وكثرت السعايات في حقّه، نكبه وأمر باعتقاله ونفيه إلى ألمرية، وذلك في رجب سنة (740 هـ). ولكنه اضطر إلى أن يعيده إلى الوزارة بعد ذلك ببضعة أشهر، حينما شعر بالفراغ الذي أحدثه تنحيه عن تدبير الشئون، فاستمر في منصبه حتى نهاية عهده (1). وكان من بين وزراء السلطان يوسف، الكاتب والشاعر الكبير الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب، وقد تقلّب في ديوان الإنشاء حتى ظفر برئاسته. وكان من زملائه وأعوانه في ديوان الإنشاء عبد الله بن الخطيب والد لسان الدين. ولما توفى عبد الله خلفه في خدمة القصر ولده لسان الدين، وغدا أميناً لابن الجياب، فلما توفي ابن الجياب سنة (749 هـ) في الوباء الكبير، خلفه في الوزارة، وبزغ نجم مجده من ذلك الحين. وفي عهد السلطان يوسف، كثرت غزوات النصارى لأراضي المسلمين، وكان الفونسو الحادي عشر تحدوه نحو المملكة الإسلامية أطماع عظيمة. ولما شعر يوسف باشتداد وطأة القشتاليين، وضعف وسائله في الدفاع، أرسل يستنجد بالسلطان أبي الحسن على بن عثمان ملك المغرب، فأرسل الإمداد للمرة الثانية إلى الأندلس مع ولده الأمير أبي مالك، فاخترق سهول _______ (1) الإحاطة (1/ 518). وما بعدها.

الجزيرة الخضراء معلناً الجهاد. وتوجّست إسبانيا النصرانية من مقدم الجيوش المغربية شراً، واعتزمت أن تواجه الغزاة في قواها المتحدة، فسار أسطول مشترك من سفن قشتالة وأراغون والبرتغال إلى مياه جبل طارق بقيادة الدون جوفري تنوريو، ليمنع الإمداد عن جيوش المغرب، وبارك البابا الحملة، وسارت قوى إسبانيا المتحدة للقاء المسلمين. واجتاح أبو مالك سهل بجانة (1)، وحصل على غنائم لا تحصى في زحفه على أرض النصارى، وهنا فاجأه الإسبان قبل أن يستطيع الانسحاب إلى أراضي المسلمين، فنشبت بين الطرفين معركة دموية هزم فيها المسلمون هزيمة شديدة، وقتل أبو مالك، وكان ذلك في أواسط سنة (740 هـ - 1339 م). وعندئذ عوّل السلطان أبو الحسن على العبور بنفسه إلى الأندلس، ليثأر لتلك الهزيمة المؤلمة، فجهز الجيوش والأساطيل الضخمة، وبلغ أسطول المغرب مائة وأربعين سفينة، منها عدد كبير من السفن الحربية. وجاز السلطان البحر إلى الأندلس في أوائل المحرم سنة (741 هـ - 1340 م) ونزل بسهل طريف، ولحق به السلطان يوسف في قوات الأندلس، وكانت القوات الإسبانية قد نفذت يومئذٍ إلى أعماق مملكة غرناطة، ووصلت إلى بسائط الجزيرة الخضراء. ورابط الأسطول النصراني في بحر الزقاق بين المغرب والأندلس، ليمنع توارد الإمداد والمؤن، وضرب النصارى الحصار حول ثغر طريف، وتغلبوا على حاميته. ومضت أشهر قبل أن يقع اللقاء الحاسم بين الفريقين، فشحّت الأقوات بين المسلمين، ووهنت قواهم. وكان الجيش الإسلامي يرابط يومئذ في السهل الواقع شمال غربي طريف على مقربة من نهر (سالادو) الصغير الذي يصب في المحيط الأطلسي عند بلدة كونيل التي تبعد قليلاً عن رأس طرف الغار. وفي يوم (30 تشرين الأول - أكتوبر 1340 م) - (جمادى الأولى سنة 741 هـ) نشبت بين الفريقين معركة عامة على ضفاف نهر سالادو، وتولى السلطان أبو الحسن قيادة جيشه بنفسه، وتولى السلطان _______ (1) وهي بالإسبانية Pechina

يوسف قيادة فرسان الأندلس، ويقال: إن الأندلسيين كانت لديهم في تلك المعركة آلات تشبه المدافع، وهي الآلات التي تطوّرت فيما بعد، وكانت تسمى: (الأنفاط). وتقدم الفونسو الحادي عشر بجيشه لمهاجمة المغاربة، فصُدَّ في البداية بقوة، واشتبك فرسان الأندلس مع جيش البرتغال، ولكن حدث عندئذٍ أن تسلَّلت حامية طريف النصرانية من الجنوب، وانقضَّت على الجيش الإسلامي، فدبّ الخلل إلى صفوفه، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة سالت فيها الدماء غزيرة، وقتل من المسلمين عدد جمّ، وسقط معسكر سلطان المغرب الخاص في يد النصارى وفيه حريمه وحشمه وبعض أولاده، فذبحوا جميعاً على الأثر بوحشية مروِّعة، وانتشرت قوات المسلمين وبدّدت، وفرّ السلطان أبو الحسن، واستطاع أن يعبر إلى المغرب مع فلوله، وارتد السلطان يوسف إلى غرناطة. وكانت محنة عظيمة لم يشهد المسلمون مثلها منذ موقعة (العقاب)، وكان لها أعمق وقع في المغرب والأندلس (1). وانتهز ملك قشتالة فرصة ظفره وضعف المسلمين، فغزا قلعة بني سعيد وقلعة يحصب من أحواز غرناطة، واستولى عليها بعد حصار قصير (742 هـ). وكان ملك المغرب في أثناء ذلك يضطرم ظمأً للانتقام، ويحشد قواته من جديد. ولما كملت أهبته أرسل أساطيله إلى بحر الزقاق، وسار بالجيش إلى سبتة، وبادر ملك قشتالة من جانبه بإرسال أسطوله للقاء المسلمين. ونشبت بين الطرفين معركة بحرية هُزِم فيها المسلمون، ومُزّق أسطولهم (743 هـ - 1342 م). وحاصر النصارى ثغر الجزيرة الخضراء، وسار السلطان يوسف في جيشه لإنجاد الثغر المحصور، وكان جيشه مجهزاً بالآلات القاذفة الجديدة التي تشبه المدافع، ولكنه لم يفلح واضطر المسلمون إلى التسليم، وبذلك أضحى الثغران الجنوبيان المشرفان على مضيق جبل طارق وهما الجزيرة وطريف في أيدي النصارى، ولم يبق في يد المسلمين _______ (1) أنظر ابن خلدون (7/ 261 - 262) والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (2/ 65 - 66) والّلمحة البدرية (92 - 93).

سوى جبل طارق تؤدي مهمة الوصل بين المغرب والأندلس. ولم يخل عصر السلطان أبي الحجّاج يوسف من عقد العلائق السياسية مع الدول النصرانية، وكان عقدها بالأخص مع مملكة أراغون التي كانت أقرب إلى مملكة غرناطة من زميلتها مملكة قشتالة. ففي سنة (735 هـ - 1335 م) أرسل السلطان سفيره القائد أبا الحسن بن كماشة إلى الفونسو الرابع ملك أراغون ليطلب تجديد معاهدة الصلح المعقودة بين المملكتين، فأجابه إلى ذلك، وجدّدت المعاهدة. وفي أواخر سنة (745 هـ - 1345 م) عقد السلطان يوسف مع بيدرو الرابع ملك أراغون، معاهدة صلح ومهادنة جديدة، في البر والبحر، لمدة عشرة أعوام على يد سفيره القائد المذكور. وطلب إلى السلطان أبي الحسن المريني ملك المغرب أن يوافق على هذا الصلح، فوافق عليه، وأبرمه من جانبه بنفس الشروط ولنفس المدة التي يسري فيها، وذلك حسبما يدل عليه عهد الموافقة الذي أصدره بتاريخ صفر سنة (746 هـ - حزيران - يونيو 1345 م) (1). وهنا طافت بالأندلس وإسبانيا تلك النكبة المروِّعة التي عصفت بالمشرق والمغرب، ونعني بذلك الوباء الكبير الذي اجتاح سائر الأمم الإسلامية وحوض البحر الأبيض المتوسط في سنة (749 هـ - 750 هـ - 1348 م) وكان بعد ظهوره على ما يرجّح في إيطاليا في ربيع هذا العام. وحمل من الأندلس كثيراً من سكانها، وفي مقدمتهم عدة من رجالها البارزين من الكبراء والعلماء. وقد وصف لنا ابن الخطيب تلك المحنة التي كان معاصراً لها وشاهد عيان لروعها وفتكها في رسالة عنوانها: (مقنعة السائل عن المرض الهائل)، وكذلك وصف لنا عصف الوباء بثغر ألمرية شاعر ألمرية الكبير ابن خاتمة في رسالة عنوانها: "تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد" (2). _______ (1) نهاية الأندلس (122). (2) توجد هاتان الرسالتان ضمن مجموعة خطية تحفظ بمكتبة الإسكوريال برقم 1785 =

ولبث ملك قشتالة أعواماً أخرى على خطته في إرهاق المملكة الإسلامية والعبث فيها، والمسلمون يدافعون جهد استطاعتهم، وأمراء المغرب مشغولون عن نجدتهم بما أصابهم من هزائم متوالية، وما شجر بينهم من خلاف. وفي سنة (750 هـ - 1349 م) غزا النصارى سهول الجزيرة الخضراء مرة أخرى، وكان ملك قشتالة يرمي بهذه الغزوة إلى غاية هامة هي الاستيلاء على جبل طارق. وكان هذا الثغر ما يزال منذ عصور أمنع ثغور المسلمين وأشدّها مراساً. فلما رأى النصارى استحالة أخذه عنوة، ضربوا حوله الحصار الصارم، وكانت تدافع عنه حامية مغربية قويّة، ورابط ملك غرناطة بجيشه في مؤخرة النصارى، واستمر حصار جبل طارق زهاء عام كامل، والمسلمون ثابتون كالصخرة التي يدافعون عنها، وقد عيل صبر الغزاة ودبّ الوهن إلى نفوسهم. ثم فشا الوباء في الجيش النصراني، وهلك ملك قشتالة في مقدمة مَنْ هلك من جنده، فكان ذلك نذيراً بخلاص الثغر المنيع والمدافعين عنه، واضطر النصارى إلى رفع الحصار (751 هـ - 1350 م). وأُنقذ المسلمون بذلك من كارثة فادحة، وأبدى المسلمون بهذه المناسبة ضروباً مؤثرة من تسامح الفروسية، فتركوا موكب الملك المتوفَّى يخترق طريقه إلى إشبيلية دون تعرض، وارتدى كثير من أكابرهم شارة الحداد مجاملة وتكريماً، وخلف الفونسو على العرش في الحال ولده بيدرو (بطره) الملقب بالقاسي (1). واستمر أبو الحجاج يوسف في الحكم بضعة أعوام أخرى، ساد فيها السلام والأمن، ولكنه ما لبث أن قُتل غيلة أثناء صلاته في المسجد الأعظم في يوم عيد الفطر سنة (755 هـ - تشرين الأول - أكتوبر - 1354 م) قتله مخبول لم يفصح عن بواعثه وأغراضه، فمزّق وأحرق بالنار على _______ = وقد نشرت رسالة ابن الخطيب مع ترجمتها الألمانية في مجلة أكاديمية العلوم البافارية سنة 1863 م. (1) ابن خلدون (4/ 183).

الأثر (1). وكان مقتله وهو في السابعة والثلاثين في عنفوان فتوته ومجده، ودفن السلطان الشهيد في مقبرة الحمراء إلى جانب آبائه مبكياً عليه من شعبه بدموع غزيرة. وكان السلطان يوسف أعظم ملوك غرناطة همة وعزماً، وأبدعهم خلالاً، وكان فوق فروسته ونجدته عالماً أديباً، شغوفاً بالعمارة وإقامة الصروح الباذخة، وهو الذي شيد البرج الأعظم بقصر الحمراء، وأنشأ به أفخم أجنحته وأبدعها، وهو الذي أسبغ على هذا الصرح العظيم بمنشآته وزخارفه، بهاءه وروعته التي مازال يحتفظ بلمحة منها. وفي عصره زهت العلوم والآداب، وذاعت شهرة العلماء المسلمين، ولاسيما في الفلك والكيمياء. وهكذا لبث بلاط غرناطة حقبة يقف من دولة بني مرين مواقف متناقضة، ويتردد بين سياسة التحالف والقطيعة، وبين الثقة والتوجّس، وليس من شك في أن بني مرين كانوا عضداً قيِّماً لمملكة غرناطة الناشئة، وقد أدّوا لها في مقاتلة النصارى خدمات جليلة، وبذلوا في ذلك السبيل تضحيات جمّة، وأعادوا بانتصارهم على النصارى في غير موقعة حاسمة، ذكريات الزلاقة والأرك، ولولا غوث بني مرين، واشتغال مملكة قشتالة بحوادثها الداخلية غير مرة، لما اشتد ساعد بني الأحمر وسطعت دولتهم خلال هذه المدة المليئة بالحوادث الجسام، واستطالت أيام الإسلام بالأندلس زهاء مائة عام أخرى. وقد كان من سوء الطالع ألاّ يدرك بلاط غرناطة خطر الخلاف مع الحليف الطبيعي الذي رتبه القدر فيما وراء البحر، لإنجاد الأندلس عند الخطر الداهم، وأن يجنح من آن لآخر إلى مخاصمة هذا الحليف ومحاربته، كما استولى ابن الأحمر على سبتة. كذلك لم تخل سياسة بني مرين إزاء مملكة غرناطة أحياناً، من الالتواء وبث الشكوك في نفوس أمراء بني نصر، _______ (1) الّلمحة البدرية (97).

بما كانت تجنح إليه من مداخلة الخوارج عليهم. وهكذا كانت قوى الإسلام تُبدد في معارك أهلية، وقد كان حرياً بها أن تتضافر على مغالبة العدو المشترك. على أن الدولة المرينية ذاتها تدخل منذ وفاة أبي الحسن في سنة (752 هـ - 1351 م) في دور انحلالها، وتنحدر إلى غمرات الحرب الأهلية، وتشغل بشئونها الداخلية، وتفقد غرناطة بذلك، العضد الوحيد، الذي كانت تدّخره وقت الشدائد. وقد استمرت العلائق بين غرناطة وبني مرين عصراً آخر، ولكنها غدت علائق بلاط، تغلب عليها دسائس القصور، وانقطعت الجيوش المغربية عن العبور إلى الأندلس لمقاتلة النصارى، كما كانت تفعل أيام أبي يوسف وأبي يعقوب وأبي الحسن، ولم تعبر بعد ذلك سوى مرة واحدة لمعاونة الخوارج في جبل طارق ضد ملك غرناطة، وتركت غرناطة من ذلك الحين إلى مصيرها داخل الجزيرة الإسبانية، تغالب قوى النصرانية بمفردها، وقدر استطاعتها، وكان ملاذها الأخير في اختلاف كلمة النصارى، وانشغالهم بذلك الخلاف عن محاربتها (1). _______ (1) نهاية الأندلس (107 - 126).

الأندلس بين المد والجزر

الأندلس بين المد والجزر 1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه لم تمض ساعات قلائل على مصرع السلطان يوسف أبي الحجاج في صبيحة يوم عيد الفطر سنة (755 هـ) حتى خلفه الملك ولده محمد الملقب بالغني بالله، وكان حَدَثاً يافعاً، فاستأثر بشئون الدولة حاجبه ومولى أبيه من قبل أبو النعيم رضوان، وكانت غرناطة بعد ما توالى عليها من الخطوب والأزمات في أواخر عهد أبيه يوسف، قد تنفست الصعداء نوعاً ما منذ وفاة ملك قشتالة. وكان من بين كتابه ثم وزرائه: لسان الدين بن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية وأعظم كتاب الأندلس وشعرائها يومئذ، وكان مولد ابن الخطيب في لوشة (1) من أعمال غرناطة في سنة (713 هـ - 1313 م)، وكان هذا المفكر البارع أحد رجلين عظيمين شغلا يومئذ في المغرب الإسلامي، مركز الصدارة في التفكير والكتابة هما ابن خلدون وابن الخطيب، وقد درس ابن الخطيب اللغة والأدب والطب والفلسفة، وبرز في النثر والنظم، وخدم الدولة منذ حداثته، فتولى ديوان الكتابة للسلطان أبي الحجاج، ثم انتقل إلى خدمة ولده محمد، فلم يلبث أن نال ثقته ورقّاه إلى مرتبة الوزارة، وأوفده بعد ولايته بقليل على رأس وفد من كبار الأندلس سفيراً من قبله، إلى ملك المغرب السلطان أبي عنان المريني (أواخر سنة 755 هـ) يستنصره على مغالبة طاغية قشتالة، ويؤكد بينهما عهد الصداقة والمودّة، جرياً على سنة أسلافه من ملوك بني الأحمر، فاستقبله السلطان بحفاوة، وأنشد بين يديه قصيدة هذا مطلعها: _______ (1) لوشة: وبالإسبانية Loja، تقع على مسافة خمسة وخمسين كيلو متراً من غربي غرناطة، وهي اليوم بلدة متواضعة، وقد كانت أيام الدولة الإسلامية بلدة زاهرة.

خليفة الله ساعدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح في الدّجى قمر ودافعت عنك كفُّ قدرته ... ما ليس يستطيع دفْعه البشرُ فتأثر السلطان لقصيدته، ووعد بإجابة سائر مطالبه، وهكذا أدّى ابن الخطيب سفارته بنجاح، وكان له من بعد ذلك في حوادث الأندلس أعظم نصيب (1). وفي أواخر سنة (756 هـ - أواخر سنة 1355 م)، حاول حاكم جبل طارق المريني عيسى بن الحسن بن أبي منديل أن يثير ضرام الثورة، وكانت محاولة خطيرة، ربما أفسحت للنصارى ثغرة يضربون منها الأندلس وجحافل المغرب، ولكن أهل جبل طارق نكلوا عن مؤازرة الثائر، وأخمدت في المهد، وقُبض عليه وعلى ولده، وأُرسِلا مصفدين إلى المغرب، فقضى بإعدامهما، وأرسل السلطان أبو عنان إلى جبل طارق ولده أبا بكر السّعيد، ومعه من الفرسان قوّة، لحماية الثغر وتجديد تحصيناته (2). وفي أوائل عهد السلطان محمد، شغلت قشتالة بحروبها الداخلية، فأمنت غرناطة شرّ العدوان مدى حين، ولكن الحوادث الداخلية كانت تؤذن بتطورات جديدة. ففي رمضان سنة (760 هـ - 1359 م) نشبت في غرناطة ثورة فقد فيها الغني بالله ملكه، وكان أخوه إسماعيل المعتقل في بعض أبراج الحمراء تؤازره جماعة من الزعماء، وفي مقدمتهم صهره الرئيس عبد الله، وتدعو له سراً، وتترقب الفرص للوثوب بمحمد، وكانت أمه المقيمة بالقصر تؤيد مشاريعه بالسعي والبذل الوفير، وكان السلطان محمد قد تحول بولده إلى سكنى قصر جنّة العريف الواقع شمال شرقي الحمراء، فانتهز المتآمرون ذات مساء فرصة ابتعاده عن دار الملك، وهاجموا حصن الحمراء (28 رمضان سنة 760 هـ) ونفذوا إلى قصر الحاجب رضوان وقتلوه بين أهله _______ (1) الإحاطة (المقدمة ص: 37) ونفح الطيب (3/ 52) وابن خلدون (7/ 373)، وفيها كامل القصيدة. (2) رحلة ابن بطوطة (2/ 184).

وولده، ونادوا بإسماعيل أخي السلطان ملكاً مكانه. وشعر محمد بعقم المدافعة، ففرّ إلى وادي آش. وحاول ابن الخطيب مصانعة السلطان الجديد، فاستبقاه في الوزارة لمدى قصير، ثم ارتاب في نياته وأمر باعتقاله ومصادرة أمواله. وكانت تربط السلطان المخلوع علائق مودّة وصداقة بملك المغرب، السلطان أبي سالم ولد السلطان أبي الحسن. وكان أبو سالم قد لجأ إليه حينما تغلّب عليه السلطان أبو عنان ونفاه إلى الأندلس، فأكرم محمد مثواه. ولما وقعت الفتنة وخلع محمد، رعى له أبو سالم عهد الصداقة والوفاء، وأرسل إلى غرناطة سفيراً يسعى لدى حكومتها، في إجازة السلطان المخلوع ووزيره المعتقل إلى المغرب، فنجح السفير في مهمته، وعاد إلى المغرب ومعه محمد والوزير ابن الخطيب (المحرم سنة 761 هـ). واستقبلهما أبو سالم في فاس أجمل استقبال، واحتفل بقدومهما في يوم مشهود، وأنشده ابن الخطيب قصيدة عصماء، فكان لإنشاده أعظم وقع في النفوس، وتأثر السلطان بها أيّما تأثر (1). ولبث السلطان المخلوع في بلاط فاس حيناً، وتوثقت بينه وبين المؤرِّخ ابن خلدون - وهو يومئذ من أكابر الدولة المرينية - روابط المحبّة والصداقة، وعقدت أيضاً بين المؤرخ وبين قرينه ابن الخطيب أواصر صداقة نمت وتوثقت فيما بعد. وكان محمد بن الأحمر يؤمِّل أن يسترد ملكه المنزوع بمعاونة بيدرو الثاني (بطره) ملك قشتالة تنفيذاً للاتفاق الذي عقد بينهما. ولكنه لم يفعل شيئاً لتحقيق هذا الأمل. والواقع أن ملك قشتالة كان مشغولاً باضطرابات مملكته، فآثر أن يعقد السلم مع سلطان غرناطة الجديد. وفي أثناء ذلك حدث انقلاب لقي فيه السلطان أبو سالم مصرعه، واستبد بالدولة الوزير عمر بن عبد الله فسعى لديه ابن الأحمر ليعاونه في استرداد ملكه، فاستجاب له الوزير. ومازال محمد يدبر أمره بمعاونته، حتى تهيأت الفرصة بوقوع الثورة في غرناطة، ومقتل منافسه السلطان إسماعيل على يد المتغلِّب _______ (1) الإحاطة (المقدمة ص: 39 - 43)، والّلمحة البدرية (108) وابن خلدون (7/ 306) وما بعدها، وأزهار الرياض (1/ 194 - 195).

عليه الرئيس أبي سعيد، فجاز محمد إلى الأندلس مع وزيره ابن الخطيب، واستولى على غرناطة، وفرّ الرئيس أبو سعيد إلى ملك قشتالة، واسترد محمد ملكه (جمادى الآخرة 763 هـ - 1361 م). ووفد عليه المؤرِّخ ابن خلدون بعد ذلك بقليل، وأكرم مثواه، وأرسله سفيراً عنه إلى بيدرو ملك قشتالة، ليوثق أواصر الصداقة بينهما (765 هـ - 1363 م)، فقصد ابن خلدون بلاط إشبيلية ومعه هدية فخمة، وأدّى سفارته ببراعة، وحظي بعطف ملك قشتالة وإعجابه. ولما اعتزم ابن خلدون العودة بعد أن أتمَّ مهمّته، قدم له ملك قشتالة هدية ثمينة، فسر السلطان محمد لنجاحه، وأقطعه قرية إلبيرة بمرج غرناطة، وعاش مدة في غرناطة معززاً مكرماً (1). ولم يمض على ذلك قليل، حتى شغلت قشتالة مدى حين بمنازعاتها وحروبها الداخلية، وتمتعت غرناطة خلال ذلك بهدنة قصيرة، وكان بيدرو ملك قشتالة (دون بطره) الملقب بالقاسي الذي خلف أباه الفونسو الحادي عشر في سنة (1350 م) قد غلا باستبداده وقسوته، حتى أنه لم يحجم عن قتل زوجته الملكة بلانش دي بوربون أخت ملكة فرنسا بالسم، ليتزوج من خليلته، فسخط عليه الأمراء والأشراف لما نالهم من عسفه، وخرج عليه أخوه غير الشّرعي الكونت هنري دي تراستمارا، ولد إلينورا دي كزمان، وفرّ إلى فرنسا، وتحالف مع ملكها شارل الخامس، على أن يجمع له جيشاً من المرتزقة يقوده إلى قشتالة، وأشرف على تنفيذ المشروع الدوق دى جسكلان زعيم الفروسية يومئذ. وقاد هنري جيشه إلى قشتالة (1366 م)، فلم يقو بيدرو على مقاومته لاشتداد السخط عليه، وتخلى الشعب عنه، وفرّ إلى ولاية جويين الفرنسية فيما وراء البرنية، واستغاث بالأمير إدوارد ولي عهد انكلترا، وقد كان يحكم هذه الأنحاء المحتلة من فرنسا باسم أبيه، فاستجاب الأمير الإنجليزي لدعوته، وسار معه إلى قشتالة في قواته، واستطاع الكونت هنري _______ (1) أنظر تفاصيل السفارة في التعريف (7/ 412) طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، والإحاطة (2/ 15).

بمعاونة شعبه، ومعاونة ملك أراغون، أن يحشد جيشاً عظيماً. والتقى الفريقان في (نجارا) في الثالث من نيسان - أبريل (1367 م)، فهُزِم الكونت هنري بالرغم من وفرة جموعه. وقُتِل عدد كبير من جيشه، واسترد بيدرو عرشه. ولكنه لم يف بوعده إلى الأمير الإنكليزي، ولم يؤد إليه الجزية المشترطة، فسخط عليه وارتد بقواته إلى الشمال. وعندئذٍ عادت الثورة إلى الاضطرام في قشتالة، ووثب الشعب ببيدرو مرة أخرى، وعاد أخوه الكونت هنري فغزا قشتالة في أنصاره، ونشبت بين الفريقين في (مونتيل) موقعة أخرى هُزِم فيها بيدرو، وجلس أخوه مكانه على العرش سنة (1368 م) (1)، وكان بين قوات الملك القتيل فرقة من حلفائه المسلمين تعاونه وتذود عنه. وقد فصّل لنا ابن الخطيب حوادث الحرب الأهلية، في قشتالة في تلك المدة، وكان معاصراً لها وقريباً من مسرحها، وروايته تدل على حسن اطلاعه، ودقة فهمه لسير الحوادث (2). وتولَّى ابن الخطيب وزارة الغني بالله للمرة الثانية، وهو متمتع بأقصى مراتب العطف والثقة، واستأثر في البلاط وفي الدولة بكل نفوذ وسلطة، وقضى على نفوذ منافسه الوحيد في السلطة وهو شيخ الغزاة عثمان بن يحيى، ومازال بالسلطان حتى نكبه، فخلا له الجو وتبوّأ ذروة القوّة والسلطان. وكان من معاونيه في الوزارة تلميذه الكاتب الشاعر الكبير أبو عبد الله بن زَمرَك، وقد تولى كتابة السر في كنفه وتحت رعايته. والظاهر أن اجتماع السلطان والنفوذ في يد ابن الخطيب على هذا النحو، كان سبباً في انحرافه عن جادة الاعتدال والروية، فجنح إلى الاستبداد واتباع الهوى، وبث حوله معتركاً من البغضاء والخصومة، وكثرت في حقه السِّعاية والوشاية، واتهمه خصومه بالإلحاد والزندقة، لما ورد في بعض كتاباته. وشعر ابن الخطيب في النهاية أن السعاية قد بدأت تحدث أثرها، وأن عطف مليكه قد فتر، وخشي العاقبة على نفسه، _______ (1) David Hump: History of England, V. 11. P. 202-205 (2) أنظر التفاصيل في الإحاطة (2/ 24 - 26).

فعوّل على مغادرة الأندلس، وسار إلى الثغور الغربية في نفر من خاصته، بحجة تفقدها، وعبر البحر فجأة إلى سبتة (773 هـ) بتفاهم سابق بينه وبين ملك المغرب السلطان عبد العزيز المريني، وكانت تربطه به مودة وثيقة. وهكذا غادر ابن الخطيب الوطن والأهل والسلطان، بعد أن تربّع في الوزارة في المرة الثانية زهاء عشرة أعوام. وخلفه في الوزارة تلميذه ابن زمرك، وكان قد انقلب عليه في أواخر أيامه، وغدا من خصومه وأشدّهم سعياً إلى نكبته. وقضى ابن الخطيب في منفاه زهاء ثلاثة أعوام، واستقرّ في فاس معزّزاً مكرّماً. ولكن السلطان عبد العزيز، ما لبث أن توفي، وساءت الأمور في عهد ولده الطفل الملك السعيد، ووقع انقلاب انتهى بجلوس السلطان أحمد بن أبي سالم على العرش، وهو صديق الغني بالله وحليفه، وكان بلاط غرناطة وخصوم ابن الخطيب في الأندلس يجدّون في ملاحقته ومطاردته، فسعوا عندئذٍ في بلاط فاس للقبض عليه واتِّهامه بالزندقة. وكلل مسعاهم آخر الأمر بالنجاح، واعتقل ابن الخطيب، أفتى بعض الفقهاء المتعصِّبين بوجوب قتله تنفيذاً لحكم الدين، ودُسّ عليه بعض الأوغاد، فقتلوه في سجنه، وذلك في أواخر سنة (776 هـ- 1375 م)، وهكذا ذهب الكاتب الشاعر الكبير ضحية الغدر السياسي والتعصب الشائن (1). وكان ابن الخطيب سياسياً بعيد النظر، وكان يرى في حوادث الأندلس شبح المستقبل الرهيب واضحاً، ويستشف بنافذة بصيرته ما وراء الحجب، من نهاية محتومة لهذا الوطن الذي مزّقته الأهواء وأضنته الفتن، وكان يرى هذا المصير المحزن قبل وقوعه بأكثر من قرن، ويهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، أن يبادروا إلى غوثه ونصرته، وله في ذلك رسائل ونداءات عديدة مؤثرة تفيض قوّة وبلاغة، في الحثّ على اليقظة، والذود عن الدين والوطن، والنذير بما يهددهم ويهدد وطنهم من خطر المحو والفناء إذا _______ (1) ابن خلدون (7/ 340 - 341).

تقاعسوا أو تخاذلوا وافترقت كلمتهم (1). وأبلغ من ذلك كله في الدلالة على شعور ابن الخطيب بخطر الفناء الذي ينتظر الأندلس، ما وجهه في وصيته إلى أولاده من النصح، بعدم الإسراف في اقتناء العقارات بالأندلس، إذ يقول لهم: "ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد الذي لا يصلح بغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعياً لنفسه أن يتغلّب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار، ومعوّقاً عن الانتقال أمام النوائب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالاجمال في الطلب أولى" (2). وسلك الغني بالله في حكمه مسلك القوّة والحزم، واشتهر بصرامته وعدله، وعنى بمشاريع الإنشاء والعمران، فأمر ببناء المارستان الأعظم (المستشفى) في غرناطة، وأنفق عليه أموالاً عظيمة، وعُنِي بتحصين الثغور، وعمل على بث روح الجهاد والحمية في النفوس للدفاع عن الدين والوطن، وكان داعيته في ذلك وسفيره إلى جمهور الأمة، وزيره القوي البليغ ابن الخطيب، فعمل على إذكاء الشعور ببراعة، واستمرت رسائله وخطبه المؤثرة في ذلك تترى أينما كان، بالأندلس أو المغرب، حتى نهاية حياته. وفي أواخر سنة (767 هـ - 1366 م)، نظَّم بعض الزعماء الخوارج مؤامرة لخلع السلطان وإقامة بعض قرابته مكانه، وهاجم الخوارج قلعة الحمراء، فمزقتهم الجند، وقبض على زعيمهم، وزاد إخفاق المؤامرة مركز السلطان توطيداً. وفي عصر الغني بالله، توطدت أواصر الصداقة بين بلاط غرناطة وبلاط _______ (1) نقل إلينا المقري في نفح الطيب وأزهار الرياض كثيراً من هذه الرسائل، وأنظر الإحاطة (2/ 31 - 39). (2) نقل إلينا المقري في نفح الطيب وصية ابن الخطيب كاملة، وهي من أبدع الوصايا الأبوية السياسية (2/ 425) وما بعدها، وكذلك في أزهار الرياض (1/ 32) وما بعدها.

القاهرة، واتصلت بينهما السفارة والمكاتبة (1). وفيما يختص بالعلائق السياسية، فقد عقد الغني بالله بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه أبي فارس عبد العزيز سلطان المغرب، مع بيدرو الرابع ملك أراغون معاهدة وصداقة لمدة ثلاثة أعوام من تاريخ عقدها وهو شهر رجب سنة (768 هـ - آذار - مارس - 1367 م) وفيها يتعهد كل من الفريقين بأن يمتنع رعاياه عن الإضرار بالفريق الآخر في البرِ والبحر، في السر أو الجهر، وأن يكون لرعايا كل فريق حق التجول والمتاجرة بأرض الفريق الآخر، والمرور في البحر والبر، دون اعتراض أو مغارم غير عادية، وأن تطلق أراغون حرية الهجرة للمدجنين، وأن يمتنع كل فريق عن معاونة الفريق الآخر (2). واستطال حكم الغني بالله حتى سنة (793 هـ - 1391 م)، وساد الأمن والسلام في عصره، وشغلت قشتالة عن محاربة المسلمين بأحداثها الداخلية وحروبها الأهلية، وغلب التهادي في تلك المدة بين غرناطة وقشتالة، واستطاعت السياسة الغرناطية أن تنتهز فرصة الحوادث الداخلية في المملكة النصرانية، وأن تمدّ يد التحالف والحماية غير مرة لملك قشتالة المخلوع بيدرو القاسي، إذكاءً للحرب الأهلية بين النصارى. ولم يخل عصر الغني بالله من مواطن الجهاد واستئناف الصراع على القشتاليين، وكانت القوات القشتالية قد تسربت من أطراف ولاية إشبيلية الجنوبية، إلى أحواز رندة الشرقية، واحتلت فيها موقعين حصينين من أراضي المسلمين هما برغة وجيرة (3)، واستطاعت بذلك أن تقطع الطريق بين رندة _______ (1) أنظر التفاصيل في: نهاية الأندلس (134 - 135)، ويراجع نص الرسالة في صبح الأعشى (8/ 107 - 115). (2) Archivo de la Corona de Aragon , No. 152. (3) برغة هي: ( Burgo) الحديثة، وتقع على مقربة من شرقي رندة. وجيرة هي: ( Guera) وتقع جنوب شرقي رندة.

2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

ومالقة، ففي شعبان سنة (767 هـ - 1366 م) زحف المسلمون على هذين المعقلين من الشمال والجنوب واحتلوهما بعد قتال شديد، وفي الوقت نفسه استؤنفت حركة الغزو لأراضي النصارى، ففي شعبان سنة (768 هـ - 1367 م) زحف الغني بالله في قواته على أراضي ولاية إشبيلية، وغزا مدينة أُطريرة الواقعة جنوب شرقي إشبيلية، وافتتح حصن أشر من معاقلها، واستولى على كثير من الغنائم والسبى، وعاث في أحواز إشبيلية ذاتها، وهي يومئذ عاصمة قشتالة. وفي أواخر هذا العام سار الغني بالله في قوة كبيرة إلى مدينة جيّان، وحاصرها بشدّة، واقتحمها بعد معارك شديدة، واستولى المسلمون على سائر ما فيها من الأموال والسلاح والنِّعم، وأسروا جموعاً كثيرة، وكان ذلك في أواخر شهر المحرم سنة (769 هـ - أيلول - سبتمبر - 1367 م). وفي شهر ربيع الأول من هذا العام، زحف الغني بالله على مدينة أبدة شمال شرقي جيّان، وافتتحها عنوة، ودمّر صروحها وكنائسها وأسوارها، وتركها خراباً بلقعاً (1)، وعاد إلى غرناطة مكلّلاً بغار الظفر. وفي ربيع سنة (771 هـ - 1370 م)، زحف المسلمون ثانية على أحواز إشبيلية، وحاصروا مدينة قرمونة الحصينة مدى حين، واقتحموا مرشانة الواقعة في جنوب شرقي قرمونة. وهكذا ظهرت المملكة الإسلامية في تلك المدة بمظهر من القوة لم تعرفه منذ بعيد، وكان عصر الغني بالله عصراً ذهبياً مليئاً بالسؤدد والرخاء والدّعة، لم تشهده الأمة الأندلسية منذ عصور (2). 2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه ولما توفي الغني بالله سنة (793 هـ - 1391 م)، خلفه ولده يوسف أبو الحجاج (يوسف الثاني)، وقام بأمر دولته خالد مولى أبيه، فاستبدّ بالأمر، وقتل إخوة يوسف الثلاثة سعداً ومحمداً ونصراً في محبسهم، ثم سخط _______ (1) الإحاطة (2/ 54 - 58) والاستقصا (2/ 132). (2) نهاية الأندلس (127 - 136).

يوسف على وزيره وقتله، لما نُميَ إليه من أنه يحاول اغتياله بالسم بالتفاهم مع طبيبه يحيى بن الصائغ اليهودي، وزج الطبيب في السجن، ثم قتل بعد ذلك (1). واستأثر يوسف بالسلطة، وكتب إلى ملك قشتالة في طلب المهادنة والسلم، وأطلق سراح عدد من الفرسان النصارى الذين أسروا في بعض المعارك السابقة، وأرسلهم مكرمين إلى بلاط إشبيلية، فاستجاب ملك قشتالة إلى دعوته، وعقد السلم بين المملكتين. وحاول محمد ولد السلطان يوسف الثورة ضد أبيه، إذ كان يؤثر أخاه الأكبر يوسف بمحبته وثقته، وقد اختاره لولاية عهده. وزحف بالفعل في أنصاره على الحمراء، ولكن محاولته أخفقت، وتفرّق الثوار حين برز إليهم سفير المغرب - وقد كان وقتئذٍ في القصر - وأنّبهم على مسلكهم، ونصحهم بالهدوء والاتحاد ضد النصارى (2). وقام المسلمون في عهد يوسف بالإغارة على أراضي النصارى في أحواز مرسية ولورقة، وعاث الفرسان النصارى من جانبهم في فحص غرناطة (المرج) ( La Vega) فردّهم المسلمون وأوقعوا بهم هزيمة شديدة، ثم عاد الفريقان إلى التهادن والسلم. وتوفي السلطان يوسف في أوائل سنة (797 هـ - 1394 م) بعد حكم قصير، لم يدم سوى ثلاثة أعوام وبضعة أشهر. وقيل: إنه توفى مسموماً على أثر مكيدة دبرها له سلطان المغرب أبو العباس المريني لإهلاكه، وذلك بأن أرسل إليه هدايا بينها معطف جميل منقوع في السم، فلبسه يوسف ومسّه أثناء ركوبه وهو عرقان، فسرى إليه السم وتوفي، وهي رواية تحمل ما لا يصدق (3). _______ (1) الاستقصا (2/ 142). (2) de la Dominacion de los Arabes en Espana; v. 111. p. 169. (3) Conde: ibid; v. 111. p. 171، وانظر الاستقصا (2/ 142) حيث يردد هذه الرواية نقلاً عن مصدر إسباني. Historia: Conde

3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه وخلف يوسف ولده محمد بعد أن دبّر أمره مع الزعماء ورجال الدولة لإقصاء أخيه الأكبر يوسف من العرش، ثم قبض على أخيه يوسف وزجه إلى قلعة شلوبانية الحصينة على مقربة من ثغر المنكب، وشدّد في الحجر عليه حتى يأمن منازعته إياه على الملك، وكان محمد وافر العنف والجرأة بعيد الأطماع، بيد أنه كان في الوقت نفسه أميراً موهوباً، رفيع العزم والشجاعة. ولأول ولايته استدعى الوزير أبا عبد الله بن زمرك لحجابته. وكان هذا الوزير الطاغية قد خلف أستاذه ابن الخطيب في وزارة الغني بالله مدى أعوام طويلة، فلما اشتد عبثه واستبداده، نكبه الغني بالله، نفاه من الحضرة؛ ولم يمكث في الوزارة هذه المرة سوى أشهر قلائل أساء فيها السيرة، وكثر خصومه، وفي أواخر سنة 797 هـ (1395 م)، دهمه جماعة من المتآمرين بمنزله وقتلوه وآله (1). وسعى السلطان محمد إلى تجديد صلات المودة والتهادن بين غرناطة وقشتالة، وعقدت الهدنة فعلاً بين الطرفين، بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى أغار القشتاليون على بسائط غرناطة وعاثوا فيها، فحشد محمد قواته وغزا ولاية الغرب (2) وخرّبها، واستولى على حصن أيامونتي (3)، وعاد مثقلاً بالغنائم والسّبى. وانتقم النصارى بالعود إلى غزو أرض غرناطة، وكان هنري الثالث ملك قشتالة تحدوه نحو مملكة غرناطة أطماع عظيمة، وكان يجدّ في الأهبة للحرب ويجهِّز الجيوش والأساطيل، وكان محمد من جانبه يتأهب للدفاع، ويراسل ملوك العدوة لإنجاده. وبعث ملك تونس وتلمسان بالفعل _______ (1) نفح الطيب (4/ 286 و 290). (2) ولاية الغرب: غربي الأندلس، وهي بالإفرنجية Algarve محرّفة عن الغرب. (3) Archivo general de Simancas: P. R. 11-1.

إلى المسلمين نجدة من الوحدات البحرية، ولكنها هُزِمت ومُزِّقت تجاه جبل طارق. ثم عقد بين الفريقين اتفاق هدنة وتحكيم لتقدير الأضرار لمدة عامين (6 تشرين الأول - أكتوبر 1406 م) (1)، ولكن هنري الثالث توفي بعد ذلك بقليل (أواخر سنة 1406 م) وخلفه على عرش قشتالة ولده خوان (يوحنا) طفلاً تحت وصاية أمه وعمه فرديناند. ولم يحترم الوصي الجديد أحكام الهدنة المعقودة، بل عمد إلى تنفيذ مشاريع قشتالة بمنتهى القوة والعزم، فسار إلى غزو أراضي المسلمين. واستولى على حصن الصخرة على مقربة من رندة، واقتحم حصن باغة (2)، وعاث في تلك الأنحاء، واسترد حصن أيامونتي من المسلمين. وبادر محمد بدوره بغزو أراضي قشتالة من ناحية الشرق وعاث في ولاية جيّان، فاضطر فرديناند أن يسير إلى الشرق لإنجاد النصارى، واستمرت المعارك بين الطرفين حيناً، ثم انتهت بعقد الهدنة بينهما لمدة ثمانية أشهر (أوائل سنة 1408 م). ولما عاد محمد إلى غرناطة، لم يلبث أن اشتد به المرض، فتوفي سنة (811 هـ - 1408 م). على أنه في الوقت الذي كانت الحرب تضطرم فيه بين غرناطة وقشتالة على هذا النحو بلا انقطاع، كانت غرناطة ترتبط بمملكة أراغون منافسة قشتالة وخصيمها أحياناً، بصلات المودة والصداقة. ففي ربيع الأول سنة (808 هـ - أيلول - سبتمبر - 1405 م) عقدت بين السلطان وبين مرتين ملك أراغون وولده مرتين ملك صقلية، معاهدة صداقة وتحالف، توضح لنا نصوصها الشاملة مجمل المسائل التي كانت في هذا العصر، تشغل المسلمين والنصارى في شبه الجزيرة الإسبانية. وتنص هذه المعاهدة على أن يعقد بين الدولتين (صلح ثابت)، لمدة خمسة أعوام من تاريخ عقدها، وأنه يحق لرعايا كل من الفريقين أن يتردد على أراضي الفريق الآخر، آمنين في أنفسهم وأموالهم للتجارة والبيع والشراء، _______ (1) Archivo general de Simancas: P. R. 11-1 (2) باغة: وهي بالإسبانية Priego

4 - يوسف بن يوسف

وأنه متى احتاج ملك أراغون أو ملك صقلية إلى معاونة على أعدائهما، فإن سلطان غرناطة ينجدهما بأربعمائة أو خمسمائة فارس، على أن يتكلفا هما بنفقاتهم، وذلك بشرط أن لا يكون هذا العدو صديقاً لمملكة غرناطة، وأن يعامل الملكان سلطان غرناطة بالمثل، فيقوما بإعانته بأربعة أو خمسة سفن مشحونة بالرجال والسلاح، على أن يتكفل هو بنفقاتها وعلى ألاّ يكون هذا العدو صديقاً لمملكة أراغون، وألاّ يساعد أحد الفريقين الثوار الذين يخرجون على الفريق الآخر بأي نوع من أنواع المساعدة (1). 4 - يوسف بن يوسف ولما توفي محمد بن يوسف، خلفه في الملك أخوه يوسف (الثالث)، وكان سجيناً طوال حكمه بقلعة شلوبانية كما ذكرنا، ودخل يوسف غرناطة في حفل فخم، واستقبله الشعب بحماسة. وكان يتمتع بخلال حسنة، ويعلِّق عليه الشعب آمالاً كبيرة. وكان أول ما عُنِي به أن سعى إلى تجديد الهدنة مع قشتالة، فاستجاب بلاط قشتالة إلى دعوته في البداية، وعُقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عامين. ولكنه لما سعى بعد مضي العامين إلى تجديدها، أبى القشتاليون، وطلبوا إليه الخضوع إلى قشتالة إذا شاء استمرار السلم، وأنذروه بإعلان الحرب، فرفض وأخذ في الأهبة للقتال. وكان ملك قشتالة يومئذ خوان الثاني تحت وصاية أمّه وعمّه فرديناند، فما كادت تنتهي الهدنة حتى زحف النصارى على أرض غرناطة بقيادة فرديناند الوصي، وضربوا الحصار على مدينة أنتقيرة في شمال غربي مالقة، فهرع يوسف إلى لقاء الغزاة. وحاولت حامية أنتقيرة أن تحطم الحصار وأنزلت بالمحاصرين خسائر فادحة، ثم نشبت بين المسلمين والنصارى معركة كبيرة بجوار أنتقيرة. وبذل _______ (1) أنظر تفاصيل المعاهدة في: نهاية الأندلس (139 - 140).

المسلمون لإنقاذ المدينة المحصورة جهوداً رائعة، ولكنهم هُزِموا أخيراً، واضطرت المدينة الباسلة إلى التسليم، فدخلها النصارى سنة (1412 م) وأُسبغ على فاتحها فرديناند من ذلك الحين لقب: (صاحب أنتقيرة). وعاث النصارى بعد ذلك في أراضي المسلمين، وأخيراً رأى السلطان يوسف أن يعقد هدنة مع قشتالة حقناً لدماء المسلمين، واجتناباً لاستمرار هذه المعارك المخرّبة، فارتضى بلاط قشتالة، وعقد السلم بين الفريقين، على أن يطلق ملك غرناطة سراح بضع مئات من الأسرى النصارى دون فدية. وفي عهد يوسف، ثار أهل جبل طارق، ودعَوْا ملك المغرب أبا سعيد المريني إلى احتلال الثغر، لاعتقادهم أنه أقدر على حمايتهم من غارات النصارى، فبعث إليهم أبو سعيد أخاه عبد الله في الجند تخلصاً منه، ولكن ابن الأحمر ما كاد يقف على هذه المؤامرة، حتى أرسل المدد إلى حاكم جبل طارق، واستطاع الغرناطيون أن يهزموا المغاربة في موقعة حاسمة، وأُسِر زعيمهم عبد الله، فأكرم ابن الأحمر وفادته ثم ردّه إلى المغرب وزوّده بالمال وبعض الجنود ليناهض أخاه، فهرعت القبائل لتأييده، واستطاع أن ينتزع الملك لنفسه من أخيه (1). ولما عقدت الهدنة بين مملكتي قشتالة وغرناطة، أخذت أواصر السلم تتوثق بينهما، وسادت بين بلاط غرناطة وبلاط إشبيلية علائق المودة والاحترام المتبادل، ولم تشهد غرناطة من قبل عهداً كعهد يوسف ساد فيه الوئام بين الأمتين الخصيمتين، وكانت غرناطة يومئذ تغصّ بالفرسان والأشراف النصارى، تجتذبهم خِلالُ أميرها وبهاء بلاطها وفروسيتها، وكانت حفلات المبارزات الرائعة تعقد بين الفرسان المسلمين والنصارى في أعظم ساحات المدينة، وتجري طبقاً لأرفع رسوم الفروسية الإسلامية، ويشهدها أجمل وأشرف العقائل المسلمات سافرات، وتبدو غرناطة في تلك _______ (1) الاستقصا (2/ 148).

5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

الأيام المشهورة في أروع الحلل وأبدع الزينات (1). وكانت الأمة الأندلسية تتمتع يومئذ في ظل ملكها الرشيد العادل بنعم الرخاء والسكينة والأمن، ولكنها تنحدر في نفس الوقت في ظل هذا السلم الخلّب والترف الناعم، إلى نوع من الانحلال الخطر، الذي يعصف بمنعتها وأهبتها الدفاعية. وتوفي السلطان يوسف في سنة (820 هـ - 1418 م) بعد حكم دام نحو تسعة أعوام، وكان أميراً راجح العقل، بارع السياسة، عظيم الفروسية والنجدة، محباً لشعبه، فكان حكمه القصير صفحة زاهية من تاريخ مملكة غرناطة. 5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف توالى على عرش غرناطة بعد السلطان يوسف عدة من الأمراء الضعاف، أولهم ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر، وكان أميراً صارماً سيئ الخلال، متعالياً على أهل دولته، بعيداً عن الاتصال بشعبه، لا يكاد يبدو في أية مناسبة عامة، وكان وزيره يوسف بن سراج واسطته الوحيدة للاتصال بشعبه وكبراء دولته. وكان هذا الوزير النّابه، وهو زعيم أعظم وأشرف بيوت غرناطة، يعمل ببراعته ورقّة خلاله، لتلطيف حدّة السّخط العام على مليكه، بيد أنه كان يحاول أمراً صعباً. ولابد لنا من من التعريف ببني سراج، فهم الذين يقترن اسمهم منذ الآن بحوادث مملكة غرناطة، الذين غدت سيرتهم فيما بعد مورداً خصباً للقصص المغرق، وهم من أعرق الأسر الأندلسية العربية، ويرجع أصلها إلى مذْحج وطيء من البطون العربية العريقة، وكان منزلهم بقرطبة وقبلى مرسية، بيد أنهم لم يظهروا على مسرح الحوادث في تاريخ الأندلس إلاّ في مرحلته الأخيرة، أعني في تاريخ غرناطة. وقد كانوا بغرناطة من أعظم سادتها، وكانوا أنداداً للعرش _______ (1) Conde; ibid; P. 197 & 180 وكذلك Historia de Grannada: Lafuente Alcantra (1906) V. 111. P. 46.

والسلاطين (1)، ومنذ عهد السلطان الأيسر، نرى بني سراج في طليعة القادة والزعماء، الذين يأخذون في سير الحوادث بأعظم نصيب. وقد كان حكم السلطان الأيسر، بداية سلسلة من الاضطرابات والقلاقل المتعاقبة. وفي عهده ساءت الأحوال، واشتد سخط الشعب، ولم تُجْدِ محاولات الوزير ابن سراج لتهدئة الأمور. وقامت ثورات متعاقبة، فقد فيها الأيسر عرشه ثم استرده غير مرة، وكان بلاط قشتالة يشجع هذه الانقلابات ويؤازرها، وكان الزعماء الثائرون يتطلعون دائماً إلى عون قشتالة ووحيها. وسنرى فيما يلي كيف كانت دسائس قشتالة ومؤامراتها حول عرش غرناطة في تلك الأيام، من أعظم العوامل في انحلال المملكة الإسلامية والتعجيل في سقوطها. وفي خلال حكم الأيسر المضطرب، كان النصارى يتربصون الفرص لغزو مملكة غرناطة، فزحفوا عليها في سنة (831 هـ - 1428 م) وتوغلوا في أرجائها، وعاثوا في بسائط وادي آش، فزادت الأمور في غرناطة اضطراباً، وازداد الشعب على الأيسر سخطاً، لأنه فوق غطرسته وتعاليه، لم يفلح في ردّ العدو عن أرض الوطن، وسرعان ما انفجر بركان الثورة وزحف الثوار على الحمراء، ونادَوْا بالأمير محمد بن محمد بن يوسف الثالث، وهو ابن أخي الأيسر. وفي رواية أنه ولده، ومحمد هذا هو الملقّب (بالزغيّر)، وفرّ الأيسر في أهله ونفرٍ من خاصته، وركب البحر إلى تونس مستظلاً بحماية سلطانها أبي فارس الحفصي. وجلس محمد (الزغيّر) (2) على عرش غرناطة، وكان أميراً بارع الخلال وافر الفروسية، يعشق الآداب والفنون، وكان يحاول اكتساب محبة الشعب _______ (1) نفح الطيب (1/ 138). (2) زغير: وهي النطق العامي الأندلسي لكلمة "صغير"، ولا يزال هذا التعبير مستعملاً وشائعاً في العاصمة العراقية، أنظر: Dozy: Supp. aux Dict. Arabes، وذكر كوندي أنّ الزغيّر معناها السكير ( Zaquir) ، أنظر: Conde. ibid; V. 111. p. 182

بفيض من الحفلات ومباريات الفروسية، ولكنه لم يوفق إلى إخماد الدسائس والفتن المستمرة. وكان بنو سراج ألدّ خصومه وأشدهم مراساً، فمال عليهم وطردهم وعوّل على سحقهم واستئصال نفوذهم القوي المتغلغل في أنحاء المملكة. وغادر يوسف بن سراج غرناطة مع عدد كبير من السادة الفرسان من أفراد أسرته، تفادياً لانتقام (الزغيّر) وبطشه، وسار أولاً إلى ولاية مرسية، ثم سار إلى إشبيلية ملتجئاً إلى حماية ملك قشتالة خوان الثاني، فرحب بهم وأكرم وفادتهم. واتفق يوسف بن سراج مع ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر إلى العرش. واستدعى الأيسر من تونس، فلبّى الدعوة، وزوّده السلطان أبو فارس بفرقة من الفرسان، وهدايا ثمينة لملك قشتالة، ونزل الأيسر في عصبته في ثغر ألمرية حيث استقبله الشعب بحفاوة، ونُودي به ملكاً. ونُمي الخبر إلى الزغيّر، فأرسل بعض قواته لمقاتلة الأيسر والقبض عليه، ولكن معظم جنده انضموا إلى الأيسر. وسار الأيسر إلى وادي آش حيث يحتشد أنصاره، ثم زحف على غرناطة في قوة كبيرة. ورأى محمد الزغيّر أتباعه ينفضون من حوله تباعاً، بيد أنه امتنع في عصبته القليلة بقلعة الحمراء معتزماً الدفاع عن ملكه، ودخل الأيسر غرناطة، واستُقبِل بحماسة، وأُعلِن ملكاً، وحاصر الحمراء بشدة، فسلمها إليه أنصار الزغيّر. وقبض على الزغيّر وقطع رأسه، وقبض على أولاده وأهله، وهكذا انتهت مغامرة الزغيّر على هذا النحو المؤسي، بعد أن حكم عامين وبضعة أشهر (سنة 1430 م) (1). ونظم السلطان الأيسر الأمور، وأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة، وأرسل إلى ملك قشتالة خوان الثاني في تجديد الهدنة، فاشترط أن يؤدي الأيسر ما أنفقه بلاط قشتالة في سبيل استرداد عرشه، وأن يؤدي فوق ذلك جزية سنوية، اعترافاً بالطاعة، فرفض الأيسر، وهدّد ملك قشتالة بالحرب. _______ (1) Conde ; ibid. 111. p. 184-185. وأنظر أيضاً: Lafuente Alcantra ; ibid, V. 111. P. 121

وما كادت تنتهي الفتنة الداخلية التي كانت ناشبة يومئذ في قشتالة، حتى أغار النصارى على أراضي المسلمين، وقصدوا إلى رندة، فهرع الأيسر إلى لقائهم، واستطاع أن يردّهم في البداية، ولكن ملك قشتالة قدم بعدئذٍ بنفسه في قوّات كبيرة، وزحف على حصن اللّوز وأرشدونة، وعاث في تلك المنطقة، ثم عاد إلى قرطبة ومعه كثير من السّبي والغنائم. وفي أثناء ذلك عاد الأيسر إلى غرناطة، متوجساً من سير الحوادث فيها. وكانت الفتن الداخلية قد عادت تنذر بانقلابات جديدة، وغدا عرش غرناطة مرة أخرى يضطرب في يد القدر. وانقسمت المملكة الإسلامية شيعاً وأحزاباً متنافسة متخاصمة، وألفى النصارى فرصتهم السانحة لإذكاء الفتنة، وبسط سيادتهم على مملكة يسودها الضعف والتفرّق. وكان خصوم الأيسر قد التقَوْا حول أمير ينتمي إلى بيت الملك عن طريق أمه، هو أبو الحجاج يوسف بن المول، وكانت أمه ابنة للسلطان محمد بن يوسف بن الغني بالله، وأبوه ابن المول من وزراء الدولة النصرية. ودبّرت مؤامرة جديدة لخلع الأيسر، وكان يوسف أميراً قوياً، وافر الثراء والهيبة، وكان ملك قشتالة، خوان الثاني، يعسكر يومئذٍ بجيشه على مقربة من غرناطة، يتتبع سير الحوادث، ويرقب الفرص، فقصد إليه يوسف، وطلب إليه العون على انتزاع العرش لنفسه، وتعهد بأن يحكم باسمه وتحت طاعته، فلبَّى ملك قشتالة دعوته، وعقد معه يوسف وثيقة بالخضوع، يقرِّر فيها أنه من أتباع ملك قشتالة وخدامه، وأنه إذا حصل على الملك، فإنه يتعهد بتحرير جميع الأسرى النصارى، وبأن يدفع لملك قشتالة جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار من الذهب، وأن يعاونه بألف وخمسمائة فارس لمحاربة أعدائه سواء كانوا نصارى أو مسلمين، وأن يحضر جلسات مجلس الكورتس (مجلس النواب القشتالي) بنفسه إن كان منعقداً جنوب طليطلة أو بإنابة أحد أبنائه أو ذوي قرابته إن كان منعقداً داخل قشتالة. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يعقد الصلح مع يوسف طول أيام حكمه وأيام أبنائه، وأن يعاونه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى،

وألاّ يحمي مَن يلتجئ إليه من أعدائه. ووقعت هذه المعاهدة بين الفريقين في السابع من المحرم سنة (835 هـ - 16 أيلول - سبتمبر 1431 م) ونفذت على الأثر، إذ أرسل ملك قشتالة جنده، فغزت غرناطة، وسار الأيسر على رأس قواته، والتقى بالنصارى في بسائط إلبيرة، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، ارتدّ الأيسر على أثرها منهزماً إلى غرناطة. أما يوسف فقد استطاع بمؤازة النصارى أن يستولي على قواعد اعترفت بطاعته، مثل رندة ولوشة وحصن اللوز وغيرها. وأعلن ملك قشتالة انحيازه إلى يوسف، ونودي به ملكاً، فسار يوسف بقواته إلى غرناطة، فلقيته جنود الأيسر بقيادة الوزير ابن سراج، فهُزِم ابن سراج وقُتل، ودخلت جنود يوسف غرناطة، ونادت بطاعته معظم الجهات، وانفضّ الأشراف من حول الأيسر بعد أن رأوا خسران قضيته، فاعتزم الأيسر أمره، وحمل أمواله، وغادر غرناطة في أسرته ونفر من خاصته، وقصد إلى مالقة التي بقيت على طاعته، ودخل يوسف بن المول الحمراء ظافراً وتربع على العرش، وذلك في أول كانون الثاني يناير - (1432 م). وكان أول ما فعله يوسف، أن جدّد لملك قشتالة عهد الخضوع، فوقعه باعتباره سلطان غرناطة في 22 جمادى الأولى من نفس العام (27 كانون الثاني 1432 م) (1)، بيد أن حكمه لم يطل، إذ كان شيخاً مريضاً، فتوفي بعد ستة أشهر لم يفعل خلالها شيئاً سوى اعترافه بطاعة ملك قشتالة، وهو ما كانت تسعى إليه قشتالة مذ قامت مملكة غرناطة. والواقع أن قشتالة حققت بهذا العقد أكبر أمنية قديمة لها، وهذا العهد المؤلم كان أشنع ما انتهت إليه الخلافات الداخلية والحروب الأهلية في مملكة غرناطة في تلك الأيام الحرجة الدقيقة من حياتها. وعلى أثر وفاة _______ (1) Archivo general de Simancas, P. R. 11-129، وقد حصل الأستاذ عبد الله عنّان على صورة هذه الوثيقة بنسختيها العربية والقشتالية، ونشرها في بحث ظهر في صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الثاني - 1954).

السلطان يوسف، اتفقت الأحزاب كلها على ردّ الأمر للسلطان الأيسر، فجلس على العرش للمرة الثالثة. وبادر إلى عقد السلم مع ملك قشتالة، فعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عام، ولكن القشتاليين ما لبثوا بالرغم من عقدها أن أغاروا على أراضي غرناطة الشرقية، فردهم المسلمون بقيادة الوزير ابن عبد البر زعيم بني سراج، ثم هزموهم ثانية عند مدينة أرشذونة، وقُتِل وأُسِر منهم عدد كبير (838 هـ - 1434 م). وفي العام التالي، سار السلطان الأيسر لقتال القشتاليين، في أحواز غرناطة ووادي آش، وهزمهم غير مرة، ثم عاد النصارى فأغاروا على بسطة ووادي آش، واحتلوا بعض الحصن والقرى المجاورة، وزحفت قوة كبيرة من النصارى بقيادة حاكم لبلة، على ثغر جبل طارق، ولكن أهل الثغر باغتوا النصارى وهزموهم، وقتل قائدهم وكثير منهم (840 هـ - 1436 م). ثم نشبت بعد ذلك بين المسلمين والنصارى موقعة أخرى على مقربة من كازورلا، أصيب الفريقان فيها بخسائر فادحة، وانتهت بنصر المسلمين، ولكن قائدهم الفارس ابن سراج، وهو ولد الوزير السابق، سقط قتيلاً في المعركة، فحزنت غرناطة لفقده، وقد كان يخلب الشعب الغرناطي بظرفه وبارع فروسته (1). وهكذا استمر الصراع بضعة أعوام سجالاً، بين المسلمين والنصارى. ولما رأى النصارى كثرة خسائرهم وعقم محاولاتهم، لجأوا إلى السكينة حيناً. وأرسل السلطان الأيسر في أواخر عهده إلى مصر سفارة يرجو فيها سلطان مصر الإنجاد والغوث لما رآه من اشتداد وطأة النصارى على أراضي مملكته. وهذه أول مرة تتجه فيها مملكة غرناطة إلى الاستنجاد بمصر، وقد كانت حتى ذلك الحين تتجه دائماً إلى ملوك العدوة، وكانت حوادث غرناطة يومئذ تنذر بتطورات جديدة مزعجة، ذلك أن السلطان الأيسر بالرغم من حسن بلائه ضد النصارى لم يحسن السيرة في الداخل، ولم ينجح في اجتذاب _______ (1) Lafuente Alcantra , ibid; V. 111. P. 147-150.

شعبه، وكان من خصومه من السادة الفرسان مَن يلوذ بحماية قشتالة، وعلى رأسهم الأمير يوسف بن أحمد حفيد السلطان يوسف الثاني وابن عم الأيسر، وهو المعروف في التواريخ القشتالية: "بابن إسماعيل"، وذلك لأن نسبه ينتهي إلى السلطان أبي الوليد إسماعيل الذي تولى العرش سنة (712 هـ)، وكان ثمة فريق آخر من الزعماء الناقمين في ألمرية يناصر الأمير محمد بن نصر بن محمد الغني بالله، وهو المعروف بالأحنف. وكان الأحنف قد نجح في دخول غرناطة سراً مع نفر كبير من أنصاره، وأخذ يعمل على إذكاء الفتنة، فلما آنس سنوح الفرصة، ثار في عصبته، واستولى على الحمراء والحصون المجاورة لها، وقبض على الأيسر وآله وزجهم إلى السجن، ونادى بنفسه ملكاً، وذلك في أوائل سنة (1441 م) أو أوائل سنة (1442 م) حسبما تدل على ذلك وثيقة عربية، هي عبارة عن خطاب موجه منه إلى ملك قشتالة في شهر ذي القعدة سنة (846 هـ - آذار - مارس 1443 م)، يشير فيه إلى بعض المشاكل القائمة بين البلدين، ويطالب بإطلاق سراح سفيره المعتقل في قشتالة (1). ولكن الفتنة لم تهدأ ولم تستقر الأمور، وكان يعارض ولاية الأحنف فريق قوي من الزعماء والشعب، ويتزعم هذا الفريق المعارض الوزير عبد البر زعيم بني سراج. وكان يقيم في حصن مونتي فريو في شمال غربي غرناطة، ويؤيد ولاية الأمير يوسف (ابن إسماعيل) المقيم في بلاط قشتالة، ولم يمض قليل، حتى سار هذا الأمير من إشبيلية إلى غرناطة، ومعه سرية من الفرسان النصارى أمده بها ملك قشتالة. والظاهر أن ابن إسماعيل استطاع التغلب على الأحنف، واحتل الحمراء وحكم مدى أشهر قلائل. ولكن الأحنف عاد وتغلب عليه واسترد عرشه (أوائل سنة 1446 م) ثم هاجم الأحنف أراضي قشتالة، وهاجم قلعة بني موريل وقلعة ابن سلامة وقتل من فيهما من النصارى _______ (1) نشر نص هذا الخطاب مع صورته في كتاب: نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر (76 - 78) - تطوان.

6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

(1446 م)، وسيّر في الوقت نفسه جزءاً من قواته لمقاتلة خصمه ابن إسماعيل. وانتهز الأحنف فرصة الخلاف القائم يومئذ بين أراغون وقشتالة، فأرسل إلى ملك أراغون يعرض عليه محالفته ضد قشتالة، ونفذ هذا الحلف بأن غزا الأحنف أرض النصارى من ناحية مرسية، والتقى بالقشتاليين قرب جنجالة وهزمهم هزيمة شديدة (1450 م). ثم عادت قواته تكرر الإغارة والعبث في أرض النصارى وتشغل قواتهم. وكان ابن إسماعيل يقيم أثناء ذلك في حصن مونتي فريو، وقد أقرت بطاعته بعض البلاد والحصون المجاورة. وهكذا اتسع نطاق النضال، وعصفت الحرب الأهلية من جهة، وغزوات النصارى من جهة أخرى بقوى غرناطة. وكان السلطان الأحنف بالرغم من عزمه وقوة نفسه، يثير غضب الشعب بطغيانه وقسوته وعنفه، وكانت معظم الأسر الكبيرة تعمل لإسقاطه، لما لقيت من بطشه وعدوانه، وهكذا تهيأ الجو لانقلاب جديد. 6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه عاد ملك قشتالة بعد أن سوّى خلافه مع أراغون إلى التدخل في شئون غرناطة، فزوّد ابن إسماعيل ببعض قواته. وسار الأحنف لقتال منافسه، ونشبت بين الفريقين في ظاهر غرناطة معركة شديدة، انتهت بهزيمة الأحنف وفراره، فدخل ابن إسماعيل غرناطة، وجلس على العرش، وكان ذلك في سنة (1454 م). وفي بعض الروايات الأخرى أن السلطان الأحنف استمر في الحكم حتى سنة (1458 م)، ثم خلفه في الحكم الأمير سعد بن علي حفيد السلطان يوسف الثاني، واستمر في الحكم أربعة أعوام. ثم عزل في سنة (1462 م) وأعيد السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحكم حتى سنة

(1463 م) (1). وكان السلطان ابن إسماعيل أميراً عاقلاً حازماً عادلاً، محباً للإصلاح والأعمال الإنشائية، فعكف على ضبط الأمور وتوطيد الأمن، وإقامة الأبنية وتحصين القواعد والثغور. وكان فارساً بارعاً يشترك بنفسه أحياناً في مباريات الفروسية. ولأول عهده أرسل إلى ملك قشتالة خوان الثاني يؤكد طاعته، وساد السلم لمدة قصيرة بين المسلمين والنصارى، ولكن خوان الثاني توفي بعد أشهر قلائل، وخلفه ولده هنري الرابع. وأبى ابن إسماعيل أن يعترف بحماية ملك قشتالة الجديد، محاولاً بذلك أن يكتسب الشعب إلى جانبه، وأن يوطِّد مركزه. وسيّر بعض قواته في نفس الوقت، فأغارت على الأراضي القشتالية، وأصرّ ملك قشتالة من جانبه على وجوب خضوع ملك غرناطة وطاعته، واعتزم الضغط على المملكة الإسلامية الصغيرة دون هوادة، فسار إلى أراضي غرناطة في جيش ضخم وعاث فيها، وانتسف المروج والضياع، وقتل وسبى من أهلها جموعاً كبيرة، ولقيه المسلمون في قوات صغيرة أنزلت بجيشه خسائر كبيرة. وعاد القشتاليون في العام التالي إلى عبثهم في أراضي المسلمين، وغزا المسلمون من جانبهم منطقة جيّان وأوقعوا هنالك بالنصارى، واستمرت هذه المعارك مدى حين سجالاً بين الفريقين. وكان النصارى قد استولوا في تلك المدة المضطربة من حياة المملكة الإسلامية، على عدة من القواعد والثغور الإسلامية، بعضها اختياراً بتنازل سلاطين غرناطة، والبعض الآخر باحتلالها قسراً. وكانت أعظم ضربة أصابت غرناطة في عهد السلطان أبي إسماعيل سقوط ثغر جبل طارق في يد النصارى. ففي سنة (1462 م) سارت إليه قوة من القشتاليين بقيادة الدوق مدينا سيدونيا واستولت عليه بطريق المفاجأة. وكان سقوط هذا الثغر المنيع في يد النصارى، أول خطوة ناجعة في سبيل قطع علائق مملكة غرناطة بعدوة _______ (1) Conde: ibid; V. 111. P. 201 & 202، وأنظر أيضاً: Seco de Lucena: Una

المغرب، والحول دون قدوم الإمدادات إليها من وراء البحر. على أن خطر الفورات الإسلامية القوية فيما وراء البحر، كان قد خبا منذ بعيد، وأخذت دولة بني مرين القوية، تجوز مرحلة الانحلال والسقوط، وكان آخر ملوكهم السلطان عبد الحق، قد خلف أباه السلطان أبا سعيد المريني في سنة (823 هـ - 1415 م)، وفي عصره ساد الاضطراب والتفكك في أنحاء المملكة، واستبدّ وزيره يحيى بن يحيى الوطاسي بالدولة. وكان بنو وطاس ينتمون إلى بطن من بطون بني مرين، وينافسونهم في طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبد الحق، بطش بمعظم رؤسائهم، وفي مقدمتهم وزيره يحيى، ونجا قسم منهم وتفرقوا في مختلف الأحياء. وأسلم عبد الحق زمام دولته إلى يهود، فبغوا وعاثوا بالدولة، فغضب الشعب على مليكه، واضطرمت الثورة، وعزل عبد الحق وقتل (869 هـ - 1464 م)، وانتهت بمصرعه دولة بني مرين، بعد أن عاشت زهاء مائتي عام، واستولى على تراث بني مرين وملكهم، بنو وطاس خصومهم القدماء، واستطاع زعيمهم محمد الشيخ أن يستولي على فاس في سنة (876 هـ - 1471 م) (1). وبذا قامت بالمغرب دولة فتية جديدة، بيد أنها لم تكن من القوة والمنعة بحيث تستطيع الإقدام على عبور البحر إلى الأندلس، في سبيل الجهاد والنجدة. أسوة بما كانت تعمله دولة بني مرين القوية الشامخة. وهكذا كانت الأمة الأندلسية تشعر بأنها أضحت وحيدة في مواجهة عدوّها القوي، دون حليف ولا ناصر. ولم ير سلطان غرناطة بعد أن أضناه النضال، بدّاً من قبول ما فرضه عليه ملك قشتالة من الاعتراف بسلطانه، وتأدية الجزية اغتناماً للمهادنة والسلم. وكانت مملكة غرناطة، تجوز في هذه الآونة العصيبة ذاتها مرحلة من الاضطراب الداخلي، وكان من أهم أسباب هذا _______ (1) الاستقصا (2/ 148 و 150 - 151 و 160).

