في مهب المعركة

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة في مهب المعركة دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان دار الفكر دمشق - سورية

في مهب المعركة

مالك بن نبي مشكلات الحضارة في مهب المعركة إرهاصات الثورة إصدار دار الندوة

إعادة 1423هـ - 2002م ط3: 1981م

إهداء إلى شهداء الثورة الجزائرية الذين حققوا بدمائهم للأحلام التي تعبر عنها هذه الصفحات مالك

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في باريس، في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات. وقد نشرها آنذاك في صحيفتين جزائرتين ناطقتين بالفرنسية، هما الشباب المسلم والجمهورية الجزائرية. وحينما لجأ إلى القاهرة عام 1956 بدا له أن يترجم هذه المقالات وينشرها بالعربية. فكانت الطبعة الأولى عام 1961. وقد سمى مجموعة المقالات هذه ((في مهب المعركة))، باعتبارها إرهاصا للثورة الجزائرية وتسويغا لدوافعها. ففي المقالات تلمس فكر بن نبي وقد أحاط بشخصية الشعب الجزائري بل بشخصية العالم الثالث، الذي كان وما زال خارج إطار الحضارة الحديثة. فمنذ منتصف الثلاثينات، برز المهندس مالك بن نبي يختط للنضال سبل الفعالية، ويمنح الشباب الجزائري آفاقا تبدد ضباب الاستعمار، ويضع لثقافة الجيل أسسا من أصالة التاريخ وقيم العقيدة. هذه الأصالة تقرؤها في كل مقال كتبه مالك بن نبي، في هذه المجموعة، يواجه بشجاعة نادرة الاستعمار الجاثم على أرض الجزائر. ولم يكن سبيله إلى تلك المواجهة، ما تعارف عليه سياسيو ذلك الزمن، من

ديماغوجية تلعب بعواطف الجماهير. فقد اختط مالك بن نبي طريقاً إلى عمق القضية، يطرح القواعد الثابتة لتطور التاريخ، ثم يشرع في بناء الذات الجزائرية على أساس تلك القواعد. لم يكن يعنيه أن يلعن الإِدارة الاستعمارية. لقد اختار الطريق الأصعب والأشق عليه، حين اهتم بفضح وسائلها تنويرا للرأي وتبصرة للطريق. ولم يكن الطريق إلا تلك الشروط الموضوعية لنهضة فاعلة. لذلك أصدر في تلك الحقبة بالفرنسية، ـ[شروط النهضة الجزائرية]ـ، ثم ومن أجل ربط هذه الشروط بالقيم الإِسلامية التي رسمت حدود الأصالة الجزائرية، أصدر بالفرنسية في تلك المرحلة، ـ[الظاهرة القرآنية]ـ، ليضع للشباب الجزائري المتصل بالمنهج الديكارتي، ضوابط تمسك في نفسه عروة العقيدة. وإذ هو يدعو إلى بعث جديد للقيم الإِسلامية التي كونت تاريخ الجزائر، نراه يطرح في تلك المرحلة أيضا كتابه بالفرنسية، (( Vocation de L'Islam)) المترجم إلى العربية بعنوان: ـ[وجهة العالم الإِسلامي]ـ. وقد حاز هذا الكتاب في بداية الخمسينات شهرة واسعة، ومنح الشباب المسلم في الجزائر وخارجه، سبل الخروج من ذلك المستنقع الذي وقع فيه العالم الإِسلامي، والذي يطلق عليه مالك بن نبي رحمه الله مجتمع ما بعد الموحدين، وقد مني هذا المجتمع بمرض اجتماعي سماه ((القابلية للاستعمار)). فمقالات بن نبي ـ[في مهب المعركة]ـ ليست إلا صدى لهذه الكتب، يتتبع أحداث تلك المرحلة في الإِطار السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، يحاول من خلالها تسليط الأضواء على المشاكل الحقيقية التي ينبغي للشباب الجزائري أن يتوفر بفعالية لحلها. وبالرغم من عهد مضى في تاريخ الجزائر، تناولته هذه المقالات، فإنها لا تزال تحمل في طياتها نبض المشكلة وعمق حلولها.

فالاستقلال السياسي، الذي ظفرت به دول العالم الثالث فيما بعد، ما يزال يطرح مشكلة الاستقلال الاجتماعي والنفسي، ليواجه الإِنسان المتخلف مستقبله ومصيره بعيداً عن تبعية العالم الصناعي المستغِل. فمقالات بن نبي ـ[في مهب المعركة]ـ حاولت في مرحلة التحضير للثورة الجزائرية تصفية المفاهيم الفكرية وتعديل المبادرات الوطنية بما يتفق وفعالية الكفاح في مختلف الأصعدة. لقد تناول بن نبي في هذه المقالات كل حدث سجله الصراع مع الاستعمار في الشمال الأفريقي، وناقش كل كلمة قيلت حول ذلك الصراع، وراقب كل حركة بدرت في هذا الإِطار. وكان فيما يناقش ويراقب إنما يطرح القواعد الأساسية التي حالت معطيات الثقافة الغربية ومصطلحاتها دون الولوج إلى جوهرها. من هنا تبدو مقالات بن نبي في مرحلة التحضير للثورة الجزائرية، ذات اتصال بمقالاته التي حررها بعد عشر سنوات، والتي تحدثت عن مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، والتي سننشرها إن شاء الله، بعد أن ترجمها الأستاذ مالك ووضعها في كتاب سماه ـ[بين الرشاد والتيه]ـ. ففي كلا المرحلتين، تبدو المشكلة مرتبطة في حلولها، بنسق اجتماعي يحقق الشروط النفسية والثقافية لبناء حضارة. إن هذا الكتاب يطرح للقارىء صورة من تاريخ ما قبل الثورة الجزائرية، ناضل فيها الأستاذ مالك نضال الأبطال، وهو يشرح في الوقت نفسه القواعد الأساسية التي طالما تناولها في كتبه. ولقد راجعنا النص العربي بقدر ما أتاحت لنا المحافظة على أسلوب الأستاذ مالك وإنا لنرجو أن نكون قد بلغنا الأمانة كما ألقاها إلينا. جزاه الله عنا كل خير وأسكنه فسيح جنانه. عمر مسقاوي طرابلس- لبنان 20 شعبان 1398 25 تموز 1978

مقدمة

مقدّمة بقلم الأستاذ محمود محمد شاكر لعلي لا أبالغ إذا قلت: إن هذه المجموعة من مقالات أخي الأستاذ مالك بن نبي، هي عندي من أنفس ما كتب، لا لأنها تتناول موضوعا لا نزال نعيشه وعاش فيه من قبل آباؤنا، ولا تزال آثاره باقية فينا، تعمل عملا مدمراً في حياتنا كلها، ولا لأنها تاريخ متصل مغموس في الشرور التي ارتكبها الاستعمار في بلادنا، ولا لأنها تذكرة لنا ولأبنائنا بما يخشى أن ينسوه من النكبات التي حاقت بهم. كلا، بل هي أنفس شيء عندي، لأنها تكشف لنا عن فكر رجل خبير فكر في الأمور ساعة بعد ساعة، وقيد هذا الفكر في حينه، فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كتب قديما، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل. وأشد النكبات التي يصاب بها البشر، نكبة الغفلة، لأنها محو لما تقوم به حياة الناس، والمرء لا يكون إنسانا نامياً إِلا مع اليقظة فإذا سلب اليقظة، فقد اسقر في حومة الموت والهلاك، وإن بقي حيا يتحرك. وهذه المقالات المتفرقة المعاني، المتباعدة الأزمان، يضمها معنى واحد في زمان واحد، فالمعنى الذي يضمها هو معنى الاستعمار وهو معنى واحد، وإن اختلفت وسائل التعبير عنه قي نواحي الحياة الإِنسانية. والزمن الذي يجمعها، هو زمن واحد، هو زمن الاستعمار، وإن اختلفت عليه الأيام والليالي والشهور والسنوات. والنتيجة التي يخلص إليها قارئها، إذا أحسن القراءة وأخذها مأخذ الجد، هي أننا عشنا في أكبر مؤامرة على العالم الإِسلامي وتوابعه ولكننا مع ذلك لا نزال نعيش في هذه المؤامر كأنها تعني أحدا سوانا ولا تعنينا في شيء

لأن المؤامرة تتم يوما بعد يوم ونحن نحيى في آثارها حياة المستمتع بأيامه ولياليه، وما أيامه ولياليه إلا بنات فلك الاستعمار، لا بنات فلك الشمس والقمر. وأنا لا أعني بهذا بلاغة ولا شعراً، ولكني أحسست ذلك كله وأنا أقرأ هذه المجموعة ساعة بعد ساعة. فهذا المفكر الخبير، قد استطاح بحسن إِدراكه وبقوة بيانه وبدقة ملاحظته، أن يفتح عيوننا على الخيوط التي تنسج منها حياتنا تحت ظلام دامس قد أطلقة المستعمر ليخفي عنا مكره بنا وخداعه لنا، فإذا تم نسيج هذه الحياة، لبسناها كأنها حياة نابعة، من سر أنفسنا، وبذلك يتمكن أن يقودنا كالأنعام، ونحن نحسب أننا إنما نقود أنفسنا، وأننا نتصرف في هذه الحياة تصرف الحر الذي لا سلطان لأحد عليه. وهذا هو المعنى الذي يرمي إليه الأستاذ مالك باصطلاحه الذي وضعه وهو ((قابلية الاستعمار)). وليس يخالجني شك أننا لن نظفر بما تتمناه قلوبنا، ولا بما تتبجح بذكره ألسنتنا، من حرية، أو استقلال، أو مجد أو كرامة، إلا إذا استطعنا أن نفكر في أمورنا تفكيرا صحيحا، مؤسسا على أصل من التنبه واليقظة والإِدراك. وظهور رجل مثل مالك بن نبي من بين شعب لقي من نكبة الاستعمار ما لم يلقه شعمب إسلامي آخر باعث على الرجاء والأمل، فأنا لا أعرف فيمن قرأت لهم أو سمعتهم من الناس ولا ممن في أيديهم مقاليد أمور الشعوب العربية والاسلامية رجلا فيه مثل هذا الحس الدقيق بالنكبة، أو مثل هذا التنبه الشامل للدسيسة، أو مثل هذه الاستقامة في فهم الوسائل المعقدة التي يستخدمها الاستعمار، أو مثل هذه الخبرة بالخسة التي تلبس ثياب النبل والشرف. وإنه ليحزنني أن يكون أمرنا اليوم كما قال الأول ((من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره)). فعسى أن تكون هذه المجموعة من المقالات دليلا مرشدا يفتح به الله عيونا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فيومئذ تتحقق لنا الأمنية التي لا نعيش إلا بها، ولا نسعى إلا إليها. محمود محمد شاكر

مقدمة المؤلف

مقَدِّمَة المؤلف سبق لي أن نشرت في هذه السلسلة دراسة تحت عنوان ـ[الصراع الفكري في البلاد المستعمرة]ـ. ولكنني شعرت خلال بعض ملاحظات أبداها إخوان يهتمون بهذه القضايا، أنه ربما يتبقى- عند من يقرأ تلك الدراسة من دون خبرة سابقة بالموضوع- يتبقى عنده شيء من الإِبهام حول الفكرة العامة التي يعرضها الكتاب. إبهام يتطلب رفعه مزيدا من التوضيح، حتى لا تبقى هذه الفكرة في نظر القارئ مجردة، لا تحيط بها إلا العموميات، وإلا الاعتبارات النظرية التي نفس فكرة الصراع هذا. فالقارئ يريد الدخول في الموضوع عن طريق الظروف الواقعية، والتفاصيل المادية التي تحيط بفكرة الصراع الفكري، كما يحيط الوسط الطبيعي بالكائن الحي الذي يتكون فيه، ويتضمن كل الشروط اللازمة لتكوينه ونموه. إن فكرة الصراع الفكري تكونت عندي في ظروف معينة وفي نطاق تجربة شخصية لم نستطع إلا ذكر بعض تفاصيلها عند الحاجة أما وصفها بالتفصيل فذلك نمسك عنه لسببين: لأن هذا الوصف لا يكون مجدياً إلا في كتاب مذكرات، ولأن بعض التفاصيل لا يتقبلها القارئ، حين يصورها الاستعمار كمبالغة مقصودة، حتى إن الكاتب يخطىء حين ينقلها بقصد الإِفادة. إذ أسلوب الصراع الفكري يفرض أن لا تقال كل الوقائع التي تتصل به، ولا تذكر كل الظروف التي تحيط به في لحظة معينة. فهناك حد وسط يجب التزامه بين الإِفراط الذي يستغله الاستعمار على

أنه مبالغة، والتفريط الذي يستفيد منه أيضاً على أنه سكوت عن بعض الحقائق التي لا بد أن تقال. فرغبة القارئ الذي يريد مزيداً من التوضيح تستحق أن تلبى في هذا الحد بالضبط. فهذا الكتاب يهدف إلى ذلك وقد جمعنا فيه تحت عنوان ـ[في مهب المعركة]ـ بعض المقالات المترجمة، التي كتبت فعلا في ظروف المعركة الواقعية، بما يحيطها أحيانا من غموض عندما يريد الاستعمار أن يسدل الظلام على بعض المواقف المشبوهة التي ليس من مصلحته أن تعرف، وعلى بعض الأفكار التي لا يريد أن يرتفع الى مستواها الرأي العام، وعلى بعض التوجيهات حتى لا تصير واقعاً اجتماعياً. إن المقالات المترجمة التي جمعناها في هذا الكتاب تتضمن هذه العناصر التي تكون مادة الصراع الفكري، وواقعه اليومي. الواقع الذي يريد الاستعمار أن يسدل عليه ستاراً من الظلام، حتى يبقى الرأي العام في قيود لا تراها إلا عين بصيرة وحتى يبقى الفكر في أغلال ما يسمى ((الواقعية)) وهي جحود الواقع، وحتى تبقى السياسة سوقا تشترى فيه الضمائر وتباع، ويبقى النشاط الاجتماعي معطلا بسبب شروط سلبية تفرضها إرادة خفية على حياتنا، ويجعلها من له بها صلة في بلادنا، مبررات فشلنا. إننا ننشر هذه المقالات لأنها تعبر عن ذلك الواقع المرير الذي يدركه القارئ من دون تعليق من طرفنا، مع أننا نأتي أحيانا ببعض التعليق على الهامش عندما نراه ضروريا. وننشرها لأنها تتصل بهذا الواقع من نواح مختلفة، من الناحية التاريخية عندما تصف ظروفا معينة مهدت للثورة الجزائرية مثلا، ومن الناحية العلمية عندما تضع بعض جوانب الاستعمار الخفية تحت المجهر، ومن الناحية الاجتماعية عندما تحاول فك بعض العقد وبعض المركبات التي نشأت في نفوسنا من مواجهة

بعض المشكلات التي لا زالت قائمة في البلاد الإسلامية، كمشكلة المرأة ومشكلة التراب، ومن الناحية الثقافية عندما تحاول توسيع الفكر عند شبابنا المثقف حتى يكون في موقفه إزاء بعض القضايا المتصلة بمصير الإنسانية وبمصيرنا، أكثر وعياً وأكثر فعالية. القاهرة في 27/ 8/ 1961 مالك بن نبي

الفصل الأول الإستعمار تحت المجهر

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الاِسْتِعْمَارُ تَحْتَ الْمِجْهَرِ • سيكولوجية الإستعمار • الإستعمار يفتح وجهة ثالثة في التاريخ • الفوضى الإستعمارية ــــــــــــــــــــــــــ

سيكولوجية الاستعمار

سِيكُولُوجِيَّةُ الاِسْتِعْمَارِ الجمهورية الجزائرية في 26/ 3/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ لست أريد أن أقدم كتابا يدرس الاستعمار على طريقة التحليل النفسي، وبالخصوص لأن هذا الكتاب ظهر سنة 1948، وحاز على الشهرة حين ظهوره. ولست أريد ذلك من ناحية أخرى، لأنني أعلم خطورة الظروف التي تحيط بالشباب الجزائري، في اللحظة الحاسمة التي يمر بها وهو يتطلع لـ ((الحقيقة الفعالة)) (¬1) أكثر مما يتطلع إلى حقيقة نظرية مجردة، ربما لا نفي بحقها إن لم يسبق لنا أن باشرنا أفكار فرويد والأساتذة الآخرين الذين أسسوا معه علم النفس. ولكن بالنسبة إلى هذا الجانب النظري، فلنقتصر على الإشارة إلى النبذذ التي وفق الناشر في وضعها على غلاف الكتاب، كي يعطينا فكرة عن شخصية صاحبه وعن صلته بعلم النفس ... وهكذا يعطينا فعلا صورة ملخصة عن شخصية المسيو منوني، وعن اهتمامه بمشكلات علم النفس حيث كان يدرسها مع الأستاذ شارل بلونديل، عندما شغل بمدغشقر، كرسي الدراسات الفلسفية الذي أسسه هناك الأستاذ هنري بولهان، ثم استمر في تكوينه الخاص بمعية الدكتور لا كان بباريس. فها نحن قد تزودنا بخبرة كافية عن مؤهلات المؤلف- إذا صح التعبير- لاستخدام علم النفس التحليلي في مثل هذا الموضوع، وهو يعرف قيمة هذه الوسيلة العلمية، ويعرف أنها ليست معصومة ولا مطلقة في اكتشاف الحقيقة، وهو يعلم زيادة عن هذا أن ميدان علم النفس التحليلي محدود، يختلف عن ميدان ¬

_ (¬1) كتبت هذه السطور قبل اندلاع الثورة الجزائرية بسبعه أشهر.

علم الأخلاق وميدان علم الحياة، أو علم ما قبل التاريخ ... ويستدل على هذا بنكتة طريفة يذكر فيها مغامرة بعثة علمية، ذهبت إلى إفريقيا الوسطى من أجل دراسة بعض العينات من القردة، فاكتشفت، أو اعتقدت أنها اكتشفت، حالة نفسية معينة تميز تلك القردة بينما يكشف علم النفس التحليلي أن تلك الحالة لا يمكن أن تكون إلا حالة ((أنا)) متحضر. وهذه القصة المضحكة تعني أحد شيئين: إما أن الحالات النفسية ليست محددة بالكائنات التي تتصف بها، وأن علم النفس التحليلي أكبر خطأ حدث في تاريخ العلوم، وإما أن البعثة العلمية أخطأت في استخدام هذا العلم حتى إننها التقطت صورة نفسية، اعتقدت أنها صورة القردة المدروسة، بينما هي صورة الدارسين ... منعكسة على موضوع دراستهم. وعندما يذكر منوني هذه القصة الطريفة، فإنه يشعرنا بأن الغرور الذي يسمى ((الانحراف المهني)) لا يستولي على عقله، وهذه المناعة من الخطأ الذي يقع فيه من يجمد على المنهج، تزيد في قيمة الدراسة التي يقدمها إلينا منوني، خصوصا وأننا نعتبر هذه القصة من حيث الموضوع أكثر مما نعتبرها من حيث المنهج. إِن الواقع الاستعماري يهمنا في حد ذاته، قبل كل شيء، فالكتاب يلقي الضوء الكشاف على هذا الواقع، ولكنه يكشف لنا مجهولات أخرى، لا تتصل مباشرة بالموضوع، فتخرج هذه المجهولات من ظلمة جهلنا لتصبح في ضوئه معلومات جديدة تثري بصفة عامة دائرة معارفنا، مثل تلك الفكرة التي يعطيها منوني عن التناسب الغريب الموجود بين ((وحدة المكان)) أو الجانب الموضوعي و ((وحدة الإنسان)) أو الجانب الذاتي، فيفسر المؤلف بذلك النزعة العنصرية، أي الشيء الأساسي في نفسية الاستعمار، على أنها أثر لفاصل نفسي يجزىء الذات أو وحدة الـ ((أنا))، عناما يسقط هذا الفاصل الذاتي على سطخ الجانب الموضوعي ((وحدة النوع البشري)) فيجزئه إِلى جزأين، أحدهما له السلطة

والسيادة، والآخر عليه السمع والطاعة، كما يعتقد من يدين بالعنصرية. وفكرة هذا الفاصل الذاتي شيء جدير بكل اهتمام في دراسة الواقع الاستعماري كظاهرة، والمؤلف يبين هذا الفاصل في الضمير الأوروبي، ولكن دون أن يحدد نقطة بدايته في التاربخ، وربما طابقت هذه النقطة اليوم الذي اكتشفت فيه أوروبا، في أعماق نفسها، ما أطلقت عليه ((ابن المستعمرات))، أو ((الإنسان الملون)). وحيث لم يكن لدينا، أكثر مما لدى منوني، من معطيات التاريخ ما يكفي لتحديد تاريخ هذا الانفصال في الضمير الأوروبي، فقد كنا في دراسة سابقة (¬1) قدرنا هذا التاريخ بصورة تقريبية في العهد الروماني، في العهد الذي كانت فيه الحروب الفينيقية، بما تتصف به من شدة معاملة تعبر عنها تلك الكلمة المأثورة التي كان يرددها كاتون في كل مناسبة ((لا بد أن تحطم قرطاجة)) كانت تلك الحروب إرهاصا للحروب الاسعمارية كأنها تنذر بتلك المذبحة التي ستحدث في أمريكا يوم ينزل بأراضيها بيزار. وإذا كان منوني يقتصر على اعتبار الأشياء في العهد الاستعماري الحديث، فإنه اعمى هذا قد قدر العوامل الاقتصادية والسياسية والستراتيجية التي تتصل بالنزعة الاستعمارية اتصالا تكوينيا، مع ذلك فهو يعتبر أن هذه العوامل كلها ((تؤدي مفعولها، كأسباب، في عقول مهيأة نفسيا)). وهذا الاعتبار يمثل إلى حد ما المدخل المنهجي الذي ندخل به إِلى نظرية منوني، حيث ينشأ عنها مفهوم أولي يسميه ((موقفا استعماريا)). إن ((الموقف الاستعماري)) ينشأ في نظر منوني كل مرة ينعكس فيها الـ ((أنا)) الأوروبي خارج إطار أوروبا، أي كل مرة يقع فيها اتصال بين ((الأوروبي)) و ((الأهلي)) ¬

_ (¬1) كتاب شروط النهضة، فصل المعامل الاستعماري.

وإننا لنعرف، عن طريق علم الأجناس، معرفة كافية من هو الأول، ولكن من هو الثاني؟ الجواب هو: أن كل رجل غير أوروبي فهو ((أهلي)) بتعبير اللغة الفرنسية (( Indigène)) أو بتعبير اللغة الإِنجليزية (( Native)). وأما شذوذ اتصالهما، الذي ينشىء الموقف الاستعماري فإنه صادر عن الفرق، الذي يلاحظه المؤلف، بين ((حرب استعمارية)) ومجرد حرب، يعبر عنها بالمصطلح العادي. فنحن ندرك أن الدراسة منذ مقدمتها الأولى، ستتخذ اتجاهين: أحدهما خاص بدراسة ((المستعمِر)) والآخر خاص بدراسة ((المستعمَر))، وأن المعطيات النفسية الخاصة بهذين الاتجاهين هي التي تصوغ بالتالي التركيب الذي يطلق عليه منوني ((المواقف الاستعمارية)). ولا شك أننا كنا ننتظر في الكتاب بعض الملامح، التي تعودنا، بمقتضى تجربتنا كمستعمَرين، أن نرى فيها ملامح ((المستعمِر)) ولكننا نتساءل هل يعترف المستعمَر، مثل ابن جزيرة مدغشقر الذي كان موضوع دراسة منوني على وجه الخصوص، هل يعترف بتلك الصورة التي يعطيها له منوني عندما يسمه بتلك السمة التي يطلق عليها مركب التبعية Complèxe de dépendance؟ ومهما يكن في الأمر فربما كان الشعور بالذات يحس بمعاكسة سواء عند ((المستعمَر)) إن لم يعترف بهذه الوصمة التي يصفه بها منوني، أو عند ((المستعمِر)) عندما يشعر أن المؤلف كشف بعض ملامحه الخفية، مثل تلك الوصمة التي يصف بها، الأوروبي في المستعمرات، على أنه لا يطلب فقط الفائدة المادية ولكنه يرغب أيضا في بعض الملذات النفسية الخطيرة. فكل من عنده فكرة مسبقة عن بعض المذابح التي سجلها التاريخ في رصيد الاستعمار منذ سنة 1945، ويعرف ما كان فيها من تفنن سادي في الوحشية،

يدرك إلى أي نوع من ((الملذات)) يشير المؤلف بهذه الكلمة. ومهما يكن من أمر، فإن الصديق الباريسي الذي عرفني بمنوني، أراد أن يلفت نظري بصورة ما، إلى وجه تشابه بين ما يسم به المؤلف شخصية الملغاش أي ابن المستعمرات بصفة عامة عندما يصفها بـ ((مركب التبعية))، وبين الحالة الخاصة التي تكون عليها الشعوب المستعمَرة، وقد أشرت إليها في بعض دراساتي بمصطلح ((قابلية الاستعمار)). ولكنني لا أرى وجه التشابه الذي يشير إليه صديقي على أنه ذو مدى بعيد، هذا إذا أخذنا في حسابنا العناصر الخاصة بكلتا النظريتين ولسنا نتساءل هنا!! هل سلوك التبعية الذي اتخذه المؤلف موضوع الدراسة في البيئة الملغاشية، هو خاص بهذه البيئة، أم إنه يتعدى حدودها ويكون قاسما مشتركاً لكل البلاد المستعمرة بالصورة التي يعتقدها صاحب الكتاب!! إنني لا أتصور في الشمال الأفريقي مريضا يقول للطبيب الذي عالجه وشفاه: ((أنت الآن أوروبيني)) أي أن يجعل بينه وبين رجل آخر صلة الملكية، التي تعبر عن ((سلوك تابع)) وعن موقف استعماري ينشئه تلقائيا سلوك فرد ملغاشي إزاء طبيب أوروبي عالجه. وربما لا يكفي هذا كمقياس نميز به بين التبعية بمصطلح منوني وبين القابلية للاستعمار بالمصطلح الذي استخدمته، وهو ليس موضوع حديثنا بخصوص هذا التمييز إلا بصفة عابرة ومن أجل رفع الشبهة، لذا نقتصر على القول الذي يوضحه مما سيأتي: إن الفرق بين الحالتين اللتين يعبر عنهما كلا المصطلحين هو أننا من ناحية في مواجهة مركب مجتمع (المجتمع التابع) يكون قد بلغ حالة الركود وانتهى إلى التوازن الجامد بتطور نفساني طبيعي، أو فطري بينما نكون من ناحية أخرى أمام وضع مجتمع قد وصل إلى حالة الركود إثر نكسة اجتماعية، أي أننا في الحالة الأولى أمام مجتمع متماسك متجانس تكون الصلات العمودية فيه ((الأسرة)) أداة تماسك قوي للمجموعة كلها وفي الحالة الثانية أمام مجمتع متفكك منقسم إلى ذرات، تكون الصلات الأفقية فيه ((المجتمع))

تلك التي من شأنها أن تربط المجموعة- شعبا أم أمة- قد تحللت نهائيا. ويمكن أن نضيف إلى هذا المقياس الاجتماعي عنصرا نفسانيا يزيد في توضيح الفرق الذي نشير إليه: فالمجتمع الذي يعنيه منوني ينشىء مع الاستعمار صلة نفسية اجتماعية بينما ينشىء المجتمع الذي نعنيه صلة اجتماعيه نفسيه أي إن الأولوية في الحالة الأولى للعنصر النفساني، بينما الأولوية للعنصر الاجتماعي في الحالة الثانية. ومهما يكن من أمر فإن مركب التبعية في نظر المؤلف يكون عند ((الأهلي)) شيئا نظيراً أو مقابلاً للنزعة الاستعمارية عند الأوروبي. وهذان العنصران يكونان بطبيعة الحال موضوع فحص مدقق إذ أنهما يكونان الهيكل النظري الذي بنيت عليه الدراسة التي نتحدث في شأنها وندخل فيها هكذا بهذه التمهيدات مع ما يضيف إليها منوني من توضيحات لازمه، كالفرق بين الشخصية وهي ما تعطيه الوراثة الاجتماعية وانتاج الحضارة وبين ((الفرد)) وهو ثمرة كمية سلالية معينة. وهكذا يتبين أن الشيء الذي يطبع سلوك الفرد ليس لونه، أي الكمية السلالية، ولكن ثقافة البيئة التي ينشأ فيها. وعليه فالبحث يتجه في هذا الاتجاه، فالمؤلف يدرس من ناحية التطور الذي أدى إلى ظهور النزعة الاستعمارية في أوروبا، ومن ناحية أخرى التطور الذي أدى إلى ظهور مركب التبعية بمدغشقر على سبيل المثال. وفي كلتا الحالتين يرجع المؤلف- طبقا لمنهج علم النفس التحليلي- إلى مرحلة الطفولة. فهو يرى أن ((التبعية)) تنشأ من شعور الطفل بعجزه، ذلك الشعور الذي يتكون وينمو عند الطفل الملغاشي بقدر ما يشاهد من قوة وحول عند والديه، وعند والده على وجه الخصوص، فيشعر أمامهما بمركب نقص، يحاول التخلص منه بتحويره إلى ((مركب تبعية)): المركب الذي ينزع من الطفل الفكرة والرغبة

في تكوين إرادة وسلطة شخصيتين، حيث لا يرى فيهما جدوى، بل يراهما مستحيلتين. وعليه لا يبقى للطفل الملغاشي، في نظر المؤلف إلا أن يتقبل هذا الوضع كشيء طبيعي، ويرى في سلطة والديه الجبارة شيئا لازما لراحته، بل ((المرجع الأعلى)) عند الحاجة، أي أن الطفل ((الأهلي)) سيضع تلك السلطة في المكان الذي تضع فيه أوروبا مبدأ دينيا، ويلاحظ المؤلف في هذا السياق أن ((فرار الأوروبي)) من ((سلطة واقعية)) باسم ((سلطة معنوية))، هو الشيء الذي يكون العنصر الأول للتمييز بين الحالتين، إذ أن هذا ((الفرار)) هو ما طبع الحضارة الغربية وحدد حركتها التطورية. وعلى كل، فإن الطفل- أينما كان- يخشى حالة ((الضياع)) Abandon ويعمل في الحقل العائلي كي لا يقع في ضياع ما. فالقانون العام، هو أن ((التبعية العائلية)) تنشىء المشكلة السيكلوجية نفسها في كل مكان، والمأساة نفسها التي تواجه الصبيان، ولكن الحل لهذه المشكلة وهذه المأساة هو الذي يختلف من مكان إلى آخر: فالطفل الأوروبي، حسب رأي المؤلف، يصفي مركب التبعية العائلية بكبته أو بتبخيره (أي يحوله إلى حالة أخرى) فيتقبل مواجهة ((حالة الضياع))، ويتمثل الـ ((أنا)) عنده مركب النقص الذي ينشأ عن هذه الحالة، بينما يتقبل الطفل الأهلي ((حالة التبعية)) كي يتخلص من مركب النقص ومن الشعور بـ ((الضياع)). وهكذا تنشأ، وفق رأي المؤلف، شخصيتان، ترتبط الأولى بـ ((علاقة عمودية)) ((حماية الأجداد المهيمنة)) والأخرى تواجه ((عقدة الضياع)) وتتغلب عليها لأنها تتقبل أخطار ((اللا-تبعية)). وهذه الاعتبارات كلها تكون، في نظر المؤلف، المقدمة النفسية لما يسميه ((الموقف الاستعماري)) الذي يتحقق كلما يتدخل الأوروبي بصورة واقعية في

دائرة ((الحياة الأهلية))، وقد نتصور أن هذا ((التدخل)) يحدث غالبا خلال حرب استعمارية تكون نتيجتها الأولى تبديد أو تعكير شبكة الصلات التقليدية التي تربط ((الأهلي)) بالوسط الذي يعيش فيه، كاشفة له فجأة عدم جدواها، أمام صلات جديدة يفرضها المستعمر في صورة ((حماية)) على البلاد المحتلة، ويتقبلها ابن البلاد كتعويض عن الصلات التقليدية التي كانت ترتبط بها راحته الشخصية، وفي هذا الوضع الجديد تمتزج، كما يرى المؤلف، صورة ((الإِنسان الأبيض)) عند ((الإنسان الأهلي))، ((بالأغوار النفسية البعيدة عن الشعور، حيث تمتزج بصورة الجد الطوطمي)). وإذا كان هذا الامتزاج واقعيا، كما يعتقد المؤلف، فإننا نتصور أثره في الحياة الاجتماعية والفردية، ولكن الوثائق التي يستند لها في هذه القضية ليست كلها مسلمات لا تحتمل المناقشة، وبالأخص الوثيقة التي تناولها من الأدب الشعبي، كتلك الأقطوعة التي يقول فيها الشاعر الملغاشي: كيف فتح أهل أوروبا البلاد؟! إن هؤلاء الرجال المدهشين أتوا من وراء البحار بسرعة! والبلاد التي فتحوها أصبحت آمنة. لم يبق فيها قطاع طرق ولا عبيد لأنهم حرروا. إن أصحاب العيون الزرقاء أولوا حول وقوة. إن هذه العينة من الأدب الشعبي الملغاشي لا تقنعنا، لأننا غير واثقين من أنه التعبير الحقيقي عن الفكر الشعبي بمدغشقر، ولأننا نعرف عينات من هذا الأدب في الجزائر، ونعرف أنها لا تعبر عن الروح الشعبي الجزائري، بل نشعر أنها ملفقة تحت إشراف إِدارة الشؤون الأهلية، ونعرف أن الأدب المأجور لا يخص بلاداً دون أخرى، ولا عصراً دون عصر. ومما يؤيد وجهة نظرنا، هو أن المؤلف نفسه، يعترف، بملاحظة على الهامش

تنطق ((بالتقديرات السياسية المغامرة)) التي يعتمد عليها الاستعمار، فهو أحياناً يدعم ويبرر وجوده في المستعمرات بمثل هذه الشهادات. ومهما يكن الأمر، فإن رسم ((الشخصية التابعة)) بما تستلزم من السمات، يرسم، على صورة ما، الجانب ((الأهلي)) فقط في الكتاب الذي يكتمل، بطبيعة الحال، بجانب ((أوروبي)) ملازم للنزعة أو ((الرسالة)) الاستعمارية. فهذه الرسالة تغور جذورها في أعماق الشخصية الأوروبية كما يراها منوني، فتجعلها مطابقة لشخصية ديكارت، بل هو صانعها، لأنه يمثل في نظره الإنسان الذي تخلص من ((رعاية الأمومة)) وتقبل شعور ((الضياع)) كشعور باستقلاله، كشعور بانتصاره على ((خشية الضياع)) مبرهنا بذلك على ثمن وطريق أي تحرر يغنم به الفرد. إن المؤلف يرى في ديكارت الرجل الذي حقق أسطورة بوتي بوسيه Petit Pouset (¬1) واخترع وسيلة الاهتداء إلى الطريق في ((غابة الشك)) كما يرى في المنهج الديكارتي المغامرة التي أتاحت للأوروبي أن يهتدي إلى ((تقديس الوسائل)) محولا ثقته من عالم الطاقات الخفية إلى عالم الطاقات الظاهرة Technique. إننا ندرك هنا التقدير الذي يخص به المؤلف منهج ديكارت كطريقة تحرر، ولكن يصعب علينا في نفس الوقت إدراك السبب الذي جعل المؤلف، كعضو في لجنة تحضير لبرنامج توجيه مدرسي Pédagogie بمدغشقر، يفضل في هذا البرنامج ترجمة بلزاك على ترجمة ديكارت، كأنه لا يعتقد أن تفكير ديكارت سيقوم في المجتمع الملغاشي بالدور التحرري الذي قام به في المجتمع الغربي، أو كأنه .. يعبر هنا عن موقفه بتلك الطريقة التي يشير إليها هو نفسه عند الغربي، ويسميها ((رد فعل لا شعوري أمام الرجل الملون)) وهو على حد قوله ((رد فعل لا تحدد طبيعته بوضوح)). ¬

_ (¬1) هي قصة قزيم يشق طريقه في غابة كثيفة محاطا بالأخطار ومتنقلا من مغامرة إلى أخرى.

ولكن المهم في الأمر، هو أن منوني يصور لنا شخصية الأوروبي بحيث ندرك مباشرة الصلة الدقيقة الموجودة بين الفرد الذي تخلص من ((رعاية الأم)) والذي فارق الوطن الأم: الفرد الذي يغادر وطنه ويشق البحار من أجل أن ((يستعمر)) بلداً بعيداً. ولكن هذه ((الرسالة الاستعمارية)) تطابق، في نظر المؤلف، حالة نفسية غريبة يحللها بكل دقة في شخص روبنسون كروزويه R.Crusoé وفي شخص آخر، بروسبيرو Prospers في إِحدى قصص شكسبير ((العاصفة)) La Tempète فيكشف في شخصيتهما نزعة يعتبرها أساسية في تحديد الشخصية الاستعمارية ويسميها ((الرغبة في عالم خال من البشر))، وفي هذا السياق نراه يكتشف أيضاً نزعة ابن المستعمرات أي مركب التبعية في شخص كليبان، رفيق بروسبيرو الذي يعيش معه في موقف استعماري حقيقي. ولكن ((عندما نشر دنييل دوفويه Daniel Defae)) (¬1) حلمه الذي أودعه في قصته المشهورة، وجدت أوروبا نفسها أنها تحلم الحلم نفسه، أو بعبارة أخرى أن الرغبة في عالم خال من البشر ((صفة نفسية أوروبية شاملة تسم الروح الغربية بصورة عامة)) والمؤلف يرى في هذه السمة بما تشتمل عليه من نزعة ضد البشر، الشيء الذي يحدد الرسالة الاستعمارية في جذورها النفسية. وكأنه في هذا كله يفسر معطيات النفس بخاصيات المكان، أو الاستعمار كظاهرة تتصل بجغرافية أوروبا التي تحدد نظرتها إلى العالم البعيد. ولكننا نلاحظ بدورنا أن سحر البعد على العقول لا يخص أرضاً دون أخرى، ولا عصراً دون آخر بينما لا نجد أثر هذا التأثير الغريب على الاستعدادات النفسية كما أثر عليها في أوروبا حتى بعث فيها الروح الاستعمارية، ونلاحظ بوجه خاص أن سحر ((العالم البدائي)) لم يعمل عمله لأول مرة في أوروبا، بل ¬

_ (¬1) صاحب قصة Robinson Crusoé

نجد أنه أثر على مكتشفين كبار في عصور أخرى، ووجه أصحاب رحلات كبيرة، مثل ابن بطوطة، والمسعودي وأبو الفداء فجابوا العالم المتوحش الخاص بزمنهم، دون أن تستولي على عقولهم نزعة استعمارية بل كا نوا يجوبون البلاد لمجرد المعرفة والفائدة العلمية. وإنه لمن خطأ الأبصار أن نتكلم كما تكلم كلود بورديه، في مقالة خصصها لمظاهرة ططوان (¬1) عن شيء يسميه هذا الصحافي ((الاستعمار العربي بأسبانيا)) وقد بينا في مقالة سابقة أن الاستعمار وجهة ثالثة (¬2) يدين بها تاريخ الانسانية لأوروبا. كما أن أسطورة الجزيرة التي تشتمل على سحر البعد وعلى فكرة عالم غير مسكون، ليست خاصة بالأدب الأوروبي، بل نجد أثرها في الأدب العربي في قصة السندباد البحري وفي قصة حي بن يقظان، دون أن نجد فيه أثر النزعة الاستعمارية. ولكننا نتساءل إذا كانت أسطورة الجزيرة الخالية تعبر حقيقة في الغرب عن الرغبة في عالم دون بشر. فإننا نعرف بعض مظاهر الفكر الاستعماري بالجزائر حتى أننا نجد أنفسنا ملتزمين بشيء من التحفظ أمام هذا السؤال. إننا نعرف على وجه المثال حقد الأوروبي الذي يعيش الواقع الاستعماري في بلد مستعمَر على أخيه الذي يأتي مباشرة من الوطن الأم فالحقد يكون واضحاً إِزاء لجنة التنقيب التي تعين في حالة اضطرارية للتنقيب عن بعض المظالم، كما شاهدنا ذلك هذه الأيام بمناسبة اللجنة التي ذهبت لدراسة الموقف بمراكش الآن ... كما نتذكر أيضاً كيف قوبل بقسطنطينة من طرف الجالية الأوروبية القاطنة بالمدينة رجل دين كبير هو الكردينال ليينار. حتى أننا بعدما نتأمل هذه المظاهر كلها، نتساءل عن مقدار الإِصابة والتوفيق ¬

_ (¬1) المظاهرة التي قام بها الشعب المراكشي بمنطقة الشمال أيام العدوان الغاشم على شخص جلالة الملك محمد الخامس. (¬2) مقالة نشرت في الموضوع ونترجمها بعد هذه المقالة.

في رأي منوني إلي إِزاء النزعة الاستعمارية، التي يسميها الرغبة في ((عالم دون بشر)) أليس من الأصح أن نسميها الرغبة في عالم بلا شهود؟ لأن كل من ينطوي على مركب الجريمة يحتاط من الشهود ويحقد عليهم، فالأوروبي القاطن بالمستعمرات يحتاط أحياناً من أخيه الذي يأتي زائراً من الوطن، لأنه يخشى منه أن يكون شاهداً على جريمته في سلوكه الاستعماري مع أهل البلد .. فالجزيرة البعيدة تكون إذا بالنسبة إليه بمثابة المكان الذي يجد فيه مأمنه المكان الذي لا تدركه فيه سلطة القوانين والأَخلاق والعادات. ومهما يكن من الأمر فتحليل منوني يكشف لنا عقدة مرضية في الرسالة الاستعمارية، ولكنه لا يقف فيما يبدو عند الاحتمال الذي تكون فيه، كما نشعر بذلك أحياناً، هذه العقدة عاملا لا حضارياً أو فاسخاً للحضارة، كما يلاحظ ذلك أميه سيبزر في محاضرة ألقاها أخيراً عن المشكلة الاستعمارية. وهذا العمل الفاسخ للحضارة واضح في ظروف معينة لأن كل مناسبة تتخذ فيها ((فكرة الأوروبي القاطن بالمستعمرات)) الصدارة على فكرة الأوروبي الساكن بالوطن الأم، تكون هذه مناسبة ينتصر فيها الظلم على القانون، والامتياز على الحق، والكسل على العمل، والمادة على الروح. أي أنها مناسبة تنتصر فيها النزعات اللاحضارية على القيم الحضارية، وفيها حركة تنعكس فتصبح سيراً الى الوراء، وعالم ينقلب فيرفع قدميه ويمشي على رأسه. وعندما ننظر إلى الأشياء هذه النظرة، يعترينا شيء من الدهشة، حينما نرى المؤلف يشاطر أكثر من مرة الرأي الاستعماري الذي يرى أن ((المستعمِر)) أجدر من الأوروبي الذي لم يخرج من بلاده في تفهم القضايا القائمة بين الشعوب المستعمَرة والدول الاستعمارية وأنه أجدر بتحديد سياسة هذه الدول فيما وراء البحار، كان القضية قضية اختصاص في جريمة، على مذهب المسيو كاونه الذي يعتقد فيما يخص تونس، أن المشكلة القائمة هناك ليست بين الشعب التونسي المكافح وفرنسا، ولكن بين هذا الشعب والفئة الاستعمارية التي بيدها السلطة

الحقيقية بتونس اليوم، وأن العقدة ليس حلها بباريس ولكن بتونس، أي في مأمن من القانون ومن ((الشهود)). فهذه الملاحظات تدل على جانب ضعف وعلى وصمات سوداء في كتاب مشرق بالنور في نواحيه الأخرى .. ولكن ربما وقع المؤلف بما كان يحذر منه، فقد أراد أن يتجنب التورطات السياسية في كتاب يستولي عليه روح العلم إلا أن صاحبه تورط في بعض التعليقات وبعض الاستنتاجات المستعجلة. ولقد نجد أنفسنا حائرين ونحن نقرأ الكتاب في هذه النقط السوداء: هل نربطها منطقياً بمسلمات الكتاب؟ أم ننسبها إلى ميل في نفس صاحبه إلى المساهمة في بعض الآراء الاستعمارية؟. فعندما نرى الكاتب، بعد إدانته ((النزعة الأبوية)) في نفسية الاستعمار أي النزعة التي تجعل المستعمِر يطالب بحق الرقابة على المستعمَر، بدعوى أنه لم يبلغ رشده، نراه بعد ذلك يستخدم استعارة يستعيرها مما كتب الدكتور أندري برج عن ((الإِنسان العصري)) تراه يطبقها على الملقاشي ويحكم عليه بأنه ((لم يدرك بعد سن اليتم)) أي السن الذي يكون فيه الفرد قد تخلص من سلطة الوالدين وهو يشير طبعاً لسلطة الحماية الاستعمارية. فعندما نقرأ استعارة كهذه في الكتاب، لا نعرف هل نربطها بمقدماته المنطقية، أم ننسبها إلى ورطة يقع فيها صاحبها دون شعور. وهكذا نجد نفوسنا حائرين أمام هذا الحكم ((العلمي)) الذي لا يصيب الحركة الوطنية في مدغشقر فقط، بل يصيب الحركات الوطنية التحررية كلها، وكفاح الشعوب المستعمرة من أجل حريتها، خصوصاً أن المؤلف يقرر بصفة عامة وجود ((نفسية أهلية))، كما كان ليفي بروهل يقرر العقلية البدائية .. بل إن الكاتب يذهب أكثر من ذلك في اتجاه الفكر الاستعماري، عندما يصور ((النخبة البدائية)) كما صورها ليفي بروهل. ويضع على لسان من يمثلها،

في نظره، أي على لسان التلميذ الملون الذي يقول للأستاذ الأوروبي: إِنك علمتني الكلام كي تتيح لي أن ألعنك به!!. وعبارة كهذه تشبه إلى حد كبير ما يقوله المستعمرون عن ((الأهالي)) الذين تتاح لهم فرصة التعلم في الكليات الأوروبية، ((إننا نعطي لهؤلاء عصينا كي يجلدونا بها)). ولكن رغم هذه العبارات، نجد أن النخبة الملونة تتكلم غالب الأحيان في الكتاب لغة كلبيان، (الرجل المقيد بمركب التبعية) وتطالب في النهاية بالطوق وبالعقال: رمزيْ ((التبعية)). ولكن على تقدير أن هذه العناصر التحليلية تدخل حقيقة فيما يسميه الكاتب ((الموقف الاستعماري))، فهل يوحي الكتاب بطريقة حل وبوسائل الحل لمعالجة هذا الموقف؟. وقد يتساءل فعلا الكاتب نفسه في نهاية الدراسة: ماذا نفعل؟ ويرد على نفسه بجواب يستقيه من فكرة بداغوجية لفرويد، فيقول: ((ومهما نفعل، فإننا لا نصيب في الموضوع)). ولكن الموقف يخلق ضرورة مواجهته بصورة ما، مهما يكن فيها من الغموض، ولا شك أن تلك الصورة ستنتج من الاتجاهين اللذين اتجه إِليهما التحليل في الكتاب. ففي اتجاه ابن المستعمرات، يقترح الكاتب تحرير شخصيته من دوافع التبعية، وبعث الروح الديمقراطي في المجتمع الذي يتصف بالتبعية. فيعرض الكاتب من أجل ذلك عدداً من التوجيهات يراها مناسبة لهذا الغرض المزدوج. ولكن هذه التوجيهات تبقى كلها، في نظر الكاتب، رهينة وسائل وإمكانيات تقع تحت تصرف الاستعمار، ((لأن المجتمع الاستعماري لا يترك للكائن المستعمر إلا تبعيته)).

ومن ناحية أخرى، فابن المستعمرات نفسه لا يبدو، في نظر الكاتب، مهتماً بإنجاز تطوره بصورة فعالة، حيث يراه في الحقل السياسي مثلا، لا تتجه مطالبه إلى تصفية ((التبعية)). وهكذا تنتهي الدراسة في دائرة مفرغة تلتقي فيها في نظر الكاتب، نزعات الأوروبي الاستعماري ((المطرود من عالم الآخرين))، ونزعات ابن المستعمرات الذي لم يقم بثورته الفكرية، ولم يحول ثقته من الطاقات الخفية كي يعلقها بوسائل العلم والصناعة. ولكن أليس الحل خارج هذه الدائرة المفرغة؟ في التطور الذي يدفع الحضارة اليوم إلى الشمول والعالمية، أي إلى حالة سيتضطر فيها الأوروبي إلى تقبل واحترام ((عالم الآخرين)) حيث تجدد فيه فكرته عن الإِنسان. ***

الإستعمار يفتح وجهة ثالثة في التاريخ

الاِسْتِعْمَارُ يَفْتَحُ وِجْهَةٌ ثَالِثَةٌ فِي التَّارِيخِ الجمهورية الجزائرية في 13 و20/ 11/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ عندما ينزل جيش أجنبي بأرض شعب، فإن هذا الشعب يكون معرضاً ليرى إما احتلالا مؤقتاً في بلاده، وإما عملية ضم تضعه نهائياً تحت سلطة شعب آخر. وكلا هذين الاحتمالين له خصائصه بالنسبة للشعب الذي يتعرض لهما: فأما الاحتلال المؤقت فإنه لا يؤثر في حياته إلا بصفة عابرة كمجرد حدث يخضعه مؤقتاً لحاجات جيش أجنبي يفرض متطلباته من حيث الأمن والتموين في البلد المحتل وذلك طبقاً لشروط يهيمن عليها قانون عسكري ينتهي نفوذه مع تصفية الوضع الحربي. وأما في حالة الضم فإن الأشياء تتخذ اتجاهاً آخر يؤثر في حياة الشعب الذي جرت عليه عملية الضم من الداخل، حتى إنه يغير أحياناً مصيره في التاريخ بصورة مطلقة، وعندما يقع مثل هذا التغيير، فهو يظهر في صورة مجتمع جديد، تكون فيه البناءات الداخلية نتيجة اندماج خصائص الشعبين العنصرية، مصهورة في بوتقة أسرة جديدة، وهذا الاندماج قد يكون أحياناً مطبوعاً بخصائص أحد الشعبين أكثر من خصائص الشعب الآخر، وليس حتماً أن تكون خصائص الشعب الغالبة هي ذاتها خصائص الشعب المنتصر، فالصين على وجه المثال لم تتخذ طابع الشعوب التي احتلت أرضها عبر التاريخ، كالمغول والمندشو، بل هي التي وضعت طابع حضارتها العريقة على تلك الشعوب. وغالباً ما يكون الاندماج مشتملا على خصائص الطرفين، بحيث يكون أثر كليهما واضحاً فيه، كما وقع في تكوين المجتمع ((السلتي- الروماني)) حيث

اندمجت فيه خصائص العبقرية السلتية والعبقرية الرومانية على حد سواء، بعد واقعة أليزيا، اندماجاً موفقاً رغم الفوارق الجوهرية بين ما يتصف به كلا الطرفين، من مزاج الشمال، ومن مزاج البحر الأبيض. ولكن مهما تكن النسبة التي تعزى إلى كلا الطرفين في هذا التركيب من الناحية الأخلاقية، فإن النسبة الاجتماعية بينهما تكون دائماً على حد التساوي: فالغالب والمغلوب يتمتعان في النهاية بالحقوق نفسها. بل وفكرة هذا الازدواج نفسها تنمحي في النهاية، بحيث يسود المجتمع الجديد شعور وحدته، لا شعور ازدواجه، ولا ينشأ هذا الاتزان الاجتماعي من تصريحات خطابية فيها ما فيها من الرياء، بل ينشأ من صميم الواقع، من التعديلات الطبيعية التي يأتي بها التاريخ في صلات شعبين تعارفا في ميدان القتال، ولكنهما التحما في ميدان الحياة، حيث اضطرتهم مشكلاتها إِلى جمع وسائلهم وحاجاتهم ومكاسبهم وخسارتهم. ومن هذه الاعتبارات العامة، نتصور ما قد يكون الموقف في الجزائر غداة نزول الجيش الفرنسي برأس سيدي فرج: فالجزائر كانت معرضة للاحتمالين اللذين وصفناهما، لولا الاستعمار، فبعد قرن من يوم الاحتلال تبين أن الجيش الفرنسي لم ينزل بأرضنا لاحتلال مؤقت ولا لجرد ((الضم)) بالمعنى التقليدي للكلمتين، لأن الاستعمار أدخل في التاريخ وجهة ثالثة، هي الاستعمار ذاته. إن نزول الجيش الأجنبي برأس سيدي فرج سنة 1830، أعلن حالة الحرب التي دشنت ((الحضور الفرنسي)) بالجزائر، ولكن عبارة ((فرنسي - عربي)) التي صاغها هذا العهد لم تعبر عن الواقع التاريخي الذي نجده تحت عبارة ((سلتي - روماني)) كما تقدم، فما هي إلا تلفيق خطابي لفقه الاستعمار، كي يخفي به حقيقة مجتمع جديد ليس بالعربي ولا بالفرنسي. وحقيقة هذا التلفيق تظهر عندما نعتبر الأشياء بالنسبة إلى نقطة بداية مناسبة.

فلو اتخذنا سنة 1830 كنقطة بداية لتاريخ التطور الاجتماعي بفرنسا والجزائر، لرأينا أن التطور لم يسر في البلدين في نفس الاتجاه. إننا نلاحظ أولا في بداية هذا التطور، أي عندما لم يكن النمو العلمي والصناعي قد أثر في الحياة الاجتماعية ولم يحدد بعد صورتها الجديدة، هنا نجد مستوى المعيشة للشعبين متساوياً. وربما وجدنا الشعب الجزائري يتمتع بيسر مادي أكثر من الشعب الفرنسي، حيث كان الإِنتاج الزراعي متوفراً نسبياً في الجزائر أكثر من فرنسا، كما تدل على ذلك: الصفقات التي عقدتها الحكومة الفرنسية في عهد ((الإدارة Directoire)) مع شركة تصدير جزائرية يديرها يهوديان، وكان الإِنتاج العقلي أوفر بفرنسا حيث كان الشعب الجزائري يتمتع بكل ما ينتج تراب خصب، والشعب الفرنسي يتمتع بكل ما تنتجه حضارة في قمة انطلاقها. ولكن سرعان ما وضع الاستعمار يده على كل الثمرات التي ينتجها التراب الجزائري، والتي كانت تتيح العيش الرغد لكافة الشعب الجزائري، لأن تعاليم الإِسلام لا تترك عنده مجالا لفكر ((الطبقات)) ولظاهرتها، مع ما يتبعها من نتائج متناقضة، تلك المناقضات التي شوهت المجتمع الغربي، حيث كان، ولا يزال أحياناً، يجمع بين الرفاهية المفرطة والبؤس، بين الإنتاج الزائد عن الحاجات والنقص الفظيع في الغذاء. والاستعمار يحاول طبعاً تفسير كل الثمرات التي تنتجها الأرض الجزائرية على أنها ثمار جهده وعبقريته، فهو في هذا ينطبق عليه معنى المثل الشعبي، حين حاول ((تغطية الشمس بالغربال)). ومهما يكن، فقد كان في استطاعة الشعب الجزائري سنة 1830، على الأقل أن يقتفي خطوات الشعب الفرنسي، عبر قرن البخار والكهرباء. بينما نرى في نهاية الأمر، أن الشعب الفرنسي يصل وحده إلى عتبة العهد

الذري .. ونجد الشعب الجزائري قي قافلة المتخلفين، بعيداً عن جبهة التطور العالمي ... لم يخرج بعد من مرحلة الأمية. وعندما نعبر عن هذا الواقع بلغة النسبية، فإننا نقول إن قرنا من ((حياة مشتركة)) لم يخفض من التخلف بين الشعبين بل زاد فيه، وفي هذه اللغة نتصور الأشياء خلال القرن الذي مضى كأن الشعب الفرنسي انطلق إلى الأمام، بينما الشعب الجزائري رجع إلى الوراء. وهذا التخلف بين الشعبين يبدو بطبيعة الحال في الحالة الثقافية في البلدين، ويمكن توضيح هذه الحالة ببعض الأرقام التقريبية إذ ليس لدينا الاحصائيات الأخيرة المتصلة بالموضوع. فلنذكر أن عدد الطلبة الجامعيين يبلغ تقريباً 300،000 طالباً بفرنسا، بينما لا يبلغ عددهم في الجزائر 300 على وجه التقريب، وإذا كان لهذا الرقم معنى من حيث الكم فإن الواقع يكشف وراءه حقيقة الأمر من حيث الكيف. وعلى سبيل المثال، فإِنني أشك في أن العرض الذي نشرته جريدة ((الجمهورية الجزائرية)) في عددها الأخير (¬1) قد يجد صدى لدى بحار جزائري واحد، لأن الاستعمار وضع كل النشاط البحري تحت تصرفه، تطبيقاً لما يسمى قانون ((احتكار الراية))، وهذا الاحتكار قتل في حينه النشاط البحري الجزائري الذي لا ينكر - رغم إِنكار الاستعمار له كي يبرر بذلك نظرية ((الاستعمار المحضر)) - حيث كان صيته معروفاً في الأوطان حتى أن الاستعمار نفسه يدعي أنه إنما أتى لوضع حد لما يسميه ((القرصنة الجزائرية)). وربما استطاع من يريد التسلية والترفيه العقلي أن يجمع هكذا أقوال الاستعمار المتنافية كي يبطلها الواحد بالآخر. ومهما يكن في الحقيقة من شأن ((القرصنة الجزائرية))، فالشيئ الواضح ¬

_ (¬1) العرض يطلب بحارة جزائريين اختصاصيين للشغل في بحرية أندونسيا التجارية.

أن الجزائريين وجدوا أنفسهم مطرودين من الملاحة بقانون ((احتكار الراية))، وسار الأمر على هذا المنوال في كل الاتجاهات الأخرى، أي في جميع ميادين النشاط التي تتطلب تدريباً مهنياً ومعرفة فنية. وهذا الوضع يظهر على وجه الخصوص في صورة أي مدرسة مهنية في مدينة من مدن الجزائر اليوم، فإن المدرسة تضم عدداً من الأقسام يناسب عدد الصناعات الموجودة غالباً في الوطن، ولكن الطالب الجزائري يوجه فيها إلى قسم صناعة الخشب على وجه الخصوص، أي إلى صناعة غير مربحة لأن السوق مكتظ بمن يشتغل فيها، بينما يوجه الطالب الأوروبي إِلى الصناعات الميكانيكية التي لها رواج ومستقبل. وهذا التوجيه ليس من محض الصدف، بل من أثر التوجيه العام للتعليم ((الأهلي)) لأن هذا التعليم ليس موجها في مبدئه لتكوين أطر من الفنيين في الوطن أو إنشاء قيادة صناعية فيه، هو لا يستهدف خلق نخبة مثقفة، وإنما تكوين نواة من برجوازيين صغار يحملون الشهادات، وبالإضافة إلى هذا فإن الثقافة ((الأهلية)) مقدرة بحيث لا تخرج من حدود معينة، وإذا ما أبديت رغبة أو ظهر استعداد في اتجاه خدمة الآخرين، في صورة عمل خيري أو نشاط سياسي، أو في صورة اهتمام علمي، فإِن الصاعقة تنزل على (المجرم) الذي يبدي هذه الرغبة، والجحيم يحيط به من كل جانب. وإِذا ما أبدى (المثقف) أي اهتمام بالهندسة أو بالآلة المتحركة فإن ثمن الإدانة لا يقل عن ذلك. فمنذ سنتين نشرت صحيفة ((التيمس)) مقالة رئيسية عن الموقف في تونس مشيدة بالعلاقات الحسنة بين الفرنسيين والتونسيين، فأشارت إلى أن هذه العالاقات قد نجحت ((لأن التونسيين المثقفين يتصفون بالميل إلى الأدب أكثر منهم إلى التكنيك .. )). إن الإنجليز مشهورون بالمزاح ... فلعل الصحيفة اللندنية كانت تمزح ..

ولكن عندما يتناول هذا البرهان ولي عام سابق، ويظهر لنا كما فعل أخيراً، تعجبه من العدد القليل للطلاب المسلمين المنتسبين إلى كلية العلوم بالجزائر، وعددهم لا يزيد فعلا عن أصابع اليد، فإننا نشعر بثقل هذا المزاح، فلدينا سوابق تذكرنا كيف يفتك بعائلتنا، حين حاولنا بالقدر الصغير الممكن الخروج من حدود ((الثقافة الأهلية)) والقيام بمجهود ما في سبيل تحضير أنفسنا بأنفسنا. ولا يمكن أن نصور هذه الحالة الدرامية بطريقة أحسن من الإِشارة إلى جانبها المضحك، فهناك قصة طريفة ترددها الألسنة في مدينة تبسة، فقد دعي جزائري كان يطلب وظيفة في الإِدارة الخاصة بالشؤون الأهلية، للمثول أمام الحاكم الفرنسي كي يختبره، وبعد أن خرج الجزائري من مكتبه سجل الحاكم هذه الملاحظة، ((فكر خطير: إنه يعرف الحساب إلى العشرة)). ومهما يكن في الأمر، فثمرة هذه ((الثقافة الأهلية)) شاخصة اليوم في حالة البلد الثقافية، حيث تدل دلالة واضحة على أن الخرق قد اتسع، وأن تخلف أولئك المساكين ((الذين يحسنون الحساب إلى العشرة)) بالنسبة إلى التطور العام في القرن العشرين قد تفاقم. وأعراض هذا التفاقم ليست واضحة في المستوى الفكري- مستوى النخبة المثقفة- فحسب، بل هي واضحة أيضاً في المستوى الاجتماعي: مستوى الجماهير الكادحة بل الجماهير العاطلة .. وفي هذا المستوى نجد أسباب التفاقم قد تضاعفت، حين أضيف التعطيل الضخم الذي فرضه الاستعمار على حياة الشعب المستعمر، إلى أسباب داخلية ناتجة عن الجمود الكبير الذي كبل تلك الجماهير بمرض القابلية للاستعمار. ففي سنة 1830 كان الشعب الجزائري يعيش منذ زمن بعيد في حالة شبه نباتية، لقد كان يعيش من أجل المحافظة على كيانه فقط دون تطور ولا تقدم، بل كان يفقد مفهوم التقدم ذاته- ذلك المفهوم الذي يعتبر من ثمار الفلسفة التي

تبعت عهد دروين- قد كان يفقده لأسباب عامة سنذكرها في دراسة أخرى ربما تنشر قريباً (¬1). ولكن الاستعمار أتى وأضاف، في ظروف مناسبة جداً إلى هذه العوامل الداخلية ووطأتها الشديدة، ظروفاً تسارعت فيها عوامل التعجيل، وقد بدأت عملها في تطوير الشعوب المعاصرة ... منذ سنة 1830 تقريباً، حين بدأت تظهر فيه النتائج الاجتماعية للحركة العلمية العصرية وللتصنيع. فالشعب الجزائري حرم من النتائج هذه كلها، لأن رفع مستوى المعيشة في أوروبا، ورفع المستوى الثقافي، مع النتائج التي حققتها الحركة النقابية، مع تحديد حقوق العامل، كل هذه الأشياء تحققت بعد نزول الاحتلال برأس سيدي فرج، أي بعد حدث يعتبر رئيسياً سواء بالنسبة للشعب الجزائري، أم بالنسبة للشعب الفرنسي، الذي سيجد نفسه مندفعاً في تيار التعجيل بالوسائل العلمية والصناعية التي أشرنا إليها، ومن بينها الوسائل التي حصل عليها باحتلال الجزائر، في الوقت الذي سيجد الشعب الجزائري نفسه محروماً من تلك الوسائل وبسببها محروماً من وسائل العلم والصناعة. فمن هذه الناحية، يمكننا فعلا أن نعتبر الوضع الاستعماري في البلد كعملية حجر على موارده كلها لحساب المستعمِر وحده: عملية حجر في صورة شركة مساهمة يحمل أسهمها الأوروبيون فقط ويديرونها لمصلحتهم فقط، فكان لهذا الانفراد الأوروبي بالمصلحة الجزائرية، أن يؤدي بطبيعة الحال إلى وضع يحمل نزعة ضد ((أهالي)) البلد، كما تؤدي إليه في أقصى نتائجها تلك اللائحة التي وجهها الملك شارل العاشر إلى الحكومات الأوروبية قبيل الاحتلال وبقيت في تقاليد الكي دورسيه ((وزارة الخارجية الفرنسية)) في تحديده السياسة الاسلامية للحكومة الفرنسية في عهودها الثلاثة: الملكية والأمبراطورية والجمهورية. ¬

_ (¬1) ذكرت هذه الأسباب في كتاب ((وجهة العالم الإسلامي)).

ولكن يبدو أن العهد الجمهوري كان منذ سنة 1875 أوفى هذه العهود لذلك التقليد، حتى رأينا سنة 1951 وزيراً فرنسياً، هو المسيو مايير يواجه الانتخابات البرلمانية تحت شعار ((وحدة الأوروبيين)) و ((وفاء المسلمين)). وهكذا نرى كيف هذا ((الاكسلانس)) الجمهوري يعرف الفرق بين الكع والبع ويلح عليه ... وعليه، فإِنه لم يبق للشعب الجزائري إلا أن يتبع تطوره الخاص وبدون وسائل تقريباً، على هامش ((وحدة أوروبية))، تدير شؤون بلاده بمفردها. وما التخلف الذي نشاهده اليوم في تطور الشعب الجزائري إلا نتيجة هذه الإدارة منذ سنة 1830، بعد أن نأخذ في الحساب الأسباب التي تعود إِلى القابلية للاستعمار. ***

الفوضى الاستعمارية

الْفَوْضَى الْاِسْتِعْمَارِيَّةُ الشاب المسلم في 26/ 2/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ كيما يبرر الاستعمار استبداده التام في العالم لابد من تعقيم ثلاثة أرباع الأمة لتصبح غير قادرة على الخلق والإدراك، وهذا التعقيم ليس العملية الوحيدة من نوعها التي ندين بها للاستعمار، بل ندين له بشيء آخر: لقد عقم أيضاً المفاهيم القانونية والقيم الأخلاقية التي قامت عليها، كقواعد عامة، علاقات الشعوب والأفراد. ومن بين هذه المفاهيم والقيم، تلك القاعدة التي تسير عليها الأحوال الشخصية في كل مجتمع، حين ينصب العرف أو السلطة الشرعية من يقوم بمصالح القاصر حتى يبلغ رشده، شريطة أن لا يسرف في تلك المصالح، إذ عليه أن يتصرف بما يفيد القاصر رعاية لمصالحه وتمريناً له على تدبر شؤونه بنفسه. وليس مفهوم ((الحماية)) في العرف الدولي الخاص في عهد الاستعمار، إِلا امتداداً لمفهوم ((الحضانة)) في العرف الشخصي، مهما يكن في هذا الامتداد من تعسف نحو حقوق الشعوب المستعمرة. ولعله من الممكن أن يحدث الانتقال من نطاق القانون الشخصي إلى نطاق القانون الدولي تغييراً ما في صورة المفهوم الذي يجري عليه مفعول هذا الانتقال، ولكن الذي هو غير طبيعي أن يصبح هذا التغيير قلباً لمفهوم الوصاية على القاصر في القانون الشخصي حتى ينعكس معناه في إطار المفهوم الدولي. إن لدينا في مفهوم ((حضانة)) مقياساً طبيعياً نقيس به من الوجهة الأخلاقية والقانونية، مفهوم ((حماية)).