الاضطراب الخطر؛ إضرام المنافسة بين العرش وبين الأسر النبيلة القوية، مثل بني سراج، وبني أضحى، وبني الثغري وغيرهم، واضطرام المنافسة فيما بين هذه الأسر القوية ذاتها، وغلبة نفوذ النساء في البلاط. وكان من أثر ذلك أن حدثت في سنة (1462 م) فتنة خطيرة من جراء محاولة السلطان ابن إسماعيل أن يقضي على نفوذ بني سراج أقوى هذه الأسر وأعرقها، وهكذا كانت نذر التفكك تعمل عملها المشئوم (1). ومع أن غرناطة تمتعت بمزايا الهدنة الخادعة التي عقدتها مع قشتالة لمدى قصير، فقد كان من الواضح أن المملكة الإسلامية كانت تنحدر سراعاً إلى مصيرها الخطر، وتواجه شبح الانحلال الأخير. ولم يمضِ قليل على ذلك، حتى وقع انقلاب جديد في ولاية العرش الغرناطي، ذلك أن الأمير سعداً عاد فهاجم الحمراء مع أنصاره، وانتزع العرش لنفسه (1462 م). وفرّ السلطان ابن إسماعيل وخصوم السلطان الجديد. وهنا تلقي الرواية الإسلامية بعض الضوء على ما تلا من الحوادث في غرناطة، وهذه الرواية هي رواية مؤرخ ورحّالة مصري زار المغرب والأندلس في تلك الفترة، هو عبد الباسط بن خليل الحنفي، دوَّنها في مؤلفه المسمى: "كتاب الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم" (2)، وهو يحدثنا عن بعض أخبار الأندلس التي سمعها أثناء زيارته للمغرب وغرناطة سنة (870 هـ)، ويروي لنا ما وقف عليه من الحوادث الأندلسية حتى سنة (887 هـ - 1482 م). يقول الرحالة المصري: إن سلطان الأندلس في سنة (867 هـ - 1462 - _______ (1) يرى المستشرق جاينجوس أن منافسات بني سراج وبني الثغر، كانت من أهم أسباب التعجيل بسقوط غرناطة. (2) تحفظ نسخة مخطوطة. وحيدة من هذا الكتاب بمكتبة الفاتيكان الرسولية برقمي Borg. 728 , 729، وهي في مجلدين: الأول في 259 ورقة كبيرة، والثاني في 66 ورقة، وترد أخبار الأندلس مبعثرة في حوليات المجلدين المتوالية.

1463 م) كان سعد بن محمد بن يوسف المستعين بالله المعروف بابن الأحمر، وأنه ما كاد يجلس على العرش، حتى ثار عليه ولده أبو الحسن بتحريض بني سراج، وأخرجه عن غرناطة وامتلكها، فسار سعد إلى مالقة، وحكم أبو الحسن مكانه. وفي العام التالي (868) لما اشتد ضغط النصارى على الأندلس، عاد أبو الحسن فعقد الصلح مع أبيه، وأطلق سراحه، واختار سعد السكن بألمرية، فلم يعترض ولده، ولم يلبث أن توفي في أواخر هذا العام وعندئذٍ خلص العرش لأبي الحسن. ولكن حدثت بعد ذلك منازعات حول ولاية العرش بين أبي الحسن وأخيه أبي الحجاج يوسف، ولم ينته هذا النزاع إلاّ بوفاة يوسف بعد ذلك بقليل. وفي ذلك الحين بالذات، استولى محمد الفاتح رحمه الله عاهل الترك العثمانيين على القسطنطينية سنة (1453 م)، وانهار هذا الصرح المنيع الذي كان يحمي أوروبا النصرانية من جهة المشرق، من غزوات الإسلام. وانساب تيار الفتح إلى جنوب شرقي أوروبا، يكتسح في طريقه كل مقاومة، وروِّعت أوروبا النصرانية لهذا الخطر الجديد الذي يهدّد حريتها وسلامتها، وأخذت النزعة الصليبية تضطرم من جديد بقوّة مضاعفة. وتردّد هذا الصدى في إسبانيا النصرانية، حيث كانت مملكة غرناطة ما تزال بالرغم من صغرها وضعفها، تمثل صولة الإسلام القديمة في إسبانيا، وقد تغدو في المغرب نواة لهذا الخطر الإسلامي الداهم، الذي بدت طلائعه في المشرق على يد الغزاة الترك. ومن ثم فقد كان طبيعياً أن تجيش إسبانيا النصرانية بفورة صليبية جديدة، وأن يذكي هذا الخطر الجديد، اهتمامها بالقضاء على مملكة غرناطة. وبالرغم مما كانت تجوزه مملكة غرناطة يومئذٍ من فتن داخلية، وما كان يفت في قواها من عوامل الانحلال السياسي والاجتماعي، فقد كانت تعتبر دائماً في نظر إسبانيا النصرانية عدواً داخلياً له خطره، وكان أشد ما تخشاه إسبانيا النصرانية أن تغدو غرناطة قاعدة لفورة جديدة من الغزو الإسلامي تنساب من وراء البحر، كما حدث في الحقبة الأخيرة غير مرة. والحقيقة أن حياة هذه المملكة

الإسلامية الصغيرة، قد استطالت أكثر مما كانت تقدِّره إسبانيا النصرانية. وكانت مملكة قشتالة في تلك الآونة بالذات، تشغل بمنازعاتها الداخلية، ومضى زهاء ربع قرن آخر قبل أن تتحد إسبانيا النصرانية في مملكة قوية موحدة. وقد كانت خلال الأحداث التي توالت عليها في تلك المدة، تجيش دائماً بنزعتها الصليبية المأثورة. فلما تحققت الوحدة، واستقرت الأحوال، واجتمعت الموارد، أخذت فرصة القضاء الأخير على المملكة الإسلامية الصغيرة، تبدو لخصيمتها القوية إسبانيا النصرانية، في الأفق قوية سانحة (1). _______ (1) نهاية الأندلس (146 - 155).

نهاية دولة الإسلام في الأندلس 868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

نهاية دولة الإسلام في الأندلس 868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م الأندلس على شفا المنحدر 1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه كانت شمس الأندلس تؤذن بالغروب، وكانت تغرب في الواقع بخطى وئيدة، ولكن مؤكدة. ولم يك ثمة شك، في أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة التي يسودها الخلاف والتفرق، وتعصف بوحدتها ومنعتها الحروب الداخلية، كانت تنتحر ببطء، وأن هذه الأمة الأندلسية التي أخذت تنكمش في مدنها وثغورها القليلة، كانت تنظر إلى المستقبل بعين التوجّس والجزع، وأن هذه الحياة الباهرة الساطعة التي كانت تحياها بين آن وآخر، كلما تربع على العرش أمير قوي رفيع الخلال، لم تكن إلاّ سويعات النعماء الأخيرة في حياة أمة عظيمة تالدة. وقد كان هذا الشعور يخالج رجالات الأندلس منذ بعيد، حتى قبل أن تتفاقم الأمور، وكمثال على ما كان يتوقعه رجالات الأندلس: ما توقعه ابن الخطيب (1) والمؤرخ ابن خلدون (2)، ولكن لم ينصت أحد إلى توقعات المفكرين، فكانوا كنبيٍ في الصحراء. ولما توفى السلطان سعد بن يوسف النصري في أواخر سنة (868 هـ - 1463 م)، كان ولده الأكبر علي أبو الحسن الملقب بالغالب بالله (3) متربعاً على عرش غرناطة قبل ذلك بأكثر من عام. وكان أبو الحسن يومئذ فتى في نحو الثلاثين من عمره، لأنه ولد قبل سنة (840 هـ)، بيد أنه لم يستخلص _______ (1) أنظر توقعاته في أزهار الرياض (1/ 64) ونفح الطيب (2/ 571) مثلاً وأزهار الرياض (1/ 66). (2) أنظر ابن خلدون (4/ 178) و (7/ 379). (3) أنظر نفح الطيب (2/ 607).

الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه، وعلى رأسهم أخواه يوسف أبو الحجاج، والسيد أبو عبد الله محمد المعروف: (بالزغل)، وقد توفي يوسف قبل مدة، وبقي الزّغل ليخوض حياة حافلة بالأحداث والمحن. وكان أبو الحسن أميراً وافر الشجاعة والعزم، يعشق الحرب والجهاد، وكانت له أيام أبيه غزوات موفقة في أرض النصارى. وما كاد يستقر في عرشه، حتى أبدى همّة فائقة في تحصين المملكة، وتنظيم شئوونها، وبث فيها روحاً من القوة والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التي استولى عليها النصارى. وتولى وزارته وزير أبيه من قبل، القائد أبو القاسم بن رضوان بنيغش (1)، وكان هذا الوزير مثل سلفه الحاجب رضوان النصري، سليل أسرة نصرانية، أُسِرَ جده في بعض المعارك، وربي في كنف الدار السلطانية، وتبوأت أسرته بين الأسر الغرناطية مكانة رفيعة، واشتركت في كثير من حوادث غرناطة السياسية، وتولت الوزارة. وفي أوائل حكمه، خرج عليه أخوه أبو عبد الله "الزّغل" (2)، وكان يومئذٍ والياً لمالقة، وكان يضارعه في الشجاعة والجرأة وحب الجهاد، ولجأ الزغل إلى عون ملك قشتالة هنري الرابع يستنصره على أخيه، ولقيه في محلته في ظاهر أرشذونة سنة (874 هـ - 1469 م)، فوعده بالعون والتأييد. وبادر السلطان أبو الحسن من جانبه بالإغارة على أراضي قشتالة (1470 م)، ثم عاد في العام التالي فغزاها مرة أخرى، وانتزع من النصارى بعض المواقع التي استولوا عليها. وشُغِل أبو الحسن في الأعوام الثلاثة التالية بمحاربة أخيه أبي عبد الله الزغل، الثائر عليه، وكان النضال سجالاً بينهما، وشغل أبو الحسن بذلك عن غزوة أرض النصارى، وشغل القشتاليون أنفسهم بما نشب بينهم من _______ (1) أصله إسباني ( Los Venegas) . (2) الزغل: الشجاع أو الباسل، والمصدر: زغلة، وسنرى فيما بعد كيف ينطبق هذا المعنى على سيرة الزّغل وصفاته أتمّ الانطباق. أنظر دوزي Supp. aux Dict Arabes, V. 11. P. 594.

الخلاف الداخلي، وذلك حتى وفاة ملكهم هنري الرابع سنة (1474 م). وفي تلك الأثناء، خرجت مالقة عن طاعة أبي الحسن، حيث ثار بها القائد محمد الفرسوطي، وانضم إليه كثير من القواد والأجناد، فسار أبو الحسن إلى مالقة، وحاصرها غير مرة، ولكنه لم يفلح في إخماد الثورة. واستدعى القادة الثائرون أخاه أبا عبد الله محمد بن سعد الزغل، وكان يومئذٍ بقشتالة، وأعلنوه ملكاً عليهم، وانقسمت المملكة بذلك إلى شطرين متخاصمين. ولما تفاقم النزاع بين أبي الحسن وأخيه أبي عبد الله، ولم يحسم بينهما السيف، ووضحت لهما العواقب الخطيرة التي يمكن أن تترتب على هذه الحرب الأهلية، جنح الفريقان إلى الروية، وآثر الصلح والتهادن، فعقدت الهدنة بين الأخوين، على أن تحترم الحالة القائمة، فيبقى أبو عبد الله الزغل على استقلاله بمالقة وأحوازها، ويستقر أبو الحسن في عرش غرناطة وما إليها، وعُقِدت في نفس الوقت هدنة مؤقتة بين المسلمين والنصارى. وفي هذه الآونة، التي أخذت عوامل التفرق تمزق أوصال المملكة الإسلامية الصغيرة، كانت إسبانيا النصرانية تخطوخطوتها الأخيرة نحو الاتحاد النهائي، وذلك باقتران فرديناند ولد خوان الثاني ملك أراغون بإيزابيلا أخت هنري الرابع ملك قشتالة، ثم إعلانهما ملكين لقشتالة في سنة (1479 م) وتبوّء فرديناند بعد ذلك عرش أراغون، وهكذا اتحدت المملكتان الإسبانيتان القديمتان بعد أحقاب طويلة من الخلاف والحروب الأهلية، وأصبحت إسبانيا النصرانية قوة عظيمة موحدة، وكان تفرقهما من قبل يتيح للأندلس أوقاتاً من السلام والأمن، ولكن الأندلس، وقد صارت إلى ما صارت إليه من الانحلال والضعف، أضحت تواجه لوحدها أعظم قوة واجهتها في تاريخها. وحاول أبو الحسن أن يجدد الهدنة مع القشتاليين، ليتفرغ لأعمال التحصين والإنشاء، وكان يلوح في البداية أن العلائق بين الفريقين تسير نحو التفاهم والسلم. وهناك ما يدل في الواقع على أنه كان يقوم يومئذٍ بين مملكة غرناطة،

وبين قشتالة، صلح ثابت حسبما يؤيد ذلك اتفاق عقداه يومئذٍ على إجراء التحكيم فيما وقع من كل منهما على أراضي الآخر من ضروب العدوان التي ترتب عليها القتل والأسر والحرق، سواء في البر أو البحر (1). وعلى هذا فقد أرسل السلطان أبو الحسن في أوائل سنة (883 هـ 1478 م) إلى ملك قشتالة، يطلب تجديد الهدنة القائمة بينهما. وكان فرديناند وإيزابيلا يقيمان يومئذ في إشبيلية، فوافقا على ما طلبه أبو الحسن، ولكن بشرط أن تعترف مملكة غرناطة بطاعتها، وأن تؤدي إلى قشتالة نفس الجزية من المال والأسرى التي كان يؤديها السلاطين السالفون. وأرسلا بالفعل سفيراً إلى السلطان أبي الحسن يطالبه بعهد الطاعة وتأدية الجزية، فرفض أبو الحسن طلب الملكين النصرانيين بإباء، وأنذر السفير القشتالي بأنه ليس لديه سوى الحرب والجهاد. ولم يمض سوى قليل، حتى أغار القشتاليون على حصن بللنقة (فيلا لونجا) واستولوا عليه، وعاثوا في أحواز رندة. وردّ أبو الحسن على ذلك بإعلان الحرب على قشتالة، وزحف توّاً على بلدة (الصخرة Zahara) وهي قاعدة حصينة تقع على حدود الأندلس الغربية في شمال غربي مدينة رندة، وكان قد انتزعها القشتاليون منذ عهد قريب، فباغتها أبو الحسن، واستولى عليها عنوة، وقتل حاميتها وسبى سكانها (كانون الثاني - ديسمبر 1481 م). وبالرغم مما أحرزه أبو الحسن من الظفر في تلك المعركة الأولى، وبالرغم مما بثّه هذا الظفر في طوائف الشعب من الغبطة والحماسة، فقد اعتبر بعض العقلاء تصرفه اعتداءً لا مسوّغ له، وتوجسوا شراً من عواقبه. وتقول الرواية القشتالية: إن فقيهاً زاهداً شيخاً عرف بنبوءاته، كان بين الوفود التي ذهبت غداة هذا الانتصار إلى قصر الحمراء، وأنه صاح في وجه السلطان قائلاً: "ويل لنا. لقد دنت ساعتك يا غرناطة، ولسوف تسقط أنقاض الصخرة _______ (1) أنظر وثيقة الاتفاق: Archivo general de Simancas; P. R. 11-4، وفيها يصف فرديناند وإيزابيلا بما يأتي: "السلطان المعظم الكبير الشهير الأصيل دون هرندة، والسلطانة الكبيرة الشهيرة دوني قشبيل".

فوق رؤوسنا، وقد حلت نهاية دولة الإسلام بالأندلس" (1). على أن هذا الظفر المؤقت كان له أعظم الأثر في إحياء معنويات الشعب الغرناطي، ولاح لإسبانيا النصرانية يومئذٍ أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة من القوة. ولكن هذا النصر الخلّب لم يطل أمده، ذلك لأن أبا الحسن لم يلبث أن ركن إلى الدّعة، وأطلق العنان لأهوائه وملاذِّه، وبذر حوله بذور السخط والغضب، بما ارتكبه في حق الأكابر والقادة من صنوف العسف والشدّة، وما أساء إلى شئون الدولة والرعية، وما أثقل به كاهلهم من صنوف المغارم، وما أُغرق فيه من صنوف اللهو والعبث، وكان وزيره أبو القاسم بنيغش يجاريه في أهوائه وعسفه، ويتظاهر أمام الشعب بغير ذلك. وهكذا عادت عوامل الفساد والانحلال والتفرق إلى مملكة غرناطة، تعمل عملها الهادم، وتحدث آثارها الخطرة (2). وكان السلطان أبو الحسن قد اقترن بابنة عمه السلطان الأيسر (3) اسمها عائشة، وهي أم أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة. وتحتل شخصية عائشة الحرّة في حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة، وليس في تاريخ تلك الأيام الأخيرة من المأساة الأندلسية شخصية تثير الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن، قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التي تذكرنا خِلالها السامية ومواقفها الباهرة وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة، بما نقرأ من أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف. وكانت عائشة (الحرّة) ملكة غرناطة في ظل ملك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير، ليخبو ويغيض، وقد رزقت من زوجها الأمير أبي الحسن بولدين هما: أبو عبد الله محمد، وأبو الحجاج يوسف. وكانت روح العزم _______ (1) Lafuente Alcantra; ibid , V. 111. P. 202-205. وكذلك Conde: ibid; V. 111. P. 210,211. (2) أنظر كتاب: أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر (3). (3) أخبار العصر: طبعة ميللر (6) وطبعة تطوان (5).

والتفاؤل التي سرت في بداية هذا العهد إلى غرناطة، تذكي بقية الأمل في إنقاذ هذا الملك التالد. وكانت عائشة ترى من الطبيعي أن يؤول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع. وذلك أن الأمير أبا الحسن ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدّعة، واسترسل في أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحسن، تعرفها الرواية الإسلامية باسم: "ثريا" الرومية. وتقول الرواية الإسبانية، إن ثريا هذه، واسمها النصراني: إيزابيلا، وتعرفها الرواية أيضاً باسم: "زريدة"، كانت ابنة قائد من عظماء إسبانيا، وهو القائد: "سانشو خمنيس دي سوليس"، وإنها أُخذت أسيرة في بعض المعارك، وهي صبية فتية، وأُلحقت وصيفة بقصر الحمراء فاعتنقت الإسلام وتسمت باسم: "ثريا" أو "كوكب الصباح"، فهام بها الأمير أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة التي عرفت حينئذٍ "بالحرّة" تمييزاً لها من الجارية الرومية، أو إشارة بطهرها ورفيع خلالها (1)، ويقول لنا المؤرخ المعاصر "هرناندو دى بايثا Hernando de Baeza": إن السلطان أبا الحسن كان يقيم يومئذٍ مع زوجه الفتية الحسناء في جناح الحمراء الكبير أو قصر قمارش، بينما كانت تقيم الحرّة وأولادها في جناح بهو السباع (2). ولم يكن زواج الأمير بفتاة نصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم في قصور الأندلس، وقد ولد بعض خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات نصرانيات، مثل عبد الرحمن الناصر، وحفيده هشام المؤيد، وكذلك ولد _______ (1) انظر: Irving: Conquest of Granada حيث يورد أقوال الرواية الإسبانية عن شخصية ثريا (الفصل التاسع). ويقول كوندي: إنّ ثريا كانت ابنة حاكم مرتش النصراني: Conde; ibid, V. 111. P. 242، ولكن الرواية العربية تكتفي بالقول بأنّ ثريا كانت جارية يونانية أي رومية، أنظر History of Ferdinand and Isabella. P. 219 (2) Les Cosas Garnade

بعض الأمراء من بني نصر ملوك غرناطة من أمهات من النصارى مثل محمد بن إسماعيل النصري. ولم يكن الزواج المختلط نادراً في المجتمع الأندلسي الرفيع، ولاسيما منذ أيام الطوائف، وكان كثير من الأكابر والأشراف يتزوجون بفتيات من النصارى سواء كن من السبايا أم من الأحرار، ولم يكن العكس نادراً أيضاً، فمنذ توالي سقوط القواعد والثغور في يد النصارى، كثر الزواج بين المدجّنين وبين النصارى. وفقد المدجنون بمضي الزمن دينهم ولغتهم، واندمجوا في المجتمع النصراني. ونرى بين زعماء الطوائف أمراء يرجعون إلى أصل نصراني، مثل محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ملك بلنسية ومرسية، وقد كان يتكلم القشتالية، ويلبس الثياب القشتالية، ويتقلد السلاح القشتالي، وكان معظم ضباطه من النصارى، وكان الإسبان يعرفونه بالملك: "دون لوبي". ولم يكن ثمة ريب في خطورة الآثار الإجتماعية التي يحدثها مثل هذا الامتزاج الوثيق، وقد كانت فيما بعد من أهم العوامل التي أدت إلى انحلال المجتمع الإسلامي، وانحلال عصبية الدولة الإسلامية. كذلك لم يكن ثمة ريب في أن هذه الآثار الهدامة، كانت أشد خطراً وأعمق وقعاً وقت الانحلال العام. وكان أبو الحسن قد شاخ يومئذ وأثقلته السنون، وغدا أداة سهلة في يد زوجه الفتية الحسناء، وكانت ثريا فضلاً عن حسنها الرائع فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية في قصر غرناطة، واستئثارها بالنفوذ والسلطان في هذه الظروف العصيبة التي تجوزها المملكة الإسلامية، عاملاً جديداً في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا في الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ، ذلك أنها أنجبت من الأمير أبي الحسن كخصيمتها عائشة ولدين هما: سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما، وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدسّ والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان

ولديها محمد ويوسف كل حق في الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك، على عقب الجارية النصرانية. ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فمازالت بأبي الحسن، حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة ووليدها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسّها، حتى أمر السلطان باعتقال عائشة وولديها، فزجّوا في برج قمارش أمنع أبراج الحمراء، وشدّد في الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدّة والقسوة. وأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرقية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان ذلك نذير الاضطراب والخلاف في المجتمع الغرناطي. وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصمين: فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيّته، واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقة، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا في طغيانها إلى أبعد حد، فحرّضت الملك على إزهاق ولده أبي عبد الله عثرة آمالها. وكانت عائشة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم إلى قدرها، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج أقوى أُسر غرناطة، وأخذت تدبّر معهم وسائل الفرار والمقاومة. ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط، ويقال إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نيّة أبي الحسن، قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة. وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة (887 هـ - 1482 م)، استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف بمعونة بعض الأصدقاء المخلصين، والرواية الإسلامية تشير إلى فرار الأميرين فقط دون

أمهما (1)، ولكن الرواية القشتالية تحدثنا عن فرارها مع ولديها. وتقدم إلينا عن هذا الفرار صوراً شائقة فتقول: إن بعض الخدم المخلصين، كان ينتظر مع الجياد على مقربة من الحمراء على ضفة النهر مما يلي برج قمارش، وإن الأميرة استعانت بأغطية الفراش على الهبوط من نوافذ البرج الشاهق في جوف الليل (2). وهكذا استطاعت هذه الأميرة الباسلة أن تفر من معتقلها، واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وانضم إليهم كثير من أهل غرناطة. وظهر ولدها الأمير الفتى محمد أبو عبد الله في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها، بعيداً عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة. وكان ملك قشتالة يرقب الحوادث في مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام، فلما اضطرمت نار الحرب بين المسلمين، ولاحت الفرصة للغزو سانحة، قرّر بدء الحرب على غرناطة. وكان يضطرم سخطاً لاستيلاء المسلمين على قلعة الصخرة بالرغم من الهدنة، وعجزه عن استرداد هذه القاعدة الهامة، فسيّر حملة قوية إلى الأندلس، سارت منحرفة من جهة الغرب، ورأى القواد القشتاليون أن يبدأوا بمهاجمة الحامة (الحمة) التي تقع في قلب الأندلس، جنوب غربي غرناطة، وذلك لما بلغهم من ضعف وسائل الدفاع عنها، ولأن الاستيلاء عليها، يمكنهم من تهديد غرناطة ومالقة معاً. وكانت الحامة مدينة غنيّة، ولها شهرة قديمة بحماماتها الشهيرة التي كانت مجتمع ملوك غرناطة وأمرائها. ونجحت الخطة واستطاع النصارى مباغتة الحامة والاستيلاء على قلعتها تحت جنح الظلام، ثم استولى على المدينة بالرغم من مقاومتها الباسلة، وأمعنوا في المسلمين قتلاً وأسراً وسبياً (المحرم سنة 887 هـ - _______ (1) أخبار العصر (12) ونفح الطيب (2/ 609). (2) L. del Marmol; ibid; 1. cap. X11.

شباط - فبراير -1482 م). وهرع السلطان أبو الحسن في قواته لإنقاذ الحامة واستردادها، وحاصرها بشدة، ولكنه لم يستطع اقتحامها، ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرتها حينما علم أن ملك قشتالة يتقدم لإنجادها في جيش قوي ضخم (1)، ولم تمض أشهر قلائل، حتى زحف ملك قشتالة على لوشة (2) الواقعة على نهر شنيل في شمال غربي الحامة وعلى مقربة منها وحاصرها. ودافعت عنها حاميتها أروع دفاع بقيادة قائدها الأمير الشيخ علي العطار، وكان رغم شيخوخته من أشجع وأبرع فرسان غرناطة في ذلك العصر (3). وسار أبو الحسن بقواته مسرعاً لإنجاد لوشة، انتهى الأمر بأن رُدّ النصارى بخسارة فادحة في الرجال والعدد (جمادى الأولى 887 هـ - تموز - يوليه 1482 م)، وكان مما استولى عليه المسلمون من النصارى بعض "الأنفاط" التي تستخدم لحصار المدن (4). وما كاد أبو الحسن يعود إلى عاصمة ملكه، حتى تجهّم الجو من حوله. وكانت سياسته الداخلية قد أثارت حوله كثيراً من السخط، بالرغم مما أحرزه من نجاح، وسرعان ما نشبت الثورة في غرناطة، وغلبت دعوة الأمير الفتى أبي عبد الله، ولم يستطع أبو الحسن وصحبه مواجهة العاصفة، ففرّ الملك الشيخ إلى مالقة، وكان فيها أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد المعروف (بالزّغل) أي الشجاع الباسل، يدفع عنها جيشاً جرّاراً سيّره ملك قشتالة للاستيلاء عليها (5). _______ (1) أخبار العصر (6 و 9) وكذلك Prescott; ibid; P. 206-210 (2) هي بالإسبانية: ( Loja) ، وهي بلد الوزير ابن الخطيب. (3) تنوِّه الرواية القشتالية ببطولة هذا القائد المسلم، وتعرفه بإسم: " Aliatar"، أنظر رواية Hermando de Baeza المنشورة بعناية ميللر ضمن كتاب: أخبار العصر (ص: 78). (4) أخبار العصر (11). (5) نهاية الأندلس (174 - 188).

2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه وجلس أبو عبد الله محمد (1) مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ)، وأطاعته غرناطة ووادي آش وأعمالها، وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه، وكان أبو عبد الله يومئذ فتى في نحو الخامسة والعشرين (2). وكان فرديناند الخامس - عقب هزيمته أمام لوشة - قد سيّر جنده إلى مالقة لافتتاحها، وكانت أعظم الثغور الباقية بيد المسلمين. وكان النصارى يتوقون للاستيلاء عليها لإتمام تطويق الأندلس من الجنوب، ولكن المسلمين كانوا على أتمّ أهبة للدفاع عن هذا الثغر المنيع. واشتبك المسلمون والنصارى في عدة معارك دموية في الهضاب الواقعة فيما بين مالقة وبلش ( Velez) فهزم النصارى في كل مكان ورُدّوا بخسائر فادحة. وخرج الأمير محمد بن سعد (الزغل) في قواته من مالقة، ولقي النصارى على مقربة منها، ونشبت بين الطرفين معركة شديدة هُزِم فيها النصارى هزيمة ساحقة، وقُتِل وأُسِر منهم عدة آلاف بينهم كثير من الزعماء والأكابر (صفر 888 هـ - آذار - مارس 1483 م) (3). وتعرف هذه المعركة (بالشرقية) لوقوعها في المنطقة المسماة بذلك في شرق مالقة، وكان منظم هذا الدفاع الباهر كله أبو عبد الله "الزغل". وكان لانتصار المسلمين أعظم وقع في جنبات الأندلس، فانتعشت الآمال، وسرت الحماسة في كل مكان، وهبّت على غرناطة روح جديدة من _______ (1) يعرف السلطان أبو عبد الله في الرواية القشتالية والإفرنجيّة بوجه عام بإسم: ( Boabdil) محرّفاً عن أبي عبد الله. وتورد الوثائق القشتالية الرسمية المتعلّقة بسقوط غرناطة اسمه على النحو التالي: Muley Boaudili Boudili Beaudili، ويورد مارمول اسمه مصحّحاً Abi Abdili, Abi Abdala, Abdilehi (2) يشير المؤرخ المصري عبد الباسط بن خليل إلى هذا الانقلاب، ويندد بسلوك سلاطين غرناطة في الوثوب بعضهم على بعض بقوله: "وهو غالب عادتهم بتلك البلاد، مع الآباء والأولاد، بل والأجداد، أنظر Al Andalus; Vol. 1. 1933; Fase. 2 (3) أخبار العصر (13).

الاستبشار والنصر. واعتزم ملك غرناطة الفتى أبو عبد الله محمد، أن يحذو حذو عمِّه الباسل في الجهاد والغزو، وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب هزيمتهم، فخرج في قواته في شهر ربيع الأول سنة (888 هـ - نيسان - أبريل 1483 م) متجهاً نحو قرطبة، واجتاح في طريقه عدداً من الحصون والضياع، وهزم النصارى في عدة معارك محلية، ثم ارتد مثقلاً بالغنائم. وفي طريق العودة، أدركه النصارى في ظاهر قلعة اللّسانة ( Luccena) (1) وكان يزمع حصارها. ونشبت بين الطرفين معركة هائلة ارتدّ فيها المسلمون إلى ضفاف نهر شنيل، وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان من بين الأسري السلطان أبو عبد الله نفسه (2)، عرفه الجند النصارى بين الأسرى أو عرّفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه، فأخذوه إلى قائدهم الكونت دى كابرا (قبره) فاستقبله بحفاوة وأدب، وأنزله بإحدى الحصون الغربية تحت حراسة مشددة، وأخطر في الحال ملكي قشتالة بالنبأ السعيد، فأمر فرديناند أن يؤتى بالأسير الملكي إلى قرطبة، وأن يستقبل استقبال الأمراء، فأُخذ أبو عبد الله وأصحابه إلى قرطبة في حرس قوي، واحتشد أهل قرطبة لرؤية موكب الملك المسلم، وكان أبو عبد الله يرتدي ثوباً من القطيفة السوداء، ويمتطي حصاناً أسود عليه سرج ثمين، وكان وجهه يشعّ كآبة. وأُخذ الملك الأسير أولاً إلى دار الأسقف المواجه للمسجد الجامع، ثم أُخذ بعد ذلك إلى إحدى القلاع الحصينة، وعومل هناك بإكرام وحفاوة، وأقام في أسره مكتئباً ينتظر يوم الخلاص. وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، وقد مزّقتهم الهزيمة وفتَّت في عزائمهم، فارتاعت العاصمة لهذه النكبة واضطرب الشعب، وساء الوجوم قصر الحمراء، وسرى الحزن إلى حرم الأمير وقرابته، ولم يحتفظ فيها _______ (1) هي بلدة صغيرة حصينة تقع اليوم في نطاق ولاية قرطبة، جنوب شرقي مدينة قرطبة. (2) أخبار العصر (14)، ويصف عبد الباسط بن خليل المصري في حولياته، هذه المعركة: "بالكارثة العظمى والداهية الطما".

بهدوئه وسكينته سوى أمّه الأميرة عائشة. واجتمع الأمراء والكبراء والقادة، وقرروا استدعاء أبي الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش مكان ولده الأسير، ولكن أبا الحسن كان قد هدَّه الإعياء والمرض، وفقد بصره، ولم يستطع أن يضطلع بأعباء الحكم طويلاً، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبي عبد الله (الزغل) حاكم مالقة، وارتدّ إلى المنكب فأقام بها حيناً حتى توفى (890 هـ - 1485 م)، وجلس الزغل على العرش يدير شئون المملكة، وينظم الدفاع عن أطرافها. أما السلطان أبو عبد الله محمد، فلبث يرسف في أسره عند النصارى. وأدرك ملكا قشتالة في الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذا يدبّران أفضل الوسائل للاستعانة به في تحقيق مآربهما في مملكة غرناطة، وبعد إمعان البحث والتدبير، رُؤِيَ أن يُفرج عن الملك الأسير لقاء أفضل الشروط التي يمكن الحصول عليها، لأن هذا الإفراج من شأنه أن يزيد في اضطرام الحرب الأهلية بين المسلمين، وأن يعاون بذلك في إضعاف قواهم والتمهيد لسحقهم. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده، ويأمن شرّه ومنافسته، وعرض على فرديناند نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرديناند وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين. وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة، ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها. وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سريّة تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرديناند وزوجه الملكة ايزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلاً من الذهب، وأن يفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة، يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك في كل عام سبعين أسيراً لمدة خمسة

أعوام، وأن يقدِّم ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضماناً بحسن وفائه، وتعهد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فوراً، وألاّ يكلّف في حكمه بأي أمرٍ يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه من مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين، من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير (1). وتختلف الروايات في تاريخ الإفراج عن أبي عبد الله محمد، فتقول بعض الرويات المعاصرة: إنه أفرج عنه لأشهر قلائل من أسره في أوائل (أيلول - سبتمبر 1483 م)، ولكن هناك رواية أخرى تقول بأنه استمر في الأسر أكثر من عامين، وإنه لم يفرج عنه إلا في أواخر سنة (1485 م) أو أوائل سنة (1486 م) (2). وهذه رواية يؤيدها صاحب أخبار العصر، إذ يقول: إن العدو أطلق سراحه في أواخر سنة (890 هـ- 1485 م) عقب انتصار المسلمين على النصارى في موقعة مكلين (3)، هذا فضلاً عن أنه يذكر لنا أن أبا عبد الله قد أُسر في موقعة أخرى هي موقعة لوشة، كما سيأتي وأنه لم يفرج عنه إلاّ في أواخر سنة (891 هـ - 1486 م) (4). وعلى أي حال، فقد أُفرج عن أبي عبد الله بعد أن أخذ عليه ملكا قشتالة سائر العهود والمواثيق التي تكفل لهما تحقيق سياسة قشتالة في القضاء على مملكة غرناطة، وبعد أن أتى بالرهائن المشترط تسليمهم. وسار أبو عبد الله وصحبه الذين قدموا لمرافقته، ومعه سرية من الجند القشتاليين، إلى بعض الحصون الشرقية النائية التي قامت ................................... _______ (1) أورد المستشرق M. Gaspar y Reniro في كتابه Arabes de la Corte Nazari de Granada (2) Gaspar Y Remero ; ibid ; P. 27. (3) أخبار العصر (18). (4) أخبار العصر (21 - 22).

بدعوته (1). ولم يك شك في أن عقد مثل هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، وقد وضع فرديناند برنامجه المحكم لكي يستغلّ أسر ملك غرناطة ويستعين به على تنفيذ برنامجه المدمّر. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإدارة، قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتع بشيءٍ من الخلال الباهرة التي امتاز بها أسلافه وأجداده العظام من بني الأحمر. وكان الملك والحكم غايته، يبتغيها بأي الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف الطموح، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى. وسيَّر ملك قشتالة في نفس الوقت قواته في أنحاء مملكة غرناطة لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية. وزحف القشتاليون على منطقة الغربية (غربي ولاية مالقة) في أوائل سنة (890 هـ) واستولوا على حصن قرطبة وحصن ذكوين وعدة حصون أخرى تقع شمال غربي مالقة في منتصف الطريق بينها وبين رندة، وبذلك عزلت مدينة رندة، وأصبح الطريق ممهّداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليون على رندة، وهي معقل الأندلس في قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتى هدمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغري زعيم قبيلة غمارة. ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلاً لعدم استعدادها للدفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقي الإمداد السريع، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم، واستولى القشتاليون على رندة في (جمادى الأولى سنة 890 هـ - نيسان - أبريل 1485 م)، ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة في تلك المنطقة، وكان سقوط هذه المدينة الأندلسية التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل _______ (1) أخبار العصر (18).

وسيلة للدفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليون بذلك يهددون ثغر مالقة من الغرب (1). وحاول القشتاليون بعد ذلك مهاجمة حصن مكلين الواقع شمال غربي غرناطة، وكان به الأمير أبو عبد الله الزغل في قوة من الغرناطيين ليصلح أسواره ويتم تحصينه. ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان القشتاليون بقيادة الكونت دي قبرة الظافر في معركة اللّسانة، وكادت الدائرة تدور في البداية على المسلمين، ولكنهم بذلوا جهد المستميت بقيادة أميرهم الباسل، وانتهت المعركة بأن رُدّ النصارى بخسائر فادحة في الرجال والعُدد (شعبان سنة 890 هـ - تموز - يوليه 1485 م)، وعاد الأمير وجنده إلى غرناطة (2). ولكن كان من سوء الطالع، أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى نشبت في غرناطة حرب أهلية جديدة. وكان الملكان الكاثوليكيان قد أطلقا سراح أبي عبد الله في تلك الآونة بالذات، بعد أن وقّع معاهدة الخضوع والطاعة كما ذكرنا، والواقع أن الحرب الأهلية كانت تضطرم في الأندلس خلال أسر أبي عبد الله، وكان الزغل بعد أن تربّع على عرش غرناطة، يحاول استخلاص الأندلس كلها لنفسه، وكان الأمير يوسف أبو الحجاج شقيق أبي عبد الله، قد استقر في ألمرية يحاول منازعة عمّه الزغل، فسار الزغل إلى ألمرية، وثار بها أنصاره، وغلبوا على خصومهم، وفتحوا له أبواب المدينة، وقُتل يوسف أثناء ذلك. ويقال: إن قتله كان بوحي من أبيه أبي الحسن أو عمّه الزغل. وما كاد الزغل يعود إلى غرناطة، حتى اضطرمت الفتنة من جديد. وكان أبو عبد الله حينما أُطلق سراحه قد سار إلى بعض الحصون الشرقية، فقامت بدعوته، وكان يشيد بمزايا الصلح المعقود مع ملكي قشتالة، وأنه يضمن للمسلمين الاستقرار والسلم، وأنه يطبق في سائر الأنحاء التي تدخل في طاعته، وكان قد سار إلى منطقة .................................................... _______ (1) أخبار العصر (15). (2) أخبار العصر (17).

بلش (1) في شرقي بسطة، وأعلن نفسه ملكاً من جديد. وكان من الواضح أن اضطرام الفتنة في غرناطة، في هذا الوقت بالذات، لم يكن بعيداً عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقام أهل ربض البيازين - وهو حي غرناطة الشعبي، الواقع في شمالها الشرقي تجاه مدينة الحمراء - بدعوة أبي عبد الله. وكان أهل البيازين دائماً، عنصراً من عناصر الاضطراب والشغب، وكان لهم دائماً ثورة وفتنة (2). وشُغِل ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل بإخماد هذه الفتنة الجديدة عن مقاتلة النصارى. وبذلك تحقق الغرض الذي يرمي إليه ملكا قشتالة، وكان ذلك في أوائل سنة (891 هـ - أوائل سنة 1486 م). واشتدت الفتنة، ونصب الزغل على البيازين المجانيق والأنفاط، ودافع أهل البيازين عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وكان أبو عبد الله خلال ذلك يبعث رسله إليهم، ويعدهم بمقدمه. وطالت هذه الفتنة أكثر من شهرين، ثم بدأت المفاوضة بين أبي عبد الله وبين عمِّه الزغل (ملك غرناطة) في عقد الصلح، وارتضى أبو عبد الله أن ينزل عن دعواه في العرش، وأن يدخل في طاعة عمه (3). وفي رواية أخرى أنهما اتفقا على تقسيم المملكة إلى قسمين، فيختص الزغل بحكم غرناطة ومالقة وألمرية وبلش مالقة والمنكب، ويختص أبو عبد الله بحكم الأنحاء الشرقية (4). وعلى أي حال، فقد انتهز ملك قشتالة، فرصة هذه الفتنة، للزحف على مدينة لوشة. وهنا تتفق الروايات الإسلامية والقشتالية، على أن أبا عبد الله، حينما علم بتهديد النصارى لـ (لوشة)، سار إليها وتحصّن بها، مع نخبة من _______ (1) المقصود هنا بمنطقة بلش بلدتا: بلش الحسناء ( Velez Rubio) وبلش البيضاء ( Velez Blanco) وكلتاها تقع على مقربة من الأخرى. في شمال شرقي مدينة بسطة. (2) أخبار العصر (18) ونفح الطيب (2/ 611)، وأنظر: Gaspar Y Remiro; ibid; P. 23-24 and 30 (3) أخبار العصر (16). (4) Gaspar Y Remiro; ibid. P. 24.

أنجاد الفرسان. وهاجم النصارى مدينة لوشة، وشدّوا الحصار عليها، وسلّطوا على أسوارها الأنفاط والعُدد، وأبدى المسلمون بسالة فائقة في الدفاع عن مدينتهم. وتقول الروايات القشتالية: إن أبا عبد الله بذل في هذا الدفاع مجهوداً عظيماً. وإنه جرح أثناء ذلك (1)، ولكن لم نعثر على ما يؤيد ذلك في الروايات الإسلامية. يكتفي صاحب أخبار العصر بالقول: بأن أبا عبد الله كان في لوشة وقت حصارها (2)، ويروي صاحب نفح الطيب على ذلك بأن أهل غرناطة أذاعوا بأن أبا عبد الله ما جاء للوشة إلاّ ليسلِّمها لملك قشتالة (3). وعلى أي حال، فإن بسالة المسلمين، في الدفاع عن لوشة، لم تغن شيئاً أمام القوة القاهرة، وفتك الأنفاط والعُدد الثقيلة، فاضطروا إلى التسليم، وذلك بالشروط التالية: أن يؤمَّن أهل لوشة الذين يرغبون في مغادرتها في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، وأن يسمح لمن يشاء منهم أن يعيش في قشتالة أو أراغون أو بلنسية بذلك، وأن تسلم المدينة إلى ملك قشتالة مع سائر الأسرى النصارى. ودخل القشتاليون لوشة في (26 جمادى الأولى سنة 891 هـ - مايس - مايو سنة 1486 م)، وسار معظم أهلها إلى غرناطة، بأمتعتهم وخيلهم وسلاحهم. وأما ما يتعلق بأبي عبد الله، فتقول الرواية القشتالية: إن موقفه في الدفاع عن لوشة، اعتبر منافياً لتعهداته للملكين الكاثوليكيين، ونكراناً لحسن الصنيعة، ومع ذلك فقد ارتضيا الصّفح عنه، وأن يسمح له بالاحتفاظ بلقب ملك غرناطة، وأن يمنح لقب: "صاحب وادي آش"، إذا استطاع أن يستولي عليها، وإذا أراد الالتجاء إلى قشتالة، فإنه يسمح له أن يعيش هناك آمناً على نفسه، وإن شاء العبور إلى المغرب أمدّه ملك قشتالة بوسائل الانتقال (4). _______ (1) Gaspar. Y Remiro; ibid, P. 32 (2) أخبار العصر (19). (3) نفح الطيب (2/ 611). (4) Gaspar Y Remiro; ibid, P. 32

على أننا نرى - على ضوء الرواية الإسلامية، وسير الحوادث أيضاً، وتحيّز ملكي قشتالة لأبي عبد الله دون مسوِّغ - أن موقف أبي عبد الله من حوادث لوشة كان موقفاً مريباً. والواقع أنه كان يبذل جلّ جهده للدعوة إلى قضيته، وإلى مقاومة عمّه ونزعه عن العرش. وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً أنه كان يستظلّ بمظاهرة النصارى وتأييدهم، وأنه غدا آلة في يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه (1)، فهو عميل للأجنبي كما يبدو. ولما غادر ملك قشتالة لوشة، أخذ معه أبا عبد الله إما أسيراً - حسبما يذكر صاحب أخبار العصر - أو أنه سار معه ليستمدّ عونه في تنفيذ خطته للاستيلاء على عرش غرناطة، وهي خطة يؤيدها ملك قشتالة ويشجعها، لأنها تخدم أغراضه ومطامعه في القضاء على تلك المملكة الصغيرة التي مزّقتها الحرب الأهلية. ولم يُغفل فرديناند تلك الفرصة الذهبية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أراضي مملكة غرناطة، فبينما الحرب الأهلية تضطرم في العاصمة وحولها، إذ سار النصارى إلى حصن إلورة الواقع شمال غربي غرناطة، وحاصروه وضربوه بالأنفاط حتى اضطروا أهله إلى التسليم والخروج عنه، ثم سار إلى حصن مكلين الواقع شمال شرقي إلورة وهاجموه. ونشبت بينهم وبين المدافعين عنه معركة عنيفة، انتهت بتحطيم أسواره بفعل الأنفاط واستيلائهم عليه، وخروج أهله عنه إلى غرناطة. ثم استولى النصارى بعد ذلك على حصن قلمبرة الواقع شرقي مكلين بالأمان (2)، إذ رأى أهله ما نزل بغيرهم، ففضّلوا التسليم دون قتال. واستولوا بعده على سلسلة أخرى من _______ (1) نهاية الأندلس (196). (2) حصن إلورة أو بلدة إلورة: هي بالإسبانية Illora، وموكلين أو مكلين هي بالإسبانية Maclin، وقلمبرة هي Colomera، وهي اليوم من بلاد منطقة غرناطة الشمالية الغربية.

القلاع والحصون التي تحمي مشارف غرناطة، وأصلحوها وشحنوها بالرجال والمؤن، لتؤدي دورها فيما بعد في التضييق على العاصمة وتهديدها (1). وهنا نقف قليلاً لنتساءل عن حقيقة هذه "الأنفاط" التي توالى ذكرها في سير هذه المعارك، خاصة في لوشة ورندة والحصون المجاورة، والتي كانت فيما يبدو عمدة النصارى في التفوق على المسلمين في تحطيم تلك الحصون القوية. وقد أشارت الرواية الإسلامية عن سقوط غرناطة إلى الأنفاط، وهي رواية صاحب أخبار العصر، وهي التي كتبها بعد وقوع تلك الأحداث بنحو نصف قرن فقط، وكان شاهداً ومشاركاً فيها، إلى تلك الأنفاط في عدة مواضع، ثم وصفها لنا بهذا الوصف: "وكان له (أي ملك قشتالة) أنفاط يرمى بها صخوراً من نار، فتصعد في الهواء، وتنزل على الموضع، وهي تشتعل ناراً، فتهلك كل مَن نزلت عليه وتحرقه، فكان ذلك من جملة ما كان يخذِّل في أهل المواضع التي كان ينزل فيها" (2). ونحن نعرف أن مسلمي المشرق كانوا منذ أيام الحروب الصليبية، يحذقون استعمال الرمي بالنار والأنفاط، وأن هذه النار كانت ترمى من آلات قاذفة تعرف بالحراقات، على معسكرات العدو وحصونه وسفنه في البحر فتفتك بها. وقد لعبت هذه النار دوراً مهماً في الحروب الصليبية، وألفت فيها مصر سلاحاً منيعاً لردّ عدوان الصليبيين وتمزيق حملاتهم. والظاهر أن هذا السلاح الذي استأثر به المسلمون مدى حين في الشرق، قد عرفه مسلمو إفريقية والأندلس منذ منتصف القرن السابع الهجري، واستعملوه في محاربة أعدائهم نصارى إسبانيا. ففي حصار لبلة (655 هـ - 1257 م) استعمل الموحّدون لدفع جيوش الفونسو العاشر ملك قشتالة، آلات تقذف حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد. وقد كان استعمال هذه النار أو الأنفاط الفتاكة يتطوّر بلا ريب مع العصور. ومنذ منتصف القرن الثامن الهجري _______ (1) أخبار العصر (22). (2) أخبار العصر (22).

(الرابع عشر الميلادي) نرى مسلمي الأندلس يستعملون لمقاتلة النصارى آلات تقذف اللهب والحجارة، ويصحبها دوي مخيف (1). وظهرت براعة الأندلسيين في استعمال هذه الآلات في عدّة مواقع. ففي حصار بياسة سنة (724 هـ - 1324 م) في عهد السلطان أبي الوليد إسماعيل، أطلق المسلمون على المدينة الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع، واستعملت مثل هذه الآلات في موقعة وادي لكُّهُ (ريو سليتو) سنة (740 هـ - 1340 م)، وفي الدفاع عن الجزيرة سنة (742 هـ - 1342 م) وذلك في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف. والظاهر من وصف هذه الآلات أنها كانت نوعاً من المدافع السّاذجة التي تُحشى بالحديد والحجارة وبعض المواد الملتهبة، التي كانت فيما مضى عماد الحرّاقات أو الأنفاط الشرقية. وليس بعيداً أن يكون مسلموا الأندلس قد وفِّقوا في هذا العصر أيضاً إلى العثور على سرّ البارود، قبل أن يقف على سرِّه القس الألماني برتولد شفارتز في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. ومن المرجّح أن النصارى الإسبان قد نقلوا سرّ الأنفاط عن مسلمي الأندلس وحذقوا في استعمالها مع الزمن. ولما غلب الضعف على مملكة غرناطة تضاءلت نشاطاتها الدفاعية، ونقصت مواردها من السلاح والذّخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت معظم قواعدها الصناعية. بيد أنه من المحقق أن المسلمين كانوا يستعملون الأنفاط أيضاً في محاربة أعدائهم، وإن يك ذلك بنسبة صغيرة تتفق مع ضآلة مواردهم. أما القشتاليون فقد كانت لديهم الأنفاط بكثرة، وكانت السلاح المفضّل في مهاجمة القواعد والحصون الإسلامية. وهناك ما يدل على أن هذه الأنفاط التي كان يستعملها القشتاليون لم تكن سوى المدفع في صورته البدائية، فالرواية الغربية تحدثُنا عن اهتمام ملك قشتالة بصنع "المدافع" لمحاربة المسلمين، وتقول لنا: إن هذه المدافع كانت تصنع في مدينة وشقة، وإنّ كميات كبيرة من القنابل الخاصة بها كانت _______ (1) مواقف حاسمة - ط3 (108 - 109).

تضع في جبال قسنطينة (1)، وتحدثنا الرواية الإسلامية المعاصرة عن البارود، وتقول: إن النصارى حينما نشبت الثورة في ربض البيازين، أمدّوا فريقاً من الثوار بالرجال والأنفاط والبارود (2) إذكاءً منهم للفتنة بين المسلمين. وهكذا نرى أن الأنفاط التي تنوّه الرواية الإسلامية بفتكها بحصون المسلمين وصفوفهم في معارك غرناطة، إنما هي المدافع بذاتها، وأن تفوق القشتاليين في استعمال هذا السلاح كان له أعظم الأثر في التعجيل بإخضاع مملكة غرناطة والقضاء عليها. ولنعد إلى قصة الحرب الأهلية في غرناطة، فقد ثار أهل البيازين - كما ذكرنا بتحريض من دعاة أبي عبد الله وأمّه الأميرة عائشة - والتفَّ معظم الشعب الغرناطي حول أميره أبي عبد الله الزغل، واستمرت المعارك سجالاً بين الفريقين مدى أشهر، وفي أثناء ذلك استولى النصارى على لوشة وعلى كثير من الحصون الشمالية الغربية. وسار أبو عبد الله بعد سقوط لوشة مع ملك قشتالة، ولم يمض سوى قليل حتى عاد إلى الأنحاء الشرقية، إلى منطقة بلش، وأخذ يدبّر خططه. وفي أوائل شوال (891 هـ - أيلول - سبتمبر 1486 م) غادر أبو عبد الله محمد الأنحاء الشرقية، وظهر فجأة في ربض البيازين. واجتمع حوله أنصاره من الثوار، وأذاع أنه عقد الصلح مع النصارى، وأمدّه حليفه فرديناند بالرجال والعُدد والذخائر والمؤن، ومنها الأنفاط (3)، فزادت الفتنة اضطراماً. وشدَّد أبو عبد الله الزغل الضغط على أهل البيازين، وبينما هو على وشك تمزيقهم وإبادتهم، إذ بلغه أن ملك قشتالة قد سيَّر قواته على مدينة بلش مالقة ( Velez Malaga) وذلك في (ربيع الثاني سنة 892 هـ - آذار - مارس 1487 م) (4)، وكان من الطبيعي أن ينتهز فرديناند _______ (1) Sierra Constantina وراجع Prescott; ibid; 223 (2) أخبار العصر (24). (3) Gaspar Y Remiro ; ibid; P. 42 (4) أخبار العصر (22 - 24) ونفح الطيب (2/ 612).

بداية النهاية

الخامس فرصة اشتغال المسلمين بفتنتهم القاضية، وكانت بلش حصن مالقة، وسقوطها يعرّض مالقة لأشد الأخطار. وأدرك مولاي الزغل في الحال أهمية بلش، فهرع إليها في بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبي عبد الله محمد وأهل البيازين. ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل بلش في الدفاع عن مدينتهم لم تُغن شيئاً، وسقطت بلش مالقة بيد النصارى في (جمادى الأولى سنة 892 هـ - نيسان - أبريل 1487 م) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة. ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبي عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (5 جمادى الأولى - 28 نيسان - أبريل). وكان أهل غرناطة يحبّون الزغل، ويقدِّرون بطولته وحبه لوطنه، واستبساله في مقاومة النصارى، ولكنهم تحولوا عنه إلى تأييد أبي عبد الله لمحالفته للنصارى، وأملهم بذلك في اتِّقاء عدوانهم على أرباضهم وقراهم، وصون أنفسهم ومصالحهم، وهكذا أيقن الزغل عبث المحاولة، وارتدّ بصحبه إلى وادي آش، وامتنع فيها بقواته، وبذلك انقسمت مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين، يتربّص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها يحكمها أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن، ووادي آش وأعمالها يحكمها عمّه الأمير محمد بن سعد (أبو عبد الله الزغل). وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة، من تمزيق البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيداً للقضاء عليها (1). بداية النِّهاية 1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً تبوّأ أبو عبد الله محمد بن السلطان علي أبي الحسن عرش غرناطة للمرة _______ (1) نهاية الأندلس (174 - 200).

الثانية، عقب عوده من الأسر بنحو عام، ولكنّه لم يكن يحكم تلك المرة سوى مملكة صغيرة، وكان المفروض فوق ذلك أن يحكمها باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وكانت الخطوب والفتن توالت على مملكة غرناطة قد مزّقتها، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى بضع مدن وقواعد متناثرة، مختلفة الرأي والكلمة، ينضوي بعضها تحت لوائه، وتشمل الأنحاء الشمالية والغربية، وينضوي بعضها الآخر تحت لواء عمّه محمد بن سعد (الزغل)، وتشمل الأنحاء الشرقية والجنوبية. وكان واضحاً أن مصير المملكة الإسلامية أصبح يهتزّ بيد القدر، بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، مثل الحامة ورندة ولوشة وبلش مالقة وغيرها. وكان ملك قشتالة يحرص على المضي في تحقيق خططه لسحق البقية الباقية من دول الإسلام في الأندلس، قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديدة من العزم والمقاومة. وكان من الطبيعي أن يُؤثِر البدء بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل، لأن الزغل لم يكن يدين بطاعته، وكان يبدي في مقاومته عزماً لا يلين ولا يخبو، ولأنه من جهة أخرى يرتبط بأمير غرناطة بصلح يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، وأخيراً لأنه كان يريد أن يعزل غرناطة، وأن يطوّقها من كل صوب، قبل أن يسدّد إليها الضربة الأخيرة. وقد رأينا كيف سقطت قاعدة بلش حصن مالقة من الشرق في يد النصارى، بعد دفاع عنيف (في جمادى الأولى سنة 892 هـ - أيار - مايو 1487 م). وعلى أثر سقوطها غادرها معظم أهلها، وتفرّقوا في أنحاء الأندلس الأخرى الباقية بيد المسلمين، وجاز كثير منهم إلى عدوة المغرب، واستولى النصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة، ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كل صوب. وكانت مالقة ما تزال أمنع ثغور الأندلس، وقد أضحت بعد سقوط

جبل طارق عِقْد صلتها الأخيرة بعدوة المغرب، وكان فرديناند يحرص على أن يقطع كل وسيلة ناجعة لقدوم الإمداد من إفريقية وقت الصراع الأخير، وكان الاستيلاء على مالقة يحقق هذه الغاية، ومن ثمَّ فإنه ما كاد النصارى يظفرون بالاستيلاء على بلش والحصون المجاورة، حتى زحفوا على مالقة وطوّقوها من البر والبحر بقوات كثيفة، وذلك (في جمادى الثانية سنة 892 هـ - حزيران - يونية 1487 م). وامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين، وعلى رأسهم نخبة ممتازة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعُدد الثقيلة. وكانت مالقة تدين بالطاعة للأمير محمد بن سعد (الزغل) صاحب وادي آش، ولكنه لم يستطع أن يسير إلى إنجادها بقواته خوفاً من غدر ابن أخيه أمير غرناطة، فترك مالقة إلى مصيرها وهو يذوب تحسّراً وأسىً. ولكنه فكر في وسيلة أخرى لعلّها تجدي في إنقاذ الأندلس من خطر الفناء الداهم، وهي أن يستغيث بملوك الإسلام لآخر مرة، فأرسل رسلاً إلى أمراء إفريقية وإلى سلطان مصر الأشرف قايتباي. ولم يكن من المنتظر إزاء بعد المسافة أن تصبر مالقة على ضغط النصارى حتى يأتيها المدد المنشود. وكان يتولى الدفاع عن الثغر المحصور جند غمارة وزعيمهم حامد الثّغري. وأبدى المسلمون في الدفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد، وحاولوا غير مرّة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنصارى في بضع مواقع محليّة، ومع ذلك فقد ثابر النصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتى قطعت كل علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الإمداد والأقوات، وعانى المسلمون داخل مدينتهم أهوال الحصار المروّع، واستنفدوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، وأكلوا الجلود وأوراق الشجر، وفتك بهم الجوع والإعياء والمرض، ومات كثيرون من أنجاد فرسانهم، ولم يجدوا لهم في النهاية ملاذاً سوى التسليم، على أن يؤمِّنوا على أنفسهم وأموالهم. وهكذا سقطت مالقة - بعد دفاع مجيد استمر ثلاثة أشهر - في أيدي النصارى، وذلك (في أواخر شعبان 892 هـ - 18 آب

- أغسطس 1487 م). ولم يحافظ فرديناند على ما بذله لأهلها من عهود لتأمين النفس والمال، وأصدر قراراً ملكياً باعتبار أهلها المسلمين رقيقاً يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتعهم. ويفرض على كل مسلم أو مسلمة مهما كان السن والظروف، الأحرار منهم والعبيد الذين في خدمتهم، فدية للنفس والمتاع، قدرها ثلاثون دوبلاً من الذهب الوازن اثنين وعشرين قيراطاً، أو ما يوازي هذا القدر من الذهب والفضة واللآلئ والحلي والحرير، وأنه يسمح لمن أدّوا هذه الفدية، إذا شاءوا بالعبور إلى المغرب، وتقدّم لهم السفن لنقلهم، وأنه لا يسمح للمسلمين ذكوراً وإناثاً بالعيش أو الإقامة في مملكة غرناطة. ولكن يسمح لهم أن يعيشوا أحراراً آمنين في أية ناحية من نواحي قشتالة، وأنه لا يتمتع بهذه المنح بنو الثغري وزوجاتهم وأولادهم، وبعض أفراد أشار إليهم القرار (1). ودخل النصارى المدينة دخول الفاتحين، وعاثوا فيها وسَبَوْا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والمتاع، وفرّ مَن استطاع من المسلمين إلى غرناطة أو وادي آش أو جاز إلى العدوة. وكان هذا النموذج من التصرف نموذجاً لما يضمره ملك النصارى نحو معاملة المسلمين المغلوبين، ولِما تنطوي عليه سياسته من نكث للوعود والعهود. وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة في وصف محنة أهل مالقة: "وكان مصابهم مصاباً عظيماً تحزن له القلوب، وتذهل له النفوس، وتبكي لمصابهم العيون" (2). ولنعد لقصة السفارات التي أوفدها أبو عبد الله الزغل إلى ملوك إفريقية ومصر والقسطنطينية يستغيث بهم، ويلتمس نجدتهم ونصرتهم. والتجاء الأندلس إلى ملوك العدوة في طلب الغوث والنجدة أمر طبيعي، وتقليد _______ (1) هذا ما ورد ضمن محفوظة بدار المحفوظات الإسبانية العامة Archivo general de Simancas; P. R. 11-5 (2) أخبار العصر (27 - 28).

أندلسي قديم، ولكن دول المغرب كانت يومئذ في ضعف وتفرّق، لم تكن في استطاعتها أن تهرع إلى إنجاد الأندلس، كما فعلت في الماضي غير مرّة. ولم يُلب نداء مولاي الزغل، سوى شراذم ضئيلة من المجاهدين المتطوعين، جازت البحر إلى الأندلس. وأما استغاثة الأندلس بمصر، فلم تقع إلاّ في عهد متأخر، وذلك حينما ضعف أمر بني مرين ملوك العدوة الأقوياء، وانقطعوا عن العبور إلى الأندلس، وشغلوا بأمر الدفاع عن أنفسهم. وقد بعث السلطان أبو عبد الله الأيسر سفارة إلى مصر سنة (844 هـ - 1440 م) لم تسفر عن أية نتائج عملية. على أنه لم يكن ثمة ريب في أن الحوادث الأندلسية المفجعة، كانت قد ذاعت يومئذ في أنحاء العالم الإسلامي، واهتزّ لمصابها حكام المسلمين قاطبة، وكان صداها يتردد في بلاط القاهرة وغيره، وكان أمراء الأندلس وزعماؤها مذ لاح لهم شبح الخطر الداهم، يتّجهون بأبصارهم إلى دول المغرب والمشرق معاً، وكانت كتبهم ونداءاتهم في تلك الآونة العصيبة تترى على مراكش والقاهرة والقسطنطينية. وفي مصادر العصر ما يدل على أن مصر كانت بنوع خاص تتابع حوادث الأندلس باهتمام وجزع، فإن ابن إياس مؤرخ مصر في ذلك العصر، لم يفته أن يدوِّن في حولياته هذه الحوادث تباعاً، فيقول في حوادث ذي الحجة سنة (886 هـ - 1481 م): "وفيه جاءت الأخبار من بلاد الغرب أن أبا عبد الله محمد بن أبي الحسن بن علي ابن سعد بن الأحمر، قد ثار على أبيه الغالب بالله صاحب غرناطة وملكها من أبيه، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، وآل الأمر بعد ذلك إلى خروج الأندلس عن المسلمين، ومَلَكَها الفرنج، والأمر لله في ذلك". وفي حوادث رجب سنة (890 هـ - 1485 م): "وفي رجب جاءت الأخبار بوفاة ملك الأندلس صاحب غرناطة، وهو الغالب بالله أبو الحسن". وفي حوادث جمادى الآخرة سنة (891 هـ - 1486 م): "إن صاحب غرناطة أبا عبد الله توجه إلى عمه أن يرسل له نجدة تعينه في قتال صاحب قشتالة، وإن الفتن هناك قائمة،

والأمر لله" (1). وهكذا كانت حوادث الأندلس تتردد رغم بعد المسافة وصعوبة المواصلات في مصر، ويدوّنها مؤرخ مصر المعاصر، وإن كان في إيرادها ما تنقصه الدقة والوضوح. وكانت مصر ترتبط يومئذٍ مع ثغور الأندلس ولا سيما مالقة وألمرية بعلائق تجارية وثيقة، وكان لمصر هيبتها بين دول النصرانية منذ الحروب الصليبية، وبالأخص لأنها تحكم البقاع النصرانية المقدسة وبين رعاياها الملايين من النصارى. ولم يكن غريباً في تلك الآونة، أن تُفكّر الأندلس إبّان محنتها القاسية مرة أخرى، في الاستعانة بمصر، بعد أن رأت قصور الدول المغربية عن إنجادها. وكان من الطبيعي أن تهتم دول الإسلام بمصير المسلمين في الأندلس، وأن تفكّر في التماس السبيل إلى غوثهم إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ولا تشير المصادر الإسلامية إلى فكرة أو سياسة معيّنة، وضعتها أو اعتزمتها الدول الإسلامية لتحقيق هذه الغاية، ولكنها تشير فقط إلى سفارة أندلسية وفدت على بلاط مصر. على أن المصادر الغربية، تشير بالعكس إلى أن خطة كهذه قد وضعت ونظمت، وخلاصتها: أن المشرق كله اهتزّ لحوادث الأندلس وسقوط قواعدها السريع في يد النصارى، وأن بايزيد الثاني سلطان العثمانيين والأشرف قايتباي سلطان مصر، تهادنا مؤقتاً بالرغم مما كان بينهما من خصومات مضطرمة وحروب دموية، وعقدا محالفة لإنجاد الأندلس وإنقاذ دولة الإسلام فيها، ووضعا لذلك خطة مشتركة خلاصتها: أن يرسل بايزيد الثاني أسطولاً قوياً لغزو صقلية التي كانت يومئذ من أملاك إسبانيا، ليشغل بذلك اهتمام فرديناند وإيزابيلا، وأن تبعث سرايا كثيرة من الجند من مصر وإفريقية تجوز البحر إلى الأندلس لتنجد جيوشها وقواعدها (2). ومن الصعب أن نعتقد بأن مثل هذه الخطة الموحّدة، يمكن أن يتّفق عليها بين مصر والقسطنطينية، في مثل الظروف التي كانت تمرّ بها علائق البلدين يومئذٍ، فقد كانت علائق جفاء _______ (1) أنظر ابن إياس - تاريخ مصر (بولاق) - (2/ 216 و 230 و 237). (2) أنظر: Irving: Conquest of Granada , P. 172

وقطيعة، وكان العثمانيون يتربصون بمصر ويطمحون إلى غزوها، وكانت مصر تخشى العدوان ويسودها التوجّس والحذر، وكان انفصام العلائق بين مصر والعثمانيين على هذا النحو، أبعد من أن يسمح بعقد مثل هذا التحالف بينهما، وكل ما يمكن قوله في هذا الشأن، هو أن فكرة إنجاد الأندلس كانت تلقى في بلاط القاهرة والقسطنطينية نفس العطف، وإن لم يتفاهما في ذلك على خطة موحدّة. وعلى كل حال، فمن المحقق الذي لا ريب فيه أن مصر تلقت استغاثة الأندلس، ووضعت خطة سياسية خاصة لإسعافها وإنجادها. وقد وصلت سفارة الأندلس إلى مصر في أواخر سنة (892 هـ - 1487 م)، ويصف ابن إياس هذه السفارة بما يأتي: "وفي ذي القعدة من سنة (892 هـ) جاء قاصد من عند ملك المغرب صاحب الأندلس، وعلى يده مكاتبة من مُرْسِلِه تتضمن أن السلطان يرسل له تجريدة تعينه على قتال الفرنج، فإنهم أشرفوا على أخذ غرناطة، وهو في المحاصرة معهم، فلما سمع السلطان ذلك، اقتضى رأيه أن يبعث إلى القسوس الذين بالقيامة التي بالقدس بأن يرسلوا كتاباً على يد قسيس من أعيانهم، إلى ملك الفرنج صاحب نابولي، بأن يكاتب صاحب إشبيلية بأن يحل عن أهل غرناطة ويرحل عنهم، وإلاّ يشوّش السلطان على أهل القيامة، ويقبض على أعيانهم، ويمنع جميع طوائف الفرنج من الدخول إلى القيامة ويهدمها، فأرسلوا قاصدهم وعلى يده كتاب إلى صاحب نابولي كما أشار السلطان، فلم يفد ذلك شيئاً، وملك الفرنج مدينة غرناطة فيما بعد" (1). وفي رواية ابن إياس شيء من اللّبس، ذلك أن حصار النصارى الأخير لغرناطة، لم يبدأ إلاّ في مارس سنة (1491 م) الموافق جمادى الثانية سنة (896 هـ)، فالأمر لم يكن متعلّقاً إذاً بإنقاذ غرناطة. وكانت جيوش فرديناند وإيزابيلا منذ بداية سنة (892 هـ) تتدفق كما رأينا على أراضي مولاي الزغل لكي تنتزع منه _______ (1) تاريخ مصر (2/ 246).

الثغور الجنوبية. وقد استولت على بلش مالقة في جمادى الأولى من هذا العام (أيار - مايو - 1487 م)، ثم زحفت مباشرة على مالقة وضربت حولها الحصار في جمادى الثانية (حزيران - يونيه 1487 م)، وقد وصل صريخ الأندلس إلى مصر سنة (892 هـ)، وذلك بعد أن سقطت مالقة في يد النصارى بنحو ثلاثة أشهر. وإذاً فمن الواضح أن هذا الصريخ كان متعلّقاً بإنقاذ مالقة، وأنه كان صادراً من مولاي الزغل بطل الأندلس والمدافع عنها يومئذٍ، والمشفق عليها من السقوط، ولم يصدر من صاحب غرناطة وهو ابن أخيه أبو عبد الله محمد، وقد كان يومئذٍ يعيش آمناً في ظل الهدنة الغادرة التي عقدها مع النصارى. ولم يكن من الميسور على مصر أن تلبي نداء الأندلس بطريقة فعالة، فترسل إليها الإمداد أو المساعدات المادية على ما بينهما من بعد الشقة، وعلى ما كان يشغل مصر يومئذٍ من الحوادث الداخلية، وتوجّسها من عدوان العثمانيين على حدودها الشمالية. ولكن مصر حاولت مع ذلك أن تعاون الأندلس بالطرق السياسية والضغط السياسي، وسلك بلاط القاهرة في ذلك خطة تدل على ذكاء وحزم، وتدل خاصة على وقوف على مجرى الشئون الخارجية، وتطور العلائق الدبلوماسية في هذا العصر (1). وأرى أن مصر لم تقم بواجبها كما ينبغي، وأنها أسوة بغيرها كانت مشغولة بمصالحها الذاتية وحدها، وكان بالإمكان أن تعين الأندلسيين مادياً ومعنوياً، ولكنها اكتفت بالتمني وبما لا يضر ولا يفيد وبالكلام وحده. فقد أجاب سلطان مصر الملك الأشرف على سفارة الأندلس، بتوجيه سفارة مصرية إلى البابا وملوك النصرانية، واختار لأدائها راهبين من رعاياه النصارى، أحدهما القس انطونيو ميلان رئيس دير القديس فرنسيس في بيت المقدس وعهد إليهما بكتب إلى البابا، وهو يومئذ إنوصان الثامن، وإلى ملك _______ (1) نهاية الأندلس (206).

نابولي فرديناند الأول وإلى فرديناند وإيزابيلا ملكي قشتالة وأراغون. وفي هذه الكتب يعاتب سلطان مصر ملوك النصارى على ما ينزل بأبناء دينه المسلمين في مملكة غرناطة، وعلى توالي الاعتداء عليهم، وغزو أراضيهم، وسفك دمائهم، في حين أن رعاياه النصارى في مصر وبيت المقدس، وهم ملايين، يتمتّعون بجميع الحريات والحمايات، آمنين على أنفسهم وعقائدهم وأملاكهم. ولهذا فهو يطلب إلى ملك قشتالة وأراغون الكف عن هذا الاعتداء، والرحيل عن أراضي المسلمين، وعدم التعرض لهم، وردّ ما أخذ من أراضيهم، ويطلب من البابا وملك نابولي أن يتدخلا لدى ملكي قشتالة وأراغون، لردهما عن إيذاء المسلمين والبطش بهم، هذا وإلاّ فإن ملك مصر سوف يضطر إزاء هذا العدوان أن يتبع نحو رعاياه النصارى سياسة التنكيل والقصاص، ويبطش بكبار الأحبار في بيت المقدس، ويمنع دخول النصارى كافة إلى الأراضي المقدسة، بل ويهدم قبر المسيح ذاته وكل الأديار والمعابد والآثار النصرانية المقدسة (1). وغادر القس أنطونيو ميلان وزميله الديار المصرية، لتأدية سفارة مصر إلى ملوك النصرانية، ولسنا نعرف موعد هذا الرحيل بالضبط، ولكن السفيرين وصلا إلى إسبانيا في خريف سنة (1489 م)، أعني لنحو عام ونصف من وصول صريخ الأندلس إلى القاهرة. وكانت مالقة قد سقطت بيد النصارى منذ عامين، واستولوا على طائفة أخرى من الحصون والقواعد، ثم تحولوا بعد ذلك إلى بسطة وضرب فرديناند حولها الحصار. وهناك أمام أسوار بسطة وفد القس أنطونيو ميلان وزميله إلى معسكر النصارى في أواخر سنة (1489 م)، فاستقبلهما فرديناند بحفاوة وترحاب، وتسلم كتاب السلطان، _______ (1) ابن إياس في تاريخ مصر (3/ 246)، وأنظر Prescott: Ferdinand and Isabella. P. 278 وأنظر Irving: ibid. P. 227 والظاهر أنّ في رواية ابن إياس عن تأليف سفارة مصر بعض النقص، ولكن ملخصه لمحتويات الكتب السلطانية في منتهى الدقّة.

واستمع إلى رسالتهما بعناية. وكان السفيران قد عرّجا في طريقهما على رومة ونابولي أولاً، وقدّما كُتُبَ السلطان إلى البابا إنوصان الثامن وإلى ملك نابولي، فكتب البابا إلى فرديناند وإيزابيلا يسألهما عما يجيب به على مطالب السلطان ووعيده، وكتب ملك نابولي (فرديناند الأول) إليهما يستفهم عن سير الحرب الأندلسية، ويلومهما على اضطهاد المسلمين، وينصح بالكفّ عنهم، حتى لا يتعرض نصارى المشرق إلى قصاص السلطان. ويرجع تدخل ملك نابولي على هذا النحو إلى خلاف بينه وبين ملك أرغون على حقوق عرش نابولي، وإلى تخوّفه من أن يرتد فرديناند إلى محاربته متى تمَّ ظفره بما تبقى للمسلمين في الأندلس. ثم زار القسّان أيضاً مدينة جيّان حيث كانت الملكة إيزابيلا، وأبلغاها موضوع سفارتهما، ولقيا منها نفس الحفاوة والترحاب (1). ولم ير فرديناند وإيزابيلا في مطالب السلطان ووعيده ما يحملهما على تغيير خطتهما، في الوقت الذي أخذت فيه قواعد الأندلس الباقية تسقط تباعاً في أيديهما، واقترب فيه النصر النهائي، ولكنّهما رأيا مع ذلك إجابة السلطان، فكتبا إليه في أدب ومجاملة: "إنهما لا يفرِّقان في المعاملة بين رعاياهما المسلمين والنصارى، ولكنهما لا يستطيعان صبراً على ترك أرض الآباء والأجداد في يد الأجانب، وأن المسلمين إذا شاءوا حياة في ظلّ حكمهما راضين مخلصين، فإنهم سوف يلقون منهما، نفس ما يلقاه الرعايا الآخرون من الرعاية"، وبذا ارتد القسّان إلى المشرق، يحملان جواب الملكين إلى السلطان، ومعهما طائفة من التحف والهدايا. ومن الواضح، أن وعيد سلطان مصر كان كاذباً، كما أن جواب الملكين له كان كاذباً أيضاً، لا يصدقه كاتبه ولا غيره، في الوقت الذي كان المسلمون في الأندلس يعانون الهول من النصارى، دون أن يتجاوب المسلمون الآخرون معهم إلاّ بالتظاهر وضياع الوقت سدىً والكذب والزور. _______ (1) Prescott: ibid; P. 278 وأنظر Irving: ibid; P. 258

ولسنا نعرف ما كان مصير رسالة الملكين، ونرجّح أنها وصلت إلى بلاط القاهرة، وإن كنا لا نلمس لها أثراً في حوادث العصر. وليس في تصرّفات حكومة مصر يومئذ ما يدل على أن السلطان نفّذ وعيده، باتخاذ إجراءات معينّة ضد النصارى، أو ضدّ الآثار النصرانية المقدسة، فقد كان وعيد السلطان وعيداً فارغاً، ولو علم ملكا النصارى في إسبانيا أن وعيده حق، لتغيّر الموقف برمته، كما تغير موقف هرقل ملك الروم حين هدّده عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه إذا لم يُعد نصارى تغلب الذين هاجروا إلى الروم، فإنه سيخرج النصارى من بلاد المسلمين، فانصاع هرقل لوعيد عمر بن الخطاب لأنه يعلم أنه صادق، ولم ينصع الملكان لوعيد سلطان مصر، لأنهما يعلمان أن وعيده كاذب. والواقع أن القاهرة كانت مشغولة يومذاك بحركات بايزيد الثاني، وصدّ غاراته المتكررة على الحدود الشمالية. وكان الاضطراب من جهة أخرى يسود شئون مصر الداخلية، ومن ثمّ فإن محاولة مصر إنقاذ الأندلس قد وقفت عند هذا الحد: كلام في كلام، ولم تقم مصر بمظاهرة دولية لاستغلال الظروف والمؤثرات الدينية، فاخفقت محاولة مصر السياسية، وتركت الأندلس إلى قضائها المحتوم. وكان سقوط مالقة أمنع الثغور الأندلسية في يد النصارى ضربة أليمة للمملكة الإسلامية الممزّقة، يحرمها من كثير من ضروب الإمداد والغوث التي كانت تأتيها من وراء البحر، وكان واضحاً أن ملك قشتالة كان يرمي إلى قطع هذا الإمداد بكل الوسائل. ولم يكن باقياً بعد ضياع جبل طارق ومالقة من الثغور بيد المسلمين سوى ألمرية والمنكب، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعة والمجاهدين، بالرغم من بعدهما عن شاطئ العدوة، وكان لابد من الاستيلاء عليهما قبل أن تقطع كل صلة للأندلس نهائياً بعدوة المغرب وشمالي إفريقية. وقضى فرديناند قبل تنفيذ هذه الخطة زهاء عام، يعمل على تطهير منطقة مالقة والاستيلاء على ما بقي من الحصون الشرقية والغربية، حتى استولى عليها جميعاً، ولم يبق منها بيد المسلمين شىء.

وفي ربيع سنة (893 هـ - 1488 م) زحف فرديناند على أطراف مملكة غرناطة الشرقية، وكانت لبعدها عن العاصمة أقل استعداداً للدفاع، واستولت هذه الحملة باستيلاء النصارى على بيرة، والبلشين، وأشكر (1) وغيرها من القواعد الشمالية الشرقية، وذلك بالرغم من أن أهلها كانوا داخلين في الصلح المعقود مع أبي عبد الله، وكان على ملك قشتالة لو أنه أوفى بعهوده، أن يتركهم حتى ينتهي أمد الصلح المذكور (2)، وهناك عهد أصدره الملكان الكاثوليكيان لأهل أشكر، هو نموذج لباقي العهود التي صدرت لباقي البلاد المستولى عليها في هذه المنطقة، وفيه يتعهد الملكان بقبول أهل أشكر بين رعاياهما وتحت حمايتهما، وأن لا يؤخذ شيء من أمتعتهم أو يصيبهم أي مكروه، وألاّ يدفعوا من الضرائب إلاّ ما كانوا يؤدونه لملوكهم المسلمين، وألاّ يرغموا على محاربة إخوانهم مسلمي غرناطة، وأن يسمح لهم باستبقاء زعمائهم وفقهائهم وعوائدهم وشريعتهم، وأن يحق لهم الإقامة في أي جزء من مملكة قشتالة، كما يحق لهم العبور إلى المغرب أحراراً دون أي قيد، وأن يعامل السكان جميعاً ذكوراً وأناثاً بالرفق والكرامة، وألاّ يغصبهم أحد في دورهم أو يسيء إليهم أو يتلف شيئاً من أمتعتهم ومحاصيلهم، وألاّ يعاشر نصراني مسلمة، أو مسلم نصرانية، ومن فعل ذلك يعاقب بالموت وتصادر أملاكه، وأن يُدفع الكراء العادل لمن يطلب منهم العمل في بناء حصن المدينة (3)، وسنرى فيما يلي من الحوادث أن الملكين الكاثوليكيين يغدقان أمثال هذه العهود لسائر البلاد المُستولى عليها، ولكن دون أيّة نية صادقة في _______ (1) بيرة، وفي الإسبانية: ( Vera) تقع شمال شرقي ألمرية على مقربة من البحر الأبيض المتوسط، والبلشان هي بلش الحسناء ( Velez Rubio) ، وبلش البيضاء ( Velez Blanco) ، وهما تقعان شمال شرقي مدينة بسطة ( Baza) ، وأشكر هي بالإسبانية ( Huescar) تقع شمال غربي البلشين. (2) Gaspar Y Remiro ; ibid; P. 43. (3) تحفظ هذه الوثيقة ببلدية أشكر، أنظر مجموعة: Documentos Ineditos Para la Historia de Espana. vol. V111, P. 170-175.

الوفاء بها، بالعكس فالنية هي الغدر، وويل للمغلوب. وفي الوقت الذي اقتربت فيه القوات القشتالية من مدينة بسطة، أمنع قاعدة في ولايات غرناطة الشرقية، لتضرب حولها الحصار، سار فرديناند في بعض قواته إلى ثغر المنكب (1)، الواقع في منتصف المسافة بين مالقة وألمرية، وحاصره، وكان يدافع عنه القائد محمد بن الحاج. ومع أنه لم يك ثمة شك في النتيجة المحتومة، فقد دافع المسلمون عن ثغرهم، واعتصموا به نحو ثلاثة أشهر، وكبدوا القشتاليين بعض الخسائر. ثم وقعت المفاوضات في التسليم، وأصدر الملكان الكاثوليكيان للقائد ابن الحاج ومعاونه الفقيه أبي عبد الله الزليخي، عهداً خلاصته: أنه إذا سلّم القصبة وكل حصونها في ظرف تسعة أيام، فإنه يُقْبَلُ هو وولده وصحبه وقرباه، كما يُقبل الوزراء والقواد والفقهاء وسائر أهل المنكب بين رعايا قشتالة، وأنهم يُتركون آمنين في ديارهم وأنفسهم وأموالهم، ويحتكمون إلى شريعتهم، ونترك لهم مساجدهم وصوامعهم، ولا يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم إلاّ طلقات البارود، وأنه إذا تمّ التسليم في الموعد المذكور، فإنه تُقدّم إلى القائد هبة قدرها ثلاثة آلاف دوبلاً قشتالياً، وأنه إذا شاء العبور إلى المغرب مع ولده وأسرته، فإنه تُقدّم إليه سفينة حسنة للجواز فيها مع سائر متاعه دون كراء أو مغرم، وأنه لا تمسّ أملاك الأهالي، ولهم بيعها أو قبض ريعها إذا عبروا إلى المغرب. وهكذا سلّم ثغر المنكب إلى القشتاليين في شهر (محرم سنة 895 هـ - كانون الأول - ديسمبر سنة 1489 م)، ولم يبق للمسلمين من الثغور سوى ألمرية التي طوّقها العدو في نفس الوقت بقواته، وأصبحت تحت رحمته وشيكة التسليم. ولما تم قطع علائق الأندلس على هذا النحو مع عدوة المغرب وشمالي إفريقية، بدأ فرديناند بتنفيذ خطته النهائية للقضاء على ما بقي في الداخل من المملكة الإسلامية. وكانت مملكة غرناطة قد انقسمت كما رأينا إلى شطرين: _______ (1) المنكب: وهي بالإسبانية ( Almunecar) .

الأنحاء الشرقية وتشمل وادي آش وأعمالها، ويحكمها الأمير أبو عبد الله محمد بن علي، فقرر فرديناند أن يبدأ بالاستيلاء على الأنحاء الشرقية، وأن يقضي أولاً على السلطان أبي عبد الله الزغل لما كان يخشاه من عزمه وشديد بأسه. فما كاد ينتهي من إخضاع ثغر المنكب وتطويق ثغر ألمرية، حتى قرر تضييق الخناق على مدينة بسطة، وكانت قواته تطوّقها حسبما تقدم، وكانت الملكة إيزابيلا مع حاشيتها في جيَّان على مقربة من الجيش الغازي، وكانت بسطة أهمّ القواعد التي يسيطر عليها مولاي الزغل بعد وادي آش مقرّ حكمه. ولم يستطع الزّغل مغادرة مقرّ حكمه في وادي آش للدفاع عن بسطة، خشية أن يهاجمه ابن أخيه أبو عبد الله في غيبته فأرسل إليها حامية مختارة من أنجاد الفرسان بقيادة صهره الأمير يحيى النيار الذي تعرّفه التواريخ القشتالية: (بسيدي يحيى). وحاول القشتاليون الإطباق على بسطة ومحاصرتها، فردّهم المسلمون عن أسوارها غير مرّة، ونشبت بين الفريقين خارج الأسوار عدة معارك حامية مُنِي فيها النصارى بخسائر فادحة. ومع أن النصارى بدأوا هجومهم على بسطة في (شهر رجب سنة 894 هـ - حزيران - يونيه 1489 م)، فإنهم لم يستطيعوا تطويقها ومحاصرتها بصورة فعلية إلاّ بعد ثلاث أشهر وهنا امتنع المسلمون داخل المدينة بعد أن أثخنوا في عدوِّهم غير مرة، واستنفدوا قواتهم المدّخرة. وضيَّق النصارى الحصار على بسطة لمدة ثلاثة أشهر أخرى، حتى ضاق أهلها بالحصار ذرعاً. وقلَّت الأقوات واشتد الكرب. ولما رأى المسلمون أنه لم يبق في الدفاع ثمة أمل، وقد نفدت المؤن، وفتك الجوع والمرض بالعامة، اعتزموا مفاوضة القشتاليين في التسليم. وبالرغم مما أبداه زعيمهم يحيى النيار في البداية من براعة في تنظيم الدفاع عن بسطة وألمرية، وبالرغم من ما أبداه من بسالة في المعارك التي نشبت ضد القشتاليين، فإنه في النهاية رأى أن يترك هذا الصراع اليائس، وأن يفوز من المعركة بأحسن مما يستطيع لنفسه وذويه. وهذه هي الوثيقة السرية التي عقدها القائد يحيى مع مندوب الملك فرديناند الدون جوتييري دي

كارديناس، تعرض لنا بمحتوياتها المثيرة صورة من ذلك الدرك المؤلم الذي يدفع اليأس إليه أولئك القادة الذين يغدون بعد حياة حافلة بالإخلاص والبسالة، تحت إغراء العدو وهباته، خونة مارقين مرتدين. وقد حُرّرت هذه الوثيقة في المعسكر الملكي قرب مدينة ألمرية في (25 كانون الثاني - ديسمبر 1489 م)، وفيها يؤكد فرديناند للقائد يحيى النيار زعيم بسطة وألمرية بأنه سوف يستقبله تحت حمايته هو وولده وأبناء عمه، وينزلهم في داره، ويعاملهم بما يليق بهم معاملة أشراف مملكته، ويدافع عنهم وعن أتباعهم، ثم يقول ملك قشتالة مخاطباً يحيى: "وإنه إذا صحّت عزيمتكم حقاً على اعتناق النصرانية، وعلى أن تخدمني وتعاونني برجالك، فإني سوف أكتم ذلك طول مدة السيطرة على بسطة، حتى لا يتقوّل عليك رجالك، ولهذا فإنك تستقبل التعميد المقدس سراً في غرفتي، حتى لا يعرفه المسلمون إلاّ بعد تسليم وادي آش، وإن الكروم والقرى والحصون التي تؤول لك بالميراث عن والدك أمير ألمرية، أهبها لك لتملكها وتتصرف فيها كما تشاء، وعهدي لك بذلك أنا والملكة زوجي. وأنه لن تدفع أنت وابنك وأبناء عمك وأعقابك وحشمك أي مغرم أو جزية في سائر مملكتي إلى الأبد، وإنه تشريفاً لشخصك، يُسمح لك بأن يصحبك عشرون فارساً مسلّحون بكل ما يرغبون، وأن تتجول بهم حيث شئت في أنحاء مملكتي، ويتمتع ولدك بمثل ذلك. وإنه إذا تنازل صهرك ملك وادي آش عن نصف الملاحات التي أهبها إليه، فإني أهبك دخلاً قدره خمسمائة وخمسون ألف مرافيدي من ملاحات دلاية، وفضلاً عن ذلك فإنه إذا تم تسليم وادي آش المتفق عليه، فإني مكافأة لك على جهودك في خدمتي لدى ملك وادي آش وغيره من القادة، أهبك عشرة آلاف ريال، وأقدم لك سائر البراءات بما تقدم" (1). وتعهد الملكان الكاثوليكيان في نفس الوقت لأهل بسطة، بإقرار ما طلبوا _______ (1) Archivo General de Simancas ; P. R. 11-11.

من الشروط، وفي مقدمتها: أن يؤمنوا في النفس والمال، وأن يحتفظوا بدينهم وشريعتهم وعوائدهم. وهكذا سلّمت بسطة، ودخلها النصارى في (العاشر من محرم 895 هـ - أوائل كانون الأول - ديسمبر 1489 م) وغادرها معظم أهلها إلى وادي آش، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وهرعت جميع الحصون والمحلات القريبة إلى التسليم والدخول في طاعة ملك النصارى، وسلّمت ألمرية بعد ذلك بقليل (ربيع الأول - شباط - فبراير 1490 م)، ومنحت للتسليم شروطاً خلاصتها: أن يحتفظ المسلمون بدينهم وشريعتهم وأموالهم، وأن تخفّف عنهم أعباء الضرائب، وألا يولّى عليهم يهودي، وألاّ يدخل في "الجماعة"، وأن يختار الأولاد الذين يولدون من أمهات من النصارى لأنفسهم الدين الذي يريدون عند البلوغ، وغير ذلك من المنح المغرية الخادعة التي بذلت لسائر البلاد المسلمة المستولى عليها. وهكذا بسط فرديناند سلطانه على قواعد الأندلس الشرقية كلها من البحر إلى الشمال، ولم يبق خارجاً عن طاعته غير وادي آش مقر مولاي الزغل. ولم تمض أسابيع قلائل، حتى أثمرت خيانة يحيى النيار ثمرتها لدى صهره أبي عبد الله الزغل، فسارع بدوره إلى الانضواء تحت لواء النصارى، وكان الزغل منذ التجأ إلى وادي آش، يرقب سير الحوادث بجزع، ويرى قواعد الأندلس تسقط بالتعاقب، دون أن ينجدها منجد، ويرى أمل الإنقاذ يخبو تباعاً. فلما سقطت بسطة آخر القواعد التي يسيطر عليها، واتجه النصارى نحو آش معقله الوحيد الباقي، ورأى بالرغم من شجاعته وبسالته أنه يغالب المستحيل، وأن جيوش النصارى تحيط به من كل صوب، اعتزم أمره، وسار إلى معسكر ملك النصارى يعرض عليه طاعته، والانضواء تحت لوائه، فأجاب فرديناند إلى مطالبه، وبايعه الزغل وسائر قادته بالخضوع والطاعة، ودخل النصارى مدينة وادي آش (في أوائل صفر سنة 895 هـ - 30 كانون الأول ديسمبر 1489 م). وعقد الزغل مع ملكي قشتالة معاهدة سرية على غرار المعاهدة التي عقدها صهره يحيى، ونصّ فيها على طائفة من المنح

والامتيازات، خلاصتها أن يستقر الزغل سيداً في مدينة أنْدَراش وما إليها، وأن يكون له ألفا تابع من بني وطنه، وأن يمنح معاشاً سنوياً كبيراً، وأن يمنح دخل نصف ملاحات مدينة الملاحة، وأن يرسل في استحضار أبنائه الأمراء من غرناطة نظراً لخصومته مع ملكها، وأن تكون جميع أملاكه وأملاك ذويه في غرناطة حرّة من كل حق ومغرم، وأن تكون هذه العهود ملزمة لملكي قشتالة ولعقبهما من بعدهما، وأخيراً أن يوافق البابا على هذه العهود (1). بيد أنه لم يمضِ قليل على ذلك، حتى شعر مولاي الزغل أنه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع المهين، فنزل لفرديناند عن حقوقه وامتيازاته لقاء مبلغ ضخم، وجاز البحر إلى المغرب، ونزل في وهران أولاً، ثم انتقل إلى تلمسان، واستمرّ يقضي بها بقية حياته في غمرات من الحسرات والندم، ولبث عقبه هناك قروناً يُعرَفون ببني سلطان الأندلس، وجاز معه كثيرون من الكبراء الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام في الأندلس قد غدت قضاءً محتوماً (2). وقد نقل إلينا صاحب أخبار العصر، رواية مفادها أن تسليم مولاي الزغل لملك قشتالة، كان نوعاً من الخيانة المقصودة، وأنه تنازل هو وقواده عن البلاد التي كانت تحت أيديهم طوعاً مقابل قبض ثمنها، وذلك لكي ينتقم الزغل من ولد أخيه الأمير أبي عبد الله محمد بن علي صاحب غرناطة، فتصبح بعد خضوع سائر أنحاء الأندلس وحيدة تحت رحمة النصارى، وترغم على التسليم إليهم، وينتهي بذلك إمارة أميرها وحكمه (3)، وهي رواية لا تتفق مع مآثر الزغل من ضروب العزم والبسالة والشهامة والغيرة الإسلامية، التي رأيناها ماثلة خلال معاركه المشرّفة، وإنما استسلم الزغل وخضع، وحاول _______ (1) Archivo general de Simancas. P. R. 11-12 وأنظر أيضاً: Gaspar Y Remiro; ibid. 48 (2) أخبار العصر (31) ونفح الطيب (2/ 613 - 614)، وأنظر: Prescott, ibid. p. 285. (3) أخبار العصر (32).

إنقاذ ما يمكن إنقاذه، نزولاً على حكم ظروف قاهرة، لم ير إلى مغالبتها سبيلاً (1). _______ (1) نهاية الأندلس (201 - 214).

الصراع الأخير

الصراع الأخير 1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً لم يبق على ملكي قشتالة وأراغون فرديناند وإيزابيلا، بعد أن دانت لهما سائر الثغور والقواعد الأندلسية الجنوبية والشرقية، لإتمام خطتهما في القضاء على دولة الإسلام بالأندلس، سوى الاستيلاء على غرناطة، آخر القواعد الباقية بيد المسلمين، ولم تكن غرناطة يومئذ مملكة أو دولة، بل كانت رمزاً للدولة الإسلامية الذاهبة فقط، وكانت واسطة عقد تصرّمت سائر حبّاته، وكانت كالمصباح المرتجف يخبو ضوؤه سراعاً، فلم يكن يقتضي إطفاؤه سوى الضربة الأخيرة. وقد رأى فرديناند وإيزابيلا أن الوقت قد حان لتسديد هذه الضربة، عقب استسلام مولاي الزغل وسقوط وادي آش وبسطة وألمرية. ونحن نعرف أنه على أثر سقوط مدينة لوشة في يد النصارى في (شهر مايس - مايو سنة 1486 م)، وحصول أبي عبد الله في أيدي الملكين الكاثوليكيين للمرة الثانية، عقد أبو عبد الله معهما معاهدة صلح جديدة لمدة عامين، تطبق في غرناطة والبلاد التي تدخل في طاعة أبي عبد الله. وفي ظل هذا الصلح المسموم، دخل أبو عبد الله غرناطة، واسترد العرش ومن ورائه تأييد فرديناند وعونه. ومن الواضح أن فرديناند قد قبض في نصوص هذا الصلح، ثمن التأييد والعون. والظاهر أن هذا الصلح قد تجدد لمدة عامين آخرين، حسبما تدل وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه (في المحرم سنة 895 هـ - كانون الأول - ديسمبر 1489 م) وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه ينوّه أبو عبد الله بهذا "الصلح السعيد" المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه، وينعي على معارضيه مواقفهم، التي انتهت بسقوط بسطة: "التي أفجعت المسلمين، وفلّت غرب ....................................

الدين" (1). وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يسلم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين متى تم تسليم بسطة وألمرية ووادي آش (2). وعلى أي حال ففي فاتحة سنة (1490 م) - أوائل صفر (895 هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة على يد فارسين هما: كونثالو- فرنانديث قائد حصن إليورة، ومرتين ألاركون قائد حصن موكلين، ليخاطباه في موضوع التسليم (3). وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة: إن ملك قشتالة لم يطلب تسليم غرناطة ذاتها، ولكنه اكتفى بأن طلب إلى أبي عبد الله تسليم مدينة الحمراء أو قصور الحمراء مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيماً في غرناطة، في طاعته وتحت حمايته، أسوة بما فعلته سائر نواحي الأندلس (4)، أو أن يقطعه أية مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمدّه بمال جزيل (5). فماذا كان جواب أبي عبد الله؟ لقد كان في سابق مواقفه، وممالأته لملك قشتالة، ومحالفته إياه، ودخوله في طاعته، وما يدين له به من تغلّبه على عمّه ومنافسه الزغل، وجلوسه على العرش، ما يحمل الملكين الكاثوليكيين، على توقع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان. ولدينا وثيقة توضح لنا موقف أبي عبد الله في هذه المناسبة، وهي عبارة عن خطاب _______ (1) نشر هذه الوثيقة جسبار ريميرو في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه Documentos Arabes de la Corta Nazan de Granada وقد استخرجها مع وثائق أخرى صادرة عن أبي عبد الله من مجموعة فرناندو دي ثافرا سكرتير الملكين الكاثوليكيين. (2) Prescott: Ferdenand and Isabella, P. 284. (3) راجع رواية Fernando de Boeza القشتالية المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن أخبار العصر (ص: 92). (4) أخبار العصر (33). (5) نفح الطيب (2/ 614).

صادر منه إلى الملكين الكاثوليكيين، يشير فيه إلى قدوم "القائد غنضال والقائد مرثين" بكتبهما إليه، وأنه أرسل إليهما خديمه "القائد أبا القاسم المليح"، ليحدِّثهما في هذا الموضوع. وبالرغم من اللهجة المهذّبة، المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة، التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان جواب أبي عبد الله للملكين الكاثوليكيين، رفضاً لما طلباه. وتاريخ هذه الرسالة هو (29 صفر سنة 895 هـ - 22 كانون الثاني - يناير 1490 م) (1). والظاهر أن رسول أبي عبد الله لم ينجح في مهمته، وعاد إلى مليكه ليخبره بإصرار الملكين الكاثوليكيين على طلبهما. وهنا تقول الرواية القشتالية: إن أبا عبد الله اشتدّت دهشته، لإصرار الملكين الكاثوليكيين، واعتزم أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. وعلى ذلك فقد أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كماشة، ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة بالنصارى، يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية، لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك فقد استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى (2). وهنا نقف قليلاً لنتأمل الموقف الجديد، من جانب أبي عبد الله. لقد كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في تلك الأعوام المليئة بالحوادث الجسام، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعاً، ويستشف من ورائها القدر المحتوم؛ وكان قد تخلص بانسحاب عمّه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك دولة قشتالة، وعين لها حكّام من النصارى، وتدجّن أهلها الباقون فيها أو غدوا مدجّنين _______ (1) نشرت هذه الرسالة ضمن المجموعة الثي نشرها جسبار ريميرو في كتابه السالف الذكر. (2) راجع رواية: Hernando de Baeza المنشورة في أخبار العصر (ص: 93).

( Mudejores) يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيراً منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم، جازوا البحر إلى المغرب، وهرعت جموع غفيرة منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي، حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضم بين أسوارها وأرياضها أكثر من أربعمائة ألف نفس. وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنباً أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته، تلقى استنكاراً عاماً. ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك وربما لأول مرة، فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بني وطنه ودينه. ولما أصرّ فرديناند على تجنيه، جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم (1)، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يعد له القول الفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى تسليم أو مهادنة، ويصمم على المقاومة والدفاع (2). هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف بعزم شعبه، من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة. وهنا يبدو لنا أبو عبد الله شخصية أخرى تنزع عنها صفات الخور والاستسلام والخضوع الذي يقرب من الخيانة، لتتّشح بثوب من العزة والكرامة، والحميّة الدينية والوطنية. ودوّت غرناطة بصيحة الحرب والجهاد، وخرجت سرايا من المسلمين لتعيث في الأراضي النصرانية القريبة. وفي ربيع سنة (895 هـ - _______ (1) أخبار العصر (34) ونفح الطيب (2/ 614). (2) Prescott: ibid; P. 290.

1490 م) خرج ملك قشتالة بقواته وهو يضطرم سخطاً، وزحف على بسائط غرناطة، فعاث فيها، وانتسف الزرع واستاق الماشية، وخرّب الضياع والقرى، ووصل في عبثه وتخريبه حتى أسوار الحاضرة ذاتها. وبرز المسلمون لقتاله، وعلى رأسهم أبو عبد الله، ووقعت بين الفريقين في ظاهر غرناطة عدّة ملاحم دموية ارتحل النصارى على أثرها. ولم يستطيعوا الدنو من المدينة (رجب 895 هـ - 1490 م)، وعمد فرديناند حين العودة إلى تحصين بعض الحصون القريبة من غرناطة، مثل برج الملاحة وبرج رومة وغيرهما، وشحنها بالرجال والعدد استعداداً للمعارك القادمة. وعلى أثر ارتحال القشتاليين، خرج أبو عبد الله في قواته يحاول استرداد بعض الحصون والمراكز القريبة، فاستولى على قرية البذول عنوة، ثم استولى على غيرها من القرى، ودبت في المسلمين في تلك الأنحاء روح جديدة، وثار أهل البشرّات (البشرة) وما حولها على حكامهم النصارى، وثار أهل وادي آش في الوقت نفسه، واضطرموا لما رأوه من وثبة أبي عبد الله وعزمه بنزعة جديدة إلى المقاومة، وبعثوا إليه يطلبون عونه. وسار أبو عبد الله بقواته يريد حصن أندَرَش (1) لما علمه من ثورة المسلمين هناك، وكان عمه محمد بن سعد (الزغل) لا يزال به، فلما سمع بمقدمه خرج مع صحبه إلى ألمرية، وبقي بها إلى أن جاز البحر إلى المغرب كما ذكرنا، واستولى أبو عبد الله على اندرش وغيرها من المحلاّت والحصون القريبة منها (2)، ورتّب فيها حاميات من المسلمين للدفاع عنها (شعبان 895 هـ). واستمرت هذه المعارك المحليّة سجالاً مدى حين بين المسلمين والنصارى، فاسترد النصارى حصن أندراش لأسابيع قليلة من فقده، وغادره الفرسان المسلمون، إذ كانوا قلّة لم تستطع للعدوّ دفعاً. وفي شهر رمضان من سنة (895 هـ) - (آب - أغسطس 1490 م) خرج أبو عبد الله في قواته إلى قرية _______ (1) أندرش: Andarax جنوب شرقي غرناطة على مقربة من البحر الأبيض. (2) أخبار العصر (36 - 37).

همدان القريبة (1)، فافتتحها واخترق المسلمون أبراجها الكثيفة، وكانوا يخشون أن تمتنع عليهم لكثافتها، واغتنموا منها مقادير وفيرة من الذخائر والأطعمة، وأسروا من حاميتها نحو مائتين، وعاد المسلمون إلى غرناطة فرحين ظافرين، وغمرت الحاضرة المسلمة موجة من البشر والتفاؤل. وفي أواخر رمضان، خرج أبو عبد الله في قواته يريد افتتاح ثغر المنكب، وإعادة الصلة بين الأندلس وشواطئ المغرب، وهي صلة يعلّق عليها المسلمون أهمية خاصة، ويعتبرونها من أبواب الغوث والإنقاذ، واستولى أبو عبد الله في طريقه على حصن شلوبانية (2) الواقع شرقي المنكب بعد قتال عنيف، وعلم النصارى بمحاولة أبي عبد الله، فهرعت حاميات بلش ومالقة إلى المنكب لإنجادها. ورأى أبو عبد الله أنه لا يستطيع مهاجمتها، وترامت إليه الأنباء بأن ملك قشتالة قد عاد بجنده إلى مرج غرناطة يعيث فيه فساداً وتخريباً، فارتد أدراجه، وكان فرديناند قد هاله ما حدث من الاضطراب والتصدع في المناطق المستولى عليها، فاعتزم السير من قرطبة بجيشه إلى تلك الأنحاء. والواقع أن بوادر الانتقاض والثورة كانت قد اشتدّت في وادي آش وما حولها من الضياع والقرى، وأخذ ظفر المسلمين في تلك المعارك المحلية يذكي عزم الثوار ويشجعهم. وخشي النصارى عواقب هذه الحركة، فضاعفوا قوى الحاميات في تلك الأنحاء، واحتالوا على أهل وادي آش، فأخرجوا معظمهم من المدينة إلى السهول المجاورة (3)، واستجاب أبو عبد الله إلى نداء أهل وادي آش وعاونهم بالرجال والدواب على نقل أمتعتهم وأموالهم، وعلى الرحيل بالأهل والأموال إلى غرناطة، ونقل من تلك القرى والضياع مقادير وافرة من الحبوب والأطعمة وغيرها. وما كادت جموع المسلمين ترتد راجعة إلى _______ (1) تقع قرية همدان جنوب غربي غرناطة على قيد بضعة كيلو مترات منها، وهي: ( Alhendin) ، أنظر الخريطة. (2) بالإسبانية ( Salobrena) . (3) Lafuente Alcantara ; ibid; n. 111. P. 53.

غرناطة، حتى ظهر فرديناند بجيشه أمام وادي آش، ورأى أن يأخذ الأمر باللّين والرفق، فأذاع الأمان لمن عاد إلى وطنه، وأذن لمن شاء بالرّحيل، وغادر المسلمون وادي آش وأعمالها. وحدث مثل ذلك في ألمرية وبسطة، فترك المسلمون بيوتهم وأوطانهم حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وسارت جموع غفيرة إلى غرناطة، وجازت جموع أخرى البحر إلى المغرب، وأقفرت تلك الأنحاء من معظم سكانها المسلمين، وبعث إليها ملك قشتالة بجموع من النصارى لتعميرها، فانتهز أبو عبد الله فرصة هذا الاضطراب، فاستولى على حصن أندراش للمرة الثانية، واستولى على عدد آخر من الحصون الهامة (1). وقد أيقن ملك قشتالة أنه لابد لاستتباب الأمور في المناطق الإسلامية المفتوحة، من الاستيلاء على غرناطة التي ما زالت تثير بمثلها وصلابتها روح الثورة في تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فقضى الشتاء كله من سنة (1490 م) في الاستعداد والأهبة. وفي أوائل سنة (1491 م) خرج فرديناند في قواته معتزماً أن يقاتل الحاضرة الإسلامية حتى ترغم على التسليم. ويُقدر بعض المؤرخين هذا الجيش الذي أُعدّ للاستيلاء على غرناطة بخمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ويقدره بعضهم الآخر بثمانين ألفاً (2)، وزوّد فرديناند جيشه بالمدافع والعدد الضخمة والذخائر والأقوات الوفيرة. وأشرف ملك قشتالة بجيشه على فحص غرناطة ( La Vega) الواقع جنوب غربي الحاضرة الإسلامية في اليوم (الثالث والعشرين من نيسان - أبريل سنة 1491 م - 12 جمادى الثانية 896 هـ) وعسكر على ضفاف نهر شنيل، علي قيد فرسخين من غرناطة في ظاهر قرية تسمى: "عتقة". وأرسل في الحال بعض جنده إلى حقول البشرات القريبة التي تمدّ غرناطة بالمؤن فأتلفوا زرعها وهدموا قراها، وأمعنوا في أهلها قتلاً وأسراً، _______ (1) أخبار العصر (38 - 48) ونفح الطيب (2/ 614)، وأنظر: Prescott ; ibid; P. 290-291، ويوجد فرق يسير بين الروايتين الإسلامية والنصرانية في التفاصيل. (2) Prescott: ibid; P. 291.

وحوّلوا المرج الأخضر إلى بسيط من القفر الموحش، وقطعوا بذلك عن غرناطة مورداً من أهم مواردها (1). وضرب فرديناند حول الحاضرة الإسلامية الحصار الصارم، وصمم على استمراره حتى يستولي عليها أو تستسلم، وقرّر تأكيداً لهذا العزم أن ينشئ لجيشه في المكان الذي عسكر فيه، مدينة مسوّرة تقيه برد الشتاء إذا ما حلّ، وتم بناء هذه المدينة الجديدة في ثلاثة أشهر، وأسمتها الملكة إيزابيلا (سانتا في Santa Fe) وبالعربية "شنتفي" أو الإيمان المقدس، وذلك تنويهاً بالمغزى الديني لهذه الحرب الصليبية، وما زالت هذه المدينة التاريخية تقوم حتى اليوم، في المكان الذي أنشئت فيه، على قيد مسافة قريبة من جنوب غربي غرناطة، ويصفها المؤرخ الإسباني، بأنها: "المدينة الإسبانية الوحيدة التي لم تطأها قط قدم مسلم" (2). وهكذا بدأ الفصل الأخير من الصراع بين النصرانية والإسلام في إسبانيا، ولم يك ثمة شك في نتيجة هذا الصراع الذي أعدت له إسبانيا النصرانية عدّتها الحاسمة، ومهّدت له جميع الوسائل والسبل. وغرناطة يومئذٍ بلد إسلامي وحيد هو البقية الباقية من دولة عظيمة تالدة، يحيط بها العدو كالموج من كل ناحية، مزوّداً بالعدد والمؤن الموفورة، وقد قطعت كل موارده وصلاته بالخارج. وكان هذا هو موقف غرناطة آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس في صيف سنة (1491 م). على أن غرناطة لم تكن مع ذلك غنماً سهلاً، فقد كانت منيعة بموقعها وظروفها، تحميها من الشرق آكام جبل شلير "سيرا نافادا" الشامخة، وتحميها من الجنوب، أي من الجهة المواجهة للمعسكر النصراني، أسوار وأبراج في منتهى الكثافة والمناعة، وكانت غرناطة يومئذ تموج بالوافدين إليها من مختلف القواعد الإسلامية الذاهبة، وتضم بين أسوارها من السكان أكثر من مائتي ألف نفس، ومع أن هذا العدد الضخم من الأنفس كان عبئاً ثقيلاً على مواردها المحدودة، _______ (1) أخبار العصر (44)، وأنظر: Prescott: ibid; P. 294 (2) Prescott; ibid; P. 295.

فقد كان من بينهم على الأقل زهاء عشرين ألفاً من الصفوة المختارة من فرسان الأندلس التي ألفت ملاذها الأخير في العاصمة المحصورة (1). ومن جهة أخرى فقد كانت الحاضرة الإسلامية منذ بعيد تلمح شبح الخطر الداهم يتربص بها دائماً، وكانت تعيش في أهبة دائمة لمواجهته، وتجمع ما استطاعت من الأقوات والمؤن، فلما دهمها الحصار، كانت على أهبة تامة للدفاع عن حريتها وأرضها وعرضها دفاعاً طويل الأمد. وكانت غرناطة تستشعر قَدَرها المحتوم، ولكنها لم ترد أن تستسلم إلى هذا القَدَر القاهر، قبل أن تستنفد في اجتنابه كل وسيلة بشرية، ومن ثم كان دفاعها هو أمجد ما عرف في تاريخ المدن المحصورة والقواعد الذاهبة، ولم يكن هذا الدفاع قاصراً على تحمّل ويلات الحصار مدى أشهر، بل كان يتعداه إلى ضروب رائعة من الإقدام والبسالة، فقد خرج المسلمون خلال الحصار، لقتال العدو المحاصِر مراراً عديدة، يهاجمونه ويثخنون في مواقعه، ويفسدون عليه خططه وتدابيره. وتشير الروايتان: الإسلامية والنصرانية، إلى هذه المعارك الأخيرة التي وقعت في بسائط غرناطة بين المسلمين والنصارى (2)، وتنوّه الرواية النصرانية بما كان يبديه الفرسان المسلمون من الشجاعة والإقدام والبراعة، أولئك الأنجاد البواسل هم البقية الباقية من الفروسية الأندلسية، التي لبثت قروناً زهرة الفروسية في العصور الوسطى. وكان روح الفروسية المسلمة في تلك الآونة العصيبة فارس رفيع المنبت والخلال، وافر العزم والبراعة، هو موسى بن أبي الغسّان، وهو سليل إحدى الأسر العريقة التي تتصل ببيت الملك، وأحد هذه الأصول العربية القديمة التي عرفت بروائع فروسيتها، وعميق بغضها للنصارى، والتي كانت ترى الموت خيراً ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهاداً للكفر، ولم يكن بين أهل غرناطة يومئذٍ مَن هو أبرع من موسى في الطعان والفروسية، وكان مذ _______ (1) نهاية الأندلس (215 - 223). (2) أخبار العصر (45) وانظر: Irving: ibid. 293 and fall

تبوّأ أبو عبد الله محمد عرش غرناطة، ينقم منه استكانته وخضوعه لملك النصارى، ويعمل بكل ما وسع لإذكاء روح الحماسة والجهاد، وتنظيم الفروسية الغرناطية وتدريبها، وقيادة السرايا إلى أرض العدو، ومفاجأة حصونه في الأنحاد المجاورة. ولما بعث فرديناند الخامس إلى أبي عبد الله يطلب تسليم الحمراء، كان موسى من أشدّ المعارضين في إجابة هذا الطلب المهين، وكان لعزمه وحماسته أكبر أثر في تطوّر الموقف، وحمل الأمير والشعب على اعتزام الجهاد، والدفاع إلى آخر رمق، وكان قوله المأثور يومئذٍ: "ليعلم ملك النصارى أن العربي قد وُلد للجواد والرّمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها وليكسبها غالية. أما أنا، فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة، في المكان الذي أموت دفاعاً عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين". وهكذا دوّت غرناطة بصيحة الحرب. ولما أشرف ملك قشتالة بجموعه على مرج غرناطة، كان موسى قدوة الجند والشعب، وكان زعيم الفروسية المسلمة، يقودها كلما سنحت الفرصة إلى الحصون والقلاع النصرانية المجاورة فتثخن فيها، وكانت عودته الظافرة تثير في الشعب أيما حماسة؛ وكان فرديناند يرسل جنده لإتلاف المزارع والحقول المجاورة، فكان موسى ينظم السرايا لإزعاج قواته، وقطع مواصلاته، وانتزاع مؤنه؛ ولكن جيوش النصارى ما لبثت أن ملأت فحص شنيل ( La Vega) وطوّقت غرناطة، وشدّدت في حصارها، واضطر المسلمون إلى الامتناع بمدينتهم صابرين جلدين؛ وقُسِّم الدفاع عن المدينة بين قادة الجيش وزعماء الأسر، فتولى موسى قيادة الفرسان يعاونه نعيم بن رضوان ومحمد بن زائدة. وتولى آل الثغرى حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون. ولم تكن المعارك الجريئة التي كان يخوضها المسلمون خارج الأسوار من آن لآخر، سوى عنوان أخير لفروسيتهم وبسالتهم، ولكنها لم تكن لتغني شيئاً أمام ضغط العدو وتفوّقه وتصميمه. ذلك أن ملك قشتالة لم يترك وسيلة

لإحكام الحصار وإرهاق المدينة المحصورة وإرغامها على التسليم؛ فقطع جميع علائقها مع الخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الإسبانية في مضيق جبل طارق، وعلى مقربة من الثغور الجنوبية، لتحول دون وصول أي مدد من إفريقية. والواقع أنه لم يكن ثمة أي أمل أمام الغرناطيين في الغوث والإنقاذ من هذه الناحية، ذلك أن معظم ثغور المغرب الشمالية والغربية، ومنها سبتة وطنجة، كانت قد سقطت بأيدي البرتغاليين، وكانت دولة بني وطّاس التي قامت يومئذٍ ما تزال ضعيفة في بدايتها، وكانت أبعد في التفكير عن القيام بأي عمل حربي خطير ضد النصارى. هذا إلى أن إمارات المغرب الواقعة في الضفة الأخرى، كانت كلّها في حالة ضعف وتفكّك، وكانت تخشى بأس قوة إسبانيا البحرية، وتسعى إلى كسب صداقتها وحمايتها، وعلى ذلك فقد كان حصار غرناطة محكماً من البر والبحر. ولم يبق أمامها سوى طريق البشرّات الجنوبية من ناحية جبل شلير (سيرانفادا) تجلب منها بعض الأقوات والمؤن بصعوبة. وبقيت المدينة المحصورة تعاني مصائب الحصار صابرة جلدة، حتى دخل الشتاء، وغصت هذه الوهاد والشِعَب بالثلوج، واشتد الجوع والبلاء بالمحصورين. عندئذ تقدّم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك ذات يوم إلى مجلس الحكم، وقرّر أن المؤن الباقية لا تكفي إلاّ لأمد قصير، وأن اليأس قد دبّ إلى قلوب الجند والعامة، وأن الاستمرار في الدفاع عبث لا يجدي (1)، ولكن موسى بن أبي الغسّان، اعترض كعادته بشدّة، وقرّر أن الدفاع ممكن وواجب. وبثّ بادرة جديدة من الحماسة في الرؤساء والقادة. فاستسلم السلطان أبو عبد الله محمد إلى تلك الروح، وسلّم إلى القادة أمر الدفاع، وتولّى موسى كعادته قيادة الفرسان، وكان في مقدمة مساعديه فارسان من أنجاد العصر هما: نعيم بن رضوان، ومحمد بن زائدة. ثم أمر بفتح الأبواب، وأعدّ فرسانه أمامها ليل نهار، فإذا _______ (1) Lafuente Alcantera; ibid; V. 111. p. 67.

اقتربت سرية من النصارى دهمها الفرسان المسلمون، وأثخثوا فيها. ومزّقت على هذا النحو صفوف من النصارى، وكان موسى يقول لفرسانه: "لم يبق سوى الأرض التي نقف عليها، فإذا فقدناها فقدنا الاسم والوطن". وأخيراً رأى ملك قشتالة أن يزحف بقواته على أسوار المدينة، فخرج المسلمون إلى لقائه، وعلى رأسهم أبو عبد الله وموسى، ونشبت بين الفريقين في فحص غرناطة عدّة معارك دموية، وكان الفرسان المسلمون وعلى رأسهم موسى روح المعركة وقوامها، وكان أبو عبد الله يقود الحرس الملكي، وكان القتال رائعاً خضب فيه كل شبر من الأرض بدماء الفريقين، ولكن المشاة المسلمين كانوا ضعافاً لا يعتمد عليهم، فمزقوا بسرعة، وتبعهم فرسان الحرس الملكي إلى أبواب المدينة وعلى رأسهم أبو عبد الله، وعبثاً حاول موسى أن يجمع شمل الجند، وأن يدعوهم للزود عن أوطانهم ونسائهم وكل ما هو مقدّس لديهم، وألفى نفسه وحيداً في الميدان مع فرسانه المخلصين، وقد تضاءل عددهم وأثخن الباقون منهم جراحاَّ، فاضطر عندئذٍ أن يرتدّ إلى المدينة وهو يرتجف غضباً ويأساً. وهنا أوصد المسلمون أبواب المدينة وامتنعوا بأسوارها جزعين مكتئبين، يرون شبح النهاية المحتومة ماثلاً، فلم تبق سوى أيام أو أسابيع قلائل، حتى يصبح سقوط الوطن في يد العدو أمراً واقعاً، وحتى تصبح أنفسهم وأموالهم وحرياتهم ودينهم رهناً في يد من لا يرحمهم. وكان قد مضى على حصار غرناطة منذ بدأ الربيع حتى دخول الشتاء زهاء سبعة أشهر، والمسلمون يغالبون أهوال الحصار، وتتفاقم محنتهم شيئاً فشيئاً. فلما جاءت خاتمة المعارك مبدّدة لكل أمل في الإنقاذ، واشتد فتك الجوع والحرمان والمرض، ودبّ اليأس إلى قلوب الناس جميعاً، لم يبق مناص من إعادة النظر في الموقف. فدعا أبو عبد الله مجلساً من كبار الجند والفقهاء والأعيان، فاجتمعوا في بهو الحمراء الكبير "بهو قمارش"، واليأس بادٍ في وجوههم، وشرح لهم أبو القاسم عبد الملك كيف وصل الخطب إلى ذروته، فهلكت

أنجاد الفرسان، وخبت قوى الدفاع، ونضبت الأقوات والمؤن، واشتد البلاء بالناس، وغاض كل أمل في تلقي الإمداد من عدوة المغرب، وصرّح "الجماعة" بأن الشعب لا يقوى بعد على تحمل ويلات الدفاع، وأنه لم يبق سوى التسليم أو الموت، واتفق الجميع على وجوب التسليم (1)، ولم يرتفع بالاعتراض غير صوت واحد هو صوت موسى بن أبي الغسّان، فقد حاول كعادته أن يبث بكلماته الملتهبة قبساً أخيراً من الحماسة، وكان مما قال: "لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لدينا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدّى إلى المعجزات: ذاك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح في يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه خير لي أن أُحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أُحصى بين الذين شهدوا تسليمها". على أن كلماته لم تؤثر في هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالاً نضب الأمل في قلوبهم، وغاضت فيهم كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب، بل يعلو نصح الشيوخ ويغلب. وهكذا حدث، فإن السلطان أبا عبد الله فوّض الأمر للجماعة، واتفق الجماعة من خاصة وعامة على مفاوضة ملك قشتالة في التسليم، واختير الوزير القائد أبو القاسم عبد الملك للقيام بتلك المهمة، وكان ذلك في أواخر سنة (896 هـ - تشرين الأول - أكتوبر 1491 م). _______ (1) أخبار العصر (48 - 49) ونفح الطيب (2/ 615).

2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم وهنا يسدل الستار على تلك المناظر الرائعة المؤثرة، التي تقدمها الرواية لنا عن بسالة المسلمين في الدفاع عن مدينتهم وعلى ذلك الموقف الباهر الذي اتخذه أبو عبد الله مدى حين، واتّشح بثوب البطل المدافع عن ملكه وأمّته ودينه، وتبرز لنا طائفة من الحقائق المؤلمة التي تصم أولئك الزعماء والقادة، الذين جنحوا في النهاية إلى المساومة بحقوق أمتهم، واستغلالها لمآربهم الخاصة. يقول صاحب أخبار العصر: إن كثيراً من الناس زعموا أن أمير غرناطة ووزيره وقواده، كان قد تقدم الكلام بينهم وبين ملك قشتالة سرّاً في تسليم غرناطة، ولم يجرأوا على المجاهرة بعزمهم خشية انتقاض الشعب، وإنهم لبثوا حيناً يلاطفون الشعب ويملقونه، حتى ألفوا السبيل ممهّداً للعمل برضاء الشعب وموافقته، ويستشهد أصحاب هذه الرواية بما حدث من انقطاع المعارك بين المسلمين والنصارى حيناً قبل بدء المفاوضة في التسليم، وتزيد الرواية على ذلك، بأن القوّاد المسلمين الذين اضطلعوا بهذه المفاوضة، تلقّوا تحفاً وأموالاً جزيلة من ملك قشتالة (1). وفي نفس الوقت الذي اتجه فيه رأي الجماعة إلى المفاوضة في التسليم، كانت تبذل في الخفاء مساع أخرى لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الضمانات والمغانم الخاصة لأبي عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه، وكان الملكان الكاثوليكيان يرميان إلى استخلاص غرناطة بأي ثمن غير الحرب، ولا يدّخران وسعاً في بذل أية تضحية أو منحة لإغراء الزعماء والقادة لتذليل هذه المهمة. وهكذا كلّلت هذه المساعي الخفية بالنجاح، وفي نفس الوقت الذي عقدت فيه معاهدة التسليم، عقدت معاهدة سريّة أخرى يمنح فيها أبو عبد الله _______ (1) أخبار العصر (48 - 49) ونفح الطيب (2/ 615).

وأفراد أسرته ووزراؤه منحاً خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها. وقد أبقيت هذه المعاهدة في طي الكتمان، ولم يقف عليها سوى نفر من الخاصة، وهذا يثبت ما يشير إليه صاحب أخبار العصر. ولم يك ثمة سبيل سوى الموت أو مفاوضة العدو الظافر، وقد اختار زعماء غرناطة المفاوضة، ولو أنهم اختاروا الموت تحت أنقاض مدينتهم دفاعاً عنها لأحرزوا لذكراهم الخلود وإعجاب التاريخ، ولكن يبدو أنه لم يكن ثمة لدى أبي عبد الله ومن معه إرادة القتال التي يتّسم بها الشعب الغرناطي المجاهد. وبالطبع يحلو للمصادر الأجنبية أن تدفع الشكوك عن أبي عبد الله ومن حوله، فيقول مارمول الذي كتب روايته بعد ذلك بنحو سبعين عاماً: "ولما رأى الزّغيبي (أبو عبد الله) أن مدينة غرناطة لا تستطيع دفاعاً، ولا تأمل الغوث والإمداد، ونزولاً على رغبة السواد الأعظم من الشعب، الذي لم يعد يصبر على هذا الأمر الفادح، أرسل يطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين، لكي يستطيع خلالها أن يتفاهم على شروط الصلح التي يمكن التسليم بمقتضاها" (1). ويقول لافونت ألقنطرة: "اشتدت وطأة الجوع على المحصورين، وأصبحت الجماهير الصاخبة تجوب أنحاء المدينة تنذر الأغنياء بالويل، وتبعث الرجفة إلى أبي عبد الله وأولاده وأعوانه. وإزاء هذا التهديد، دعا الأمير مجلساً من الزعماء والقادة، وطلب إليهم البحث فيما يمكن عمله لتجنّب الأخطار التي تهدد المدينة من الداخل والخارج. وقال الشيوخ والفقهاء: إنه لم يبق سبيل سوى التسليم أو الموت، وأشار أهل الرأي بأن يقوم أبو القاسم بإذن أبي عبد الله بمفاوضة النصارى" (2). لقد كان موقف أبي عبد الله موقفاً مريباً - ذلك الموقف الذي وقفه هو _______ (1) Luis del Marmol ; ibid ; Lib. 1., Cap. XIX. (2) Lafuente Alcantra; ibid; V. 111. P. 97.

ووزراؤه - فحاولوا أن يحققوا لأنفسهم فيه مغانم خاصة، والذي يدل على الأثر والخور والضعف الإنساني، والتعلق بأسباب السلامة، وانتهاز الفرص، وهي ليست سمات المسؤول حقاً عن أمة وشعب ووطن. وسار القائد أبو القاسم عبد الملك، مندوب أبي عبد الله إلى معسكر الملكين الكاثوليكيين ليؤدي مهمته الأليمة، وقد اضطلع هذا القائد فضلاً عن المفاوضة في تسليم غرناطة، بالمفاوضة في سائر الاتفاقات اللاحقة التي عقدت بين أبي عبد الله وبين ملكي قشتالة، ونرى اسمه مذكوراً في معظم الوثائق القشتالية الغرناطية التي أبرمت في تلك المدّة، باعتباره دائماً مندوب أبي عبد الله المفوّض. ولم نعثر على تفاصيل تخص شخصية هذا الوزير أو نشأته، ولكن الذي يبدو لنا من مواقفه وتصرفاته، أنه كان سياسياً عملياً، يؤمن إيماناً راسخاً بسياسة التسليم والخضوع للنصارى، وانتهازياً يرى انتهاز الفرص بأي الأثمان (1)، واستقبل فرديناند مندوب ملك غرناطة، وندب لمفاوضته أمينه فرناندو دى ثاخرا، وقائده جونزالفودي كردوبا، وكان خبيراً بالشئون الإسلامية، عارفاً باللغة العربية، وجرت المفاوضات بين الفريقين بمنتهى التكتّم، أحياناً في غرناطة، وأحياناً في قرية بزليانة (2)، القريبة الواقعة جنوب شرقي سنتمافيه. ويبدو من الخطابات التي تبودلت بين أبي عبد الله وبين ملكي قشتالة في تلك الأيام الدقيقة من حياة الأمة الأندلسية، أن حديث المفاوضة قد بدأ بين الفريقين في أوائل (أيلول - سبتمبر 1491 م)، وأن القائد أبا القاسم بن عبد الملك كان يعاونه في المفاوضة الوزير يوسف بن كُماشة، وقد كان مثله من خاصة أبي عبد الله ومن أنصار سياسة التسليم، وأن أبا عبد الله _______ (1) يذكر اسم أبي القاسم عبد الملك في الوثائق القشتالية محرّفاً: أبو القاسم عبد المليح أو أبو القاسم المليخ، وهو الأكثر شيوعاً: Bulacaen, Bulcasem al Muleh. ومن الغريب أنّ هذا التحريف غلب فيما بعد على كتابة اسمه بالعربية، فتراه يكتب في بعض الوثائق: أبو القاسم المليخ. (2) هي اليوم قرية Churiana، وهي من ضواحي غرناطة.

طلب في خطاب أرسله إلى ملكي قشتالة، أن تكون المفاوضات سرية حتى تتحقق غايتها المرجوّة، وذلك خشية انتفاض الشعب الغرناطي ونزعاته، هذا إلى أن الوزيرين الغرناطيين كتبا إلى ملكي قشتالة خطاباً يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما كاملة، وفي ذلك كله ما يلقي ضوءاً واضحاً على الموقف المريب الذي وقفه أبو عبد الله ووزراؤه من مسألة التسليم (1). واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت في (اليوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني - نوفمبر سنة 1491 م - محرم سنة 897 هـ). وقد تضمنت هذه الوثيقة الشهيرة، التي قرّرت مصير آخر القواعد الأندلسية ومصير الأمة الأندلسية، شروطاً عديدة بلغت ستاً وخمسين مادة. وقد لخّصت لنا الرواية الإسلامية معظم محتوياتها مع شيء من التحريف (2). ولكننا ننقل إلى العربية محتويات هذه المعاهدة عن نصوصها القشتالية الرسمية في توسع وإفاضة، وهذه هي مضمون المحتويات: أن يتعهد ملك غرناطة، والقادة، والفقهاء، والوزراء، والعلماء، والناس كافة، سواء في غرناطة والبيازين وأرياضهما، بأن يسلّموا طواعية واختياراً، وذلك في ظرف ستين يوماً تبدأ من تاريخ هذه المعاهدة، قلاع الحمراء والحصن، وأبوابها وأبراجها، وأبواب غرناطة والبيازين، إلى الملكين الكاثوليكيين، أو أي مَن يندبانه من رجالهما، على ألاّ يسمح لنصراني أن يصعد إلى الأسوار القائمة بين القصبة والبيازين، حتى لا يكشف أحوال _______ (1) تحفظ الصورة القشتالية لهذه الخطابات ضمن مجموعة فرناندو دي ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرها Garrido Atienza في مجموعة الوثائق الخاصة بتسليم غرناطة المسماة Para la Entrega de Granada (Granada 1910) P. 200-214 Las Capitulocibnes. (2) أخبار العصر (48 - 50) ونفح الطيب (2/ 615 - 616).

المسلمين، وأن يعاقب مَن يفعل ذلك. وضماناً لهذا التسليم، يقدم الملك المذكور مولاي أبو عبد الله والقادة المذكورون، إلى جلالتيهما، قبل تسليم الحمراء بيوم واحد، خمسمائة شخص صحبة الوزير ابن كماشة، من أبناء وأخوة زعماء غرناطة والبيازين، ليكونوا رهائن في يديهما لمدة عشرة أيام، تصلح خلالها الحمراء. وفي نهاية هذا الأجل يرد أولئك الرهائن أحراراً. وأن يقبل حلالتهما، ملك غرناطة وسائر القادة والزعماء وسكان غرناطة والبشرات وغيرهما من الأراضي، رعايا وأتباعاً تحت حمايتهما ورعايتهما "1". وأنه حينما يرسل جلالتهما رجالهما لتسلم الحمراء المذكورة، فعليهم أن يدخلوا من باب العشاء ومن باب نجدة، ومن طريق الحقول الخارجية، وألاّ يسيروا إليها من داخل المدينة، حينما يأتون لتسلمها وقت التسليم "2". وأنه متى تم تسليم الحمراء والحصن، يردّ إلى الملك المذكور مولاي أبي عبد الله ولده المأخوذ رهينة لديهما، وكذلك سائر الرهائن المسلمين الذين معه، وسائر حشمه الذين لم يعتنقوا النصرانية "3". ويتعهد جلالتهما، وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة، والوزراء، والعلماء، والفقهاء، والفرسان، وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألاّ يؤمروا بترك شيء من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هي، وأن يُقْضَى بينهم وفق شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم "4". وألاّ يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم الآن أو فيما بعد، سوى المدافع الكبيرة والصغيرة، فإنها تسلم "5". وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبيازين وغيرهما، الذين يريدون العبور إلى المغرب، أن يبيعوا أموالهم المنقولة لمن شاءوا، وأنه يحق للملكين شراءها بمالهما الخاص "6". وأنه يحق للسكان المذكورين، أن يعبروا إلى المغرب، أو يذهبوا أحراراً

إلى أية ناحية أخرى، حاملين أمتعتهم وسلعهم، وحليّهم من الذهب والفضة وغيرها. ويلتزم الملكان بأن يجهّزوا في بحر ستين يوماً من تاريخه، عشر سفن في موانيهما يعبر فيها الذين يريدون الذهاب إلى المغرب. وأن يقدما خلال الأعوام الثلاثة التالية السفن، لمن شاء العبور، وتبقى السفن خلال هذه المدة تحت طلب الراغبين فيه، ولا يُقْتضَى منهم خلال هذه المدة أي أجر أو مغرم، وأنه يحق العبور لمن يشاء بعد ذلك، نظير دفع مبلغ (دوبل) واحد عن كل شخص، وأنه يحق لمن لم يتمكن من بيع أملاكه، أن يوكل لإدارتها، وأن يقتضي ريعها حيثما كان "7". وألاّ يرغم أحد من المسلمين أو أعقابهم، الآن أو فيما بعد، على تقلد شارة خاصة بهم "8". وأن ينزل الملكان، للملك أبي عبد الله المذكور، ولسكان غرناطة والبيازين وأرياضهما، لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخه، عن سائر الحقوق التي يجب عليهم أداؤها عن دورهم ومواشيهم "9". وأنه يجب على الملك أبي عبد الله، وسكان غرناطة والبيازين وأرياضهما والبشرات وأراضيها، أن يسلّموا وقت تسليم المدينة طواعية ودون أية فدية، سائر الأسرى النصارى الذين تحت أيديهم "10". وأنه لا يسمح لنصراني، أن يدخل مكاناً لعبادة المسلمين دون ترخيص، ويُعاقَب من فعل ذلك "12". وألاّ يولى على المسلمين مباشرة يهودي، أو يمنح أية سلطة أو ولاية عليهم "13". وأن يعامل الملك أبو عبد الله المذكور، وسائر السكان المسلمين، برفق وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يؤدي للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقاً للقواعد المرعية "14". وأنه إذا قام نزاع بين المسلمين، فصل فيه وفقاً لأحكام شريعتهم، وتولاه قضاتهم "15".

وألاّ يكلفوا بإيواء ضيف أو تؤخذ منهم ثياب أو دواجن أو أطعمة أو ماشية أو غيرها دون إرادتهم "16". وأنه إذا دخل نصراني منزل مسلم قهراً عنه، عوقب على فعله "17". وأنه فيما يتعلق بشئون الميراث، يحتفظ المسلمون بنظمهم، ويحتكمون إلى فقهائهم وفقاً لسنن المسلمين "18". وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبشرات وغيرهما الداخلين في هذا العهد، الذين يعلنون الولاء لجلالتهما، في ظرف ثلاثين يوماً من التسليم، أن يتمتعوا بالإعفاءات الممنوحة، مدى السنوات الثلاث "19". وأنه يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينية أو أية أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس متروكاً لنظر الفقهاء، وألاّ يتدخل جلالتهما بأية صورة، في شأن هذه الصدقات، أو يأمران بأخذها في أي وقت "20". وأنه لا يؤخذ أي مسلم بذنب ارتكبه شخص آخر، فلا يؤخذ والد بذنب ولده، أو ولد بذنب والده، أو أخ بذنب أخيه، أو ولد عم بذنب ولد عمه، ولا يُعاقَب إلاّ مَن ارتكب الجرم "21". وأنه إذا كان مسلم أسيراً، وفرّ إلى مدينة غرناطة أو البيازين أو أرباضهما أو غيرها، فإنه يعتبر حراً، ولا يسمح لأحدٍ بمطاردته إلاّ إذا كان من العبيد أو من الجزائر"24". وألاّ يدفع المسلمون الضرائب أكثر مما كانوا يدفعون لملوكهم المسلمين "25". وأنه يحق لسكان غرناطة والبيازين والبشرات وغيرها، ممن عبروا إلى المغرب، أن يعودوا خلال الأعوام الثلاثة التالية، وأن يتمتعوا بكل ما في هذا الاتفاق "28". وأنه يحق لتجار غرناطة وأرياضها والبشرات وسائر أراضيها، أن يتعاملوا في سلعهم آمنين، عابرين إلى المغرب وعائدين، كما يحق لهم دخول النواحي التابعة لجلالتيهما، وألاّ يدفعوا من الضرائب سوى التي يدفعها

النصارى "29". وإنه إذا كان أحد من النصارى - ذكراً أو أنثى - اعتنق الإسلام، فلا يحق لإنسان أن يهدّده أو يؤذيه بأية صورة، ومَن فعل ذلك يُعاقَب "30". وأنه إذا كان مسلم قد تزوج بنصرانية واعتنقت الإسلام، فلا ترغم على العودة إلى النصرانية، بل تُسئل في ذلك أمام المسلمين والنصارى، وألاّ يرغم أولاد الروميات ذكوراً أو إناثاً، على اعتناق النصرانية "31". وأنه لا يرغم مسلم ولا مسلمة قط على اعتناق النصرانية "32". وأنه إذا شاءت مسلمة متزوجة أو أرملة أو بكر اعتناق النصرانية بدافع الحب، فلا يقبل ذلك حتى تسئل وتوعظ وفقاً للقانون. وإذا كانت قد استولت خلسة على حلي أو غيرها من دار أهلها أو أي شىءٍ آخر، فإنها تردّ لصاحبها، وتتخذ الإجراءات ضد المسئول "33". وألاّ يطلب الملكان، أو يسمحا بأن يطلب إلى الملك المذكور مولاي أبي عبد الله، أو خدمه، أو أحد من أهل غرناطة أو البيازين وأرباضهما والبشرات وغيرها، من الداخلة في هذا العهد، بأن يردّوا ما أخذوه أيام الحرب من النصارى أو المدجّنين، من الخيل أو الماشية أو الثياب أو الفضة أو الذهب أو غيرها، أو من الأشياء المزروعة، ولا يحق لأحد يعلم بشيءٍ من ذلك أن يطالب به "34". وألاّ يطلب إلى أي مسلم، يكون قد هدّد أو جرح أو قتل أسيراً أو أسيرة نصرانية، ليس أو ليست في حوزته، ردّه أو ردّها الآن أو فيما بعد "35". وألاّ يدفع عن الأملاك والأراضي السلطانية، بعد انتهاء السنوات الثلاث الحرّة، من الضرائب إلاّ وفقاً لقيمتها، وعلى مثل الأراضي العادية "36". وأن يطبق ذلك أيضاً على أملاك الفرسان والقادة المسلمين، فلا يدفع أكثر عن الأملاك العادية "37". وأن يتمتع يهود من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما، والأراضي التابعة لها، بما في هذا العهد من الامتيازات، وأن يسمح لهم بالعبور إلى المغرب

خلال ثلاثة أشهر، تبدأ من يوم 18 كانون الثاني - ديسمبر "38". وأن يكون الحكام والقواد والقضاة، الذين يعينون لغرناطة والبيازين والأراضي التابعة لهما، ممن يعاملون الناس بالكرامة والحسنى، ويحافظون على الامتيازات الممنوحة، فإذا أخلّ أحدهم بالواجب، عوقب وأحلّ مكانه مَن يتصرّف بالحق "39". وأنه لا يحق للملكين أو لأعقابهما إلى الأبد، أن يسألوا الملك المذكور أبا عبد الله، أو أحداً من المسلمين المذكورين، بأية صورة، عن أي شيءٍ يكونوا قد عملوه حتى حلول يوم تسليم الحمراء المذكورة، وهي مدة الستين يوماً المنصوص عليها "40". وأنه لا يولّى عليهم أحد من الفرسان أو القادة أو الخدم، الذين كانوا تابعين لملك وادي آش (1) "41". وأنه إذا وقع نزاع بين نصراني أو نصرانية ومسلم أو مسلمة، فإنه ينظر أمام قاضٍ نصراني وآخر مسلم، حتى لا يتظلم أحد مما يقضي به "42". وأن يقوم الملكان بالإفراج عن الأسرى المسلمين ذكوراً وإناثاً، من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما وأراضيهما، إفراجاً دون أية نفقة من فدية أو غيرها، وأن يكون الإفراج عمن كان من هؤلاء الأسرى بالأندلس في ظرف خمسة الأشهر التالية؛ وأما الأسرى الذين بقشتالة فيفرج عنهم خلال الثمانية أشهر التالية. وبعد يومين من تسليم الأسرى النصارى لجلالتيهما يفرج عن مائتي أسير مسلم، منهم مائة من الرهائن، ومائة أخرى "44". وأنه إذا دخلت أية محلّة من نواحي البشرات في طاعة جلالتيهما، فإنها يجب أن تسلّم إليهما كل الأسرى النصارى ذكوراً وإناثاً، في ظرف خمسة عشر يوماً من تاريخ الانضمام، وذلك دون أية نفقة "46". وأن تعطى الضمانات للسفن المغربية الراسية الآن في مملكة غرناطة، لكي _______ (1) المقصود هنا مولاي الزّغل.