وإننا محقون في الرجوع إلى هذا الأصل الفقهي، لا سيما ونحن لا نرى من يلجأ إلى الاعتزاز بالقانون واحترام المعاهدات كالاستعمار، يخفي بجمله الرنانة شراسته الملتهمة ولا نرى مثله يعتز بالأخلاق ليخفي بشعاراته نفاقا مرضيا. على أن الشيء الذي تعارف عليه الناس، هو أنه إذا حدث في تصرف من تسند إليه حضانة قاصر، أي أمر يخل بمصلحة هذا القاصر، فان المجتمع يتدخل باسم العادات كي ينهي فضيحة لا يحتملها العرف وكي يلغي خضانة لا تفي بشروطها. وهذا التدخل يصبح حاسماً إذا كان الخلل لا يعني فقط الإِسراف في أموال القاصر لحساب مصالح شخصية أخرى، بل يستهدف إبقاء القاصر في حالة قصور، بوسائل غير شريفة، بتزييف إدراكه وفكره، وبتلويث طبيعته. ففي الحالات هذه جميعها تصبح الحضانة منافية للأخلاق، ويلغى تلقائيا عقدها، طبقا للتقاليد التي تعتز بها الإِنسانية. ولكن مهارة الاستعمار في إخفاء أو إِنكار الواقع لا يفوقها شيء، كما تدل على ذلك وقائع مشهورة كاختطاف الملكة رنافالو، ملكة مدغشقر (¬1) وكقصة ملكة أخرى حكمت كوريا قبل الاحتلال الياباني، أو كما تدل أعمال لصوصية أخرى يفسرها الاستعمار على أنها عقود ومعاهدات كميثاق ((الجزيراس)) الذي قرر مصير مراكش وفتح هذه البالاد للاستعمار، أو عقد قصر الباردو الذي وضع تونس تحت الحماية الفرنسية. كما أنه لمن المهارة أن يضفي الاستعمار على عمليات استغلال وقرصنة ألقابا رنانة مثل ((رسالة تحضير)). ولكن الاستعمار لا يقتصر على هذه المهارة بل يتعداها إلى النكران السافر للواقع الملموس، فالمستعمرون لا يقتنعون بمجرد الإِسراف في ثروات الشعوب ¬

_ (¬1) الملكة التي اختطفها الجنرال غالبيني كي يبرر بوحودها بين يديه وبسكوتها المحتم قبول الحماية الفرنسية على الجزيرة الكبيرة.

التي تضعها حظوط سيئة تحت ((حضانتهم)) إنهم لا يقتصرون على أن يكونوا مسرفين في أموال ((القُصَّرْ)) ليذهبوا يوما- وفي بطونهم حقوق مهضومة وفي وجوههم شيء من الخجل- حين تحل بهم لعنة الخلق وإدانة العدالة، ويخزيهم الناس بما ارتكبوا من اختلاس ومن إسراف. فالاستعماريون ليسوا بسطاء ليقفوا هذا الموقف لذا تراهم بعد اختلاس مصالح ((القاصر)) الذي وضعه سوء حظه تحت ((حمايتهم)) يختلسون ذاته فيقررون أنه ((قاصر)) إلى الأبد، وبذلك يفقد مفهوم ((الحضانة)) نفسه معناه الشرعي والأخلاقي ويمسخ في مصطلح ((حماية)). ومن الوقائع التي تدل على هذا المسخ الذي يعقم مفهوما من المفاهيم ويسلبه كل محتواه الأخلاقي وكل مضمونه الإِنساني، نقتطف واقعة صغيرة نوهت بها الصحافة منذ سنتين، عندما قدرت السلطات الامريكية القائمة ببناء القواعد العسكرية بمراكش، أن تكون أجور العمال المراكشيين الذين تستخدمهم، هي نفسها الأجور التي قدرتها للعمال الآخرين من الأجانب ... حسنا فهذا أمر قد يسعد ((سلطات الحماية)) في مراكش، حيث أنه يحقق لرعاياهم، أو ((القُصَّر)) الذين وضعهم الحظ في حضانتهم، ما يستحقون وما يرغبون من أجور ... حسنا! ... ولكن سرعان ما تقدم المقيم العام الفرنسي بالرباط للسلطات الأمريكية لا بالشكر على حسن المعاملة للرعايا الموضوعة تحت رعايته، ولكن تقدم بالاحتجاج ... محتجاً بأن الأجور قدرت للعمال المراكشيين فوق ما يستحقون! ... فها نحن إِذا في تلك الحالة الشاذة، التي تتيح لنا مقارنة مفيدة على قاعدة القانون الذاتي، الحالة التي يقوم فيها من وضع ((قاصر)) تحت رعايته، بإجراءات خصوصية كي يسلب هذا القاصر حتى من ثمن عرقه، ومن ثمرة عمله ...

فهل من حاجة إلى القول بأن مفهوم ((الحضانة)) قد مسخ البتة في مثل هذه الحالة، وأننا نجد أنفسنا فيها أمام وضع مثير بما يحتوي عليه من شذوذ. هذا الوضع هو الصورة الحقيقية لموقف الاستعمار إزاء مصالح الشعوب المستعمرة المعنوية والمادية. وعندما نعبر عنه بمصالح القانون الذاتي- كما فعلنا هنا- ندرك أنه موقف لا يتلاءم مع أي مفهوم شرعي. والواقع أن الاستعمار يذهب إلى أبعد من ذلك في الشذوذ. فهو لا يستهدف تحطيم ((القاصر)) ماديا فقط، بتطبيق ما يتطلب هذا التحطيم من اختلاسات حقوق، وسلب أملاك، وفرض مخالفات مشتركة، وضرائب من كل نوع، ومن تنمية البطالة في البلاد إلى درجة لا يتصورها العقل .... إن هدفه أبعد من ذلك، فهو يريد تحطيم كل إرادة أو شبه إرادة تدفع الإِنسان المستعمَر إلى التقدم والحضارة، ببرنامج يتضمن كل ما يتطلبه هذا التحطيم العنوي، من تلويث أخلاقي يحط أولا من قيمة الفرد الشخصية، ومن كفاءته، ومن جهده في المسابقة الاجتماعية، لأن هذه المسابقة تجري بحيث تكون المحسوبية هي الشرط الوحيد للنجاح فيها، كما أن الشرط الوحيد للنجاح في الانتخابات في البلاد المستعمرة هو رضاء الادارة الاستعمارية على الذي يفوز فعلا ويلقب ((النائب الحر)). كما تصبح من ناحية أخرى المخدرات والكحول مؤسسة من مؤسسات الحكم، لا يقف أحد إِزاءها موقفاً عدائياً إلا ويعرض نفسه كيما يُعَلَّمَ عليه في ملفات البوليس بأنه ((شخص خطير)). إنه يمكننا أن نلخص هذا الجانب في كلمة واحدة: إنه أيسر على ((القاصر)) أن يحصل من السلطات الاستعمارية على رخصة فتح مقهى من أن يحصل على رخصة فتح مدرسة. وحتى رخصة المقهى فإنها خاضعة لبعض الشروط: يجب أن يكون المقهى ميدانا معدا لكل ما يخالف الأخلاق من قمار، ولكل عمل مشبوه

فيه، وإلا ... فإنه يغلق أبوابه بأمر من السلطات الاستعمارية ... عند أول فرصة. لقد استمعت، سنة 1932، إِلى محاضرة في أحد المعابد البروتستانتية بباريس، يذكر فيها المحاضر، في نطاق حديثه عن العالم الإِسلامي، القصة الغريبة التي حدثت لمقهى عربي، بإحدى ضواحي العاصمة: فصاحب المقهى كان لا شك مسلما يعمل بأوامر دينه، حين لا يتعاطى المشروبات المسكرة، ولا يسمح بالقمار في محله ... وسرعان ما وجد نفسه، هذا ((الشخص الخطير)) في مضايقات أحاطه بها البوليس في كل يوم. ولقد أدرك هذا الرجل خطورة انتهاج سبيل الفضيلة فتركه ليمشي في سبيل الرذيلة، حينئذٍ تركه البوليس يتنفس. فنحن ندرك على ضوء وقائع كهذه، الخطة السرية- ويكاد السر هنا يكون مكشوفا- التي يتبعها الاستعمار لتلويث المستعمَر والحط من كرامته، حتى لا يبقى له أي استعداد ولا عدة للتطور إِلى ما هو أحسن أدبياً ومادياً. وهكذا ... كلما وضع الاستعمار الترتيبات اللازمة لإفقار المستعمَر مادياً، فإنه يتبعها بالترتيبات الخاصة بتلويثه الأخلاقي، ليزيد الافقار والتلوث معاً في اتساع الهوة التي يجعلها أمام ((القاصرة)) حتى لا يستطيع بلوغ رشده أبداً. وهكذا ندرك لماذا يفضل الاستعمار شيئا من الغموض حول مواقفه إزاء قضية تحرير الشعوب المستعمرة، حتى إذا اضطرته الظروف الدولية للحديث في مثل هذا الموضوع، فإِنه يفضل أن يتحدث عن ((مراحل التحرر اللازمة)) دون أن يحدد طبيعة هذه المراحل ولا مدتها. هذا بالنسبة إلى المستوى الدولي، أما بالنسبة إلى علاقة ((الحامي)) بـ ((القاصر)) مباشرة، فإن الأشياء تكون على جانب أكثر من الوضوح: فكل مطالبة من قبل ((القاصر)) للمستعمر كيما يعترف برشده يعتبر خروجاً عن الطاعة، وصاحبه يرتكب في نظر الاستعمار، أو في أقواله،

جريمة ((التعصب)) و ((العنصرية)) والحقد على الأجنبي، أي أنه يتهم بارتكاب تلك الجرائم التي تضع صاحبها تحت رحمة قانون قمع يطبق بصورة رسمية في محاكمات مزعومة، أو عن طريق التنفيذ الخاص، حين تطبق ((القانون)) إما ((يد حمراء)) وإما ((يد بيضاء)) كما تنقل لنا الصحافة من حين إلى آخر. وفي مثل هذه الظروف قد يتعرض ((القاصر)) إلى القتل الشنيع بكل بساطة مثل فرحات حشاد وهادي شاكر. القضية في منتهى الوضوح إذن، في نطاق الأحوال الشخصية، فكل موقف يتضح فيه شذوذ ((الحاضن)) فإنه يؤدي قطعاً وعلى الفور إلى نتيجة قانونية محتمة: إلغاء عقد الحضانة لأنه أصبح مخالفاً للشرع وللأخلاق. بينما نلاحظ عندما ننقل هذه الاعتبارات من الأحوال الشخصية إلى السياسية الدولية نلاحظ أنها لا تؤدي مفعولها، كأن الأشياء تفقد جذرياً معناها، وكأن المقاييس الأخلاقية تنعكس، فتصبح سلبية، لأن الاستعمار انفك عن كل المبادىء والتقاليد التي صاغت منها الإِنسانية مقاييسها. وفي عصر تملؤه فوضى الاستعمار، فإن هذا الانقلاب في عالم المفاهيم الموروثة، يزيد في الطين بلة، حتى أننا أصبحنا عاجزين عن تفهم بعض الكلمات عندما يصرح بها رجل الدولة، ولا ندري هل هو ينطقها عن جد وعقيدة أو لمجرد الحرفة الخاضعة للاعتبارات الدبلوماسية وفي حين كنا ننتظر من هذه الكلمة ذاتها، مع مرونتها أو ميوعتها أحياناً، أن لا تتحدى الأخلاق والذوق السليم، إذا بنا نشعر بهذا التحدي كلما تكلمت الدبلوماسية بلغة تنعكس فيها فلسفة الاستعمار أو يتكلم بها من يعبر عن روح الاستعمار بصورة ما. إننا لا ندعي حق التعقيب على سياسة فرنسا الخارجية مثلا، ولكن لا يمكننا أن نمر دون أن نعير بعض الاهتمام لمواقف وزير خارجيتها، عندما تكون تلك المواقف معبرة عن اهتمامه بشأننا، بصفتنا مسلمين، ذلك الاهتمام الذي

أدركنا معناه في التصريحات التي يدلي بها في بعض المناسبات، كإبعاد الملك محمد الخامس عن عرشه. وإننا لا نذكر هذا الحادث كعمل سياسي- إذا صح أن نعبر عن جريمة عشرين أغسطس بهذه الطريقة- بل كمثل نرى فيه إلى أي حد يبلغ احتقار الاستعمار لكرامة الإنسان حتى في التفاصيل الطفيفة، إذ لم يتح للملك في تلك المناسبة المذهلة أن يرتدي ملابسه وهو يقاد قسراً إلى مغادرة وطنه، وإلى أي حد تبلغ إهانة هذا الوطن الكريم في اليوم الذي يغتصب منه ملكه، ويفقد بذلك آخر رمز لسيادته .... باسم الديمقراطية. إننا نتساءل ماذا تعني هذه الكلمة في لغة المسيو بيدو في المناسبات الأخرى، حيث من الواضح أنه لم ينطق بها إلا هذه المرة. إننا نراجع بعض تصريحات هذا الوزير، مثل التصريح الذي نقلته لنا صحيفة لوموند في عدد يوم 2/ 2/ 1954 حيث يقول خليفة ريشليو ((أنه ليس من المنطق، ولا من سياق الكلام، ولا من مقتضيات الزمان أن تفرض معاهدة سلم على المانيا فرضاً)). حسناً، فهذه كلمات تعبر دون ريب عن نظرة ديمقراطية واضحة، ولا تشوبها شائبة، ولا غبار عليها، شريطة أن نستطيع تحويلها إلى مضمون تاريخي آخر دون أن تفقد معناها. إذ هذه الكلمات سوف تكون أكثر وضوحاً لو أن الفضل في نصر الديمقراطية في معركة كسينو يعود إلى المسيو أديناور والشعب الألماني لا إلى الجنود المراكشيين من رعايا محمد الخامس، هؤلاء الرجال الذين يمثلون وطنا لم يرع فيه مسيو بيدو ما رعاه في ألمانيا. إنه لم يقل بصدده ((انه ليس من المنطق، ولا من سياق الكلام، ولا من مقتضيات الزمان)) أن تفرض عليه تلك الجريمة، يوم 20 أغسطس (¬1) الأخير. حقاً .. إن فوضى الاستعمار تبلبل المفاهيم، وتزيف الواقع وتذبذب الكلام. ولكن الذروة في هذا كله نبلغها عندما يحاول الاستعمار تعقيد الأشياء التي سلبها ¬

_ (¬1) اليوم الذي رفعت فيه السلطات الفرنسية الملك محمد الخامس وأبعدته عن عرشه وبلاده.

قواعدها، وصيرها شواذاً لا تتصل بقاعدة. إننا نبلغ الذروة عندما نرى الاستعمار يحاول إدخال هذا الشذوذ تحت حكم قواعد يضعها هو. وهكذا تمر هذه الأيام بمحاولة من هذا النوع أو بالأحرى تمر بمحاولات لربط هذا الوضع الشاذ بقواعد يطلق عليها منوني ((الموقف الاستعماري)). وعندما تتصل هذه المحاولات بالمستوى الفكري، فإنها تدهشنا، لأنها تكشف لنا إِلى أي حد تبلغ السلطات الاستعمارية في تعذيب المفاهيم الشرعية وتدليسها كي تفتعل منها القواعد اللازمة للكائنات الشاذة التي ولدها الاستعمار مثل ((السيادة المشتركة)) (¬1). فهذا المفهوم الجديد هو أحد تلك الكائنات التي تكونت في ذلك المناخ الخصب من الشذوذ الذي وُلدَ الاستعمار فيه وَوَلَّد. فمن طرائف الطبيعة ما يحكى عن ذلك الطير الذي يبيض بيضاته في عش غيره من الطيور بعد أن يلقي ما يوجد به من بيض على الأرض، فيكون صاحب العش مضطرا هكذا على قبول ما يفرخ في عشه من غير صلبه. فالاستعمار ليس بالضبط مثل هذا الطير الغريب لأنه لا يحتل فقط عش غيره، بل يحتل أيضا ما ينتجه الشعب المستعمَر من يد عاملة بلا ثمن، كي يسخرها في حقل ((رسالته الحضارية)) على حد زعمه. إنه لا يسلب الشعب المستعمَر أشياءه فقط بل يستولي أيضا عدى نفسه، وهذا الاختلاس المزدوج هو ما يحاول أن يخفيه بكلمة جديدة ((السيادة المشتركة)) كما لو قال الطائر المختلس: ((العش المشترك)). ولو رجعنا بهذا المفهوم الجديد إلى المقاييس المستعارة من الأحوال الشخصية، كما سبق إليها الإشارة، فإِننا نجد أنفسنا في الحالة التي يكون فيها من أسندت له الحضانة قد تعمد التزييف، ليسلب ((القاصر)) بعض حقوقه، من ناحية، وليدلس على الرأي العام من ناحية أخرى .. ¬

_ (¬1) صنع هذا المصطلح الغريب يوم كانت المعركة التحريرية تبلغ ذروتها بمراكش.

الفصل الثاني في السياسة

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي السِّيَاسَةِ • حقد على الإسلام • الملك محمد بن يوسف ((يعترف)) • بلا خوف ومن دون تأنيب • من المؤتمرات إِلى المؤامرات • من مؤتمر كولومبو إلى مؤتمر جنيف • أقلام وأبواق الاستعمار • رجل ووجهان • بصيص الأمل ــــــــــــــــــــــــــ

حقد على الإسلام

حِقْدٌ عَلَى الإِسْلَامِ الجمهورية الجزائرية 11/ 9/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إن جلالة الملك محمد الخامس احتل نهائيا مكانا سامياً في ذكرى الأجيال المقبلة، ودخل زمرة الوجوه الكبيرة التي تشع في التاريخ نور الإسلام. إِن الأحداث التي جرت في مراكش أخيراً لا زالت نتائجها معلقة، في تلك المأساة التي تتخللها أحيانا تفاصيل مضحكة ... ولكن هذا الجانب المضحك يشعرنا أن من أراد أن يضحك في هذه القصة ... على غيره، قد بدأ يشعر أنه أضحك الغير عليه. إن هؤلاء القوم الذين صنعوا المسخرة، والذين لا نعرف هل يصح أن نعتبر على رأسهم الاستعمار الفرنسي الذي يتزيا بزي الأكاديمي (¬1)، أم الاشتراكية الفرنسية المتحلية بحلية قصر الإيليزيه (¬2) - تلك الاشتراكية التي أظهرت في مناسبة أخرى كيف تجيد لغة الصعاليك (¬3) - إن هؤلاء القوم اعتقدوا أنهم سوف يصنعون تاريخ الوطن المراكشي بنسج بعض القصص مستوردة من مدينة مراكش (¬4). ومن الطبيعي أن يفكر هؤلاء القوم في إضفاء ((اللون المحلي)) على هذه القضية ... وفكرت الكي دورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية) فعلا في تجنيد كل من يمت بصلة إلى صبغة الحقيقة وصناعة الأوهام ¬

_ (¬1) إشارة إلى المريشال جوان الذي لعب دوراً كبيراً فى خلع الملك ومن المعلوم أنه عضو بأكاديمية الأدب. (¬2) إشارة إلى رئيس الجمهورية روفي كونى صاحب قصر الإليزيه بمقتضى منصبه. (¬3) إشارة إلى الوزير اليهودي جول موش الذي تفوه بكلمه ((بيكو)) بمناسبه زيارة الملك محمد الخامس لفرنسا. (¬4) مدينة الباشا الجلاوي الذي كان يضع هذه القصص تلبية للاستعمار.

في صفوف الصحافة الكبرى، كي يوهموا الناس أن القضية لا تخرج عن نطاق ((أزمة مراكشية داخلية)) ليس للاستعمار الفرنسي فيها ناقة ولا جمل. وعلى هذا شرع الكي دورسيه في توزيع الأدوار على ((رؤساء من الأهالي)) ... ولكن الاستعمار الفرنسي لا يتمتع بمخيلة كبيرة، حتى إنه لا زال يعيش على الأسلوب الذي نعرفه في القرن التاسع عشر. وهكذا فإنه اكتشف أولا لصين يستطيع تسخيرهما لأي شيء يريده ... ثم شخصا ثالثا مستعداً لقبول ما يوضع في كفه. وهذا الثالوث المزركش دخل كثالوث ((فراتليني)) المشهور في عالم السيرك، دون أن يكون لهم ما لهؤلاء البهلوانات من كرامة، دخل هذا الثالوث في حلبة التمثيل حيث يقوم أحدهم وهو في مرحلة بدائية لا تحركه إلا الدوافع المنحطة أو المصالح المشبوهة كرجل يتاجر في ((الرقيق الأبيض))، أو كباشا ولاه الشيطان على مدينة مراكش، فهذا الرجل تولى دور ((المراقب الأخلاقي)) في القصة التي أخرجها لنا الاستعمار، وهكذا برز شخص الجلاوي. ثم وزع الدور الثاني- دور ((الفقيه العارف بحدود الله)) على فرد منحط من الطبقة البرجوازية، نكون قد وصفناه بوصفه الحقيقي إذا قلنا ما يتمتع به من احتقار أهالي مدينة فاس، مسقط رأسه .. وهكذا نعرف شخص الكتاني. أما الشخص الثالث، الذي قذفت به يد قوية في حلبة المسرح كي يقوم بدور الملك ... في هذه القصة، فهو مستعار من تلك الفئة من الجمهور الفاسي ... التي تتمتع بالجسم الدسم المشحم، والتي نراها كل صباح تهرع في سوق اللحوم وبيدها السلة ... أعني أنه شخص لا يستحق أن نسميه. فهذا هو كل الجهاز .. وعلبة الصبغة المجهزة لإِعطاء القضية ((اللون المحلي)). وظن الاستعمار أنه سيوهم الناس بهذا الجهاز، يوهمهم بأنها ليست قصة ملفقة، ولعبة معدة، وتمثيلية موضوعة، بل هي التاريخ نفسه .. بلحمه وعظمه!!

ولكن هذا لم يخف الحقيقة .. لأن أذن الاستعمار كانت مكشوفة .. فلم يتوهم أحد كما كان يُراد إيهامه، سواء بباريس أو بالرباط أن الجيوش التي طوقت القصر الملكي، وأن المدافع التي صوبت إلى المدينة العربية، وأن الدبابات المستعدة للطوارىء .. وأن ... وأن كل هذا الجهاز الحربي المعد بكل وضوح ضد الملك وشعبه ... ما هو إلا ((إرادة الشعب المراكشي)). ولكن ما منع هذا الوضوح الصحافة الكبيرة من أن تتابع فضيحتها فيتكلم أحد المراسلين عن ((المبايجة)) ويعني لا شك ((المبايعة)) دون أن يدرك معنى هذا المفهوم، ثم يتكلم عن الترتيبات الحربية التي اتخذتها السلطات، ضد الشعب المراكشي، ثم يعود إلى الدرس الذي لقنته لهم السلطات، فيكتب: ((إن الشعب المراكشي قد اختار الملك الجديد، في حرية تامة)). ولكن يبدو أن هذا الاستنتاج المولد لم يخف الحقيقة عن نظر صاحبه على وجه الخصوص، إذ نراه، كأنه ينتقم لضعف منطقه وفشل محاولته، فينتقم بالخساسة المعروفة عن أمثاله، ينتقم من شخص الملك بالكلام السخيف عن ((حريمه)) (¬1). ومما يجب ملاحظته، أنه كلما فقد الأدب الاستعماري أنفاسه، وبرهانه، فإنه يلجأ إلى خردة ((الكليشيهات)) القديمة، فيتهم الخصم بـ ((تعدد الزوجات)) و ((الحريم)) و ((التعصب الإِسلامي)) و ((الشيوعية)) ... هذا إذا قرر الاستعمار إعدام حشود بشرية بكاملها. أو يتهمه بـ ((النزعة الأمريكية))، إذا أراد أن يغتال رجالا مثل فرحات حشاد. وربما يريح أعصاب مراسل جريدة استعمارية فرنسية أن يتحدث عن ((زوجات السلطان)) وعن ... أنه بصاق الحقد الطاغي. وهناك أصحاب السر، العارفون الوارثون بنص العقد الصريح الذين ¬

_ (¬1) وكلمة ((حريم)) تؤدي في اللغة الفرنسيه غير المعنى الذي تؤديه في اللغة العربية، لأن تعدد الزوجات يعد في الغرب وصمة لا تغتفر.

ورثوا الجمهورية الثالثة (¬1)، والذين يتفضلون في كل أسبوع في جريدة محلية؛ بالإِدلاء بإرشاداتهم للجمهورية الرابعة. وهم مجدون في ذلك، بل وربما هم مخلصون بإخلاصهم إلى مصالح معينة، فهم على كل حال لا ينخدعون لمهزلة مراكش. ولكنهم ينخدعون بمجرد ما يحاولون تحليل الموقف بمراكش، فهم يرون في كل ما حدث يد الجامعة العربية، أما الأمية والبطالة والبؤس، كل هذه الأمراض التي تجعل شعوب شمال أفريقية الثلاثة تعيش دون كفاف الحياة، وحيث يريد الاستعمار أن يبقيها فيه، لأنه يرى في ذلك الطريقة الوحيدة لبقائه، إن هذه الأمراض ما هي في نظر هؤلاء العارفين، إلا الأسباب المصطنعة التي تبرر بها موقفها ((نخبة تستعجل استلام الحكم)). فهذا هو المآل المخزي الذي يؤول إليه التفكير عندما يتجرد من الوازع الأخلاقي ويجرد منه الأمور الإنسانية، إذ يؤول إلى استنتاجات مدهشة، حتى يكاد منطقهم يقرر أن المجازر التي وقعت بتونس، والمذابح التي حدثت بمراكش والتصفيات التي صفت الشباب الجزائري بالنار، إن كل هذا ما كان إلا من عمل الضحايا أنفسهم، ضحايا تلك المجازر وتلك المذابح وتلك النار. ومن نتائج هذا المنطق الغريب، إذا قسنا على منواله أن نقول ((إن الملك فضل أن يتنازل عن الحكم، وهو ذلك الوجه الفريد في نبله بين صفوف النخبة المغربية، لأنه من تلك النخبة التي تستعجل استلام الحكم .. )). إن منطق الاستعمار يسلب الأشياء معناها، حتى تصير بعيدة عن الفهم. ولكن الواقع يبقى فوق كل التأويلات، فهو يتكلم بلغته الواضحة، المضبوطة، التي لا تحتمل المناقشة. إن الواقع هو أن السلطات الفرنسية ألقت القبض على جلالة الملك محمد ¬

_ (¬1) من العهود الجمهورية الخمسة العهد الذي يعد مطابقا لأوج التوسع الاستعماري الفرنسي.

الخامس، والبوليس الذي قاده إلى محطة الطيران لم يترك له حتى الوقت اللازم لكي يرتدي ملابسه، إن جلالة الملك فارق أهله وقصره وشعبه ووطنه في لباس النوم (بيجاما) لم يستطع ستره إِلا بجلابة تقليدية. والعبقرية الاستعمارية لم تتورع عن أي تفصيل في الانتقام من الرجل وامتهان كرامته، لأن الاستعمار يتمسك بالمادة وبالهوى في الوقت نفسه. لقد انتقم من الرجل الذي عارض تخطيطاته الموضوعة من أجل الاستبداد والتفقير المادي والأخلاقي والعقلي، ولم ينس تفصيلا من التفصيلات في هذا السبيل. بل إِنه نسي ... بعض الأشياء، لأنه ليس من طبيعته أن يدركها: إِن الملك أخذ طريقه إلى المنفى ليلة ((العيد الأكبر))، عيد الأضحى، عيد القربان. وفي ذلك رمز لا ينسى التاريخ أن يسجله. ثم إن هذا الملك قد أبعد عن وطنه لأنه أراد أن يسن له دستوراً ديمقراطياً، فهو قد ترك في قلب شعبه حب الديمقراطية مقروناً باسمه. وفي هذا ... انتصار باهر يأتي كصفعة للاستعمار: فالديمقراطية تهاجر مع الملك وتذهب معه إلى المنفى، تحت رعاية السلطات التي تدعي أنها تأتي يالديمقراطية من بلادها. والذين يحاولون إضفاء ((اللون المحلي)) على هذه المأساة لا يستطيعون أي شيء لإِيهام الناس، لا يستطيعون ذلك أو لا في الحقل الذي يهم بالخصوص ((الكي دورسي)) الذي لم يفلح في الواقع إلا في نصب حكم في الرباط لا قيمة شرعية له ولا دولية، لأن الحكم الشرعي هاجر مع صاحبه ولا يبقى من يتولاه بعده بصورة شرعية إلا خليفته في طيطوان، في المنطقة الاسبانية. وهكذا تبين أن ((الكي دورسي)) وعصابة الرباط قد خسرا ما كان بأيديهم من عوامل الكسب خى بالنسبة إلى ((السياسة التقليدية)) الفرنسية بمراكش، بينما لا تخص نتائج إبعاد الملك والظروف التي تحيط به السياسة فقط.

فبقدر ما تتوضح هذه النتائج، سيجد الاستعمار نفسه مكشوفاً مهما تكن محاولات من قام بهذه المؤامرة، ومن ساندهم، ومن أيدهم بالأموال أو أدلى لهم بالإِرشادات. وهكذا يستقر الأمر بالتالي على نتائج غير منتظرة، سيكون حتى لعلم الكلام فيها نصيبه إذا اعتبرنا أن الاستعمار يأتي في القرن العشرين، بالحجة القاطعة، على أن الروح البشرية لا يعتريها التغيير والفناء، حيث إِنها استطاعت أن تواجه جرائمه في البلاد المستعمَرة، وما كانت لتستطيع ذلك لو لم تكن غير قابلة لتغيير، لأنها حقيقة من عنصر الخلد. ولكن القضية تتضمن نتائج أخرى تهم على وجه الخصوص الوضع البشري وهي نتائج بسيطة: إن الشعوب الثلاثة الأفريقية ستفكر في التحدي الغريب الذي قذفه في وجهها الوزير بيدو عندما قال: ((إنني لن أترك الهلال ينتصر على الصليب)). قاتلها الله كلمة يدوي فيها صوت القرون الوسطى، فيكشف عرضاً كنه القضية. لذا يجب أولا أن توضع هذه الكلمة في معناها الصحيح، أعني أن توضع في فكر صاحبها، مجردة من اعتبارات الدبلوماسية. إِن المسلم يعلم أن الإِسلام لم يعتد على أي مفهوم من المفاهيم المسيحية خلال القرون، وثقته في هذا الصدد ليست ثقة عمياء قائمة على عقيدته، بل ثقة إيجابية يدركها عقله. وهو بالإِضافة إلى هذا، يتحدى كل من له اختصاص في تزييف التاريخ، أن يأتي بما يناقض هذه الحقيقة. إن كل فتوحات الإسلام لم يسجل فيها التاريخ مذبحة واحدة تماثل تلك التي يفاجئنا بها الاستعمار من حين لآخر، ولم يقتل طفلاً واحداً أمرت بقتله سلطة عليا.

تعليق

وعليه فكلمة بيدو، إِذا ما راجعناها في قاموس هذا الوزير فإنها تعني شيئاً آخر، كأنه أراد أن يقول بالتلميح: ((يجب أن نوقف الإسلام عند حده)). ولا ندري مع هذا، إذا كان سيادة الوزير يتمتع بالسلطة الأخلاقية التي تخوله أن يتكلم باسم المسيحية: فهل له سلطة الباشا الجلاوي عندما يتحدث عن تقاليد الإسلام؟ ولكن بقطع النظر عن السلطة الأخلاقية، التي لها من يمثلها بشكل أفضل، فإنه يجب أن نعترف له بسلطة الحكم. وعندما يتحدث وزير خارجية ((الوحدة الفرنسية)) ويقول: إنه يجب إيقاف الإِسلام عند حده، فإننا نشعر بخطورة الموقف على مستوى الفرد الذي له ضمير إسلامي. فالمسلم يتساءل فعلا، هل له حق الحياة في الشمال الأفريقي، أم حل عليه واجب الهجرة، إثر جلالة الملك على طريق المنفى .... ... تَعْلِيقٌ إننا نرى من الواجب أن نعيد إلى هذه المقالة الضوء الذي كانت تلقيه عليها الظروف التي أحاطت برفع الملك محمد الخامس إلى المنفى، حتى يدرك القارئ في صميم الواقع حقيقة تعليقنا- في كتاب الصراع الفكري وبصورة عابرة- عن العلاقات المتسترة التي تنشأ أحياناً في البلاد المستعمَرة بين الاستعمار وبعض القادة السياسيين في تلك البلاد. إن القارئ الكريم الذي تتبع بإمعان ما كتبنا في هذه المقالة، قد أدرك أن

الجو الذي يحيط بالحوادث التي نشير إِليها يمكن تحليله إلى ثلاثة عناصر ذاتية وموضوعية: 1) قصة إبعاد الملك في ظروف معينة. 2) موقف الوزير بيدو الشخصي منها كمسيحي متعسب ينتقم من الإسلام. 3) محاولة السلطات الاستعمارية لإضفاء ((اللون المحلي)) عليها، ودور الصحافة الباريسية في تلك المحاولة، كي تعرض إلى الرأي العام القضية على أنها صراع ((محلي)) بين الملك والشخصيات المراكشية التي أشرنا إلى ثلاثة منها. فالقارئ الذي تتبع مقالتنا بشيء من الامعان، قد شعر لا شك، بأنها كانت مركزة حول هذه النقطة الثالثة بالذات، أي على كشف التدليس الذي كانت تقوم به السلطات الفرنسية، كي تعطي القضية صبغة تناسب السياسة المقررة إزاء مراكش وملكها. ومن الطبيعي أن تشعر هذه السلطات بشيء من الحرج أمام كل قول يقال، أو سطر يكتب، ليكشف خطتها للرأي العام في ظروف مكهربة تنذر بثورة شاملة في المغرب. ولا شك أن نصيب مقالتي في هذا الإحراج كان لا يزهد فيه، حتى إنه كان من المتوقع أن ترد تلك السلطات عليه بصورة أم بأخرى. ماذا كانت الصورة التي ردت بها؟ هنا الحادثة التي نريد عرضها للقارئ كعينة يتصور من خلالها أسلوب ((الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة)) في صورته الواقعية كما صورناه له في الكتاب الذي نشرناه بهذا العنوان. إن الاستعمار كان يستطيع أن يحطم صاحب المقالة بين السبابة والإِبهام، ولكنه لم يكن يريد تحطيم صاحب المقالة ولكن المقالة نفسها، ومن الطبيعي أنه لو مس شخصي بسوء ظاهر في تلك الظروف لكشف أمره بنفسه، كما أنه لو

حاول الرد المباشر على مقالتي بخط يده وفي صحافته لهزئنا من بلادته. فماذا فعل؟ إنه بكل بساطة أوكل الأمر إلى زعيم سياسي، فكتب هذا الزعيم مقالة في الموضوع، نشرت أسبوعاً بالضبط بعد مقالتي وفي نفس الجريدة- جريدته من مال الشعب- وقال فيها مما قال: ((فلهم إذا شاؤوا أن يفسروا القضية إلى جمهورنا، الذي يندفع أحياناً إلى تبسيط الأشياء، على أنها قضية تمت إلى الجنس والدين. أما نحن فنذكرهم أن شخصاً مثل الجلاوي وآخر مثل الكتاني، ينتسبان أيضاً إلى جنسهم وإلى دينهم.)) (الجمهورية الجزائرية 9/ 10/ 1953). هذا ما كتبه ذلك الزعيم، ولم يقل بطبيعة الحال أنه يرد علينا ولكن القارئ أدرك ذلك من الكلمات نفسها، كما أدرك ما تعني هذه الكلمات ذاتها كتأييد للإستعمار في ظروف يريد أن يصور كل ما حدث فيها على أنه مجرد نزاع بين الملك وبين الجلاوي والكتاني. إن القارئ أدرك ما يستطيع الاستعمار في البلاد المستعمرة على وجه العموم والبلاد الإِسلامية المسكينة على وجه الخصوص. ومما يزيد في هول الموقف، أنني حاولت، بعد ما نشر هذا الرد المقنع، حاولت أن أنشر مقالتي باللغة العربية حتى تؤدي مفعولها بصورة مباشرة، فأرسلت بها إلى جريدة جمعية العلماء ((البصائر)) وأوكلت لها أمر الترجمة والنشر. فلم تفعل شيئاً. لأن جهازها الصحافي باللغة العربية وباللغة الفرنسية، كان كله تحت تصرف عملاء نعرفهم، وأردنا أن نكشف أمرهم في حديثنا مع الشيخ العربي التبسي في مناسبات مختلفة، ولكن دون جدوى، لأن فضيلة الشيخ رغم ما نعرف له من سمو أخلاق، لم يكن يفقه معنى لأسلوب الصراع الفكري. حتى عندما يكون هذا الأسلوب في منتهى الوضوح.

الملك محمد بن يوسف ((يعترف))

الْمَلِكُ مُحَمَّدَ بْنُ يُوسُفَ ((يَعتَرِفُ)) (¬1) الجمهورية الجزائرية في 14/ 5/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ ما إِن وصل الملك المبعد إلى جزيرة ((ليل روس)) حتى تحددت إقامته، ووجد جلالته نفسه، أمام سلطة قهارة سحبته من هذا العالم سحباً وأحاطته بجو من الصمت والكتمان، يحرسه ليلا نهاراً ويفصله عن العالم جيش من البوليس. والصحافة الكبيرة، مثل جريدة ((لوموند)) تفسر لنا هذا الوضع الشاذ، على أنه مجرد ترتيبات احتياطية، احتياطاً من ((فرار)) السجين الكبير. ولكننا علقنا في هذه الصحيفة نفسها، في عدد مضى (¬2)، على هذه الترتيبات فقلنا إنها ليست مجرد احتياطات، بل إنها تخفي أغراضاً سياسية معينة، قررها مجلس أركان حرب الاستعمار الأعلى. وقلنا بالحرف: ((إن الكي دورسي الذي لم يكن يريد الحوار مع ملك حر، يعبر بكل حرية عن إِرادة شعبه، يريد الآن حواراً مع سجين يمكنه أن يفرض عليه ما يريد من الضغط الشديد. حتى يقربه من وجهة نظره. وربما يغتصب منه تصريحاً يجعل منه القاعدة الشرعية التي يضع عليها الحكم الوهمي الذي استلمه من يده عميل الرباط .. )) وها هي الظروف تصدق تنبؤنا، فتأتي صحيفة ((لوموند)) نفسها - الصحيفة التي وصفت لنا في شهر سبتمبر عزل الملك عن العالم- لتخبرنا الآن ¬

_ (¬1) إن طرق (الاعتراف) معروفة لدى البوليس الفرنسي فهو يعرف كيف يضغط معنوياً أو مادياً على من يكون تحت يده حتى يجبره على (الاعتراف) بكل ما يريد منه. (¬2) لم نجد هذا العدد تحت أيدينا.

(في عدد 24/ 4/ 1954) أن الرجل، تحت تأثير الوحدة والتهديد، وصل إلى ((درجة الاعتراف)). وإذا سمح لنا القارئ أن نتكلم باللغة التي تناسب هذا الموقف، في هذا الجو الخانق الذي أحاط به البوليس الفرنسي حياة الشعب المراكشي كلها، في الظروف الحالية فنتساءل: بأي شيء اعترف جلالة الملك؟ إننا لا ندعي معرفة النص الذي وضع تحته إمضاء الملك السجين وإنما طالعنا بعض السطور الغامضة التي نشرتها صحيفة لوموند مقتطفة من هذا النص حسب زعمها. ولكن الشيء الذي يبدو واضحاً في كل هذا، هو رغبة الكي دورسي في إعطاء هذا النص (مهما تكن قيمته التاريخية) قيمة الوثيقة الديبلوماسية (¬1). إننا نترك لرجال القانون أن يقدروا هذه القيمة من زاويتهم الخاصة، ولقادة السياسة المراكشية الوطنية أن يقدروها من الناحية السياسية، إنما نريد أن نعتبر الأشياء هنا من الناحية الإنسانية فقط. إذ ما يبدو واضحاً من النظرة الأولى في المقتطف الذي نشرته صحيفة لوموند، مما تسميه ((رسالة الملك)) هو الجهد الذي بذله صاحب الاقتطاف، كي يبقى القارئ الذي يطالعه تحت تأثير تعليقاته، حيث أنه لم يجد فيما يطالعه ما يسمح له بتكوين رأيه الخاص في الموضوع، إنه كان مما يتعين في مثل هذه الظروف أن يعطى للقارىء حق مطالعة ((اعترافات)) الملك في نصها الحرفي، لا في تعليقات من يعلق عليها، بينما لا يقول لنا عن هذا النص إلا شيئاً واحداً هو أن الكي دورسي قد قام بنشره .. أين؟! ومتى؟! فهذا ما لا نعلم عنه شيئاً. حتى إننا، بعد مطالعة ما نشرته لوموند، لا نستطيع أن نفهم أثراً لتفكير ¬

_ (¬1) إن هذه المقالة كانت تهدف بالضبط إِلى تنبيه الرأي العام حتى لا تكور أي قيمة شرعية لنص يمضيه سجين في ظروف قاهرة أو يزور عنه تزويراً.

الملك في هذا الفتات المقتطف الذي لا يسمح بتفهم الوقائع، ولا لإصدار الحكم الصحيح عليها، إذ الفتات يكون أحياناً كلمة واحدة موضوعة بين هلالين في جملة طويلة للمحرر، بحيث لا تفيد أي معنى خاص. فعلى سبيل المثال نقرأ هذه الجملة ((إن سيدي محمد يستسيغ الترتيبات التي اتخذت بشأن إدارة مصالحه الخاصة و ((شاهد)) (¬1) أن الإجراءات المطبقة من أجل شخصه بمدغشكر لا تخرج تقريباً من نطاق المألوف المعتاد)). فنتساءل ماذا تفيد كلمة ((شاهد)) الموضوعة بين هلالين كي يفهمنا من وضعها هكذا، أنها من تحرير الملك، ماذا تفيد في جملة طويلة هي من محرر لوموند. فلو أن المحرر وضع في جملته أي كلمة أخرى بين هلالين، ما زاد أو قلل من فهم القارئ لفكرة تنسب للملك في هذا المقتطف. فهذه الفكرة تستعصي علينا، لأننا على خلاف وعلى قدر ما نعرف لها من الوضوح ومن إدراك للواقع، نجدها هنا، عندما تعترضنا في جملة أو في شطر جملة يضعهما محرر لوموند بين هلالين كي يشعرنا بأنهما من قلم الملك، نجدما في منتهى الغموض، في صورة غير مألوفة، وكأنها تقف إزاء الأحداث موقفاً لا يتفق مع طبيعتها. فلماذا، على وجه المثال، يلتزم الملك بأنه سيمتنع عن ((كل نشاط سياسي، وعلى وجه الخصوص عن كل ما يؤدي إلى اضطراب الوضع بمراكش ... ))؟ أليس شطر الجملة هذا الموضوع بين هلالين، يأتي كأنه تكذيب للواقع التاريخي المتصل بالأحداث التي أهمت ((الوضع)) بمراكش (يوم خلع الملك) وبموقف الملك (موقفه المشروع إزاء هذه الأحداث) حيث أنه الحريص على هذا الوضع في بلاده، حتى لا يضطرب بسبب أي فرد من رعاياه. إن الموقف انقلب رأساً على عقب، في مقتطف لوموند حيث أن الحريص على ¬

_ (¬1) كلمة ((شاهد)) تفيد أيضاً معنى اعترف.

((الوضع)) في البلاد، أصبح كأنه ((يعترف)) اعترافاً ضمنياً، بأن الوضع لم يضطرب بسبب شخص معين، هو الجلاوي، الذي استأجرته بعض المصالح التي يعرفها الكي دورسي جيداً ولكنه اضطرب بسببه هو. إن لتصريح الملك مفعولاً رجعياً، إذ لو صح أنه سوف يلتزم في لمستقبل بالتزام كهذا، فهو يعني أن جلالته يعترف ضمناً بأنه هو المسؤول عما حدث من اضطراب بمراكش ... وهذا هو بكل وضوح ((الاعتراف الصريح)) الذي يريد الاستعمار الحصول عليه. ولكن بأي ثمن حصل عليه؟ (¬1) إن بيد الاستعمار وسائل ضغط مختلفة، فبيده أولا الضغط الاقتصادي على أملاك السلطان، ولا شك أن اعتراف جلالة باستقامة من أوكل إليه أمر إدارة هذه الأملاك، كان في جملة الاستعدادات الشيطانية التي اتخذها الكي دورسي بهذا الصدد. ومما يؤيد هذا، أن الصحافة الاستعمارية أعادت الكرة مرات خلال الشهور الأخيرة للمطالبة بوضع الحجز على ممتلكات العائلة المالكة. ولكن ربما كان الضغط أشد من ناحية رغبة الملك في نقله مع أسرته إلى إقامة جديدة بفرنسا، ولكن بعد أن ((يعترف)) جلالته بأن إقامته الحالية ((مرضية في الجملة)) بقدر ما تسمح به ((الإمكانيات المحلية)). فكيف استطاع جلالته أن يقدر هذه الإِمكانيات؟ ذلك سؤال نصفح عنه الأن .... ولكن يبدو أن الكي دورسي- كما توقعنا ذلك منذ شهر سبتمبر (¬2) - يحاول أن يكسب كل ما يستطيع أن يكسب من ذلك السجين الذي وضعته الظروف تحت يده. ¬

_ (¬1) إننا كنا مضطرين إلى هذا التساؤل بسبب خطورة الموقف! وقد كنا نريد الدفاع عن الملك مهما تكن التصريحات التي ربما تفرضها عليه ظروف قاسية ولم تكن لدينا المعلومات الكافية حتى لا نضطر للافتراق. (¬2) أي منذ إبعاد الملك إلى المنفى.

بلا خوف ومن دون تأنيب

بِلَا خَوْفٍ وَمِنْ دُونِ تَأْنِيبٍ (¬1) الجمهورية الجزائرية في 2/ 10/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إن اغتيال الزعيم التونسي، هادي شاكر، يبدو في الظروف الحالية، في صورتين: فهو جريمة، وهو في نفس الوقت عمل سياسي. إن أي اغتيال قد يكون أحياناً خاضعاً لحتمية تفرضه على المجرم، كنتيجة لعمل سابق، يدفعه إلى سلسلة جرائم. وفي غالب الأحيان، فالقانون وحده هو الذي يضع حداً لهذه السلسلة، حينما يرسل المجرم إلى المقصلة، كي يضع حداً لسفك الدماء. ولكن أين القانون الذي يضع حداً لمهنة الاستعمار الدامية؟ .. يا أتيلا!! إن شبحك، على ذلك الهرم من الجماجم، كما عودنا التاريخ أن نراك، إن شبحك هذا لم يبقَ إلا صورة شاحبة لوحشية كانت في عهد الطفولة .. إذا قارناها بوحشية المحتضرين الكبار اليوم. بل إن أصغرهم، أصغر من يرتدي منهم لباس المليشيا، بشوارع المدن الجزائرية، هو مثل مدينة حالمة، قد جاوز عهد الطفولة المجرمة، وبلغ سن الرشاد في الإِجرام ... فأصبح يغتال القانون ذاته، ففي تلك الشوارع، ما إِن يلقي القبض على الشباب الجزائري، ليقوده إلى المحاكمة المزعومة ... حتى يغتاله في اليوم نفسه وفي الطريق ... في الطريق إلى المحكمة. إنه لم يبق شيء يحفظ الأبدان والأرزاق من تونس إلى الرباط ... ¬

_ (¬1) هذه العبارة كانت شعار الفروسية في القرون المتوسطة بفرنسا وشعار الفارس بياز على وجه الخصوص، الذي يزعم بهذا الشعار أنه لا يرهب الموت ولا يخشى تأنيب ضميره، لأنه لا يرتكب رذيلة وقد اخترته عنواناً لهذا المقال على سبيل السخرية كما يدرك ذلك القارئ.

ولكن من الخطأ أن نجسد الإِجرام في ذات معينة ... إن الاستعمار لا يسمي (مرتينو- ديبلا) (¬1)، بل إنه وحش ذو رؤوس وأيدي متعددة، إنه في كل مكان يشع منه الإجرام، وهو في كل مكان يغتال ((بلا خوف ودون تأنيب)) ... يخاف من؟ فالبوليس زميله في الإجرام. ومن يؤنبه؟ .. من يكون له من الجرأة ومن اللامبالاة ما يكفي حتى يؤنب رجل الحضارة؟ ... فإذا كان مسلماً هو هذا الجرىء الذي يقوم باحتجات، فالسجن مآله، وكذلك حجز أمواله، والاغتيال. وإذا كان هذا الجريء من الفرنسيين المعتدلين، فسوف يقول له قائلهم، بلغة الصعاليك: ((كفى! كفى!)). إن الاستعمار ((محيط))، محيط بالمجرمين الذين يضعون ((قانونهم)) الخاص فوق القوانين والأخلاق. حتى إن المجرمين الذين اغتالوا هادي شاكر، لم يكونوا في حاجة إلى تعليق لافتة على صدر القتيل، عليها هذه الكلمات ((إِن شيئاً لا يقف في سبيلنا)). إننا في هذا على أتم اتفاق معهم، حيث نعلم كما يعلمون هم، أن الشعب التونسي لا يستطيع أن يؤسس قوة عمومية لقمع الجريمة، فللصعاليك إذاً أن يغتالوا ما يشاؤون، ((بلا خوف وبلا تأنيب)). هل لدم العباد قيمة، من الدار البيضاء إلى تونس؟ ليست الجريمة هي الأمر المهم، في حد ذاتها، ولكن الغرض منها، وهدفها. إن السياسة الاستعمارية الفرنسية أصبحت منذ سنة 1945 سلسلة من جرائم محتمة، والاستعمار لا يمكنه، حتى أنفاسه الأخيرة والقضاء عليه، أن ¬

_ (¬1) وزير الداخلية الفرنسي في الفترة التي وقع فيها أكبر عدد من هذه الجرائم والاغتيالات.

ينفك من قيود تلك الحتمية ... إنه في قبضة الجريمة ... فإذا انتهى من جريمة أولى وجد نفسه مدفوعاً لجريمة ثانية ليكفر بها عن الأولى ... فأي حد من هذا الاطراد المفجع لا يفسر بنفسه؛ ولكن بالحد الذي سبقه. إن مبررات محلية موجودة بلا شك لتبرير اغتيال الهادي شاكر ومنها أن يبقى الشعب التونسي دون قيادة تحت الإرهاب، فتفقد بذلك مقاومتُه حدتها ومضاءها. ولكن يبدو أن الشعب التونسي قد اتخذ عدته واستعداده إزاء هذه المناورات ... وهنا لا نستطيع تفسيراً لقتل هادي شاكر إلا في حدود أوسع من النطاق التونسي، أعني في ذلك الجو المكهرب الذي لا زال مليئاً بمجهولات تتصل بإبعاد ملك مراكش وبتحديد إقامته في جزيرة كرسيكا، في ظروف غريبة. والاستعمار يعلم مصلحته في إسدال الستار على هذه القضية، إِذ يعلم أنها - كما أشرنا إِلى ذلك في مقال سابق- لم تبرز بكل توقعاتها إلى الآن. وتعليقات مراسل لوموند على هذه الحالة، التي تفسر لنا تحديد إقامة الملك على أنها مجرد احتياطات من ((فرار)) متوقع، ما هي إِلا تعليقاتُ مضحكٍ يريد أن يسلينا، أو إنسان استولى على عقله أسلوب القصة البوليسية. إن الاستعمار يعلم جيداً أن السجين ليس له أي نية في الفرار إلى الجبل. كلصوص الجزيرة، وعليه فإن إحاطته بهذه الاحتياطات المدققة لا تدل إلا على شيء واحد، هو أن الاستعمار يريد عزله عزلا تاماً، حتى لا يعلم شيئاً عن نتائج إبعاده، سواء في وطنه أو في الخارج. فمن مصلحة مجلس أركان حرب الاستعمار، من مصلحته العليا أن يتم هذا العزل في الاتجاهين: في عزل الملك عن الخارج إذ لم يتركوا له حتى جهاز راديو تحت يده، وفي عزل الخارج عنه، ولو تطلب هذا ارتكاب جرائم مثيرة تلفت الأنظار .. وتصرفها عن الجرائم السابقة. وهذا ما يفسر اغتيال هادي شاكر.

وهذا يعني أن الكي دورسي، الذي لم يكن مستعداً للمفاوضة مع ملك حر، يعبر بحرية عن إرادة شعبه، يريد الآن الحوار مع سجين يستطيع أن يضغط عليه بما يراه، مناسباً حتى يقربه من وجهة نظره ... وقد يتساءل بعض البسطاء لماذا يتكلف الكي دورسي هذه الجهود كلها ليقرب من وجهة نظره ملكاً لم يبق له سلطان على عرشه ... ؟ أما الاستعمار الذي أحكم الخطة فهو يعلم الجواب. ولنكن واثقين من أنه سيبذل كل ما يستطيع من حيلة وكيد للوصول إلى هدفه، أي للحصول غصباً، على بعض التنازل من جانب الملك، وبعض تصريحات تصلح كقاعدة شرعية لحكم الملك، المصنوع بالرباط، ولقد يكون مستعداً، في سبيل ذلك، إلى ترك الباشا الجلاوي وشأنه ... (¬1) شريطة أن يصرح الملك أو يقتنع بأن شعبه شيء لا وجود له، وأن هيئة الأمم أسطورة من الأساطير، وأن الجامعة العربية طيف من الخيال. وهل يمكن هذا إلا بعزله من وعن العالم .. كي ينسى أنه موجود؟!. ... ¬

_ (¬1) كما فعل يوم اضطرته الثورة الجزائرية إلى التراجع عن سياسة العنف إلى سياسة اللين والكيد.

من المؤتمرات إلى المؤامرات

مِنَ الْمُؤْتَمَرَاتِ إِلَى الْمُؤَامَرَاتِ الجمهورية الجزانرية في 25/ 12/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إننا لم نتتبع، بصورة منهجية، تاربخ العلاقات الاقتصادية التي نشأت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حتى تكون لنا فكرة دقيقة عن المؤسسة الاقتصادية التابعة للتضامن الأوروبي من حيث محتواها المذهبي، وعن الغرض الذي أسست من أجله ولكننا ندرك أهميتها ومهمتها، من المكان الذي تحتله في المقالات الرئيسية التي تنشرها يومياً الصحافة الغربية. إِننا ندرك هذه الأهمية والمهمة على وجه الخصوص، من خلال التقرير الذي خصصته هذه المؤسسة لدراسة الحالة الاقتصادية الفرنسية، ذلك التقرير الذي نشرت منه جريدة الفيغارو مقتطفات مسهبة في عددها المؤرخ في يوم 14/ 12/ 1943، إننا نجد فيه نقداً مفيداً يتعرض لنظام الحماية الاقتصادي الفرنسي الذي أصبح صعباً بمقتضى الصلات الدولية وانه على مذهب صاحب التقرير، أصبح صعوبة عضوية تواجهها ((مجموعة الدول الأوروبية الأخرى)). ففي هذا التقرير نشاهد رأي العين بأن فرنسا لم تنجح في تحرير وارداتها في الحدود التي نصت عليها اتفاقية التبادل التجاري الحر، وهي القاعدة ونقطة الانطلاق التي ينطلق منها نقد المؤسسة في هذا التقرير، فسبب الضعف الأساسي ينتج- في نظر هذا النقد- من شدة الحماية الاقتصادية التي تتمسك بها فرنسا لوقاية إنتاجها وراء أسعار لا تستطيع المنافسة في السوق. فهذا الوضع ربما لا يهمنا كثيراً في صورته العامة؟ ولكن لا يمكن لألفاظ التقرير أن تفاجىء القارئ الجزائري حيث أنه يعرف جيداً، في محيطه الخاص،

الحالة التي تصفها هذه الألفاظ مثلا عندما يقول التقرير: ((لقد تكون وراء التسعيرات والتحديدات الكمية، نظام حماية داخلي، نتجت عنه امتيازات نشأت وتبلورت تؤكدها مجموعة من الوسائل، حتى أصبحت في نظر أصحابها حقوقا مسلمة، دون مراعاة ما يقتضيه ((المردود الاقتصادي)) وتتنوع هذه الوسائلا من مجرد الترتيبات العامة لتقرير الأسعار عن طريق النص القانوني أو طريق المنحات على حساب الميزانية إلى اتفاقات خاصة! سواء كانت مكشوفة أو ضمنية وإلى .. وإلى التدليس على القانون)). إننا لا نرى في هذه السطور صورة المظهر الداخلي لحالة معينة، بل نراها تعطينا أيضا فكرة صحيحة عن آلية هذه الحالة ونفسيتها. فنحن نجد فيها، على وجه الخصوص، التصوير الكافي لاقتصاد استعماري نعرفه بتلك ((الامتيازات التي أصبحت في نظر أصحابها حقوقا مسلمة)). وإِننا ندرك هكذا تلك المعجزة- حتى لا نقول تلك الفضيحة- التي يتميز بها سر الحلفة الذي يأخذ ضعف قيمته مرتين وثلاث مرات على بعد خطوات من الحدود الجزائرية، بالأرض التونسية، أو يأخذ ضعف قيمته عشر مرات على ظهر باخرة في ميناء جزائري ... أي عندما يخرج من يد العامل الجزائري الذي ينتجه، ويدخل في حوزة الأوروبي الذي يراقب سوقه على أساس ((الضمانات القانونية التي تحدد سعره)) له على حساب مصلحة العمال الخاصة وعلى حساب المردود الاقتصادي بصورة عامة. فكل منتوج نصدره الى الخارج كما تنتجه الطبيعة، يكون تصديره خسارة بالنسبة إلى الحالة الاجتماعية في بلد معين، خسارة تحدد اقتصاديا ما يسمى ((البلد المتخلف)). وربما انتهى التقرير إلى أن درجة النمو الاقتصادي الموائمة، تكمن في اقتصاد لا يكون موزعاً في أيدٍ كثيرة يمنع توزيعه كل تنظيم، ولا مجمعا في الاحتكار، يمنع احتكاره عمليات الرقابة ويسلبها قيمتها ((بمجموعة من الوسائل)). ولكن إذا كانت بعض البلاد تشكو من مفاسد التوزيع المبالغ فيه، فنحن في

الجزائر نشكو من مساوئ الاحتكار ... ومن ((احتكار الراية)) أولا (¬1) الذي أدى بزعمه المحافظة على مصالح فرنسا، إلى تأسيس امتيازات نعرف أثرها السيء على النمو الاقتصادي بالجزائر خلال القرن. إذ أن هذا الاحتكار لم يسمح للجزائر أن تستفيد من المنافسة بين شركات الملاحة، بالرغم من أن ذلك لم يحقق أي فائدة للفرنسي المتوسط في حياته ... إن الامتياز لا يعود بالفائدة إلا على صاحبه ... وصاحب الامتياز، بما أنه يعلم جيداً المناقضة الموجودة بين الصالح العام ومصلحته الخاصة، لا يتورع عن استخدام أي وسيلة تعزز مصلحته، كما يلاحظ ذلك تقرير المؤسسة الاقتصادية للتضامن الأوروبي (مؤسسة السوق المشتركة) ولكن مهما يكن بتلك الوسيلة من تلوث، بوجه عام فإنها تصبح أكثر تلوثا ... في البلاد المستعمرة. إِننا نذكر تلك الحملة الصحافية التي قادتها صحيفة فرنسية، سنة 1938، من أجل أن تثبت للرأي العام الفرنسي، الذي أبدى استياءه إزاء بعض أسعار الفواكه أو الخضراوات المستوردة من الجزائر، أن غلاء تلك الأسعار ناتج عن بطء العامل الجزائري الذي يقوم بشحن البضاعة بالموانئ الجزائرية، وكانت الصحيفة تريد أن تخفي بهذه الدعوة والدعاية الحقيقة البسيطة وهي أن الأسعار ارتفعت بسبب احتكار الملاحة. ولم تتنازل هذه الصحيفة بطبيعة الحال إلى نشر التصحيح الذي وجهناه لها بهذا الصدد، ومما يجب ملاحظته بهذه المناسبة هو أن النقابة الفرنسية لعمال الشحن لم تتقدم باحتجاج، دفاعا عن ((الزملاء)) الجزائريين أو عن مجرد الحقيقة ... فبقيت الوصمة لاصقة بالعمال الجزائريين في نظر الرأي العام الفرنسي. وكان من الممكن في نفس السنة أن نلاحط ملاحظة أخرى، تدل على الثقل الذي يضعه ((احتكار الراية)) على الحياة الجزائرية بصورة واقعية: لقد بدأ ¬

_ (¬1) إن قانون ((حتكار الراية)) يقضي أن لا نأتي واردات الجزائر ولا تذب صادراتها إلا على ظهر السفن التي ترفع الراية الفرنسية.

باعة لحم الخيل بفرنسا يستوردون بضاعتهم حية من الجزائر، وكان في ذلك فرصة لتنشيط إنتاج من يقوم بتربية الخيل في الجزائر، ومن ناحية أخرى لتعديل أسعار اللحم في السوق الفرنسية، لمصلحة المستهلك الفرنسي. إِلا أنه، لم يكن لتلك الفرصة الأثر الطبيعي في الاتجاهين المذكورين، فقد امتصه احتكار الراية بتعديل خفي أتوماتيكي لأسعار النقل، فقد جاء هذا التعديل يمتص بصورة رياضية الفائض بين أسعار فرنسا وأسعار الجزائر، دون أن تستطيع هذه المرة صحيفة ما أن تتهمم العمال الجزائريين بالبطء في العمل ... لأن الخيل تشحن نفسها بنفسها. وليس في النفسية التي تسيطر على هذه التصرفات الغريبة كلها أي شيء يمت إلى المصلحة القومية، لأنها كلها تضحي على حد سواء بمصلحة الشعب الفرنسي ومصلحة الشعب الجزائري .. إنها طبقة من الفنيين Technocratas ومن كبار المقاولين، ومن بأيديهم إدارة الشركات الكبيرة، تدير مباشرة أو بوسطاء تختلف درجاتهم ومناصبهم، شؤون البلاد لمصلحتهم فقط. وهكذا ندرك حقيقة ما يشير إليه تقرير المؤسسة الاقتصادية OEGE عندما - يتكلم عن ((اتفاقات مكشوفة أو ضمنية)) ... كما ندرك إلى أي مؤامرات تنتهي أحيانا هذه الاتفاقات في بلد مستعمر، يستهدف النطام الاقتصادي فيه التقليل من العمل وحط قيمته، وهنا نلمس مناقضة غريبة، لأن من طبيعة القليل أن ترتفع قيمته ... ولكن العبقرية الاستعمارية تستطيع قلب الواقع والإتيان بالمحرفات التي تحطم الحقائق وتصيرها هباء منثورا. ***

من مؤتمر كولومبو إلى مؤتمر جنيف

مِنْ مُؤْتَمَرِ كُولُومْبُو إِلَى مُؤْتَمَرِ جِنِيفْ الجمهورية الجزائرية في 7/ 5/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إن الحوليات السياسية العالمية تسجل حدثا جديدا في منتهى الأهمية، ألا وهو اجتماع مؤتمرين دوليين، في وقت واحد، ويمثل كلاهما نزعة معينة تختلف عن النزعة الأخرى اختلافا كاملا، بينما موضوعهما واحد. ففي مدينة جنيف يجتمع الكبار ((من أجل أن يتصرفوا في شعوب شرق جنوب آسيا، طبقا لتخطيطاتهم الستراتيجية، ولمصالح الاقتصادية)). وفي مدينة كولومبو يجتمع على أثر دعوة وجهها لهم نهرو، الرجال الذين يمثلون هذه الشعوب، كي يؤكدوا على أن المشكلات التي تخصهم لا يمكن أن تحل في غيابهم، ويصرخوا مرة أخرى بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبالتالي، فإن المشكلات هي هي في كلا المؤتمرين، وإنما يريد أحدهما أن تكون حلولها، كثيراً أو قليلا، في نطاق سياسة التطويق (¬1). بينما يحاوله الآخر حلها لتدعيم السلم في منطقة كانت، قبل عشرة سنوات، البلاد المستعمرة. إن هذه المنطقة تطابق، في الواقع، من الناحية الايديولوجية مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين: الحضارة الإِسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة روحية للإنسانية اليوم. فالتعارض بين المؤتمرين يكاد يستحيل تلافيه، بقدر ما يستحيل التوفيق بين إرادة السلطة التي تحرك أحدهما، وإرادة التحرر من الاستبداد التي تحرك الآخر. ¬

_ (¬1) السياسة التي أعلنها ج. ف. دالاس في أيامه.