تسافر في أمان على ألاّ تكون حاملة أي أسير نصراني، وألاّ يحدث أحد لها ضرراً أو إتلافاً، وألاّ يؤخذ منها شيء، ولا ضمان لمن تحمل منها أسرى من النصارى، ويحق لجلالتيهما إرسال مَن يقوم بتفتيشها لذلك الغرض "47". وألاّ يدعى أو يؤخذ أحد من المسلمين إلى الحرب رغم إرادته، وإذا شاء جلالتهما استدعاء الفرسان الذين لهم خيول وسلاح للعمل في نواحي الأندلس، فيجب أن يدفع لهم الأجر من يوم الرحيل حتى يوم العودة "48". وأنه يجب على كل مَن عليه دين أو تعهد، أن يؤديه لصاحب الحق، ولا يحق لهم التحرر من هذه الحقوق "52". وأن يكون المأمورون والقضائيون الذين يعينون لمحاكم المسلمين أيضاً مسلمين، وألاّ يتولاّها نصراني الآن وفي أي وقت "54". وأن يقوم الملكان في اليوم الذي تسلم إليهما فيه الحمراء والحصن والأبواب كما تقدم، بإصدار مراسيم الامتيازات للملك أبي عبد الله وللمدينة المذكورة، ممهورة بتوقيعهما، ومختومة بخاتمهما الرصاص ذي الأهداب الحريرية، وأن يصدّق عليها ولدهما الأمير والكاردينال المحترم دسبينا، ورؤساء الهيئات الدينية، والعظماء والدوقات، والمركيزون والكونتات والرؤساء، حتى تكون ثابتة وصحيحة الآن وفي كل وقت (56 ثافرا) - (43 سيمانقا). وقد ذيِّلت المعاهدة، بنبذة خلاصتها، أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتمهما، وعليها تاريخ تحريرها وهو يوم (25 تشرين الثاني - نوفمبر 1491 م) (1). ثم ذيلت بعد ذلك بتاريخ لاحق هو يوم _______ (1) نهاية الأندلس (230 - 235)، وقد ترجمها المؤلف ولخّصها من نصوص معاهدة التسليم في الوثيقتين الرسميتين اللتين تضمنتا نصوص هذه المعاهدة، وهما: أولاًَ الوثيقة المحفوظة بدار المحفوظات العامة في (سيمانقا Archivo general de Simancas) وتحمل رقم P. R. 11-207 ضمن مجموعة ( Capitulaciones =

(30 كانون الثاني - يناير 1492 م) أعني بعد تسليم غرناطة بشهرين، بتوكيد جديد، يأمر فيه الملكان ولدهم الأمير وسائر المملكة بالمحافظة على محتويات هذا العهد، وألاّ يعمل ضده شيء، أو ينقص منه شيء، الآن إلى الأبد، وأنهما يؤكدان ويقسمان بدينهما وشرفهما الملكي بأن يحافظا، ويأمرا بالمحافظة على كل ما يحتويه بنداً بنداً إلى الأبد، وقد ذيّل هذا التوكيد بتوقيع الملكين، وتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء (1). وفي نفس اليوم الذي وقِّعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، وهو (يوم 25 تشرين الثاني 1491 م) (2)، وفي نفس المكان الذي وقّعت فيه، وهو المعسكر الملكي بمرج غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى أو ملحق سرّي للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح، التي تعطى للسلطان أبي عبد الله، ولأفراد أسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته التي تضمنتها المعاهدة من تسليم غرناطة والحمراء وحصونها. وتتلخص هذه الحقوق والامتيازات والمنح فيما يأتي: أن يمنح الملكان الكاثوليكيان لأبي عبد الله وأولاده وأحفاده وورثته إلى الأبد، حق الملكية الأبدية، فيما يملكان من محلاّت وضياع في بلاد برجة، ودلاية، ومرشانة، ولوشار، وأندراش، وأجيجر، وأرجبة، وبضعة بلاد _______ = Con Moros Y) - (Caballeros de Castilla) ، وهي تملأ إحدى عشرة لوحة كبيرة ومحرّرة بالقشتالية القديمة. وثانياً الوثيقة المعروفة بوثيقة فرناندو دي ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، وتحفظ بمجموعة دي ثافرا ببلدية غرناطة Las Capitulaciones Para la Entraga, Por Miguel Garrido Arinza (Granada 1910) P. 269-295. (1) أنظر مجموعة وثائق تسليم غرناطة السالفة الذكر (289 - 290). (2) تحفظ النسخة القشتالية لهذه المعاهدة السرّية التي عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبي عبد الله بدار المحفوظات العامّة في سيمانقا ( Archivo general de Simancas) وتحمل رقم: ( Fol.206,P.R.leg.11) .

أخرى مجاورة، وكل ما يخصها من الضرائب وحقوق الريع، وما بها من الدور والأماكن والقلاع والأبراج، لتكون كلها له ولأولاده وأعقابه وورثته بحق الملكية الأبدية، يتمتع بكل ريعها وعشورها وحقوقها، وأن يتولى القضاء في النواحي المذكورة باعتباره سيدها، وباعتباره في الوقت نفسه تابعاً وخاضعاً لجلالتيهما، وله حق بيع الأعيان المذكورة ورهنها، وأن يفعل بها ما يشاء ومتى شاء، وأنه متى أراد بيعها، فإنه يعرض ذلك أولاً على جلالتيهما، فإذا لم يريدا شراءها، فله أن يبيعها لمن شاء. وأن يحتفظ جلالته بقلعة إدرة، وسائر القلاع الواقعة على الشاطئ. وأن يعطي جلالتهما إلى الملك مولاي أبي عبد الله هبة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالي من الذهب (كاستيليانو)، يبعثان بها إليه عقب تسليم الحمراء وقلاع غرناطة الأخرى التي يجب تسليمها، وذلك في الموعد المحدّد. وأن يهب جلالتهما للملك المذكور، كل الأراضي والرّحى والحدائق والمزارع التي كان يملكها أيام أبيه السلطان أبي الحسن، سواء في غرناطة أو في البشرات، لتكون ملكاً له ولأولاده ولعقبه وورثته، ملكية أبدية، وله أن يبيعها أو يرهنها وأن يتصرّف فيها كيفما يشاء. وأن يهب جلالتهما، إلى الملكة والدته، والملكات أخواته وزوجته، وإلى زوجة أبي الحسن، كل الحدائق والمزارع والأراضي والطواحين والحمامات، التي يملكنها في غرناطة والبشرات، تكون ملكاً لهنّ ولأعقابهن إلى الأبد، ولهن بيعها أو رهنها والتمتع بها وفقاً لما تقدم. وأن تكون سائر الأراضي الخاصة بالملك المذكور والملكات المذكورات وزوجة مولاي أبي الحسن معفاة من الضرائب والحقوق الآن وإلى الأبد. وأن لا يطلب جلالتهما أو أعقابهما إلى ملك غرناطة أو حشمه أو خدمه ردّ ما أخذوه في أيامهم سواء من النصارى أو المسلمين من الأموال والأراضي. وأنه إذا شاء الملك المذكور أبو عبد الله والملكات المذكورات، وزوجة مولاي أبي الحسن وأولادهم وأحفادهم وأعقابهم وقوادهم وخدمهم وأهل

دارهم وفرسانهم وغيرهم، صغاراً وكباراً، العبور إلى المغرب، فإن جلالتهما يجهزان الآن وفي أي وقت سفينتين لعبور الأشخاص المذكورين، متى شاءوا، تحملهم وكل أمتعتهم وماشيتهم وسلاحهم، وذلك دون أي أجر أو نفقة. وأنه إذا لم يتمكن الملك المذكور وأولاده وأحفاده وأعقابه، والملكات المذكورات، وزوجة مولاي أبي الحسن والقواد والحشم والخدم، وقت عبورهم إلى المغرب، من بيع أملاكهم المشار إليها، فإن لهم أن يوكلوا من شاءوا لقبض ريعها، وإرسالها حيث شاءوا دون أي قيد أو مغرم. وأنه يحق للملك المذكور، متى خرج من غرناطة، أن يسكن أو يقيم متى شاء، في الأراضي التي قطعت له، وأن يخرج هو وخدمه وقواده وعلماؤه وقضاته وفرسانه، الذين يريد الخروج معه، بخيلهم وماشيتهم، متقلدين أسلحتهم، وكذلك نساؤهم وخدمهم، وألاّ يؤخذ منهم شىء سوى المدافع، وألاّ يفرض عليهم الآن أو في أي وقت، وضع علامة خاصة في ثيابهم أو بأية صورة، وأن يتمتعوا بسائر الإمتيازات المقررة في عهد تسليم غرناطة. وأنه في اليوم الذي يتم فيه تسليم الحمراء وحصونها، يصدر جلالتهما المراسيم اللازمة بالمنح المذكور، موقعة ومختومة، ومصدّقاً عليها من ابنهما الأمير والكردينال وسائر العظماء (1). تلك هي الشروط التي وضعت لتسليم آخر القواعد الأندلسية، وتلك هي الامتيازات والمنح التي منحت لآخر ملوك الأندلس. فأما فيما يتعلق بغرناطة ومصاير الأمة المغلوبة، فقد كانت هذه المسهبة، والتي اشتملت على سائر الضمانات المتعلقة بتأمين النفس والمال، وسائر الحقوق المادية، وصون الدين والشعائر، والكرامَة الشخصية، أفضل ما يمكن الحصول عليه في مثل هذه المحنة، لو أخلص العدو الظافر في عهوده، ولكن هذه العهود لم تكن _______ (1) Prescott: ibid; P. 296.

في الواقع، حسبما أيّدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلاّبة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربي نفسه في أن يصفها: (بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسباني فيما تلا من العصور). وقد بذل فرديناند ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة كانت تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضي لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرديناند إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكي يصل إلى غايته المنشودة بطريقة سليمة مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة من ريب وشكوك تحيط بموقف أبي عبد الله ووزرائه وقادته. وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كُماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأُدخل سرّاً إلى قصر الحمراء؛ وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة في بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دي ثافرا ممهورة بتوقيع أبي عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة. وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة في تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان، رواية قشتالية مؤثرة، تنم عن روح الانتقاض والسّخط التي كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التي كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين. تقول الرواية المذكورة: إنه حينما اجتمع الزعماء في بهو الحمراء الكبير ليوقّعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذٍ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى

لبث وحده صامتاً عابساً وقال: "أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء. وإني لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة؛ ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة، ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حرياتنا، وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمّنا الغبراء أبناءها من أغلال المستعبد وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال: إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها" (1). ثم صمت موسى، وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبو عبد الله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل في تلك الوجوه التي أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض في تلك القلوب الكبيرة الدامية. وعندئذٍ صاح أبو عبد الله: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، ولا رادّ لقضاء الله. تالله لقد كُتب عليّ أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يديّ). وصاحت الجماعة على أثره: (الله أكبر ولا رادّ لقضاء الله)، وكرروا جميعاً: إنها إرادة الله، ولتكن، وأنه لا مفرّ من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه. فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يُجدي، وأن الجماعة قد أخذت فعلاً في توقيع صك التسليم، نهض مغضباً وصاح: "لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك بناتنا ونسائنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا، فوالله لن أراه". ثم غادر المجلس، واخترق بهو الأسود (كورة السباع) عابساً حزيناً، وجاز إلى أبهاء _______ (1) Conde , ibid; V. 111. P. 256-257.

الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحداً، أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره، وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق شوارع غرناطة حتى غادرها من باب إلبيرة، ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط، هذا ما تقوله الرواية القشتالية عن نهاية موسى بن أبي الغسان (1)، ولكن مؤرخاً إسبانياً هو القس أنطونيو أجابيدا يحاول أن يلقي ضوءاً على مصيره فيقول: إن سرية من الفرسان النصارى تبلغ الخمسة عشر، التقت ذلك المساء بعينه، على ضفة نهر شنيل بفارس مسلم قد دجّجه السلاح من رأسه إلى قدمه، وكان مغلقاً خوذته شاهراً رمحه، وكان جواده غارقاً مثله في رداء من الصلب. فلما رأوه مقبلاًَ عليهم، طلبوا إليه أن يقف، وأن يعرف بنفسه، فلم يجب الفارس المسلم، ولكنه وثب إلى وسطهم، وطعن أحدهم برمحه وانتزعه عن سرجه فألقاه إلى الأرض، ثم انقضَّ على الباقين يثخن فيهم طعاناً، وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلاّ أن يقتل وأن يسيل الدم، وكأنه إنما يقاتل للانتقام فقط، وكأنّه يتوق إلى أن يُقتل دون أن يعيش لينعم بظفره. وهكذا لبث يبطش بالفرسان النصارى حتى أفنى معظمهم، غير أنه أصيب في النهاية بجرح خطر، ثم سقط جواده من تحته بطعنة أخرى، فسقط إلى الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه. فلما رأى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيراً في يد خصومه ارتد إلى ما وراءه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعته لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق. وهذا الفارس الملثم هو موسى بن أبي الغسّان، وإن بعض العرب المتنصرين في المعسكر عرفوا جواده المقتول (2). وما كادت أنباء الموافقة على عهد التسليم تذاع، حتى عمّ الحزن ربوع _______ (1) هذه هي رواية كوندي فيما نقل عن مصادر عربية غير معروفة. Conde; ibid. V. 111. P. 257. (2) Irving: Conquest of Granada ; ch. 97.

غرناطة، وتسرّبت في الوقت نفسه أنباء غامضة عن المعاهدة السرّية، وعما حققه أبو عبد الله ووزراؤه لأنفسهم من المغانم الخاصة، وسرى الهمس بين العامة، واضطرم سواد الشعب يأساً وسخطاً على قادته، ولا سيما أبي عبد الله الذي اعتبر مصدر كل مصائبه ومحنه، وتعالى النداء بوجوب الدفاع عن المدينة حتى الرمق الأخير، وحدثت حركة انتقاض، خشي أبو عبد الله والقادة أن تقضي على خططهم وتدابيرهم، ولكنها انهارت قبل أن تنتظم، وأضحى كل فرد يفكر في مصيره. واستقبل المسلمون عهود ملك قشتالة في تردّد وتوجّس، والشك يساورهم في إخلاص أعدائهم، وإزاء ذلك أعلن الملكان الكاثوليكيان في يوم 29 تشرين الثاني - نوفمبر، مع قسم رسمي بالله أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية في العمل في أراضيهم أو حيث شاءوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب. ولكن الأيمان والعهود لم تكن - حسبما تقدّم - عند ملكي قشتالة، سوى ذريعة للخيانة والغدر، ووسيلة لتحقيق المآرب بطريق الخديعة الشائنة. وقد كانت هذه أبرز صفات فرديناند الكاثوليكي، فهو لم يتردّد قط في أن يعمل لتحقيق غاياته بأي الوسائل، أو أن يقطع أي عهد أو يقدّم أي تأكيد، دون أن ينوي قط الوفاء بما تعهّد. ولكن الشعب الغرناطي استمرّ في وجومه وتوجسه ويأسه، ولم تهدأ الخواطر المضطرمة، وكان أبو عبد الله والقادة يخشون تفاقم الأحوال، وإفلات الأمر من أيديهم، فاعتزموا العمل على التعجيل بالتسليم، حرصاً على سلامة المدينة وسلامة الزعماء، وألاّ ينتظروا مرور الستين يوماً التي نصت عليها المعاهدة. وفي 20 كانون الأول - ديسمبر، أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف كماشة إلى فرديناند مع خمسمائة من الرهائن من الوجوه والأعيان، تنفيذاً لنص المعاهدة، وليعرب له عن حسن نية مليكه واستعداده، كما حمل إليه هدية تتألف من سيف ملوكي وجوادين عربيين مسرجين بعدد

ثمينة. واتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة (في الثاني من كانون الثاني - يناير 1492 م) أي لتسع وثلاثين يوماً فقط من توقيع عهد التسليم. وفي صباح يوم احتلال القشتاليين غرناطة، كان العسكر النصراني في شنتفى يموج بالضجيج والابتهاج، وكانت الأوامر قد صدرت، والأهبة قد اتخذت لاحتلال المدينة. وكان قد اتفق بين أبي عبد الله والملك فرديناند أن تطلق من الحمراء ثلاثة مدافع تكون إيذاناً بالتسليم. ولم يشأ فرديناند أن يسير إلى الحاضرة الإسلامية بنفسه، قبل التحقق من خضوعها التام، واستتباب الأمن والسلامة فيها، فأرسل إليها قوة من ثلاثة آلاف جندي وسرية من الفرسان، وعلى رأسها الكاردينال بيدرو دى مندوسا مطران إسبانيا الأكبر. وكان من المتفق عليه أيضاً بين فرديناند وأبي عبد الله، ألاّ يخترق الجيش النصراني شوارع المدينة، بل يسير توّاً إلى قصبة الحمراء، حتى لا يقع حادث أو شغب، ومن ثم فقد اخترق الجند القشتاليون الفحص إلى ضاحية أرميليا ( Armilla) - ( أرملة) الواقعة جنوبي غرناطة، ثم عبروا نهر شنيل واتجهوا توّاً إلى قصر الحمراء من ناحية التل المسمى: (تل الرّحى)، الواقع غربي المدينة وجنوبي غربي الحمراء ( Quest de los Molinos) . وسار الملك فرديناند في الوقت نفسه في قوّة أخرى، ورابط على ضفة شنيل، ومن حوله أكابر الفرسان والخاصة في ثيابهم الزاهية، حتى يمهد الكاردينال الطريق لمقدم الركب الملكي. وانتظرت الملكة إيزابيلا في سرية أخرى من الفرسان في أرميليا على قيد مسافة قريبة. ووصل الجند القشتاليون إلى مدينة غرناطة من هذه الطريق المنحرفة نحو الظهر. وكانت أبواب الحمراء قد فتحت وأخليت أبهاؤها استعداداً للساعة الحاسمة. وهنا تختلف الرواية، فيقال: إن الذي استقبل الكاردينال مندوسا وصحبه هو الوزير ابن كماشة، الذي ندب للقيام بتلك المهمة المؤلمة، وسلم الحرس المسلمون السلاح والأبراج. وكان يسود المدينة كلها، ويسود القصبة والقصر وما إليه، سكون الموت.

وفي رواية أخرى، إن أبا عبد الله قد شهد بنفسه تسليم الحمراء، وأنه حينما تقدم القشتاليون من تل الرحى صاعدين نحو الحمراء، تقدم أبو عبد الله من باب الطباق السبع راجلاً، يتبعه خمسون من فرسانه وحشمه، فلما عرف الكاردينال أبا عبد الله، ترجّل عن جواده، وتقدّم إلى لقائه، وحيّاه باحترام وحفاوة، ثم ابتعد الرجلان قليلاً، وتحدّثا برهة على انفراد. ثم قال أبو عبد الله بصوت مسموع (1): "هيا يا سيدي، في هذه الساعة الطيبة، وتسلّم هذه القصور - قصوري - باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر، أن يستوليا عليها، لفضائلهما، وزلاّت المسلمين"، فوجّه الكاردينال إلى أبي عبد الله بعض عبارات المواساة، ودعاه لأن يقيم في خيمته في المعسكر الملكي طيلة الوقت الذي يمكثه في شنتفي، فقبل أبو عبد الله شاكراً. وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة الذي ندبه أبو عبد الله للقيام بهذه المهمة، وما كاد الكاردينال وصحبه يجوزون إلى داخل القصر الإسلامي المنيف، حتى رفعوا فوق برجه الأعلى، وهو المسمى (برج الحراسة) - ( Torre de la Vela) صليباً فضياً كبيراً، هو الذي كان يحمله الملك فرديناند خلال حرب غرناطة، كما رفعوا إلى جانبه علم قشتالة وعلم القديس ياقب، وأعلن المنادي فوق البرج بصوت جهوري ثلاثاً: أن غرناطة أصبحت ملكاً للملكين الكاثوليكيين، وأطلقت المدافع تدوي في الفضاء. ثم انطلقت فرقة الرهبان الملكية ترتل صلاة: (الحمد لله) Te Deian laudam على أنغام الموسيقى. وهكذا كان كل ما هنالك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التي شهرتها إسبانيا النصرانية على الأمة الأندلسية، وعلى الإسلام في إسبانيا. وفي أثناء ذلك، كان أبو عبد الله في طريقه إلى لقاء الملك الكاثوليكي، _______ (1) المفروض أنَّ أبا عبد الله كان يتحدّث القشتالية، وهي لغة يجيد التكلّم بها. فإذا كان قد تكلّم بالعربية، فمن المفروض أن الكاردينال يحسنها، وكانت العربية شائعة ليس في الأندلس حسب، بل عالمياً.

وكان فرديناند يرابط - كما قدّمنا - على ضفة نهر شنيل على مقربة من المسجد، الذي حوّل فيما بعد إلى كنيسة "سان سبستيان"، وهناك لقي عبد الله عدوّه الظافر، وسلّمه مفاتيح الحمراء. وكذلك قدّم أبو عبد الله خاتمه الذهبي الذي كان يوقع به على الأوامر الرسمية، إلى الكونت دى تندليا الذي عُيِّن محافظاً للمدينة. وسار في صحبه بعد ذلك في طريق شنتفى، يتبعه أهله، أمّه وزوجه وأخواته، وكان موكباً مؤسياً، وعرّج في طريقه على محلّة الملكة إيزابيلا في أرميليا، فاستقبلته وأسرته برقّة ومجاملة، وحاولت تخفيف آلامه، وسلّمته ولده الصغير الذي كان ضمن رهائن التسليم. وهنا تعود الرواية، فتختلف اختلافاً بيناً، فيقول بعضهم: إن الملكين الكاثوليكيين دخلا قصر الحمراء في نفس اليوم. وينفي بعضهم ذلك، ومنهم صاحب "أخبار العصر"، ويقول: "إنهما لم يدخلا إلاّ بعد ذلك ببضعة أيام". تقول الرواية الأولى: إن إيزابيلا سارت على أثر استقبالها لأبي عبد الله، وانضمت بصحبها إلى الملك فرديناند، ثم سار الإثنان إلى الحمراء، بينما انتشر الجند القشتاليون في الساحة المجاورة، ودخل الملكان من "باب الشريعة"، حيث استقبلهما الكاردينال مندوسا والوزير ابن كماشة، وأعطى مفاتيح الحمراء إلى الكونت ديجو دى تندليا الذي عُين حاكماً للمدينة، وبعد أن تجوّل الملكان قليلاً في القصر، وشهدا جماله وروعته، عادا إلى شنتفى وبقي الكونت دي تندليا في الحمراء مع حامية قوية في خمسمائة جندي. ثم عاد الملكان، فزارا الحمراء زيارتهما الرسمية في 6 كانون الثاني - يناير، وسارا في موكب فخم من الأمراء والكبراء وأشراف العقائل، ودخلا غرناطة من باب إلبيرة، ثم جازا إلى الحمراء من طريق غمارة، ودخلا قصر الحمراء، وجلسا في بهو قمارش أو المشور (1)، حيث كان يجلس الملوك المسلمون في _______ (1) وهو المسمى أيضاً بهو السفراء.

نفس المكان على عرشهم، على عرش أعدّه الكونت دى تندليا، وهناك أقبل أشراف قشتالة للتهنئة، وكذلك بعض الفرسان المسلمين، الذين أتوا ليقدموا شعائر التحية والتجلة لسادتهم الجدد. وفي خلال ذلك كان الملكان الكاثوليكيان قد أفرجا عن رهائن المسلمين الخمسمائة، وفي مقدمتهم ولد أبي عبد الله، وأفرج المسلمون من جانبهم عن الأسرى النصارى، وعددهم نحو سبعمائة أسير رجالاً ونساء، وتعهّد القشتاليون من جانبهم أن يطلقوا سراح الأسرى المسلمين في سائر مملكة قشتالة، في ظرف خمسة أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين في الأندلس، وثمانية أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين في بقية أراضي قشتالة. تلك هي خلاصة الرواية القشتالية عن تسليم غرناطة ومدينة الحمراء للملكين الكاثوليكيين. بيد أن هناك رواية أخرى لشاهد عيان، كتبها فارس فرنسي كان يقاتل في صفوف الجيش القشتالي، وشهد بنفسه حفلات التسليم، ونشرت روايته في القرن السادس عشر ضمن مؤلف عنوانه ( La Mar de las Historias بحر التواريخ)، وهذه خلاصتها: إن الذي أوفده الملكان لاستلام الحمراء في يوم 2 كانون الثاني - يناير، هو الأستاذ الأعظم، رئيس جمعية شنت ياقب، جوتيري دى كارديناس، وليس الكاردينال مندوسا حسبما تروي التواريخ القشتالية، وأنه تسلم القصر والأبراج، وأخرج منها الحرس المسلمين، ووضع بها الحرس النصارى، وأنه رفع الصليب الكبير فوق برج الحراسة ثلاث مرات، والمسلمون من أسفل يصعدون الزفرات ويذرفون الدموع، ثم لوّح بعد ذلك بعلم شنت ياقب ثلاث مرات، ونصب إلى جانب الصليب، وصاح المنادي بعد ذلك: القديس يعقوب ثلاثاً، قشتالة ثلاثاً، غرناطة لسيدنا الدون فرناندو ودوينا إيزابيلا ثلاثاً. وأن الملك فرديناند لما رأى الصليب، وهو في جنده، من أسفل، ترجّل وجثا على ركبتيه، وجثا الجند جميعاً شكراً لله، ثم أطلقت المدافع ابتهاجاً. وفي اليوم التالي: الثالث من كانون الثاني - يناير، سار الكاردينال مندوسا

والكونت دى تندليا، الذي عُيّن محافظاً للحمراء، إلى قصبة الحمراء في نحو ألف فارس وألفي راجل، وسلّم إليه الأستاذ الأعظم مفاتيح القصر والحصن، وفي اليوم الثامن من كانون الثاني - يناير، سار الملكان الكاثوليكيان إلى غرناطة في موكب حافل من الأمراء والأكابر والأحبار والأشراف، وتسلّم الملكان مدينة الحمراء بصفة رسمية، وأقيم القداس في الجامع الأعظم، وحُوِّل الجامع منذ ذلك اليوم إلى كتدرائية غرناطة. وفي ذلك اليوم أقيمت مأدبة عظيمة في قصر الحمراء، ومدّت الموائد الحافلة في أبهاء القصر العظيمة، وجلس إليها الملكان والأمراء والعظماء، وكانت مأدبة رائعة. ويستخلص من هذه الرواية التي يؤيدها مؤرخون آخرون، أن أبا عبد الله لم يستقبل الملكين الكاثوليكيين، ولا مندوبيهما وقت التسليم، ولم تقع بينه وبين الكاردينال ولا بين الملكين، الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها. وإلى جانب ذلك، يرى بعض النقدة المحدثين، أن أبا عبد الله حينما خرج للقاء الملكين الكاثوليكيين، قد فعل ذلك وهو في صحبه وحشمه فقط دون أهله، وأنه خرج يومئذٍ من داره الملكية الخاصة بحي البيازين، ولم يخرج من قصر الحمراء، وأنه كان يعيش في هذه الدار مع أهله وولده مذ عاد من الأسر، حتى أعلن الخلاف والحرب على الملكين الكاثوليكيين، وأنه كان يشعر وهو في هذه الدار، أنه بين أنصاره ومؤيديه. وأخيراً أنه كان قد أمر بإخلاء قصر الحمراء، وندب مَن يقوم بمهمّة التسليم في اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير. وفي هذا اليوم، خرج في نفر من صحبه ليقدّم إلى الملكين الكاثوليكيين شعائر التحية والخضوع، ثم عاد إلى داره فبقي بها أياماً، حتى سويت مسألة مصيره مع الملكين الكاثوليكيين. على أنه يبدو لنا من تتبع حوادث حصار غرناطة، وما تلاه من مفاوضات على التسليم، أن الرواية الراجحة في هذا الشأن، هو أن أبا عبد الله، حتى مع افتراض أنه لم يشهد رسوم التسليم، ولم يقم بها بنفسه، كان يقيم بقصر الحمراء، يحيط به وزراؤه وقواده طيلة هذه الأحداث الخطيرة، أو على الأقل مذ بدأت

مفاوضات التسليم بينه وبين الملكين الكاثوليكيين، ومذ أبرمت بينهما معاهدة التسليم، حتى يوم الحسم النهائي الذي تمّ فيه ذلك التسليم، وأنه خرج في ذلك اليوم المشهود من الحمراء للقاء عدوّه الظافر؛ ومن المعقول أن تكون الحمراء قد أخليت قبل ذلك استعداداً لتسليمها لسادتها الجدد، وذلك حسبما يشير إليه صاحب: "أخبار العصر" (1). وتلقي الرواية الإسلامية المعاصرة لتلك الأحداث ضوءاً على دخول ملك قشتالة مدينة غرناطة، وتصفه على النحو التالي: "فلما كان اليوم الثاني لربيع الأول عام سبعة وتسعين وثمانمائة (2 كانون الثاني - يناير سنة 1492 م) أقبل ملك الروم بجيوشه، حتى قرب من البلد، وبعث جناحاً من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء، وأقام هو ببقية الجيوش خارج البلد لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع الاتفاق على ما ذكر، رهوناً من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم، وأقعدهم بمحلته. فلما اطمأن من أهل البلد، ولم ير منهم غدراً، سرّح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير، وبقي خارج البلد، وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعُدّة، وترك فيها قائداً من قواده، وانصرف راجعاً إلى محلته ... ثم إن ملك الروم سرّح الناس الذين كانوا عنده مرتهنين، ومؤمنين في أموالهم وأنفسهم مكرّمين، وأقبل في جيوشه حين أطمأن، فدخل مدينة الحمراء في بعض خواصه، وبقي الجند خارج البلد، وبقي يتنزه في الحمراء في القصور والمنازه المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنوده وصار إلى محلته، فمن غدٍ أخذ في بناء الحمراء وتشييدها، وتحصينها، وإصلاح شأنها، وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردّد على الحمراء بالنهار ويرجع بالليل، فلم يزل كذلك إلى أن اطمأنت نفسه من غدر المسلمين، فحينئذٍ دخل البلد، ودار فيه في نفر من قومه وحشمه ... " (2). _______ (1) أخبار العصر (50). (2) أخبار العصر (50 - 51).

وهكذا اختتمت المأساة الأندلسية، واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية في إسبانيا، وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب، وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس، وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام، وقضي على الحضارة الأندلسية الباهرة، وآدابها وعلومها وفنونها، وكل ذلك التراث الشامخ، بالفناء. شهد المسلمون احتلال العدو الظافر لحاضرتهم ودار ملكهم وموطن آبائهم وأجدادهم، وقلوبهم تتقطر حزناً وأسى، على أن هذه المناظر المحزنة، كانت تحجب مأساة أليمة أخرى، تلك مأساة الملك التعس أبي عبد الله آخر ملوك بني الأحمر وآخر ملوك الإسلام بالأندلس. فقد تقرّر مصيره وبُيٍّنت حقوقه وامتيازاته وفقاً للمعاهدة السريّة التي عقدت بينه وبين الملكين الكاثوليكيين. وقد نصت المعاهدة المذكورة على أن يُقطَع أبو عبد الله طائفة من الأراضي والضياع في: برجة، ودلاية، وأندراش، وأجيجر، وأرجبة، ولوشار، وبضعة بلاد أخرى من أعمال منطقة البشرات، وهذه البلاد يقع بعضها في جنوب غربي ولاية ألمرية، وبعضها الآخر قبالتها في جنوب شرقي ولاية غرناطة، وأن يحكم أبو عبد الله في هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، ويتمتع بدخلها وسائر غلاتها وحقوقها. وقد حُدّدت إقامته أو اختار هو الإقامة في إحداها وهي بلدة أندرش الواقعة على النهر المسمى بهذا الاسم شمال برجة. ولما اقترب اليوم المروّع - يوم التسليم - قام أبو عبد الله باتخاذ أهبته للرحيل مع أهله وحشمه وخاصته. وفي صباح اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير 1492 م، في الوقت الذي اقترب فيه النصارى من أسوار غرناطة، كان أبو عبد الله قد غادر قصره وموطن عزّه ومجد آبائه إلى الأبد، في مناظر تثير الأسى والشجن. وهناك روايتان، فهل خرج أبو عبد الله عندئذٍ لآخر مرة من الحمراء مع أهله

وحشمه وأمتعته؟ أم خرج بمفرده في صحبه من الحمراء للقاء الملكين الكاثوليكيين، ثم لحق به بعد ذلك ركب أهله وأمتعته؟ وهل سار تواً إلى طريق البشرات حيث تعيَّن محل إقامته، أم عرّج على المعسكر القشتالي الملكي في شنتفى، فلبث فيه مع أهله أياماً، ثم سار بعد ذلك إلى البشرات؟ أما الرواية الأولى، وهي أكثر الروايات ذيوعاً لدى المؤرخين القشتاليين، فتقول: في فجر اليوم الثاني من كانون الثاني - يناير، وهو اليوم الذي حُدّد لتسليم الحمراء. كان ضجيج البكاء يتردّد في غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة في حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وساد الوجوم كل محيّا، واحتبست الزفرات في الصدور. وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر ركب قاتم مؤثر، وهو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين. وكانت أمّه الأميرة عائشة تمتطي صهوة جوادها، يشع الحزن من محيّاها الوقور، وكان باقي السيدات من آله وحشمه، يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخينة. واخترق الركب غرناطة في صمت البكور وستره، وحين بلغ الباب الذي سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضجّ الحراس بالبكاء لرؤية هذا المنظر المؤلم، ثم اتجه الركب شطر نهر شنيل في طريق البشرات. وأما أبو عبد الله، فقد اتجه إلى وجهة أخرى ليتجرّع كأسه المرّة إلى الثمالة، وكان قد تقرر اللقاء في صباح ذلك اليوم بينه وبين ملك قشتالة، فخرج من باب مدينة الحمراء المسمى: باب الطباق السبع ( Siete Svelos) ، وفي طريقه إلى لقاء عدوه الظافر وسيده الجديد، في نفرٍ من الفرسان والخاصة. فاستقبله فرديناند بترحاب وحفاوة في محلّته على ضفة نهر شنيل، وحين لمح أبو عبد الله فرديناند همّ بترك جواده، ولكن فرديناند بادر بمنعه، وعانقه بعطف ومودّة، فقبل أبو عبد الله ذراعه اليمنى إيماءة الخضوع. ثم قدم إليه مفتاحي البابين الرئيسيين للحمراء قائلاً: "إنهما مفتاحي هذه الجنّة. وهما الأثر الأخير لدولة المسلمين في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيّد تراثنا وديارنا

وأشخاصنا، وهكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيماً عادلاً". وتناول فرديناند المفتاحين قائلاً: "لا تشك في وعودنا، ولا تعوزنك الثقة خلال المحنة، وسوف تعوّض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك" (1). بيد أن مؤرخاً قشتالياً عاش قريباً من ذلك العصر، يقدم إلينا رواية أخرى ربما كانت أقرب إلى الصحة والمعقول، وهي أن مفاتيح الحمراء قدَّمها القائد ابن كماشة مأمور التسليم إلى الملك فرديناند حينما وصل إلى الباب الرئيس، وأن فرديناند ناولها إلى قائده كونت دي مندوسا (كونت دي تندليا) الذي عيّنه حاكماً عسكرياً لغرناطة (2). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند، إلى حيث كانت الملك إيزابيلا في ضاحية أرمليا، فقدم إليها تحياته وطاعته، ثم ارتد إلى طريق البشرات، ليلتحق بأسرته وخاصته. وأشرف أثناء مسيره في شعب تلّ البذول (بادول) على منظر غرناطة، فوقف يسرح نظره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها وشهدت عزّه وسلطانه، فانهمر في الحال دمعه، وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة: "أجل! فلتبك كالنساء، ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال"، وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثِّر هو: "زفرة العربي الأخيرة"، وما تزال قائمة معروفة حتى اليوم، يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجوّل. والباب الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة، وهو باب الطباق السبع، قد سُدّ بعد خروجه منه برجاء منه إلى ملك قشتالة، وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان (3). وما زالت الرواية تعيّن لنا مكان هذا الباب بين الأطلال _______ (1) تردّد معظم التواريخ القشتالية اللاّحقة وصف هذا المنظر وذكر قصة أبي عبد الله أنظر: L. Alcantra; ibid; V. 111. P. 73 (2) Luis del Marmol: Rebelian Y Costigo de los Moriscos de Granada, Lib. 1, Cor. XX. (3) Marmol ; ibid. 1; Cor. XX; L. Alcantra, ibid; V. 111. P. 80.

3 - عاقبة الملك المتخاذل

الدارسة. وهو يقع في طرف الهضبة في الجنوب الشرقي منها على مقربة من: (برج الماء)، والذي رآه يشهد أنه قد سد فراغه حقيقة بالبناء. وأما الرواية الأخرى، وهي الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء صبيحة يوم التسليم بمفرده وفي نفرٍ من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين، وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحي البيازين ليلتقي به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك توّاً إلى البشرات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالي في شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سوّيت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندراش التي اختارها أبو عبد الله مقراً ومقاماً. 3 - عاقبة الملك المتخاذل كان لسقوط غرناطة وانتهاء دولة الإسلام في الأندلس، وقع عميق في الضفة الأخرى من البحر، في أمم المغرب التي لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفي سائر العالم الإسلامي. وكان له أيضاً وقعه العميق في سائر الأمم النصرانية، فقد ابتهجت له أيّما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عوضاً لسقوط القسطنطينية في قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. ورحبت سائر قصور أوروبا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية منوهة بفضل فرديناند وإيزابيلا في تحقيق هذه الأمنية العظيمة (1). ولنبدأ الحديث عن مصير الملك المنكود أبي عبد الله محمد بن علي آخر ملوك الأندلس، دقد غادر غرناطة ساعة استيلاء النصارى عليها، وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرات، واستقر هناك في بلدة أندراش، وهي _______ (1) Prescott: Ferd and Isabella. P. 299 والهامش.

إحدى البلاد التي أقطعت له في تلك المنطقة ليقيم فيها في ظل ملك قشتالة وتحت حمايته. وصحبه إلى وطنه الجديد كثير من الفرسان والسادة والفقهاء، وفي مقدمتهم وزيراه: يوسف بن كماشة، وأبو القاسم عبد الملك (المليخ)، وكانا ألصق الناس به، وأقربهم إلى ثقته. وكانت أسرة السلطان المنفي تتألف من والدته السلطانة عائشة، وأخته عائشة، وزوجه مريم (أو مريمة)، وولده الصغير (1). أما أخوه الأصغر يوسف، فكان قد قتل في ألمرية أيام الفتنة بتحريض أبيه السلطان أبي الحسن أو عمه أبي عبد الله الزغل. وكان أبو عبد الله، عندئذ فتى في نحو الثلاثين من عمره، وبالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ مولده، فإن صديقه المؤرخ القشتالي هرناندو دى بايثا يقول لنا: إنه كان في نحو العشرين، يوم استطاع الفرار من سجن أبيه السلطان أبي الحسن في سنة (887 هـ - 1482 م)، وبذلك يكون سنّه يوم تسليم غرناطة نحو الثلاثين (2). وقد تركت لنا الرواية القشتالية المعاصرة تلك، وصفاً لشخص أبي عبد الله، خلاصتها أنه كان ممشوق القد، حسن الطلعة، شاحب اللّون، له عينان سوداوان نجلاوان، ولحية قوية (3). وعاش أبو عبد الله وآله _______ (1) تشير بعض الوثائق المعقودة بين الملكين الكاثوليكيين وأبي عبد الله إلى: أخواته، مما يدلّ على أنه كانت له أكثر من أخت، والمرجّح أن عائشة كانت كبراهنّ. (2) راجع رواية: Hernando de Baeza القشتالية المنشورة ضمن كتاب: أخبار العصر (63). (3) Lafuente Alcantra, ibid, V. 111. P. 74.، وقد انتهت إلينا لأبي عبد الله صورتان إسبانيتان، كانت تحفظ إحداهما بمتحف جنة العريف قبل إلغائه، وفيها يبدو أبو عبد الله بوجه وسيم ولون جميل وشعر أصفر ولحية مفروقة، ويرتدي ثوباً أصفر، يظلّله حرير أسود، وعلى رأسه قلنسوة عالية. والصورة الثانية تحفظ اليوم بمتحف غرناطة المسمى: ( Casa de las Tivos) والمعروف أنّها رُسمت لأبي عبد الله حينما كان في أسر الملكين الكاثوليكيين، عقب معركة اللسانة، وهي عبارة عن لوحة صغيرة الحجم، وفيها يبدو أبو عبد الله فتى في عنفوانه، بوجه عريض وأنف منسّق، وعينين خضراوين ونظرات حادّة، تغشاها الكآبة، وشعر كستني غزير، ولحية صغيرة مفروقة، وقد رسمت حول عنقه حلقة رمزية لوقوعه في الأسر.

وصحبه في تلك المملكة الصغيرة الذليلة حيناً، وأنشأ له في أندراش بلاطاً صغيراً، وكان يعيش هناك في ترف ورغد، وكان يعشق الصيد ويقضي فيه كثيراً من أوقاته، ويجوب أطراف مملكته الصغيرة فوق جواده (1). وكان فرديناند وإيزابيلا، بالرغم من انتصارهما وقضائهما الأخير على المملكة الأندلسية، قد لبثا يتوجسان من أعماق نفسيهما، من بقاء السلطان المخلوع في الأراضي الإسبانية، ويخشيان أن يكون مثار القلاقل والفتن، ويتوقان إلى إبعاده وحاشيته عنها، مبالغة في الحيطة، واتقاءً لكل خطر. وكان يفرضان على أبي عبد الله رقابة صارمة، ويتلقيان أدق التقارير والأنباء، عن حركاته وسكناته، وكانت عيناهما الساهرة على رقابته، الوزيرين الماكرين يوسف كماشة وأبو القاسم عبد الملك. ولم يمض على إقامة أبي عبد الله في أندراش زهاء عام، حتى بدأ الملكان الكاثوليكيان يسعيان سراً في تحقيق غايتهما الأخيرة، وكان سبيلهما إلى ذلك ابن كماشة وأبا القاسم عبد الملك. ففي شهر آذار - مارس سنة (1493 م) وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين وبين فرناندو دى ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، في شأن مغادرة أبي عبد الله الأراضي الإسبانية، والعبور إلى المغرب. ويقال: إن أبا عبد الله لم يأذن لوزيريه في إجراء هذه المفاوضات، ولم يعلم بها حتى تمخضت عن مشروع جديد؛ يُقِرُّ فيه أبو عبد الله بتنازله عن جميع حقوقه وأملاكه، نظير ثمن معين، ويتعهد بالعبور إلى المغرب. ويقال: إن الملك المنكود حينما عرض عليه ابن كماشة هذا الاتفاق، ثار لعقده، وكاد يبطش بوزيره، ولكنه عاد فاستمع إلى نصح الوزير وشرحه، بأن البقاء في أرض العدو، وفي ظل العبودية والهوان، لم يبق له محل، وأنه ليس مكفول السلامة والطمأنينة، وأن العبور إلى أرض الإسلام خير وأبقى. ولعلّ أبا عبد الله نفسه قد أدرك، كما أدرك عمّه مولاي الزغل من قبل، أن تلك الحياة الذليلة التي _______ (1) Lafuente Alcantra, ibid, V. 111. P. 74.

فرضت عليه، لا تخلق له ولا تجمل، وأنه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع المؤلم، كتابع لملك قشتالة. وعلى أي حال، فقد اقتنع أبو عبد الله، بوجهة نظر وزيره، ولكنه أرسل أمينه ومدير شئونه أبا القاسم عبد الملك (المليخ) ليسعى إلى تعديل الاتفاق لمصلحته. وبعد مفاوضات جديدة، وُضع الاتفاق النهائي، الذي قبله السلطان المخلوع. وخلاصته: أنه يتعهد بالعبور إلى المغرب، في موعد أقصاه نهاية شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م)، وأنه يتنازل عن سائر ضياعه، في أندرش، ولوشار، وبرشينا وغيرها، وكذلك عن أملاكه الأخرى في غرناطة، بالبيع للملكين الكاثوليكيين، وذلك نظير ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف جنيه قشتالي (كاستليانو) من الذهب الحر، أو الدوقات المضروبة من الذهب الخالص. كما يتنازل أبو عبد الله عن اختصاصه المدني والجنائي، ويحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان عربتين لحمل متاعه، وسفناً ينتقل عليها مع صحبه إلى المغرب. ويتضمن الاتفاق نصوصاً أخرى ببيع الأميرات لأملاكهن إلى الملكين الكاثوليكيين وكذلك يبيع الوزير ابن كماشة والوزير أبو القاسم كلَّ أملاكه، نظير مقادير من المال. ويحمل هذا الاتفاق تاريخ (15 نيسان - أبريل سنة 1493 م)، كما يحمل في ذيله موافقة أبي عبد الله بالعربية ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وهي تدل بألفاظها ومعانيها على كثير من العبر المؤلمة: "الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضْيَافي، أنا الأمير محمد بن علي بن نصر خديمكم، وصلتني من مقامكم العلي. العقد وفيه جميع الفصول التي عقدها عني وبكم التقديم، من خديمي القائد أبو القاسم المليخ، ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها، وبطابعكم العزيزة، كيف هي مذكورة بهذا الذي هي تصلكم. وإني نوفى ونحلف أني رضيت بها، بكلام الوفا مثل خديم جيد. وترى هذا خط يدي وطابعي أرقيته عليها، لتظهر صحّة قولي. ووصلت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم عام ثمانية وتسعون وثمانمائة. أنا كاتبه محمد بن

علي بن نصر، رضيت وقبلت جميع ما في هذا المكتوب الثابت وتقبل بيدي إلى أضيافي السلطان والسلطانة مُدَّ لي هناكما". وتوفيت زوجته قبل رحيله، فلم يحل هذا الرزء دون مضيّه في اتخاذ أهبة الرحيل، وفي أوائل شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م) غادر أبو عبد الله الوطن في غمرة من الحسرات والأسى، وجاز إلى المغرب بأسرته وأمواله وحشمه، من ثغر أدرة الصغير الواقع جنوبي برجة، في سفينة كبيرة أُعدّت لرحيله، وعبر في نفس الوقت من ثغر المنكب عدد كبير من الوزراء والقادة والأكابر، في صحبته ممن آثروا الرحيل، وبلغ جميع الذين عبروا مع الملك المخلوع ألفاً ومائة وثلاثين شخصاً (1). _______ (1) Lafuente Alcantra, ibid; V. 111. P. 81.، ويقول صاحب أخبار العصر: إنَّ الذين رحلوا مع أبي عبد الله بلغوا نحو سبعمائة فقط.

4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه نزل أبو عبد الله أولاً في مليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها (1)، وتقدّم إلى ملكها السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ، زعيم وَطّاس (2) الذين خلفوا بني مرين في الملك مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتدْراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه من إثم وتفريط في حق الوطن والدين. وهذا الدفاع الشهير الذي يقدّمه أبو عبد الله إلينا عن موقفه وتصرفه، هو قطعة رائعة من الفصاحة السياسية والبيان الساحر، وهو يدل في روحه وقوته وروعته، على فداحة التبعة التي شعر آخر ملوك الأندلس أنه يحملها أمام الله والتاريخ، وأمام الأمم الإسلامية والأجيال القادمة كلها، على أن هذا الأمير المنكود لم يرد أن ينحدر إلى غمرة النسيان والعدم، محكوماً عليه دون أن يبسط للتاريخ قضيته، فيصدر حكمه فيها على ضوء أقواله ودفاعه. وقد كتب هذا الدفاع الشهير الفريد في التاريخ الإسلامي، على لسان أبي عبد الله وزيره وكاتبه، محمد بن عبد الله العربي العقيلي، في رسالة مستفيضة مؤثرة، موجهة إلى ملك فاس، وجعل لها عنواناً شعرياً مشجياً هو: "الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس". وقد كان العقيلي من أعلام البلاغة في هذا العصر. ولما عوّل أبو عبد الله على الرّحيل إلى _______ (1) أزهار الرياض (1/ 67 و 71). (2) هم بطن من بطون بني مرين، وقد ظهروا في بداية أمرهم بتولي الوزارة، ونشأت بينهم وبين بني مرين فيما بعد خصومة ومنافسة. وقام كبيرهم ومؤسس دولتهم أبو عبد الله محمد الشيخ بن زكريا أولاًَ في ثغر أصيلا، واستفحل أمره ثم زحف على فاس واستولى عليها في سنة (876 هـ) = (1472 م) ثم غلبت على سائر الجهات والقبائل المحيطة بها وقامت فوق أنقاض ملك بني مرين دولة مغربية جديدة.

المغرب، جاز العقيلي البحر مع أميره، وجازت قبل سقوط غرناطة وبعده إلى المغرب جمهرة كبيرة من أقطاب العلم والأدب، هم البقية الباقية من مجتمع الأندلس الفكري (1). وللعقيلي آثار في النثر والنظم تبدو لروعتها كأنها نفثات أخيرة، لآداب الأندلس المحتضرة، وكان دفاع أبي عبد الله من أبدعها وأروعها. وقد قدم كاتب هذا الدفاع، لدفاعه بعد الديباجة بقصيدة رائعة في مطلعها: مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعياً لِما مثله يرعى من الذّمم وهي قصيدة طويلة في أكثر من مائة بيت، وفيها يعطف الشاعر بعد ذلك على مديح ملوك فاس، وجهادهم في الأندلس، والإشادة بعلائقهم ببني الأحمر ملوك غرناطة، فيقول: تضيء آراؤهم في كل معضلة ... إضاءة السّرج في داج من الظُّلم هذا ولو من حياء ذاب محتشم ... لذاب منهم حياءً كل محتشم أنسى الخلائف في حلم وفي شرف ... وفي سخاء وفي علم وفي فهم وناصر الدين في الإقبال فاق وفي ... محبة العلم أزرى بابنه الحكم أفعال أعدائه معتلة أبداً ... متى يرم جزمها بالحذف تنجزم (2). ويلي القصيدة الطويلة دفاع أبي عبد الله المنثور، في أسلوب يفيض قوة وبياناً، وفيه يشير أبو عبد الله إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن محنته، _______ (1) أزهار الرياض (1/ 71). (2) أنظر المقري في كتابيه: نفح الطيب (2/ 617 - 628) وأزهار الرياض (72 - 102).

ويعترف بخطئه في عبارات مؤثرة. يقول بعد الديباجة موجهاً خطابه إلى سلطان فاس "هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلِّق بأسباب ذمامكم، المترجي لعواطف قلوبكم، وعوارف إنعامكم، المقبِّل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللّسان عند مفاتحة كلامكم. وماذا يقول مَن بوجهه خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقتضية عن التنصّل والاعتذار تجل. بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي، واجترائي عليه أكثر، واحترامي إليه أكبر: اللهم لا بريء فأعتذر، ولا قوي فانتصر، لكني مستقبل مستنيل، مستعتب مستغفر، وما أبرّئ نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء. على أني لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي، فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي .. ". بيد أنه يدفع عنه تهم التفريط والزّيغ والخيانة، ويقول: "فمثلي كان يفعل أمثالها. ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، وقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأيم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها. غير أن الرعاع في كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان ... وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلاّ مَن عصمه الله إليه منجذب، ولقد قُذِفنا من الأباطيل بأحجار، ورُمينا بما لا يُرمى به الكفار، فضلاً عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو، ما لكم منه حفظ الجبار ... أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا في سلك الملاحدة. أكفراً أيضاً كفراً؟! غفراً اللهمّ غفراً، وهل زدنا على أن طلبنا حقّنا ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا في سبيله عُداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين". ثم يقول أبو عبد الله، لئن كان قد نزل به القضاء فثلّ عرشه، ونُكس لواؤه، ومُلك مثواه، فهو مِثْلُ من سواه في ذلك. ولئن كان مروّعاً مصير غرناطة

ومصير ملكها وأنجادها، فإنها لم تنفرد بين قواعد الإسلام بذلك المصير المحزن. ألم يقتحم التتار بغداد، عروس الإسلام ومثوى الخلافة، ومهد العلوم، ويستبيحوا ذمارها وحُرَمها، ويسحقوا الخلافة وكل معالمها ورسومها؟ وماذا كانت تستطيع غرناطة إزاء قدر محتوم، وقضاء لا مردّ له؟: "والقضاء لا يردّ ولا يصد، ولا يغالب ولا يطالب، والدائرات تدور، ولابد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلاّ المستطاع، وللخالق القدير جلّت قدرته، في خليقته علم غيب، للأذهان عن مداه انقطاع". ثم يعطف إلى التجائه إلى ساحة السلطان بقوله: "وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرّعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المتفتح حين سُدّت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعمائكم، حين خلعت ما ألبسنا الملك من الأثواب، وإلى أمّه يلجأ الطفل لجأ الله فان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان، ووجه الله يبقى، وكل ما عليها فان". ويشير أبو عبد الله إلى ما عرضه عليه ملك إسبانيا، من الإقامة في كنفه وتحت حمايته فيقول: "ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضمع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه، المؤكد فيه خطه بأيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصُّفر، ولا سوّغ لنا الإيمان، الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولا شاسعة، وأمنا من المطالب المشاغب، سمة سرّ لنا لا سعة". ثم يشير إلى إنه تلقى كذلك دعوات كريمة من المشرق للذهاب والإقامة، ولكنه آثر الجواز إلى المغرب، دار آبائه من قبل، وملاذهم دائماً عند النوائب، ولم يرتض سوى الانضواء الاّ لذلك الجناب، أعني سلاطين المغرب، الذين أوصى آباؤه وأجداده بالانضواء إليهم، وقت الخطر الداهم. ويختم أبو عبد الله دفاعه، برثاء مؤثر لِمُلْكه ومصيره، فيقول: "ثم عزاء

حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض أورثها مَن شاء من عباده، معقباً لهم ومديلاَّ، سادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً: (سنة الثه التي خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا) فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً". ويعود أبو عبد الله بعد هذا الدفاع المستفيض المؤثر، إلى الإشادة بخلال سلاطين فاس ومآثرهم، ويقرر أن يضع نفسه تحت حماية السلطان ورعايته: "منتظماً في سلك أوليائه، متشرفاً بخدمة عليائه"، ليقضي عمره في كنفه مصوناً من المخاطر والضيم. تلك خلاصة الدفاع الشهير الذي تركه آخر ملوك الأندلس للخلف من بعده، وهو دفاع حار مؤثر، يذكرنا بتلك الاعتذارات الشهيرة، التي لجأ إليها الأقدمون في ظروف مختلفة، لتسويغ بعض المواقف والآراء. وقد يقف أبو عبد الله موقف المذنب البريء معاً، فهو لا يتنصّل من جميع الأخطاء، ولكنه يتنصّل من تبعة ما حدث، ويصوّر نفسه قبل كل شيء ضحيّة القدر، ويدفع عن نفسه بالأخص تهمة التفريط والخيانة والزّيغ. فإلى أي حد تتفق هذه الصورة مع الحقيقة، ومع منطق الحوادث والظروف التي وقعت فيها المأساة؟ لقد تبوّأ أبو عبد الله عرش غرناطة لأول مرة وهو فتى في الحادية والعشرين، ثم عاد إلى تبوّئه بعد ذلك بعدّة أعوام، وكان جلوسه في كل مرة نتيجة حرب أهلية مخرّبة طاحنة. وقد نشأ هذا الأمير الضعيف في بلاط منحل، يضطرم بصنوف الدسّ والخصومة، ولم تهيئه تربيته وصفاته للاضطلاع بمهام الملك الخطيرة، ولاسيما في مثل تلك الظروف الدقيقة، التي كانت تجوزها مملكة محتضرة. لقد كانت الأندلس تسير إلى قدرها المحتوم، قبل حلول المأساة بزمن بعيد، ولم يك ثمة شك في مصير غرناطة بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى في يد العدو القوي الظافر، ولكن ليس من شك أيضاً في أن الأواخر من ملوك غرناطة، يحملون كثيراً من التبعة، في التعجيل بوقوع

المأساة، فنراهم يجنحون إلى الدعة والخمول، ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية، يمزّق فيها بعضهم بعضاً، والعدو وراءهم متربص متوثب يرقب الفرص. وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بني الأحمر، ولاسيما منذ أوائل القرن التاسع الهجري أو أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، ومنذ عهد الأمير علي أبي الحسن، تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة، ويغدو مصير المملكة الإسلامية رهين رحمة القدر، وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن، وأخوه محمد بن سعد المعروف بالزغل، وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة، فانحدروا إلى معترك الحرب الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف، وأن يستشعروا الخطر الداهم، وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك. وانحدر أبو عبد الله إلى أخطر ما في هذه المعركة المميتة من وسائل الإغراء والتفوق، فجنح إلى محالفة العدو الخالد، ولم يحجم عن أن يستعدي ملك النصارى على أبيه وعمه، كي ينتزع الملك لنفسه، فلما ظفر بعرش غرناطة بمؤازرة ملك قشتالة، لم يكن سوى صنيعته وأسير وحيه. وكان عمّه الزغل قد بسط سلطانه على الأنحاء الشرقية والجنوبية، فلم يحجم عن مهاجمته في نفس الوقت الذي هاجمه فيه ملك النصارى لينتزع منه ما تحت يده، وكان الزغل في الواقع بطل المعركة الأخيرة، وقد أبدى في مقاومة العدو بسالة رائعة خلدتها سير العصر. ولم يشعر أبو عبد الله بفداحة خطئه إلاّ بعد تحوّل حليفه الغادر ملك قشتالة بجيشه الضخم، ليحاصر غرناطة ويضربها الضربة الأخيرة، وكانت قوى غرناطة ومواردها قد بدّدت في حروب أهلية عقيمة، فلم يغن دفاعها شيئاً أمام القوة القاهرة والقدر المحتوم، فكانت النكبة وكانت الخاتمة المؤسية. ولم يكن موقف أبي عبد الله خلال تلك اللّحظات الحاسمة في مصيره ومصير أمته، سوى موقف الأمير الضعيف المتخاذل، الذي يسعى إلى سلامة نفسه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث العريض الذي أصبح

وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرّفاً، ولا متّفقاً مع سمات البسالة والتضحية والشهامة. أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها، بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول: إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هي تبعة التفريط، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصّر في العواقب. على أن أبا عبد الله، على ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق في نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفّق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التي نزلت به، وظروف الإغراء التي كانت تحيط به والتي حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصّر، وسعى الملكان الكاثوليكيان إلى تنصير مَن يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين، بكل الوسائل، هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبا عبد الله على الاستجابة إلى دواعي التحريض والإغراء، فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذي انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه المحنة معتصماً بدينه المتين، وهو ما يشير إليه في دفاعه المتقدِّم. واستقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس في ظل بني وطّاس، وشيَّد بها قصوراً على طراز الأندلس، ويُروَى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس فيها شدّة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع كثير من الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدّة والفاقة (1)، وعاش أبو عبد الله في منفاه طويلاً يجرع كأسه المرّة حتى الثمالة، ويتقلّب في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال تلك الأيام المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية في سحق الإسلام بالأندلس، وسحق مدنيته وكلّ رسومه وآثاره، _______ (1) أزهار الرياض (1/ 68).

ويشهد يد الفناء والمحو، تعمل لاستئصال هذا الشعب الأندلسي النبيل التالد، من الأرض التي لبث يرعاها ثمانية قرون، ونثر في أرجائها فيض عبقريته. وتختلف الرواية في تاريخ وفاة أبي عبد الله اختلافاً بيناً. فيقول لنا المقري في نفح الطيب: إنه توفى بفاس سنة أربعين وتسعمائة (1534 م)، وإنه دفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة (1). وتؤكد لنا الرواية القشتالية القريبة من ذلك العصر، أن أبا عبد الله توفي قتيلاً في موقعة أبي عقبة الشهيرة التي نشبت بين السلطان أحمد أبي العباس الوطاسي حفيد أبي عبد الله محمد الوطاسي وبين خصومه السعديين الأشراف الخوارج عليه، واشترك فيها أبو عبد الله محارباً إلى جانب أصدقائه وحماته الوطاسيين، وقد حدثت هذه الموقعة في سنة (943 هـ - 1536 م) وهزم فيها بنو وطّاس هزيمة شديدة (2). ويذكر المقري في أزهار الرياض فيقول: إنه توفي بفاس سنة أربع وعشرين وتسعمائة هجرية (1518 م) (3)، فإذا صحت الرواية الثانية، فإن أبا عبد الله يكون قد مات في نحو الخامسة والسبعين من عمره. ونرجح رواية المقري الأولى، وهي أن أبا عبد الله توفى بقصره في فاس سنة (940 هـ)، أما روايته الثانية، وهي أنه توفى في سنة (924 هـ) فالمرجح أنها تحريف رقمي للأولى. وترك أبو عبد الله ولدين هما أحمد ويوسف، واستمر عقبه مستمراً معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة. ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة (1037 هـ - 1628 م) معدمين يعيشون على أموال الصدقات (4). ويعرف أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس، في الرواية الإسبانية، بمحمد الحادي عشر، وبالملك الصغير تمييزاً عن عمّه أبي عبد الله الزغل، ويلقّب _______ (1) نفح الطيب (2/ 617) والاستقصا (2/ 168). (2) الاستقصا (2/ 177). (3) أزهار الرياض (1/ 168). (4) نفح الطيب (2/ 617).

أيضاً بالزغيبي، ومعناها: المنكود، أو عاثر الجدّ، تنويهاً بأحداث حياته المؤسية، وبما أصاب الإسلام على يديه من الخطوب والمحن (1). وهكذا انتهت حياة أبي عبد الله المتخاذل، كما انتهت حياة موسى بن أبي الغسان دفاعاً عن دينه ووطنه، وشتّان بين انتهاء الحياتين، فليكن أبو عبد الله درساً للمتخاذلين حيث لم يشرّف نفسه ولم يشرّف أحداً، وكان وسيبقى لطخة عار في التاريخ، وليكن موسى بن أبي الغسّان درساً للأبطال، حيث شرّف نفسه، وشرّف دينه وقومه وبلاده بموقفه، فكان وسيبقى مفخرة للعرب والمسلمين وصفحة مشرقة في التاريخ. ماتا، وكل حي إلى موت، ولكن شتان بين الموتين. _______ (1) الزغيبي: مصغر زغبي، ومعناها في لهجة أهل غرناطة: المنكود أو التعيس، ومعناها كما ذكره مارمول: التعس الصغير أو الرجل المسكين، أنظر دوزي Supp. Aux Dict. Arabes P. 594

ثمرات المعاهدة الغادرة

ثمرات المعاهدة الغادرة 1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة لم يكن ظفر إسبانيا النصرانية بالاستيلاء على غرناطة، وسحق دولة الإسلام بالأندلس، سوى بداية النهاية في مصير الأمة الأندلسية، ولم يكن فقد السيادة القومية، وفقد الاستقلال والحرية، والذلة السياسية، والاضطهاد الديني والاجتماعي، وهي المحن التي تنزل عادة بالأمم المغلوبة، سوى لمحة صغيرة يسيرة مما كتب على الأمة الأندلسية أن تعانيه على يد إسبانيا النصرانية، فقد كان مصير مسلمي الأندلس بعد ضياع دولتهم وزوال ملكهم، من أسوأ ما عرفت الأمم الكريمة المغلوبة، وكان مأساة من أبلغ مآسي التاريخ. تلك هي مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومن الأسف أن الرواية الإسلامية لم تخص الأمة الأندلسية بعد سقوط غرناطة بكثير من عنايتها، ولم ينته إلينا عن تلك المأساة سوى رسائل وشذور يسيرة، بل لم ينته إلينا سوى القليل عن مراحل الأندلس الأخيرة قبل سقوط غرناطة، ولا توجد لدينا عن تلك المرحلة سوى رؤية إسلامية واحدة هي كتاب: "أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر" الذي كتبه في سنة (947 هـ - 1540 م) أعني بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة، كاتب مجهول فيما يبدو، من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها، وأُرغموا على التنصّر، ولكنهم بقوا مع ذلك مسلمين في روحهم وسريرتهم. وقد كانت هذه الرواية أساساً لكل ما كتبه المسلمون المتأخرون عن سقوط غرناطة. ولم تصل إلينا إلى جانب هذه الرواية الوحيدة، سوى رسائل وشذور وقصائد نقلها المقري في كتابه: "أزهار الرياض"، ومعظمها مما كتبه أدباء المغرب عقب وقوع المأساة بقليل.

ونستطيع أن نرجع هذا النقص في الرواية الإسلامية عن حوادث المأساة الأندلسية إلى عاملين: الأول هو أنه في عصور الانحلال والسقوط، تخمد الحركات الأدبية والفكرية، وتقل العناية بالتدوين التاريخي، كما تقلّ في جميع نواحي التفكير والأدب، وأن نظام الطغيان المطبق والاضطهاد المروّع، الذي فُرِض على العرب المتنصرين، كان كفيلاً بإخماد كل صوت وتحطيم كل قلم، والثاني: وهو ما نرجحه هو فقدان معظم الكتب والوثائق العربية التي وضعت في هذا الوقت، والتي استطاع المقري أن ينقل شذرات منها، مما يدل على أن بعضها كان موجوداً حتى عصره، أعني في القرن السابع عشر الميلادي. ومن الغريب أن صاحب: "أخبار العصر" لم يقدم إلينا عن مأساة العرب المتنصرين سوى نبذة يسيرة، مع أنه عاصر معظم حوادثها، وشهدها على الأغلب. ولسنا نجد ما نفسّر به هذا الصّمت من جانب الرواية الإسلامية الوحيدة، التي انتهت إلينا عن سقوط غرناطة، وما تلاه من الحوادث والخطوب، إلاّ نظام الإرهاب الشامل، الذي سحق كل متنفّس للشعب المغلوب. ومن الواضح أن هذا الإرهاب يضاعف الرقابة على أصحاب الأقلام، ولا يرحم من يعلم أنه يسجل عليهم جورهم وأعمالهم الشنيعة الظالمة، ويحرص على كمّ الأفواه للسكوت عن الظلم، وعدم التفوّه باللّسان أو بالقلم بما يدور من أحداث ظالمة شنيعة. على أن هذه المرحلة المؤلمة من تاريخ الأمة الأندلسية، تشغل بالعكس في تاريخ إسبانيا القومي، حيّزاً كبيراً يمتدّ زهاء قرن وربع، وتخصّه الرواية الإسبانية بكثير من عنايتها. ولكن الرواية الإسبانية، تتأثر دائماً بالعوامل القومية والدينية إلى أبعد حدّ، وتنظر دائماً إلى ذلك الاستشهاد المفجع، الذي فرضته إسبانيا على العرب المتنصرين، وإلى تلك الأعمال المروّعة التي كانت ترتكبها محاكم التحقيق (1) باسم الدين، وإلى تلك الوسائل البربرية _______ (1) هي المعروفة خطأ بمحاكم التفتيش: Inquisition , Inquisicion

2 - التنصير وحرق الكتب العربية

التي اتخذت لتشريد العرب المتنصرين وإبادتهم، بعين الكبرياء والرضى، وترى منها دائماً نوعاً من الإنقاذ القومي، وتطهيراً للدين والوطن من آثار الإسلام الخيرة. وهي تحيط هذه المرحلة من تاريخ إسبانيا بكثير من القصص والأساطير الحماسية، التي تشيد بظفر إسبانيا النصرانية، وبما أسبغت العناية الإلهية على خطتها وسياستها، في إبادة تراث العرب والإسلام، وفي القضاء إلى الأبد على آثار تلك الدولة الإسلامية المجيدة، التي ازدهرت في إسبانيا زهاء ثمانية قرون، وعلى حضارتها وآدابها، وكل ذلك التراث العظيم الباهر. على أن الرواية الإسبانية، بالرغم من تأثرها العميق بالعوامل القومية والدينية، تعرض علينا حوادث هذا النضال الأخير في أسلوب مؤثر. وقد لا تضنّ في بعض المواطن والمواقف بعطفها، وأحياناً بإعجابها، على تلك الأمة المغلوبة الباسلة، التي لبثت تناضل حتى الرمق الأخير عن كرامتها، وعن تراثها القومي والروحي. ولسنا نظلم كتاب الإسبان النصارى، إذا قلنا: إنهم يمثلون التعصب الأعمى تمثيلاً عملياً، حتى كأن التعصب تصوّر فيهم أناساً يمشون على الأرض ويكتبون، فهم يتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه في القضايا الدينية والقومية، ويتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه على كل مسلم وكل عربي، ويرون حسناً ما ليس بالحسن، حتى يلمس من يقرأ آثارهم بوضوح انحرافهم الشنيع عن جادة الحق وابتعادهم الواضح الصريح عن كل نوع من أنواع المناهج العلمية في البحث والتأليف، فهم بقدر تعصبهم لقومهم ودينهم، متعصبون على غيره من القوميات الأخرى والأديان وبخاصة العرب والإسلام. إن الدراسات الإسبانية الخاصة بالإسلام والعرب، التي كتبها الإسبان، لا يعتمد عليها ولا يوثق بها عامة، وهذا هو القاعدة، ولا عبرة بالاستثناء. 2 - التنصير وحرق الكتب العربية

لبثت السياسة الإسبانية مدة قصيرة، بعد سقوط غرناطة، تلتزم جانب الروية والاعتدال. واتخذت الأهبة لنقل المسلمين الراغبين في الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، بعد بيع أملاكهم بأبخس الأثمان (1). وفي مقدمة المهاجرين بنو سراج وأنجاد غرناطة القدماء. فأقفرت مناطق بأسرها من أعيان المسلمين، ولا سيما منطقة البشرات، وكان تدفق سيل المهاجرين دليلاً على أن الشعب المغلوب لم يكن واثقاً من ولاء سادته الجدد، وأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين التوجس والريب. وقد كان ممن هاجر من غرناطة إلى العدوة عقب سقوطها بقليل جماعة من أهلها برئاسة زعيم جندي هو أبو الحسن المنذري، وكان من أكابر جند الجيش الغرناطي، فعمروا مدينة تطوان وكانت يومئذ خربة، وكان ذلك في سنة (898 هـ - 1492 م). ومن ذلك الحين تغدو تطوان ملاذاً لكثير من الأسر الأندلسية التي أرغمت على التنصير ثم آثرت الهجرة إلى دار الإسلام فراراً من اضطهاد الإسبان ومحاكم التحقيق، وعادت إلى دينها القديم، وما زالت أعقابهم بها إلى اليوم (2). ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً هذا الشعب الذكي النّابه، وكانت الكنيسة تجيش دائماً بنزعتها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة في القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية في إسبانيا، وكانت مملكة غرناطة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجنين في منطقة بلنسية، وفي منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراغون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامي. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة في قلب إسبانيا النصرانية، شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية. والظاهر أن السياسة الإسبانية، لبثت مدى حين مترددة في انتهاج المسلك _______ (1) أزهار الرياض (1/ 67). (2) الاستقصا (2/ 162) ومختصر تاريخ تطوان - محمّد داءود (14 - 17).