وهذا التعارف لا يمكن فعلا تلافيه ولا إخفاؤه بكلمات جوفاء، الكلمات التي أفضى بها رئيس الحكومة الباكستانية في مؤتمر كولومبو، حيث قال: إنه لمن التبجح والرياء أن نوجه إلى الأمم الأخرى الدعوة إلى السلم، بينما الخلافات السياسية والاختلافات النظرية التي تفرقنا لا زالت قائمة. إن هذا التصريح، الموجه بكل وضوح ضد شخص نهرو، ويعبر عما يسمى في اللسان الدارج ((استفزاز)) وكأن صاحب هذا التصريح المستفز، السيد محمد علي، كان يهدف إلى تعكير الجو بمؤتمر كولومبو، حتى لا يصيب هذا المؤتمر هدفه الذي يختلف، كما قلنا، عن هدف المؤتمر الآخر الذي يتابع جلساته الآن على شاطىء بحيرة الليمان. فهذه المناورة، أو عملية الإجهاض هذه، تبدو بوضوح أكبر عندما نعتبرها في ضوء ما أفضى به رئيس حكومة سيلان، إذ لفت نظر زملائه الممثلين لحكومات شرق جنوب آسيا، إلى الخطر الذي يهدد تلك المنطقة بسبب وجود برميل البارود الذي تمثله الهند الصينية فيها. ولماذا حينئذ هذا النشوز الغريب في موقف ممثل باكستان؟ إن القضية تتصل في الواقع بتاريخ الوطن، أو بالأحرى بتاريخ الجامعة الإِسلامية. إنه من مصلحة الاستعمار أن يخفي دائما أبرع مشاريعه وراء مظاهر خلابة، والجامعة الإسلامية كانت إحدى المشاريع لسحق المؤتمر الهندي العام، ووسيلته المختارة لتمزيق جبهة كفاح الشعب في الهند، وما كان هذا التمزيق ليحدث بمجرد قرار يصدره جلالة ملك انجلترا، ولكنه حدث باسم الإسلام ثم تحقق في صورة دولة باكستان، وقد اشتقت هذه الكلمة نفسها من اسم الصحابي المشهور سلمان الفارسي، الذي كان يلقب بسلمان باك أي الصافي. فباكستان هي إذاً بلاد الصفا، صفا الأغاخان على سبيل المثال، الرجل الذي طرد من الهند نهائيا بسبب ما قدم من خدمات إلى الاستعمار، والذي

تفتح له باكستان أبوابها هذه السنة ليقيم فيها حفلة عيده البلاتيني. آه! ... إن للجلاوي (¬1) مستقبلا باهراً ... ما دامت الشعوب الإسلامية تعطي ظواهر الأشياء قدراً أكبر من حقيقتها. لأن باكستان، في حقيقة الأشياء، لم تكن إلا الوسيلة التي أعدتها السياسة المعادية للإسلام التي تمتاز بها، بصورة تقليدية، أوساط المحافظين الانجليز، أعدتها من أجل إحداث الانشقاقات المناسبة في جبهة كفاح الشعوب ضد الاضطهاد الاستعماري. وليس من مجرد الصدفة أن الجبهة العربية الآسيوية التي أسسها نهرو مع بعض قادة الجامعة العربية قد انشقت بكراتشي، العاصمة التي تحلق في سمائها فكرة جناح، كما سوف تنشق، إن لم تنشق بعد، ببغداد (¬2) العاصمة التي تحلق في جوها فكرة لورانس. وما النزعة ((الباكستانية)) في التخطيط الاستعماري الخاص بجنوب شرق آسيا إلا الشيء الذي يقابل في نفس التخطيط النزعة الهاشمية في الشرق المتوسط. قد نتساءل: لماذا استطاع الملايين من الباكستانيين أن يركنوا، إلى وضع كهذا؟. إنه مكر يبلغ ذروته، إذ استطاعت انجلترا بهذه الطريقة أن تترك الهند في حالة تمزق نهائي، إذ لا يفرق بين المسلمين والهندوك حدود جغرافية لا تستطيع انجلترا تلفيقها مهما كانت براعتها في التلفيق، ولكن يفرق بينهم حدود من الأحقاد ومن الدماء، ذهب ضحيتها الملايين من المسلمين ومن الهندوك، كانوا ضحية المذبحة التي زجتهم فيها المخابرات الانجليزية في الوقت المناسب. ولقد رأت هذه الملايين من المسلمين، بمقتضى وازع المحافظة على الحياة، ¬

_ (¬1) الجلاوي هو العميل الذي اتفق مع الاستعمار الفرنسي لخلع الملك محمد الخامس. (¬2) تحقق هذا التنبؤ في وقته.

قد رأت في باكستان أرض النجاة الموعودة، كما رأت فيها الملايين من الهندوك أرض الحقد والعدوان ... ولكن قد تكون للأقدار كرة ... وإذا بالشعوب التي انخدعت ((بمحررين)) مأجورين، والتي خدرتها شعارات مخدرة، ونومتها كلمات جوفاء لا يرى فيها سمة الاستعمار إلا ذلك الفاحص المتدرب، وإذا بهذه الشعوب ترجع إلى رشدها. فالانتخابات التي جرت أخيراً بالبنغال دلت على أن الجماهير الإِسلامية بتلك المقاطعة لم تبق في خبل التخدير، ولا تحت سلطة ذلك المكر الذي يخفي حقيقته وراء تذهيب غلاف وضع على وجهه عنوان ((دستور قرآني)). وليست هذه المرة الأولى التي يرفع فيها القرآن كي يخدع به المسلمون، إن معاوية استخدم هذه الخديعة في خصومته مع علي، عندما رفع أصحابه القرآن الكريم على الرماح، وهم يقولون في وجه أشياع علي: هذا حكم بيننا وبينكم. ولم ينخدع علي حين قال: ((كلمة حق يراد بها باطل)) غير أن جمهور المسلمين انخدع فعلا حينئذ، كي يسير التاريخ في الاتجاه الذي قدرته الأقدار. ولكن بعد ثلاثة عشر قرنا، نرى النزعة التي تمثل علياً تنتصر على النزعة الجاهلية، تمثلها الحركة الاصلاحية في الجزائر. إن للأقدار كرة ... وما انتخابات البنغال إلا إرهاص ندرك معناه في الصورة الرمزية التي نراها في العدد الأخير من مجلة ((إفريقيا والشرق)) حيث نرى صورة مسلم وهندوكي يتعانقان ... ***

أقلام وأبواق الاستعمار

أَقْلَامُ وَأَبْوَاقُ الاِسْتِعْمَارِ الشاب المسلم في 14/ 5/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ يقال أحيانا (في الصحافة الاستعمارية) أن للاستعمار قصداً واستعدادا حضاريا، وقد يكون هذا صحيحاً إذا اعتبرنا الكلمة بالنسبة لنواياه نحو نفسه لا بالنسبة لنواياه نحو الغير. فنحن نعترف فعلا أن الاستعمار يستطيع أن يحضر نفسه، إِذا اتخذنا هذه الكلمة بالمعنى الذي تضفيه عليها حضارة المادة في القرن العشرين، أي أنه يستطيع أن يحسن وسائله ويدقق خططه الاستعمارية حسبما تقتضيه الظروف. إن جيل جدودنا الأقربين، بالجزائر على سبيل المثال، قد أدرك عصر ((الحاوي)) الذي يخضع الثعبان لسحره، فهو عصر البندير و ((الفتة)) الطرقية. لقد كان هذا كافيا لاستعمار تلك الجماهير التي غطت في سباتها الشتوي قرونا، قرون عصر ما بعد الموحدين، فقد كانت هذه الوسائل، رغم ما بها من البساطة، في مستوى ذلك الوسط البسيط القابل للاستعمار. ولكن هذا الوسط الخامل قد بدأ فجأة يتحرك، كأنما شحنة كهربائية أفرغت في شعوره ... ثم بدأت رعشة- فكرية تحدث على سطح ضميره الهادي الذي غط في النوم منذ عهد طويل .. تحدث تموجات خفيفة. وكان ذلك في عصر آبائنا الذين سمعوا بصورة غامضة، كلاما عن جمال الدين الأفغاني، حيث انتقلت فكرته، من فم إلى أذن حتى وردت الضمير الجزائري ... فأحدثت على سطحه الهادئ تلك التموجات ...

لقد كانت هذه الرعشة تدل على الحياة في عالم الموت ... وصرخة تعلو في عالم الصمت ... و ((خطراً)) في عالم الاستعمار!! وشعر الاستعمار فعلا بالخطر ... فأخرج من شنطته رجلا تأخذه من حين إلى حين الحالة الصوفية ... أخرجه كي يجدد به عصر الدراويش. فكان النظر جذابا ... يدفت نظر الشعب البسيط ... المتعطش لخوارق المعجزات ... فيأتي بنقوده يقدمها نذورا عندما يدق البندير. وفكر الرجل الذي تأخذه الحالة الصوفية كي يزيد تأثيره على مشاعر الشعب البسيط، فوضع حوله حلقة من ((العلماء)) يتقبلون تبرعات البسطاء، ويباركون هؤلاء البسطاء المتعطشين للمعجزات. فكان ذلك عصر الشيخ ابن عليوا، ورفقائه أمثال الشيخ الحافظي ... ولكن الفكرة استمرت في طريقها ... مثابرة ... مثابرة في عالم لا زال في خدر النوم، حيث كان آباؤنا يعيشون، فلم تستطع البنادير والشطحات الصوفية، أن تبعث عهد المرابطين من جديد. وكما يقول المثل الجزائري: ((فعندما يتمزق البندير، تتفرق حلقة المداحين)) ولكن يجدر بنا أن نضيف: أن الجماهير أيضا تتفرق حينئذ. وذهبت فعلا الجماهير المتفرقة إلى حيث يدعوها واجبها، فأخرج حينئذ الاستعمار من شنطته وثنا يتكلم كلاما خلاباً ... كي يلفت الأنظار عن الفكرة. ولم يصبح حينئذ الحديث عن الواجبات، ولكن عن الحقوق التي ((تؤخذ)) عندما نمد أيدينا .... إلى القمر ... مثلا. وهكذا انتهى عصر آبائنا وبدأ عصرنا ... وعلى بابه كرمز اليد الممدودة إلى القمر! ولكن الفكرة استمرت جادة في طريقها وفي عملها، وانتهت الجماهير المنومة،

التي نومتها الأوثان، فانتهت في مصر مثلا (¬1)، الى أن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى للكلمة، الواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة، لا في معناها المعقد، كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء، وشعارات كاذبة يعطلون بها التاريخ، بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة. ولكن الفكرة استمرت في طريقها أيضاً، وقد رأينا منذ ثلاث سنوات فئة من الشباب في إحدى ضواحي العاصمة الجزائرية تدخل مباشرة حلبة التاريخ ... دون أن تنتظر الساعات الخطيرة، واللحظات الكبيرة والظروف الخيالية، فدخلت ميدان العمل بكل بساطة وتواضع، والمعول بأيديها كي تشق طريقها، طريقا بسيطا متواضعا بضاحية القديس سان أوجين. وربما لم يكن هؤلاء الشبان يعلمون أن دخولهم في ميدان العمل هو الساعة الخطيرة التي يخشاها الاستعمار واللحظة الكبيرة في تاريخ الجزائر، ومهما يكن الأمر، فها هي الفكرة تستمر في الطريق، وكأن طريقها كان يمر يومئذ بناحية القديس سان أوجين، حتى شعر الاستعمار فعلا بالخطر. وفكر في إيقاف الفكرة الخطيرة عند حدها ... ففتح شنطته مرة أخرى وأخرج منها أشياء كثيرة مسلية، لتسلية الجماهير عن واجباتها وأخرج آلات ميكانيكية تتكلم عن ((تقاليد الإِسلام)) مثل الكتاني والجلاوي، ومن بين الآلات ما يتكلم عن السياسة فيعرضها الاستعمار في المعارض الانتخابية تحت اسم ((النواب الأحرار)). ثم يخرج من شنطته آلات أكثر تعقيداً ... تلفظ بخطب وطنية: تقدم هذه الآلات للجماهير المنخدعة، كي تلهيها وتمسكها بعيداً عن ساحة الواجبات والعمل، تقدم في صورة أوثان مزينة مجهزة لتأخذ الأبصار وتذهل الألباب. ولكن الجماهير بدأت تشعر بالفتور نحو هذه الألاعيب والأكاذيب والآلات، ¬

_ (¬1) إشارة إلى ثورة 23/ 7/ 1952.

تعليق

وبدأت تلتفت عنها ... باحثة عن أشياء أخرى، وعن عمل أجدى من أن تبقي يدها ممدودة نحو ... القمر. وها إِن الاستعمار يشعر بأكبر خطر، ويلجأ إلى آخر وسيلة عنده، يلجأ للمرة الأخيرة إلى شنطته فيخرج منها أرَضَةً قد امتلأ بطنها من غبار تاريخ عصر ما بعد الموحدين عصر الانحطاط، لقد امتلأت من هذا الانحطاط وأصبحت تلقي منه في كل جشأ تكتبه أو تقوله. إننا نرى هذه الأرَضَة تحت ملامح الطالب الجاد، نراها جادة في الانحطاط على مدرج كلية جادة في تحضير مؤهلات ((النائب الحر)) (¬1). وقد يكفي للحصول على هذه المؤهلات أن يكون للطالب قلم حسن أو بوق جيد في التعبير عن رغبات الاستعمار وأفكاره. إن الاستعمار الذي كان يقتنع بمن يعبر عن رغباته بلغة الصعاليك، أصبح في حاجة إلى من يعبر عنها بلغة تقرب إلى الفصحى، وهذه الحاجة الجديدة اتي يشعر بها الاستعمار، تشهد على أنه يستطيع أن يتحضر وإن لم يكن مستعدا لتحضير غيره. تَعْليِقٌ إِنه يجب أن نعلق على هذا المقال بأن الاستعمار لا زال في حاجة إلى أقلام يكتب بها، وإلى أبواق يتكلم بها، حتى لا يعرف خطه ولا صوته عندما يخادع الجماهير الطيبة، وهذا يعني أن الأرَضَةَ المتعلمة لا زالت منتشرة في البلاد الإِسلامية على وجه العموم، وقد عرفنا منها أصنافا بالجزائر على وجه الخصوص. إن هذا النوع من الحشرات لا ينقطع ما دامت ثقافتنا تفقد المبدأ الأخلاقي المهيمن على سلوك المثقفين. ¬

_ (¬1) هذا لقب النواب الذين تعينهم السلطات الاستعمارية للنيابة عن الشعب الجزائري في المجالس المنخبة

ولا زال الاستعمار يستخدم فعلا هذه الحشرات المدسوسة في صفوف الطلبة لمهمات معينة حسب الظروف. وقد بلغني على وجه المثال أن بعض هذه الأبواق المختارة لإذاعة أنباء الاستعمار شرعت تذيع بين صفوف الطلبة الجزائريين أن مالك بن نبي رجل انعزل في برجه العاجي عن الثورة الجزائرية ولم يساهم فيها بشيء. ومن طبيعة الحشرات أن لا تحقق مهماتها، كما أن الأبواق لا تتحرى فيما تذيع، وإلا فإن كل طالب جزائري يعلم أنني نشرت بوسائلي الخاصة (دون أي تأييد مادي أو معنوي) ما هو مسجل في إِنتاجي الفكري منذ حضوري القاهرة مثل رسالة ((النجدة!! الشعب الجزائري يباد)). وبالإِضافة إلى هذا فإنني بمجرد وصولي إلى القاهرة وضعت نفسي تحت تصرف من يتكلم باسم الثورة الجزائرية، ولم أقتنع بالعرض الشفاهي، بل كتبت إِلى المسؤولين هذا الخطاب الذي أترجمه بالحرف: القاهرة في 1 سبتمبر 1956 إلى السادة ممثلي جبهة التحرير الجزائري بالقاهرة إنني حضرت إلى القاهرة للقيام بواجبين: أحدهما يخص مهمتي ككاتب يريد نشر كتابه ((الفكرة الأفريقية - الآسيوية))، وقد يدلكم عنوانه عن صلته بالقضية الجزائرية سواء اعتبرناها من الناحية الداخلية (كتوجيهات تخص الكفاح) أو من الناحية الخارجية (كنشر هذه القضية في المجال الدولي). وبخصوص هذا الواجب فقد قمت به بالقدر المستطاع، حيث أنني وضعت كتابي في أيدي من سيعنى بنشره، حتى أنني أعتبر نفسي متحرراً في المستقبل من مسؤولية هذا النشر.

وأما الواجب الثاني الذي حضرت من أجله إلى القاهرة، فهو يتعلق بشخصي كجزائري ساهم في الكفاح ضد الاستعمار منذ ربع قرن، ويأتي الآن كي يواصل هذا الكفاح تحت راية الثورة الجزائرية. وأعتقد أنني إذا وجهت داخل الجزائر كممرض عسكري في جبهة القتال - أستطيع في نفس الوقت إن أقوم بكتابة تاريخ الثورة الجزائرية على طريق المشاهدة تقريبا. كما أعتقد أنه يفيد أن أوجه بهذه المناسبة خطاباً مفتوحاً إلى رئيس الوزراء الفرنسي (¬1)، حتى يعلم ما هي الأسباب الإنسانية التي تدفع بكاتب جزائري - في المعركة. وتقبلوا تحياتي مالك بن نبي وقد يتساءل الآن القارئ لماذا لم يأتني رد؟ فربما اعتقد المسؤولون أن الثورة الجزائرية ليست في حاجة إلى تطوعي، وربما فكروا أن مؤهلاتي ليست كافية، وربما .. ... ¬

_ (¬1) وسلمت فعلا لأحد المسؤولين خطابا موجها إلى جي مولي كي يذاع مع نشرات جبهة التحرير بالقاهرة

رجل ووجهان

رَجُلٌ وَوَجْهَانِ الجمهورية الجزائرية في 24/ 1/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إننا في انتظار مؤتمر دولي وشيك، يبدو أن جدول أعماله سيتضمن مسبقا قضية السلم في العالم، ودراسة الوضع الجديد فيه، الوضع الذي ينتظر أن يجد في كل واحد- فرداً أو شعباً- نصيبه من السعادة الأرضية. ومن الطبيعي أن ظروفا كهذه، تنصب أمام عيوننا موضوع تأمل يتناسب مع الملابسة الحالية. ولكن يبدو أن الإِنسان المستعمر لا تستهويه أطياف التأمل الجذاب ولا تستدرجه للخوض في قضية السلم والحرب، بما يرى لهذه القضية- من الناحية السياسية على وجه الخصوص- من سمات تجعلها قضية برجوازية ... نعم، إِنها تهم الضمير الإنساني على الإطلاق كيفما كان الحال، ولكنها تأخذ ما لها من نتوء في لندن، أو موسكو أو واشنطن، أي في كل بلد يجد أهله في حوزتهم السمن مع المدفع في وقت واحد (¬1). بينما لا يجد الشعب الجزائري أما نظره مدفعا سوى مدافع الاستعمار، أما فيما يخص السمن فاسألوا 95% من العائلات الجزائرية، إنها لم تعد تتذكر طعمه منذ زمن. وفي جملة واحدة، فنحن نكون طبقة المنبوذين أو الصعاليك الذين لا يعترف لهم البرجوازيون- الذين بيدهم السمن والمدفع- بحق النظر في الأشياء، عندما يتكلمون في مصالح هذا العالم الذي يملكون فيه كل شيء: هذه الأنابيب للبترول وهذا المنجم للأورانيوم، وتلك القاعدة الحربية للطيران ... ¬

_ (¬1) إن هذه العبارة (السمن والمدفع) كانت شعار السياسة الألمانية في عصر هتلر.

ولكن عندما نراهم يتكلمون عن الحرية- تلك العذراء المتمردة التي تستهوي قلوبنا- فإِننا نشعر برعشة في أحشائنا، تأخذنا كما تأخذنا رعشة الاستياء عندما نشاهد منكرا. إن الشعوب المستعمرة تؤمن بالحرية، ولها حساسية كبيرة لدى هذه العقيدة الثمينة، العقيدة التي لم يستأصلها من روحها قرنان كاملان من هذه ((الحضارة)) الاستعمارية. ولكن هذه الشعوب المرتبطة، بمقتضى واقعها السياسي أو الجغرافي، بما يسمى ((العالم الحر))، لا تدري عندما يتكلم قادة العالم عن الحرية، هل هذه السخرية اللاذعة، سخرية الأقدار أم سخرية العباد. ولا نجد مفراً من تأويل الأشياء على هذا النحو أم على ذاك، عندما نرى تصريحات لبعض الشخصيات البارزة، مثل التصريح الذي أفضى به إلى مراسل صحيفة ألمانية من ميونخ، المستر وينستون شرشل، عندما تحدث عن ((مهمته الأخيرة)) وقال: إِنني أحاول تلافي التوتر العالمي، وتمهيد السبل إلى السلم والحرية. ولا شك أنها مهمة ورسالة في مستوى ذلك ((الضرو البارز)) كيما يسميه مورياك- ذلك الضرو الذي وضع على وجه العالم الذي صنعته الحربان العالميتان، وصمة مخلبه الجبار. ولكن .. أليس لهذا المخلب أثره أيضا في مصير شعوب مستعمرة لا زالت تسلب حرياتها الأساسية؟. إننا لا ندعي أن شخصية من الطراز الأول ومعقدة إلى حد كبير، مثل شخصية القطب الانجليزي، يجب عليها أن تتبسط لمجرد أن لا يؤذي تعقدها أذواقنا وأن لا يجرح حساسيتنا، ولكننا في نفس الوقت لا ننتظر أن نجد فيها جوانب تتعارض تعارضا كليا وتتناقض إلى حد أننا نتصور من خلال كلامها عن ((الحرية))، أنها تتكلم عن مسرحيتين، بلغة رجلين. إنه لا يوجد بأصغر قرية من قرى أوروبا الغربية من لا تبقى عنده تلك

الذكرى المؤثرة فيه أيام الحرب، عندما كان يرى حرف (( V)) مكتوبا على الجدران (¬1). ولم يبق طفل أوروبي، أو يهودي، لم يكتب هذا الحرف على جدران قريته. ولم يذكر في الوقت نفسه، ذلك الرجل ((أبو النصر)) الذي خلده، لأنه في ساعات الظلام الحالك في خضم المعركة، قد تمثل في شخصه كفاح التحرير من أجل حرية الملايين من البشر. ولكن العالم لا زال يعيش على أحر من الجمر المأساة الاستعمارية ولا يمكن أن نعيش فيه دون أن نحقد تلقائيا بعض المقارنات التي تتبادر إلى الذهن. فعندما يتكلم المستر شرشل ((أبو النصر)) عن ((الحرية)) كما تكلم في حديثه مع الصحافي الألماني، فإننا لا نستطيع في هذه الأيام أن ننسى مصير ((الماو- ماو)) الذين سلبوا في خطوة أولى في سبيل ((الحضارة)) أراضيهم الخصبة، والذين يقصد بهم، في خطوة ثانية، التنكيل والإبادة. كما لا ننسى أيضاً في هذه الأيام ما يتجرع أهالي الملايو من طعم ((السلم والحرية))، تحت مطر من القنابل التي تلقيها على قراهم أسراب القوات الجوية الانجليزية. وهل نستطيع أن ننسى أن هذا ((المخلب)) الذي يريد وضع وصمته على العهد الجديد، كذكرى تذكرها الأجيال المقبلة، انه هو ((المخلب)) الذي أعدم بجرة قلم دستور الجوييانه، أي جميع الحريات التي يضمنها لشعبها. لقد وددنا لو استطعنا أن نوحد فكرنا، حتى نرى في المأساة الإنسانية مأساة واحدة، وفي شخص المستر شرشل شخصاً واحداً: رجل التحرير. ولكن الواقع يضطرنا، بكل أسف، أن نرى مأساة أخرى تعيشها الشعوب المستعمرة، ووجها آخر لمستر شرشل تعرفه تلك الشعوب: وجه المستعمر. ¬

_ (¬1) فكان هذا الحرف يكتب تحدياً للجيش الألماني المحتل، وتفاؤلا لأنه الحرف الأول من كلمة Victory النصر، وكان مستر شرشل يصوره بأصبعيه في كل مناسبة.

بصيص الأمل

بَصِيصُ الْأَمَلِ الجمهورية الجزائرية في 28/ 5/ 1945 ــــــــــــــــــــــــــ لقد استفاد العلم من ظاهرة ((استمرار الرؤيا)) التي تجعلنا نبصر شيئا، ولو لحظة، بعد أن يكون قد فقد من الناحية النظرية ما يجعله مرئيا، لقد استفاد العلم من هذه الخاصية البصرية المبدأ الذي أسس عليه فن السينما وفن التنوير بالتيار المذبذب، كما استفاد منها في بعض الطرق لفحص الأجهزة المتحركة، لفحص الحالة الميكانيكية للمواد المركبة منها تلك الأجهزة لدراسة التغيرات التي تحدث فيها أثناء الحركة. وميزة هذه الطرق كلها، هي أنها تستطيع، أن تتيح دراسة الأشياء المتحركة كما لو كانت، في ظاهر الأمر ساكنة تماما. وإنني أعتقد أن هذه الطرق قد تفيد أو تغري بالفائدة في دراسة الواقع الاجتماعي، أي أنها تتيح دراسته كما لو كان مستقلا عن الاطراد، وكامنا في سكون مطلق وفي زمن جامد. إن هذا سيكون بطبيعة الحال لعِباً غريباً .. حيث أنه سيضفي على حياة الأفراد والشعوب ما يجعلها كتلة جامدة لا يعتريها تغير. وهذا اللعب سيعطينا عن الحياة، الشعور الغريب بأنها مفروضة على نفسها كما هي من دون تغير ممكن، ولا تطور متوقع. وهذه الطريقة، لو طبقت في السياسة سيكون لها من الأنصار كل من يهتم بتجميد حياة البشر، أو بإظهار جمودها على الأقل، أي كل من يتمسك في السياسة بمبدأ ((الاستمرار)) ومبدأ ((التقليد)).

كما سيكون لها ضحايا، كلما تفرض سلطة أجنبية على مصير العباد، وتصرخ لتاريخ الشعوب كلمة يوشع: يا شمس! قفي!! فكما سيكون لهذه الطريقة أنصار يطبقونها لمصلحتهم وضحايا تطبق على حسابهم، قد يكون لها ضحايا أخرى، في مستوى الفهم للأشياء أولئك الذين يغترون بظاهرها في أقوالهم وفيما يكتبون. وقد كان فكرنا مع هؤلاء المغتربين، عندما كنا نطالع ذلك العدد من (فرانس أوبسيرفاتور) حيث كتب مراسل هذه الصحيفة بطهران، نبذة قصيرة عن الوضع بعد أن أخذ الجنرال زاهدي بزمام الأمور بإيران، فقال هذا المراسل: ((إن بصيص الأمل الذي أتى به الدكتور مصدق قد انطفأ)). فهذه الخاطرة، هي دون شك نتيجة انفعال المراسل المذكور تحت تأثير الظاهرة التي أشرنا إليها، حيث يبدو وكأنه يفحص الحالة الاجتماعية والسياسية بإيران، في حالتين معينتين، نكون- إذا وصلنا بينهما على شاشة التاريخ دون اعتبار ما يفصل بينهما في الواقع- نكون قد أعطينا فكرة غير صحيحة عن الوضع هناك أي فكرة مقتضبة تعبر عن حالة نرى فيها شخصاً معينا، اسمه رزماره (¬1)، يعقبه ((رزمارة)) آخر اسمه زاهدي .. إن ظاهرة ((استمرار الرؤيا)) التي أشرنا إليها، قد ألغت في نظر مراسل الصحيفة الباريسية الفاصل الضخم الذي أحدثه الدكتور مصدق في تاريخ بلاده، كأنما هذا البلد العريق البشوش استمر منذ خمس سنوات في طريقه العتيق، وناي حفيز بين إصبعيه ورباعيات الخيام على شفتيه، وهو يسد أذنيه كي لا يسمع ذلك الضجيج المحموم، المتصاعد في سماء عبادان، ويسد أنفه كي لا يشم رائحة البترول، عندما يعرج طريقه المفروش بالزرابي المبثوثة، وبالزهور المنثورة فيكون على مقربة من المملكة التي تحركها الحمى، ويرفع صولجانها من بيده مصالح ¬

_ (¬1) رزمارة هو رئيس الحكومة الاقطاعي الذي وقع عليه انقلاب الدكتور مصدق. وزاهدي الجنرال الذي قام بانقلاب على مصدق.

شركة AOIC (¬1) . ومن ذا الجريء الذي يدعي أن الشعب الإيراني يريد أن يستنشق رائحة بتروله المنعشة أو أنه يريد تأميم إنتاجه، أو أنه يريد أن يكون صولجان الحكم بيده هو؟. هل صحيح أن ((بصيص الأمل)) قد انطفأ لأن مصدق أصبح سجينا؟ وأن فاطمي خرَّ تحت خنجر المجرمين؟ وأن قصتهما ما كانت إلا حلما انفلت من عالم النوم؟ من هو ((الوهم)) ومن هو ((الحقيقة))، بين زاهدي ومصدق؟. إن الأول هو صورة ((الاستمرار)): الصورة المزدوجة والملعونة للاستعمار والقابلية للاستعمار، والدليل المحسوس الذي يبرهن به على أن ((الإسلام عالم اللاحركة)) والذي يجب تحريكه وتحضيره. أما الثاني، مصدق، فهو حركة وطن مركزة في رجل، وهو صوت تطوره، وهو إرادته كيما يكون في التاريخ هو نفسه، أن يتحقق بذاته. أين الحقيقة؟ وأين الوهم؟ نعم، إنه من البين- لو حكمنا منطق مسيو دولا باليس (¬2) - لو جردنا الأشياء من الحركة ومن أسبابها، لم تبق إلا حقيقة واحدة، حقيقة عالم ساكن لا ((أمس)) فيه ولا ((غد))، فلو أننا قبضنا على عجلة التاريخ في إيران، وأوقفناه في يوم زاهدي، وهو كما بينا لا يختلف في شيء عن يوم رزمارة، وقصرنا ملاحظتنا، بتوقيف الزمن والحركة، على هذين اليومين بقطع النظر عن الفترة التي بينهما فإننا شنشعر أن تلك العجلة لم تدر منذ خمس سنوات، وأن شيئا لم يتغير في هذه الفترة في طهران. ¬

_ (¬1) شركة البترول الأنجلو-إيرانية. (¬2) رجل اشتهر بأقوال تشبه ((أن السماء فوقنا والأرض تحتنا)).

أوليس الأمر يبدو كذلك بدمشق؟، حيث لو أننا أوقفنا عجلة التاريخ فترة معينة، لوجدنا أن رجلا اسمه الأتاسي قد خلفه رجل اسمه الأتاسي، كما خلف زاهدي رزمارة بطهران وفي نفس الظروف ... حتى أننا لو عممنا هذه الملاحظات المقتضبة لقطعنا بأن الإسلام ((هو العالم الذي لا يتحرك فيه شيء)). وعندما نرفع هذا الحكم المغامر إلى مستوى حكم آخر قدمناه كمسلمة بنينا عليها كتاب ((وجهة العالم الإسلامي))، حيث رأينا في كارثة فلسطين الحدث الجوهري الذي يؤثر، في المستقبل في تحديد تلك ((الوجهة)) سنجد أنفسنا مضطرين، نظرا إلى الأحداث الأخيرة التي جرت بإيران وبسوريا، إلى أن نتساءل هل تبقى قيمة لمسلمتنا؟ إِن الجواب على هذا السؤال يفصل في سؤال آخر سبق، عندما تساءلنا: هل شخص الدكتور مصدق يمثل في تاريخ بلاده حقيقة تتصل بواقعها، أم مجرد ((وهم))؟ إن عودة الأتاسي إلى منبر السياسة، وعودة رزمارة ممثلا في شخص زاهدي، قد تدفعنا الى الاعتقاد بأن صدمة فلسطين قد انتهى دويها أو قد انخفض في البلاد الإسلامية بصورة تشعرنا بأن هذه البلاد تمر بلحظة سكون في تطورها، أو بلحظة نكسة، كأنها تنزع للرجوع إلى الحالة التي كانت عليها هذه البلاد قبل الكارثة. ولكن النظرة الفاحصة تدل على غير ذلك: إن الفترة الحاضرة ليست إلا لحظة من تاريخ تلك البلاد، اللحظة التي تساوت فيها القوات الرجعية المسلطة من الخارج، والقوات الدافعة المنبعثة من الداخل، أي من صميم واقع تلك البلاد. إنها الفترة التي يحاول فيها الاستعمار محاولة يائسة، عن شعور أو غير شعور، ليستعيد سلطاته في المستعمرات، مع مساعدة القابلية للاستعمار التي

تتمثل في شخص باؤ داي على سبيل المثال؛ وهذه المحاولة هي التي تطبع المرحلة التطورية الحاضرة في العالم الإسلامي بشيء من التردد بين مواقف متعارضة حتى نراه أحيانا يعود أدراجه إلى موقف سابق عندما نرى زاهيدي يخلف رزمارة، كأنما مصدق لم يوجد. ولكن هذه الصورة هي ((الوهم)) أو ((المظهر)) لأن حقيقة التاريخ شيء آخر، فهي منوطة بنفسية وإِرادة شعب، لا بمغامرات فرد وشهواته. إِن الشيء الذي يصنع تاريخ شعب، هو ما في نفسه من استعدادات، لاكمية النقود الأجنبية التي تتقاضاها حكومته. وهذا هو السبب الذي يجعلنا، رغم الظواهر التي خدعت مراسل الصحيفة الباريسية، نبقى واثقين أن ((بصيص الأمل)) الذي جاء به مصدق، لن ينطفئ وأن كارثة فلسطين لم تفقد أثرها التوجيهي على تاريخ العالم الإسلامي الحديث. ***

الفصل الثالث في الحقل الاجتماعي

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْحَقْلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ • من أجل إصلاح التراب الجزائري • قضية المرأة المسلمة • تهور أم تطور • ضرورة مؤتمر جزائري لتوجيه العمل • تفاهات جزائرية • باعة الحضارة • ثمن حضارتنا ــــــــــــــــــــــــــ

من أجل إصلاح التراب الجزائري

مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ التُّرَابِ الْجَزَائِريِّ الجمهورية الجزائرية في 30/ 4/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ لقد قرأنا في جريدة ((الفيجارو)) مقالتين لمسيو انجلهرد، تثري بصفة محسوسة معلوماتنا عن مشكلة التراب. لقد نعلم أن هذه المشكلة قائمة في الشمال الافريقي بصفة خاصة وأنني وضعت، فيما يخصني، مصطلحاً لهذه المشكلة أعتقد أنه يعبر عن جوهرها بكلمة Saharisation ( أو مصير التراب إلى الصحراء). ولكن المسيو أنجلهرد يعمم هذه النظرية، حيث يضع الظاهرة التي نشير إليها في الشمال الأفريقي، في نطاق ظاهرة عالمية تتصل منذ القدم بفناء الحضارات، عندما يفقد التراب العناصر العضوية اللازمة للحياة بسبب ( érosion) التآكل. وكأن هذه المعلومات تأتي، في عبارة في منتهى الوضوح، غداة التجارب النووية التي ألقت أضواءها الرهيبة على الجانب السياسي والعلمي في مأساة زماننا، لتؤكد في تلك المأساة جانباً طبيعياً وكونياً، وتكشف لنا دور الإنسان إزاء هذا الجانب الطبيعي: دور ((تلميذ الساحر)) الذي يطلق عن علم أو غير علم، عنان بعض طاقات الطبيعة، ثم يفقد التصرف فيها. وقد يبدو في ضوء المعلومات التي اكتسبناها من المسيو أنجلهرد أن بعض الإجراءات- مثل قطع الأشجار ونزع قشرة النبات الطبيعي على وجه الأرض- تؤدي إلى اختلال التوازن الموجود في ذلك المركب الطبيعي- شجر ونبات وتراب- الذي يكوّن الشرط الأساسي لحياة البشر، ولحياة الحضارة بصورة خاصة. وعندما يحدث هذا الخلل في المركب الطبيعي المذكور، فإن الرياح والمياه

تبتدئ عمل التخريب، تلك المأساة التي تنتهي بموت التراب، وتترك شعباً بدون خبز. والمسيو أنجلهرد يذكرنا أن القارات في طريقها إلى الذوبان مثل قطعة سكر في الماء، ويذكر أرقاماً في منتهى الدلالة، ففي إِيطاليا على سبيل المثال، نرى أن نهر ((البو)) يلقي وحده في الإدرياتيكي أكثر من أربعين مليون طناً من التراب سنوياً، أي مساحة مائة وأربعين كيلو متراً مربعاً. وفي أمريكا، حيث يبدو أن هذه الظاهرة بدأت مفعولها حوالي لسنة 1890، على أثر الإجراءات الزراعية الكبيرة التي أجريت في المناطق الغربية فإن أثرها بلغ أوجه حوالي سنة 1920 وكان تخريب الرياح بالمقدار الذي جعل مزارعاً من ((التكساس)) يعبر عن المأساة ((بنكتة))، فيقول: إِنني أرى ((عزب)) منطقة الأكلاهومة تطير فوق رأسي، فمن الصبح إلى الآن قد غرق منها أكثر من مياه عزبة في خليج المكسيكي. وقد تتأكد خطورة المشكلة في نظرنا، إذا ما عقدنا المقارنة بين الأرقام التي تدل على نقصان الأرض الصالحة للزراعة والتي تدل على زيادة السكان في العالم. وقد تتضمن هذه المناقضة كل مشكلات العالم الاجتماعية والسياسية المقبلة. وفيما يخص الشمال الإشريقي، فإِن هذه المشكلات قائمة منذ الآن، وقائمة بالحدة التي تكون عليها الأشياء عندما لا تصبح المصلحة العليا- مصلحة الشعب- مقدمة على المصالح الخاصة، إذ أنه كلما كانت الأولوية للمصلحة العليا، فإن أعمال أولي الأمر تتصف بتلك الأولية حتى لا يبلغ السيل الزبى. فأولو الأمر في أمريكا، مثلا، بعد أن قاموا بأعنمال تؤدي إلى اختلال التوازن الطبيعي الذي ذكرناه، قد تداركوا الأمر في الوقت المناسب وضربوا لنا مثلا قد نخطئ إِن لم نحتذه. والاتحاد السوفييتي أيضاً واجه هذه المشكلة، بل منذ عهد القياصرة،

إذ على أثر أزمة جفاف لم يسبق له مثيل، اهتمت السلطات بالموضوح، وعينت حوالي 1892، العالم دوكتشايف لدراسته، فأسس هذا العالم الروسي معهداً علمياً من أجل ذلك، معهداً ولد فيه علم جديد ( Pédologie) أي علم تكوين التراب. ولا شك أن تأسيس المصلحة التي تقوم بإصلاح التراب بالجزائر، تلبي ضرورة حيوية في البلاد، ولكن نجاحها في مهمتها- وهي تعويض الأشجار والغابات التي قطعت- لا يتم إلا بقدر ما تعيد ذلك التوازن الطبيعي الذي أشرنا إليه، بينما لا نرى أن السلطات التي بيدها الأمر تقاوم كما ينبغي عوامل التخريب للتراب الذي تستهدف إصلاحه. إن الصحافة قد نوهت، منذ بضعة أشهر، بما حدث في ناحية مدينة باتنة، حيث أن ما يقرب من عشرين ألف شجرة قد قطعت بموافقة بعض ممثلي إدارة المياه والغابات. ولم يبلغ إلى علمنا أن السلطات قامت بأي تحر لتحديد المسؤوليات في هذه القضية. حتى إن الحالة التي تواجهها مصلحة إصلاح التراب بوسائل ربما ليست كافية بالنسبة لاتساع الرتق، قد تزيد تفاقماً وتصبح تلك الوسائل مضحكة، إذا ما زادت الأعمال التخريبية التي نشير إليها في خطورة الحالة. ومما يزيد في هذه الخطورة، هو أن المسؤولين يقررون موقفمهم إزاء القضية، على مبدأ أن المسلم هو المسؤول عن الخلل الذي حدث في توازن العناصر الفعالة - شجر، نبات، تراب- في صلاحية التراب للزراعة بالشمال الإفريقي. وقد نعلم الأعمال الاضطهادية التي تعرض لها الشعب الجزائري بسبب هذا المبدأ عندما يطبق في صورة قانون المسؤولية الجماعية. وقد نجد أثر هذا الرأي الرسمي حتى في وجهة نظر المسيو أنجلهرد ذاته، كما يبدو من خلال أحد التفاصيل التاريخية التي تتناولها دراسته، حيث من بين الأسباب التي أضرت بمنطقة الغابات الموجودة بأوروبا الجنوبية، يذكر صناعة السفن

الخشبية في ذلك العصر، ومعها .. العرب الفاتحين. والغريب في الأمر: أن المسيو أنجلهرد، عندما يذكر العرب من بين أسباب تخريب الغابات بجنوب أوروبا، يقع في مناقضة دون أن يشعر بذلك عندما يعترف من ناحية أخرى بأن شبه الجزيرة الأبيرية (أي بلاد أسبانيا والبرتغال) التي تتسم اليوم بمظهر القحط الخاص بالمناطق الجبلية العارية من الأشجار، كان ترابها يغذي ثلاثين مليوناً من السكان في عصر الخليفة عبد الرحمن. وإذا كان هذا الخطأ الذي وقع فيه هذا الاختصاصي المحترم من الأخطاء التي ربما لا نقدرها من الناحية الأخلاقية (كمناقضة للحقيقة) أو من الناحية التاريخية (كمناقضة للواقع)، فإننا لا نستطيع أن نزهد في أثره من ناحية سيكولوجة الإدارة، حيث يصبح هذا الخطأ القناع الذي يخفي الحقيقة بالنسبة إلى ما يحدث اليوم من تخريب في شبكة الغابات الموجودة بالجزائر، ويعطي المبررات التي يقدمها أصحاب هذا التخريب الحقيقيين، كما يقدم للمسؤولين ما يعفيهم مسبقاً من المسؤولية حتى أنه ينشأ من هذا الخطأ أكبر صعوبة تقف في وجه مشروع إصلاح التراب بالجزائر، ذلك المشروع الذي يلاقي من الآن الصعوبات التي يلاقيها بمقتضى وسائل قليلة ومهمات كبيرة في بلد لم يستيقظ فيه بعد الرأي العام إِلى أههمية هذه المهمات. وليس مما هو أقل إفادة فيما كتبه المسيو أنجلهرد، أن أمريكا نفسها واجهت مثل هذه الصعوبات النفسية، حتى التجأت إلى ما يسميه الكاتب ((تلقين ضمير الشعب)) حتى يستيقظ لأهمية هذه القضية. وكنت، قبل أن أقرأ شيئاً في الموضوع، خصصت مقالاً سنة 1951، كي ألفت الرأي العام إليه، ويسرني، بعدما قرأت المسيو أنجلهرد، أن وجهة نظري تطابق الإجراءات التي اتخذتها السلطات الأمريكية، تلك الإجراءات التي غيرت وجه الأرياف الأمريكية في مدة عشرين سنة. ونتمنى أن تتكرر هذه المعجزة في أرض الجزائر حيث نرى الإنسان مهدداً في قوته اليومي بسبب قضية التراب.

قضية المرأة المسلمة

قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ الجمهورية الجزائرية في 26/ 2/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إِن مقالتي الأخيرة كانت مخصصة إلى جانب من الحركة النسائية عندنا، يتصل بصورة المرأة وقد بينت أنه الجانب ((القشري)) أو السطحي من حياة المرأة، بينما المشكلة على مقدار من الخطورة، بحيث لا يمكن أن نقتنع فيها بدراسة ((القشرة)). بل إنه لا يمكن في دراستها إغفال وجهة ((فرودية)) ذات أهمية كبرى، عندما نقدر الأشياء بالمقياس الاجتماعي والأخلاقي، وحسب آثارها في التاريخ. إن تطور المجتمع يرتبط، فعلا، بتطور المرأة والعكس صحيح، وطبيعة هذا الرباط كانت تستحق دراسة منهجية، نراها أتت في كتاب صدر هذه الأيام بانجلترا، تحت عنوان ((الجنس والتاريخ Sex in history ونوهت به الصحيفة الباريسية ((الإكسبريس)). إن صاحب الكتاب، جوردون ريتري تيلور، لا يبدو أنه تناول قضية المرأة مباشرة، وإنما اعتبرها من زاوية النتائج الاجتماعية، أي أنه اعتبر آثار المرأة في تطور المجتمع. والكتاب يفتح هكذا باباً جديداً في علم الاجتماع ينظر إِلى الأمور من زاوية ((فرودية))، فمن هذه الزاوية ينطلق المؤلف من ((احتمالين)) يكتشفهما التحليل النفسي في الإنسان ويترجمهما صاحب الكتاب بهذه العبارة: إنه يوجد في الإِنسان نزعة إيروس Eros، وهو حب وقدرة خلاقة، ويوجد فيه أيضا نزعة تناتوس ( Thanatos)، وهو حقد وقدرة تحطيم من ناحية، وقدرة مراقبة

وتنظيم من ناحية أخرى. وبقدر ما تكون النزعة الأولى أو الثانية هي المسيطرة، يكون على المجتمع طابع الأمومة، بما في ذلك من عبقرية الأنثى، َ أو طابع الأبوة، بما في ذلك من عبقرية الذكر. وهذه الصفات قد يكون أثرها ظاهراً في نظام الأسرة، حيث تكون الأسرة تحت سلطة الأم ( Matriarcat) أو تحت سلطة الأب ( Patriarcat) ولكن وبصفة عامة، فإِن هذه الصفات تحدد صورتين أو مرحلتين من الحضارة، تتسم كل واحدة منها بسمات معينة. ويمكننا أن نتصور هاتين السورتين أو المرحلتين من خلال طبيعة المرأة والرجل. إِن عنصر الأنثى يعني الخصوبة والتغيير السريع، ونشاهد أثره في أشياء مثل ((الموضة)) و ((التقدم))، كما يحتوي ذوق جمال وشاعرية. أما عنصر الذكر، فإِنه يعني القوة والاستمرار والمبدأ الأخلاقي والتصوف. إِنني لا أعتقد أن الكاتب الإنجليزي واصل التحليل إلى نهاية دور حضاري كامل، لأنه يفقد هذا المفهوم ذاته، حيث أن الثقافة الغربية في دراستها تاريخ الحضارات لا تقف عند مفهوم ((الدور الحضاري)). أما إذا واصلنا نحن التحليل، فإننا سنرى الحضارة التي تطبعها عبقرية الأنثى ستنتهي عندما تصبح المرأة ((فارسة)) Omazone (¬1) ويصبح فيها الرجل مخنثاً- وهي تنتهي إلى فجور وميوعة وانحلال، أما الحضارة التي عليها طابع الذكر فتنتهي إلى الجفاف والعقم والتحجر. لقد كان المجتمع الجاهلي كله تحت سلطة الذكر، وقد كان فيه ما فيه من قسوة ( Chanatos) ، وفيه ما فيه من نزعة التحطيم، حتى إِن المولودة كانت ¬

_ (¬1) ((الفارسة)) هى المرأة في مجتمع أسطوري، أخدت فيه الأنثى مقاليد الأمور وقامت فيه بأدوار البطولة.

توأد، يئدها أبوها. وحين جاء الإسلام أكبت في الذكر دوافع الجفاء والتحطيم، ولم يترك له إِلا قدرة التغلب على النفس، وقدرة التنظيم والتوجيه، فكوَّن بذلك مجتمعاً تتمتع فيه المرأ بكثير من الحقوق، مقابل بعض الواجبات. حتى أن الفقه الإِسلامي لم يفرض عليها إِلا واجب الزوجية، أما الواجبات المنزلة، كالغسيل والطبخ فإنها ليست مطلوبة منها، وحتى الرضاعة ليست فرضاً عليها، بل على الزوج أن يأتي بمرضعة لولده. وقد نتصور أن هذه التسهيلات، التي يقررها الفقه الإسلامي للمرأة غير معمول بها من الوجهة الواقعية، لأنها ربما تبالغ قي تحرير المرأة من أسر الحياة المنزلية، ولكن هذه المبالغة من الناحية النظرية، تلفت نظرنا للحالة الحقيقية التي تقع فيها المرأة المسلمة اليوم من حيث الأعباء المنزلية، تقع فيها أو تعود إليها بنكسة المجتمع الإِسلامي، إِذ يبدو أن هذا المجتمع، بقدر ما فقد خصوبته وقوته في التنظيم، قد عاد إلى الحالة التي كان عليها المجتمع الجاهلي من حيث الشدة والعقم. إننا لا نئد البنات اليوم، لأن قانوناً ورثناه عن الإسلام لا زال يمسكنا، ولأن قانوناً جنائياً يقفنا عند حدنا ولكن إِذا لم ندفنهن على قيد الحياة في الترات، فإننا ندفنهن في الجهل. ولكن هذا الوأد لا ينسينا ما تركت لنا الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، من تقاليد تعلي من شأن المرأة، ومن أسماء نساء لامعات تبقى آثارهن كمعالم الطريق لحركة نسائية إسلامية مجددة. إِن تلك الآثار تشمل الأدب والفنون والتصوف وعمل الخير. إن سيدات مسلمات قد تسابقن إلى الخيرات وتنافسن في البر والتقوى حتى تركن للأجيال المقبلة قدوة نقتدي بها إذ نجد في سماء الأدب الأندلسي اسم ((ولادة)) يلمع حين كانت تشرف على ((صالون أدبي)) يجتمع فيه فحول الأدباء والشعراء، قبل أن يلمع اسم مدام دي رمبولييه في الأدب الفرنسي بقرون. ولقد بقي اسم رابعة العدوية يرفرف في أذهان الأجيال المؤمنة من المسلمين،

نذكر قصتها عندما وقفت بشارع من شوارع بغداد، وكان يمر موكب حافل يشيع جنازة الرازي، فسألت: - لماذا احتشد الناس وراء هذا الميت؟! فرد عليها من رد: - إنه وجد البراهين التي تدل على وجود الله. فقالت العدوية: - وهل وجود الله في حاجة لبراهين هذا الرجل؟ وفي عهد أقرب منا، أليس الفضل فيما تمتعت به البلاد التونسية من وسائل الصحة منذ عهد بعيد، يعود إلى عزيزة عثمانة التي وهبت للبلاد جهازها الصحي الأول ... ؟ ويجب أن نقول من ناحية أخرى: إن أوروبا تدين إلى المجمع الإسلامي بالثقافة التي انتشرت فيها في العصور الوسطى، ونشرت في أرجائها تلك الفكرة التي تجعل تقدير المرأة من تقاليد الفروسية ... ولكننا نرى أوروبا اليوم في طريقها إِلى وضع ((الفارسة)) مكان ((السيدة))، وتضع، بالتالي المخنث ( Sy barite) مكان الرجل. إن هذا التغيير حدث بلا شك بسبب ((التهور)) الذي يطلقون عليه ((تحرر المرأة)) كما يصفه فيكتور مارجريت في كتابه ((لا جرصون)) (¬1) وهو كأنه يصفه في مرحلة الأولى، مبشراً بظهور المجتمع الذي تسوده نزعات الأنثى في أوروبا، هذا في الوقت الذي ألغت فيه تركيا الحجاب والحروف العربية. والآن، لقد اتضحت القضية تماماً: إنه يجب علينا أن نعيد إلى المرأة الكرامة التي وهبها لها الإسلام، عندما أنقذها من عادات الجاهلية القاسية، ولكن فلنعد لها كرامتها لنجعل منها ((السيدة) التي توحي إلى الرجل بالعواطف الشريفة، لا ((الفارسة)) التي تسيطر عليه. ¬

_ (¬1) أي البنت المسترجلة.

تهور أم تطور

تَهَوُّرٌ أَمْ تَطَوُّرٌ الجمهورية الجزائرية في 5/ 2/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ لقد حذرت، في مقالة سابقة، شبابنا من الخطأ الذي نقع فيه أحياناً، عندما نتناول مشكلة في مكان غير مكانها، ولعل القارئ وجد في هذا التحذير شيئاً من المبالغة. إذ أننا، في نظره، لم نتعود على هذا الخدط ((بين أنبولة بقر وفانوس))، حتى يبدو أننا في غير حاجة إلى مثل هذا التحذير. ولكنني أدين بفكرة هذا الاحتياط، مهما يبدو فيه من المبالغة في نظر البعض أو البساطة في نظر الآخرين، إنني أدين بهذه الفكرة إلى رجل أدين إِليه أيضاً بالفضل الكبير في ميدان الفكر فهو وجه من الوجوه المشرقة بنور العلم، يجمع في شخصه المواهب الفكرية والميزات الأخلاقية التي يتسم بها رجل علم فرنسي كنت تلميذه بباريس. إن هذا الأستاذ الكبير كان يعلم تلاميذه كي يحتاطوا من ((البديهيات)) الخادعة التي تخدع الفكر بظاهر الأشياء ... وكان هذا الأستاذ الكبير يستشهد في هذا الدرس، الذي يتعلق بفلسفة العلم، بقصة غاليلي ( Galilée) الذي دفع حياته ثمناً في مقابل الخطأ الذي وقع فيه معاصروه عندما أخرج لهم نظريته المدهشة، التي تقول لأول مرة، بأن ((الأرض هي التي تدور حول الشمس)) بينما كان الناس يعتقدون أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. ولقد كان الخلاف بين من يرى مرأى الفكر مثل غاليلي، ومن يرى مرأى العين أي كافة الناس الذين كانوا ((يرون بكل وضوح الشمس تدور ... ))

فغاليلي ذهب ضحية هذا ((الوضوح)) الخَادع الذي أخر العلم قروناً ... فكنت أتذكر هذه القصة، عندما تناولت في مقالة مضت قضية المرأة عندنا، وكانت تتجلى لي ((البديهيات)) الخطيرة التي تحوم حول هذه القضية! ونحن نرى في كل ((بديهية)) منها، الفخ الذي ربما يقع فيه عقلنا عندما نفكر في هذه المسألة. ومهما يكن الأمر، فإِنه ليس في نيتي أن أقدم هنا منهاجاً كاملا للحركة النسائية عندنا، وقد اجتهدت، أن أبين بالقدر المستطاع، مبادئها في محاولة سابقة (¬1)، وإنما أريد أن أعقد المقارنة بين مظهرين من مظاهر هذه الحركة، وهما مظهران يخشى أن يؤدي الخلط بينهما إلى عواقب غير محمودة في بلادنا. ويجب منذ أول الأمر، أن نقصي عن مجال الحديث اشتباها قد نقع فيه بسبب العنوان نفسه، إذا اتخذناه في صورة متحارجة ليست في طبيعة الموضوع، إننا لا نضع نقطة الاستفهام على طرفي مناقضة، وإنما نضعها فقط للتعبير عن الفرق بين مظهرين مختلفين من مظاهر القضية، مع الاشارة إلى أهمية كل واحد منهما وارتباط كل واحد منهما بمعطيات الموضوع. ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذا التمييز لا يظهر تلقائياً كبديهية من بديهيات الحياة الاجتماعية، لأن الحياة لا تحلل الأشياء وإنما تجمعها وتركبها أو تلفقها، حسب درجة انسجامها. ولكن الحياة تعطينا أحياناً المثل المقنع، الذي يضيء بضوئه المباشر الموضوع الذي نريد فحصه أو فحص مظهر من مظاهره على وجه الخصوص. ولا شك أن سكان العاصمة يتذكرون، تلك ((الهجرة)) التي حدثت في أوساط الطائفة اليهودية بالجزائر، بعد أن تأسست دولة إسرائيل، ولا شك أنه كان بين ((المهاجرين)) عدد من النساء اليهوديات، من أهالي وادي ميزاب، ومن واحات وادي سوف ... ¬

_ (¬1) راجع فصل المرأه في كتاب ((شروط النهضة)).

فهل نتصور النظر، منظر هؤلاء اليهوديات من الواحات الجنوبية بالجزائر، إِذا ما نزلن بتل أبيب وعليهن ملامح نساء تلك الواحات، أي في عيونهن الكحل، وفي أرجلهن ((البلغة)) وعلى رؤوسهن الملاءة اللف؟ إننا نتصور لا شك ((الثورة)) التي كانت تحدث بتل أبيب لو حدث في شوارعها هذا المنظر ... ورأته المهاجرات، الأخريات اللواتي ينزلن من انجلترا ومن ألمانيا ... ولكن القيادة اليهودية أدركت هذا، وقد اتخذت الإجراءات اللازمة كي لا تحدث مثل هذه ((الثورة)) ... ولا شك أن القارئ المسلم، إذا كان من سكان العاصمة يتذكر ذلك الضجيج الملون الذي كان يسود حول تلك البناية الضخمة، بشارع باب عزون، حيث كنا نشاهد، عندما يأتي قطار الجنوب، بيهوديات يعبرن الباب ويدخلن في تلك البناية في صورة ((بلديات)) الواحات الصحراوية، ثم نشاهد، بعد أسبوع، يهوديات يخرجن من ذلك المبنى في صورة ((المواطانات)) المتأهبات إلى الباخرة التي ستنقلهن إلى إسرائيل. ومن يشاهد هذا المنظر يندهش من سرعة التغيير الذي حدث في صورة هؤلاء النسوة، اللائي تركن بسرعة البرق ((البلغة)) كي يلبسن الحذاء الأنيق، وتركن ((الملحفة)) (¬1) كي يرتدين ((الفستان)) وتركن زجاجة الكحل كي يتزودن بأدوات التجميل العصرية .... ولا يشاهد المسلم هؤلاء اليهوديات قد تركن الأشياء القديمة فحسب، بل يرى أنهن انسجمن مع الأشياء الجديدة، كان الملقن الذي أشرف على هذا التغيير، أو الملقنة التي أشرفت عليه، لم ينسيا كلاهما أي تفصيل في تكييف اليهودية كي تصير ((مواطنة)) في إسرائيل حتى في كيفية المشي برشاقة ... وكيفية الابتسام بأناقة ... ¬

_ (¬1) رداء النساء في الجنوب الجزائري.

ولكننا ندرك أن العصا السحرية التي أحدثت هذا التغيير في أسبوع لم تحدث، في الواقع، إلا تغييراً سطحياً لم يؤثر إلا في مظهر شخصية يهودية جنوب الجزائر، دون أن يغير كيفية تصورها ولا شعورها ولا تفكيرها. فنحن هنا أمام تخطيط واطراد يخصان بتعبير بافلوف الحالة ((القشرية)) في الشخصية، لا حالتها الداخلية. ولكننا نعرف عن القادة اليهود، أنهم لا يباشرون المشكلات بمنطق السهولة، حتى أننا نعتقد أنهم لا يقتنعون بهذا التغيير الشكلي أو ((القشري)) في المرأة اليهودية المستعدة للسفر إلى إسرائيل، إلا كخطوة أولى تمليها ظروف خاصة في سلسلة تطورية معينة. ولا شك أننا نخطىء إِذا قدرنا هؤلاء القادة اليهود على أنهم يخلطون بين هذه ((الخطوة الأولى)) التي تحدث في لمحة بصر تغييراً شكلياً مرموقاً، وبين الاطراد الطويل الذي يغير ((النفس)). ها نحن الآن قد وصلنا إلى الشيء الذي هو بيت القصيد في هذه المقالة: إن الفرق الذي بيناه بين تغير ((القشرة)) وتغيير ((النفس)) هو ما كنا نريد إباتنه بين ((التهور)) و ((التطور))، أي بين ما يتصل بمظهر الشخصية، وما يتصل بجوهرها. فإِذا استفدنا من يهود الجزائر، من الناحية الفنية، فيما يتعلق بمظهر المرأة، فيجب علينا أن لا نقتنع بهذا الجانب، الذي يعني أحياناً تهور المرأة، كي نفكر فيما يتعلق بتطورها. ولو أننا تتبعنا خطوات اليهودية بعد خروجها من ((مصنع)) باب عزون، حيث صنعت قشرتتها الجديدة، ورأيناها بعد وصولها إلى تل أبيب في صورة ((مواطنة))، كيف تتكيف مع الحياة الجديدة باجتهاد شخصي، تتكيف بكبت العناصر النفسية التي لا تتمشى مع الشخصية الجديدة- شخصية المواطنة- وباكتساب عناصر أخرى من شأنها أن تغير الـ ((أنا)) في اتجاه التطور المنشود حسب رغبة

المجتمع، وأهدافه، ومصلحته. ومن الواضح أن هذا ((الاجتهاد الشخصي)) من أجل التكيف في الوسط الجديد، هو من جانب الفرد ((الرد)) على أفعال المجتمع الذي يكون في الواقع العامل الأساسي في تطوير الفرد. أو بعبارة أخرى: إن الفرد لا يتطور في مجتمع جامد، وإنما يتهور فيه أحياناً. والآن، لو طبقنا هذه الاعتبارات العامة، في الحركة النسائية الجزائرية على وجه الخصوص، فإننا نرى أنها تتضمن جانبين: 1 - درس شروط التغيير الشكلي عندما يمر المجتمع بظروف خاصة تقتضي بأن تكون صورة المرأة مطابقة لنموذج معين، وأن يكون لها أسلوب معين، هذا بالنسبة للفرد. 2 - درس الشروط التي يجب فرضها على المجتمع كي يقوم بدور التوجيه، أو التطوير للمرأة في الاتجاه المقصود. وإننا ندرك كم يجب، في هذا الفصل، أن نعتني أولا بتحرير سيكولوجية الرجل- الأب، والأخ، والزوج- كي تتمشى مع مقتضيات المشروع في عمومه. ويجب أن نلاحط أن هذا التخطيط المصنوع صناعة نظرية، هو ما تقتضيه ظروف خاصة عندما يجب أن تسير الأمور بالسرعة والتعجيل، أما في الظروف العادية، عندما تسير الأمور بطبيعتها، فالنموذج الذي تكون عليه صورة المرأة في المجتمع، يكون نتيجة لتطور بطيء ينحت هذه الصورة نحتاً عبر القرون. ولكن كيف يتسنى لنا أن نحدد هذه الشروط كلها، بالنسبة لأفعال المجتمع وبالنسبة لرد الفرد (المرأة) عليها، إن لم تعرض القضية على مؤتمر يدرسها بكل تفاصيلها في مناقشة عامة تهيئ الجو لتطبيق الحل، وربما تجد الحل ذاته ...

ضرورة مؤتمر جزائري لتوجيه العمل

ضَرُورَةُ مُؤْتَمَرٍ جَزَائِرِيٍ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ الجمهورية الجزائرية في 10/ 1/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إن المقالة التي نشرتها بخصوص قضية العطلة، قد سببت رداً عليها باسم شباب حزب البيان، أي فيما يبدو، باسم الفئة التي كان لها الفضل في توجيه نداء للرأي العام من أجل دراسة القضية. ولقد كنت أهدف بمقالتي إلى إنشاء حوار حول قضية حيوية في بلادنا، ولعل هذا الرد صورة من الحوار الذي كنت أتمناه مهما يكن في الأمر من الغرابة، حيث أن الحوار يكون عادة، بين أشخاص من نوع واحد، لا بين شخص معين وشخصية مجردة، تمضي باسم ((شباب البيان)) ... وعليه فإنني أتصور الحوار بيني وبين جماعة من الشباب الجزائري من ذلك الشباب الذي نحبه، لأنه في مقدمة الكفاح ضد الاستعمار ... ، ونحييهم بالخصوص عندما نراهم يواجهون مشكلة العطلة، تلك المشكلة التي تخص مباشرة وبحدة الشعب الجزائري، كل يوم، أي أنها تؤثر في حياننا في كل يوم. ولكنني أتساءل- عندما أقرأ الرد المذكور- هل زل قلمي حتى أن ما أردت أن أبلغ من شكر للشباب الذي وجه النداء انقلب ذما حينما انتقل من فكرة في خاطري إلى جملة على الورق؟ في الحقيقة إنني أخشى أن يكون ((النقد)) لم يدخل بعد في عاداتنا ولم يستقر في جونا العقلي، وأن الكلمة ذاتها لم تبرح أجنبية عن قاموسنا، أو أنها تعني شيئاً آخر، كان كلمة ((نقد)) وكلمة ((تشويه)) مترادفان في لغتنا. إنني أخشى هذا، وأتذكر أن هذه الخشية قد اعترتني في مناسبة أخرى عندما نشرت كتاب ((شروط النهضة))، وكنت خصصت فيه فصلا لذكر الحركة

الإصلاحية التي قامت بها جمعية العلماء في البلاد، وإذا بي أجد، يوماً في جريدة جمعية العلماء ((البصائر)) رداً من قلم أحد أعضائها المتكلمين باسمها، يرد علي كأن كتابي المذكور لم يكن همه إلا الكلام في هذه الجمعية بما يشوه سمعتها (¬1). وذلك لأنني هممت في هذا الكتاب، بعد أن بينت فضل الحركة الإصلاحية في بلادنا، هممت أن أبين جوانب الضعف فيها، بالخصوص على أثر ((ورطتها في الوحل السياسي سنة 1936)). وكانت دهشتي تزيد عنفاً، عندما أتصور موقف هذا المفتش في جمعية العلماء. موقف من كان يعيش حياته بكل هدوء وطمأنينة، في الأيام التي كنت أعيش فيها بباريس، وأحمل بها وحدي لواء الإِصلاح في وجه العواصف والأعاصير التي يثيرها الاستعمار على خصومه!. حتى جاء اليوم الذي بلغ فيه السيل الزبى، في نظر المستعمرين، اليوم الذي رشحت فيه اسم ابن باديس لرئاسة الشرف لجمعية الطلبة المسلمين الجزائريين (¬2). فليطمئن ((شباب حزب البيان)) أن أحداً لا يشك في صفاء نياتهم ولا في طيبة قلوبهم، ولا في جد جدهم، وأنني على وجه الخصوص لا أريد، عندما أقدم نقدي في موضوع ما، لا أريد أن أحملهم ((وحدهم)) إثمنا ((جميعاً)). لا سيما في المقالة المتهمة، عندما أقول أن في رأي من ((يشبهنا بفراشات جميلة)) مزيداً من تبرير مراجعة نفوسنا، بطريقة النقد الذاتي. ومهما يكن الأمر، فإن أحسن مواهب الإِنسان وأطيب نياته لا تمنع من تأثير نوائب الزمن، الملازمة للقوانين التي تحكم مصيره. وفي المجال الاجتماعي بالخصوص، فإن مشكلة تطرح على بساط البحث ¬

_ (¬1) وهذا الكتاب مترجم الآن إلى اللغة العربية، حتى أن القارئ العربي يمكنه أن يفهم من خلال هذه السطور، أسلوب الصراع الفكري، وكيف يحاول الاستعمار أن يسخر ((أقلامه)) حتى يظهر كتاباً يحاول دراسة ((شروط الحضارة)) يظهره في صورة كتاب وضع للحديث عن الأشخاص. (¬2) ويجب أن نقول: إن أول من قاوم هذه الفكرة كان من بين الطلبة أنفسهم، ممن يتزعم اليوم الحركة الوطنية لأنها أصبحت تجارة مربحة بينما كانت تجارة خطيرة قبل ربع قرن.