الذي تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء والعرفان فى إسبانيا، وكانت براعتهم قدوة في الزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وخلالهم قدوة في النشاط والمثابرة والزهد والعفّة والرفق، وكانوا على الجملة من أفضل العناصر الذين يمكن أن تضمهم دولة متمدنة (1). ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة في سبيل تحقيق مُثلها، ولم تكن السياسة الإسبانية في تلك الأيام من تاريخ إسبانيا سوى أداة لينة في يد الكنيسة، التي بلغت عندئذٍ ذروة قوّتها ونفوذها. ويصف لنا مؤرخ إسباني، عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين في قوله: "إنه منذ استولى فرديناند على غرناطة، كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح، أن يعمل على سحق طائفة محمد في إسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء، إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة، لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع النصارى، أو يحافظوا على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم" (2). ولم تكن هذه السياسة في الواقع بعيدة، عما يخالج ملكي إسبانيا، فرديناند الخامس، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن العهود التي قطعت للمسلمين بتأمينهم في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، لتحول دون تحقيق السياسة القومية. ذلك أن فرديناند لم يحجم قط عن أن يقطع العهود والمواثيق متى كانت سبيلاً لتحقيق مآربه، وأن يسبغ على سياسته الغادرة ثوب الدين والورع، ولكنه لم يعتبر نفسه قط ملزماً بعهود يقطعها متى أصبحت تعارض سياسته وغايته. _______ (1) Dr. Lea: The Moriscos ; P. 7. (2) Luis del Marmol: Rebelion Y Costigo de los Moriscos de Granada; 1. Cap. XX11

ويعلّق الناقد الغربي الحديث على ذلك بقوله: "لو نفذت العهود (التي قطعت لمسلمي غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل إسبانيا كل التغيير، ولتفوّقت المملكة الإسبانية في فنون الحرب والسلم، وتوطّدت قوّتها ورخاؤها. ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصّب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلّة مروّعة، فاتسعت الهوّة بين الأجناس على كرّ الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدّى إلى علاج كان من جرّائه أن تحطّم رخاء إسبانيا" (1). وأخذت سياسة الإرهاب تجرف في طريقها كل شيء، ونشط ديوان التحقيق ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحي الكنيسة وتأييد الملك، إلى مزاولة قضائه المدمّر، وكانت مهمّة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة) ومطاردة الكفر والزّيغ بكل ما وسعت، وكان جلّ ضحاياها في البداية من يهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وكانت إجراءات هذه المحاكم تنافي كل عدالة وكل قضاء متمدن. وهكذا فإنه لم تمض أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة للمسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها، أعني تنصير المسلمين، بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذٍ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحي الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود موكّدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم، وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران هما: الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجوديسا، المحقق العام لديوان التحقيق (2). _______ (1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 22. (2) كان المحقق العام ( General Inquisitor) وهو قاضي قضاة الديوان، يمثل يومئذ =

وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت في تحوير العهود والنصوص التي تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصّاً فنصّاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت شعائرهم وعقائدهم وشريعتهم (1). وأدرك المسلمون ما ترمي إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوَّت في آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التي ألقاها إليهم فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان يوم اعتزموا التسليم للعدو: "أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشدّ ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمائنا، والموت خير ما تلقون منهم. إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق، ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم. تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيماً". وكان فرديناند يخشى في البداية عواقب التسرع في تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطّد بعد في المناطق المستولى عليها، ولأن المسلمين لم يُنزَع سلاحهم تماماً، وقد يؤدي الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت، ولكن انتهى إلى الخضوع إلى رأي الكنيسة، واستدعى الكاردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمّة تنصير المسلمين، فوفد عليها في (شهر حزيران - يوليه سنة 1499 م - 905 هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعّالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة، ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل _______ = أعظم السلطات الدينية والقضائية في إسبانيا. (1) أخبار العصر (54).

والإرغام، في تنصير بعض أعيان المسلمين. وكان قد اعتنق النصرانية قبل سقوط غرناطة وبعدها، جماعة من الأمراء والوزراء، وفي مقدمتهم الأميران سعد ونصر، ولدا السلطان أبي الحسن، من زوجه النصرانية أليزابيث دى سوليس المعروفة باسم ثريا، فقد تنصّرا ومنحا ضياعاً في أرجبة، وتسمى أحدهما باسم: الدوق فرديناند دى جرانادا أي صاحب غرناطة، وخدم قائداً في الجيش القشتالي، واشتهر في غيرته بخدمة العرش، وتسمَّى الثاني باسم: دون خوان دى جرانادا (1). وتنصّر سيدي يحيى النيار قائد ألمرية وابن عم مولاي الزغل، عقب تسليمه لألمرية، وتسمَّى باسم: الدون بيدرو دى جرانادا فنيجاس، وتزوج من دونيا خوانادى مندوثا وصيفة الملكة. وتنصر الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش ومعظم أفراد أسرته، وعادت أسرته تحمل لقبها القشتالي القديم: ( Los Venegas) واشتهرت في تاريخ إسبانيا الحديث، وأنجبت كثيراً من القادة والأحبار. وتنصَّر آل الثغري الذين اشتهروا في الدفاع عن مالقة وغرناطة قسراً، وسُمِّي عميدهم باسم: جونثالفو فرنانديث ثجري. وتنصر الوزير يوسف كُماشة، وانتظم في سلك الرهبان، وهكذا اجتاحت موجة التنصير كثيراً من الأكابر والعامة معاً. وتمركزت حركة التنصير في غرناطة بالأخص في حي البيازين، حيث حُوِّل مسجده في الحال كنيسة سميت باسم، سان سلفادور (2). واحتجّ بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى. وثار أهل البيازين، وتحصّنوا بحيّهم، وندّدوا بخرق العهود، فبذل الكاردينال خمنيس وحاكم المدينة، جهوداً فادحة لإقناعهم بالهدوء والسكينة، وبذلوا لهم من التأكيدات والضمانات الكلامية _______ (1) Hernando de Baeza , ibid , P. 65. (2) ما تزال كنيسة سان سلفادور ( San Salvador) تقوم حتى اليوم على موقع مسجد البيازين القديم، ولا تزال توجد في مؤخرتها بعض عقود المسجد القديمة.

ما شاءوا (1). ولم يقف الكاردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية، التي انتهت بتوقيع التنصير المغصوب، على عشرات الألوف من المسلمين قسراً، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربري شائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة في ميدان باب الرّملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، أُضرمت النار فيها جميعاً ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حملت إلى الجامعة التي أنشأها في مدينة ألكالا دى هنارس، وذهبت ضحية هذا الإجرام الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما بقي من تراث الفكر الإسلامي في الأندلس (2). وليس المؤلفون العرب والمسلمون وحدهم الذين يصفون عمل خمنيس بالبربرية والهمجية، بل قالها ويقولها المنصفون من الغربيين، فمثلاً يشير المستشرق الإيطالي الأب سكيابرللي ( Schiaparelli) في مقدمة إحدى كتبه إلى: "التعصب الكاثوليكي، وثورات خمنيس البربرية، التي ترتب عليها حرق المصاحف والكتب الإسلامية الأخرى لمسلمي غرناطة، وذلك لكي يتوسل إلى تنصيرهم". ويقول المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت: "إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل وإنما جد مثقف، وقد وقع لا في ظلام العصور الوسطى، _______ (1) Luis del Marmol; ibid. 1. Cap. XX111. (2) يختلف المؤرخون الإسبان في تقدير عدد الكتب العربية التي أحرقت، فيقدرها دي روبلس E. de Robles الذي كتب بعد ذلك بقرن كتاباً عن حياة الكاردينال خمنيس: بمليون وخمسة آلاف كتاب. ويقدرها برمندث دي بدراثا B. de pedraza الذي كتب بعده بقليل بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، ويقدرها كوندي بثمانين ألفاً، أنظر: Isabella: p. 451-453 and notis and Prescott: Fexd

ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حدّ بتقدمها، إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها". ثم يشير إلى ما ترتب على هذا العمل بقوله: "لقد غدت الآداب العربية نادرة في مكتبات نفس البلد الذي نشأت فيه، وإن الدراسات العربية التي كانت من قبل زاهرة في إسبانيا، حتى في العصور الأقل لمعاناً، انهارت لأنها عدمت عذاء يؤدها، وهكذا كانت النتائج المحزنة للمطاردة التي يراها بعضهم أشد تقويضاً من تلك التي توجه إلى الحياة ذاتها (1). على أن هذا العمل الذي يثير النقد الغربي الحديث وزرايته، يجد مع ذلك بين العلماء الإسبان من يسوّغه، بل ويمجّده. وقد تولى المستشرق سيمونيت الدفاع عن الكاردينال خمنيس، الذي يصفه بأنه أحد أمجاد الكنيسة الإسبانية، في رسالة عنوانها: "الكاردنال خمنيس دى سيسنيرس والمخطوطات العربية الغرناطية" (2)، يقول فيها: إن ما قام به الكاردينال من حرق الكتب أمر لا غبار عليه، إذ هو إعدام للشيء الضار، وهو بالعكس أمر محمود، كما يعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكين الكاثوليكيين قد أمرا بعد تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين، لكي تحرق في سائر مملكة غرناطة، أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم سواء في الدين أو الشريعة أو كتب الطب والفلسفة والتاريخ أو غيرها إلى قاضي الجهة، وذلك في ظرف خمسين يوماً من تاريخ هذا الأمر، لكي يفحصها القضاة، وتؤخذ منها كتب الدين والسنة، ويرخص القضاة بعد ذلك بحيازة غيرها. ويدافع سيمونيت عن تصرف الكاردينال خمنيس بحماسة ويقول: إن إحراقه للكتب، يمكن أن يقارن بما وقع من أعمال مماثلة خلال الثورات الحديثة، منذ الثورات البروتستانية الإنكليزية والألمانية إلى الثورة الفرنسية، وأنه خلال هذه _______ (1) Prescott; ibid. P. 453-454. (2) F. Javier Simonce Cardinal Ximenez de Cisneroz Y Los Manuscritos Arabigo-Granadinos.

الثورات قد أحرق أو أتلف كثير من الآثار الأدبية والفنية في كثير من البلاد الأوروبية، وأنه لا يمكن مقارنة عمل خمنيس، بما وقع من إحراق مكتبة الإسكندرية (المزعوم) بأمر الخليفة عمر، وأن معظم الكتب العربية قد أخرج من إسبانيا مع الهجرة ومع من هاجر من المسلمين من القواعد الأندلسية المختلفة، وأخيراً أن كثيراً منها قد جمع أيام الملك فيليب الثاني وأودع بقصر الأسكوريال (1). ذلك هو ملخص رسالة المستشرق سيمونيت في الدفاع عن تصرف الكاردينال خمنيس، وهو دفاع يبدو ركيكاً مصطنعاً، إزأء النقد الغربي الحديث، وتطبعه نزعة تحيّز وتعصب واضحة، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية كما أثبت أكثر من مستشرق منصف، وأصبحت معروفة لدى الغربيين وغيرهم. ويبدو تعصّب وتحيز هذا المستشرق الإسباني واضحاً في كل ما كتب عن الأمة الأندلسية المسلمة، وهو لا يمكن - مهما أسبغ على دراسته من المقارنات - أن يزيل أثر هذه الوصمة المشينة من حياة خمنيس، أو من التاريخ الإسباني. وما حدث في غرناطة من تنصير المسلمين، حدث في باقي البلاد والنواحي الأخرى، فتنصر أهل البشرات وألمرية وبسطة ووادي آش في العام التالي، أعني في سنة (1500 م)، وعمّ التنصير في سائر أنحاء مملكة غرناطة. على أن هذه الحركة التي نظمت لتنصير بقية الأمة الأندلسية، والتي لم تدخر فيها أساليب الوعود والوعيد والإغراء والإكراه، لم تقع دون قلائل واضطرابات عديدة. وكان الإغراء بالتنصير يتخذ أحياناً، شكل هبات ومنح جماعية لبلدة أو منطقة بأسرها، كما حدث بالنسبة لأهل وادي ألكرين (الإقليم) ولنخرون والبشرات، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان مرسوماً في (30 حزيران - يوليه سنة 1500 م) بإبراء سائر أهالي النواحي المذكورة، الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الحقوق والتعهدات المفروضة على _______ (1) Simonet; ibid. P. 3, 8-10, 17, 18, 20-24 and 31.

الموريسكيين العرب المتنصرين - لصالح العرش، ورفعها عن منازلهم وأراضيهم وسائر أملاكهم المنقولة والثابتة، وهبتها لهم، وإلغاء ضريبة الرأس المفروضة عليهم لمدة ست سنوات، وإقالتهم من الغرامة التي فرضت عليهم من جرّاء ثورتهم، وقدرها خمسون ألف دوقية، هذا إلى منح وبراءات أخرى تضمنها المرسوم (1). وصدر كذلك مرسوم مماثل من الملكين الكاثوليكيين في (30 أيلول - سبتمبر سنة 1500 ام) إلى المسلمين القاطنين بحيّهم ( Moreria) بمدينة بسطة، بإقالة الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الفروض والمغارم التي فرضت على الموريسكيين، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم أو أموالهم الثابتة والمنقولة من يوم التنصير، وألاّ يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب بغرامة فادحة، وأن يُعفوا من سائر الذنوب التي ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن تحترم جميع العقود والمحررات التي كتبت بالعربية وصادق عليها فقهاؤهم وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين في بسطة، ولهم أن ينتقلوا وأن يعيشوا في أي مكان آخر من أراضي قشتالة، دون قيد أو عائق، إلى غير ذلك من المنح والامتيازات (2). وصدر أخيراً مرسوم بالعفو عن جميع سكان حي المسلمين، ( Moreria) بغرناطة والقرى الملحقة بها، بالنسبة لجميع الذنوب والأخطاء التي ارتكبت حتى يوم تنصيرهم، وألاّ يُتخذ في شأنهم أي إجراء سواء ضد أشخاصهم أو أملاكهم (3). ولم تقدم لنا الرواية الإسلامية المعاصرة لأحداث التنصير كثيراً من _______ (1) يحفظ هذا المرسوم بدار المحفوظات الإسبانية العامة برقم Archivo general de Simancas, P. R. 11-98 (2) Archivo general de Simancas; P. R. 11-107. (3) Arch gen, Leg. 28; Fol. 22

التفاصيل عن هذه الحوادث والتطورات، ولكنها تكتفي بأن تجمل مأساة تنصير المسلمين في هذه الكلمات المؤثرة: "ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصير، وأكرههم عليه، وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها مَن يقول: "لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله"، إلاّ مَن يقولها في قلبه، وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، لم يقدروا على الهجرة واللّحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ولا على زجرهم، ومَن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب؛ فيالها من فجيعة ما أمرّها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها"، ثم يختتم بقوله: "وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً" (1). ونقل لنا المقري نبذة من رسالة أخرى يشير كاتبها إلى تنصير مسلمي الأندلس هي: "وتعرفنا من غير طريق، وعلى لسان غير فريق، أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يجد في سالف الدهر. وذلك أنهم أُكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضي في الظاهر الكفر، ولم يقبل منهم الأسر. وكان الابتداء في ذلك من أهل غرناطة، وخصوصاً أهل واسطتها لقلة الناس، وكونهم من الرعيّة الدهماء، مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس، وعلم النصارى بأن مَن بقي بها من المسلمين إنما هم أسارى _______ (1) أخبار العصر (54 - 56).

بأيديهم، وعيال عليهم، وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل، وعتوا فيهم بالخروج والجلاء، ولم يبق من المسلمين طائل، ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده، ونشر بمحض الغدر بنوده .. الخ" (1). وجاء في رواية أخرى، هذا الوصف لمأساة التنصير: "إن طاغية قشتالة وأراغون، صدم غرناطة صدمة، وأكره على الكفر مَن بقي بها من الأمة، بعد أن هيض جناحهم، وركدت رياحهم، وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال، والطاغية يزدهي في الكفر ويختال، ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه، وتطمس معالمه ورسومه، فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم مَن جبر بالقتل على الإسلام، وتوعّد بالنكال والمهالك العظام، ومَن يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدّة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحدٍ بالتنصر أن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال، ويطلبون لطف الله على كل حال". وقد تردد صدى هذه المحنة التي نزلت بمسلمي الأندلس بسرعة في سائر جنبات العالم الإسلامي، فنرى ابن إياس مؤرخ مصري، وهو راوية معاصر، يدوّن في حوادث (صفر سنة 906 هـ - آب - أغسطس 1500 م)، أعني عقب محنة التنصير بأشهر قلائل ما يأتي: "وفيه جاءت الأخبار من المغرب، بأن الإفرنج قد استولوا على غرناطة التي هي دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا: مّن دخل ديننا تركناه، ومَن لم يدخل قتلناه، فدخل في دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفاً على أنفسهم من القتل، ثم ثار _______ (1) أزهار الرياض (1/ 69 - 71).

عليهم المسلمون ثانياً وانتصفوا عليهم بعض شيء، واستمر الحرب ثائراً بينهم، والأمر لله تعالى في ذلك" (1). أما المسلمون الذين بقوا في مملكة البرتغال، فقد كان مصيرهم فيما يبدو أفضل من مصير إخوانهم مسلمي الأندلس، فقد قضى العرش البرتغالي بإخراجهم من أراضي المملكة في سنة (1496 م)، والسماح لهم بالعبور إلى المغرب أو إلى حيث شاءوا، ونظراً لما لقوه من صعاب في اختراق الأراضي الإسبانية، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان، تحقيقاً لرغبة ملك البرتغال مرسوماً في (نيسان - أبريل سنة 1497 م) يصرح فيه للمسلمين البرتغاليين ونسائهم وأولادهم وخدمهم، أن يخترقوا أراضي قشتالة، وأن يذهبوا بأموالهم وأمتعتهم إلى البلاد الأخرى، وأن يبقوا في أرض قشتالة الوقت الذي يرغبون، ثم يغادرونها بأموالهم متى شاءوا، وفقط لا يسمح لهم بحمل الذهب والفضة إلى الخارج، ويؤمنون في أنفسهم وأموالهم ضد كل اعتداء، ولا يؤخذ منهم شيء بلا حق (2). تلك هي المأساة التي استحالت فيها بقية الأمة الأندلسية بالتنصير المفروض إلى طائفة جديدة عرفت من ذلك التاريخ بالموريسكيين ( Moriscos) أو المسلمين الأصاغر، أو العرب المتنصرين (3). وقد فرض التنصير على المسلمين فرضاً، ولم تحجم السلطات الكنسية والمدنية، عن اتخاذ أشدّ وسائل العنف. ولم يستكن المسلمون إلى هذا العنف دون تذمّر ودون مقاومة، وسرت إليهم أعراض الثورة ولاسيما في المناطق الجبلية، حيث كان ما يزال ثمة قبس من الحماسة الدينية. وكانت السياسة الإسبانية تلتمس الوسيلة للتخلص نهائياً من العهود المقطوعة، فألفت من _______ (1) ابن إياس (2/ 392). (2) Arch. gen. de Simancas, P. R. Leg. 28 Fol. 3. (3) Moriscos هي تصغير كلمة Moros، ومعناها: المسلمون، أو العرب الأصاغر، رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال.

التذمّر والمقاومة سندها، وقرر مجلس الدولة بأن المسلمين أصبحوا خطراً على الدين والدولة، ولا سيما بعد ما تبين من جنوحهم إلى الثورة، ومحاولتهم الاتصال بإخوانهم في المغرب ومصر والقسطنطينية، وقضى بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، ونفي المخالفين منهم من الأراضي الإسبانية. وهكذا حاول مجلس الدولة أن يسبغ صفة الحق والعدالة على التنصير القسري، وعلى كل ما يتخذ لتحقيقه من إجراءات العسف والإرهاق. وقع هذا القرار على المسلمين وقع الصاعقة، وسرعان ما سرت إليهم الحمية القديمة، فأعلنوا الثورة في معظم نواحي غرناطة، وفي ريفي البيازين، وفي البشرات، واشتدّ الهياج بالأخص في بلفيق وفي أندراش حيث نسف حاكم البلدة مسجدها، بالبارود، وفي فيحار وجويجار وغيرها، واعتزم المسلمون الموت في سبيل دينهم وحريتهم، ولكنهم كانوا عزلاً، وكانت جنود النصرانية صارمة شديدة الوطأة فمزقتهم بلا رأفة، وكثر بينهم القتل، وسبيت نساؤهم، وقضى بالموت على مناطق بأسرها، ما عدا الأطفال الذين هم دون الحادية عشرة، فقد حُولوا إلى نصارى. وحمل التعلّق بالوطن وخوف الفاقة وهموم الأُسرة كثيراً منهم على الإذعان والتسليم. فقبلوا التنصير المغصوب ملاذاً للنجاة، ولجأت الحكومة بعد إخماد الهياج في غرناطة والبيازين إلى أساليب الرّفق، فبعثت بالعمال والقسس في مختلف الأنحاء، ولم يدّخر هؤلاء وسعاً في اجتذاب المسلمين بالوعيد والوعود، وهكذا ذاع التنصير في سائر مملكة غرناطة القديمة (1). وفي نفس الوقت، اضطر المسلمون المدجّنون في آبلة وسمورة وبلاد أخرى في جليقية إلى اعتناق النصرانية، وكانوا حتى ذلك الوقت يحتفظون بدينهم القديم. ونشط فرديناند إلى إخماد الهياج حيث يقع، وفي الوقت الذي غدا فيه _______ (1) Marmol ; ibid, 1. Cap. XXV11. وكذلك Prescott: ibid; P. 462

التنصير أمراً محتوماً، وأضحى فرديناند يعتبر نفسه في حلّ من عقوده المقطوعة للمسلمين، تقدّم إليه ديسا المحقق العام بوجوب إنشاء ديوان للتحقيق في غرناطة، يعاون على مطاردة الزَّيغ بوسائله الفعّالة، فألِّفت لجنة ملكية للتحقيق في حوادث غرناطة، وقبض على كثير من المسلمين بتهمة التحريض، وهرع آلاف منهم أُخر إلى اعتناق النصرانية خيفة السجن والمطاردة. وعارض فرديناند وإيزابيلا في إنشاء ديوان التحقيق في غرناطة ذاتها، واقترحوا أن تحال شئونها إلى اختصاص ديوان التحقيق في قرطبة، وألاّ يقدم المسلمون أو الموريسكيون إلى الديوان إلاّ لتهم خطيرة، ولكن الكنيسة لم تقنع باتخاذ الإجراءات الجزئية، ومضت تعمل لغايتها الشاملة، وكان فرديناند من جهة أخرى لا يزال يتوجّس من المسلمين شرّاً، ويرى في منطق الكنيسة قوة، وهو أن احتفاظ المسلمين بدينهم يقوّي الروابط بينهم وبين إخوانهم في إفريقية، وأن إسبانيا ما تزال تضمّ بين جوانحها عدواًّ يخشى بأسه، وأن في تنصير المسلمين أو إخراجهم من إسبانيا، سلام إسبانيا ونقاء دينها. وكانت الكلمة للكنيسة دائماً، ففي (20 حزيران - يوليه سنة 1501 م) أصدر فرديناند وإيزابيلا أمراً ملكياً خلاصته: "أنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم، خوفاً من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين نُصِّروا لئلا يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال". وحاول المسلمون في يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصير، ويطلبون إليه أن ينذر ملك إسبانيا، بأنه سوف ينكّل بالنصارى المقيمين في مملكته، إذا لم يكف عنهم، فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة، وأرسل إلى فرديناند يخطره بما تقدّم. وانتهز فرديناند هذه الفرصة، فأوفد إلى بلاط القاهرة (سنة 1501 م) سفارته التي

تحدثنا عنها فيما تقدم والتي كان سفيره فيها بيترو مارتيري الحبر الكاتب المؤرخ، فأدى مارتيري سفارته ببراعة، واستطاع أن يقنع السلطان بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم (1). وهكذا خبت آمال المسلمين تباعاً، ولم تستمر ثورة المسلمين إلاّ في المنطقة الجبلية الواقعة بين آكام فليا لونجاو وسيرافرمليا (الجبال الحمراء) بجوار رندة، حيث احتشدت بعض البطون المغربية، وحيث استطاع الثوار أن يقتحموا شعب الجبال، وأن يفتكوا بعمال الحكومة وجندها. وسيَّر فرديناند إلى تلك المنطقة حملة قوية تحت قيادة قائده الشهير ألونسو دي آجيلار دوق قرطبة، ونفذ الجند الإسبان إلى شعب فليالونجا، ووقعت المعركة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، فهُزِم النصارى هزيمة فادحة، وقتل منهم عدد ضخم، وكان قائدهم دى آجيلار وعدة آخرون من السادة الأكابر، في مقدمة القتلى (آذار - مارس 1501 م)، فكان لهذه النكبة التي نزلت بالجنود الإسبان وقوادهم، أعمق وقع في البلاط الإسباني. وهرع فرديناند إلى غرناطة، ورأى بالرغم مما كان يحدوه من عوامل السّخط والانتقام، أن يجنح إلى اللّين والمسالمة، فأعلن العفو عن الثوار بشرط أن يعتنقوا النصرانية في ظرف ثلاثة أشهر، أو يغادروا إسبانيا تاركين أملاكهم للدولة، فآثر معظمهم النفي والجواز إلى إفريقية، وهاجرت منهم جموع كبيرة إلى فاس ووهران وبجاية وتونس وطرابلس وغيرها، وقدمت الحكومة الإسبانية السفن اللازمة لنقلهم مغتبطة لرحيلهم (2)، إذ كانوا أشد الناس مراساً وأكثرها نزوعاً إلى الثورة. واستقر الباقون وهم الكثرة الغالبة من المسلمين في البلاد، خاضعين مستسلمين، وقد وصفهم دى بداراثا، وهو مؤرخ من أحبار الكنيسة عاش قريباً من ذلك العصر بقوله: "إنهم شعب ذو مبادئ أخلاقية متينة، أشراف في معاملاتهم وتعاقدهم، ليس بينهم عاطل، وكلهم عامل، يعطفون أشدّ _______ (1) أنظر: Prescott: ibid; P. 287 وكذلك: Dr. Lea: The Moriscos. P. 36 (2) Prescott. ibid; P. 467.

العطف على فقرائهم" (1). ولم تفت الرواية الإسلامية أن تشير إلى هذه الصفحة الأخيرة من جهاد المسلمين الباسل في سبيل دينهم، فقد نقل عنها المقري ما يأتي: "وبالجملة فإنهم (أي أهل غرناطة) تنصّروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وإمتنع قوم عن التنصّر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك، منها بلفيق، وأندراش وغيرها، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً إلاّ ما كان من جبل بلنقة (أي فليا لونجا)، فإن الله تعالى أعانهم على عدوّهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب غرناطة، وأُخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خفّ من أموالهم دون الذخائر. ثم بعد هذا كان من أظهر التنصير من المسلمين، يعبد الله خفية ويصلي، فشدّد عليهم النصارى في البحث، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة، فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً، ولم يقيّض الله تعالى لهم ناصراً" (2). وصدق صاحب نفح الطيب، إذ لم يجد مسلموا الأندلس في محنتهم ناصراً، فلم يعاونهم المغاربة ولا سلطان مصر ولا سلطان القسطنطينية حتى بالكلام، ولو أن سلطان مصر، هدّد بمعاملة نصارى بلاده بالمثل، وجعل الملكين الكاثوليكيين يصدّقون وعيده - خاصة وأن فلسطين كانت تحت حكمه - لتبدّل الحال غير الحال، ولعُومل المسلمون من النصارى الإسبان بالحسنى. والقول إن سفير فرديناند استطاع إقناع سلطان مصر، بأن إسبانيا تعامل المسلمين بالحسنى، إدّعاء فارغ لا يصدّقه العقل ويرفضه المنطق، فقد كانت معاملة ملك النصارى في إسبانيا للمسلمين الظالمة معروفة لدى القاصي والداني في بلاد المسلمين، وقد وصلت أخبارها مصر، وسجلها _______ (1) R de Pedraza: Hist (Eclestica) : Vida Religiosa de Los Mariscos (P.L11) P. Longas (cit (2) نفح الطيب (2/ 616)، وأنظر أخبار العصر (55).

مؤرخها ابن إياس، فكيف يجهلها السلطان ويقتنع بأن ملك إسبانيا النصراني يعامل المسلمين معاملة حسنة؟! إن حكام المسلمين يومئذٍ، الذين لم يمدّوا يد العون إلى إخوانهم المضطهدين في الأندلس، مقصِّرون أمام الله وأمام الناس تقصيراً لا يمكن الدفاع عنه ولا السكوت، وقد تظاهر سلطان مصر بأنه اقتنع بادعاء سفير ملك إسبانيا بأنه يعامل المسلمين بالحسنى، وهو لم يقتنع أبداً، ولكنه لم يكن عازماً على مدّ يد العون لمسلمي الأندلس. ومضت السياسة الإسبانية في اضطهاد المسلمين والموريسكيين بمختلف الوسائل، وكان من الإجراءات الشاذة التي اتخذت في هذا السبيل، تشريع أصدره فرديناند بإلزام المسلمين والموريسكيين في المدن، بالسكنى في أحياء خاصة بهم، على نحو ما كان متّبعاً نحو اليهود في العصور الوسطى، ونفّذ هذا التشريع في غرناطة عقب حركة التنصير الشامل، وأفرد بها للمسلمين والمتنصِّرين حيّان، أحدهما يضمّ نحو خمسمائة منزل، وهو الحي الصغير وهو داخل المدينة، والثاني يضم نحو خمسة آلاف منزل، ويشمل ضاحية البيازين، وكانت الأحياء التي يشغلها المسلمون أو المتنصّرون في المدن الأندلسية تسمى: (موريريا Moreria) أو أحياء الموريسكيين، على نحو ما كانت أحياء يهود الخاصة تسمى: (الجيتو Ghetto) وكانت تفصل بينها وبين أحياء النصارى أسوار كبيرة، وكان عدد المسلمين الذين بقوا في غرناطة يبلغ في ذلك الحين نحو أربعين ألفاً (1). وصدر في نفس الوقت في (أيلول - سبتمبر 1501 م) قانون يحرّم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة _______ (1) Dr. Lea. The Moriscos, p. 31, 151-152، ويبدو هذا الالتزام بسكنى المسلمين في أحياء خاصة في غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية القديمة في كثير من المراسيم الملكية التي صدرت منذ سنة 1500 م، مثال ذلك المرسوم الصادر بالإعفاء لأهل بسطة Arch Ar gln، والمرسوم الصادر بالعفو عن حيّ المسلمين ( Moreria) في غرناطة.

3 - ديوان التحقيق الإسباني ومهمته في إبادة الأمة الأندلسية

بالحبس والمصادرة، تم الموت بعد ذلك، وهو قانون تكرّر صدوره بعد ذلك غير مرّة في ظروف وعصور مختلفة، وكان يطبق بصرامة بالأخص كلما حدث من الموريسكيين هياج أو مقاومة مسلحة تخشى عواقبها (1). وكانت السياسة الإسبانية تخشى احتشاد الموريسكيين وتجمعاتهم في مملكة غرناطة، ولهذا صدر في (شباط - فبراير 1515 م) مرسوم ملكي أعلن في طليطلة، وفيه يحرّم بتاتاً على المسلمين المتنصرين حديثاً والمدجنين من أي جهة من مملكة قشتالة، أن يخترقوا أراضي غرناطة، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة. ونصّ هذا المرسوم أيضاً أن يحرم بتاتاً على المتنصرين حديثاً في مملكة غرناطة أو في أية جهة أخرى من المملكة، أن يبيعوا أملاكهم لأي شخص دون ترخيص سابق، ومن فعل عوقب بالموت، والمصادرة، وذلك لأنه تبين كما ورد في المرسوم، أن كثيراً من المسلمين المتنصرين يبيعون أملاكهم، ويحصلون أثمانها، ثم يعبرون إلى المغرب، وهناك يعودون إلى الإسلام (2). 3 - ديوان التحقيق (3) الإسباني ومهمته في إبادة الأمة الأندلسيّة أ - قام ديوان التحقيق ( La Inquisicion) في مطاردة الموريسكيين بأعظم دور، وترك في مأساتهم أعمق الأثر، لذلك يجدر التحدث عن تاريخ هذه المحاكم الشهيرة، ونظمها وأعمالها الرهيبة. ويرجع قيام محاكم التحقيق إلى فكرة الرقابة القديمة على العقيدة _______ (1) نفس المصدر السابق. (2) Archivo general de Simancas , P. R. Legejo. 8, Fol. 120. ... وأنظر تفاصيل هذه الدراسة في: نهاية الأندلس (292 - 310). (3) يطلق عليها خطأً: محاكم التفتيش، واسمها أعلاه هو الصواب.

والتحقيق عن سلامتها ونقائها. وقد ظهرت فكرة التحقيق على العقائد في الكنيسة الرومانية في عصر مبكّر جداً، وبُدىء بتطبيقها منذ أوائل القرن الثالث عشر، فكان البابا يعهد إلى الأساقفة وإلى الآباء الدومنيكيين، في تعقّب المارقين والكفرة ومعاقبتهم. وطبق هذا النظام منذ البداية في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وكان مندوبو البابوية يتجولون في مختلف الأنحاء، لتقصّي أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هي النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يعمل الكفرة والملاحدة، ثم تُحلّ متى تمّت مهمّة مطاردتهم والقضاء عليهم. ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها في أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة في هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أي مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رئاسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجري بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن، وكان يسمح للنساء والصبيان والعبيد بالشهادة ضدّ المتهم وليس له، ويؤخذ الاعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التي يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة، وكانت العقوبات الرئيسية هي السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لمطاردة الألبيين (1) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا _______ (1) نسبة إلى: (ألبي)، وهي مدينة بجنوبي فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة.

منذ أوائل القرن الثالث عشر في جنوبي فرنسا. وفي عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق في تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرّمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة في العهد القديم. ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضي الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر والزيغ في العقيدة، بل تعددته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرّافة والعرّافين، وشُبِّه هؤلاء بالكفر. وجاء بعد ذلك دور يهود، فاتهموا بسبّ النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا وتتبّعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب، على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر في مطاردة الكفر والزّيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها. ب - تلك هي الظروف التي قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، في مختلف أنحاء أوروبا: في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسباني إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة. وقد أنشئت محاكم التحقيق في مملكة أراغون منذ القرن الثالث عشر، ووضعت لها في سنة (1242 م) إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر في صوغ ديوان التحقيق الإسباني. وعرف هذا الديوان الأرغوني بالديوان القديم، وعكف حيناً على مطاردة الألبيين وإخماد دعوتهم في أراغون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والرّوع. على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة لنشاط ديوان التحقيق الإسباني، ذلك أن ظروف إسبانيا النصرانية في ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين إسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها في ميدان الحرب والسياسة، كان كلها تذكي النزعة الصليبية، التي كانت تجيش بها إسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر إلى طوائف كبيرة من

المدجنين في مهاد عزّها القديم، في قشتالة وأراغون، ولم تبق سوى بقية أخيرة تحتشد في مملكة غرناطة الصغيرة، الذي كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً في الأفق. وكان تفوّق إسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكي عوامل التعصب الديني الذي تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه إسبانيا الظافرة يومئذٍ شعارها المفضّل في ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم في هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من يهود ( Conoersos) وكان أولئك المحدثون في النصرانية، قد سما شأنهم، ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوّأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية في الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الرّيب، ويعتبرونهم شرّاً من يهود الخلّص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزّيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً، ولما تفاقم الإتهام من حولهم، صدر في سنة (1465 م) في عهد الملك هنري الرابع ملك قشتالة، أمر ملكي إلى الأساقفة بالاستقصاء والبحث في دوائرهم، وتتبع هذا اللّون من المروق والزيغ، ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد، اتخذت صورة المحاكمات الدينية، وأحرق عدد من أولئك المتنصرين. ولكن قشتالة التي شغلت يومئذٍ بمشاكلها الداخلية، لم تعن بأمر المتنصّرين ولم تزعجهم. وهنا تدخّل البابا سكستوس ( SIXTO) الرابع، وحاول أن يدخل نظام التحقيق في قشتالة، فأرسل إليها مبعوثاً بابوياً مزوّداً بكل السلطات، للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم. ولكن فرديناند وإيزابيلا وقفا في وجه هذه المحاولة حرصاً على سلطانهما، وحدَّا من سلطان الكنيسة، وأغضت إيزابيلا مدى حين عن تحريض الأحبار، على مطاردة الكبراء المنتمين إلى أصل يهودي، إذ كانت تثق بهم وبصادق نياتهم وغيرتهم في خدمة الدولة والعرش. على أن هذه المقاومة لم تلبث طويلاً، ذلك لأن كل الظروف كانت تمهّد لظفر السياسة الكنسية، فلم تلبث أن غلبت مساعي الأحبار، وقَبِل الملكان

إنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، ليضطلع في مثل المهام الخطيرة التي يضطلع بها في أراغون. وهنا يقال: إن الفضل في إقناع الملكة إيزابيلا بتحقيق هذه الفكرة يرجع إلى القس توماس دى تُركيمادا رئيس دير الآباء الدومنيكان في سانتا كروث بشقوبية. وقد كان معترف الملكة وله عليها نفوذ قوي، فقيل: إنه استطاع أن يحصل منها قبل اعتلائها العرش، على وعد بأنها متى ظفرت بالملك، فإنها تكرِّس حياتها لسحق الكفر وحماية الكثلكة، وأنه كان أكثر العاملين على إقناعها بالموافقة على إنشاء ديوان التحقيق. وفي سنة (1478 م) أرسل فرديناند وإيزابيلا سفيرها إلى البابا للحصول على المرسوم البابوي، وصدر المرسوم بالفعل في (تشرين الثاني - نوفمبر 1478 م) بالتصريح بإنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، وتعيين المحققين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين)، واتخذت الخطوة الحاسمة لتنفيذ المرسوم في (أيلول - سبتمبر 1480 م)، حيث ندب المحققون الثلاثة الأُول، وأنشئت محكمة التحقيق الأولى في إشبيلية. وهكذا بدأ ديوان التحقيق الإسباني نشاطه المروّع في قشتالة. ج - وبدأ الديوان أعماله في إشبيلية بإصدار قرارات يحث فيها كل شخص أن يساعد الديوان، في البحث عن الملحدين والكفرة، وكل مَن في عقيدتهم زيغ، وفي جمع الأدلة على إدانتهم، وفي التبليغ عنهم بأية وسيلة. وانقضّت العاصفة بالأخص على يهود المتنصرين، وكانت منهم طائفة كبيرة في إشبيلية، فلم يمض عام حتى بلغت ضحاياهم ألوفاً أحرق معهم عدد كبير، وعوقب الكثيرون بالسجن والغرامات الفادحة والمصادرة والتجريد من الحقوق المدنية. وحاول كثير من المتنصرين النجاة بالفرار إلى ضياع الأشراف، فصدر أمر ملكي بتسليم الهاربين إلى محكمة التحقيق، وهُدِّد الأشراف بفقد وظائفهم والنّفي من الكنيسة، إذا تخلّوا عن تنفيذ الأمر. وحاول بعض أكابر المتنصرين في الوقت نفسه تدبير مؤامرة، لمقاومة محكمة التحقيق، والفتك بأعضائها،

ولكن المؤامرة اكتشفت وقبض على كثير منهم، وقضي بإعدام بعضهم حرقاً. وبذلك سحقت كل مقاومة لنشاط الديوان الجديد. واتسع نشاط الديوان بسرعة، واستصدر الملكان من البابا مرسوماً بتعيين سبعة من: (المحققين) الجدد (شباط - فبراير 1482 م)، وأنشئت على أثر ذلك محاكم التحقيق في قرطبة وجيّان وشقوبية وطليطلة وبلد الوليد، وشمل نشاط الديوان سائر أنحاء المملكة الإسبانية (قشتالة وأراغون). وكان فرديناند وإيزابيلا يرميان أن تسبغ الصفة القومية على ديوان التحقيق، وأن يكون سلطانه مستمداً من العرش، أكثر مما هو مستمد من البابوية. ولتحقيق هذه الغاية؛ رُؤى أن ينظم الديوان على أسس جديدة. وكان الديوان قد غدا في الواقع أداة هامة مرهوبة الجانب، ولابد لهذه الأداة من سلطة عليا تقوم بالتوجيه والإرشاد. ومن ثم فقد صدر المرسوم البابوي في سنة (1483 م) بإنشاء مجلس أعلى لديوان التحقيق ( Suprema) له اختصاص مطلق في كل ما يتعلق بشئون الدين. ويتألف من أربعة أعضاء، منهم الرئيس، وأطلق على منصب الرئيس: (المحقق العام) - ( Inquisitor General) وصدر المرسوم البابوي في (تشرين الأول - أكتوبر 1483 م) بتعيين القس توماس دى تُركيمادا معترف الملكين في هذا المنصب الخطير، وخوِّل في الوقت نفسه سلطة مطلقة في وضع دستور جديد للديوان المقدّس. وكان القس تركيمادا شديد التعصب، وافر العزم والبأس، فبذل في تنظيم الديوان وتوطيد سلطانه جهوداً عظيمة، وبث فيه روحاً من الصرامة. وكان جلّ غايته أن يجعل من ديوان التحقيق الإسباني، أداة قومية تعمل وفقاً لحاجات إسبانيا، وقد وفِّق إلى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حدّ. وبُدئ بوضع دستور الديوان الجديد في سنة (1485 م) على يد جمعية من المحققين العامين عقدت في إشبيلية، ووضعت طائفة من القرارات واللوائح، ثم عقدت بعد ذلك جمعية أخرى في بلد الوليد سنة (1488 م) وضعت عدّة لوائح جديدة، وعقدت جمعية ثالثة في آبلة سنة (1498 م). وتولى المجلس

الأعلى (السوبريما) بعد ذلك صياغة اللّوائح وتنقيحها. وكان هذا التنظيم عظيم الأثر في تطور ديوان التحقيق الإسباني. ذلك أنه غدا من ذلك الحين محكمة قومية مستقلة، وغدا سلطة يخافها أعظم العظماء في إسبانيا، ويرتجف لذكرها الفرد العادي، وأضحى نشاطها الرهيب، وقضاؤها المدمر، عنصراً بارزاً في التاريخ الإسباني، يقوم بدوره الفعال في دفع إسبانيا إلى شفا المنحدر، الذي لبثت تترى في غمرته زهاء ثلاثة قرون. ولبث تركيمادا في منصب المحقق العام حتى توفي في سنة (1498 م)، وفي عهده اشتد نشاط محاكم التحقيق واتسعت أعمالها. وكان هذا القس المتعصب بالرغم من تقشّفه، يعتبر بعد العرش أعظم سلطة في إسبانيا، ويعيش في قصور باذخة، وله حرس كبير من الفرسان والمشاة. وكان من جرّاء شدّته وعسفه، أن ندب البابا سنة (1494 م) إلى جانبه خمسة من المحققين العامين، يتمتع كل منهم بنفس سلطته. ولما توفي خلفه في منصب المحقق العام ديجو ديسا أسقف جيّان، واستمر في منصبه حتى سنة (1507 م). د - ونقدِّم الآن عرضاً موجزاً لإجراءات ديوان التحقيق، وسنرى أنها بأصولها وتفاصيلها، أبعد ما تكون عن مبادئ المنطق وأشد ما تكون عسفاً وقسوة وهمجية. تبدأ قضايا الديوان أو محاكماته الفرعية، بالتبليغ أو ما يقوم مقامه، كورود عبارة في قضية منظورة تلقي شبهة على أحدٍ ما. ولا فرق أن يكون التبليغ من شخص معين أو يكون غفلاً. ففي الحالة الأولى يُدعَى المبلّغ ويذكر أقواله وشهوده، وتعتبر أقوال المبلّغ وشهوده (تحقيقاً تمهيدياً). كذلك يمكن التبليغ بواسطة (الاعتراف) الذي يتلقاه القُسس، ولهم أن يبلِّغوا عما يقعون عليه في حالة الاشتباه في العقائد، وذلك بالرغم مما يقتضيه الاعتراف من الكتمان، ويُقسِم المبلغون يميناً بالكتمان، ولا توضح لهم الوقائع التي يسألون عنها بل يُسألون بصفة عامة، عما إذا كانوا قد رأوا أو سمعوا شيئاً

يناقض الدين الكاثوليكي أو حقوق الديوان. ويقوم الديوان في الوقت نفسه بإجراء التحريات السريّة المحلية عن المبلغ ضدّه، ثم تعرض نتائج التحقيق التمهيدي على (الأحبار المقرِّرين) ليقرِّروا ما إذا كانت الوقائع والأقوال المنسوبة إلى المبلَّغ ضده تجعله مرتكباً لجريمة الكفر أو تلقي عليه فقط شبهة ارتكابها، وقرارهم يحدّد الطريقة التي تتبع في سير القضية. ويقسم المقررون يمين الكتمان أيضاً، وكان معظم أولئك المقررين من القُسس الجهلاء المتعصِّبين. ومن ثم فقد كانت أخلاقهم وآراؤهم، بل ذمّتهم وشرفهم مثاراً للريب، وكان رأيهم الإدانة دائماً إلاّ في أحوال نادرة. وعلى أثر صدور هذا التقرير، يُصدر النائب أمره بالقبض على المبلَّغ ضدّه وزجّه إلى سجن الديوان السري. وكانت سجون الديوان المخصصة لاعتقال المتهمين بالكفر أو الزيغ، وهي المعروفة بالسجون السرية، غاية في الشناعة والسوء، تتصل مباشرة بغرف التحقيق والعذاب، عميقة رطبة مظلمة، تغصّ بالحشرات والجرذان، ويُصفَّد المتهمون بالأغلال (1). ويقول لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني: إن أفظع ما في أمر هذه السجون هو أن مَن يزج إليها، يسقط في الحال في نظر الرأي العام، وتلحقه وصمة لا تلحقه من أي سجن آخر مدني أو ديني، وفيها يسقط في غمار حزن لا يوصف وعزلة عميقة دائمة، ولا يعرف إلى أي مدى وصلت قضيته، ولا ينعم بتعزية مدافع عنه، غير أن لورنتي ينفي تصفيد المتهمين بالأغلال الثقيلة في أرجلهم وأيديهم وأعناقهم، ويقول: إن هذا الإجراء لم يكن يُتّبع إلاّ في أحوال نادرة (2). ويقول الدكتور لي: "كان القبض الذي يجريه ديوان التحقيق في ذاته عقوبة خطيرة، ذلك أن أملاك السّجين كلها تُصادَر وتُصفَّى على الفور، وتقطع _______ (1) Dr. Lea: History of the Inquisition of Spain, V. 1. Chap.1V. (2) Don. S. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817) ، وهو مؤلف نقدي ضخم، ويمتاز بكون مؤلفه إسبانيّ، وهو حبر خدم ديوان التحقيق أعواماً طويلة، وكان في آخر حياته يشغل فيه السكرتير العام.

جميع علائقه بالعالم حتى تنتهي محاكمته، وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة، لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرقه المحاكمة" (1). ولا يُخطر المتّهم بالتهم المنسوبة إليه، ولكنه يمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات في ثلاثة أيام متوالية، تعرف بجلسات الرأي أو الإنذار، وفيها يطلب إليه أن يقرِّر الحقيقة، ويُوعد بالرأفة إذا قرر وفق ما ينسب إليه، وينذر بالشدّة والنكال إذا كذب أو أنكر، لأن (الديوان المقدس) لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة الكافية على إدانته، وهي طريقة غادرة محيّرة. فإذا اعترف المتّهم بما ينسب إليه ولو كان بريئاً، اختصرت الإجراءات، وقُضي عليه بعقوبة أخف، ولكنه إذا اعترف بأنه كافر مطبق، فإنه لا ينجو من عقوبة الموت، مهما كانت الوعود التي بذلت له بالرأفة والعفو. فإذا أبى المتّهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث، وضع له النائب قرار الاتهام طبقاً لما ورد في التحقيق من الوقائع، وذلك مهما كانت الأدلة المقدّمة من الركاكة والضعف بمكان. بيد أن أفظع ما يحتويه القرار، هو إحالة المتهم على التعذيب، وغالباً ما يطلب النائب هذه الإحالة، وذلك بالرغم من اعتراف المتهم بما يُنسَب إليه، لأنه يفترض دائماً أنه أخفى أو كذب في اعترافه. وتصدر المحكمة قرار التعذيب مجتمعة بهيئة غرفة مشورة. وكان قرار التعذيب في العصور الأولى يصدر عقب الاشتباه والقبض فوراً. وقد استعمل التعذيب في محاكم التحقيق للحصول على الاعتراف، منذ القرن الثالث عشر، وكان التعذيب في قشتالة إجراء يسوّغه القضاء العادي، وكان يعتبر وسيلة مشروعة لنيل الاعتراف، فلم يكن غريباً أن يدمجه ديوان التحقيق في دستوره، وقد نوّه كثير من المؤرخين بروعة الإجراءات والوسائل التي كانت تلجأ إليها محاكم التحقيق في توقيع العذاب. ويعلق عليه دون لورنتي بقوله: "لست أقف لأصف ضروب التعذيب التي كان _______ (1) Dr Lea: the Moriscos of Spain.

يوقعها ديوان التحقيق على المتهمين، فقد رواها بما تستحق من الدقة كثير من المؤرخين، ولكني أصرِّح أن أحداً منهم لا يمكن أن يُتّهم بالمبالغة فيما روى. ولقد تلوت كثيراً من القضايا، فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً، ولم أر في المحققين الذين التجأوا إلى تلك الوسائل إلاّ رجالاً بلغ جمودهم حدّ الوحشية" (1). بيد أن مؤرخاً حديثاً لديوان التحقيق هو الدكتور لي يرى في هذه الأقوال مبالغة، ويقول لنا: إن ديوان التحقيق لم يكن في إجراءاته الخاصة بالتعذيب، أكثر قسوة أو إرهاقاً من القضاء العادي، وأن ديوان التحقيق الروماني، كان في إجراءاته أشد قسوة وفظاعة من الديوان الإسباني (2)، ومن الواضح أن هذا الدفاع متهافت، (لأن دون لورنتي) ليس متهماً بالنسبة لمسئولي ديوان التحقيق، فقد عمل فيه حتى نهاية حياته، وقد عاش أحداثه، فلا مجال للشك في أقواله أو الرد عليه، وهي تصف الواقع الذي لا غبار عليه. وكانت معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، تستعمل في محاكم التحقيق، ومنها تعذيب الماء، وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلّم، وربط لساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات. وتعذيب (الجاروكا)، وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه. وتعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن والعجز، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وغيرها من الوسائل البربرية المثيرة. ولم يك ثمة حدود مرسومة لروعة التعذيب وآلامه، ولما كان التعذيب يعتبر خطراً لا تؤمن عواقبه، نظراً لاختلاف المتهمين في قوّة البنية والاحتمال المادي والعقلي، _______ (1) Liorente: ibid.، أنظر نهاية الأندلس (318). (2) Dr Lea: The History of the Inquisition. V. 111. Ch. V11.

فإنه لم يك ثمة قواعد معينة تتبع فى إجراء التعذيب، بل كان الأمر يترك لتقدير القضاء وحكمتهم وضمائرهم (1). ولا يحضر التعذيب سوى الجلاّد والأحبار المحققون، والطبيب إذا اقتضى الأمر، ولا يُخطر المتهم بأسباب إحالته على التعذيب، ولا يسأل ليقرر وقائع معينة، بل يعذب ليقرر ما يشاء، ولكن الطعن في القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما) إلاّ في أحوال استثنائية. ولكن الطعن لا يقبل ولا ينظر، حيثما كان القانون صريحاً في وجوب إجراء التعذيب. وقد يأمر الطبيب بإيقاف التعذيب إذا رأى حياة المتهم في خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جفّ دمه، فإذا اعترف المتهم واعتبر القضاء اعترافه صحيحاً، بمعنى أنه يتضمن عنصر التوبة، كف عن تعذيبه. وإذا استطاع المتهم احتمال العذاب وأصرّ الإنكار، لم يفده ذلك شيئاً، لأن القضاة يتخذون غالباً من الوقائع المنسوبة للمتهم أدلة على الإدانة، ويحكم عليه طبقاً لهذا الاعتبار. ويجب أن يؤيد المتهم ما قاله وقت التعذيب، باعتراف حر يقرره في اليوم التالي، وذلك حتى يؤكد صحة الاعتراف، فإذا أنكر أو غيّر شيئاً، أعيد إلى التعذيب. وبعد انتهاء التعذيب، يحمل المتهم ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التى توجه إليه لأول مرة، ويسأل عند تلاوة كل تهمة عن جوابه عنها مباشرة، ثم يسأل عن دفاعه. وكان مبدأ الدفاع أمراً مقرراً من الوجهة النظرية، فإن كان له دفاع، اختارت له المحكمة محامياً من المقيدين في سجل الديوان للدفاع عنه، وقد يسمح للمتهم باختيار محام من الخارج في بعض الأحوال الاستثنائية، ويقسم المحامي اليمين بأن يؤدي مهمته بأمانة، وألاّ يعرقل الإجراءات بسوء نيّة، وأن يتخلى عن موكله إذا تبين له في أية مرحلة من مراحل الدعوى، أن الحق ليس في جانبه. على إن الدفاع لم يكن في الغالب سوى ضرب من السخرية، ولم يكن عملاً مأمون العاقبة، ولم يكن يسمح للمحامي أن يطّلع على أوراق القضية الأصلية، أو يتصل بالمتهم على _______ (1) Dr Lea: ibid; V. 111. P. 22.

انفراد، بل تقدم إليه خلاصة التحقيق مرفقة بقرار الإحالة وقرار الإتهام. وكان المحامي الذي يبدي في تأدية مهمته غَيْرة خاصة، يخاطر بأن يقع تحت سخط الديوان. وبعد المراجعة واستجواب المتهم، تحال القضية على الأحبار المقررين ليبدوا فيها رأيهم من جديد. وكانت هذه خطوة حاسمة في الواقع، لأنها تمهيد إلى الحكم النهائي. ويصدر الأحبار المقررون قرارهم، وقلما كان يختلف عن القرار الأول. فإذا كان الحكم بالإدانة، كان للمتهم فرصة الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما). بيد أنها كانت على الأغلب فرصة عقيمة، إذ قلما كان المجلس الأعلى ينقض حكماً من الأحكام. وكان للمتهم أيضاً أن يلتمس العفو من الكرسي الرسولي، وكانت الخزانة البابوية تغنم من هذه الالتماسات أموالاً طائلة، فكانت فرصة لا يستفيد منها سوى ذوي الغنى الطائل. وقلما يصدر حكم البراءة أو (الإقالة)، إذ أن أقل شك في براءة المتهم براءة مطلقة، كان يوجب اعتباره مذنباً من النوع الخفيف ( De Levi) وعندئذٍ تصدر عليه عقوبات تتناسب مع ذنبه، ويقضى عليه أن يتطهّر من كل شبهة للكفر وفقاً لإجراءات معينة. وإذا قضى بالبراءة - وهو ما يندر وقوعه - أطلق سراح المتهم، وأُعطِيت له شهادة لطهارته من الذنوب، وهي كل ما يعوَّض به عما أصابه في شخصه وفي شرفه وماله، من ضروب الأذى والألم. وأما إذا قُضِي بالإدانة، فإن الحكم لا يبلغ للمتهم إلاّ عند التنفيذ، وهو إجراء من أشنع الإجراءات الجنائية التي عرفت، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يعرف مصيره الحقيقي، ويجوز رسوم الإيمان (الأوتو دا في Auto-da-Fe) وهي الرسوم الدينية التي تسبق التنفيذ، وخلاصتها أن يلبس الثوب المقدّس، ويوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجوز رسوم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، وهناك يُتلَى عليه الحكم لأوّل مرة. وقد يكون الحكم في حالة التهم الخطيرة بالسجن المؤبد

والمصادرة، أو بالإعدام حرقاً في حالة "الكفر الصريح". وقد يكون في حالة الذنوب الخفيفة بالسجن لمدة محدودة أو بالغرامة، وهو ما يسمى حكم "التوفيق". وكانت أحكام الإعدام هي الغالبة في عصور الديوان الأولى في قضايا الكفر. وكان التنفيذ يقع في ساحات المدن الكبيرة، وفي احتفال رسمي يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكان يقع على الأغلب جملة، فينفذ حكم الحرق في عدد من المحكوم عليهم، وقد يبلغ العشرات أحياناً، وينتظم الضحايا في موكب "الأوتودافي" التي اشتهرت في إسبانيا منذ القرن الخامس عشر، والتي كانت بالرغم من مناظرها الرهيبة من الحفلات العامة، التي تهرع لشهودها جموع الشعب. ومما يذكر في ذلك، أن فرديناند الكاثوليكي، كان من عشّاق هذه المواكب الرهيبة، وكان يسره أن يشهد حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها (1). وكان قضاء محاكم التحقيق بطيئاً، يبث اليأس في النفوس، وكان الأمر يترك لهوى القضاة في تحديد مواعيد دعوى المتهم، والسير بإجراءات الدعوى، وكانت الإجراءات والمرافعات تستغرق وقتاً طويلاً، وقد تستغرق الأعوام أحياناً، وقد يموت المتهم في سجنه قبل أن يصدر الحكم في قضيته. وكان دستور ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين. وتصدر الأحكام في حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق في موكب " الأوتودافي". وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضي بحرمانه من تولي الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذا يؤخذ الأبرياء بذنب المحكوم عليهم (2). _______ (1) Dr Lea: ibid; V. 1. (2) نهاية الأندلس (311 - 321).

هـ - هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التي سوّدت بقضائها المروّع صحف التاريخ الإسباني زهاء ثلاثة قرون، وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه حوله جواً من الرهبة والروع، ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة أن تصدر سنة (1502 م) قرارأً يحرم على ربّان أية سفينة وأي تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثير من النصارى المحدثين، في مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق. وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق، تنحني أمامه أية سلطة، وتحمي أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جرّاء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع في هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامي، لا يتورّعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة في السجن جوعاً (1). وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً، أن يبسط حكم الإرهاب في بعض المناطق، وهذا ما حدث في قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو الذي يعتبر من أشدّ المحققين قسوة وإجراماً. ففي عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع الذي يجري باسم الديوان المقدس وفي ظله، والذي يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت في الموضوع تحقيقات طويلة، انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (2). _______ (1) Dr Lea: ibid; V. 1. P. 190-192. (2) Dr Lea: ibid , V. 1. P. 210

وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة التي تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذي لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه في الوقت نفسه، أصلح أداة في تنفيذ سياسته في إبادة الموريسكيين. وفي الوصية التي تركها فرديناند الكاثوليكي عند وفاته في (كانون الثاني - يناير 1516 م)، لحفيده شارل الخامس، ما يلقي ضياءً على هذه الحقائق، ففيها بحث عن حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله، لكي يعملوا في عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (1). ولما توفي فرديناند، كان المحقق العام هو الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، الذي أبدى من الحماسة في مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه. وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين لا يُرغب فيهم، ولكنه ولم يعش طويلاً ليتم خطته في الإصلاح، فعادت المساوئ القديمة أشدّ مما كانت، وسار الديوان في قضائه المدمّر وأساليبه المثيرة، لا يلوي على شيء. ولما جلس شارل الخامس على العرش، كتب إلى مجلس قشتالة يقول: إن سلام المملكة، وتوطيد سلطانه، يتوقفان على تأييده لديوان التحقيق، ولم ير شارل بعد مدة من التردد، إلاّ أن ينزل عند هذا النصح، وأن يفسح الطريق لسلطان الديوان القاهر وذهبت كل الجهود للحد من عسف الديوان وعبثه سدى، وتوطد سلطان الديوان بقشتالة مدى قرون ثلاثة، كانت في الواقع أخطر ما في حياة الشعب الإسباني (2). و- وقد رأينا كيف أنشئ ديوان التحقيق الإسباني في الأصل، لمطاردة الكفر وحماية الكثلكة من شبه المروق والزّيغ، وكان إنشاؤه في قشتالة قبل _______ (1) Dr Lea: ibid; Cit. Mariana; V. 1. P. 215. (2) Dr Lea: ibid ; V. 1. P. 250.

انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان يهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، في ظل الحكم الإسلامي، أوّل ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التي رسمتها إسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة في أيدي الملكين الكاثوليكيين، وما كاد يهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير في (30 آذار - مارس سنة 1492 م) وهو يقضي بأن يغادر سائر يهود - الذين لم يتنصروا - من أي سن وظرف، أراضي مملكة قشتالة في ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألاّ يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألاّ يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية وإيواء أي يهودي أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرّفوا فيها وفق مشيئتهم (1). فأذعن كثير من يهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم في سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شرِّدوا في مختلف الأقطار بعد التشريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبهة كما ذكرنا. ولقيت طوائف المدجّنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهي التي بقيت في بعض مدن قشتالة وأراغون في ظل الحكم النصراني، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه في قشتالة منذ سنة (1480 م)، وقبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى في إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ووقع ملايين المسلمين في قبضة إسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق في هذا المجتمع النصراني المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية في تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة _______ (1) Archivo general de Simancas: P. R. Legajo 28; Fol. 6.

دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائي بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هي القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها في المجتمع النصراني. ولم تشأ السياسة الإسبانية أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخي، بل رأت نزولاً على وحي الكنيسة وتوجهها المباشر، أن تعجِّل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب في ذلك إلى حدود الإسراف والغلوّ، هي التي أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كرّ الأجيال والعصور، وستبقى تلك الوصمة ما بقيت الحياة. وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسباني بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية، التي أريد بها تنفيذ حكم الإعدام في أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لديوان التحقيق منذ سنة (1499 م) أعني مذ أُكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق في قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله في غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزّيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء في الوطن القديم، وأُكرهوا على التنصر واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الاضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت إسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجَّس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهري، وإنما كانت ترمي إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل

ذكرياتهم. والواقع أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تنصيرهم، نزولاً على حكم القوة والإرهاب، مخلصين في سرائرهم لدينهم الإسلامي، ولم تستطيع الكنيسة بالرغم من جهودها الفادحة أن تحملهم على الولاء لدين قاسوا في سبيل اعتناقه ضروباً مروِّعة من الآلام النفسية والاضطهاد المضني. وإليك ما يقوله مؤرخ إسباني كتب قريباً عن ذلك العصر، وأدرك الموريسكيين، وعاش بينهم حيناً في غرناطة: "كانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القدّاس أيام الآحاد، فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف. وفي يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة في منازلهم المغلقة، وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمِّد أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمّون أولادهم بأسماء عربية، وفي حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقي البركة، تنزع ثيابها النصرانية، وترتدي الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية" (1). وقد انتهت إلينا وثيقة عربية هامة تلقي ضوءاً كبيراً على أحوال الموريسكيين في ظل التنصير، وتعلقهم بدينهم الإسلامي، وكيف كانوا يتحيّلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التي يمكن أن تسوِّغ مسلكهم، وتشفع لهم عند ربّهم، مما يرغمون عليه من اتباعه من الشعائر النصرانية. وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة وجِّهت من أحد فقهاء المغرب إلى جماعة العرب المتنصِّرين ممن يسميهم: (الغرباء)، يقدم لهم بعض النصائح التي يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام خفية، وبطريق التورية والتستر. وتاريخ هذه الرسالة هو غرة رجب سنة (910 هـ) = (28 تشرين الثاني - نوفمبر 1504 م)، وإليك نص _______ (1) Marmol , ibid. 11; Cap. 1.

هذه الوثيقة: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً، إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، مَن أجزل الله ثوابهم، فيما لقوا في ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جنّاته، وارثو سبيل السّلف الصالح، في تحمّل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى النزاق، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعات حقّه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد بن بو جمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم ( F.2) من الأبرار، ومؤكداً عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به مَن بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى؛ فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود، لا يضر ولا ينفع، وأن المُلك ملك الله ما اتّخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه، واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوماً في البحور، وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان، فإن لم يكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء ( F.3-1) والصعيد إلاّ أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، ثقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: فأتوا منه ما استطعتم. وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية، وانووا

صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا فيكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرَّم، وإن زوّجوكم بناتهم فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم على ( F.3-2) إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وإنكم ناكرون لذلك في قلوبكم، ولو وجدتم قوّة لغيّرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام، فافعلوه منكرين بقلوبكم، ثم ليس لكم إلاّ رءوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي، إن تبتم إلى الله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا، وإلاّ فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا: اشتموا محمداً، فإنهم يقولون له: مُمَد، فاشتموا مُمَد، ناوين أنه الشيطان أو مُمَد يهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا: قولوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم وانووا إسقاط مضاف، أي عبد اللاّه مريم معبود بحق. وإن قالوا: قولوا المسيح ابن الله، فقولوها إكراهاً، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحلّ به، وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا بالتوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلوّ، وما يعسر عليكم فابعثوا ( F.4.1) فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون، وأنا أسأل الله أن يزيل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولا بد من جوابكم والسلام عليكم جميعاً. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة، عرف الله خيره".

"يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى" (1). ومن ثم فقد لبث الموريسكيون، شغلاً شاغلاً للكنيسة وللسياسة الإسبانية، فهم عنصر بغيض في المجتمع الإسباني وهم خطر على الدولة وعلى الوطن، وهم بالرغم من ردّتهم ما زالوا أعداء للدين في سريرتهم. وكان يذكي هذا البغض والتحامل ضد الموريسكيين كل تذمر من جانبهم. فلما دفعهم اليأس إلى الثورة في مفاوز البشرّات، ولما آنست السياسة الإسبانية أن هذه البقية الممزّقة من الأمة الأندلسية القديمة ما زالت تجيش برمق من الحياة والكرامة، رأت أن تضاعف إجراءات القمع والمطاردة، ضد هذا الشعب المهيض الأعزل، حتى لا ينبض بالحياة مرة أخرى. وكانت ثورة البشرات نذير فورة جديدة من هجرة الموريسكيين إلى ما وراء البحر، فجازت منهم إلى إفريقية جموع عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم بقيت في الوطن القديم، هدفاً للاضطهاد المنظم، والقمع الذريع المدني والديني، إلى جانب الأوامر الملكية بمنع الهجرة، وحظر التصرف بالأملاك وحمل السلاح وغيرها من القوانين المقيِّدة للحقوق والحريات، كان ديوان التحقيق من جانبه يشدِّد الوطأة على الموريسكيين، ويرقب كل حركاتهم وسكناتهم، ويغمرهم بشكوكه وريبه، ويتخذ من أقل الأمور والمصادفات ذرائع لاتهامهم بالكفر والزيغ، ومعاقبتهم بأشد العقوبات وأبلغها. وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني، وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يُؤخذ بها العرب _______ (1) نهاية الأندلس (325 - 327) وقد عثر مؤلف الكتاب على هذه الوثيقة خلال بحوثه في مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة، وهي تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية ( Borgiani) ، وقد وصف هذا المخطوط في فهرست مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنّه: "المقدمة القرطبية". وفي صفحة عنوانه بأنّه: "كتاب نزهة المستمعين". وتشغل هذه الوثيقة في المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139)، ولهذه الوثيقة ترجمة قشتالية، أنظر: P.Longas: La Vida Religiosa de las Moriscos (P. 305-307) .

المتنصرون في تهمة الكفر والمروق، وهذه هي الوثيقة الغريبة: "يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام، إذا امتدح دين محمدٍ وقال: إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلاّ رسول، أو إن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا قد رأى أو سمع، بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: إنه يجب ألاّ يعتقد إلاّ في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدّق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلاّ عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يملّس بيديه على رءوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم بأثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكر، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء أو أن يستغيث بمحمد عند الحاجة، مُنعِتاً إياه بالنبي رسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصّر إيماناً بالدين المقدس، أو: إنّ آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله، لأنهم ماتوا مسلمين ... الخ" (1). _______ (1) Don Antonio Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana وأيضاً Dr Lea: The Moriscos, P. 130-131.