لا يعني أنها حلت. والفضل في طرح مشكلة للبحث مثل فضل الشباب الذي دعي إلى بحث مشكلة العطلة، لا يربطها بحل معين، ولا يرفض هذا الحل مسبقاً. فالحل منوط بمجموعة شروط، تكون المقياس الذي يجب التمسك به للوصول إلى الهدف المقصود، بجهد لا ينزل عن مستواه، ولا ينحرف عن اتجاهه. لأن الخطأ قريب من العقل، ومن أقرب الأشياء إليه أن يتناول مشكلة في مكان أخرى وليس من الكوارث ما يتكرر مثل كارثة الكلام عن شيء، والعمل كأننا نريد شيئاً آخر. إننا أحياناً نتكلم مثلا عن تطور المرأة ونعمل كأننا نريد تهور المرأة. والشيء الذي يجب أن نلاحظه بخصوص موضوعنا، هو أن شباب حزب البيان لم يخطئ في المشكلة، ولكن كان معرضاً للخطأ في محاولته لحلها. فلنعد إلى القضية بصورة موجزة: إن شبابنا المناضل تناول مشكلة حيوية، وأوحت له خطورتها ببعض المبادرات: بعض ((الاحتجاجات الشديدة)) موجهة إلى الخارج، وبعض ((المطالب الملحة)) موجهة إلى الداخل. فهذه، لا شك نيات طيبة، وجهود محمودة. وإنني لأقرأ، من ناحية أخرى، على أعمدة هذه الجريدة مقالة مفيدة تتضمن أفكاراً قيمة في الموضوع. ويفيدنا بالخصوص صاحبها فيما يتعلق بالتكوين المهني المستعجل. ولكن كل هذه الأشياء القيمة لا تأتي بحل، ولا تضعنا في طريقه، بل هي على العكس جديرة بأن تلفتنا عن هذا الطريق، وجديرة بأن تزيد هكذا في تعقيد المشكلة، دون أن نشعر بذلك. فلنوضح موقفنا كما ينبغي: إن مشكلة البطالة بالجزائر تتميز بطبيعة خاحة، لأنها ليست قضية فئة من الناس تحرمهما من الشغل أزمة اجتماعية مؤقتة، فينتظرون، على أبواب المصانع والورشات، عودتهم إِلى الشغل، بل هي قضية

الشعب بأكمله، شعب وضعته ظروف اجتماعية وسياسية ونفسية خارج دائرة العمل (¬1). وعليه، فإذا كان الحل على صورة ((مكتب تشغيل)) يصلح في الحالة الأولى - عندما تخص القضية فئة من الناس- فإِنه لا يصلح في الحالة الثانية وربما كان مضراً إذا أضاف عنصراً نفسانياً يعقد المشكلة، ويغير الاتجاه إزاءها، ويمكن أن نستدل على هذا الخطأ بمثل ملموس يعطيه لنا ذلك الشاب الذي كان رده على نداء ((شباب حزب البيان)) بأنه وجه إلى هذه الهيئة طلب تشغيل كـ ((نصف مهندس)) وهذا خطأ في تفهم فرد للقضية ... ولكن عندما نرى الهيئة التي يتوجه إليها هذا الشاب تنشر طلبه في جريدتها، كأن القضية قضية فرد أو أفراد معدودين، فالخطأ هنا أكبر، لأنه يتضمن عنصراً فكرياً ونفسياً، يؤدي إلى محاولة عابثة، كأن الحل منوط بصحيفة تنشر على أعمدتها طلبات الذين يبحثون عن شغل ... إذ الطريقة ستكون مضحكة، بلا ريب عندما يكون عدد الطلبات يبلغ الملايين ... وزيادة على هذا، فإنني على يقين من أن الطلب الذي وجهه الشاب الذي يبحث عن عمل ((نصف مهندس)) لم يجد في سوق العمل من يلبيه ... (وأتمنى أن يأتيني النبأ الذي يجعلني أخطأت في تقديري) ... (¬2) وعليه يجب أن ندرك كيف يكون الحل الذي نقدمه أو نقترحه في صورة ((مكتب تشغيل)) ... ؟ قد يكون صداه، في حياتنا العامة، سلبياً من وجهين، لأن الفشل المزدوج الذي ينتج عنه يزيد من ناحية ((الجمهور)) في عدم الثقة، ومن ناحية ((النخبة)) قد يزيد في الشعور بالعجز الذي يؤدي إلى اليأس والتقليل من الإِرادة في العمل ... ¬

_ (¬1) وقد يلاحظ القارئ من الجملة التي نقلناها له في التعليق الذي يتبع هذا المقال، وهي مقتطفة من مقالة صدرت في نفس العدد مع المقالة التي نترجمها هنا، فهو يدرك هكذا أن الاستعمار بدأ يهيئ الجو في الوقت الذي تنشر فيه هذه المقالة ... حتى لا يتحقق أثرها. (¬2) وأقرل للقارئ أن هذا النبأ لم يأت لا على أعمدة الجريدة. ولا في بريد خاص.

تعليق

وهكذا يدخل عنصر سلبي جديد في حياتنا، ويضع ثقله على نشاطنا في المستقبل. وإذاً، أين الحل؟ لو كان لي به دراية، فإنني لا أنتظر أن يطلب مني رأي في الموضوع، أو أن يطلب مني ((شباب حزب البيان)) بأن أعيره مما في ((تجربتي)) كما يقترح علي من قام بالرد باسمه. ولكن، إِذا لم تكن تجربتي جديرة بتقديم حل جاهز، فإِنها توحي لي بأن هذا الحل سينتج بكل تأكيد من البحث والمناقشة، لو انعقد مؤتمر، لأنه سيجمع حتماً عناصر هذه المناقشة ويجمع كل ما يقال أو يفعل فيما يتصل بالموضوع، يجمعه مع أشياء أخرى يشملها البحث، كي يصوغ من كل هذا الحل المشروع أي الحل الذي لا يغير في الحين الرجل المتعطل إلى رجل يعمل ولكنه يدل على كل الشروط الباطنة والظاهرة لهذا التغيير. وهكذا فإِن ((تجربتي))، إن لم تدل فوراً على الحل نفسه، فإنها تدل على الطريق الذي يؤدي حتماً إلى هذا الحل، وهذا الطريق يمر بـ ((مؤتمر جزائري لتوجيه العمل)). وهذا بالضبط ما قلته من دون تفاصيل في المقالة التي سببت الرد الذي دفعني إلى هذا الجواب ... ولو أن الشاب الذي قام بالرد قرأ هذه المقالة بإمعان، لوجد فيها أكثر من تسلية ((صحافية)) أو ((أدبية)) .. تَعْلِيقٌ لقد ذكرت على هامش المقالة السابقة بعض الإجراءات التي يتخذها الاستعمار في نطاق الصراع الفكري بصورة عامة، وكيف كان موقفه إزاء المقالة التي نشير إليها على وجه الخصوص، ولكنني لم أذكر كل هذه الإجراءات إزاء ما نشرت بخصوص قضية العطلة.

إنني قلت كيف يسخر ((قلماً)) من أقلامه كي لا يكشف القناع عن وجهه. ولكن يجب أن نضيف أن الاستعمار لا يسخر قلماً واحداً في قضية هامة بل أقلاماً: فيكتب القلم الأول كي يحرم الأفكار المقصودة من التأييد العاطفي في البلاد، لأن هذا القلم يمضي سخافته باسم ((هيئة الشباب)) حتى تؤدي مفعولها دون أن ترد عليها. ثم يكتب القلم الثاني، كي يسلب- بالإيحاء ومجرد الإِشارة- المقالة المذكورة قيمتها الفنية وحيث أنها ركزت جهدها على جانب ((الأسباب)) في القضية المعروضة، فيقول هذا القلم ((إذ البحث عن الأسباب الاقتصادية والسياسية والنفسية، لا بأس به، لكن عرض ((الوسائل)) النافعة الفعالة يكون أجدى .. )) الجمهورية 15/ 1/ 1954 كأن الوسائل تنبع وحدها من العدم دون أن نعرف ((الأسباب)) التي تدعو إليها ثم لا يقتنع الاستعمار بهذا الهجوم فقط، بل يشن غارة أخرى ويسخر لها صحافة حزب ((وطني)) آخر، حزب مصالي حاج، فبمجرد ما أشير في مقالتي السابقة إلي عقد مؤتمر لدرس قضية العطلة يصدر حزب مصالي نداء لجمع هذا المؤتمر نفسه، حتى لا يبقى فضل لصاحب الفكرة في ذلك لأن هذا النداء لم يذكر ما سبق في الموضوع. وهكذا تحاط الأفكار من كل جانب، ويقاومها الاستعمار بكل ما لديه من الوسائل، وقد رأينا عدد الوسائل الذي يتصرف فيها في قضية واحدة. ***

تفاهات جزائرية

تَفَاهَاتٌ جَزَائِرِيَّةٌ لو أن أحداً استساغ أن يشبهنا- باللسان أو بالقلم- فشبهنا بفراشات جميلة تتفسح في يوم الربيع، تطير رشاقتها الملونة من زهرة إلى أخرى، وهي تداعب حينا البنفسج وتارة تداعب النرجس ... لنظرنا إلى من يشبهنا بهذا التشبيه اللطيف على أنه يستخف بنا ... وأنه يقصد بهذا التشبيه إهانتنا، لأن عقله لا يتورع عن السخرية ... ولكن، لو رجعنا لنفوسنا بالنقد الذاتي، فلربما نغير موقفنا من هذا الرجل، فلا نحمله الإِثم الذي نحمله. ورجوعنا لنفوسنا يمكن بفحص أي قطعة محددة من نشاطنا الاجتماعي، وإننا لنجد في حدث قريب المثل الذي يبرر هذه الاعتبارات في غاية الوضوح. إِن طليعة الشباب في حزب البيان، في منظمته الخاصة بالشبان قد أطلقت منذ أسبوعين- وهي صاحبة الفضل الكبير في ذلك- أطلقت صرخة مثيرة فيما يتعلق بخصوص قضية العطلة في الجزائر. وإننا نعرف، فعلا، الحالة المثيرة التي تجد فيها نفسها شبيبتنا التي تقضي ساعاتها وسنواتها في الشارع. وإنه لمن الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل أن حجم الجهد الاجتماعي- ويجب أن يكون كذلك- بقدر المشروع الذي يريد تحقيقه بحيث يكون هذا مقياساً للأول. فهذا أمر في منتهى الوضوح. والآن فنحن نعرف جيداً حجم قضية العطلة في الجزائر، حيث أن هذه القضية تشغل، مع الأمية المكان الأول بين العاهات الاجتماعية في هذه البلاد.

وعليه، فإن صرخة شباب حزب البيان، كانت، فيما يبدو، تبشر بعهد جديد بالنسبة إلى العطلة، كدعوة لدراسة هذه القضية دراسة مثمرة، من شأنها أن تأتي بالحلول المناسبة للمشكلة المعروضة. ومما كان يزيد في توقع هذا الأمر، أن نداء الشباب كان يطلب الردود متعمداً ... فكان إذاً من المنتظر أن تقع مناقشة بين هؤلاء الشبان الذين لم يتقرر مصيرهم، فيعرضون مطالبهم ويعبرون عن رأيهم، ويقترحون فيها ... ما يرونه مناسباً من الحلول، ويشرعون في مبادرات أو يساهمون فيها ... أي بكلمة موجزة، أنهم سيتخذون في هذا الأمر موقفاً حاسماً. وكانت أهمية هذه الفرصة تتزايد في نظرنا، بقدر ما كنا ننتظر أنها ستجلي في ضوء واحد، موقفين: موقف أصحاب النداء أي النخبة، وموقف من يتوجه إليه النداء أي الجمهور، أي موقف الطائفتين اللتين تكونان العناصر المحركة لحياة اجتماعية وكانت الفرصة هكذا تفسح المجال لاختبار أهم جانبين في الشباب الجزائري ولكن لقد مضت الأمور، في الأول، كأنما نداء شباب حزب البيان لم يخص حالة عامة، وإنما بعض الحالات الخاصة، لم نعرف منها بالتالي إلا حالة واحدة، حالة شاب ميكانيكي كان له الفضل في الدخول في المناقشة المطلوبة. فدخل فيها وحده ... دون أن يكون له رفيق ... فالواقع أن المناقشة لم تقع، لأن الجانب الذي كان سيمثل فيها ((الجمهور)) يفقد الروح الاجتماعية، كما يعبر عن ذلك موقفه السلبي، وسنقول فيما يتبع شيئاً عن معنى هذا الفقر الاجتماعي الذي يؤدي إِلى نتيجة غير منتظرة، لأنه من الوجهة العلمية كأنه نافية تنفي وجود القضية المعروضة للبحث. ومن ناحية أخرى، يجب أن نلاحظ أن الجانب الآخر الذي كان سيمثل في القضية ((النخبة)) كان مصاباً أيضاً بفقر اجتماعي ولكن من نوع آخر كما يدل على ذلك عدم تنبهها إلى سلبية ((الجمهور)) التي أشرنا إِليها، كمشكلة اجتماعية، قائمة بذاتها يجب إضافتها إلى القضية المعروضة كي تدرس كجزء منها يزيد بضوئه

الخاص في توضيح القضية. وهذا يجعلنا نقول إن ((النخبة)) عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فهي على هذا كأنها اقتنعت بتسجيل الفشل ولكن دون أن تسعى في تفهم أسبابه ... وإننا نتمنى أن تكون قد شعرت بهذا الفشل، حين لم يكن لندائها صدى يذكر. فلو أن النخبة درست هذا الفشل، لاستفادت منه أكثر مما يفيدها نصف، نجاح خداع ... لأنها تدرك من خلال تلك الدراسة حقيقة الأمر، أعني حقيقة الشروط الخاصة التي يجب أن تخضع لها جهدها كي تحقق به نجاحاً كاملا. فمن الواضح أن الصمت، الذي كان الرد الوحيد على النداء الذي وجهته هذه ((النخبة))، يعني من ناحية ((الجمهور)) التهيب وفقدان الثقة والأمل، ويعني من ناحيتها نقصاً في التنظيم. وعليه فالفشل يتضمن جانباً سيكولوجياً وجانباً فنياً (¬1). ومن البين أن الجانب الفني أي النقص في التنظيم وفي التخطيط وفي توجيه العمل المشترك، هو عمود القضية، لأننا لو وضعنا هذا الجانب موضع التأمل والدراسة، لدعانا ذلك إلى مزيد من التأمل في القضية الرئيسية، قضية العطلة. ولكن إذا أردنا أن نذهب في هذا السياق إلى أقصى التحليل يجب أن نقول، إن المشكلتين بقيتا معاً دون حلول، فلا ((الجمهور)) اكتسب الروح الاجتماعية التي يفقدها، ولا ((النخبة)) اكتسبت الفكر الفني الذي يعوزها. ولكن الشيء الذي يزيد في الطين بلة أعني يزيد فيما يعاني الشعب من فقدان الأمل وعدم الثقة، هو أننا سجلنا الفشل في مشكلة معينة، وتركناها في الطريق ¬

_ (¬1) وهذا التحليل صحيح لا بالنسبة لقضية محلية بالحزائر فقط. ولكنه صحيح بصفة عامة بالنسبة إلى كل حركات الإصدح في العالم الإسلامي، فإن هذه الحركات فشلت كلها لأنها لم تدرس أرضها قبل الشروع في العمل.

دون حل، وذهبنا إِلى آفاق أخرى وإِلى مشكلات جديدة، كأن المشكلة التي مررنا بها لا وجود لها. فنتاول مثلا مشكلة المرأة، ثم نتركها بدورها في الطريق، ونمر هكذا مر الكرام على الأشياء .... أليس في هذا ما يجعلنا نستحق فعلا التشبه بالفراش ... لأننا ننتقل من مشكلة إلى أخرى ... تسلية وتضييعاً للوقت. ومن الناحية الجدية: أليس في هذا الدلالة بأن موقفنا الاجتماعي لا يتسم بالإرادة المتصلة والجهد المتواصل، ولكنه يتسم بالمحاولات المتتابعة ... والإرادات الخافقة. وإذا حللنا مجهودنا تحليلا جذرياً وجدناه متفكك الأجزاء كأنه مركب على صورة الخط المنقط، الخط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً. وإننا نجد هنا، في صورته الاجتماعية، المرض الذي سميناه ((الذرية)) في تفكيرنا، ذلك المرض الذي أشار إليه عالم إنجليزي بحق. وربما حان الوقت كي نتناول المشكلات في عمقها، في مناقشة تتسع بقدر ما يمكن إلى دراسة مدققة، أي في مؤتمر يكون موضوعه دراسة القضايا القائمة مثل قضية الرجل بلا شغل، والمرأة بلا مركز اجتماعي، والطفل بلا مدرسة (¬1) .. ¬

_ (¬1) لقد بينا في كتاب ((الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)) كيف يشغل الاستعمار حشدا من مراصد خاصة لترقب ظهور الأفكار كي يوحه الاستعمار طلقاته عليها ... بالسلاح المناسب. وفعلا بمجرد نشر هذه المقالة سخر الاستعمار أحد ((أقلامه)) كي يرد عليها ولكنه يحكم خطته، أمر ((قلمه)) المسخر أن لا ينشر سخافته باسمه الشخصي بل باسم الهيأة التي وجهت النداء حتى تختفي السخافة تحت لقب يعيرها ما تفقد من الوقار. وتخفي كذلك يد الاستعمار. ثم يأمره بتحويل معنى الكلام حتى لا يرى الشباب الجزائري في مقالتي النصيحة التي أوجهها له كي يسدد نشاطه الاجتماعي، بل يصورها له على أنها نكران لنشاطه الاجتماعي. وهذا الرد ينشر في نفس الجريدة التي نشرت مقالتي: أي في جريدة ((وطنية))!!! وهذا ما نعني بالضبط عندما نقول أن بين الاستعمار وبعض الزعماء ميثاق خفي يستغله كلا الطرفين في ميدان الصراع الفكري ..

باعة الحضارة

بَاعَةُ الْحَضَارَةِ الشاب المسلم في 16/ 4/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إننا نعرف في الجزائر، وفي البلاد الإِسلامية الأخرى، ذلك الوجه المألوف، وهو يشق طريقه بين الجماهير في أسواق المدينة وبطحائها، يوزع مجاناً ماء غدقاً يسكبه من قربة يحملها بجنبه يمر وهو يكرر كلمته المعروفة لدى أجيال المسلمين: - في سبيل الله! السبيل! .. إننا نعرف هذا الوجه الأصيل، بين وجوه أخرى كذلك المؤذن، وهو يوزع في الواقع زهده، وطمأنينة عقيدته وروحانيته العميقة في الأسواق .. فكل حضارة تصنع هكذا نماذج اجتماعية ووجوهاً تقليدية تتعاقب في الأجيال، تضع عليها طابعها، وترسم على ملامحها ما يعبر عن رسالتها الخاصة. فالحضارة الغربية، باعتبارها شغالة ومهنية، قد صنعت النموذج الاجتماعي المطبوع بما نسميه مثاليتها، أي المطبوع بالعبقرية التي تتمثل فيما يطلق عليه الإنجليزي ((الشغل)) ( Business) وبالحكمة التي يعبر عنها هذا الرجل فيقول: - إن الوقت درهم ... ومن الطبيعي أن يكون هذا النموذج متنوعاً حسب الحاجة في مجتمع اعتنى أكثر من غيره بالتخصص وتوزيع العمل. إِننا لا نجد هذا النموذج متمثلا فحسب في البقال، وفي السمسار الذي يعرض العمارات للبيع، وفي بائع الحديد القديم، وفي بائع المخلفات أي في كل بائع لشيء من الأشياء، بل نجده متمثلا في البائع الذي يبيع ((لا شيء)) .. أي

في البائع الذي لا يسلمك شيئاً في مقابل نقودك. إنك تعرف، لاشك، إذا كنت من سكان مدينة كبيرة في الغرب ذلك الزائر الذي يدق على بابك ليعرض عليك إما ((مصاصات الغبار)) التي تمتص الغبار من السجاد، وإما تكبير الصور العائلية فيقول أحدهما: - يا أستاذ، إن الآلة التي أعرضها على حضرتكم لازمة لصحة بيتكم، لأنها تكفيكم شر المكروبات الموجودة في الغبار. ويقول الثاني: - يا سيدي، إن دارنا تمكنكم مجاناً من حفظ ذكريات العائلة من التلف .. يجب أن تكبروا صور العائلة كي تحتفظوا بها. إنك تستمع هذا ... وتبتسم طبعاً لهذه العبارات البريئة، حيث ترى المصلحة الشخصية فيها، وهي تحاول أن تختفي وراء مصلحتك. ولكن مهما يكن في موقف هذين الزائرين من انتفاعية بسيطة متخفية، فإنهما على كل حال، يعرضان عليك شيئاً معيناً، مقابل نقودك. ولكن كيف نحكم على من يأتي إلى بابك كي يبيع لك الحضارة؟. إن بعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها إلا كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى .. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحداً ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من ((شنطته))، أو من حقيبته الدبلوماسية. ذرة واحدة منها. فهذه الاعتبارات تجعلنا نقف، من الجلسة التي عقدتها، أخيراً، أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية للاستماع إِلى مدام لويزفيس، التي تحث الغرب على

مواصلة عمله في البلاد المستعمرة كي يقي هذه البلاد من العودة إلى الفوضى .. فإننا لا نرى في هذه الجلسة أي جانب بناء، كأنها مجرد جلسة تسلية لهذا المجلس المحترم. إنه لا يمكننا الحكم المدقق على قيمة ما قيل خلالها كوثيقة تخص علم الإنسان في القرن العشرين، لأنه ليس لدينا العرض الكامل للجلسة .. إنه يمكننا فقط أن نتصور هذا العرض من ملخص ما نشرته جريدة (لوموند) ومن التحفظات التي يدلي بها المسيو لالند بالنسبة إلى بعض المسلَّمات التي يستند إليها الحديث الذي دار خلال الجلسة .. ولكننا نريد إِسناد ملاحظاتنا إلى نيات مدام لويزفيس ذاتها .. لا فيما يتعلق بنياتها الشيخصية الخاصة، لأننا نحترمها كشيء يتعلق بحرمة الذات الإِنسانية، ولكن بالنسبة إلى ما هو من وحي الثقافة العامة المتمثل في ((نية تحضير البلاد المستعمرة)) أي في العبارة التي نجد فيها أكبر تعبير عن نفاق الاستعمار. ومن الطبيعي أن ((نية)) كهذه، تخلق اشتباهاً يجعل فعلي ((حضر)) و ((استعمر)) بمثابة المترادفين، ونجد شخصيات لامعة مثل الأستاذ شيجفرد والقسيس بجنر والكاتب دوهميل يشاطرون مدام فيس هذه النية أي هذا الالتباس .. والنتيجة العاجلة للمسلَّمة التي تتضمنها هذه ((النية))، أو إِحدى نتائجها في نطاق السياسة، هي تلك المرافعة، التي شرعت فيها مدام فيس، في محاضرتها ضد ما تسميه، زعماء الشعوب المتخلفة، حيث أنهم في نظرها، يحرمون هذه الشعوب من الخيرات التي تقدمها لهم الحضارة الغربية وعليه فإن الإِثم والجريمة يتكفل بها ((الزعماء الوطنيون)) أنفسهم وهم المسؤولون بالجزائر مثلا- كما يستنتج من كلام هذه المحاضرة المحترمة- هم المسؤولون عما يعاني الشعب الجزائري من فقر وجهل وعطلة ... وهم، بطبيعة الحال، الذين يقررون الأجور المخزية التي يتقاضاها العامل الجزائري اليوم، إذا ساعده الحظ فوجد عملا. كما يقررون، طبعاً، الأسعار

المنحطة للبضاعة الأهلية، مثل الحلفة، في الأسواق العالمية ... وهم .. وهم ... ولكن فلنكف عن هذه التسلية ... ولنعد للجد: إننا لا نستطيع أن نتصور أن المحاضرة المقتدرة على هذا الجانب من البساطة حتى تعتقد أن الشعب الجزائري يدين بحالته التعيسة إلى بعض الأرواح الشريرة المتجسدة في قادته، وأن الاضطهاد الرهيب الذي يئن تحته الشعب التونسي اليوم من صنع فرحات حشاد (¬1) على سبيل المثال؟ ولكن فلنحذر أن ننزلق إلى الاعتبارات السياسية .. وليبق حديثنا على ((النية التحضيرية)) إننا لا نتصور هذه النية في سياسة الغرب في المستعمرات لأننا لا نعرف الركن الذي تشغله هذه النية في شيء يسمى ((ضمير الاستعمار)) ... بل نشعر أحياناً بأنه يجب قلب ما قالته مدام فيس لنكون في الصواب، لأننا نرى فعلا الاستعمار يتدخل في شؤون ((الحياة الأهلية)) - كما يعبرون- في اتجاه ينافي تماماً كل حضارة وكل نية تحضير ... ولا حاجة لنا بتجربة نادرة كي نتأكد من هذه الحقيقة. وفيما يخصني، فإنه يمكنني القول، بأن أي مجهود حضاري بذلته منذ عشرين سنة، كرجل يمارس الحياة الفكرية إلى حد ما، قد رجع علي، من الناحيه الإِدارية بكل شر ... وعلى سبيل المثال أذكر أنني قدمت، بعد نهاية دراستي سنة 1936، طلباً إلى الوزير المسؤول بباريس من أجل تأسيس معهد بقسنطينة لتحضير الطلبة الذين يرغبون في الدخول إلى كليات الهندسة ... فلم يأتني رد. وفي سنة 938 1 - 1939 أسست بمدينة مرسيليا مدرسة للأميين في سن متقدم من بين إخواننا العمال المشتغلين بفرانسا، فدعتني الإدارة المختصة ومنعتني من أن أواصل التدريس في هذا المعهد البسيط بدعوى أنه ليس لدي المؤهلات. ¬

_ (¬1) فرحات حشاد هو أحد شهداء الحركة الوطنية التونسية وقد قتله الاستعمار ومثل به بصورة شنيعة.

الكافية لتدريس ألف باء ... وعليه فالنية الحضرية، بعيدة بعداً كلياً عن واقع الاستعمار، بل ما هي في كلامه إلا مجرد مبرر يبرر به موقفه، وحتى على احتمال أن هذه النية موجودة فعلا في واقع الاستعمار أو في رسالته كما يقولون، وهذا طبعاً أقصى ما يمكن تسليمه لمدام فيس- على سبيل المناقشة- فيبقى أن المشكلة التي وضعتها للبحث في جلسة أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية: ليست موضوعة على أساس، لأنها تتضمن مسلَّمة لا تقنع أحداً ألا وهي تلك التي تجعل من فعلَي ((استعمر)) و ((حضَّر)) مترادفين. والواقع أن الحضارة ليست شيئاً يأتي به سائح في حقيبته (مع أن صورة السائح لا تورط مفهوم الحضارة مثلما تورطه صورة المستعمر) لبلد متخلف كما يأتي بائع الملبوسات ... البالية بل إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها البعيدة، وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب من أصالته. وليست الحضارة في نية المستعمر ولو صحت هذه النية بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم الشعب الذي يريد التحضير، وفي إِرادة هذا الشعب إزاء الحضارة أي عندما يضع في كل تفصيل من حياته مضمونه الأخلاقي والجمالي والعملي حتى يكون هذا التفصيل كأنه خطوة نحو التقدم. وفي هذا المضمون مع ما تضعه فيه عبقرية ابن المستعمرات هندوكياً كان أو بوذياً أو مسلماً- نجد ما تضعه فيه أيضاً العبقرية الغربية. لأن الحضارة الغربية ستبقى مثل ما سبقها من الحضارات مرحلة في تاريخ الإِنسانية وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة فاصلة بمقتضى ارتباطها بعصر الذرة، فإن الإنسانية سوف لا تدين بالتالي بحضارتها إلى ((نية)) الغرب أو إلى عبقريته بل تدين إلى العناية الإلهية التي تضع مصيرها تحت قوانين سماوية تسير تاريخها. ***

ثمن حظارتنا

ثَمَنُ حَظَارَتِنَا الجمهورية الجزائرية في 9/ 10/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إن شيئاً يسمى ((الضمير العالمي)) أراد أن يدخل الوجود، فقدم أوراق اعتماده، قدم ((ميثاق الأمم المتحدة)) و ((التصريح بحقوق الإِنسان)). ولكن الروح ((الديمقراطية)) التي أشرفت على تحرير هذه الوثائق التاريخية، لم تكن ديمقراطية إلا اسماً، إذ أنها نسيت فيما حررت أن تنص على قضية ((الشعوب)) وهكذا انصرف اهتمامها إلى ((الدول)) وفي غمرة ذلك نسيت البتة أن تذكر شيئاً بخصوص الإِنسان الذي جعله الاستعمار في وضع شاذ يتمثل في ابن المستعمرات. وهكذا لا نجد في اهتمام تلك الوثائق بمصلحة الإنسان (سواء باعتبارها من خلال الجماعات أو الأفراد) إلا مزيداً من التأكيد والتقرير لمصلحة الكبار. وهذا ((الضمير العالمي)) الذي يلتزم السكوت بحكمة وهدوء، عند الضرورة، لا يجد شيئاً يقوله من أجل بعض ((القضايا الداخلية)) حسب تعبير الاستعمار في حديثه عن القضايا المتصلة بالبلاد المستعمرة .. وهكذا أصبح البلد المستعمَر، بمقتضى هذه المسلمة، ((ميداناً داخلياً)) لا يتدخل فيه ((الضمير العالمي)) أي الأمم المتحدة. وهذه المسلمة ينتج عنها مما ينتج تجاه البلاد المستعمرة، أن لا تبقى سلطة يرجع إليها الشعب المستعمَر، ولا قانون يحمي ابن المستعمرات. إن هذه النتائج، تثير الدهشة، سو اء اعتبرناها بالنسبة للجماعات أو الأفراد، حيث إن النظام السياسي إذا لم يكن تحت سلطة ورقابة الشعب، فإنه سوف ينقلب حتماً ضد الشعب.

وهذه الحقيقة، إنما نراها بأعيننا في كل خطوة وكل كيلو متر عندما نسير على طرق البلاد الجزائرية .. فعندما يستوقف رجال الدرك الفرنسي عربة على إِحدى هذه الطرق، وتبصر أعينهم أن السائق والمسافرون من المسلمين، فإن تمثيلية غربية تبتدئ. فمجرد عملية الرقابة على الطرق تصبح إذاً عملية تنقيب وفحص دقيق. وإذا كانت العربة للنقل العام، وبها عدد كبير من المسافرين، فإن هذه التمثيلية تتخذ طابع استفزاز، وإرهاب ومساومة في وقت واحد. حيث تتوجه الرشاشات إلى الصدور وتصبح الكلمات قذفاً وشتماً في الوجوه. ثم تنتهي التمثيلية بخاتمتها العادية: فيحرر رجال الدرك مخالفة لصاحب العربة، مخالفة تستمد حيثياتها القانونية من اعتبارات كثيرة. مثلا لأن بأنف السائق زائدة لحمية ..... ومن البديهي، أن هذا الوضع ((الديمقراطي)) الذي يسيطر على البلاد، يسيطر عليها تحت إِشراف السلطات التي تراقب هذه العمليات في جميع الأنحاء، تراقبها في نطاق المديرية وفي نطاق الوطن بصورة عامة. والصحافة الاستعمارية تنقل كل يوم هذه الأنباء، وتصنف ((القائمة الفخرية)) لهذه الانتصارات المسلحة على الشعب الجزائري الأعزل ... وفي ميدان آخر، ميدان الاقتصاد، نجد كل الآلات، التي تحرك وتقود هذا الميدان، توضع بالخصوص في يد ((الأوروبي))، بينما تعطى الأولوية، والامتيازات الخاصة للمسلم في ميدان دفع الضرائب حتى أن قائمة ((الأرباح غير المباحة)) التي وزعت على سكان قسنطينة سنة 1946 أو سنة 1947، وكان مبلغها 250 ألف جنيه (بعملة ذلك الزمن)، وزعت في الحقيقة على التجار المسلمين بنسبة 90% بينما لم يكونوا هم المنتفعين من تلك الأرباح خلال الحرب العالمية الثانية. وأما في ميدان العمل، فإن الطبقة الكادحة الجزائرية تعلم أي مكان تشغله

في اهتمام أصحاب الأعمال الاستعماريين، وهم الذين بأيديهم وسائل التشغيل جميعها، إذ زيادة على إشرافهم على القطاع العام، يتصرفون في أغلبية القطاع الخاص. وقد تأتيني في يوم واحد من جهتين مختلفتين أنباء تدل على أن العامل الجزائري يعاني وضعاً واحداً في أي ناحية من البلد: ففي مدينة الجزائر أو في مدينة سكيكدة يُرفض العامل المسلم كلما وجدت الفرصة لتشغيل الأوروبي حتى لا يبقى مكان للأول إلا في الأشغال الشاقة، في الزراعة وفي المناجم حيث يجد العامل المسلم من يشغله، ولكن في أي جحيم!! هذا بالنسبة للعموم. أما بالنسبة للفرد على وجه الخصوص، فالقضية أكثر حدة ودقة، حيث ((المعامل الاستعماري)) يفرض على الفرد، لتصبح أحياناً مواهبه العقلية غير لازمة واجتهاده الشخصي فاقد الجدوى، ولكي لا يشعر ابن المستعمرات أن الخبز ((حق)) مقدس يحققه له مجهوده وعرقه، بل هو ((منحة)) يمنحها له المستعمِر. ولكي يطبع الفرد بهذه النفسية، نفسية العبد الذي يأكل من نعمة سيده، فإن كل الوسائل مباحة، وعلى سبيل المثال: فإذا كان الفرد متعلماً، فلا يقال إنه تعلم بل يقال، في منطق الاستعمار، ((نحن علمناه)). ولا يقتنع الاستعمار بحرمانه من حق العمل في القطاع العام، بل يتبعه حتى في حياته الخاصة كي يمنعه من أن يتصرف في شؤونه ووسائله طبقاً لمصلحته، إذا استطاع الفرد أن يُكوِّن لنفسه هذه الوسائل. وحيث إن إرادة الاستعمار تقتضي وضع الإِنسان في عالم الأشياء، فإن حكمة إبليس تقتضي أن الإنسان الذي وضع هذا الموضع، لا يجوز له أن يتكلم لغة الإنسان، لأنه ((شيء)) والشيء لا يقول: فكري، وأجرتي، ولقمة عيشي. ولست أدين، فيما أقدم هنا، إلى بعض آراء تُخطئُ أو تصيب، ولكن أدين إلى وقائع محددة شاهدتها بنفسي، وسجلتها تجربتي الاجتماعية منذ ربع قرن.