كانت هذه الشُّبه وأمثالها تتخذ ذريعة للتنكيل بالموريسكيين، بالرغم من تنصرهم وانتمائهم إلى دين سادتهم الجدد. ومن الطبيعي أن يكون موقف المسلمين الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم أدق وأخطر، وكانت قد بقيت منهم جماعات كبيرة في غرناطة وبلنسية وغيرها، يعيشون في غمرة من الجزع الدائم، وكانت محارق ديوان التحقيق تلتهم الكثير من هؤلاء، لأقل الشبه والوشايات. ولقد كان الإسراف في مطاردة المسلمين والموريسكيين نذير السخط والثورة، ولكن الثورة أخمدت، ولم تعدل السياسة الإسبانية عن مسلكها، وضاعفت محاكم التحقيق إجراءات القمع والتنكيل. وقد اتصل المسلمون في الأندلس بملوك مصر والمغرب والقسطنطينية، يستغيثون بهم ويطالبونهم بنصرة إخوانهم من ظلم إسبانيا النصرانية وديوان التحقيق، وكانت أخبار ما يعانيه المسلمون والعرب المتنصرون في إسبانيا النصرانية شائعة في الأقطار الإسلامية وفي غيرها دون أن يمدّ الحكام المسلمون العون لمسلمي الأندلس وللعرب المتنصرين، كأن الأمر لا يعنيهم من بعيد ولا قريب. وقد كتب المسلمون الأندلسيون رسائل إلى حكام المسلمين، فكانت السياسة الإسبانية تتخذ من هذه الرسائل التي يوجهها العرب المتنصرون والمسلمون إلى إخوانهم المسلمين فيما وراء البحر، كلما تفاقمت آلامهم ومحنتهم وازداد الضغط عليهم، ذريعة للاشتداد في مطاردتهم واعتبارهم خطراً على سلامة الدولة لأنهم يأتمرون بها مع ملوك الدول الإسلامية أعداء إسبانيا النصرانية (1). _______ (1) نهاية الأندلس (311 - 331).

4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين أ - لبث الموريسكيون في عهد فرديناند الخامس (الكاثوليكي) زهاء عشرين عاماً، يتراوحون بين الرجاء واليأس، ويرزحون تحت وطأة المطاردة المنظمة. كان هذا الشعب المهيض الذي تنصّر قسراً، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة، وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروّض نفسه على حياته الجديدة. وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد. ولكن إسبانيا النصرانية، لبثت ترى في هذه البقية الباقية من الأمة الأندلسية، عدوّها القديم الخالد، وتتصوّر أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه ما يزال مصدر خطر دائم على سلامتها وطمأنينتها، ومن ثم كان هذا الإمعان في مطاردته وإرهاقه، بمختلف الفروض والقيود والمغانم، وفي انتهاك عواطفه وحياته، وفي تعذيبه وتشريده، وكان يلوح أن ليس لهذا الاستشهاد الطويل المؤثر من آخر سوى الفناء ذاته. توفي فرديناند الكاثوليكي في (13 كانون الثاني - يناير 1516 م) بعد أن عانت بقية الأمة الأندلسية من غدره وعسفه ما عانت، وكانت زوجه الملكة إيزابيلا قد سبقته إلى القبر قبل ذلك بأحد عشر عاماً، في (26 تشرين الثاني - نوفمبر سنة 1504 م)، ودفنت تحقيقاً لرغبتها في غرناطة. في دير سان فرانسيسكو القائم فوق هضبة الحمراء، ودفن فرديناند إلى جانب زوجته بالحمراء، تحقيقاً لوصيته، ثم نقل رفاتهما فيما بعد إلى كنيسة غرناطة العظمى، التي أقيمت فوق موقع مسجد غرناطة الجامع، في عهد حفيدهما الإمبراطور شارلكان، وأقيم لهما فيها ضريح رخامي فخم، ما يزال حتى اليوم في مقدمة مزارات غرناطة النصرانية. وفي دفن مستعبدي غرناطة الإسلامية في حرم غرناطة القديم، مغزى خاص ينطوي على تنويه ظاهر بظفر إسبانيا، وظفر النصرانية على الإسلام.

وقد كان الغدر والرياء، أبرز صفات هذا الملك العظيم المظفّر، الذي أتيح له القضاء على دولة الإسلام بالأندلس. وقد نوّه بهذه الصفة الذميمة أكابر المؤرخين المعاصرين واللاّحقين، ومنهم المؤرخون القشتاليون أنفسهم. فمثلاً يقول المؤرخ ثوريتا ( Zurita) وهو من أكابر المؤرخين الإسبان في القرن السادس عشر في وصفه: "وكان مشهوراً، لا بين الأجانب فقط، ولكن بين مواطنيه أيضاً، بأنه لا يحافظ على الصدق، ولا يرعى عهداً قطعه، وأنه كان يفضل دائماً تحقيق صالحه الخاص على كل ما هو عدل وحق" (1). ويقول معاصره مكيافيللي فيه: "إن فرديناند الأرغوني غزا غرناطة في بداية حكمه، وكان هذا المشروع دعامة سلطانه. وقد استطاع بمال الكنيسة والشعب أن يمدّ جيوشه، وأن يضع بهذه الحرب أسس البراعة العسكرية التي امتاز بها بعد ذلك، وقد كان دائماً يستعمل الدين ذريعة ليقوم بمشاريع أعظم، وقد كرّس نفسه بقسوة تسترها التقوى لإخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وبمثل هذه الذريعة غزا إفريقية، ثم هبط إلى إيطاليا، ثم هاجم فرنسا .. " (2). وكانت سياسة فرديناند الكاثوليكي مثال الغدر المثير في جميع ما اتخذه نحو معاملة المسلمين عقب تسليم غرناطة، وما تلاه من حوادث تنصيرهم قسراً، ثم اضطهادهم، ومطاردتهم بأقسى الوسائل، وأشدّها إيلاماً لمشاريعهم وأرواحهم. فلما توفي فرديناند، وخلفه حفيده شارل الخامس (الإمبراطور شارلكان) بعد مدة قصيرة من وصاية الكاردينال خمنيس على العرش، تنفّس الموريسكيون الصعداء، وهبت عليهم ريح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون العهد الجديد خيراً من سابقه. وأبدى الملك الجديد في الواقع شيئاً من اللّين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرّض لهم في أراغون بسعي النبلاء _______ (1) أنظر: Prescott, Cit. Zurita (Bnalesa ; ibid; P. 697 (note) (2) Machiavelli: The Prince (Everyman) , P. 177-178.

والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعم. ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها؛ وصدر مرسوم جديد في (12 آذار - مارس سنة 1524 م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تقلب جميع المساجد الباقية إلى كنائس. عندئذ استغاث المسلمون بالإمبراطور، والتمسوا عدله وحمايته، على يد وفد منهم بعثوه إلى مدريد، ليشرح للمليك ظلامتهم وآلامهم (سنة 1526 م)، فندب الإمبراطور محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في ظلامة المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحاً ملزماً، بمعنى يحتم عقاب المخالف بالموت أم يطبق عليهم القرار الجديد كمسلمين. وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة، لأنهم سارعوا بقبوله اتقاء ما هو شرّ منه، فكانوا في ذلك أحراراً في قبوله. ويعلق المؤرخ الغربي النصراني على ذلك القرار بقوله: "وهكذا اعتبر التنصير الذي فرضه القوي على الضعيف، والظافر على المغلوب، والسيد على العبد، منشئاً لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها" (1). وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين نصروا كرهاً، على البقاء في إسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت والمصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه أن تحول جميع المساجد الباقية في الحال إلى كنائس. فكان لهذه القرارات لدى المسلمين أسوأ وقع، وما لبثت الثورة أن نشبت في معظم الأنحاء التي يقطنها المسلمون، في أحواز _______ (1) راجع تاريخ De Marles الذي وضعه بالاقتباس من تاريخ كوندي: Domination des Arabes en Espagne; V.111. P. 389 Hist.de la

سرقسطة وفي منطقة بلنسية وغيرها، وأخمدت هذه الثورات المحلية الضئيلة تباعاً. ولكن بلنسية كان لها شأن آخر، ذلك أنها كانت تضم حشداً كبيراً من المسلمين، يبلغ سبعة وعشرين ألف أسرة (1)، وكان وقوعها على البحر يمهّد للمسلمين سبل الإتصال بإخوانهم في المغرب، ومن ثم فقد كانت دائماً في طليعة المناطق الثائرة، وكانت الحكومة الإسبانية تنظر إليها باهتمام خاص، فلما فرض التنصير العام، أبدى المسلمون في بلنسية مقاومة عنيفة، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير Benagwacil) واضطرت الحكومة أن تجرد عليهم قوة كبيرة مزوّدة بالمدافع، وأرغم المسلمون في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن ينصروا، وعدّلت عقوبة الرق إلى الغرامة (2). وفي باقي أراغون، أشفق السادة والنبلاء على مصالحهم وضياعهم من الخراب، إذا اضطهد المسلمون ومزّقوا، كما حدث في بلنسية، فأوضحوا للإمبراطور خطأ هذه السياسة، وأكدوا له أن المسلمين في أراغون جماعة عاملة هادئة ذلولة، لم ترتكب جرماً قط، ولم تبدر منهم خطيئة دينية أو سياسية، ومعظمهم زراع في أراضي الملك والسادة، ومنهم صناع مهرة، فإخراجهم من أراغون خسارة فادحة، ولا داعي لإرغامهم على التنصير، لأن ذلك لا يعني إخلاصهم للدين الجديد، ومن الخير أن يتركوا في سلام، ولكن مساعي السادة النبلاء في هذا السبيل ذهبت عبثاً، وأصرّ الإمبراطور على أن يطبق التشريع الجديد على جميع مسلمي أراغون، وأصدر أوامره إلى ديوان التحقيق، أن يقوم بتلك المهمة، فأذعن المسلمون إلى التنصير راغمين، وبذلك تم تنصيرهم جميعاً (سنة 1526 م). وتوالت الأوامر والقوانين المرهقة، فصدر قانون يحظر على الموريسكيين بيع الحرير والذهب والفضة والحلي والأحجار الكريمة، وحتم على كل مسلم بقي على دينه أن يحمل شارة زرقاء في قبعته، وحظر عليهم حمل السلاح _______ (1) Liorente, ibid. (2) Dr Lea: The Moriscos; 91-92.

إطلاقاً، وإلاّ عوقب المخالفون بالجلد، وأمروا أن يسجدوا في الشوارع متى مرّ كبير الأحبار. وفي بلنسية صدر قرار بأن يغادر المسلمون الأراضي الإسبانية من طريق الشمال، وحظر على السادة أن يبقوهم في ضياعهم، وإلاّ عوقبوا بالغرامة الفادحة. فعاد المسلمون في بلنسية إلى الثورة، وقاوموا جند الحكومة حيناً، ولكن الثورة ما لبثت أن أُخمِدت وتقدم المسلمون خاضعين على يد وفد منهم مثل في البلاط، يعرضون الدخول في النصرانية، على أن تحقق لهم بعض المطالب والظروف المخففة، فلا يمتد إليهم قضاء ديوان التحقيق مدى أربعين عاماً، لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وأن يحتفظوا خلال هذه المدة بلغتهم وملابسهم القومية، وبعض حقوقهم في الزواج والميراث طبقاً لتقاليدهم، وأن ينفق على مَن كان منهم من الفقهاء مِن دخل الأراضي التي وقفها المسلمون لأغراض البر، ويرصد الباقي لإنشاء الكنائس الجديدة، وأن يسمح لهم بحَمْل السلاح وتخفيض الضرائب (1). ولكن مجلس الدولة رأى أن يطبق عليهم سائر الأوامر، التي على الموريسكيين في غرناطة وغيرها، وأن يسمح لهم بالاحتفاظ بلغتهم وأزيائهم مدى عشرة أعوام فقط، وأن يمنحوا بعض الإمتيازات فيما يتعلق بالزواج ودفع الضرائب. وكانت هذه المنح أفضل ما يمكن نيله في هذه الظروف، فأقبل المسلمون في منطقة بلنسية على التنصير أفواجاً، عدا أقلية صغيرة آثرت المضي في المقاومة، ومزقتها جند الإمبراطور بعد حين قليل، وألفت محاكم التحقيق غير بعيد في مجتمع الموريسكيين في بلنسية ميداناً خصباً لنشاطها. وحذا الموريسكيون في غرناطة حذو إخوانهم في بلنسية، فسعوا لدى البلاط في تخفيف الأوامر والقوانين المرهقة التي فرضت عليهم، وانتهزوا فرصة زيارة الإمبراطور لغرناطة سنة (1526 م)، فقدّموا إليه على يد ثلاثة من أكابرهم هم: الدون فرديناند بنجاس، والدون ميشيل دراجون، وديجولويز _______ (1) P. Longas ; vida Religi sa de Los Moriscos , P. XL11.

بنشارا، وهم من سلالة أمراء غرناطة الذين نُصِّروا منذ الفتح، مذكرة يشرحون فيها ظلامتهم، وما يعانونه من آلام المطاردة والإرهاق المستمر، ولا سيما من أعمال القسس والقضاء الديني، فندب الإمبراطور لجنة محلية للتحقيق في أمر الموريسكيين في سائر أنحاء غرناطة، ثم عرضت نتائج بحثها على مجلس ديني قرر ما يأتي: أن يترك الموريسكيون استعمال لغتهم العربية وثيابهم القومية، وأن يتركوا استعمال الحمامات، وأن تفتح منازلهم أيام الحفلات وأيام الجمع والسبت، وألاّ يقيموا رسوم المسلمين أيام الحفلات، وألاّ يتسمّوا بأسماء عربية، ولكن هذه القرارات أُرجِىء بأمر الإمبراطور؛ ثم أعيد إصدارها، ثم أُرجئ تنفيذها مرة أخرى. وصدرت عدة أوامر ملكية بالعفو عن الموريسكيين فيما تقدم من الذنوب، فإذا عادوا طبقت عليهم أشد القوانين والفروض، فأذعن الموريسكيون لكل ما فرض عليهم، ولكنهنم افتدوا من الإمبراطور بمبلغ طائل من المال، حق ارتداء ملابسهم القومية، وحق الإعفاء من المطاردة إذا اتهموا بالردّة (1). وكان الإمبراطور شارلكان حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين قد وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تحقق قط، وشعر العرب المتنصرون من الساعة الأولى، أنهم مازالوا موضع الرّيب والاضطهاد، وفرضت عليهم فروض وضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئاً فشيئاً، وتترى ضدهم السعايات والاتهامات، وقد غدوا في الواقع أشبه بالرقيق منهم بالرعايا الأحرار. ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، وفشت فيهم هذه الرغبة، صدر قرار في سنة (1541 م) يحرّم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرّم عليهم النزوح إلى بلنسية، التي كانت دائماً طريقهم المفضّل إلى ركب البحر، ثم صدر قرار بمنع الهجرة من أي الثغور إلاّ _______ (1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 214-215, P. Longas,ibid,P.XL111.

بترخيص ملكي نظير رسم فادح. وكانت السياسة الإسبانية تخشى اتصال الموريسكيين بمسلمي المغرب، وكان ديوان التحقيق يسهر دائماً على حركة الهجرة، ويعمل على قمعها بمنتهى الشدّة. ومع ذلك فقد كانت الأنباء تأتي من سفراء إسبانيا في البندقية وغيرها هن الثغور الإيطالية، بأن كثيراً من الموريسكيين الفارين يمرون بها في طريقهم إلى إفريقية والعالم الإسلامي (1). وخلال هذا الاضطهاد الغامر، كانت السياسة الإسبانية في بعض الأحيان، تجنح إلى شيء من الرِّفق، فنرى الإمبراطور في سنة (1543 م) يبلِّغ المحققين العامين، بأنه تحقيقاً لرغبة مطران طليطلة والمحقق العام، قد أصدر عفوه عن المسلمين المتنصرين من أهل (مدينة ولكامبو) و (أريفالو) فيما ارتكبوا من ذنوب الكفر والمروق، وأنه يكتفي بأن يطلب إليهم الاعتراف بذنوبهم أمام الديوان (ديوان التحقيق)، ثم تردّ إليهم أملاكهم الثابتة والمنقولة التي أخذت منهم إلى الأحياء منهم، ويسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلّص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها، بل تبقى هذه المهور للأولاد الذين يولدون من هذا الزواج، وأن يتمتع بهذا الامتياز النصرانيات الخلّص اللاّتي يتزوجن من الموريسكيين، بالنسبة للأملاك التي يقدِّمها الأزواج الموريسكيون برسم الزواج أو الميراث (2). وهكذا لبثت السياسة الإسبانية أيام الإمبراطور شارلكان (1516 م- 1555 م) إزاء الموريسكيين، تتردّد بين الإقدام والإحجام، واللّين والشدّة. بيد أنها على العموم كانت أقل عسفاً وأكثر اعتدالاً، منها أيام فرديناند وإيزابيلا، وفي عهده نال الموريسكيون كثيراً من ضروب الإعفاء والتسامح الرفيقة نوعاً ما، ولكنهم لبثوا في جميع الأحوال موضع القطيعة والريب، عرضة للإرهاق والمطاردة، ولبثت محاكم التحقيق تجد فيهم دائماً _______ (1) Dr Lea: ibid ; P. 187-189. (2) Arch. gen. de Simancas ; P. R. Leg. 28, Fol. 49.

ميدان نشاطها المفضّل. ب - على أن هذه السياسة المعتدلة نوعاً ما، لم يتح لها الاستمرار في عهد ولده وخلفه فيليب الثاني (1555 م - 1598 م). وكان التنصير قد عمّ الموريسكيين يومئذٍ، وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام والعروبة، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قرارة هذه النفوس الأبية الكليمة، ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب. وكان الموريسكيون يحتشدون جماعات كبيرة وصغيرة في غرناطة وفي بسائطها، وفي منطقة البشرات الجبلية، تتوسطها الحاميات الإسبانية والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص في الزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية واجتماعية وثيقة بثغور المغرب، وهو ما كانت ترقبه السلطات الإسبانية دائماً بكثير من الحذر والريب. وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القديمة، ما زالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحن والخطوب اتحاداً، وتعلقاً بتراثه القومي والروحي، وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق، الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه، بكثير من البغضاء والحقد. فلما تولى فيليب الثاني ألفت فرصتها في إذكاء عوامل الاضطهاد والتعصّب التي خبت نوعاً ما في عهد أبيه شارل الخامس. وكان هذا الملك المتعصب جداً في قرارة نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ويرى في الموريسكيين ما تصوره الكنيسة والسياسة الرجعية، عنصراً بغيضاً خطراً دخيلاً على المجتمع الإسباني فلم تمض أعوام قلائل على تبوئه الملك، حتى ظهرت بوادر التعصب والتحريض ضد الموريسكيين، في طائفة من القوانين والفروض المرهقة. وكانت مسألة السلاح في مقدمة المسائل التي كانت موضع الاهتمام والتشدد. وقد عنيت السياسة الإسبانية منذ البداية بتجريد الموريسكيين من السلاح، واتخذت أيام فرديناند إجراءات لينة نوعاً ما، فكان يسمح بحمل أنواع معينة من السلاح المنزلي كالسكين وغيرها، وذلك

بترخيص ورسوم معينة. ولكن الحكومة خشيت بعد ذلك عواقب هذا التسامح، فأخذت تشدِّد في الترخيص، وجُرِّد المسلمون في بلنسية من سلاحهم جملة، وقيل لهم حينما أذعنوا للتنصير: إنهم سيعاملون كالنصارى في سائر الحقوق والواجبات، ويردّ لهم سلاحهم، ولكن الحكومة لم تفِ بعهدها. وفي سنة (1545 م) صدر قرار بمنع السلاح كافة، ولكنه نفِّذ بشيءٍ من اللين. وفي سنة (1563 م) في عهد فيليب الثاني، صدر قانون جديد يحرّم حمل السلاح على الموريسكيين إلاّ بترخيص من الحاكم العام، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فأثار صدوره سخط الموريسكيين، وكان السلاح ضرورياً للدفاع عن أنفسهم في محلاّتهم المنعزلة النائية. بيد أن قانون تحريم السلاح، لم يكن سوى مقدمة لقانون أقسى وأشدّ إيلاماً، هو القانون الخاص بتحريم استعمال اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، على الموريسكيين. وقد لبثت اللغة والتقاليد العربية في الواقع للموريسكيين، من أوثق الروابط بماضيهم وتراثهم، وكانت عماد قوّتهم المعنوية، ومن ثم كانت عناية السياسة الإسبانية بالعمل على محوها بطريق التشريع الصارم، والقضاء بذلك على آخر الروابط التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي. وقد فكر بعض أحبار الكنيسة أن يتعلم القسس الذين يقومون بحركة التنصير اللغة العربية، لكي يستطيعوا إقناع الموريسكيين بلغتهم والنفاذ إلى أعماق نفوسهم، ولكن فيليب الثاني لم يوافق على هذا الرأي، وآثر أن يتعلم القشتالية أبناء الموريسكيين متذ طفولتهم؛ وكانت السياسة الإسبانية قد حاولت تنفيذ مشروعها منذ عهد الإمبراطور شارلكان، فصدر في سنة (1526 م) قانون يحرم على الموريسكيين التخاطب باللغة العربية وارتداء الثياب العربية، واستعمال الحمامات، وإقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، ولكنه لم ينفذ بشدة، والتمس الموريسكيون في بلنسية وغرناطة وقف تنفيذه أربعين عاماً، يحتفظون خلالها بلغتهم وثيابهم القومية، وقرنوا ملتمسهم بمطالب أخرى تتعلق بتطبيق شريعتهم وتقاليدهم، وتخفيف

الضرائب عن كاهلهم، وبالرغم من أن مطالبهم لم تُجب يومئذ كلها، فإن قانون تحريم اللغة والثياب القومية، نظير ضريبة معينة، أرجئ تنفيذه مرة أخرى، وأجيز للموريسكيين استعمال اللغة والثياب القومية نظير تلك الضريبة، واستمر هذا المنح سارياً حتى عهد فيليب الثاني، وكان يُجمَع من هذه الضريبة مبلغ طائل. ولكن فيليب الثاني كان ملكاً شديد التعصب، كثير التأثر بنفوذ الأحبار، وكانت الكنيسة ترى أن بقاء اللغة العربية من أشدّ العوامل لمنع تغلغل النصرانية في نفوس الموريسكيين، وأنه لابد من القضاء على ذلك الحاجز الصخري الذي تتحطم عليه جهود الكنيسة؛ وكانت قد مضت فوق ذلك أربعون عاماً مذ صدر قانون التحريم في عهد الإمبراطور شارلكان، ولم يبق للموريسكيين في ذلك حجة ولا ملتمس، وانتهت الكنيسة كالعادة بإقناع الملك بصواب رأيها، فلم يلبث أن استجاب لتحريضها، وأمر في (أيار - مايو سنة 1566 م) بأن يجدّد القانون القديم بتحريم الثياب العربية واللغة العربية، وهكذا حاول بطريق التشريع أن يسدّد الضربة الأخيرة للغة الموريسكيين وتقاليدهم العربية، فأصدر هذا القانون الهمجي الذي لم يسمع بصدور مثله في تاريخ المجتمعات المتمدنة. ويقضي هذا القانون بأن يمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكل معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة، ولا يُعتدّ بها لدى القضاء أو غيره. ويجب أن تسلم الكتب العربية، من أية مادة، في ظرف ثلاثين يوماً إلى رئيس المجلس الملكي في غرناطة، لتفحص وتقرأ، ثم يردّ غير الممنوع منها إلى أصحابها، لتحفظ لديهم مدى الأعوام الثلاثة فقط. وأما الثياب فيمنع أن يصنع منها كل جديد وأي جديد مما كان يستعمل أيام المسلمين، ولا يصنع منها إلاّ ما كان مطابقاً لأزياء النصارى، وحتى لا يتلف منها ما كان من زي المسلمين، فإنه يسمح بارتداء الثياب الحريرية منها لمدة عام، والصوفية لمدة عامين، ثم لا يسمح

باستعمالها بعد ذلك. ويحظر التحجّب على النساء الموريسكيّات، وعليهن أن يكشفن وجوههنّ، وأن يرتدين عند خروجهنّ، المعاطف والقبّعات على نحو ما تفعل النساء الموريسكيات في أراغون. ويحظر في الحفلات إجراء أية رسوم إسلامية، ويجب أن يجري كل ما فيها طبقاً لعرف الكنيسة وعرف النصارى، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال، وفي أيام الجمعة وأيام الأعياد، ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع في داخلها من المظاهر والرسوم المحرمة. ويُحرم إنشاد الأغاني القومية، ولا يشهر الزّمر (الرقص العربي) أو ليالي الطرب بالآلات أو غيرها من العوائد الموريسكية، ويحرم الخضاب بالحناء. ولا يسمح بالاستحمام في الحمامات، ويجب أن تهدم جميع الحمامات العامة والخاصة. ويحرم استعمال الأسماء والألقاب العربية، ومَن يحملها يجب عليه المبادرة بتركها. ويجب أخيراً على الموريسكيين الذين يستخدمون العبيد السود، أن يقدّموا رخصهم باستخدامهم، للنظر فيما إذا كان حرياً بأن يسمح لهم باستبقائهم (1). هذه هي نصوص ذلك القانون الهمجي الذي أريد به تسديد الضربة القاضية لبقايا الأمة الأندلسية، وذلك بتجريدها من مقوماتها القومية الخيرة. وقد فرضت على المخالفين عقوبات فادحة، تختلف من السجن إلى النفي والإعدام، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر السلطات من أقوى الأدلة على الردّة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب. وأعلن هذا القانون المروّع في غرناطة في يوم (أول كانون الثاني - يناير سنة 1567 م)، وهو اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، واتخذته إسبانيا عيداً قومياً لها تحتفل به في كل عام، وأمر ديسا رئيس المجلس الملكي بإذاعته في غرناطة، وسائر أنحاء مملكتها القديمة، وتولى إذاعته موكب من القضاة شقَّ _______ (1) Marmol; ibid; 11. Cap. VI.، وأنظر أيضاً: P. Lognas, ibid; P. XLV - XLV1

المدينة، ومن حوله الطبل والزمر، وعلّق في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة، وفي سائر ميادينها الأخرى، وفي ربض البيازين، فوقع لدى الموريسكيين وقع الصاعقة، وفاضت قلوبهم الكسيرة سخطاً وأسىً ويأساً، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فحطّمت الحمامات تباعاً. واجتمع زعماء الموريسكيين وتباحثوا فيما يجب عمله إزاء هذه المحنة الجديدة، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغاء هذا القانون، أو على الأقل لتخفيف وطأته، ورفعوا احتجاجهم أولاً إلى الرئيس ديسا على يد رئيس جماعتهم مولاي فرنسيسكو نونيز، فخاطب الرئيس ديسا، وبيّن له ما في القانون من شدة وتناقض، وخرق للعهود، وطلب إرجاء تنفيذه. وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني، وإلى وزيره الطاغية الكاردينال أسبينوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وكان يعطف على هذا الشعب المنكود، ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته، وسار معه إلى مدريد اثنان من أكابرهم هما: خوان هرناندث من أعيان غرناطة، وهرناندو الحبقي من أعيان وادي آش، والتمس الوفد إلى الملك إرجاء تنفيذ القانون، كما حدث أيام أبيه، وبعث الدون هنريكس، بمذكرة إلى جميع أعضاء مجلس الملك يبيِّن فيها ما يترتب على تنفيذ القانون من حرج واضطراب، ولكن مساعيه كلها ذهبت عبثاً، وأجاب الكاردينال اسبينوسا بأن جلالته مصمم على تنفيذ القانون، وأنه أصبح أمراً واقعاً، وكذا عرض المركيز دى مونديخار حاكم غرناطة على الملك اعتراض الموريسكيين، وأوضح له خطورة الموقف، وأن اليأس قد يدفعهم إلى الثورة، وأن الترك قد أصبحوا في شواطئ المغرب على مقربة من إسبانيا، وأن الموريسكيين شعب عدو لا يدين بالولاء، فلم تفد هذه الاعتراضات شيئاً، وقيل إن الموريسكيين شعب جبان، ولا سلاح لديه ولا حصون. وهكذا حملت سياسة العنف والتعصب في طريقها كل شيء، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حدّدت لها، ولم تبد السلطات في تنفيذها أي رفق أو ...................................................

مهادنة (1). ولم يحظ بلمحة من الرفق سوى الموريسكيين في بلنسية، وكان زعيمهم وكبير أشرافهم كوزمي بن عامر من المقربين إلى البلاط، فسعى للتخفيف عنهم، وكلّلت مساعيه بالنجاح في بعض النواحي، وهو أن يعامل الموريسكيون بالرفق في حالة اتهامهم بالردّة، ولا تنزع أملاكهم بتهمة المروق، وذلك على أن يدفعوا إتاوة سنوية قدرها ألفان وخمسمائة مثقال لديوان التحقيق (2). وأما في غرناطة، فقد بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة، والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني، أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم، آخر جذوة من الكرامة والعزّة، وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز، وكانت نفوسهم ما تزال تضطرم ببقية من شغف النضال والدفاع عن النفس، وكانوا يرون في المناطق الجبلية القريبة ملاذاً للثورة، ويؤملون أن يصلوا بالمقاومة إلى إلغاء هذا القانون الهمجي أو تخفيفه. وهنا يبدأ الصراع الأخير للموريسكيين وإسبانيا النصرانية، ومن المؤسف أنه لم تذكر المصادر العربية عن هذه المرحلة شيئاً، فهي تقف عند محنة التنصير الأولى عقب سقوط غرناطة، فلا بد من الرجوع إلى المصادر النصرانية حول ذلك. سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق، فعوّلوا على الثورة، مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل ونبتت فكرة الثورة في غرناطة أولاً حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة منهم تحتشد في ضاحية البيازين. وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها _______ (1) Marmol; ibid; 11. Cap. وأنظر: Prescott: Philip 11 of Spain; V. 111. P. 12-89 وأنظر: Dr. Lea: The Moriscos; P. 150-151 and 230-234. (2) Dr Lea: ibid. P. 126.

موريسكي يدعى: فرج بن فرج، وكان فرج صباغاً بمهنته، ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية، كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرم بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم، ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج، وهم كما رأينا من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه، فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوّة كبيرة منهم، تزحف سراً إلى غرناطة، وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحدّدوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس)، من شهر نيسان - أبريل سنة (1568 م) إذ يشغل النصارى يومئذ باحتفالاتهم وصلواتهم. ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسرّبت إلى السلطات منذ البداية، فاتخذت الاحتياطات لدرئه، وعزّزت حامية غرناطة وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة، أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى. ووضع أديب من زعماء الثورة، يدعى باسمه المسلم محمد بن محمد بن داود، قصيدة ملتهبة، يصف فيها آلام بني وطنه، ويستمدّ فيها الغوث والعون من الله ومن ونبيه عليه الصلاة والسلام، فضبطت معه في ثغر أدرة، وأرسلت إلى البلاط مع ترجمتها القشتالية، وهذا هو ملخص ما ورد في تلك القصيدة التي تعتبر كأنها صرخة ألم أخيرة لشعب شهيد: (تفتتح القصيدة بحمد الله والثناء عليه والتنويه بقدرته، وخضوع جميع الناس والأشياء لحكمه، ثم يقول: استمعوا إلى قصة الأندلس المحزنة، وهي تلك الأمة العظيمة التي غدت اليوم ضعيفة مهيضة، يحيط بها الكفرة من كل صوب، وأضحى أبناؤها كالأغنام الذين لا راعي لهم. وفي كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة، حتى ينقذنا الموت مما هو شرّ وأدهى. وقد حكّموا فينا يهود الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وفي كل يوم يبحثون عن ضلالات وأكاذيب وخدع وانتقامات جديدة.

"ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، وهي مسخ للواحد القهار، ولا يجرؤ أحد على التذمر أو الكلام. وإذا ما قرع الناقوس، ألقى القس عِظَته بصوت أجشّ، وفيها يشيد بالنبيذ ولحم الخنزير، ثم تنحني الجماعة أمام الأوثان دون حياء ولا خجل ... ". "ومَن عَبَدَ الله بلغته قُضى عليه بالهلاك، ومَن ضُبط أُلقِي إلى السجن وعُذّب ليل نهار، حتى يرضخ لباطلهم". ثم يصِف وسائل إرهاقهم والتضييق عليهم، من التسجيل والتفتيش وغيرها، وما يفرض عليهم من الضرائب الفادحة، وكيف تُؤدى عن الحي والميت، والكبير والصغير، والغني والفقير، وكيف يرهقهم القضاة الظلمة، ولا يفلت من ظلمهم كائن، وكيف يُلقى بهم في السجن، ويرغمون على التنصير بالاعتقال والتعذيب، وكيف تهشّم أوصال الفرائس، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق أمام الجمع الحاشد. وكيف تكدّس المظالم على رءوسهم تكديساً، ويسومهم الخسف أصاغر النصارى، وكل منهم يفتنُّ في ضروب الاضطهاد. ثم يقول: "ولقد علّقوا يوم العيد (عيد سقوط غرناطة) في ميدان باب البنود، قانونا جديداً، وأخذوا يدهمون الناس في نومهم، ويفتحون كل باب، يزمعون تجريدنا من ثيابنا وقديم عاداتنا، ويمزقون الثياب، ويحطمون الحمامات". "ونحن إذ نيأس من عدل الإنسان، نستغيث بالنبي (عليه الصلاة والسلام)، معتمدين على ثواب الآخرة، وقد حثنا شيوخنا على الصلاة والصوم، وأن نقصد وجه الله، فهو الذي يرحمنا في نهاية الأمر" (1). وضبط في نفس الوقت مع ابن داود خطاب موجه من أحد زعماء البيازين _______ (1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة لهذه القصيدة، والترجمة للأستاذ محمد عبد الله عنّان نقلاً عن: نهاية الأندلس (345 - 346)، أنظر: Marmol; ibid; 111. Cap. 1X

إلى زعماء المغرب ورؤسائهم وإخوانهم في الدين. وكان هذا الكتاب واحداً من كتب عديدة، وجّهت خفية إلى أمراء الثغور في المغرب، يطلبون إليهم الغوث والعون، فحمل الكتاب إلى حاكم غرناطة، وفيه يناشد كاتبه إخوانه بالمغرب، ويستحلفهم الغوث بحق روابط الدين والدم، ويصف ما قرره النصارى من إرغامهم على ترك اللّغة، وتَرْكُها فَقْدٌ للشريعة، وكشف الوجوه الحيية المحتشمة، وفتح الأبواب، وما أنزل بهم من محن السجن والأسر ونهب الأملاك، ويطلب إليهم أن يبلغوا استغاثتهم إلى سلطان المشرق قاهر أعدائه، ثم يقول: "لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا لكم في ليالٍ تفيض بالعذاب والدّمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح المعذّب" (1). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين، الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثير من البحارة المجاهدين، الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الإسبانية في ذلك العصر. واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، وأرسلت خطابات عديدة من ابن فرج وزملائه إلى مختلف الأنحاء يدعون فيها إخوانهم إلى التأهب وإخطار سائر إخوانهم. وفي شهر (كانون الأول - ديسمبر 1568 م) وقع حادث كان نذير الانفجار، إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الإسبانيين في طريقهم إلى غرناطة، ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند، كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق، ومثلت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه، ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في (البيازين) على نصرته، ولكنهم أَبَوْا أن يشتركوا _______ (1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة، أنظر: Marmol, ibid, 111, Cap. 1X

في مثل هذه المغامرة الجنونية. ولقد كان موقفهم حرجاً في الواقع، لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية، وهم أعيان الطائفة، ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الإسبان، بيد أنهم كانوا يؤيدون الثورة؛ يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم، فارتد ابن فرج على أعقابه، واجتاز شعب جبل شلير (سيرانفادا) إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش وألمرية، فلم تمض بضعة أيام، حتى عمّ ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج، ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم، ففتكوا بهم ومزّقوهم شرّ ممزق. ج - اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس، ودوّت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة أو الموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفّون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم، فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى: الدون فرناندو دى كردوبا فالور (1). وكان هذا الاسم النصراني القشتالي، يحجب نسبة عربية رفيعة. ذلك أن فرديناند فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية، وكان سليل الملوك والخلفاء الذين سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس، زهاء ثلاثة قرون. وكان فتى في العشرين، تنوِّه الرواية القشتالية المعاصرة بوسامته ونبل طلعته، وكان قبل انتظامه في سلك الثوار مستشاراً ببلدية غرناطة، ذا مال ووجاهة. وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها. وكان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال، ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار ( Beznar) فهرعت إليه الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في (29 كانون الأول - ديسمبر سنة 1568 م) في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام _______ (1) كردوبا أي قرطبة، وفالور قرية غرناطية تقع على مقربة من أجيجر.

إسلامية ذات أهلّة، فصلى عليها الأمير متّجها نحو مكة، وقبّل أحد أتباعه الأرض رمزاً للخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمَّى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أميّة صاحب الأندلس وغرناطة، واختار عمه المسمى: فرناندو الزغوير (الصغير) واسمه المسلم ابن جوهر قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وانتخب ابن فرج كبيراً للوزراء، ثم بعثه على رأس بعض قواتها إلى هضاب البشرات، ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء، يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعود إلى دينهم القديم (1). ووقعت نقمة الموريسكيين بادئ ذي بدء، على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات، ولا سيما القسس وعمال الحكومة، وكان هؤلاء يقيمون في محلاّت متفرقة سادة قساة، يعاملون الموريسكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص سبب بلائهم ومصائبهم، ومن ثم كانوا ضحايا الثورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء ومزقوهم تمزيقاً، وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثّلوا بهم أشنع تمثيل. وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة، لم ينج منها حتى الأطفال والنساء والشيوخ. وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة، فوجم لها الموريسكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة؛ وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش بهم النصارى انتقاماً لإخوانهم ومواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة، فتسقط المدينة بأيديهم، وعندئذ يحل بهم النكال المروِّع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول: إنه لم يحرِّض على هذه المذابح، ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها، وحاول أن يحول دون وقوعها، وعزل نائبه ابن فرج _______ (1) Marmol ; ibid; 1V , Cap. V11.

عن القيادة، فنزل راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث من جديد (1). د - وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً، وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى. بيد أنه لم يكن يقدّر مدى الانفجار الحقيقي. فغصّت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة، رغم احتجاجهم وتوكيدهم بأن لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم. وخرج منديخار من غرناطة بقواته، في (2 كانون الثاني - يناير سنة 1569 م) تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تندليا، وعبر جبل شلير (سيرا نفادا) وسار توّاً إلى أعماق البشرات، حيث يحتشد جيش الثوار. وكانت الثورة الموريسكية في تلك الأثناء قد عمّت أنحاء البشرات الشرقية والجنوبية، واضطرمت في أجيجر وبرجة وأدرة وأندراش ودلاية ولوشار ومرشانة وشلوبانية وغيرها من البلاد والقرى، واستطاع الموريسكيون أن يتغلبوا بسهولة على معظم الحاميات الإسبانية المتفرقة في تلك الأنحاء، بل لقد سرت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة، حيث أندلع لهيبها في وادي المنصور وفي قراه ودساكره، ولم يتخلّف عن المشاركة في الثورة سوى رندة ومربلة ومالقة، وكانت بها حاميات إسبانية قوية، ونشبت الثورة في معظم أنحاء ألمرية، وهكذا عمّت الثورة الموريسكية معظم أنحاء الأندلس، واشتد الأمر بنوع خاص في بسطة ووادي آش وألمرية (2). وكان محمد بن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم، قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها، فما كاد الإسبان يقتربون حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول بطرنة، _______ (1) Prescott:Philip 11; V. 111. Ch. 11 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 237 (2) Marmol ; ibid, 1V , Cap. XXXV1

وتخلّف كثيرون منهم، ولا سيما النساء، ففتك الإسبان بهم فتكاً ذريعاً. وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو، وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم. وكتب الدون ألونسو فنيجاس (بنيغش) سليل الأسرة الغرناطية القديمة إلى محمد بن أمية يعاتبه، وأنه قد جانَبَ العقل والحزم في القيام بهذه الحركة التي تعرضه وتعرض أمته للهلاك، ونصحه بالتوبة والتماس العفو، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، وتبودلت بالفعل المكاتبة بينه وبين المركيز منديخار في أمر التسليم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولا سيما المتطوعين المغاربة، رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفّة الإسبان، وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وأعلن المركيز دى منديخار أن الأسرى الموريسكيين يعتبرون رقيقاً وفرّ محمد بن أمية، وأسرت أمه وزوجه وأخواته، وأصيب الإسبان بهزيمة شديدة فى آكام (جواخاريس)، وقتل منهم مائة وخمسون جندياً مع ضابطهم، ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد، وقتل الإسبان مَن تخلّف منهم أشنع قتل، وكان ممن تخلف منهم زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الإسبان مع ابنته الصغيرة، وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذّبوه عذاباً وحشياً، إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزّقت أشلاؤه، وهكذا كانت أساليب الإسبان النصارى ومحاكم التحقيق إزاء العرب المتنصرين. واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً، وطارده الإسبان دون أن يظفروا به. على أن هذه الهزائم لم تنل من عزم الموريسكيين، فقد احتشدوا في شرقي البشرات في جموع عظيمة، وأخذوا يهدّدون ألمرية، فسار إليهم المركيز "لوس فيليس" على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة، قثل فيها كثير من الفريقين، ومزّق الموريسكيون، وفتك الإسبان كعادتهم بالأسرى، وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً. ووقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروّعة أخرى فقد كان في

سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان الموريسكيين، اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة، فأذاع الإسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء، بمؤازرة مواطنيهم في البيازين، وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء، فانقضّ الجند عليهم وذبحوهم في مناظر مروّعة في سفك الدماء الفظيع. وكان لهذه الحوادث الأخيرة أثر في إذكاء الثورة، وكان نذيراً جديداً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون، فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل، وطافت بهم صيحة الانتقام، فانتفضوا على الحاميات الإسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزّقوها تمزيقاً، وهزموا قوة إسبانية تصدّت لقتالهم، واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل، وعاد محمد بن أمية ثانية إلى تبوء عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، وأرسل في نفس الوقت إلى أمير الجزائر، وإلى سلطان مراكش الشريفي يطلب الإنجاد والغوث، ولكن سلاطين القسطنطينية لم يلبّوا ضراعة الموريسكيين بالرغم من تكرارها منذ سقوط غرناطة، وأرسل أمير الجزائر مشجعاً ومعتذراً عن عدم إمكان إرسال السفن، ووعد سلطان مراكش بالمساعدة والغوث، ولكن هذا الصريخ المتكرر من الموريسكيين لم ينتج أثره المنشود، ولم يلبه غير إخوانهم المجاهدين في إفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة، أن تجوز إلى الشواطئ الإسبانية، ومنهم فرقة من الترك المرتزقة، وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين. وهكذا عاد الجهاد إلى أشدّه. وخشي الإسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية. وكانت مأساة جديدة مزّقت فيها هذه الأسر التعسة، وفُرِّق فيها بين الأبناء والآباء والأزواج والزوجات، في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين، في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم وقائع غير

حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص الأهبة والمؤن، وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة، كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة. واتُّهِم منديخار بالعطف على الموريسكيين، فاستُدعِي إلى مدريد، وأُقِيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة. وبينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها، وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطر، هو مصرع محمد بن أمية. وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة، وكانت عوامل الخلاف والحسد، تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه، الحقد في نفوس نفر من ضباطه. وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله فتقول: إنه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل (الوزير) له عشيقة حسناء تسمى: زهرة، فانتزعها منه محمد قسراً، فحقد عليه وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزوّر على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرِّضه على التخلّص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر ابن أمية وقتلوه، بالرغم من احتجاجه وتوكيده براءته، واستقبل الجند الحادث بالسكون. وفي الحال اختار الزعماء ملكاً جديداً هو ابن عبو، واسمه الموريسكي: ديجو لوبيث، وهو ابن عم الملك القتيل، فتسمى: بمولاي عبد الله محمد، وأُعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله أكثر فطنة وروية وتدبّراً، فحمل الجميع على احترامه، وشُغل مدى حين بتنظيم الجيش، واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرّباً قِوامه زهاء عشرة آلاف، بين مجاهد ومرتزق ومغامر. وفي أواخر (تشرين الأول - أكتوبر 1569 م) سار مولاي عبد الله بجيشه

صوب (أرجبة)، وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون من شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة، وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة ( La Vega) وقد كانت قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى، وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية، وعجز القادة المحليين عن قمعها، قد عين أخاه الدون خوان قائداً عاماً لولاية غرناطة، ولما رأى الدون خوان اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه في أواخر (أيلول - ديسمبر) على رأس جيشه، وسار صوب وادي آش، وحاصر بلدة (جليرا)، وهي من أمنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي، منهم فرقة تركية، فهاجمها الإسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدّة، فسقطت بأيديهم بعد معارك هائلة، أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات أعظم ضروب البسالة، وقتل عدد من الأكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضواري الكواسر المفترسة، وقتلوا كل من فيها من الرجال والأطفال والنساء، وكانت مذبحة مروّعة (شباط - فبراير 1570 م)، وتوغل بعد ذلك دون (1) خوان في شعب الجبال الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هناك قوة من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى: (الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الإسبان في سيرون ومزّقت بعض سراياهم، وأوقعت الرّعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدد كبير، ولم يستطع الدون خوان أن يعيد النظام إلاّ بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره جنوباً حتى وصل إلى أندراش في (أيار - مايو سنة 1570 م). وهنا رأت الحكومة الإسبانية أن تجنح إلى شيء من اللّين، خشية عواقب هذا الجهاد الرائع، فبعث الدون خوان رسله إلى الزعيم (الحبقي) يفاتحه بأمر _______ (1) دون ( DON) تعني السيد في اللغة الإسبانية.

الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم، فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع، ما عدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قُضي عليه بالموت، فلم يصغ إلى النداء أحد، ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائياً أن إسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام، وأنها لا تفي بوعودها، فعاد الدون خوان إلى استئناف المطاردة والقتال، وانقض الإسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً، وسارت قوة بقيادة دون سيزا إلى شمال البشرَّات، واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في معارك غير حاسمة، وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي، وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهّم الموقف، ورأى أتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعاً، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شيء، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوّة القاهرة. وتقدّم للتوسط بين الثوار وبين الدون خوان كبير من أهل وادي آش يدعى: الدون هرناندو دى براداس، وكانت له صلات طيبة مع الموريسكيين قبل الثورة. وقد انتهت إلينا وثيقة مؤثرة هي عبارة عن خطاب كتبه مولاي عبد الله إلى دون هرناندو هذا يعرض استعداده للصلح والمفاوضة، وفيه تبدو لغة الموريسكيين العربية في دور احتضارها، ويبدو أسلوب اللّهجة الغرناطية التي انتهى الموريسكيون إلى التحدث والكتابة بها، بعد نحو ثمانين عاماً من الكبت والمطاردة. وإليك ما ورد في هذا الخطاب الذي ربما كان آخر وثيقة عربية عثر بها البحث الحديث: 1 الحمد لله وحده قبل الكلم 2 اسلم الكرمو على من أكرمهو الكرمو سيديا وحبيبي وعزا سر عنديا دن هرنندو وفي نعلم حرمتكم ين

3 أكن نت تقول يجى عند أخيكم وحببك وتجى مطمن وكل ميجكم فمليا 4 وذيمتى وكن أنت تريد تترطل فذى المبرك مين سُلح كل متعمل تعملو معى ونى 5 نعمل معك كل مَترِيد بحق وبِل غدر وذَهَر لى مين الحبقى بن اشمَكِن يعمل 6 معلمن وتطلعنى على حق وذهر لى بن اشم طلب يرحو وينسو ويسحبو وبعد رعى 7 ودين انى نعرف حرمتك بهذا شى وحرمتك اعمل الذى يذهر لكم وعمل ميسُلح بنترر 8 وبين وعسى يقذيا الله خير بينين وتكن حرمتكم اسّبّبْ فداشى وعملن فعد لكم بل اش 9 كن معى من يكتب لى يل كينكن كتبت لكم أكثر وسلموا عليكم ورحمتو الله وبركتو الله 10 كِتيب الكتب يوم الثليث فشهر وليو فعم .. ملاى عبد الله (1) وكتب الدون ألونسو دى فينجاس (بنيغش) أيضاً إلى مولاي عبد الله يحثه على المسالمة، والتنكّب عن هذا الطريق الخطر، وردّ عليه عبد الله يلقي _______ (1) نشر هذا الخطاب وصورته الفوتغرافية المستشرق M. Alacron في مجموعة بالإسبانية عنوانها: Miscelaneo de Estudios Y. Textos Arabes (Madrid 1915) ; P. 691، وقد وجد هذا الخطاب في مجموعة المخطوطات الشرقية للمركيز بينافلور Bena Flor، وتحفظ نسخته العربية فيها برقم 246، وتحفظ ترجمته القشتالية برقم 245، وقد أورد مارمول ترجمته القشتالية في الكتاب التاسع الفصل التاسع. أنظر نهاية الأندلس (355).

المسئولية على أولي الأمر، وعلى ما أحدثوه من بدع جعلت الحياة مستحيلة على الشعب الموريسكي (1). وجرت المفاوضات بين الزعيم الحبقي قائد قوات الثورة، وبين الدون هرناندو دى براداس، واتفق في النهاية على أن يتقدم الحبقي إلى الدون خوان بإعلان خضوعه، وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الإسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت مقامهم. وفي ذات مساء، سار الحبقي في سرية فرسانه إلى معسكر الدون خوان في أندراش، وقدم له الخضوع، وحصل على العفو المنشود. ولكن هذا الصلح لم يرض مولاي عبد الله وباقي الزعماء، لأنهم لمحوا فيه نيّة إسبانيا النصرانية على نفيهم ونزعهم عن أوطانهم، ففيم كانت الثورة إذن وفيم كان الجهاد؟! لقد ثار الموريسكيون، لأن إسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز، الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي، إذ رآه يروّج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعو إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه لمعسكره بالحيلة، وهناك أُعدم سراً. ووقف الدون خوان على ذلك، بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه أن يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفاتهم، بيد أنه يأبى الخضوع ما بقي فيه عرق ينبض، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه، على أن يحصل على مُلك إسبانيا بأسره. والظاهر أن مولاي عبد الله، كانت قد وصلته إمدادات من المغرب شدّت أزره وقوّت أمله، وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخوه الغالب ليقود الثوار في تلك الأنحاء، وثارت الحكومة الإسبانية لهذا _______ (1) Marmol ; ibid; V111 ; Cap. XXV11.

التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت، فسار الدون خوان في قواته إلى وادي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دون ركيصانص إلى شمالي البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الإسبان في طريقهم كل شيء، وأمعنوا في التقتيل والتخريب. وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن تقف في وجه هذا السيل، فمُزِّقت تباعاً، وهدم الإسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول، حتى لا يبقى للثائر من مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت الثورة تنهار بسرعة، وفرّ كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في إفريقية، ولم يبق أمام الإسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير. بيد أن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال، يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف. (وفي 28 تشرين الأول - أكتوبر سنة 1570 م) أصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد، ومصادرة أملاكهم العقارية، وترك أملاكهم المنقولة يتصرفون فيها، ويقضي هذا القرار بأن الموريسكيين في غرناطة والفحص ووادي الكرين (الإقليم) وجبال بونتوقير حتى مالقة، وجبال رندة ومربلة يؤخذون إلى ولاية قرطبة، ومن هناك يفرقون في أراضي ولايتي استرامادورة وجليقيه. والموريسكيون في وادي آش وبسطة ووادي المنصورة يؤخذون إلى جنجالة والبسط ثم يفرقون في أراضي قلعة رباح ومونتيل. والموريسكيون في ألمرية يؤخذون إلى ولاية إشبيلية. ونفذ القانون الجديد بمنتهى الصرامة والتحوّط، وجمع الموريسكيون المسالمون من غرناطة وبسطة ووادي آش وغيرها، وسيقوا إلى الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند من كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا على النحو المتقدم في مختلف أنحاء قشتالة وليون (1). ووقعت أثناء تنفيذ هذا القرار مناظر دموية، حيث جنح رجال الحكومة في _______ (1) Marmol ; ibid; X; Cap. V1.

بعض الأنحاء، ولا سيما في رندة، إلى نهب المنفيين، والفتك بالنساء والأطفال. ولما سمع الموريسكيون المعتصمون بالجبال هذه الأنباء، انحدروا إلى السهل وقتلوا كثيراً من الجند المثقلين بالغنائم. وكان مصير المنفيين مؤلماً، إذ هلك منهم من المشاق والمرض، وعانى الذين سلموا منهم مرارة غربة جديدة مؤلمة، ونصّ على وضعهم تحت الرقابة الدائمة، وتسجيلهم وتسجيل مساكنهم في سجلات خاصة، وعين لهم حيث وجدوا مشرفاً خاصاً يتولى شئونهم، وحرّم عليهم أن يغيروا مساكنهم إلا بتصريح ملكي، وحرم عليهم بتاتاً أن يسافروا إلى غرناطة، وفرضت على المخالفين عقوبات شديدة تصل إلى الموت. وهكذا شرِّد الموريسكيون في مملكة غرناطة أفظع تشريد، وانهار بذلك مجتمعهم القومي المتماسك في الوطن القديم (1). ولم يبق إلاّ أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير، وكان هذا الأمير المنكود يرى قواه وموارده تذوب بسرعة، وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف، بيد أنه لبث مختفياً في أعماق جبال البشرات بين آكام برشول وترفليس مع شرذمة من جنده المخلصين. (وفي مارس - آذار 1571 م) كشف بعض الأسرى مخبأه السري للإسبان، فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغاير. وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى جونثالفو (الشنيش)، وكان الشنيش يحقد عليه لأنه منعه من الفرار إلى المغرب، وأغدق الإسبان له المنح والوعود، وقطعوا له عهداً بالعفو الشامل، وضمان النفس والمال، وأن ترد إليه زوجته وابنته الأسيرتان، إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً. وكان الإغراء قوياً مثيراً، فدبر الضابط الخائن خطته لاغتيال سيّده، وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه، فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع، ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه، فألقى الخونة جثته من _______ (1) Dr Lea. The Moriscos. P. 256-257 , 265

فوق الصخور، لكي يراها الجميع، ثم حملها الإسبان إلى غرناطة، وهناك استقبلوها في حفل ضخم، ورتبوا موكباً أُسندت فيه الجثة إلى بغل، وعليها ثياب كاملة كأنها هي إنسان حيّ، ومن ورائها أفواج كثيرة من الموريسكيين الذين سلموا بعد مصرع زعيمهم، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ومُزِّقت، ثم جُرَّتْ في شوارع غرناطة، مبالغة في التمثيل والنكال، ومزقت أربعاً، وأحرقت بعد ذلك في الميدان الكبير، ووضع الرأس في قفص من الحديد، رفع فوق سارية في ضاحية المدينة تجاه جبال البشرات (1). وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت، وخبت آخر جذوة من العزم والجهاد، في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروِّعة، على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبّت روح من الرهبة والاستكانة المطلقة، على ذلك المجتمع المهيض المعذّب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ظل العبودية المطلقة الشاملة والإرهاق المطلق الثقيل، حقبة أخرى (2). _______ (1) Marmol; ibid, X; Cap. V111. (2) نهاية الأندلس (332 - 359).

نهاية النهاية

نهاية النهاية 1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية كان انهيار الثورة الموريسكية وسحق الموريسكيين، خاتمة عهد الكفاح المرير بين شعب مهيض أعزل، يحاول أن يحتفظ بشخصيته وكرامته وحقه في الحياة، وبين القوة الغاشمة، التي تريد أن تسحق في بقية الأمة المغلوبة كل أثر للحياة الحرّة الكريمة. ولكن الثورة الموريسكية كانت من جهة أخرى، نذيراً عميق الأثر للسياسة الإسبانية. ذلك أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تجريدهم من كل مظاهر القوة المادية، قوة أدبية واجتماعية يخشى بأسها. وكان هذا الشعب المستكين الأعزل ما يزال رغم ضعفه وذلته، يملأ جنبات الجزيرة بفنونه ونشاطه المنتج، ويحتلّ مكانة بارزة في الشئون الإقتصادية. وكانت الكنيسة ما تزال تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض، على مجتمع لم تطمئن لولائه وصدق إيمانه. وقد وصف المطران جرّيرو ( GUERRERO) الموريسكيين في سنة (1565 م) بقوله: "إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة في سرائرهم، وهم يذهبون إلى القداس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمّون حتى في كانون الثاني - ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدّمون أولادهم للتنصير خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوروبية، فإذا عدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للرسوم العربية" (1). وهذه الأقوال تنطوي على كثير من الصّدق، ذلك أن الأمة الموريسكية المهيضة، بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف _______ (1) Marmol; ibid, 11. Cap. 1 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 213-214

والإرهاق متعلِّقة بتراثها الروحي القديم. بالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين في سرائرهم، يزاولون شعائرهم القديمة خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية، أو بالقشتالية المكتوبة بحروف عربية، وهي التي تعرف بالألخميادو ( Aljamiado) أي (الأعجمية). وقد وصلت إلينا كثير من الكتب الدينية والأدعية والمدائح الإسلامية الموريسكية مكتوبة بالألخميادو، وكثير منها يدور حول سيرة النبي العربي عليه الصلاة والسلام، وشرح تعاليم القرآن والسنة، يتخللّها كثير من الخرافات والأساطير المقدسة (1)، بيد أنها تدلي بما كانت تجيش به هذه النفوس المعذّبة من إخلاص راسخ لدينها القديم وإن التبست عليهم أصوله وشعائره بمضي الزمن. وقد لبث ديوان التحقيق على نشاطه ضد الموريسكيين طوال القرن السادس عشر، ولم يفتر هذا النشاط حتى أواخر هذا القرن، مما يدل على أن آثار الإسلام بقيت بالرغم من كرّ الأعوام وتوالي المحن، دفينة في قلب الشعب المضطهد، تنضح آثارها من آن لآخر، يدل على ذلك ما تسجله محفوظات الديوان، من أن قضايا الموريسكيين أمام محاكم التحقيق، بلغت في سنة (1591 م)، (291) قضية، وبلغت في العام التالي (117) قضية، وظهر في حفلة: (الأوتو دا في Auto-da-Fe) التي أقيمت في (5 أيلول - سبتمبر سنة 1604 م) ثمانية وستون موريسكياً، نفذت فيهم الأحكام. وظهر في حفلة (7 كانون الثاني - يناير 1607 م) ثلاثة وثلاثون موريسكياً، واستعمل التعذيب في محاكمتهم خمس عشرة مرة، وكان الاتهام يوجه أحياناً إلى الموريسكيين جملة، على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات الموريسكية؛ فقد حدث مثلاً في سنتي (1589 و 1590 م) أن سجلت في قرية _______ (1) وضع القس الإسباني Pedro Loges عن حياة الموريسكيين الدينية كتابه Vida Religiose de Los Moriscos (Madrid 1915) وفيه يورد كثيراً من رسومهم وعوائدهم الدينية، وكثيراً من الآيات والمدائح النبوية بالقشتالية.

مسلاته الموريسكية بالقرب من بلنسية مائة قضية، وسجلت في قرية كارليت مائتان، واتهم أربعون أسرة بصوم رمضان. والواقع أنه كان من الصعب على مَن بقيت في نفوسهم جذوة أخيرة من دين الآباء. ولم يخمدها تعاقب جيلين أو ثلاثة من النصرانية المفروضة، أن يكونوا دائماً بمنجاة من الاتهام، ولهذا كان الشعب الموريسكي بأسره أينما وُجد، عرضة للاتهام بالحق أو الباطل، وإذا كانت ثمة أوقات يهدأ فيها نشاط محاكم التحقيق، فذلك يرجع بالأخص إلى استعمال الرشوة مع المأمورين، أو الحصول على براءات الحصانة بالمال. وتوضح لنا قضية بني عامر زعماء الموريسكيين في بلنسية هذه الحقيقة أتم وضوح. كانت أسرة بني عامر من أعرق الأسر المسلمة القديمة، التي أُكرهت على التنصير، وكان زعماؤها إخوة ثلاثة، هم: دون كوزمي، ودون خوان، ودون هرناندو بني عامر، ومنزل الأسرة في بنجوازيل (بني وزير) ضاحية بلنسية. وكان الثلاثة من ذوي المكانة والنفوذ، يسمح لهم بحمل السلاح وامتيازات أخرى محرمة على الموريسكيين. ففي (مارس - مايو سنة 1567 م) صدر قرار محكمة التحقيق باتهامهم، وتقرر القبض عليهم، ولكن بعد أن وافقت المحكمة العليا (سوبريما) نظراً لخطر مكانتهم، فاختفى الإخوة الثلاثة حيناً، ولكن الدون كوزمي قدّم نفسه للسلطات في (كانون الثاني - يناير 1568 م)، وقرر في التحقيق أنه يعتقد أنه نصّر طفلاً، ومع ذلك فإنه لا يعتبر نفسه نصرانياً بل مسلماً، وأنه جرى خلال حياته على مراعاة الشعائر الإسلامية، ولم يذهب إلى المعترف إلاّ خضوعاً للأوامر، على أنه ينبغي أن يكون في المستقبل نصرانياً، وأن يؤدي ما يطلبه المحققون إليه، ولم يقدم دون كوزمي خلال محاكمته أي دفاع، ولكنه أفرج عنه في (15 حزيران - يوليه) بضمان قدره ألفا دوق، على أن يبقى في بلنسية ولا يبرحها. ومع ذلك سافر دون كوزمي إلى مدريد، وحصل على عفو عنه وعن أخويه من الملك والمحكمة العليا، نظير فداء قدره سبعة آلاف دوق، واستطاع فوق ذلك بنفوذه القوي، أن يحصل للموريسكيين في بلنسية على

قرار التوفيق الصادر في سنة (1571 م) كما قدمنا. وفي سنة (1577 م) جدِّدت التهم القديمة ضد بني عامر، وقبض على كوزمي وأخيه خوان، وحوكم كوزمي وشرح عقيدته الدينية، وهي مزيج من الإسلام والنصرانية، وعقدت الجلسات الأولى، ولكن القضية أوقفت قبل أن يصل التحقيق إلى مرحلة التعذيب، مما يدل على أن بني عامر بالرغم من سوء حالتهم المالية يومئذ استطاعوا أن يحصلوا على براءتهم وإطلاق سراحهم بدفع مبلغ آخر من المال (1). وهكذا نرى أن الموريسكيين استطاعوا بالرغم من العسف المنظم، الذي فرضته الدولة والكنيسة عليهم زهاء قرن، أن يحتفظوا في قرارة نفوسهم الكليمة ببقية راسخة من تراثهم الروحي القديم. هذا من ناحية الدين والعقيدة، أما من الناحية الاجتماعية فقد كان الموريسكيون يكوّنون مجتمعاً متماسكاً متضامناً قوياً بنشاطه ودأبه وذكائه، وقد بلغ عددهم في أواخر القرن السادس عشر وفقاً لتقدير سفير البندقية زهاء ستمائة ألف نفس، وقدّر بعضهم الآخر عددهم يومئذ بأربعمائة ألف نفس، وهو عدد ضخم بالنسبة لسكان إسبانيا في ذلك الوقت، وهو لم يتعد الثمانية ملايين. ووصفهم سفير البندقية في سنة (1595 م) - أي بعد قرن من سقوط غرناطة - بأنهم شعب ينمو باضطراد في العدد والثروة، وأنهم لا يذهبون إلى الحرب، ولكن يكرسون نشاطهم للتجارة واجتناء الربح. وذكر الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس (2) في بعض رسائله، أن الموريسكيين يتكاثرون وكلهم يتزوج، ولا يدخلون أولادهم قط في سلك الكهنوت أو الجيش، ويقتصدون في الإنفاق، ويكتنزون المال، فهم الآن أغنى الطوائف في إسبانيا. وأما عن الناحية الاقتصادية، فقد قيل: إن الموريسكيين كانوا _______ (1) Dr Lea: History of the Inquisition; V. 111. P. 362-365. (2) مجيل ثرفانتس دي سافدرا (1547 - 1616) من أعظم كتّاب إسبانيا وشعرائها، وهو مؤلف قصة الفروسية الشهيرة: "دون كيخوتي دي لامانشا".

يحتكرون تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها، ومنهم تجار البقالة والماشية، ومنهم القصابون والخبازون وأصحاب الفنادق وغيرهم، ولا يشترون العقارات احتفاظاً بحرية استعمال أموالهم، وقد كان ذلك من أسباب غناهم وقوتهم الاقتصادية (1). كانت إسبانيا النصرانية إذاً أبعد من أن تطمئن إلى مجتمع العرب المتنصرين، فقد كانوا في نظر الكنيسة أبداً كفرة مارقين، وكانت الدولة من جانبها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع الدخيل ومطاردته، فهي تخشى أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي إفريقية ومع سلطان الترك، وهي مازالت تحلم بتطهير إسبانيا من الآثار الأخيرة للشعب الفاتح، والقضاء إلى الأبد على تلك الصفحة من تاريخ إسبانيا. والواقع أن صلات الموريسكيين مع أعداء إسبانيا، لبثت شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية. وقد كانت المماليك والإمارات المغربية في الضفة الأخرى من البحر، على استعداد دائماً لأن تصغي إلى هذا الشعب المنكود، سليل إخوانهم الأمجاد في الدين، وأن تعاونه كلما سنحت الفرص. وكان سلاطين الترك يتلقون من الموريسكيين صريخ الغوث من آن لآخر، وكانت المنافسة بين الترك وإسبانيا يومئذ على أشدها، في مياه البحر الأبيض المتوسط، وكانت طوائف الموريسكيين تعيش على مقربة من الثغور الشرقية والجنوبية، وأكثر من ذلك أن السياسة الإسبانية كانت تخشى دسائس فرنسا خصيمتها القوية يومئذ، وتخشى تفاهمها المحتمل مع الموريسكيين. وكانت هذه الظروف كلها تحمل إسبانيا النصرانية، على أن تعتبر الموريسكيين خطراً قومياً يجب التحوّط منه، والعمل على درئه بكل الوسائل. وتسوق إلينا الرواية الإسبانية دلائل هذا الخطر في حوادث كثيرة، ففي سنة _______ (1) Dr Lea: The Moriscos. P. 204 , 210.

(1583 م) وقفت السلطات الإسبانية، على أنباء مفادها أن أمراء تلمسان والجزائر يدبرون حملة بحرية لمهاجمة (المرسى الكبير) في مياه بلنسية، يعاونهم الموريسكيون فيها بالثورة، ولذا بادرت السلطات بنزع السلاح من الموريسكيين في بلنسية، وقيل بعد ذلك: إن هذه الحملة المغربية كانت ستقترن بغزوة فرنسية لأراغون، ينظمها حاكم بيارن الفرنسي، وأن سلطان الترك وسلطان الجزائر كلاهما يؤيد المشروع، وأن أساطيل الغزو كانت تزمع النزول في مياه برشلونة وفي دانية، وفيما بين مرسية وبلنسية، وأن الفضل في إخفاق هذا المشروع كله يرجع إلى حزم الدون خوان ونزع سلاح الموريسكيين. ومما يدل على أن إسبانيا لبثت حيناً على توجسها من فرنسا ودسائها لدى الموريسكيين، ما تسوقه الرواية الإسبانية من أن هنري الرابع ملك فرنسا، كانت له في ذلك مشاريع خطرة، ترمي إلى غزو إسبانيا من ناحية بلنسية، حيث يوجد حشد كبير من الموريسكيين، وأن زعماء الموريسكيين وعدوا بإضرام نار الثورة، وتقديم عدد كبير من الجند، ولم يطلبوا سوى السلاح، وكان من المنتظر أن تقوم الثورة الموريسكية في سنة (1605 م)، ولكن المؤامرة اكتشفت في الوقت المناسب وانهار مشروع الغزو. وهذه الروايات العديدة التي جمعها (ديوان التحقيق) الإسباني على يد أعوانه وجواسيسه، تنقصها الأدلة التاريخية الحقة (1). على أن الخطر الحقيقي، كان يتمثل في غارات المجاهدين من خوارج البحر المسلمين على الثغور والشواطئ الإسبانية. وتملأ سير هذه الغارات فراغاً كبيراً في الرواية الإسبانية، وتسبغ عليها الرواية صفة الانتقام للأندلس الشهيدة. وقد لبثت هذه الغارات طوال القرن السادس عشر، واستمرت دهراً بعد إخراج العرب المتنصرين من إسبانيا. ويشير المقري مؤرخ الأندلس إلى مغزى هذه الغارات البحرية بعد إخراج الموريسكيين، فيقول: إنهم انتظموا _______ (1) Dr. Lea: The Moriscos; P. 281-284 and 286-288.

في جيش سلطان المغرب، وسكنوا مدينة سلا، وكان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن (1). ويجب أن نذكر أن مياه البحر المتوسط شرقه وغربه، خلال العصور الوسطى كانت دائماً مسرحاً سهلاً للأساطيل الإسلامية. فمنذ أيام الأغالبة والفاطميين، ومنذ خلافة قرطبة ثم المرابطين والموحدين، كانت الأساطيل الإسلامية تجوس أواسط البحر المتوسط وغربيه، وكانت الدول الإسلامية الأندلسية والمغربية، ترتبط مع الدول النصرانية الواقعة في شمال هذا البحر، مثل البندقية وجنوة وبيزة، بمعاهدات ومبادلات تجارية هامة، وكان التسامح يسود يومئذ علائق المسلمين والنصارى وتغلب المصالح التجارية والمعاملات المنظمة، على النزاعات الدينية والمذهبية. وقد كانت المغامرات البحرية الحرّة وأعمال (القرصنة)، توجد في هذه العصور دائماً، إلى جانب نشاط الأساطيل الرسمية. وكان البحر المتوسط منذ أقدم العصور مسرحاً لهذه المغامرات، وكان معظم خوارج البحر (القراصنة) يومئذ من الأمم التي غزت البحر في عصور متقدمة، مثل اليونان وأهل سردينيا وجنوة ومالطة. وفي أيام الصليبيين ازدهرت المغامرات في البحر الأبيض المتوسط، واستمر النصارى عصوراً زعماء هذه المهنة. ولم تكن ثمة بحريات منظمة تقوم بمطاردة أولئك الخوارج. وكانت المغانم الوفيرة من الاتجار في الرقيق، والبضائع المهرّبة، وافتداء الرقيق، تذكي عزمهم، وتدفع إليهم بسيل من المغامرين من سائر الأمم. ولما ظهرت الأساطيل الكبرى منذ القرن الرابع عشر، ضعف أمر أولئك المغامرين. ولم تكن هذه المياه خلواً من نشاط المغامرين المسلمين، ولكنهم لم يظهروا في هذا الميدان إلاّ منذ القرن الخامس عشر، حينما ضعف أمر الأندلس والدول المغربية وسادَتْها الفوضى، واضطربت العلائق البحرية والتجارية المنظمة بين المغرب والدول النصرانية. وكانت الشواطئ المغربية تقدم إليهم _______ (1) نفح الطيب (2/ 617)، وقد أنجز المقري كتابه سنة 1630 م.

المراسي الصالحة. ولما اشتد ساعد البحرية التركية بعد استيلاء الترك على القسطنطينية، زاد نشاط المغامرين المسلمين في البحر. وكان سقوط غرناطة واضطهاد الأسبان النصارى للمسلمين، إيذاناً بتطور هذه المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والموريسكيين المنفيين إلى ميدانها، واتخاذها مدى حين، صورة الجهاد والانتقام القومي والديني، لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق (1). وقد بدأت هذه الغارات البحرية على السواحل الإسبانية، عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم للمسلمين على التنصير. في ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من الأندلسيين المجاهدين، أنفوا العيش في الوطن القديم، في مهاد الذلَّة والاضطهاد، تحت نير الإسبان، وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، وقلوبهم تفيض حقداً ويأساً، واستقروا في بعض القواعد الساحلية، مثل وهران والجزائر وبجاية، ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد في سبيل الله والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم، وظلموا أمتهم، وانتهكوا حرمة دينهم. وكان البحر يهيء لهم هذه الفرصة التي لم تهيؤها لهم الحرب البرية، وكانت شواطئ المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها وخلجانها الكثيرة، التي تحميها وتحجبها الصخور العالية، أصلح ملاذ لمشاريع أولئك التجار المجاهدين والقراصنة المغيرين. وكانت الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع، وكانت هذه الغارات البحرية تعتمد بالأخص على عنصر المباغتة، وتنجح في معظم الأحيان في تحقيق غاياتها. ويصف بيترو مارتيري هذه الغارات بإسهاب ويقول: إن فرديناند الخامس أمر في سنة (1507 م) للتحوط ضد هذه الغارات، بإخلاء الساحل الجنوبي من جبل طارق إلى ألمرية لمدى فرسخين إلى الداخل. ثم صدرت مراسم _______ (1) Lane-Poole: The Barbary Corsairs ; P. 26 and 27.

متعددة تحظر على الموريسكيين السفر على أبعاد معينة من الشواطئ، ولكن هذا التحوط لم يغن شيئاً، واستمرت الغارات على حالها. وكان اللّوم يلقى في ذلك منذ البداية على الموريسكيين ولاسيما أهل بلنسية. وكان الموريسكيون كلما اشتدّ عليهم وطأة الاضطهاد والمطاردة، اتجهوا إلى إخوانهم في المغرب يستصرخونهم للتدخل والانتقام. وكان المجاهدون المغاربة يغيرون بسفنهم على الشواطئ الإسبانية، ويخطفون النصارى الإسبان، ويجعلونهم رقيقاً يباع في أسواق المغرب، وكان الموريسكيون يزودون الحملات المغيرة بالمعلومات الوثيقة، عن أحوال الشواطئ ومواضع الضعف فيها، ويمدّونها بالأقوات والمؤن. وكانت الحملات تجهز في أحيان كثيرة لنقل الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وقد استطاعت خلال القرن السادس عشر، أن تنقل منهم إلى الشواطئ الإفريقية جماعات كثيرة. وقد ظهر منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي في الميدان عنصر جديد، أذكى موجة الغارات البحرية في هذه البحار. ذلك أن البحارة الترك، وعلى رأسهم الأخوان الشهيران عروج وخير الدين (1)، اندفعوا من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه، في طلب المغامرة والكسب. وفي سنة (1517 م) سار عروج في قوة برية وبعض السفن إلى الجزائر واستولى عليها. ولما قتل في العام التالي في معركة نشبت بينه وبين الإسبان، استولى أخوه خير الدين على الجزائر، ثم استولى على معظم الثغور المغربية الساحلية، وعينه السلطان سليم حاكماً على هذه الأنحاء، وأمدّه بالسفن والجند. وتألق نجم خير الدين في ذلك الحين، وأصبح اسمه يقرن بذكر أعظم أمراء البحر في ذلك العصر، وكان من معاونيه نخبة من أمهر الربابنة الترك، مثل طرغود الذي _______ (1) ويعرف كلاهما في الرواية الأوروبية: "بربروسا" أو ذو اللحية الحمراء، وقد انتهى إلينا عن مغامرات هذين الأخوين الشهيرين وغاراتهما البحرية كتاب بالعربية، منقول عن أصل تركي، نشر في الجزائر سنة (1934) بعنوان: "غزوات عروج وخير الدين". والظاهر أنّه من تأليف راوية معاصر، أو قريب من العصر.

خلفه في الرئاسة فيما بعد، وصالح ريس، وسنان اليهودي، وإيدين ريس وغيرهم من المغامرين، الذين اشتهروا بالجرأة والبراعة. وبسط أولئك البحارة الترك سلطانهم على معظم جنبات البحر الأبيض المتوسط، واشتهروا بغاراتهم على الشواطئ الإيطالية والإسبانية، والتفّ حولهم معظم المجاهدين والمغامرين من المغاربة والموريسكيين. وبدأ خير الدين غاراته في المياه الإسبانية بمهاجمة الشواطئ الشرقية، وقطع خلال هذه الغارة ثلاثة أشهر، عاث فيها في البقاع الساحلية، وجمع في سفنه كثيراً من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وأسر كثيراً من الإسبان. وعرج أثناء عوده على جزيرة منورقة. وكان من أهم الغارات التي نظمها خير الدين على الشواطئ الإسبانية، غارة وقعت في سنة (1529 م)، وذلك أن جماعة من الموريسكيين في بلنسية فاوضوه لكي ينقلهم خلسة إلى عدوة المغرب، فأرسل عدّة سفن بقيادة نائبيه: إيدين ريس، وصالح ريس، إلى المياه الإسبانية، ورست السفن المغيرة ليلاً عند أوليفا الواقعة شمال غربي دانية أمام مصب نهر (ألتيا)، ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تجمع من الأنحاء المجاورة نحو ستمائة من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وهنا فاجأت السفن المغيرة عدة من السفن الإسبانية الكبيرة، وطاردتها حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار). ولكن سفن بربروسا انقلبت فجأة من الدفاع إلى الهجوم، وانقضت على السفن الإسبانية وأغرقت بعضها، وأسرت بعضها الآخر، وسارت سالمة إلى الجزائر تحمل الموريسكيين الفارين، وعدداً من أكابر الإسبان أخذوا أسرى، ومعها عدة من السفن الإسبانية الفخمة. وكان صريخ الموريسكيين يتوالى إلى خير الدين وحلفائه من أمراء المغرب، ولا سيما أيام الثورات المحلية التي تشتد فيها وطأة الإسبان على الأمة المغلوبة، ومن ثم فقد توالت بعوث خير الدين وغاراته على الشواطئ الإسبانية، وتتابعت الفرص لدى الموريسكيين، للفرار والهجرة رفق السفن المغيرة، حتى بلغ ما نقلته سفن خير الدين منهم إلى شواطئ المغرب نحو سبعين

ألفاً (1). وكان سلطان خير الدين وزملائه البحارة الترك في المياه المغربية، عاملاً في تحطيم كثير من مشاريع إسبانيا البحرية في المغرب. وكان الإسبان قد استولوا على ثغر وهران منذ سنة (1505 م)، واحتلوا مياه تونس سنة (1535 م)، بانضواء أميرها الحفصي المعزول تحت لوائهم، وكان كثير من أمراء الثغور والقواعد المغربية الذين يهدد الترك سلطانهم يتجهون بأبصارهم إلى الإسبان للاحتفاط برياستهم. ولدينا صور من عدة وثائق موجهة من هؤلاء الأمراء إلى الإمبراطور شارلكان، يستنصرون به، ويقطعون العهد على أنفسهم بطاعته، والانضواء تحت حمايته، وهي تدلي بموضوعها وأسلوبها بما انتهت إليه الجبهة الإسلامية في المغرب في هذا العهد من التخاذل والتفرق المؤلم. وفي سنة (1559 م) قام أمير البحر التركي طرغود، الذي خلف خير الدين في الرياسة، بغارة كبيرة على الشواطئ الإسبانية، واستطاع أن يحمل معه ألفي وخمسمائة موريسكي، في سنة (1570 م) استطاعت السفن المغيرة أن تحمل معها جميع الموريسكيين في بالميرا، وفي سنة (1584 م) سار أسطول من الجزائر إلى بلنسية وحمل ألفين وثلاثمائة موريسكي وفي العام التالي، استطاعت السفن المغيرة أن تحمل جميع سكان مدينة كالوسا. وبلغت _______ (1) راجع كتاب الأستاذ لاين بول The Barbary Corsairs في الفصول الأول والثاني والثالث، حيث يورد كثيراً من التفاصيل المهمة، عن هذه الغارات البحرية، وعن مغامرات أوروج وخير الدين، وراجع كتاب "غزوات عروج وخير الدين في ص (19 و 48 و 81 و 82). وخير الدين وأخوه مجاهدان لا غبار على جهادهما، بذلا جهدهما في الدفاع عن المستضعفين من المسلمين الأندلسيين، وانتقما ممن ظلم أولئك المستضعفين، وأنقذا عشرات الألوف من المسلمين الأندلسيين المضطهدين من براثن الإسبان النصارى، فهما مجاهدان بالنسبة لنا، وقراصنة بالنسبة للمستشرقين وغير المسلمين، ولا عبرة باتهامهما من أعداء الإسلام بالقرصنة، ولكنّ على المسلمين ألاّ ينقلوا اتهام النصارى وأعداء المسلمين ويصدقونها.

الغارات البحرية التي وقعت على الشواطئ الإسبانية بين سنتي (1528 م و1584 م) ثلاثاً وثلاثين غارة. هذا عدا الغارات المحلية التي كانت تقوم بها سفن صغيرة لحمل جماعة من الموريسكيين المهاجرين. وقد وصف لنا الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس هذه الغارات البحرية المروّعة في صور مثيرة شيّقة، ولا غرو فقد كان هو أيضاً من ضحاياها، إذ أُسر في الغارات التي وقعت سنة (1575 م)، وحمل أسيراً إلى الجزائر، ولبث يرسف في أسره بضعة أعوام، حتى تم افتداؤه في سنة (1580 م) (1). وكان ممن عمل في البحر مجاهداً في تلك الأيام ضد الإسبان، بعض أكابر الزعماء الموريسكيين المنفيين الذي غدوا من أثر الاضطهاد من ألدّ أعداء إسبانيا، مثل الريس بلانكيو Blanquillo والرئيس أحمد أبو علي من أشونَة، ومراد الكبير جواد يانو من مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) وغيرهم، وقد أبلى هؤلاء الزعماء الموريسكيون في البحر خير بلاء، وكانوا خير مرشد لإحكام الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، ومضاعفة عصفها وعيثها. ووقعت في سنة (1602 م) غارة كبيرة، قام بها بحار مغامر يدعى: مراد الريس على مدينة لورقة الواقعة غربي قرطاجنة على مقربة من الشاطئ، وحمل عدداً من الأسرى، وكثرت الغارات في الأعوام التالية على الشاطئ الجنوبي، وظهر فيما بعد أن منظمها بحار انكليزي مغامر، يحشد في سفنه نواتية من المغاربة، وكان يعيث في الشواطئ الأندلسية، ويقتنص الأسرى النصارى، ويبيعهم عبيداً في أسواق المغرب. وكانت ثغور تونس في ذلك الوقت نفسه، في أيام حاكمها عثمان باي (سنة 1007 هـ،- 1019 هـ = 1598 م - 1610 م) ملاذاً لطائفة قوية من البحارة المغامرين، كانت تتكرر غاراتهم على الشاطئ الإسباني بلا انقطاع. وكان من أشهر أولئك البحارة يومئذ، عمر محمد باي الذي اشتهر بجرأته وبراعته، _______ (1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 363.

وقد قام بعدة غارات جريئة على شواطئ إسبانيا الجنوبية، وكان في كل مرة يعود مثقلاً بالغنائم والسّبي. وهكذا لبثت الغارات البحرية عصراً من الزمان، تزعج الحكومة الإسبانية، وقد زاد عددها واشتد عيثها، بالأخص منذ منتصف القرن السادس عشر، وكان هذا غريباً في الواقع، إذ كانت إسبانيا سيدة البحار، وكانت أساطيلها الضخمة تجوب مياه الأطلنطي حتى بحر الشمال وجزائر الهند الغربية، وتسيطر على مياه البحر الأبيض المتوسط الغربية، بيد أنها لم تستطع أن تقمع هذه الغارات البحرية الصغيرة المفاجئة، التي كان يقوم بها على الأغلب جماعات مجاهدة، من رجال البحر المغاربة، في سفن صغيرة، تدفعهم روح من المغامرة والاستبسال، وكان اللوم في ذلك يلقى دائماً على الموريسكيين، ولاسيما سكان الثغور منهم، فهم الذين يمدّون هذه الحملات المغيرة بالمعلومات، ويزودونها بالمؤن والعون، ويعينون لها مواقع الرسو والإقلاع، وقد كانت تأتي على الأغلب لمعاونتهم على الفرار إلى ثغور المغرب، وقد كان الموريسكيون بالرغم من اضطهادهم والتشدد في مراقبتهم، على اتصال دائم بمسلمي إفريقية وأمراء المغرب جميعاً. لبثت هذه الغارات البحرية عصراً شغلاً شاغلاً للحكومة الإسبانية لا تجد سبيلاً إلى قمعها والتخلص من آثارها. وكان اقترانها خلال القرن السادس عشر بنضال الموريسكيين، عنصراً بارزاً في تنظيمها وتوجهها، وكانت فكرة الانتقام للأمة الشهيدة، تجثم في معظم الأحيان وراء هذه الغارات المجاهدة. ولما تمَّ نفي الموريسكيين من إسبانيا، زادت هذه الفكرة وضوحاً، واشتدت وطأة الغارات بما انتظم في صفوف المجاهدين من المنفيين، وغدت مدينة سلا بالأخص، مركزاً لأولئك المبعدين، ومنها توجه أقوى الحملات المغيرة على الشواطئ الإسبانية (1). _______ (1) نفح الطيب (2/ 617).

ولبث البحارة الترك عصراً، يتزعمون هذه الغارات بالبحرية، وجلّ اعتمادهم على النواتية المغامرين من المغاربة والموريسكيين، ثم أخذت هذه الغارات تفقد هدفها القديم بمرور الزمن، وتنقلب إلى حملات ناهبة، تنظم على الشواطئ الإيطالية، كما تنظم على الشواطئ الإسبانية، وترمي قبل كل شيء إلى تغذية أسواق المغرب والشرق الأدنى، بأسراب الرقيق. وكان يشترك مع البحارة الترك والمغاربة، مغامرون من الأفرنج من سائر الأمم. وألفى الباشوات أو الدايات الترك - الذين بسطوا حكمهم منذ أواخر القرن السادس عشر على طرابلس الغرب والجزائر - في هذه الحملات الناهبة، فرصة سانحة للغنم، فكانوا يمدون الرؤساء والزعماء بصنوف العون، عند الإنزال والإقلاع في ثغورهم، وكان الرؤساء من جانبهم، يقدمون إلى خزينة الباشا أو الداي عشر الغنائم. واسترق بهذه الطريقة عشرات الألوف من النصارى، واستمرت بعد ذلك هذه الغارات زمناً طويلاً (1). وحدثت في تلك الآونة - التي اشتدت فيها الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، في أوائل عهد فيليب الثالث في عدوة المغرب - أحداث أخرى، زادت في توجس السياسة الإسبانية من مساعي الموريسكيين في استعداء مسلمي إفريقية. ذلك أن الحرب الأهلية نشبت في مراكش، بين السلطان زيدان بن المنصور، وأخيه الشيخ المأمون، وتعددت المعارك بينهما، وانتهت بهزيمة الشيخ. وفر الشيخ مع أسرته وأمه الخيزران إلى إسبانيا، واستغاث بملكها فيليب الثالث، وتعهد بتقديم ثغر العرائش إلى إسبانيا نظير _______ (1) استمرت تلك الغارات في البحر المتوسط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت بعض الدول الأوروبية تعمل على تشجيعها لمضايقة بعضها الآخر، والإضرار بتجارتها. ومنذ القرن السابع عشر تعمل إنكلترا وهولندة وفرنسة على مقاومة هذه الحملات البحرية الجريئة والقضاء عليها، وذلك بمهاجمة الشواطئ المغربية وتدمير ثغورها، ولا سيما تونس والجزائر. على أنها لم تنقطع نهائياً إلاّ بعد أن غزت فرنسا الجزائر واستولت عليها في سنة 1830 م.

معاونته. وكان ذلك في أوائل سنة (1608 م - 1017 هـ) (1). وهنا أرسل الموريسكيون في بلنسية، رسلهم إلى مولاي زيدان، يوضحون له سهولة غزو إسبانيا ومحاربتها، وأنهم على استعداد ليقدموا له مائتي ألف مقاتل، متى أقدم على الغزو وفتح أحد الثغور الإسلامية الهامة، ولكن السلطان زيدان لم يحفل بهذا العرض، وأجاب الرسل بأنه لن يحارب خارج بلاده (2). واستجاب فيليب لدعوة الشيخ، وأرسل معه بعض سفنه إلى شاطئ المغرب، واستولى الإسبان على ثغر العرائش، فاشتد السخط على الشيخ، وانفض عنه كثير من أنصاره، ومازال الشيخ في مغامراته حتى قتل على مقربة من تطوان سنة (1022 هـ - 1613 م)، وانتهى بذلك أمره (3). واستمر السلطان زيدان حتى وفاته في سنة (1037 هـ - 1627 م) أعني بعد نفي الموريسكيين بنحو تسعة عشر عاماً، في كفاح دائم مع إسبانيا. وحدث خلال هذا الكفاح ذات مرة في سنة (1612 م) أن غنمت السفن الإسبانية في مياه المغرب، على شاطئ الأطلنطي فيما بين آسفي وأغادير، مركباً لمولاي زيدان شحنت بالتحف، وفيها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والآداب والفلسفة (4)، وكان مولاي زيدان قد غادر مراكش تحت ضغط الحوادث، وركب البحر ملتجئاً إلى الجنوب، وحمل معه مكتبته الثمينة وتحفه، فانتهبها الإسبان على هذا النحو، وحملت هذه الكتب إلى إسبانيا، وضمت فيما بعد إلى مجموعة الكتب الأندلسية بقصر الإسكوريال (5). _______ (1) الاستقصا (3/ 102). (2) Dr Lea: The Moriscos; P. 289-290. (3) الاستقصا (3/ 106). (4) الاستقصا (3/ 130). (5) نهاية الأندلس (362 - 375).

2 - مأساة النفي

2 - مأساة النّفي أ - تلك هي البواعث والظروف التي حملت إسبانيا النصرانية، على التوجس من العرب المتنصرين، واعتبارهم خطراً قومياً يجب العمل على درئه والتخلص منه؛ وكان هذا التوجس يزيد على كرّ الأعوام، وتذكيه الحوادث المتوالية: ثورات الموريسكيين ولا سيما ثورة غرناطة الكبرى، وغارات المجاهدين البحرية على الشواطئ الإسبانية، وصلات الموريسكيين الدائمة بمسلمي إفريقية وبلاط القسطنطينية. وسواء أكان هذا الخطر حقيقة يهدد سلامة إسبانيا، أم كان للتحامل والبغض أثر في تصويره، فقد غدت قضية العرب المتنصرين، غير بعيد في نظر السياسة الإسبانية، مشكلة قومية خطيرة يجب التذرع لمعالجتها بأشد الوسائل وأنجعها. وكانت السياسة الإسبانية، تعتزم منذ أواخر عهد فيليب الثاني، أن تتخذ خطوتها الحاسمة في شأن الموريسكيين، وكان هذا الملك المتعصب نفى الموريسكيين بعد الذي عانته إسبانيا في قمع ثورتهم، ووضع بالفعل في سنة (1582 م) مشروعاً لنفيهم، ولكن مشاغل السياسة الخارجية حالت دون تحقيق مشروعه. وكان قد مضى يومئذ زهاء قرن على سقوط غرناطة، واستحالت بقية الأمة الأندلسية إلى شعب جديد، لا تكاد تربطه بالماضي سوى ذكريات غامضة. وكان التنصير قد عم الموريسكيين يومئذ، وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والضغط والإرهاب، نصارى يشهدون القداس في الكنائس، ويتكلمون القشتالية، غير أنهم لبثوا مع ذلك في معزل، وأبت إسبانيا النصرانية، بعد أن فرضت عليهم دينها ولغتها ومدنيتها، أن تضمهم إلى حظيرتها القومية. وكانت ما تزال ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية وغرناطة، وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة، وكانوا مايزالون رغم العسف والإرهاق والاضطهاد والتشريد والذلّة، قوة أدبية واجتماعية خطيرة، وعنصراً بارزاً في إنتاج إسبانيا القومي، ولا سيما في الصناعات والفنون. ولكن السياسة الإسبانية كانت

تخشاهم بالرغم من ضعفهم وخضوعهم، بعد أن أخفقت بوسائلها الهمجية البغيضة في كسب محبتهم وولائهم. وكان ديوان التحقيق من جهة أخرى، ومن ورائه الأحبار والكنيسة، يعتبرهم بالرغم من تنصرهم، أبداً وصمة في نقاء النصرانية، وتتصور الإسلام دائماً يجري كالدم في عروقهم. وقد تضاربت آراء الساسة والأحبار الإسبان في شأن الخطوة الحاسمة التي يجب اتخاذها، للقضاء على خطر الموريسكيين، ورأى بعض أكابر الأحبار أن خطر الموريسكيين لا يزول إلاّ بالقضاء على الموريسكيين أنفسهم. وكان مما اقترحه المطران ربيرا ( RIVERA) أن يُقضَى عليهم بالرق، وأن يؤخذ منهم كل عام بضعة آلاف للعمل في السفن ومناجم الهند، حتى يتم إفناؤهم بهذه الطريقة؛ وذهب بعضهم الآخر إلى وجوب قتل الموريسكيين دفعة واحدة أو قتل البالغين منهم، واسترقاق الباقين وبيعهم عبيداً، وكان مما اقترحه بعض وزراء فيليب الثاني، أن يُجمَع الموريسكيون، ويُحمَلوا على السفن ثم يُغرَقوا في عرض البحر (1). واستمرت السياسة الإسبانية حيناً من الزمن تتلمس المخرج وسط هذه الحلول الهمجية، حتى تُوفي فيليب الثاني (سنة 1598 م) وخلفه ولده فيليب الثالث وكان هذا الملك الفتى، ضعيف الرأي والإرادة، يتأثر كأبيه بنفوذ الأحبار، ويخضع لنفوذ وزيره وصفيّه الدوق دى ليرما. وكان الدوق من أشد أنصار القضاء على الموريسكيين، وقد أشار بها منذ (سنة 1599 م)، ووضع لتنفيذها مشروعاً خلاصته: أن الموريسكيين إنما هم عرب، ويجب أن يعدم الشبان والكهول منهم، ما بين الخامسة عشرة والستين، أو أن يُسترَقوا ويُرسَلوا للعمل في السفن، وتُنزَع أملاكهم. أما الرجال والنساء الذين جاوزوا الستين، فيُنفَوا إلى المغرب، وأما الأطفال فيؤخذوا ويربوا في المعاهد الدينية، وهو مشروع أقرّه مجلس الدولة، وأخذ يعمل سراً لحشد القوى اللازمة لحصر عدد الموريسكيين في إسبانيا. _______ (1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 296-299.

وفي سنة (1601 م)، قدم المطران ربيرا تقريراً إلى الملك يقول فيه: إن الدين هو دعامة المملكة الإسبانية، "وإن الموريسكيين لا يعترفون، ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة، ولا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون النبيذ، ولا يعملون شيئاً من الأمور التي يعملها النصارى"، ثم يوضح الأسباب التي تدعو إلى عدم الثقة في ولائهم بقوله: "إن هذا المروق العام، لا يرجع إلى مسألة العقيدة، ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ العام في أن يبقوا مسلمين، كما كان آباؤهم وأجدادهم، ويعرف المحققون العامون، أن الموريسكيين بعد أن يعتقلوا عامين وثلاثة، وتشرح لهم العقيدة في كل مناسبة، يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها، والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة، لأنهم لا يريدون معرفتها، ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئاً يجعلهم يبدون نصارى" (1)، ثم يقول المطران في تقرير آخر: إن الموريسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل، وإن كل وسيلة للرفق بهم قد أخفقت، وإن إسبانيا تتعرض - من جراء وجودهم فيها - إلى أخطار كثيرة، وتتكبد في رقابتهم والسهر على حركاتهم، وإخماد ثوراتهم، كثيراً من الرجال والمال. ثم يقترح أن تؤلف محكمة سرية من الأحبار، تقضي بردّة الموريسكيين وخيانتهم، ثم تحكم علناً بوجوب نفيهم ومصادرة أملاكهم، وأنه لا ضير على الملك في ذلك ولا حرج. ولكن مشروع المطران لم ينفذ، لأن مجلس الدولة كان يرى أن يسير في تحقيق غايته سراً، وألاّ تصطبغ إجراءاته في ذلك بالصبغة الدينية. ومضت بضعة أعوام أخرى، والفكرة تُبحَث وتختمر وتتوطد، حتى كانت حوادث المغرب في أواخر سنة (1607 م) وما نسب للموريسكيين من صلة بمولاي زيدان ومشاريعه لغزو إسبانيا، وعزمهم على الثورة. عندئذ بادر مجلس الدولة بالاجتماع في أواخر (كانون الثاني - يناير 1608 م)، واستُعرِضت جميع الآراء والمشاريع السابقة، وبُحِثت جميع الاقتراحات، وكرّر المطران ربيرا اقتراحه بوجوب نفي الموريسكيين إلى المغرب، وقال: إن _______ (1) P. Longas. Vida Religiosa de Los Moriscos; P. LXV111.

النفي أرفق ما يمكن عمله، وأيد رأيه معظم الأعضاء الآخرين، وذكروا أن نفي الموريسكيين أصبح ضرورة لا مفر منها، لأنهم يتكاثرون بسرعة، بينما يتناقص عدد النصارى القدماء. وبحثت تفاصيل المشروع ووسائله، وما يجب اتخاذه من التحوطات لضمان تنفيذه، خصوصاً وقد بدأت أنباء المشروع تتسرب إلى الموريسكيين، وظهرت بينهم أعراض الهياج في سرقسطة وبلنسية. وكانت الخطوة التالية أن عُهد بدرس المشكل كلّه، إلى لجنة خاصة على رأسها الدوق دى ليرما، ووضعت هذه اللجنة أسس المشروع التمهيدية بعد كبير جدل، وخلاصتها أن يمنح الموريسكيون شهراً لبيع أملاكهم ومغادرة إسبانيا إلى حيث شاءوا، فمن جاز منهم إلى إفريقية منح السفر الأمين، ومَن جاز إلى أرض نصرانية أُوصِي به خيراً، ومَن تخلف عن الرحيل بعد انقضاء هذه المدة عوقب بالموت والمصادرة؛ ولم يعترض أحد على هذه الأسس بذاتها، ولكن هذه الأسس الرفيقة نوعاً ما لم يؤخذ بها. وفي كانون الثاني - يناير من سنة (1609 م) بحث مجلس الدولة المسألة لآخر مرة، وقدم تقريراً ينصح فيه بوجوب نفي الموريسكيين لأسباب دينية وسياسية فصّلها، وأهمها تعرّض إسبانيا يومئذ لخطر الغزو من مراكش وغيرها. وقيام الأدلة على أن الموريسكيين جميعاً خونة مارقون، يستحقون الموت والرق، ولكن إسبانيا تؤثر الرفق بهم، وتكتفي بنفيهم من أراضيها. وتقرر أن ينفذ المشروع كله هذا العام في الخريف منه، وأرسلت الأوامر إلى حكام صقلية ونابولي وميلان، بإعداد جميع السفن الممكنة لنقل الموريسكيين، وجمع القوات اللازمة لحوراستهم، واجتمعت منذ أوائل الصيف في مياه ميورقة، عشرات السفن المطلوبة، وسارت أهبة التنفيذ بسرعة ونشاط. وهكذا انتهت السياسة الإسبانية بعد مدة من التردد، إلى اتخاذ خطوتها الحاسمة في القضاء على البقية الباقية من الموريسكيين، وتحقيق أمنيتها القديمة في (تطهير) إسبانيا نهائياً من آثار الإسلام وآثار العرب، ومحو تلك

الصفحة الأخيرة لشعب عظيم تالد. ب - وفي (22 أيلول ت سبتمبر سنة 1609 م) أعلن قرار (مرسوم) النفي النهائي للموريسكيين أو العرب المتنصرين، فساد بينهم الروع والاضطراب، وإليك نص هذا القرار الشهير في صحف المآسي والاستشهاد: يبدأ القرار بالتنويه بخيانة الموريسكيين، واتصالهم بأعداء إسبانيا، وإخفاق كل الجهود التي بذلت لتنصيرهم، وضمان ولائهم، وما استقر عليه رأي الملك من نفيهم جميعاً إلى بلاد البربر (المغرب). وبناء على ذلك فإنه يجب على جميع الموريسكيين من الجنسين، أن يرحلوا مع أولادهم في ظرف ثلاثة أيام من نشر هذا القرار من المدن والقرى إلى الثغور التي يعينها لهم مأمورو الحكومة، والموت عقوبة المخالفين، وأن لهم أن يأخذوا من متاعهم ما يستطاع حمله على ظهورهم، وأن السفن قد أعدت لنقلهم إلى بلاد المغرب، وسوف تتكفل الحكومة بإطعامهم أثناء السفر، ولكن عليهم أن يأخذوا ما استطاعوا من المؤن، وأنهم يجب عليهم أن يبقوا خلال مهلة الأيام الثلاثة في أماكنهم رهن إشارة المأمورين، ومَن وُجد متجولاً بعد ذلك يكون عرضة للنهب والمحاكمة، أو الإعدام في حالة المقاومة. وقد منح الملك السادة كل الأملاك العقارية والأمتعة الشخصية التي لم تحمل، فإذا عمد أحد إلى إخفاء الأمتعة أو دفنها، أو أضرم النار في المنازل أو المحاصيل، عوقب جميع سكان الناحية بالموت. ونص القرار على إبقاء ستة في المائة فقط من الموريسكيين للانتفاع بهم في صون المنازل، والعناية بمعامل السكر، ومحصول الأرز، وتنظيم الري، وإرشاد السكان الجدد، وهؤلاء يختارهم السادة من بين الأسر الأكثر خبرة وأشد ولاء للنصرانية. أما الأطفال فإذا كانوا دون الرابعة، فإنه يسمح لهم بالبقاء إذا شاءوا (كذا) ورضي آباؤهم وأولياؤهم، وإذا كانوا دون السادسة سمح لهم بالبقاء إذا كانوا من أبناء النصارى القدماء (أعني من غير العرب المتنصرين)، وسمح كذلك بالبقاء لأمهم الموريسكية، فإذا كان الأب موريسكياً والأم نصرانية أصيلة، نُفِي الأب

وبقي الأولاد دون السادسة مع أمهم. كذلك يسمح بالبقاء للموريسكيين الذين أقاموا بين النصارى مدى عامين، ولم يختلطوا (بالجماعة)، إذا زكّاهم القسس. وحظر القرار إخفاء الهاربين أو حمايتهم. ويُعاقَب المخالف بالأشغال الشاقة لمدة ستة أعوام. كذلك حظر على الجنود والنصارى القدماء أن يتعرضوا للموريسكيين أو يهينوهم بالقول أو الفعل، وهدّد المخالفون بالعقاب الصارم. وأخيراً نص القرار على السماح لعشرة من الموريسكيين بالعودة عقب كل نقلة، لكي يشرحوا لإخوانهم كيف تم النقل إلى المغرب على أحسن حال. وقع قرار النفي على الموريسكيين وقوع الصاعقة، ونهكت قواهم، وسادهم الوجوم والذهول. وكان عصر الثورة والمقاومة قد ولّى، إذ انهارت معنوياتهم، ونضبت مورادهم. وكانت الحكومة الإسبانية قد اتخذت عدتها للطوارئ، وحشدت قواتها في جميع الأنحاء الموريسكية، واجتمع زعماء الموريسكيين وفقهاؤهم في بلنسية، فقرّوا أنه لا أمل لهم في المقاومة، وأنه لا مناص لهم من الخضوع، واستقر الرأي على أن يرحلوا جميعاً، وألاّ يبقى منهم أحد، ولا حتى نسبة الستة بالمائة التي سمح ببقائها، وأن مَن بقي منهم اعتبر مرتداً مارقاً، ومع ذلك فقد وقعت ثورات محلية، وتأهبت بعض الجماعات المحتشدة في المناطق الجبلية للمقاومة، وعاثت في الأنحاء المجاورة، ولكنها كانت فورة المحتضر، فأخمدت حركاتهم بسرعة، وقتل منهم عدد كبير. وتظلم كثير من المدجنين من قرار النفي، وقالوا إنهم اعتنقوا النصرانية طوعاً قبل التنصير الإجباري، وغدوا نصارى وإسبانيين قبل كل شيء، فصدر الأمر إلى الأساقفة ببحث ظلامتهم، وأن يسمح بالبقاء لمن توفرت فيه منهم شروط الولاء والإخلاص (1). _______ (1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; Vol. 111. P. 399

أما الكثرة الساحقة من الموريسكيين، فقد هرعت إلى اتخاذ أهبة الرحيل، وأخذوا في بيع ما تيسر بيعه من المتاع، وتدفقت السلع على الأسواق، من الماشية والحبوب والسكر والعسل والملابس والأثاث وغيرها، لتباع بأبخس الأثمان. بُدئ بتنفيذ قرار النفي في الجهات التي نشر فيها أولاً، وهي أعمال بلنسية، وذلك منذ أوائل (تشرين الأول - أكتوبر سنة 1609 م)، وخرجت أول شحنة من هذه الكتلة البشرية المعذّبة على سفن الحكومة من ثغر دانية وبعض الثغور القريبة، وقدّرت بثمانية وعشرين ألف نفس، حملوا إلى ثغر وهران في الضفة الأخرى من البحر، وقد كان يومئذ بيد الإسبان، ثم نقلوا إلى تلمسان بحماية فرقة من الجند المرتزقة، وهناك استظلوا بحماية السلطان. وعاد بعضهم إلى إسبانيا، ليروي عن رحيل الراحلين، وكيف وصلوا في أمن وسلام. ومع ذلك فقد آثر معظم المهاجرين السفر بأجر، في سفن غير التي عينتها الحكومة الإسبانية لنقل المهاجرين وإطعامهم دون أجر، واضطرت الحكومة نتيجة لذلك أن تستدعي عدداً كبيراً من السفن الحرّة إلى مياه بلنسية، ورحل بهذه الطريقة من ثغر بلنسية زهاء خمس عشر ألفاً، معظمهم من الموسرين والمتوسطين، ورحل المنفيون من ثغر لقنت على عزف الموسيقى ونشيد الأغاني، وهم يشكرون الله على العود إلى أرض الآباء والأجداد، ولما سئل فقيه من زعمائهم عن سبب اغتباطهم، أجاب: بأنهم كثيراً ما سعوا إلى شراء قارب أو سرقته للفرار إلى المغرب، مستهدفين لكثير من المخاطر، فكيف إذا عرضت لنا فرصة السفر الأمين مجاناً، ألا ننتهزها للعود إلى أرض الأجداد، حيث نستظل بحماية سلطاننا، سلطان الترك، وهناك نعيش أحراراً مسلمين، لا عبيداً كما كنا؟! وكانت الجنود تحرس المنفيين في معظم الأحوال، حماية لهم من جشع النصارى الإسبان، الذين انتظموا في عصابات لمهاجمة المنفيين ونهبهم وقتلهم أحياناً. وفضلاً عن ذلك فإن تنفيذ قرار النفي لم يجرِ دائماً في يسر وسهولة، فقد أبى كثير من الموريسكيين في الجبل الخضوع للأوامر لعدم

ثقتهم بولاء الحكومة، وفضلوا المقاومة حتى الموت، واحتشدوا بالأخص في وادي أجوار، حيثا اجتمع منهم زهاء خمسة عشر ألفاً، وفي مويادي كورتيس حيث اجتمع منهم تسعة آلاف، فبادرت الحكومة إلى محاصرتهم، وفتكت بالموريسكيين العزل، وقتلت منهم بضعة آلاف، ومات كثير منهم من الجوع والبرد. وأخيراً سلم من بقي منهم، وحملوا قسراً إلى ميناء السفر، وسَبَى الجند منهم كثيراً من النساء والأطفال باعوهم رقيقاً، ولم يصل منهم إلى شواطئ المغرب سوى القليل. وفي مويادي كورتيس لم يبق منهم عند الإبحار سوى ثلاثة آلاف، ولبثت فلولهم تقاوم مستميتة، وثبت الاضطراب نحو عام، حتى قضي عليها بعد جهد جهيد (1). وصدر قرار النفي في قشتالة في (15 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م)، ولكن أجل تنفيذه حتى ينفذ أولاً في بلنسية، ولم ينفذ بالفعل إلاّ في أوخر (كانون الأول - ديسمبر)، ومنح الموريسكيون فيه شهراً للسفر، بنفس الشروط التي تضمنها قرار النفي في الأندلس، وسافر منهم شمالاً إلى حدود فرنسا نحو أربعة آلاف عائلة، وسافر إلى قرطبة نحو عشرة آلاف بحجة السفر إلى الأراضي النصرانية، وذلك لكي يحتفظوا بأولادهم الصغار، ولكن تسرب الكثير منهم إلى الثغور المغربية. وبلغ عدد المنفيين في الثلاثة أشهر الأولى زهاء مائة وخمسين ألفاً، وسافر منهم ألوف كثيرة من الأغنياء والموسرين على نفقتهم الخاصة، وقصدت جموع كثيرة من الموريسكيين في أراغون - قدّرت بنحو خمسة وعشرين ألفاً - إلى ولاية نافاد الفرنسية، ودخل فرنسا من قشتالة نحو سبعة عشرة ألفاً، وسمح لهم هنري الرابع ملك فرنسا بالتوطن فيما وراء نهر الكارون، بشرط بقائهم على دين الكثلكة، وأن تهيأ السفن لمن أراد السفر منهم إلى شواطئ المغرب. _______ (1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 397-398.

أما في غرناطة وأنحاء الأندلس، فقد أعلن قرار النفي في (12 كانون الثاني - يناير سنة 1610 م) بعد أن عدِّلت بعض أحكامه، وفيه يمنح الموريسكيون للرحيل ثلاثين يوماً، ويباح لهم بيع سائر أملاكهم المنقولة وأخذها ثمنها، على أن يقتنى بها عروض أو بضائع إسبانية، ولا يسمح لهم بأن يحملوا معهم من النقد أو الذهب أو الحلي، إلاّ ما يكفي نفقات الرحلة بالبر والبحر، وأما الأملاك العقارية، فتصادر لجهة العرش. وقد استقبل الموريسكيون في الأندلس قرار النفي بالاستبشار والرضى، ويقدر مَن نزح منهم إلى المغرب سواء على سفن الحكومة أو السفن الحرة، بنحو مائة ألف نفس، وقد نزح معظمهم إلى مراكش. ثم توالى إعلان قرارات النفي في جميع الجهات التي تضم مجتمعات موريسكية، في سائر أنحاء المملكة الإسبانية: في قطلونية، وأراغون في (أيار - مايو - 1610 م)، ثم في إشبيلية واسترمادورة ( EXTREMADURA) ، ثم في مرسية وغيرها. وتأخر تنفيذه في مرسية نحو أربعة أعوام حتى (كانون الثاني - يناير 1614 م)، وخرج من مرسية زهاء خمسة عشر ألفاً، واتجهت جموع كثيرة من الشمال إلى الثغور الجنوبية. واتجهت بعض الجماعات إلى الثغور الإيطالية مباشرة، أو عن طريق فرنسا، ومنها أبحرت إلى مصر والشام والقسطنطينية (1). وبلغ السلطان أحمد سلطان الترك، ما أصاب الكثير منهم في أرض فرنسا من الاعتداء والنهب، فأرسل إلى ملكتها (وهي يومئذ ماري دى مريتشي الوصية على ولدها لويس الثالث عشر) يحتج على هذا الإيذاء، ويطلب حماية المنفيين (2). وكان بين هؤلاء الذين اتجهوا إلى المشرق، بعض طوائف من يهود الأندلس، ولا سيما طائفة (الحسديم) التي مازالت تقيم حتى اليوم في القسطنطينية، ويقيم بعضها في مصر. _______ (1) نفح الطيب (2/ 617). (2) Dr Lea: The Moriscos; P. 364.

ونفذت قرارات النفي في كل مكان بصرامة ووحشية واستمرت السفن شهوراً بل أعواماً، تحمل أكداساً من الكتل البشرية المعذّبة، فتلقي بها هنا وهناك، في مختلف الثغور الإفريقية، في جو من المناظر المروّعة المفجعة. وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في عدد الموريسكيين الذين أُخرجوا من إسبانيا تطبيقاً لقرار النفي، فيقول نفاريتي وهو من أعظم مؤرخي إسبانيا: إنه نُفِي من إسبانيا في مختلف الأوقات، نحو مليوني يهودي، وثلاثة ملايين موريسكي. ويقدر آخرون عدد المنفيين من الموريسكيين بأربعمائة ألف أو تسعمائة ألف ويقدرهم دون لورنتي مؤرخ "ديوان التحقيق" بمليون نسمة، ويقدرهم المستشرق فون هامار بثلاثمائة ألف وعشرة آلاف نسمة. وفي الرواية العربية الموريسكية يقدر عدد الموريسكيين المنفيين بستمائة ألف. ونحن نميل إلى أن عددهم لا يمكن أن يتجاوز هذا القدر، وقد كان مجموعهم في أواخر القرن السادس عشر ستمائة ألف حسبما قدّمنا. ويقدر عدد من هلك من الموريسكيين أو استُرِق منهم أثناء مأساة النفي بنحو مائة ألف (1). وقد عاد معظم الموريسكيين الذين نفوا إلى إفريقية والمشرق، إلى الإسلام دين الآباء والأجداد، ولم تخمد مائة عام من التنصير القسري، والإرهاق المستمر، جذوة الإسلام في نفوسهم، وقد لبث على كرّ العصور متغلغلاً في أعماق سرائرهم. وبذلك ينتهي الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين، وتُطوَى إلى الأبد صفحة شعب، من أنبل وأمجد شعوب التاريخ، وحضارة من أزهر الحضارات. ج - وتقدّم لنا الرواية المغربية، تفاصيل ضافية عن مأساة الموريسكيين، من بدايتها إلى نهايتها، وتخصها بكثير من النقد والتعليق. ولكن الرواية _______ (1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 259.

الإسلامية مُقِلَة حول ذلك، شأنها في تاريخ الأندلس منذ سقوط غرناطة، فهي لا تُعنَى بتتبع مصير العرب المتنصرين، كما تعني الرواية الغربية بها، ولا تقدم لنا عن مأساة النفي سوى بعض الشذرات والإشارات الموجزة. وأهم وأوفى ما وقفنا عليه من ذلك، رواية معاصرة عن أحوال الموريسكيين، ومساعيهم السريّة للمحافظة على دينهم، وظروف نفيهم، كتبها موريسكي، عاش في جيان في أوخر عهد الموريسكيين، ثم هاجر إلى تونس قبيل النفي بقليل، وكتب فيما بعد هذه الرسالة دفاعاً عن الموريسكيين المهاجرين، وشرف نسبهم، وتوكيداً لحسن إسلامهم وتمسكهم بالإسلام، ووردت خلالها حقائق تاريخية هامة، عن النفي وأسبابه وملابساته، ننقل منها ما يلي: "لقد كثر الإنكار علينا معشر أشراف الأندلس، من كثير من إخواننا في الله، بهذه الديار الإفريقية من التونسيين وغيرهم، حفظهم الله، بقولهم: من أين لهم هذا الشرف. وقد كانوا ببلاد الكفار، دمّرهم الله، ولهم مئون من السنين كذا وكذا، ولم يبق فيهم مَن يعرف ذلك من مدة الإسلام، وقد اختلطوا مع النصارى، أبعدهم الله تعالى، إلى غير ذلك من الكلام ... ". "مع أني صغير السن، حين دخولنا هذه الديار، عمّرها الله تعالى بالإسلام وأهله، فقد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي، رحمة الله عليه، وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسنّي حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام. فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز، فكتب لي فيه حروف الهجاء، وهو يسألني حرفاً حرفاً عن حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميت له حرفاً أعجمياً كتب لي حرفاً عربياً، فيقول حينئذٍ: هكذا حروفنا، حتى استوفى جميع حروف الهجاء في كرتين، فلما فرغ من الكرّة الأولى، أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي، وجميع قرابتنا، وأمرني ألاّ أخبر أحداً من الخلق ... ".

وقد كان والدي رحمه الله يلقنني حينئذ ما كنت أقوله حين رؤيتي للأصنام .... فلما تحقق والدي أنني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب، أمرني بإفشائه لوالدتي وعمتي، وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين، وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سنّي، فرح غاية الفرح، وعرّفني بأصدقائه وأحبّائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار، من جيان مدينة ابن مالك، إلى غرناطة، وإلى قرطبة وإشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال كانوا كلهم يحدّثونني بأمور غرناطة وما كان بها في الإسلام حينئذٍ، فباجتماعي بهم حصل لي خير كثير، وقد قرأوا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة، أعادها الله للإسلام، يقال له: الفقيه اللوطوري، رحمه الله تعالى ونفعنا به، فإنه كان رجلاً صالحاً، ولياً لله، فاضلاً ورعاً، زاهداً، قد قرأ القرآن الكريم في مكتب الإسلام بغرناطة، قبل استيلاء أعداء الله عليها، وهو ابن ثمانية أعوام، ثم بعد مدة يسيرة، انتزعت غرناطة من أيدي المسلمين أجدادنا، وقد أذن العدو في ركوب البحر لمن أراده، وبيع ما عنده، وإتيانه لهذه الديار الإسلامية، وذلك في مدة ثلاثة أعوام، ومَن أراد أن يقيم على دينه وماله فليفعل، بعد شروط اشترطوها، وإلزامات كتبها عدو الدين على أهل الإسلام. فلما تحرك لذلك أجدادنا، وعزموا على ترك ديارهم وأموالهم، ومفارقة أوطانهم للخروج من بينهم، وجاز إلى هذه الديار التونسية، والحضرة الخضراء بغتة مَن جاز إليها حينئذٍ، ودخلوا في زقاق الأندلس المعروف الآن بهذا الاسم، وذلك سنة اثنتين وتسعمائة، وكذا للجزائر وتطوان وفاس ومراكش وغيرها، ورأى العدو العزم فيهم، لذلك نقض العهد، فردّهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهراً عن الخروج واللحوق بإخوانهم وقرابتهم بديار الإسلام، وقد كان العدو يظهر شيئاً ويفعل بهم شيئاً آخر، مع أن المسلمين أجددنا

استنجدوا مراراً ملوك الإسلام، كملك فاس ومصر حينئذٍ، فلم يقع من أحدهما إلاّ بعض مراسلات، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ثم بقي العدو يحتال عليهم بالكفر غصباً، فابتدأ يزيل لهم اللباس الإسلامي، والجماعات، والحمامات، والمعاملات الإسلامية شيئاً فشيئاً، مع شدّة امتناعهم والقيام عليهم مراراً، وقتالهم إياه، إلى أن قضى الله سبحانه ما قد سبق من علمه، فبقينا بين أظهرهم، وعدو الدين يحرق بالناس من لاحت عليه إمارة الإسلام، ويعذّبه بأنوع العذاب، فكم أحرقوا؟ وكم عذّبوا؟ وكم نفوا من بلادهم، وضيعوا من مسلم؟ حتى جاء النصر والفرج من عند الله سبحانه، وحرّك القلوب للهروب، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة وألف، فخرج منا بعض للمغرب، وبعض للمشرق خفية، متطهراً من دين الكفار أبعدهم الله، فخرج بعض أحبابنا وإخواننا وهو الفقيه الأجل محمد أبو العباس أحمد الحنني، المعروف بعبد العزيز القرشي، ومعه أحد أخوانه، إلى مدينة بلغراد من عمالة القسطنطينية، فالتقيا بالوزير مراد باشا وزير السلطان المعظم المرحوم السلطان أحمد بن السلطان محمد آل عثمان نصرهم الله تعالى وأيدهم، فأخبراه بما حل بإخواننا بالأندلس من الشدة بفرنسا وغيرها، فكتب أمراً لصاحب فرنسا دمرها الله، بإعلام السلطان يأمره بأن يُخرج مَن كان عنده من المسلمين بالأندلس، ويوجههم إليه في سفن من عنده، مع ما يحتاجون إليه. فلما قرئ الأمر السلطاني في ديوان الفرنسيس، فسمعه مَن كان مرسلاً من قبل صاحب الجزيرة الخضراء، وهو اللعين فيليب الثالث، فأرسل لسيده يخبره بالواقع، وأن السلطان أحمد آل عثمان، أرسل أمره إلى فرنسا، وأمر صاحبها أن يخرج مَن كان عنده من الأندلس، فقبل كلامه، وأمر بإخراج المسلمين، وأذن لمن جاء من الأندلس بأن لا بأس عليهم، وأن يركبوا عنده في سواحله مراكبه، ويبلغهم إلى حيث شاءوا من بلاد المسلمين. فلما أحسّ بهذا الأمر عدوّ الله فيليب صاحب إسبانية، دخله الرعب والخوف الشديد، وأمر حينئذٍ مجمع أكابر القسيسين والرهبان والبطارقة، وطلب منهم

الرأي، وما يكون العمل عليه في شأن المسلمين الذين هم ببلاده كافة، فبدأ الشأن في أهل بلنسية، فأخذ الرأي، فأجمعوا كلهم على إخراج المسلمين كافة من مملكته، وأعطاهم السفن، وكتب أوامر وشروطاً في شأنهم، وفي كيفية إخراجهم، وشدّد على عماله بالوصية، والاستحفاظ على كافة المسلمين من الأندلس. نعم أريد أن أذكر لك نبذة يسيرة اختصرتها وترجمتها من جملة أسباب ذكرها الملك الكافر أبعده الله، في أوامره التي كتبها في شأن إخواننا الأندلسيين حين إخراجهم من الجزيرة الخضراء، لتكون على بصيرة من أمرهم، وتعلم بعض الأسباب التي أخرجوا لأجلها على التحقيق، لا كما يزعم بعض الحاسدين. قال الملك الكافر، أبعده الله وزلزله آمين: لما كانت السياسة السلطانية الحسنة الجيدة موجبة لإخراج مَن يكدّر المعاش على كافة الرعيّة النصرانية، في مملكتها التي تعيش عيشاً رغداً صالحاً، والتجربة أظهرت لنا عياناً، أن الأندلسيين الذين هم متولدون من الذين كدّروا مملكتنا فيما مضى، بقيامهم علينا، وقتلهم أكابر مملكتنا، والقسيسين والرهبان الذين كانوا بين أظهرهم، وقطعهم لحومهم، وتمزيقهم أعضاءهم، وتعذيبهم إياهم بأنواع العذاب، الذي لم يسمع فيما تقدم مثله، مع عدم توبتهم فيما فعلوه، وعدم رجوعهم رجوعاً صالحاً من قلوبهم لدين النصرانية، وأنه لم تنفع فيهم وصايانا، ورأينا عياناً أن كثيراً منهم قد أُحرقوا بالنار، لاستمرارهم على دين المسلمين، وظهر منهم العناد بعيشهم فيه خفية، واستنجادهم كذلك عون السلطان العثماني لينصرهم علينا، وظهر لي أن بينهم وبينه مراسلات إسلامية، ومعاملات دينية، وقد تيقنت ذلك من إخبارات صادقة وصلت إليّ، ومع هذا أن أحداً منهم لم يأت إلينا ليخبرنا بما هم يدبرونه هذه المدة بينهم، وفيما سبق من السنين، بل كتموه بينهم؛ علمت بذلك أن كلهم قد اتفقوا على رأي واحد، ودين واحد، ونيتهم واحدة، وظهر لي أيضاً ولأرباب العقول والمتدينين من القسيسين والرهبان والبطارقة الذين جمعتهم لهذا الأمر واستشرت، مع أن من

إبقائهم بيننا ينشأ عنه فساد كبير، وهول شديد بسلطتنا، وأن بإخراجهم من بيننا يصلح الفساد الناشئ من إبقائهم بمملكتي، أردت إخراجهم من سلطتنا جملة، ليزول بذلك الكدر الواقع، والمتوقع للنصارى، الذين هم رعيتنا، طائعين لأوامرنا وديننا، ورميهم إلى بلاد المسلمين أمثالهم، لكونهم مسلمين. "فانظر رحمك الله، كيف شهد عدو الدين، الملك الكافر، بأنهم مسلمون، واعترف أنه لم يقدر على إزالة دينهم من قلوبهم، وإنهم متمسكون كلهم به، مع أنه كان يحرق منهم من ظهر عليه الدين، ثم وصفهم بالعناد لرؤيته فيهم لوائح المسلمين وأماراتهم، فأي علامة أكبر من صبرهم على النار لدين الحق، ومن استنجادهم بملك دين الإسلام المؤيّد لحماية الدين، أمير المسلمين السلطان أحمد آل عثمان نصرهم الله تعالى، فهذا غاية الخير والعزّ والبركة لهذه الطائفة الطاهرة الأندلسية". "فخرجوا كلهم سنة تسعة عشر (كذا) وألف. ووجد في دفاتر السلطان الكافر، أبعده الله تعالى، أن جملة مَن أُخرِج من أهل الأندلس كافة، نيف وستمائة ألف نسمة، كبيراً وصغيراً، فكانت هذه الواقعة منقبة عظيمة، وفضيلة عجيبة لجماعتنا الأندلسيين زادهم الله شرفاً بمنّه، وأمر أيضاً بإخراج مَن كان مسجوناً في كافة مملكته، وكل مَن كان أمر بإحراقه فأخرجه وعفا عنه، وزوّده وأرسله إلى بلاد الإسلام سالماً، فيالها من أعجوبة ما أعظمها، ومن فضيله ما أشرفها، ومن كرامة ما أجملها، ومن نعمة ما أكبرها، فما سُمِعَ من أول الدنيا إلى آخرها مثل هذه الواقعة" (1). _______ (1) كاتب هذه الرسالة، هو النّسابة محمد بن عبد الرفيع الأندلسيّ المتوفَّى سنة (1062 هـ-1652 م)، أي بعد نفي الموريسكيين بإثنين وأربعين عاماً، وقد وردت في آخر كتابه المسمى: "الأنوار النبويّة في أخبار البريّة"، وهو لا يزال مخطوطاً. وقد نقل الرسالة المذكورة الشاعر أبو عبد الله محمد بوجندار في كتابه المسمى: "مقدمة الفتح في تاريخ رباط الفتح" (الرباط 1345 هـ)، والرسالة منقولة عن هذا الكتاب مع =

وقد صدر قرار النفي - كما قدمنا - في (22 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م) وهو يوافق جمادى الثانية سنة (1018 هـ)، ولكن الرواية الإسلامية تضع تاريخ القرار أحياناً سنة (1016 هـ أو 1017 هـ)، وهو تحريف واضح. قال المقري - وهو مؤرخ الأندلس، وقد كان معاصراً للمأساة -: "إلى أن كان إخراج النصارى إياهم (أي العرب المتنصرين) بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أُخَر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومَن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد تلمسان وفاس. ونجا القليل من هذه المضرّة. وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطوان وسلا وفيجة الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى جيشاً جراراً وسكنوا سلا، كان منهم من الجهاد في البحر، ما هو مشهور الآن. وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات والدور، وهم الآن بهذه الحال. ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصفت" (1). وقال ابن دينار التونسي - وقد كتب بعد المأساة بنحو سبعين عاماً في أخبار سنة (1017 هـ) -: "وفي هذه السنة والتي تلتها، جاءت الأندلس من بلاد النصارى، نفاهم صاحب إسبانيا، وكانوا خلقاً كثيراً، فأوسع لهم عثمان باي في البلاد، وفرّق ضعفاءهم على الناس، وأذن لهم أن يعمروا حيث شاءوا، فاشتروا الهناشير، وبنوا فيها، واتسعوا في البلاد، فعمرت بهم، واستوطنوا في عدة أماكن، وعمروا نحو عشرين بلداً، وصارت لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين، ومهّدوا الطرقات، وصاروا يعتبرون من أهل ..................................................................... _______ = بعض التصرف (ص: 200 - 214). (1) نفح الطيب (2/ 617).

البلاد" (1). وقال صاحب الخلاصة النقية - وهو من الكتاب المتأخرين -: "وفي سنة ست عشرة وألف، قدمت الأمم الجالية من جزيرة الأندلس، فأوسع لهم صاحب تونس عثمان باي كنفه، وأباح لهم بناء القرى في مملكته، فبنوا نحو العشرين قرية، واغتبط بهم أهل الحضرة، وتعلموا حُرفهم، وقلّدوا ترفهم" (2). وهذه النصوص الموجزة، هي كل ما تقدم إلينا الرواية الإسلامية عن نفي العرب المتنصرين، وقد لبثت رواية المقري عن المأساة، مصدراً لكل ما كتبه الكتاب المتأخرون (3). وربما كان هذا النقص راجعاً إلى أنه لم يعن أحد من كتاب المغرب المعاصرين، باستيفاء التفاصيل الضافية المؤثرة عن المأساة، أو لعله قد ضاع ما كتبه المعاصرون عنها فيما ضاع، مما كتب عن المراحل الأخيرة لتاريخ الأندلس والعرب المتنصرين، ولم تصلنا على يد المقري سوى لمحات يسيرة. وهكذا بذلت إسبانيا النصرانية كل ما وسعت لإخراج البقية الباقية من فلول الأمة الأندلسية، ولم تدخر وسيلة بشرية للقضاء على آثار الموريسكيين إلاّ اتخذتها، ومع ذلك فإن آثار الموريسكيين لم تنقطع بعد النفي بصورة نهائية. فقد رأينا أن كثيراً من المنفيين قد عادوا إلى إسبانيا، فراراً مما لَقَوْا في رحيلهم من ضروب الاعتداء المفزع، وأسلموا أنفسهم رقيقاً يقتنى. كذلك كانت ثمة جماعات في الأسرى المسلمين، من مغاربة وغيرهم، ممن يؤخذون في المعارك البحرية مع المغيرين يباعون رقيقاً في إسبانيا، ويفرض عليهم التنصير. ومع أنه صدر قرار يحظر وجودهم في العاصمة الإسبانية، فإنه كان من الصعب إخراجهم من المملكة. نظراً لما ترتب لأصحابهم عليهم من _______ (1) المؤنس في أخبار إفريقية وتونس (ص: 193). (2) الخلاصة النقية (تونس) (ص: 91). (3) أنظر الاستقصا (3/ 101)، حيث تنقل هذه النصوص.

الحقوق. وكان بعضهم يفلح في ابتياع حريته، ويعيد حياة الموريسكيين سراً، وأخيراً توجّست الحكومة الإسبانية من وجودهم، فصدر في سنة (1712 م) قرار بنفيهم، خلال المدد التي يحدّدها القضاة المحليون وسمح لهم بأن يأخذوا معهم أسرهم وأموالهم إلى إفريقية. وقد كان من المستحيل بعد ذلك كلّه، أن يبقى في البلاد أحد الموريسكيين أو سلالتهم، وقد كانت ذكراهم أو أشباحهم، تثير حولها أيّما توجّس وتعصب. وكان من المتعذّر أن يفلت أحد منهم من بطش ديوان التحقيق. وكان الديوان المقدّس أبداً على أهبته لضبط أية قضية ضد موريسكي مختف أو عبد متنصر، ولكن هذه القضايا كانت نادرة، مما يدل على انقراض هذا العنصر بمضي الزمن. بيد أن أسرى المعارك الحربية بحراً الذين كانوا يُكرهون على التنصير، كان بعضهم ينبذ النصرانية خفية، وكان معظم هؤلاء من الموريسكيين الذين عادوا إلى الإسلام، وخرجوا إلى الجهاد في البحر، وكان ديوان التحقيق طوال القرن السابع عشر الميلادي، يجد بينهم فرائس من آن لآخر. وعلى الجملة فإن آثار الموريسكيين والإسلام لم تختف نهائياً من إسبانيا، وقد لبث كثير من الأسرى والأفراد الموريسكيين الذين اندمجوا في المجتمع الإسباني، على صلاتهم الخفية بالماضي البعيد، وقد ضبطت خلال القرن الثامن عشر أمام محاكم التحقيق بعض القضايا الخاصة بالموريسكيين، كانوا يجرون شعائر الإسلام خفية، وضبط في سنة (1769 م) مسجد صغير في قرطاجنة، أنشأه المتنصرون المحدثون، مما يدل على أنه كانت ما تزال ثمة آثار ضئيلة للموريسكيين والإسلام. ولا تقدم لنا محفوظات ديوان التحقيق منذ أواخر القرن الثامن عشر، أي ذكر للموريسكيين، أو الإسلام والمسلمين، مما يدلّ على أن الآثار الأخيرة لمأساة الموريسكيين قد غاضت، وأسبل عليها الزمن عفاءه إلى الأبد (1). _______ (1) Dr Lea: The Moriscos; P. 391-392.

تأملات في آثار المأساة الأندلسية

على أن ما يقال أخيراً أنه ما زالت ثمة إلى اليوم، في بلنسية وفي غرناطة ومقاطعة لامنشا، جماعات من الإسبان، تغلب عليهم تقاليد الموريسكيين في اللباس والعادات، ويجهلون الطقوس النصرانية الخالصة (1). والحقيقة أنه يصعب على الباحث، أن يعتقد أن إسبانيا النصرانية، قد استطاعت حقاً بكل ما لجأت إليه، من الوسائل المغرقة في الظلم، أن تقضي نهائياً على آثار السلالة العربية والحضارة الإسلامية، بعد أن لبثت ثمانية قرون تغمر النصف الجنوبي لشبه الجزيرة، فإن تاريخ الحضارة يدلّنا على أنه من المستحيل أن تجتثّ آثار السلالات البشرية، خصوصاً إذا لبثت آماداً مختلفة متداخلة، على أن حضارة أمة من الأمم إنما هي خلاصة لتفاعل الأجيال المتعاقبة. وفي وسع مؤرخ الحضارة أن يلمس في تكوين المجتمع الإسباني الحاضر، ولاسيما في الجنوب، في ولايات الأندلس القديمة، وفي خصائصه وتقاليده، وفي حياته الإجتماعية، وفي حضارته على العموم، كثيراً من الخلال والظواهر، التي ترجع في روحها إلى تراث العرب والحضارة الإسلامية (2). تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية أ - تلك هي قصة الموريسكيين أو العرب المتنصرين: قصة مؤسية تفيض بألوان الاستشهاد المحزن والصبر الجميل، ولكن تفيض في نفس الوقت بصحف من الإباء والبسالة والجلد، تخلق بأعظم وأنبل الشعوب. وقد لبثت السياسة البربرية التي اتبعتها إسبانيا النصرانية، واتبعها ديوان التحقيق الإسباني، إزاء العرب المتنصرين على كرّ العصور، مثار الإنكار والسخط، _______ (1) Dr Lea: ibid. P. 395. (2) نهاية الأندلس (376 - 392).

يدمغها المفكرون الغربيون والإسبان منهم أنفسهم، حتى يومنا هذا، بأقسى النعوت والأحكام. ويرى النقد الحديث، أن العمل على إبادة الموريسكيين، كان ضربة شديدة لعظمة إسبانيا ورخائها، ولم تنهض إسبانيا قط من عواقب هذه السياسة الغاشمة، بل انحدرت منذ نُفيَ الموريسكيين من أوج عظمتها التي سطعت في عصر شاركان وفيليب الثاني، إلى غمرة التدهور والانحلال، التي ما زالت تلازمها حتى هذه الأيام. بل ترجع عوامل هذا الانحلال، إلى ما قبل مأساة الموريسكيين ببعيد، أو بعبارة أخرى إلى السياسة التي اتبعتها إسبانيا النصرانية، نحو الأمة الأندلسية، منذ بداية عصر الغلبة والتوسع والاستيلاء، في القرن الثالث عشر. فقد كانت القواعد والولايات الإسلامية الزاهرة، تسقط تباعاً في يد إسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تفقد في نفس الوقت أهميتها العمرانية والاقتصادية، إذ كانت العناصر الإسلامية الذكية النشطة من السكان، تغادرها إلى القواعد الإسلامية الباقية، فراراً من عسف النصارى، وتغادرها حاملة أموالها وفنونها وصنائعها، تاركة وراءها الخراب والفقر والضيق الاقتصادي. واستمر سيل هذه الهجرة المخرِّبة زهاء قرنين حتى سقطت غرناطة، واحتشدت البقية الباقية من الأمة الأندلسية في المنطقة الجنوبية، وفي بعض القواعد الأندلسية القديمة، مثل بلنسية ومرسية، وهاجرت قبل سقوط غرناطة وبعده جموع غفيرة من المسلمين إلى إفريقية، واستحالت الأمة الأندلسية غير بعيد، إلى شعب مهيض ممزّق، هو شعب الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومع ذلك فقد لبثت هذه الأقلية الأندلسية المضطهدة، عاملاً خطيراً في اقتصاد إسبانيا القومي، وفي ازدهار زراعتها وتجارتها وفنونها وصناعتها، وكان الموريسكيون يحملون كثيراً من تراث الأمة المغلوبة، وإلى نشاطهم ودأبهم يرجع ازدهار الضياع الكبيرة التي يملكها السادة الإقطاعيّون. فلما اشتد بهم الإضطهاد والعسف، وأخذت يد الإبادة تعمل لتمزيق طوائفهم، وسحق

نشاطهم، وقتل مواهبهم. ولما اتخذت إسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء إسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعي الذي برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيادي الماهرة، وكسدت التجارة التي كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التي كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التي استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضي الزمن نتائجها المخرِّبة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوي العمران، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلّت يد الإصلاح والتقدّم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح تعداد سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين نسمة، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين نسمة، وفقدت معظم المدن الكبرى - مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة - أربعة أخماس سكانها، وعمّ الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيّم على إسبانيا كلها جوّ من الفاقة والركود والانحلال. وقد ظهرت هذه الآثار المخرِّبة، بالأخص في محيط الزراعة والصناعة، وكان تدهور إيراد الضياع الكبيرة، وإيراد الكنائس والأديار، دليلاً على ما أصاب قوة إسبانيا المنتجة: الزراعية والصناعية، بسبب نفي طائفة كبيرة من أنشط طوائف السكان وأغزرهم إنتاجاً. وكان من الحقائق المعروفة أن السكان الإسبان كانوا يبغضون الأعمال الزراعية والفنية، ويعتبرونها أمراً شائناً، وأن الإسباني لا يربي أولاده لمزاولة العمل الشريف، وأن أولئك الذين لا يجدون لهم عملاً في الجيش أو الحكومة، يلحقون بالكنيسة. ويبدي المؤرخ الإسباني الكبير نافاريتي أسفه لوجود أربعة آلاف مدرسة في عصره (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يتعلم فيها أبناء الفلاحين، بينما تهجر الحقول، ولأن أولئك الذين لا يجدون منهم عملاً في الكنيسة لنقص تعليمهم، يحترفون التسول أو التشرد أو السرقة. وقد كتب

سفراء البندقية منذ القرن السادس عشر إلى حكومتهم ينوّهون بهذه الحقائق، ويصفون الإسبان بأنهم زرّاع وعمال كُسالى، يحتقرون العمل اليدوي، حتى أن ما يمكن عمله في البلاد الأخرى في شهر، يعمله الإسبان في أربعة أشهر (1). ويردّد الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسّاني سفير سلطان المغرب مولاي إسماعيل إلى إسبانيا، وقد زارها في سنة (1691 م)، أعني بعد النفي بثمانين عاماً، عن الإسبان مثل هذا الرأي، إذ يقول في رحلته: "وبحصول هذه البلاد (الهندية) - يقصد أمريكا - ومنفعتها وكثرة الأموال التي تجلب منها، صار هذا الجنس الاسبنيولي اليوم أكثر النصارى مالاً، وأقواهم مدخولاً، إلاّ أن الترف والحضارة غلبت عليهم، فقلّما تجد أحداً من هذا الجنس يتاجر أو يسافر للبلدان بقصد التجارة كعادة غيرهم من أجناس النصارى مثل الفلامنك والإنكليز والفرنسيين والجنويين وأمثالهم، كذلك الحرفة التي يتداولها السقطة والرعاع وأراذل القوم، يتأبى عنها هذا الجنس، ويرى لنفسه فضيلة على غيره من الأجناس المسيحيين" (2). وقد كان النبلاء والأحبار، وأصحاب الضياع الكبيرة بوجه عام، يعتمدون في تعهد أراضيهم وفلاحتها، على نشاط الموريسكيين وبراعتهم، فلما وقع النفي جمد النشاط الزراعي، وخلت معظم الضياع من الزراع، وأقفر كثير من القرى، وهدمت ضياع كثيرة لخلوها من السكان ولا سيما عن منطقة بلنسية، واضطر النبلاء إلى استقدام العمال الزراعيين من الجزائر الشرقية (البليار) وأنحاء البرنية وقطلونية، ومع ذلك فقد حدث نقص ملحوظ في غلاّت الضياع الكبيرة، ولم ينتفع النبلاء بما أصابوه من الاستيلاء على الأراضي التي نزعت، وتعذر عليهم تعميرها وفلاحتها، وحاق بهم الضيق، حتى اضطر _______ (1) Dr Lea. The Moriscos ; P. 379-381. (2) رحلة الوزير الغسّاني المسمّاة: "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" (العرائش 1940) ص: 44 - 45.

العرش إلى منح كثير منهم نفقات سنوية من خاصة أمواله، هذا فضلاً عما أصاب طوائف السكان الأخرى، التي كانت تتصل بالموريسكيين في المعاملات والتبادل من العسر والضيق. وكما انحط دخل الكنائس والأديار، فكذلك خسر ديوان التحقيق شطراً كبيراً من دخله، مما كان يصيبه من مصادرة أموال الموريسكيين والحكم عليهم بالغرامات الفادحة، واضطرت الحكومة أن تعول كثيراً من محاكم التحقيق التي أوشكت على الإفلاس، من جراء اختفاء الجماعة التي كانت تزدهر بمطاردتها واستصفاء أموالها. وقد بيعت أموال الموريسكيين وأراضيهم بمبالغ كبيرة، ولكن العرش استولى عليها، ووزّع معظمها على أصفيائه من الوزراء والنبلاء والأحبار، ولم ينل ديوان التحقيق سوى الجزء اليسير منها. ويقدمون مثلاً لما أصاب إسبانيا من الخراب نتيجة (للنفي) هو مثل مدينة: ثيوداد ريال "المدينة الملكية" (1) عاصمة لامنشا، فقد أسس هذه المدينة الفونسو العالم في القرن الثالث عشر، ومنح سكانها شروطاً حرّة مغرية، شجعت كثيراً من يهود ومسلمين على النزوح إليها. وفي سنة 1290 م، كان دافعوا الضرائب فيها من يهود (8828)، فلما أخرج يهود منها في سنة (1492 م)، حلّ محلّهم الموريسكيون في غرناطة، ولما أُخرج منها هؤلاء مع المدجنين القدماء، خربت المدينة وعفا رخاؤها، وانحطت زراعتها، وخربت صناعة النسيج التي أنشأها الموريسكيون فيها، وهبط عدد سكانها في سنة (1621 م) إلى (5060) نسمة وإلى نحو ألف أسرة فقط، في حين أنها كانت تضم من السكان قبل (النفي) اثنتي عشرة ألف أسرة (2). وكان مما ترتب على نفي الموريسكيين أيضاً، ذيوع العملة الفضية الزائفة، وقد تركوا منها وراءهم مقادير عظيمة، وكانت لهم بصنعها براعة خاصة. _______ (1) Ciudad Real. (2) Dr Lea: The Moriscos. P. 372-384.

وأحدث ذيوع النقد الزائف اضطراباً شديداً في المعاملات، وحاولت الحكومة جمعه والعقوبة عليه وعلى ترويجه بعقوبات رادعة بلغت حدّ الإعدام، ولكنها لم تفلح في استئصال الشرّ، واستمرت هذه الحركة أعواماً طويلة، وعمد الإسبان بدورهم إلى التزييف، وعوقب كثير منهم أمام محاكم التحقيق والمحاكم المدنية، وعانى التجار والمتعاملون كثيراً من الضرر والإرهاق. ولم تمض أعوام قليلة على نفي الموريسكيين، حتى ظهرت هذه الآثار المخرِّبة كلها في حياة المجتمع الإسباني بصورة مزعجة، وهال العرش والحكومة ما أصاب الأمة من ضروب البؤس والخراب، وطلب رئيس الحكومة الدوق دى ليرما في سنة (1618 م) إلى مجلس الدولة أن ينظر في هذا الأمر، ويعمل على تحقيقه ومعالجته، وقدم مجلس الدولة تقريره بعد عام، وأشير فيه إلى خراب المدن والقرى، ولكن لم يشر إلى نفي الموريسكيين، وإلى تكاثر عدد رجال الدين وتزييف العملة وبغض الشعب للعمل الشريف، بل حاول أن يرجع الشر إلى فداحة الضرائب، وإلى الترف الذي تعيش فيه الطبقات المختارة، وإسراف الملك في الإغداق على أصفيائه؛ وكذلك اهتم مجلس النواب (الكورتيس) بالأمر، وقدم عنه تقريراً إلى الملك، ومع أن التقارير الحكومية التي وضعت عن هذه المحنة، لم تشر إلى نفي الموريسكيين كعامل أساس فيما أصاب إسبانيا من الخراب والفقر، فقد كان في القرارات الملكية ما ينطق بهذه الحقيقة. ففي سنة (1622 م) أصدر الملك فيليب الرابع، قراراً بخفض الضرائب على بلنسية، أشار فيه إلى هجرة السكان، وإلى ما خسرته المدينة من ضروب الدخل، التي كانت تجبى على ما يستهلكه الموريسكيون، وما خسره التجار من انقطاع التعامل معهم. على أن جهود العرش والحكومة، لم تُجْدِ شيئاً في تخفيف هذه الضائقة، التي طافت بالمجتمع الإسباني، وشملت سائر الطبقات سواء في الإنتاج أو

الاستهلاك، ومضى وقت طويل قبل أن تستقر الأحوال نوعاً ما، وتفيق الزراعة والصناعة والتجارة من الضربة التي أصابتها. يقول الدكتور لي: "إنه لا يمكن لفريق من السكان، كان يعتمد عليه مدى القرون، في القيام بقسط عظيم من الإنتاج والتنظيمات المالية في البلاد، أن يُمزَّق فجأة ويُنبَذ، دون أن يبثّ ذلك الخراب الواسع، ويثير معتركاً من المشاكل يمتد أثرها إلى أجيال مرهقة". ثم ينعي على السياسة الإسبانية تخبطها وقصر نظرها فيقول: "وإنه لمن خواص السياسة الإسبانية في ذلك العصر، أنه لم يفكر أحد في هذه الشئون ولم يحتط أحد في المباحثات الطويلة التي جرت في قضية الموريسكيين. وقد حدثت ثمة مناقشات لا نهاية لها حول مختلف المشاريع ومزاياها، والوسائل التي ينفذ بها النفي، وماذا يسمح به للمنفيين، وماذا يكون مصير الأطفال. ولكن النتائج المحتملة تركت للمصادفة، واحتقرت التفاصيل العملية، واحتقر رخاء الفرد، وهو ما يوضح إخفاق السياسة الإسبانية" (1). وجواباً على هذا التساؤل، فإن الذي حجب التفكير السليم عن الذين بيدهم الأمر في إسبانيا يومئذ؛ وهم رجال الدين والنبلاء المقربون للملك، الذين كانوا هم صانعي القرار، هو أمران: التعصب الأعمى المتسم بالجهل المطبق والمتمثل في كره الإسلام والمسلمين، ومحاولة القضاء عليهم قضاءاً مبرماً. والثاني هو حرص أولئك الزمرة على أموال الموريسكيين المنقولة وغير المنقولة، ورغبتهم الجامحة في اغتصابها لأنفسهم في غطاء من القرارات الملكية، دفاعاً عن حاضر إسبانيا ومستقبلها ظاهرياً، واقتناصاً للمكاسب المادية لأنفسهم واقعياً، حتى ولو أدى جشعهم إلى الإضرار ببلدهم عامة، ورخاء الفرد الإسباني خاصة. ولم يكن نشاط الموريسكيين مجهولاً على النطاقين الحكومي والشعبي في إسبانيا، فنشاطهم واضح _______ (1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 387.

معروف لا يخفى على أحد، وقد مرّ بنا أن قسماً من النبلاء فاتحوا الملك في محاذير نفي الموريسكيين على الزراعة في إسبانيا، فلم يفلحوا في توسطهم، ويبدو أن هؤلاء النبلاء كانوا من الإقطاعيين الذين يستفيدون من مهارة الموريسكيين الفذة في الزراعة، وتوقعوا أن مزارعهم سيتسرب إليها الخراب بعد نفي الموريسكيين، وهذا ما حدث فعلاً، وعلى نفسها جنت براقش التي أعماها التعصب والجشع، فقد كان صانعوا القرار الإسباني يومئذ متعصبين أولاً ومنتفعين ثانياً، فخرّب تعصبهم بلادهم، وانتفعوا بعددهم المحدود، وأضروا الشعب بأسره، وعلى رأسهم صفوته الموريسكيون بلا مراء. تلك هي النتائج المادية الواضحة، الاقتصادية والاجتماعية، التي جنتها إسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت إسبانيا زهاء قرن تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقي من فلول الأمة الأندلسية في الأرض التي بسطت عليها ظلها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول إلى شراذم معذَّبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقي عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت في سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضي عليها بالتشرد والنفي النهائي، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع إسبانيا أن جاء نفي الموريسكيين في وقت أخذت فيه عظمة إسبانيا ورخاؤها ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسباني إلى حياة الدّعة والخمول، وأخذ سكانها في التدهور، فجاء نفي الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية إسبانيا، التي أخذت في التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفي الموريسكيين، ويعتبره عاملاً بعيد المدى فيما أصاب إسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والانحلال.

ب - على أن التفكير الإسباني يختلف في هذا الرأي وتقدير مداه، ويهاجمه وينكره - بالأخص رجال الدين - وقد كانوا منذ البداية روح هذه السياسة المخرِّبة، وأكبر العاملين على تنفيذها. وقد استقبل رجال الدين نفي الموريسكيين بأعظم مظاهر الغبطة والرضى، واعتبروه ذروة النصر الديني؛ ويقول أحدهم وهو القس بليدا - وهو مؤرخ من مؤرخي القرن الماضي، في كتابه الذي نشره دفاعاً عن هذه الإجراءات -: "بأن عصر إسبانيا الذهبي، بدأ بذهاب الموريسكيين، وأن إسبانيا قد حققت به وحدتها الدينية، وأنقذت من مشاغلها الداخلية، وأن النفي كان أعظم حادث بعد بعث المسيح، واعتناق إسبانيا للنصرانية" (1). ويقول حبر آخر: "لقد زعم الموريسكيون أن رخاء إسبائيا قد ذهب مذ أكرهوا على التنصير، ولكن الرخاء قد عمّ بنفيهم، وازدهرت التجارة، وساد الأمن في الداخل والخارج" (2). ويقول الحبر فثنتي دى لا فونتي ( VICENTE DE LA FUENTE) في تاريخه الديني: إنه من السخرية أن يقال: إن نفي الموريسكيين كان سبباً في انحطاط إسبانيا، فإن أمة قد تفقد مائة وخمسين ألفاً في وباء أو حرب أهلية. ثم يتسائل في تهكم: لماذا ينحى على فيليب الثالث بمثل هذا اللوم؟! على أنه يعترف مع ذلك بأن النفي كان سبباً في تدهور دخل الأشراف والكنائس (3). ويروي آخرون من الأحبار، أن إسبانيا قد دفعت بالنفي ثمناً باهظاً، ولكن تحملهم نزعة فلسفية فيقولون: إن وفرة الرخاء، تذهب بالفضائل، وإنه لا بأس من التقشف مع الإيمان، وأن الفقراء استطاعوا بعد إجلاء الموريسكيين أن يجدوا أعمالاً (4). ولكن حبراً ومؤرخاً إسبانياً كبيراً، هو دون لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق، يحدثنا عن وسائل الديوان، ونفي الموريسكيين في قوله: "كانت هذه _______ (1) Bleda: Difensio Fidei in Cavsa Neophglorum olive Morishorum in Hispanios. (2) Dr Lea: The Moriscos , P. 366. (3) Dr Lea: ibid , P. 394-396. (4) Dr Lea: ibid , P. 367.

الوسائل بقسوتها الشائنة، تذكي روع الموريسكيين من تلك المحكمة الدموية، وكانوا بدلاً من التعلّق بالنصرانية - وهو ما كانت تؤدي إليه معاملتهم بشيء من الإنسانية - يزدادون مقتاً لدين لم تحملهم إلى اعتناقه سوى القوة. وكان هذا سبب الاضطرابات التي أدت فى سنة (1609 م) إلى نفي هذا الشعب، وعدده يبلغ المليون يومئذٍ، وهي خسارة فادحة لإسبانيا تضاف إلى خسائرها الفادحة، ففي مائة وتسع وثلاثين سنة، انتزع ديوان التحقيق من إسبانيا ثلاثة ملايين، ما بين يهود، ومسلمين، وموريسكيين" (1). ويقول الكاردينال ديشليو الفرنسي، وهو من أعظم أحبار الكنيسة في مذكراته، وكان معاصراً للمأساة: "إنها أشدّ ما سجلت صحف الإنسانية جرأة ووحشية". هذا عن الأحبار، أما عن آراء البحث الإسباني الحديث، فإنها تختلف في تقدير آثار نفي الموريسكيين اختلافاً بيناً، بيد أنها تميل على الأغلب إلى الاعتراف بفداحة الآثار المخرّبة التي أصابت إسبانيا من جرائه، وإلى اعتباره عاملاً قوياً في تدهور إسبانيا وانحلالها، بيد أنها مع ذلك تحاول الاعتذار عن النفي، ويرى بعضهم أنه كان إجراء طبيعياً، وضرورة لا محيص عنها، وينكر بعضهم الآخر أنه كان كارثة أو أنه ترتبت عليه آثار مخربة، ونورد هنا طائفة من آراء عدد في المؤرخين والمفكرين الإسبان المحدثين، بدقة وإفاضة تسمحان بفهم الروح الإسبانية إزاء هذا الحدث التاريخي الخطير، وتقديرها على حقيقتها. يقول دانفيلا إى كوليادو: "وهكذا تحقق نفي الموريسكيين الإسبان، بغض النظر عن كونهم شباباً أو شيوخاً، صالحين أو عقماء، مذنبين أو أبرياء. وكانت مسألة الوحدة السياسية تحمل في ثنيتها ضرورة الوحدة الدينية، وضع خطتها الملكان الكاثوليكيان، وحاول تحقيقها الإمبراطور _______ (1) Liorente: Historia Critica de la Inquisiciande Espana (1817-1815) .

شارل الخامس (شارلكان) وفيليب الثاني، ولكنهما ارتدا خشية من عواقبها. أما فيليب الثالث، فكان يزاول سلطانه على يد أصفيائه، ولذا ألفى سلطة العرش الدينية والسياسية، أيسر وأهون، وكانت الحرب الدينية تضطرم ضد الجنس الأندلسي، وقد ألفت عواطف الروح الرقيقة نفسها، وجهاً لوجه أمام المسألة السياسية. ودخلت الإنسانية والدين في صراع، وخرج الدين ظافراً، وفقدت إسبانيا أنشط أبنائها، وانتزع الأبناء من جحور أمهاتهم وحنان آبائهم، ولم يلق الموريسكي أية رأفة أو رحمة. ولكن الوحدة الدينية بدت ساطعة رائعة في سماء إسبانيا، واغتبطت الأمة إذ أضحت واحدة في جميع مشاعرها العظيمة". "وكان الموريسكيون شديدي المراس، وكان الوطن ينشد وحدة معنوية، تغدو متممة للوحدة السياسية، التي تحققت باندماج سائر العروش في شبه الجزيرة، وكان عنصر تناقض قوي، كالذي تمثله طائفة الموريسكيين، لا يكون فقط عقبة شديدة يصعب تذليلها، ولكنه كان استحالة مطلقة، تحول دون تحقيق الغاية، التي تتجه إليها الحركة العامة للفكر القومي؛ وكانت الصعوبة كلها تجثم في الدين، ولم تكن اللغة التي كانت تبدو خاصة قومية أخرى، تكون يومئذ أو في أي وقت عقبة بمثل هذه الخطورة، ففي شمال إسبانيا، وفي شرقها، توجد اللهجات المختلفة، من الجليقية والقطلونية والميورقية والبلنسية وغيرها. وكذلك يوجد مثل هذا التباين في النظم القضائية، والثياب والعادات الخاصة بكل منطقة، ولكن ذلك لم يكن عقبة كأداء في سبيل وحدة الدين والروح القومي، ولم يخلق مثل المعضلة الدائمة التي خلقها الدين بالنسبة للموريسكيين، والتي جعلتهم دائماً في حالة دائمة من التربّص والتوجّس. إن ما بذله شارل الخامس وفيليب الثاني لإخضاع الموريسكيين للنصرانية، مما لا يمكن وصفه، ولكن جهودهم كلها ذهبت عبثاً، ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من الخضوع، لبث الموريسكيون في عهد فيليب الثالث، يضطرمون بنفس الروح المتمردة، التي كانت لأسلافهم الذين

أخضعوا بالسيف، وقد ارتضوا حالتهم كمحنة مؤقتة عابرة، ولم ينبذوا الأمل قط، ولم يتركوا قط الوسائل التي يعتقدون أنها تمكنهم ذات يوم من الأخذ بالثأر، واسترداد استقلالهم وسيادتهم". ثم يقول: "وإنها لخرافة أن يقال: إن الموريسكيين كانوا عنصراً مفيداً في إنتاج إسبانيا، ولو أنهم كانوا كذلك، لحملوا الرخاء إلى بلد المغرب حيث ذهبوا" (1). ويقول المؤرخ الكبير موديستو لا فونتي - وسنرى أنه يذهب في الصراحة وتقدير الحقائق المنزهة إلى أبعد حد -: "وعلى أي حال، فإن مراسيم فيليب الثالث الشهيرة ضد الموريسكيين، قد جرّدت إسبانيا - وقد كانت يومئذ جدّ مقفرة من السكان، بسبب الإدارة السيئة والحروب المستمرة - من طائفة كبيرة من السكان، أو بعبارة أخرى من السكان الزراعيين والتجاريين والصناعيين من السكان المنتجين، أولئك الذين يساهمون بأكبر قسط في الضرائب. وكان أقل ما في ذلك تسرّب الملايين من الدوقيات التي حملتها الطائفة المنفية معها، في الوقت الذي كانت فيه المملكة تعاني من قلة النقد، فكان نقص الذهب الفجائي على هذا النحو أشد وطأة عليها. كذلك وقع ضرر أفدح بذيوع النقد المزيف أو المنقوص، الذي روّجه المنفيون بسوء قصد قبل رحيلهم. وأسوأ ما في ذلك كله هو: أنه فُقِد برحيلهم العنصر العامل الذكي المتمرس في الفنون النافعة. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكر والقطن والحبوب التي كان لهم بإنتاجها التفوق الجمّ، وذلك لنظامهم المدهش في الرّي بواسطة السواقي والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره في الإنتاج العظيم الذي امتازت به مروج بلنسية وغرناطة، ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهي صناعات برع الموريسكيون فيها أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الآلية، وهي حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبّرهم يحتقرونها، ومن ثم فقد احتكرها _______ (1) M. Danvila Y Collado: La Expululsin de Los Moriscos Espanoles (Madrid 1889) P. 320-322.

الموريسكيون واختصّوا بها. وقد عانى كل شيءٍ من نقص في السواعد في البراعة، وهو نقص جعلت المفاجأة من المستحيل تداركه، ثم غدا بعد ذلك ملؤه مبهظاً بطيئاً صعباً". "ويقول نفس المؤرخ البلنسي الذي شهد النفي، وكتب عقب إتمامه أنه ترتب على ذلك أن بلنسية، وهي حديقة إسبانيا الغناء، استحالت إلى قفر جاف موحش. وحدث هنالك كما حدث في قشتالة، وفي باقي البلاد، أن بدأ شبح الجوع الداهم، وبالرغم من أنه قد جيء بسكان جدد إلى الأماكن التي هجرها الموريسكيون، لكي يتدربوا على العمل في الحقول والمصانع والمعامل، إلى جانب أولئك القلائل الذين ارتضوا البقاء (هو اعتراف مخجل بلا ريب). على أن مثل هذا التمرن لم يؤت نتائجه السريعة، والتدرب والدأب ليسا من الفضائل التي ترتجل، ولم يكن من السهل أن يعوّض مثل هذا الجنس من البشر، وهو الذي استطاع بعبقريته، ومركزه الخاص في البلاد، ووفرة براعته وجَلَده، أن يحقق ما يشبه قهر الطبيعة، واستغلالها لسائر مبتكراته. وهكذا حلّ مكان ضجيج القرى، الصّمتُ الموحش في الأماكن المهجورة. وإذا كان ثمة بعض السادة الإقطاعيين قد غنموا من تراث المنفيين، فقد كان عدد الذين خسروا أعظم بكثير، وبلغ الأمر ببعضهم أن طلبوا نفقات للطعام. أما الذين غنموا، فقد كانوا بلا شك هم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على نصيب مما تحصل من بيع منازل الموريسكيين". "ومن ثم فقد اعتبر نفي الموريسكيين من الناحية الاقتصادية بالنسبة إلى إسبانيا، أفدح إجراء مخرِّب يمكن تصوّره، وإنه ليمكن أن تُغض الطرف عن المبالغة التي دفعت بأحد الساسة الأجانب، وهو الكاردينال ريشليو، أن يسميه: (أعرق إجراء في الجرأة البربرية مما عرفه التاريخ في أي عصر سابق)، والحق أن الصدع الذي أصاب ثروة إسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول: إنه لم يبرأ حتى عصرنا". "فأما من الناحية الدينية، فقد كان الإجراء ثمرة الأفكار التي سادت في

إسبانيا قبل ذلك بقرون، وثمرة البغض التقليدي المتأصّل، الذي يكنّه الشعب لغالبيه وأعدائه الألداء القدماء. وليس مما يمكن إنكاره، إنه كان مؤيداً لفكرة الوحدة الدينية، التي دأب على العمل لتحقيقها وإكمالها الملوك الإسبان والشعب الإسباني. بيد أنا نعتقد أنه كان من البراعة (ما عدا اعتباره صراعاً مقدّراً هو من خصائص العصور الوسطى) أن نصل إلى الوحدة الدينية بطريق إفناء أولئك الذين يعتنقون عقائد أخرى. وقد كانت البراعة أن نعمل على اجتذاب المخالفين المعاندين، بالتعاليم والإقناع، والحزم، والرفق، وتفوّق الحضارة". "وأما كونه إجراء سياسياً، قصد به إلى تحقيق سلامة الدولة وسلامها، فقد كان ممكناً أن نسوِّغ اتخاذه لو كانت المؤامرة حقيقية وخطيرة، وكانت الخطط شنيعة، وكانت الوسائل قوية، والخطر داهماً، وذلك كما افتراض الوزير المقرّب والأسقف ربيرا والنصحاء الآخرون. أجل لم يك ثمة شك في أنه كانت هناك مكاتبات وعلائق ومشاريع معادية لإسبانيا، بين بعض الموريسكيين البلنسيين وبين المغاربة والترك، بل بينهم وبين بعض الفرنسيين. بيد أننا لم نقتنع بأن هذه الخطط كانت من الجسامة والخطر بمثل ما كان يصوِّرها أنصار النفي، ولم نقتنع بأن النصارى المحدثين في بلنسية كان لهم من القوة ما يمكن أن يثير مخاوف ذات شأن، كما أنه لم يكن ما يثير المخاوف من جانب الموريسكيين في أراغون وفي مرسية، مثلما زعمت الوفود التي أتت من هذين الإقليمين، وكذلك لم يكن الموريسكيون في قشتالة يعرفون التآمر أو يقدرون عليه، وعلى أي حال فإنه متى ذكرنا، أننا بعد مضي أكثر من قرن على قهر الموريسكيين وإخضاعهم لقوانين المملكة، وتفريقهم ومزجهم بالإسبان والنصارى، لم نوفق إلى تأليفهم في العادات والعقائد، أو أن ندمج بقية الأمة المغلوبة في الكتلة الكبرى للأمة الغالبة، ولم نوفق إلى جعلهم نصارى وإسبانيين، ثم لجأنا بلا ضرورة إلى وسيلة إفناء جيل برمّته، متى ذكرنا ذلك، فإنا لا نستطيع أن ننظر بعطف إلى مهارة فيليب

الثالث والملوك الذين سبقوه، ولا إلى حزمهم أو سياستهم" (1). ويقول فلورثيو خانير - وهو يحذو حذو لافونتي في تقديره وتعليله، وينقل بعض أقواله -: "ومع ذلك، فإنه لمصلحة الدين، والسلام الداخلي، وسلامة الدولة، قد وقع الإغضاء عن المزايا التي كان يسبغها الموريسكيون على الصناعة والتجارة والزراعة، بل وعلى ثروة الأمة الإسبانية كلها، وذلك حينما أخرج بواسطة مراسيم فيليب الثالث، آلاف من الصناع الموريسكيين، يحملون معهم بذور الحضارة والحرث". وقد قال كامبومانس الشهير: "إن بدء تدهور صناعاتنا يرجع إلى سنة (1609 م) حينما بدئ بنفي الموريسكيين. فمن ذلك الحين تبدأ مع خراب المصانع صيحات الأمة المتوالية، وعبثاً يحاول ساستنا أن ينسبوا بؤس القرن السابع عشر، إلى أسباب أخرى، فهي وإن كانت جزئية، لا يمكن أن تضارع ضربة بهذه المفاجأة، وهي ضربة لم تستطع الأمة حتى اليوم أن تنهض من عثارها" ... "ولقد أحدثت مزاولة العرب للمهن الفنية في الإسبان أثرين سيئين الأول: أنهم اعتبروا هذه المهن من الأمور الشائنة. والثاني: أنهم لم يتعلموا شيئاً منها حتى لا يتشبهوا بأولئك الذين يزاولونها. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكر والقطن والحبوب، التي كان للموريسكيين فيها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش في الري بواسطة السواقي والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره في الإنتاج العظيم الذي امتازت به مروج بلنسية وغرناطة الخصبة. "ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهي صناعات برع فيها الموريسكيون أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الآلية، وهي حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرون مزاولتها؛ ومن ثم فقد كان الموريسكيون يحتكرونها؛ وقد وقع من جراء ذلك نقص في _______ (1) Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid 1862) T. V111. P. 211-214.

الأيدي وفي المهارة كان من المستحيل ملؤها في الحال، ثم غدا بعد ذلك ملؤها مبهظاً بطيئاً صعباً. وقد بلغ النقص في الأنفس - وفقاً للدراسات التي قمنا بها لنتائج الحادث - على الأقل نحو مليون. ثم يأتي بعد ذلك نقص العملة الذهبية، بسبب الكميات الكبيرة التي حملوها معهم من الدوقيات، وأخيراً يأتي ذيوع النقد الزائف أو ناقص الوزن، وهو الذي ملأوا به المملكة قبل نزوحهم منها، على أن الضرر الفادح الذي لم يعوّض لسنين بعيدة، هو بلا ريب ما أصاب الزراعة والصناعة والتجارة". "ومن ثمّ ففي وسعنا أن نقول عن بلادنا بحق: إن بلاد العرب السعيدة، قد استحالت إلى بلد العرب القفراء، وعن بلنسية بوجه خاص إن حديقة إسبانيا الغناء قد استحالت إلى صحراء جافة مشوّهة. وقد حلّ شبح الجوع بالاختصار في كل مكان، وحلّ محل المرح الصاخب للقرى العامرة، الصمت الموحش في الأمكنة المهجورة؛ وبدلاً من أن ترى أمامك العمال والصناع، فإنك تغامر بأن تقابل قطّاع الطرق يملؤونها ويجثمون في أطلال القرى المهجورة. ولئن كان ثمة فريق من السادة الملاك الذين أفادوا من مخلّفات المنفيين، فقد كان ثمة عدد أكبر بكثير ممن خسروا، وانتهى بعضهم إلى الموقف المؤلم، بأن يلتمسوا من الحكومة نفقة لإطعامهم، ولم يك بينهم أحد قط ممن غنم كما غنم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على جزء من أثمان بيع منازل الموريسكيين، بلغ نحو خمسة ملايين ونصف ريال". "وإذاً فقد كان نفي الموريسكيين من الناحية الاقتصادية، يعتبر بالنسبة إلى إسبانيا، أفدح إجراء مخرِّب يمكن تصوره، وإنه ليمكن أن نتسامح في المبالغة التي يصفه بها سياسي أجنبي هو الكاردينال ريشليو، حيث يصفه بأنه: "أعرق إجراء في الجرأة البربرية مما عرفه التاريخ في أي عصر سابق". والحقّ أن الصدع الذي منيت به ثروة إسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول: إنه لم يبرأ حتى

يومنا" (1). بيد أن خانير مع ذلك يقول: إن النفي كان ضرورة دينية وسياسية، وإن الوحدة الدينية، تغدو اليوم أسطع جوهرة للأمة الإسبانية. ويعلق المؤرخ الاجتماعي بكاتوستي، في الفصل الذي عقده عن (بؤس إسبانيا العام) في كتابه: (عظمة إسبانيا وانحلالها) على نفي الموريسكيين، فيقول: (كان نفي الموريسكيين من أفدح المصائب التي نزلت بإسبانيا. أجل، لقد وجد أيام الملكين الكاثوليكيين بعض المتعصبين الذين كانوا يقترحون هذا النفي ويعملون له. ولكنهم وجدوا عقبة كأداء في معارضة الملكة إيزابيلا. وفي سنة (1529 م) بذل أسقف إشبيلية جهوداً مضنية مضاعفة في هذا السبيل، وكذا طوال حكم فيليب الثاني كان هذا الموضوع يثار من وقت إلى آخر، ولكن أمكن فقط في عصر فيليب الثالث المحزن، أن يرتكب هذا الخطأ الفادح. "والمسئولية الكبرى التي تقع على عاتق الملك، وعلى نصحائه وأسلافه تتلخص في أنهم لم يحملو مصالح الموريسكيين المادية، فيمهّدوا لتلك الطائفة العاملة سبل الحياة المستقرة الهادئة، ولم يكن لهم من القوة أو الكياسة أو الحزم ما يمكنهم من إخضاع هذه الطائفة المتمردة، التي عاشت في إسبانيا في أوقات، كانت فيها الأحقاد في أوج اضطرامها بين الغالبين والمغلوبين". "وقد أثار الإسراف في فرض الضرائب وبخس الأعمال، والاضطهاد الديني، ومساوئ ديوان التحقيق، هذه الأرواح التي قابلت حكومة ضعيفة التدبير، حتى أنه أضحى من المحتوم أن يتخذ هذا الإجراء الشاذ المتطرّف". "إن المؤرخين والساسة الذين دافعوا عن نفي الموريسكيين، بعضهم للدفاع عن أخطاء هذه المدرسة، وبعضهم لكي يشيد بالعمل الرائع، إنما يدافعون عن أمور سيئة، أو يرغبون في أن يضعوا السياسة والسلطة فوق رأس _______ (1) D. Florecio Janer: Condicion Sociad de Los Moriscos de Espana (Madrid 1853) . P. 100-101.

الأمة، وهم في تسويغ مثل هذا الإجراء، لم يراعوا إلاّ ضرورة الساعة. وإذا فرضنا جدلاً ضرورته للسياسة باسم السلام والسكينة العامة، وهي التي اتخذت لتسويغ كثير من الأخطاء، بل كثير من الجرائم، فإنا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الموقف المحزن، قد خلقته أخطاء السلطة التي واجهت تلك المشكلة القاسية، ورأت أن تقصي الموريسكيين عن إسبانيا، لأنها شعرت أنها عاجزة عن إخماد ثوراتهم المستمرة". "إن فقد هذه السواعد في الأعمال الزراعية، وفي كثير من الفنون والأعمال، والازدهار الذي كان الإسبان يضمرونه لهذه الطائفة ولنشاطها، والسرعة التي وقعت بها هذه الخسارة، وعدم تحوّط الحكومة، التي لم تحاول بأية وسيلة أن تعوض عن نشاطها، وزيادة الضرائب وغيرها من المغارم التي أضحى عبؤها يقع فقط على عاتق الشعب الإسباني، لكي يعوّض ذلك ما خسرته الدولة مما كان يؤديه الموريسكيون؛ هذه ربما كانت الأسباب السريعة للبؤس العام". "ولقد قام بعض المؤرخين ببحوث مدهشة لتقدير عدد المنفيين، ونحن لا نجاريهم في ذلك، إذ يبدو لنا العدد أمراً لا أهمية له. وسواء كان المنفيون كثرة أو قلة، فقد كانوا هم الوحيدين الذين يعملون، وقد أحدث خروجهم من المملكة اضطراباً خطيراً". "يمثل هذا العوامل، وصل البؤس الداخلي في المملكة إلى حدّ لا يمكن تصوّره، ولا تمكن مقارنته، هذا بينما كان البلاط يغرق في الحفلات الشائقة، وينسب إلى فيليب الرابع ما كان يمكن صدوره من فيليب الثاني أو شارل الخامس" (1). ويرى العلامة مننديث بلايو ( MENENDEX PELAYO) ، وهو من أعظم المفكرين، والنقدة الإسبان المحدثين، أن نفي الموريسكيين كان نتيجة _______ (1) D. Felipe Picatost: Estudios Sobere la Granadez Y de cadencia de Espana (Madrid 1887) . P. 101-102.

محتومة لسير التاريخ، ويشرح في كتابه عن: (الخوارج الإسبان) على النحو الآتي: "ولنقل الآن رأينا في مسألة النفي، بكل وضوح وإخلاص، وذلك بالرغم من أنه يستطيع أن يتكهن به مَن تتبع القصة السابقة، بروية وبلا تحيّز. ولن أتردد بالجهر به، وإن كان من المؤسف أن يكون ثمة ما أخّر إبداءه. فهل كان من الممكن أن يقوم الدين الإسلامي بيننا في القرن السادس عشر؟ من الواضح أن لا، بل ولا يمكن أن يكون ذلك الآن في أي جزء من أوروبا. فكيف يستسيغ وجوده في تركيا أولئك الإنسانيون الأجانب الذين يصفوننا بالبربرية لأننا قمنا بإجراء النفي؟ وإنهم لأسوأ مائة مرة من المسلمين الخلّص، مهما كان دينهم عائقاً لكل تمدّن، أولئك النصارى المنافقون، والمرتدون المارقون، الذين لم يحسن إخضاعهم، وأولئك الإسبان الأوغاد الأعداء الداخليون خميرة كل غزو أجنبي، الجنس الذي لا يقبل الاندماج، كما أثبتت ذلك التجارب المحزنة مدى قرن ونصف، فهل يعتبر ذلك تسويغاً للذين مزّقوا عهود غرناطة، أو لأولئك الثوار الذين أضرموا الهياج في بلنسية، ونصروا الموريسكيين بصورة منافية للدين؟ كلا على الاطلاق. بيد أنه وقد سادت الأمور منذ البداية على هذا النحو، فإنه لم يكن من الممكن أن تكون ثمة نتيجة أخرى، فقد كانت الأحقاد والشكوك المتبادلة تضطرم باستمرار بين النصارى القدامى والمحدثين، وقد لطخت بقاع البشرّات بالدماء غير مرة، وفقد الأمل في تحقيق التنصير بالوسائل السليمة، وذلك بالرغم من تسامح ديوان التحقيق (كذا!!) والغيرة الطيبة التي أبداها رجال مثل تلافيرا، وفيلانيفا، وربيرا، وإذاً فلم يك ثمة محيص من النفي. وأكرر أن فيليب الثاني قد أخطأ في كونه لم ينفذه في الوقت المناسب. وإنه لمن الحمق أن نعتقد أن الصراع من أجل البقاء، والمعارك والمذابح بين الأجناس، تنتهي بصورة أخرى غير النفي أو الفناء، ذلك أن الجنس الأدنى ينهار دائماً، ويفوز بالنصر مبدأ القومية الأقوى". "وأما أن النفي كان حدثاً مقوِّضاً، فهذا ما لا ننكره، فإنه من المقرر أنه في

العالم يمتزج الخير والشر دائماً، وخسارة مليون بأسره من الناس، لم تكن هي السبب الأساسي في إقفار بلادنا من السكان، وإن كان لها أثر في ذلك. وبعد، فإن ذلك يجب ألاّ يُعدّ إلاّ كإحدى قطرات الماء في جانب نفي يهود، واستعمار أمريكا، والحروب الخارجية في مائة مكان معاً، وعدد الجند النظاميين الضخم، وهي أسباب نوّه بها كلها بإيجاز اقتصاديونا القدامى، ومنهم مَن لم يتردد كالحبر فرديناند نفاريتي في نقد نفي الموريسكيين بعد وقوعه بأعوام قليلة، وما كانت، بل وليست الأجزاء المقفرة من السكان في إسبانيا، هي التي تركها العرب، كما أنها ليست أسوأ زراعة، وهو ما يدل على أن الخسارة التي لحقت بالزراعة من جراء نفي كبار الزراع المسلمين، لم تكن عميقة أو باقية الأثر، كما قد يتبادر إلى الذهن لو أننا وقفنا فقط عند عويل أولئك الذين تأملوا الحقول المروية غداة تنفيذ أوامر النفي. ونحن أبعد من أن نعتقد مع الشاعر الساذج الشيوعي نوعاً حسبار دى أجيلار، أنه لم يخسر بالنفي سوى السادة الذين فقدوا أتباعهم المسلمين، وأن الكثرة من الناس قد غنمت وغدا: الأغنياء فقراء، والفقراء أغنياء والصغار كبارا، والكبار صغارا "ذلك أن مثل هذه النظريات، وإن أملاها الإخلاص والحماسة الشعبية، اللذان يضطرم بهما الشاعر، ليست إلاّ من أسخف وأضل ضروب الاقتصاد السياسي. ذلك أن مملكة بلنسية كلها كان لزاماً أن تخسر، وقد خسرت برحيل مثل هذا العدد الجم من عمال مهرة هادئين مثابرين، وقد كانوا حسبما يصفهم السكرتير فرنسيسكو أدياكيث: "يكفون وحدهم لإحداث الخصب والرخاء في سائر الأرض، لبراعتهم في الزراعة، وقناعتهم في الطعام". هذا بينما يصف هذا السكرتير النصارى القدماء بقوله: "إنهم قليلوا الخبرة في الزراعة". على أنه من المحقق أنهم تعلموا، وأن بلنسية قد عمرت فيما بعد، وأن سائر الطرق الزراعية ونُظم الري البديعة، - التي ربما كان من الخطأ أن

تنسب إلى العرب وحدهم - قد أحييت في هذه المناطق حتى يومنا، وإذا كان تدهور الزراعة مما لا ينكر، ولعله مبالغ فيه، فإن تأثر الصناعة كان أقل. ذلك لأن الصناعة كانت قبل ذلك بنصف قرن قد أصيبت باضمحلال واضح، وكذلك لأن الصناعات الرئيسة، إذا استثنينا الورق والحرير، لم تكن في أيدي الموريسكيين، وقد كانوا دائما عمالاً أكثر منهم صناعاً. فإذا قيل مثلاً: إن المناسج التي بلغ عددها من قبل في إشبيلية ستة عشر ألفاً، لم يبق منها في عهد فيليب الخامس سوى ثلاثمائة، ونسب ذلك كله إلى واقعة النفي، فإن أصحاب هذا القول ينسون أنه لم يكن في إشبيلية أحد من الموريسكيين، وأن هذه المصانع كانت قد تركت قبل النفي بخمسين عاماً، كأنما آثر أجدادنا أن يحققوا الثراء بالحرب في إيطاليا وبلاد الفلاندر، وبغزو أمريكا، وكأنهم كانوا ينظرون باحتقار سخيف مؤسف للفنون والأعمال الصناعية. إن اكتشاف العالم الجديد، والثروات التي كانت تتدفق من هناك، فتثير الجشع، وتذكي أطماعاً يسهل تحقيقها. ذلك هو السبب الحقيقي الذي أسكت مناسجنا وأمحل زراعتنا، وجعل منا أول طائفة من المغامرين المحظوظين، ثم بعد ذلك شعباً من الأشراف المتسولين، وانه لمن المضحك أن ننسب إلى سبب واحد، ربما كان أقل الأسباب، ما كان نتيجة لأخطاء اقتصادية يعسر علينا أن نتبين علاقتها بالتعصب الديني". "والخلاصة، أنه متى تدبّرنا المزايا والمضار، فإننا ننظر إلى إجراء النفي العظيم، بنفس الحماسة التي امتدحه بها لوبي دى فيجا وثرفانتس، وكل إسبانيا في القرن السابع عشر، باعتباره ظفراً لوحدة الجنس ووحدة الدين واللغة والتقاليد. أما الأضرار المادية، فقد شفاها الزمن، وقد استحال ما كان صحراء بلقع قاتمة، إلى مهاد خصبة وحدائق غناء. وأما الذي لا يشفى، وأما الذي يترك دائماً الأحقاد الدموية الأبدية، فهي جرائم تشبه جرائم الوندال. ولما هدأت آثار النفي، أضحى النفي ليس فقط إجراء محموداً، بل كذلك إجراء ضرورياً. ولم يكن ميسوراً أن تحل العقدة، فكان لابد من قطعها،

ومثل هذه النتائج تقترن دائماً بالانقلابات المفروضة" (1). ومن الواضح أن هذا الدفاع عن النفي، يصدر عن تعصب أعمى، ومع ذلك لم يستطع أن يحجب أضرار النفي على إسبانيا فيما كتب، ولو أنه اعترف بذلك في ثنايا رده المتهافت بصورة غير مباشرة. ويعلّق الدكتور لي، وهو من أحدث الباحثين في هذا الموضوع، على آراء المفكرين والمؤرخين الإسبان بقوله: "إذا كان نفي الموريسكيين، كما يقول مننديث إى بلايو، نتيجة محتومة لقانون تاريخي، وإذا كان قد غدا ضرورة في عهد فيليب الثالث، فقد كانت ضرورة مصطنعة، خلقها تعصب القرن السادس عشر، وإذا كان وجود المدجّنين منذ أيام ملوك ليون وقشتالة وأراغون في الأراضي الإسبانية، من الأمور المأمونة، وذلك في الوقت الذي كان فيه زعماء إسبانيا النصرانية يشغلون بحروب أهلية مضطرمة، ويواجهون دول العرب والمرابطين والموحدين القوية، وإذا كان في وسع الملوك النصارى في هذه العصور المضطربة أن يركنوا إلى ولاء رعاياهم المسلمين أثناء الحرب، وأن يفيدوا من نشاطهم أثناء السلم، فإن الضرورة السياسية للوحدة الدينية، بعد أن غدت إسبانيا دولة قوية موحدة، وغدا المسلمون طوائف ممزقة، لم تكن بلا ريب سوى ضرب من الخيال المغرق الذي يخلقه التعصب. وقد كان هذا التعصب نتيجة لتعاليم الكنيسة المستمرة، وهي التعاليم التي اعتنقتها إسبانيا مذ غدت قوة عالمية. وما إن انحدرت إسبانيا إلى طريق التعصب، حتى دفعه توقد المزاج الإسباني إلى نهايته المحتومة باكتمال لا نظير له. ولما قضت غطرسة الكاردينال خمنيس العنيفة على ثقة المسلمين في عدالة إسبانيا وشرفها، اتخذت الطريق الخطوة المحتومة في طريق لم تكن له سوى نهاية واحدة ... ولقد كان الموريسكيون بالضرورة أعداء في الداخل، حملوا بكل وسيلة على بغض دين فرض عليهم بالقوة، _______ (1) M. Menendez Y Pelayo: Historia de Los Heterodoxes Espanoles. P. 339-343.

وتبلورت مثله في الظلم والاضطهاد وفظائع ديوان التحقيق، وكان من المستحيل في ظل المؤثرات الدينية، التي غلبت على السياسة الإسبانية، أن يعامل الموريسكيين بالرفق والتسامح، وبها فقط كان يمكن العمل على إرضائهم، وتحقيق رخائهم وبث محبّة النصرانية في قلوبهم. وقد كانت كل محاولة لتلطيف الموقف، تزيده سوءاً حتى غدوا إغراء لاتصال كل عدو من الخارج، ومثاراً دائماً لجزع السياسة الإسبانية. فلما اضمحلت قوة إسبانيا، وفقد حكامها الثقة بالنفس، لم يكن ثمة بدّ من أن يتوجّ قرن من الغدر والظلم، بالنفي والإبعاد. وقلما يقدّم لنا التاريخ مثلاً كوفئت فيه السيئة بأمثالها، وطمت كوارثه، كذلك الذي ترتب على جهود الكاردينال خمنيس بما يطبعها من تعصب مضطرم". ثم يقول: " على أنه مهما كان من فداحة الضربة، فقد كان من الميسور تداركها بسرعة، لو أن إسبانيا كانت تملك الحيوية القوية، التي مكّنت أمماً أخرى من أن تنهض من كوارث أشدّ. إن انحلال إسبانيا لا يرجع فقط إلى خسارتها لجزء من السكان، بنفي اليهود والعرب المتنصرين، فقد كان من المستطاع أن تعوّض هذه الخسارة، ولكن الخطب يرجع إلى أن اليهود والعرب المتنصرين، كانوا من الناحية الاقتصادية أقيم عنصرين بين سكانها، وكان نشاطهم معيناً لحياة الآخرين، وبينما كانت أمم أوروبا الأخرى تنهض وتسير إلى الأمام في مضمار التقدم، كانت إسبانيا وشعارها أن تضحي بكل شيء في سبيل الوحدة الدينية، تنحدر سراعاً إلى غمر البؤس والشقاء، وتغدو جنّة للأحبار والقساوسة، وعمال ديوان التحقيق، تخمد فيها كل نزعة إلى الرقي العقلي، وتقطع فيها كل صلة مع العالم الخارجي، ويشل فيها كل جهد يبذل في سبيل التقدم المادي. وقد كان من العبث أن تنهمر ثروات العالم الجديد إلى أيدي شعب لا تقل مواهبه الطبيعية عن أي شعب آخر، وإلى أرض كانت مواردها عظيمة، مثلما كانت حينما جعلتها براعة العرب ونشاطهم في طليعة الأمم الأوربية ازدهاراً. ومهما كانت قيمة الخدمات التي

أدتها إيزابيلا الكاثوليكية والكاردينال خمنيس، فإن السيء في عملهما يفوق الحسن، لأنهما علّما الأمة أن الوحدة الدينية هي أول غاية يجب تحقيقها، وقد ضحّت في سبيل هذه الغاية برخائها المادي ورقيها العقلي" (1). وأخيراً يجمل الدكتور لي خلاصة بحثه المستفيض في مأساة الموريسكيين في هذه العبارة الموجزة القوية: "إن تاريخ الموريسكيين لا يتضمّن فقط مأساة تثير أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء التي اتحدت لتنحدر بإسبانيا في زهاء قرن من عظمتها أيام شارل الخامس إلى ذلّتها في عصر شارل الثاني" (2). ويقول سكوت: "لقد كانت نتائج هذه الجريمة التي ارتكبت ضد الحضارة، سواء البعيد منها والمباشر، ضربة لإسبانيا. فقد عصفت بموارد عيشها، ودفع بها القحط إلى الخراب، وأضحى من الضرورة أن تمدّ الحكومة يد الغوث إلى كثير من الأسر النبيلة، التي أودى بثروتها تصرف العرش الانتحاري، وخيّم الصمت والوجوم على مناطق شاسعة، كان يغمرها الخصب الأخضر، وظهر اللصوص والخوارج على القانون، مكان الزراع والصناع، وحل الجزاء المروّع عقب مأساة لم تقدم على مثلها لحسن الطالع أية أمة أخرى، مأساة أنزلت منذ وقوعها بالأمة التي ارتكبت فظائعها، كل صنوف الدمار والويل حتى الجيل الأخير" (3). ويمكن تلخيص رأي النقد الإسباني المعاصر، بما سمعه الأستاذ محمد عبد الله عنان من الأستاذ مننديث بيدال الذي نقلنا رأيه فيما سلف، وهو من أعظم المؤرخين والنقدة الإسبان في هذا العصر، فقد حدّثه الأستاذ عنان في مدريد عن قضية الموريسكيين ونفيهم، فقال: "لاريب أن إسبانيا قد منيت من جراء نفي الموريسكيين بخسارة مادية، لأنها خسرت بإخراجهم شعباً مجداً _______ (1) Dr Lea: The Moriscos; P. 395-397 and 399-401. (2) Dr Lea: The Moriscos ; P. V. (3) Scott: the Moorish Empire in Europe; V. 111. P. 328.

عاملاً بارعاً في الزراعة والصناعة، ولكن الواقع أن حركة الإنقلاب البروتستانتي حملت إسبانيا على أن تتبع من جانبها سياسة كاثوليكية شديدة، وكان من جراء ذلك أن اشتدت في معاملة الموريسكيين، ويمكن أن نصف هذه السياسة بأنها كانت عنيفة مغرقة". "ولم يكن نفي الموريسكيين خطوة موفقة، وكانت أيضاً من آثار الرجعية الكاثوليكية، وما كان ملك قوي مثل فيليب الثاني ليقدم على اتخاذ مثل هذه الخطوة، ولكن ولده فيليب الثالث كان ملكاً ضعيفاً يعوزه الذكاء والحصافة. وقد غلبت السياسة الدينية والكنسية في هذه المسألة. ويبدو خطأ هذه السياسة - بالأخص من الناحية العنصرية - فإن العلامة ربيرا يعتقد مثلاً أن الموريسكيين كان نصفهم على الأقل من الإسبان الخلّص الذين اتخذوا الإسلام في عهود مختلفة، ثم أرغموا على التنصير بعد سقوط غرناطة، وصاروا موريسكيين". ويسلم الأستاذ بيدال بأن نفي الموريسكيين كان من عوامل انحلال إسبانيا، ولكنه يرى من المبالغة أن يقال: إنه السبب الرئيسي لهذا الانحلال، ثم يقول: "والواقع إن هذه مسألة معقدة، وأعتقد أن من أهم أسباب انحلال إسبانيا، عنف السياسة الكنسية المناهضة لحركة الإصلاح الديني - البروتستانتية - وهو عنف لم يقع مثله في أي بلد أوروبي آخر، بل انفردت به إسبانيا والكنيسة الإسبانية" (1). ويبدي دى مارليس الذى اتخذ مؤلف كوندي أساساً لكتابه عن (تاريخ دولة المسلمين في إسبانيا والبرتغال) حماسة في تقدير تراث الأمة الأندلسية وما أصاب إسبانيا من جراء القضاء عليها، ويعلق في خاتمة تاريخه على مأساة الموريسكيين في تلك العبارات الشعرية المؤثرة: "وهكذا اختفى من الأرض الإسبانية إلى الأبد، ذلك الشعب الباسل اليقظ الذكي المستنير، الذي _______ (1) نهاية الأندلس (412).

أحيا بهمته وجدّه تلك الأراضي التي أسلمتها كبرياء القوط الخاملة إلى الجدب، فدرّ عليها الرخاء والفيض، واحتفر لها العديد من القنوات، ذلك الشعب الذي أحاطت شجاعته الفياضة في أيام الرخاء والشدة معاً، عرش الخلفاء بسياج من البأس، والذي أقامت عبقريته بالمران والتقدم والدرس، في مدنه صرحاً خالداً من الأنوار، الذي كان ضوؤها المنبعث ينير أوروبا، ويبث فيها شغف العلم والعرفان، والذي كان روحه الشّهم يطبع كل أعماله بطابع لا نظير له من العظمة والنبل، ويسبغ عليه في نظر الخلف، لوناً غامضاً من العظمة الخارقة، ودهاناً سحرياً من البطولة، يذكرنا بعصور هومير السحرية، ويقدّم لنا فهم أنصاف الآلهة اليونان". "ولكن شيئاً لا يدوم في هذا العالم، فإن هذا الشعب قاهر القوط، الذي كان يبدو أنه صائر خلال القرون، إلى أقصى الأجيال، قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثاً يسائل اليوم السائح الفريد قفار الأندلس المحزنة، التي كان يعمرها من قبل شعب غني منعَّم. ظهر العرب فجأة في إسبانيا كالقبس الذي يشق عباب الهواء بضوئه، وينشر لهبه في جنبات الأفق، ثم يفيض سريعاً في عالم العدم، ظهروا في إسبانيا، فملؤوها فجأة بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلها كوكب من المجد شملها من البرنية إلى صخرة طارق، ومن المحيط إلى شاطئ برشلونة، ولكن.

أسباب انهيار الفردوس المفقود

أسباب انهيار الفردوس المفقود هناك أساب لانهيار الفردوس المفقود نحاول إجمالها، وقد أغفل المؤرخون المحدثون بخاصة ذكر هذه الأسباب لأن الذين كتبوا عن الأندلس أكثرهم من الغربيين الذين لا يذكرون الأثر المهم في فتح الأندلس وانهيارها. والمؤرخون العرب المحدثون ساروا على منوال المؤرخين الأجانب، ولكن المؤرخين القُدامى من المسلمين ذكروا أسباب انهيار الأندلس بشكل غير مباشر، أي أنّ هذه الأسباب وردت في خضمّ السرد الطويل، فمثلاً كتاب (نفح الطيب) للمقري، تطرق إلى هذه الأسباب ولكن في مجال سرد الحوادث، والذي يريد اكتشاف هذه الأسباب عليه أن يقرأ ذلك الكتاب الضخم بأجزائه الكثيرة، وهذا ليس متيسّراً إما لضيق الوقت عند بعض الناس أو لصعوبة قراءة هذا الكتاب الضخم والانتباه إلى أسباب سقوط الأندلس. وقد لجأت إلى كثير من المؤرخين المعروفين من أساتذة الجامعات والمختصين لكي أجد لديهم أسباب سقوط الأندلس، فلم أحظ بجوابٍ شافٍ بالرغم من كثرة مَن استفسرت منهم، لذلك سأحاول إيجاز هذه الأسباب لتكون دروساً للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، لأنني أعتقد أن أهمية التاريخ تكمن في العبرة من دراسته، لا في الاستمتاع به كحوادث وقصص وأحداث. لقد فتح المسلمون الأندلس حين كانوا يتمتعون بعقيدتهم التي قادتهم إلى النصر، فلما تخلّوا عن هذه العقيدة تخلّى عنهم النصر وأصبح نصيبهم الهزائم. لقد كان قائد فتح الأندلس (طارق بن زياد) بربرياً، يقود جيشاً من العرب ومن البربر، يسود بينهم الانسجام الروحي والنفسي لأنه يسيطر عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" وكما جاء في القرآن الكريم ((*إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ*)).

وبعد أن جعل الفاتحون الدين وراءهم ظِهريّاً وفرّقوا بين الناس - المسلمين - بالجنس والمال والمناصب، أصبحوا ضعفاء في كل مكان. كانت تسيطر على البلاد العربية إمبراطوريتان عظيمتان، الإمبراطورية الساسانية التي كانت تسيطر على العراق والمشرق، والإمبراطورية البيزنطية المسيطرة على سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين ومصر وشمالي إفريقية، ومع سعة أملاك هاتين الإمبراطوريتين وعظمة مظاهرهما، وطول مدة حكمهما، إلاّ أنه كان فيهما الكثير من عوامل الضعف والانحلال. من هذه العوامل: ضعف العقيدة، واختلال النظام، ونقص القيادة، وعواقب الترف وتفرق الآراء .. ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الإمبراطوريتين من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل ... ! فكانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلاّ نظرة السيّد المبجّل إلى الغوغاء المهازيل ... !، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التهذيب. لقد كانت عوامل الفناء قد اصطلحت على هدم الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية قبيل الإسلام وأيام الفتح الإسلامي. ولكن العوامل التي قضت على الفرس والروم بالهزيمة - كائنة ما كانت - ليست هي العوامل التي قضت للعرب المسلمين بقيام دولة، وانتشار عقيدة، لأنّ استحقاق دول للزّوال لا ينشئ لغيرها حق الظهور والبقاء. كذلك لم يكن انتصار العرب على الفرس والروم لأنهم عرب وكفى ... ! فقد كان في أرض هاتين الدولتين عرب كثيرون يدينون لهما بالطاعة، وينظرون إليهما نظرة الإكبار والمهابة، وكان القادرون منهم على القتال أوفر من مقاتلة المسلمين وأمضى سلاحاً، وأقرب إلى ساحات القتال من أولئك النازحين إليها من الجزيرة العربية. وقد كان هناك عرب كثيرون انهزموا أمام المسلمين وهم كذلك أوفر في العدد والسلاح، وأغنى بالخيل والإبل والأموال. بل إنّ الفئة القليلة من العرب المسلمين انتصروا على الفئة الكثيرة من

العرب غير المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن بعده في أيام الرِّدّة وأيام الفتح الأول في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق ومَن بعده من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، فهي نصرة عقيدة لا مراء. ولكن القول بانتصار العقيدة هنا لا يغني عن كل قول، فالواقع أن الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالاً أولي خبرة وقدرة يؤمنون بها ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائهم؛ عقيدة منشئة يذود عنها حماة قادرون. ْكان العرب قبل الإسلام ماهرين في حروب العصابات، ماهرين في استخدام السلاح والفروسية، لهم قابلية ممتازة على الحركة من مكان لآخر بسهولة وسرعة، وبأقل تكاليف إدارية، ولكنهم كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد، لهذا كانت خبرتهم الحربية وشجاعتهم الفطرية تذهب عبثاً في الغارات والمناوشات المحليّة. فلما جاء الإسلام، وحّد عقيدتهم، ونظّم صفوفهم، وغرس فيهم روح الضبط والطّاعة، وطهّر نفوسهم، ونقّى أرواحهم، وأشاع بينهم انسجاماً فكرياً، فأصبحت قوتهم المبعثرة وجهودهم المضاعة قبل الإسلام تعمل بنظام دقيق وضبط متين بعد الإسلام بقيادة واحدة لهدف واحد، وأصبح المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله ويهتدون بهديه، وهم أمة واحدة تحيتها السلام ورايتها السلام، ودينها الإسلام. كما دفعت هذه العقيدة إلى نفوس المسلمين جميعاً حمية سمت بهم إلى الإيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحبّبت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر، كما بعثت فيهم روح الاعتزاز بالنفس، والشعور بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم. كما غرست هذه العقيدة في نفوس المسلمين الإيمان المطلق بالقضاء والقدر، لذلك استهانوا بالموت، وأقدموا عليه فرحين مستبشرين. إنّ مجمل عوامل انتصار الفاتحين المسلمين هي نشاط العرب ومثلهم البربر وخفّة أثقالهم، وشجاعتهم، وحسن تدريبهم على أسلحتهم، ومهارتهم في

الفروسية، واكتفاؤهم الذاتي بأبسط القضايا الإدارية وأقلها، وقابليتهم الممتازة على تطوير أساليب قتالهم، وحفظ خطّ رجعتهم، فهم لذلك جنود ممتازون. وتيسر قادة أكفاء قادرون على قيادة رجالهم بحزم وجدارة، وانتشار العقيدة الإسلامية بين صفوفهم، وما كانت عليه أحوال الدّول التي فتحوها من اعتلال واختلال، كما أن تسامح المسلمين ونشرهم العدل، وتركهم البلاد المفتوحة على ما هي عليه من دين ومعاملات. لقد انتصر المسلمون أولاً وقبل كل شيء بعقيدتهم المنشّئة البناءة التي حملها إلى الناس حماة قادرون قادة وجنوداً. وحين جاء الفاتحون المسلمون للأندلس كانا الحكم فيها ضعيفاً، وكان من بين المسيطرين مَن استعان بالمسلمين على أهل بلاده، ودار الزمن دورته، فأصبح المسلمون متفرقين، يستعين الأخ على أخيه بالأجنبي، كما أنّ المسلم الذي أهمل عقيدته أصبح مشغولاً بالترف والمال، لذلك تخلخلت نخوتهم، وأصبحوا مسلمين جغرافيين، لا مسلمين حقيقيين. فتح المسلمون الأندلس حين كانت عقيدتهم (عبادة)، فلما تخلّوا عن عقيدتهم وأهملوها، وأصبحت عندهم (عادة)، لذلك سهل عليهم التفريط في بلادهم، والاستعانة بالأجنبيّ على أبناء دينهم، ولعل خير شاهد على ما نقوله ما سجّله (ابن حزم الأندلسي) - وهو من أوثق مؤرخي الأندلس - قال في كتابه، نَقَط العروس - واصفاً عصر ملوك الطوائف -: "لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة في تحطيم الأخلاق واختلاط الحق بالباطل، والحلال بالحرام" وكل ذلك يجمله ابن حزم في كلمة واحدة، هي المحنة أو الفتنة، ثم يصوّر لنا المحنة أو الفتنة في كلمات قليلة، ولكنها قوية ورائعة، فيصف ابن حزم في (رسالة التلخيص في وجوه التخليص) فيقول: "وأما ما سألت من أمر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امْتُحِنَّا به، نسأل الله السلامة وهي فتنة سواء، أهلكت الأديان إلاّ مَن وقى الله من وجوه

كثيرة يطول لها الخطاب، وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن في أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساعٍ في الأرض لفساد، والذي ترونه عياناً من شنّهم الغارات على أبناء المسلمين من الرعيّة التي تكون في ملك مَن ضارّهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، وأنهم ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على القوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرين بضرورة لا تبيح ما حرّم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغافلوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفسّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيّنون لأهل الشرّ شرّهم، الناصرون لهم على فسقهم"، وقد كان الفقهاء في الواقع في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية أكبر عضد لأمراء الطوائف، في تصويغ طغيانهم وظلمهم وتزكية تصرفاتهم الجائرة وابتزازهم لأموال الرعيّة، فقد كانوا "يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمة كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل الطوائف مجال العمل والدّسّ والاستغلال، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء"، وقد فطن إلى ذلك إلى جانب ابن حزم قرينه ومعاصره المؤرخ (ابن حيّان) فحمل على الفقهاء ونوّه بصمتهم عن فضح الظلم الذي يرتكبه الأمراء لأنهم على حد قوله: "قد أصبحوا بين آكلٍ من حلوائهم وخابطٍ في أهوائهم" وينوّه ابن حزم باختلاط الحلال بالحرام في مجتمع الطوائف ثم يعود وهو بصدد الإجابة عن وجه السلام في المطعم والملبس والمكسب، وينوّه بما كان يسود مجتمع الطوائف من اختلاط الحرام بالحلال في جباية الضرائب ومجانبتها لحكم الشرع، وهي حالة يقدم لنا عنها الصورة التالية: "وأما الباب الثاني فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زمننا، هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون

إليه من أقواتهم ومكاسبهم إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً، وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه فإنما هو باب: أغلق عينيك واضرب بيديك ولك ما تخرجه، إما تمرة وإما جمرة، وإنما فرّقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين إنما كانت على الأرضين خاصّة، وأما اليوم فهي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والدّوابّ والنّحل برسم على كل رأس وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما يؤدّى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في البلاد، هذا كل ما يقبضه المتغلبون، وهذا هتك الأستار، ونقض لشرائع الإسلام من شعوبهم عروة عروة، وإحداث دين جديد بعيد عن تعاليم الله". ويبلغ ابن حزم ذروة حملته على أمراء الطوائف - هذا وإن ابن حزم ليبلغ الذروة على أمراء الطوائف في تهاونهم في أحكام الدّين وما اتسموا به من تهاون في الدين والعقيدة حتى يقول: "والله لو علموا أن في عبادة الشيطان بقاؤهم لبادروا إليها، فيعتمدون على النصارى، ويمكنونهم بتدوين المسلمين، فيمكنونهم منهم ويحملونهم إسارهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع فعمروا البلاد بالنواقيس". ونستطيع أن نتصور مجتمع الطوائف منحلاّ انحلالاً شاملاً من الناحية الاجتماعية مستهتراً يتّسم بضعف الإيمان وجنوحهم إلى مخالفة تعاليم الدين الحنيف. وابن حزم يدفع ملوك الطوائف ولا يستثني منهم أحداً بيد أن هذه الملاحظات التهكميّة اللاّذعة وأمثالها، تستحيل بعد ذلك عند ابن حزم إلى نظرات تحليلية عميقة لأحوال مجتمع الطوائف، وأحكام قاسية يصدرها على هذا المجتمع المستهتر التي تقضم أسسه عوامل الانحلال والتفكك المادي والأدبي، ويلتزم ابن حزم التعميم في نظراته وأحكامه، ولكنه صريح لا يلجأ إلى مداجاة أو توريةٍ، وهو يدمغ ملوك الطوائف لا يستثني منهم أحداً، وكان

ابن حزم قد اصطدم بوزير غرناطة اليهودي، وقد وردت هذه الأحكام بالأخص في موضعين من رسائله: الأول: في مستهل رسالته في الرّدّ على ابن التغريدي أو ابن نغرالة وزير غرناطة اليهودي، وإليك ما يقوله الفيلسوف في هذا الموضع: "اللَّهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عمّا قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموالهم، ربما كانت سبباً في انقراض أعمالهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزّوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم، حتى استشرف لذلك أهل القلّة والذمّة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتمّوا بذلك ضعف همّنا، لأنهم مشاركون لنا من الامتعاض للديانة الزهراء، والحميّة للملّة الغراء، ثم هم بعد ذلك متردّدون بما يؤول إليه إهمال هذه الحال من فساد سياستهم، والقدح في رئاستهم فللأسباب أسباب، وللمداخلة إلى البلاد أبواب والله أعلم بالصواب". من الواضح أن ابن حزم يقصد من كلامه أمراء الطوائف وهو هنا يركز اهتمامه حول رمي هؤلاء الأمراء بإهمال حياطة الدّين والذّود عنه، لمناسبة ما حدث من قيام (إسماعيل بن نغرالة) اليهودي، بتأليف رسالة في الإسلام، رأى فيها ابن حزم طعناً في بعض آيات القرآن، ورأى تقصير (باديس بن حبوس) أمير غرناطة في ردع وزيره وفي الدفاع عن الدين، بيد أنه لا يتّجه إلى ذكر باديس دون غيره، وإنما يتّجه إلى مخاطبة أمراء الطوائف جميعاً واتهامهم بنفس الاتهام المرّ، فهم جميعاً في نظره سواء في التقصير في حق دينهم، وفي الاشتغال عن صونه ببناء القصور والشؤون الفانية. مما تقدّم من شهادة ابن حزم وهو مؤرخ ثبت وفقيه وفيلسوف وأديب أن ملوك الطوائف كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد يستعينون بالعدو على إخوانهم المسلمين، ويستعينون بأعداء دينهم على أهل دينهم.

يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

والاستعانة بالأجنبي له خطورة عظيمة جداً، فهذا الأجنبي يطلع على عورات المسلمين، ويستطلع أرضهم، ويعرف نقاط الضعف فيهم، ويطّلع على اختلافاتهم، فهو يعرف بذلك مداخل المدن والحصون ونواقصها والأمكنة التي يمكن الاستيلاء عليها منها، كما يعرف تفرق كلمة المسلمين، وتشتّت قوتهم وصفوفهم، وأنهم أصبحوا أعداء بعضهم، وهم لا يقاومون كما ينبغي. لذلك يمكن اعتبار مدة ملوك الطوائف هي المدة التي فتحت أبواب الأندلس للعدو المتربّص بهم، فلذلك كانت المدن الأندلسية العظيمة تتساقط بالتتابع، بينما يبقى المسلمون الآخرون متفرّجين غير متعاونين على صد العدو، وربّما أعان المسلم عدوه على أخيه المسلم، وما هكذا تورد يا سعد الإبل كما يقول المثل ... ! يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى: 1 - تهاون المسلمين في دينهم الذي قادهم للنصر المؤزّر. 2 - تعاون المسلمين مع أعدائهم. 3 - عدم تعاون المسلمين فيما بينهم في حرب أعدائهم. 4 - اهتمام المسلمين بالتّرف على الاهتمام بالتدريب العسكري. 5 - اهتمام المسلمين بالقصور والمال أضعاف اهتمامهم بالجهاد. 6 - ضعف قياداتهم العسكرية والدينيّة. 7 - تفرّق كلمة المسلمين وظهور الاختلاف العنصري والقبلي. 8 - التناحر والتنافس على السلطة. 9 - انتشار الاضطرابات الداخلية. 10 - تمكين أعداء المسلمين من رقاب المسلمين. 11 - تشتت المسلمين بالثورات الداخلية والاستعانة بالعدو على المسلمين.

12 - اتحاد نصارى الإسبان مع نصارى أوربا وتحت إشراف البابا على كسر المسلمين وإخراجهم من الأندلس. لقد كان المسلمون الفاتحون الأوّلون يعملون لقلوبهم فأصبح المسلمون الجغرافيون بعد ذلك يعملون لجيوبهم، ولن يكون العمل للجيوب غير الهزيمة والخسران، وما على المسلمين اليوم أن يتعلموه أن يكونوا من أصحاب القلوب لا من أصحاب الجيوب. لم يكن هناك ارتباط قوي بين العناصر التي وفدت إلى الأندلس فالعرب كانوا في جانب، والبربر كانوا في جانب، والعرب ليسوا وحدة واحدة، وإنّما كانوا شيعاً وأحزاباً، وكذلك كان البربر. ثم نبعت عناصر إسلامية في الأندلس من الصقالبة ومن السكان الأصليّين، ولكل من هؤلاء وأولئك طابع واتجاهات، ويمكننا أن نقول بوجه مجمل: إن الصّخب والاضطرابات والحروب بين هذه العناصر بدأ مبكّراً واستمرّ استمراراً متّصلاً ولم يهدأ إلا تحت ضغط القوة، وكان يهدأ ليبدأ ثورة عارمةً عندما تتوانى أو تضعف هذه القوّة. وقد تيسّر القادة الأقوياء الذين سيطروا، ثم ضعف أولئك القادة وأصبحوا يهتمّون بأنفسهم أكثر من اهتمامهم بشعوبهم فكانت الكارثة. لقد كان الشعب الأندلسي شعوباً جمعها الإسلام، فلما تخلّوا عنه أصبحوا أعداء متفرقين لا شعباً واحداً.

فهرس الجزء الثاني

فهرس الجزء الثاني الموضوع ...................................................... الصفحة السمح بن مالك الخولاني، فاتح شطر جنوبي فرنسة - نسبه وأيامه الأولى ............................................... 5 - الفاتح ........................................................... 6 - الإنسان ......................................................... 10 - القائد ........................................................... 16 - السمح في التاريخ ................................................ 21 عبد العزيز بن موسى بن نصير - نسبه وأيامه الأولى ................................................ 23 - الفاتح ............................................................ 28 - الإنسان .......................................................... 38 - القائد ............................................................ 45 - عبد العزيز في التاريخ ............................................. 52 عبد الأعلى بن موسى بن نصير - نسبه وأيامه الأولى ................................................ 69 - الفاتح ............................................................ 57 - الإنسان القائد .................................................... 59 - عبد الأعلى في التاريخ ............................................ 63 عبد الله بن موسى بن نصير - نسبه وأيامه الأولى ................................................ 64 - الفاتح ............................................................ 69 - الإنسان .......................................................... 76 - القائد ............................................................ 83 - عبد الله فى الماريخ ................................................. 87 جزيرتا ميورقة ومنورقة 1 ميورقة، منورقة ..................................................... 89 نهاية الألدلس - مستهل .......................................................... 91 - مملكة غرناطة .................................................... 95 - نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية ......................... 101 طوانف الأندلسيين في عصر الانحلال 1 مملكة غرناطة وحدودها ........................................ 114 2 عناصر السكان ................................................ 115 3 المدجنون تاريخهم .............................................. 116 4 التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة ........................ 123 طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

1 حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة ............................. 125 2 طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس ..................... 128 مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر 1 ولاية محمد الفقيه وأحداث أيامه .................................. 136 2 أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع وأحداث أيامه ...... ........... 152 3 نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه ............................... 155 مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري 1 أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه ................................. 158 2 أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه ....................... 161 3 أبو الحجاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه .................... 165 الأندلس بين المد والجزر 1 ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه .............................. 173 2 يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه ................................ 181 3 محمد بن يوسف وحوادث أيامه ................................... 183 4 يوسف بن يوسف ................................................ 185 5 أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف ............................... 187 6 السلطان يوسف الخامس وحوادث أيامه .......................... 194 نهاية دولة الإسلام في الأندلس 1 علي أبو الحسن وأحداث أيامه ................................... 200 2 أبو عبد الله محمد بن علي وأحداث أيامه ......................... 210 بداية النهاية 1 مع أبي عبد الله محمد ثانية ....................................... 222 الصراع الأخير 1 مع أبي عبد الله محمد أخيراً ...................................... 240 2 مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم ............................ 253 3 عاقبة الملك المتخاذل ........................................... 279 4 أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه ........................ 284 ثمرات المعاهدة الغادرة 1 مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة .............. 293 2 التنصير وحرق الكتب العربية .................................. 295 3 ديوان التحقيق الإسباني ومهمته في إبادة الأمة الأندلسية ......... 313 4 ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين ............................ 336 نهاية النهاية 1 توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية .... 365 2 مأساة النفي .................................................. 380 تأملات في آثار المأساة الأندلسية ................................. 398 أسباب انهيار الفردوس المفقود ................................... 424

§1/1