وقد ابتدأت هذه التجربة وأنا شاب بقرية تبسة، قبل أن أذهب إلى باريس للدراسة العليا، فذهبت إِلى مصلحة الطرق والكباري أسأل عن شروط المقاولة لنقل مواد البناء، لأنني كنت أمتلك بعض وسائل النقل. فعوضاً عن أن يعطيني المعلومات المطلوبة منه فضل من يتكلم باسم المصلحة، أن يعطيني إِرشاداً فقال لي: - من الأحسن أن تبيع ما تملك من وسائل النقل إلى مسيو فلان، ومسيو فلان. وكان هذان المسميان من سكان المدينة الأوروبيين. واستمرت هذه التجربة، بطبيعة الحال، حتى إنني لخصتها بعد ربع قرن، في كتاب ((شروط النهضة)) في هذه الجملة، ((فهو يعيش كأن يداً خفية، وتارة مرئية، تشتت معالم طريقه، وتبعد باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، حتى لا يدركه أبداً.)) وعندما أتأمل تفاصيل هذه التجربة بعد ربع قرن، فإنني أدرك ما هو ثمن حضارتنا، إنه ثمن باهظ، لا يمكن أن يدفعه أحد، ولا الاستعمار على وجه الخصوص. ***

الفصل الرابع في حديقة الثقافة

الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حَدِيقَةِ الثَّقَافَةِ • بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة • أكتب بضميرك • النقد السليم • وحدة الثقافة في الهند • تحية إلى داعية اللاعنف • رومان رولان ورسالة الهند • الأساس الغيبي لفلسفة الإِنسان في الإسلام • الدراسات الحديثة والتصوف الإسلامي ــــــــــــــــــــــــــ

بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة

بَيْنَ الْأَفْكَارِ الْمَيْتَةِ وَالْأَفْكَارِ الْقَاتِلَةِ الجمهورية الجزائرية في 5/ 3/ 1954 أهدي هذه السطور إلى إخواني أعضاء جمعية العلماء لأنهم أصحاب الفضل والمزية في تكوين جانب كبير من العقل الجزائري، وفي تحضير رواد الثقافه في البلاد .. (¬1) ــــــــــــــــــــــــــ يبدو أنه يجب أيضاً علينا أن نقدر وأن نراقب بل وأن نمسك إذا ما اقتضت الظروف- تنفسنا العقلي، وأن نتخذ أشد الاحتياطات ضد بعض أسباب العدوى الخطيرة المحتملة ... أما بالنسبة للتنفس الفيزيولوجي العادي في جو ملوث أو مسموم فالأمر واضح: إن الحضارة قد جهزتنا بالشيء اللازم، أي بالقناع ضد الغازات ... أما بالنسبة للتنفس العقلي؟ ... فليس المستر ماك كارتي هو الذي يعرض علينا القضية هذه المرة ... بل تعرضنا لها صدفة في حديث دار بين أحد المثقفين بالثقافة الزيتونية البحتة، وشاب تتسم شخصيته بملامح السائح الرحالة أكثر من طالب العلم ... وكنا مجتمعين إثر حفلة أقامها بباريس ((نادي الثقافة الإسلامية)) الذي تأسس هذه الأيام بالعاصمة الفرنسية. وكنت أستمع للحديث بكل اهتمام ... وكنت أنصت للمثقف الزيتوني ¬

_ (¬1) أراد صاحب المقالة أن يهديها إلى جمعية العلماء المسلمين في الحزائر، لأن ضرورات الصراع الفكري القاسيه، التي لا سبيل لشرحها هنا. كانت تملي ذلك حتى لا تبقي للاستعمار الفرصة لتحويل معنى المقال إلى غير ما يهدف إليه صاحبه. ولكن الغريب هو أن جمعية العلماء- وقد سبق أن أهديت لرئيسها أحد كتبي- لم تجد في كلتي المرتين الفرصة للشكر على الاهداء: حتى أنني لو كنت أجنبيا لقلت إن العلماء المسلمين الجزائريين لا يشكرون هدية الأفكار وإنما يشكرون هدية الأشياء ...

وهو رجل يستهوي المودة ويتسم، بالخصوص حسبما كان يبدو لي، بأخلاق من يخدم الصالح العام بإخلاص ... ولكنني كنت أشعر أنه رجل قد ينام وعلى وجهه قناع الغاز ... لو سمع أن أحداً في العالم اكتشف الاكتشاف الشيطاني ألا وهو الغاز الخناق ... وبعد كل ما نقوله فيه ... فالأمر يكون هينا ... لو كان يخص مشعوذاً يتمرن- كما يصنع أمثاله في الهند- من أجل أن يتصرف في وظيفة تنفسه طبقاً لما تقتضيه حاجة الشعوذة على أخشاب المسرح .. ولكن عندما تكون القضية قضية رجل مسخر لخدمة الصالح العام بكل إخلاص ... فالأمر فيه نظر ... لأن الرجل بمقتضى وظيفته يقوم بدور ملقن الصبيان ... فهو يلقنهم أفكاره الخاصة ... ومن بينها كيف يمسكون عقولهم عن التنفس عندما يشعرون بأخطار ... هي في الواقع وهمية. وإننا لنتصور هذه المأساة إِذا قدرنا الأشياء في الإطار البيداغوجي حيث كل عملية لخنق التنفس العقلي تؤدي إلى تكوين العقل المختنق ... ولكن فلنعد إلى الحديث الذي يشرح هذه الخواطر ... لقد تناول حدثاً أدبياً ورد في شعر شوقي ... الذي صاغ في إِحدى قصائده تحية شعرية وجهها إلى باريس، إلى روعة صورها الفنية وإلى جاذبيتها الفكرية. ويبدو أن هذه الشاعرية الفياضة عند الشاعر العربي الكبير قد خدشت الحساسية الكبيرة عند رجل يشعر بلعنة الاستعمار بصورة ممتازة ... حتى إنه لم ير في الأبيات المتَّهمة إلا باقة من الشعر تهدى إلى الاستعمار الفرنسي نفسمه. فمن نخطِّئ.؟ أهذه الشاعرية الفياضة أم هذا الشعور الممتاز؟ قد كان هذا السؤال هو موضوع الحديث بين الطالب الرحالة والأستاذ الزيتوني المحترم، وكان رأي هذا الأخير: أن الخطأ يقع على كاهل الشاعر المتهم: لأننا نجد- والرأي رأي المتحدث- نجد في هذا الشعر الأثر المؤسف

لتلك الثقافة الغربية التي فرضت جاذبيتها على 90% من الطبقة المثقفة المسلمة فوضعتهم هكذا تحت تصرف الاستعمار. فالخطر في هذا الحكم قد بدا لي متزايداً بقدر ما رأيته مُقَعَّداً على ملاحظة صحيحة، لأنني لو أعدت النظر في تقدير المتحدث فربما لم أجده قد بالغ فيه، بل على العكس، لقد لطفه، إذ أنني أعتبر ((فراغ المثقفين)) عندنا، من أكبر مشكلاتنا اليوم. ولكننا، عندما نقدم مقدمات صحيحة ونستخلص منها استنتاجات خاطئة فإننا نتجنب خطأ لنقع في مثله أو أشد منه، كذلك الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الكريم دون أن يشعر .... والمهم في الأمر هو أن نبين النتائج الوخيمة التي تنتج، عن تفسير مخطئ، في توجيه العقول في بلد معين. فكان الحديث يدور- وهنا كل أهميته- في قضية الثقافة، لكنه يتناولها على الهامش لا مباشرة. لقد خصصنا لهذه القضية مقالة تناولتها في عمومها (¬1) وألمحنا فيها إلى جانب منها نسميه الجانب المرضي في الثقافة، وقد حاولنا في مقالتنا هنا تحديد النوع الجرثومي الذي يعزى إليه هذا الجانب، فأطلقنا عليه ((الأفكار القاتلة)) أي تلك الأفكار التي نستعيرها من الغرب، كما سوف نطلق في هذه السطور اسم ((الأفكار الميتة)) على ما يجول بأنفسنا من أفكار فقدت الحياة كتلك الأفكار التي يبديها الأستاذ الزيتوني في الحديث الذي كنا نستمع إليه في مقهى بباريس ... وربما يمكننا أن نلاحظ، ونحن في سياق الحديث، أن هذه الأفكار وتلك يعبر كل منهما عن جانب من مأساة البلاد المُستعمَرة: الجانب الذي نسميه الاستعمار والجانب الذي نطلق عليه ((القابلية للاستعمار)). ولكن لو وجب علينا أن نميز بين الفئتين لقلنا إن ((الأفكار الميتة)) التي ¬

_ (¬1) لم نجد هذه المقالة تحت أيدينا.

ورثناها من عصر ما بعد الموحدين، أخطر علينا من الفئة الأخرى. ويكفينا- كي نتأكد من هذا- أن نلقي النظر على قائمة الأفكار التي فعلت فعلتها، في التاريخ فقتلت المجتمع الإسلامي ... إن هذه الأفكار، التي لا زالت - باعتبارها أصبحت ميتة- تكوّن الجانب السلبي في نهضتنا، قد كانت تكوّن الجانب الإِيجابي أو ((القتال)) في عهد التقهقر والأفول الذي مر على الحضارة الإسلامية، هذه الأفكار إذن كانت قتالة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة، غير أنها بكل تأكيد لم تولد بباريس أو لندن بل ولدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة ... لم تنشأ في مدرجات أكسفورد والسربون ... ولكنها نشأت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي وفي ظل صوامعه. هذه حقيقة في منتهى الوضوح: إن كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الاجتماعي ((أفكاراً ميتة)) تمثل خطراً أشد عليه من خطر ((الأفكار القاتلة)) إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته، وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون ما لم نجر عليها عملية تصفية، تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، وهي تستطيع ذلك لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه. يجب أن نطبق تفكير باستور في المجال البيداغوجي كي ندرك هذا الجانب المرضي في مشكلة الثقافة عندنا، وقد أعطانا الكاشاني هذه الأيام صورة عن هذا الجانب في المجال السياسي، إذ تمثلت فيه الجرثومية الداخلية أو ((الفكرة الميتة)) التي خدعت وخدرت قوى الدفاع الذاتي في ضمير الشعب الإيراني، ومن الجدير بالملاحظة أن الدكتور مصدق لم يسقط تحت ضربات الاستعمار- المتمثل في أكبر شركة بترول في العالم- ولكنه خر تحت ضربات القابلية للاستعمار، الناطقة باسم الله والوطن. وإننا ندرك في ضوء هذا المثال الحدة التي تتصف بها ردود الأفعال دفاعاً

عن الذات عند الرجال الذين يمثلون الثورة في القاهرة أو في دمشق. كما ندرك أن المعركة الحقيقية- ليست هي التي تجري على حدود هذه الثورات مع الاستعمار ولكن المعركة في داخل البلاد مع القابلية للاستعمار تلك القابلية المتمثلة في بعض الشخصيات الإقطاعية وبعض العادات الرجعية. أو في داعية يدعي أنه يمثل المهدي في تلك البلاد نتوقع شره. ولنحدد مرة أخرى مكاننا في هذا العرض. إن مظهر ((الأفكار الميتة)) لم يكن هو الموضوع الذي أثاره الحديث الذي أشرنا إليه ولكننا قد رأينا من خلال ما تقدم، كيف كان الحديث الذي يضيء المظهر الآخر (الأفكار القاتلة) بضوئه الخاص، حتى نرى ما بينهما من اتصال وثيق، سيزيده وضوحا ما سيتبع. فلقد نجد أحيانا دور ((الأفكار الميتة)) ودور ((الأفكار القاتلة)) يتمثلان في شخصية واحدة، تمثل المظهرين، لأنها تحمل الجرثومة الموروثة في كيانها، تلك الجرثومة التي ((تمتص)) بطبيعتها، على صورة ما، الجرثومة المستوردة وتقرها في المجتمع الإسلامي المعاصر. والشيء الذي يغيب على الأستاذ الزيتوني الذي يخطِّئُ شوقي هو ذلك الارتباط التكويني بين الجانبين المرضيين في الثقافة الإسلامية في طورها الراهن .. ولست أشعر أنني أفدته عندما أردت خلال الحديث لفت نظره إلى هذا الوضع الخطير في عالم أفكارنا .... مع أنني تعمدت في كلامي معه القياس على المبدأ المشهور: ((إن الإناء يرشح بما فيه)) كي يفهم الأخ المستمع أن فكر عهد ما بعد الموحدين مستعد لكي ((يمتص)) الموت من جانب لأنه من جانب آخر يرشح به .. وهذه الظاهرة المزدوجة تثير مشكلة من نوع خاص محددة بصورة معينة لا يجوز لنا أن نتناولها في صورة غيرها كي لا تنعكس القضية، فلا يجوز لنا مثلا أن نتساءل: لماذا توجد عناصر فكرية قاتلة في الثقافة الغربية؟. بل فليكن سؤالنا في صورة أخرى: لماذا تمتص بالضبط طبقتنا المثقفة في البلاد الإسلامية هذه العناصر القاتلة؟

فهذه هي الصورة الصحيحة للمشكلة، حيث إنه من الواضح جدا أن المسؤول في الأمر ليس مضمون الثقافة الغربية الذي يتضمن فعلا هذه الأفكار الخطيرة، ولكن اتجاه فكر ما بعد الموحدين الذي يدفع هذه النخبة إلى انتقائها ... والواقع أن هذه النخبة تقوم بعمل انتقاء واختيار في مضمون ثقافي لا يتضمن الأفكار القاتلة فحسب، إذ إِنه- بكل وضوح- صالح لحضارة حية تشمل شروطها الأدبية والمادية حياة وتطور مئات الملايين من البشر الذين بيدهم اليوم مصير الإنسانية. وعليه فإن ((الأفكار القاتلة)) التي نجدها في مضمون هذه الحضارة، ما هي إلا إفرازاتها وجانبها الميت، الجانب الذي يمتصه فكر ما بعد الموحدين في جامعات العواصم الغربية. لماذا نركن إلى هذه العناصر القاتلة؟ لأن موقفنا من مشكلة الثقافة ليس صحيحا لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الاجتماعية (¬1). ومن هذا الانحراف المزدوج ينتج انحراف آخر في موقفنا، عندما نريد البت في الموضوع. إننا نصدر حكمنا فيه تبعا لمن يذهب إلى البلاد الغربية إما في وضع ((الطالب المجتهد)) كما يمكن أن نتصور بعض ((الباشوات)) في عهد الدراسة، وإما في وضع ((السائح المهتم)) كما نتصوره في شخص فاروق من خلال زياراته إِلى عواصم أوروبا. فلا شك أن هاتين الحالتين تمثلان الوضع الذي يكون عليه النموذج الاجتماعي الذي يكون 90% من ((النخبة)) الإسلامية المحتكة بالثقافة الغربية. وفيما يخصني فقد تعرفت بالحي اللاتيني على أجيال من هذين النوعين وقد هممت أحياناً (مع صديق جزائري يدرس الفلسفة) بفهم سيكولوجيتهما حتى نتكهن، بما سوف يكون مركزهما الاجتماعي وما سوف يكون موقفهما من ¬

_ (¬1) قد بينا هذا الضعف في كتاب ((مشكله الثقافة)).

مشكلة الثقافة أي بالتالي موقفهما من مأساة البشرية. ولا شك أن نموذج ((السائح المهتم)) كان مهتما جداً بالجانب التّافه والتائه من الحياة الغربية: في مقهى أو في مرقص، أي في كل مكان تتحلل فيه الحضارة وتنتهي فيه إلى مخلفاتها ((القتالة)) ... في مزبلة. ومن ناحية أخرى فإنك تجد النموذج الثاني منغمسا في الجانب التجريدي والنظري من الحضارة الغربية: منكبا هنا على كتاب عاكفا هناك في مكتبة، مرابطاً من جهة أخرى في كلية، أي في كل مكان تتقطر فيه الحياة الغريية إلى خلاصتها العلمية مع عناصرها القاتلة أحيانا والمقتولة أحيانا أخرى ... في جو مقبرة. وعندما يحاول ((الطالب المجتهد)) الفرار من هذه المقبرة فإنه يذهب يتسلى في قاعة برلمان ... أي إلى مقبرة أخرى. فهذا هو واقع الأمر، من الناحية التحليلية، بالنسبة إلى 90% من النخبة المثقفة في العالم الإسلامي. ولكن ما هو الواقع من الناحية الأخرى، ناحية التركيب؟ إِن التاريخ لا يهمل شيئا، بل يجمع معطيات الواقع كلها في معادلة واحدة: فكذا مرقص + كذا مقهى + كذا كلية + كذا برلان = تحللا تاماً. وهذه المعادلة تصور الطامة الكبرى التي تهدد كيان العالم الإسلامي اليوم ... والآن يبدو لي أن خطأ الأستاذ الزيتوني قد اتضح. فهو يخلط بين معطيات الحضارة التي تحلل الذرة ... وبين ما تعطيه لنا، أو على وجه الدقة، ما نأخذه منها من عناصر تحلل الأخلاق ... الأمر يبدو هنا في منتهى الوضوح. فلو كان مضمون الحضارة الغربية لا يحتوي غير ((الأفكار القاتلة)) التي نستعيرها منها فإن خطرها يتجلى أولا بالنسبة إلى أوروبا، حيث يجري مفعولها بالنسبة إليها قبل أن يجري علينا في تلك المعادلة التي أشرنا إِليها.

ومن هنا يمكن الوقوف عند نتيجة أولى. فموقفنا إزاء مفهوم الثقافة بصفة عامة، والثقافة الغربية على وجه الخصوص، هو السبب الرئيسي في الشر كله. وإذا صحت هذه الملاحظة بكل دقة نظرا لما قدمناه، فإن صحتها تزيد، لو صح التعبير، إذا عقدنا بعض مقارنات وجيهة. 1 - بالنسبة إلى أفراد مختلفة في مجتمع واحد- هو المجتمع الإسلامي- إننا نجد في طرف هذا المجتمع مفكراً من حجم محمد إقبال، وفي طرفه الآخر قافلة المثقفين (¬1)، والاختلاف بين النموذجين اختلاف فردي، ناتج عن أن إقبال استطاع، لا شك تصفية ((الأفكار الميتة)) المشحونة في نفسه عن طريق الوراثة الاجتماعية، حتى أن موقفه من مشكلة الثقافة تغير كليا، كما نتصور ذلك من خلال ما كتب، حيث لا نجده قد ((امتص)) من الثقافة الغربية عناصرها القاتلة، بل امتص منها عناصرها الحية، المحيية، التي نجد أثرها، بكل تأكيد، في محاولته لـ ((إعادة بناء الفكر الإسلامي)). 2 - وبالنسبة لمجتمعين مختلفين- المجتمع الياباني والمجتمع الإسلامي على سبيل المثال- فإنهما دخلا المدرسة الغربية في الوقت نفسه تقريبا- حوالي سنة 1860 - ولكن الحقيقة التاريخية التي لا جدال فيها هي أن النتيجة اختلفت تماما. إذ نجد، بعد قرن ((معجزة اليابان)) في ميدان الفن والصناعة والاقتصاد، ومن طرف آخر في المجتمع الإسلامي، نجد دون ريب، مجهودا لا ينكر فيما نسميه ((النهضة)) ولكنه مجهود تشله ((الأفكار الميتة)) الموروثة من عهد ما بعد الموحدين. فمعجزة اليابان لا تفسر قطعا إلا بموقف فيه فعالية أكثر اتخذه اليابان من الثقافة الغربية لأنه تخلص من الأفكار الميتة الموروثة من عهد ((الشوغون))، ولا يمكننا على كل حال، أن نفسرها بأن الاستعمار أعطى للنخبة اليابانية أفكارا ¬

_ (¬1) ترجمة Intellectomanes من وضع صاحب المقالة في كتاب ((شروط النهضة)).

مثمرة خلاقة، وأنه على العكس يعطي لـ 95% من النخبة المسلمة ((الأفكار القاتلة)) والعقيمة ... وعليه فإنه من الواضح أن القضية غير عائدة إلى طبيعة الثقافة الغربية، ولكنها تعود إلى طبيعة صلتنا بها، وهذه الصلة لا تحددها غير وراثتنا الاجتماعية، التي لم نتخلص بعد من تأثيرها بل إنها على وجه الخصوص هي التي تملي اختيار ((السائح المهتم)) في المزبلة واختيار ((الطالب المجتهد)) في المقبرة. فكلاهما، بمقتضى وراثته الاجتماعية، لا يذهب إلى المهد الذي تولد فيه الحضارة، وإلى المصنع الذي تصنع فيه .. ولكنهما يذهبان أحدهما إلى الأماكن التي تتعفن فيها .. والآخر إلى الأماكن التي تقطر فيها .. أي أن كلاهما يذهب حيث تكون الحضارة فاقدة الحياة .. لا تعطيها. ومن هنا تبدو الخصومة بين شوقي وغريمه في منتهى الوضوح فبقدر ما تكون ((الأفكار القاتلة)) هي التي أوحت إلى الأول مدحه لباريس، أو تكون ((الأفكار الميتة)) هي التي أوحت إلى الثاني نقده. فإننا سنعرف من يكون منهما المخطئ. لكن الخصومة كما علمنا مما تقدم أوسع نطاقا من ذلك، إنها منوطه بموقفنا- أخلاقيا واجتماعيا وفكريا- من مشكلة الثقافة. ولست أدري إذا أقنعت هذه الاعتبارات الأستاذ الزيتوني عندما كنت أعرض مجملها في الحديث .. ولكنني عندما انتهيت من الحديث، رأيت أحد المستمعين، وعليه ملامح العامل البسيط يرمق الزيتوني، ويرمقني ويرمق الطلبة الموجودين وفي نظره شىء من الخجل، كأنما يستحي أن يطأ أرضنا، أرض ((النخبة المثقفة)) ثم قال: أريد أن أقول كلمة!! فتنازل جمعنا؟ إلى استماعه، فقال: أعتقد أن القضية تشبه قضية التطعيم إنه من المعلوم أن العرق المنقول

إلى شجرة لا يطعم ثمار هذه الشجرة بل إنه يطعم ثمار الأصل الذي نقل منه. لست أعرف مقدار صحة هذه الاستعارة بالنسبة إلى نظرية (مندل) في علم التلقيح والوراثة ... أو نظرية ليسكنو ... ولكن شعرت، بحياء، أن هذا الرجل البسيط أدى لنا درسا في قضية معقدة، وفَصَلَ فيها بجملة واحدة تغنينا عن الاعتبارات الطويلة التي قدمتها. ***

أكتب بضميرك

أُكْتُبْ بِضَمِيرِكَ الجمهورية الجزائرية في 4/ 6/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ لا ينبغي لمن يكتب أن يكون مجرد آلة كاتبة، تنقل لنا ((نسخة)) دون أن تقدر للكلمات التي كتبتها أي نتيجة اجتماعية. إن على من يكتب واجبا إزاء الكلمات التي يكتبها، يجب عليه أن يتتبعها، خارج مكتبه، في معركة الحياة والصراع الفكري. أن يتتبعها في عملها في المجتمع ... يجب عليه أن لا يغفل تلك الصلة- صلة السبب بنتيجته- التي تنشأ في إطار مشكلة اجتماعية واحدة، إذ تنشأ بصفة أوتوماتيكية فكرة هي علاقة بين من يكتبها وبين من يصيرها أو يحاول أن يصيرها عملا ... ومن هنا ينشأ واجب آخر لمن يكتب، هو أن تكون له فكرة صحيحة بقدر الإمكان عن شخصية القارئ، الذي يقوم بدور رئيسي في تقرير قيمة الأفكار الاجتماعية، لأنه هو العامل المحول الذي يحول الفكرة فيصيرها واقعا محسوساً في سلوكه أو شيئا ملموسا في محيطه. وهذه الصلة ليست ذات اتجاه واحد بل اتجاهين: فإذا كان الكاتب يوجه القارئ بما يكتب، فإِن القارئ يوجه أحيانا الكاتب بموقفه إِزاء الأفكار. فرجل الشعب قد تكون له في مشكلة معينة آراء أقرب للصواب من الرجل المثقف، لأن الأول طليق النظر لا يحد بصره منهج معين، بينما ينظر الثاني إلى الأشياء من خلال منهج يضع على بصره ((شوافات)) كتلك التي توضع على عيني البغال أو الحمير، كي لا ترى ما هو خارج عن طريقها. والواقع أن القارئ في الجزائر غالبا ما يكون رجل الشعب لا رجل ((النخبة)) فالنخبة عندنا لا تشعر بحاجة للمطالعة بعد تخرجها من الجامعة، وعملها الفكري

ينتهي- لأسباب اجتماعية ونفسية موروثة- عند تحصيل الشهاد ... أي عند النقطة التي تبتدىء منها النخبة، في البلاد الأخرى، العمل الفكري الجدي ... وبما أن رجل الشعب هو الذي يقوم بدور ((القارئ)) في الجزائر، فإنه يجب علينا أن نقدر الصعوبات التي تعترضه في هذا الدور. والواقع أن هذه الصعوبات التي تعترض رجل الشعب كـ ((قارئ)) ليست من الجانب الفكري، فرجل الشعب على غاية من الذكاء، لأنه يمارس الأفكار بقلبه وعقله معا، بينما لا يقرأ ((المثقف)) عندنا إلا بعقله. فرجل الشعب يتمتع إذن بالبداهة الصادقة، وقوة الإدراك لأنه يرى الأشياء بنور قلبه الصادق ... شريطة أن لا تعترضه الصعوبات الشكلية، الناتجة عن تعقد اللغة المستعملة، وتشابه المفردات، وغموض بعض الكتاب المعجبين بسحر البيان وزخرف الكلام. أما فيما يخصني، فربما أعطيت في بعض الظروف دروساً لرجل الشعب الذي يقرأ، لكنني كثيرا ما أخذت منه دروساً في ظروف أخرى (¬1) وفي موضوعات شتى ... ومهما يكن الأمر، فإِن القضية تتضمن وجهين. فإذا اغبرنا القارئ كـ ((تلميذ)) من ناحية، فإنه يجب أن نعتبره كـ ((أستاذ)) من ناحية أخرى ... في الظروف التي يدلي فيها بأفكاره، وهو يدلي بها دائما في منتهى الوضوح. أليس له الحق إذاً أن يطالبنا بالوضوح نفسه، عندما نقدم له شيئا من أفكارنا؟. فهذه الاعتبارات كلها قد أوحت لي بها ظروف مختلفة من ظروف الصراع الفكري، من بينها تلك المقالة التي نشرتها تحت عنوان ((أقلام وأبواق الاستعمار)). لقد هدفت في كتابة هذه المقالة إلى أن أبين أن الاستعمار تواق إلى الانسجام مع الظروف الجديدة، وكيف يختار الوسائل المناسبة لهذه الظروف. أو بعبارة ¬

_ (¬1) مثل الظروف التى جعلتني استمع لتعليق العامل الجزائري الذي اشرت إليه في مقالتي السابقة.

أخرى، كيف يتقدم ويتحضر ولكن الصحيفة التي نشرت مقالتي أرادت أن يكون بجانبها مقالة افتتاحية بعنوان ((تقديس الشخص)) كأنها أرادت بذلك إلقاء أضواء هامشية على مقالتي، بحيث يوهم القارئ الشعبي، أن المقالتين متقاربتي المعنى والهدف. بينما الأمر على خلاف ذلك تماما. إِذ مقالتي تهدف إلى لفت نظر هذا القارئ إلى خطة جديدة يتبعها الاستعمار في الصراع الفكري في بلادنا، حيث يجد حتى في صفوف شبابنا المثقف، الطالب الذي يتسخر ليكون بوقا من الأبواق، أو قلما من الأقلام، التي يستخدمها الاستعمار للتعبير عن فكرته، بينما تصف المقالة الأخرى عادة متغلغلة في نفسية ((القابلية للاستعمار)) ومشخصة في ((تقديس الشخص)). وكأنما ((القلم)) الذي قام بكتابة هذا المقال، كان يهدف إلى لفت ذهن القارئ الشعبي، من موضوع معين إلى موضوع غيره، في المعنى والاتجاه، فيلتبس الأمر على هذا القارئ وتنشأ صعوبة في إدراكه للأشياء. وقد وقع فعلا هذا الإلتباس في ذهن قارئ شعبي دار بيني وبينه الحديث صدفة في الموضوع، فرأيته فهم المقالة التي نشرتها لا وفق نصها ومعناها، ولكن في ضوء ما نشر بجانبها، فأدركت أن الاستعمار يحكم الخطة في الصراع الفكري. ***

النقد السليم

النَّقْدُ السَّلِيمُ الجمهورية الجزائرية في 22/ 1/ 1954 ــــــــــــــــــــــــــ إنني لا أخل، فيما أعتقد بمصلحة القارئ، إذا رجعت إلى قضية مررت عليها مر الكرام في المقالة التي تحدثت فيها عن العطلة في بلادنا، وأعني لذلك قضية النقد التي ألمحت إليها في تلك المقالة. ولكن يجب أولا أن نلاحظ شيئا، نعتقد أنه في غنى عن لفت النظر لأنه في منتهى الوضوح ولا بأس إذا لفتنا النظر إليه، وهو أن الشهادة بالفضل إلى هيئة منظمة معينة لا تقتضي بالضرورة الانتساب إلى هذه الهيئة أو المنظمة. وفيما يخصني لقد بذلت شطرا من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء التي قامت في الجزائر بنشر العلم والدين، وتكلمت مرات في معاهدها دون أن أكون عضوا من أعضائها (¬1). إن عصرنا يقدر كما هو معلوم، فكرة ((الالتزام))، والأدب الملتزم أي الالتزام في صفوف هيئات معينة، ولكنني أشعر بأن المثقف قد يؤدي رسالته في حياة بلاده الاجتماعية بفعالية أكبر، من دون أن يكون ملتزما بهذا النوع من الالتزام، أي منخرطا في إطار معين حيث يجد نفسه أحيانا ملتزما نحو الحزبية. وعلى كل وفيما يتصل بفعالية الكاتب على وجه الخصوص، فإنني على رأي دو هامل فيما يرى، بالنسبة إلى توزيع المسؤوليات في وطن معين، وإنني أستعير منه هذه الخاتمة القوية لكلامه عندما يقول: ((وعليه فإن الكاتب إذا ¬

_ (¬1) وعلى الأصح دون أن تدعوني هذه الجمعية للمساهمة في شؤونها الإدارية حتى ولو قدمت لها الطلب من أجل ذلك في بعض الظروف القاسية في حلبة الصراع الفكري.

أراد أن يؤدي رسالته كما ينبغي فإنه يجب عليه أن يبقى حراً ومنعزلا، أو بعبارة أخرى لا منتميا)). ومهما يكن من الأمر فإن هذه الرسالة في جوهرها وبصورة عامة منوطة بموقف الفرد من الجماعة. إنه من شر ما يكون بالنسبة إلى مصلحة وطن، أن يكون هذا الموقف مجرد تقليد. فإذا تخلى النقد عن حقه للتقليد والرضا بالواقع فإن القضية تنتهي عند التسوية، من أسفل، في الحياة الأخلاقية والفكرية، فتجمد الأفكار والطاقات الاجتماعية، وينتهي التقدم في الوطن. إن البلاد التي أدركت هذا الخطر- كانجلترا- تعتزم على تكوين معارضة بجانب الحزب الذي يتولى الحكم، لتقوم في النطاق السياسي ((بواجب)) النقد. وليس هذا ((الواجب)) بالشيء البسيط، فهو يتضمن معنيين، أحدهما يتصل بالجانب الأخلاقي عندما يؤدي النقد وظيفة ((الشهادة)) للحكم القائم بأنه أصاب، ويتصل الثاني بالجانب الفني في صورة ((حكم)) على أعمال الذين بيدهم مقاليد السياسة. وهكذا ترتبط فعالية النقد بشرطين: الإخلاص للشهادة، والكفاءة للحكم. ولا يغني شرط منهما عن الآخر، إذ لو توفرت الكفاءة اللازمة للجانب الفني، وحدها، فربما تكون ((المهارة)) في السياسة مجرد شعوذة ودجل، كما لو توفر الشرط الأخلاقي، الإخلاص، دون الشرط الفني، فمن الممكن أن تكون السياسة في أيدي صبيان مخلصين في منتهى البساطة. وفي كلتا الحالتين، فإِن ((النقد)) لا يقوم بدوره فهو لن يقوّم اعوجاجا، ولن يصلح فساداً، لأنه أعرج لا يمشي على رجلين، فلا يأتي بما يقوّم الأشياء، ولا بما يكمل ويوسع معانيها، ولا بما يهدي الأعمال إلى طريق الرشاد. والشيوعيون تمرنوا أكثر من غيرهم على هذا الأسلوب وأدركوا هذه الحقائق، لأنهم مارسو االنقد، وما يسمونه ((النقد الذاتي)) على وجه الخصوص،

الذي يكشفون به ما يطلق عليه عندهم ((النزعة الانحرافية)). ولكن هذه الاعتبارات، المتصلة بالجانب العملي في السياسة تفرض على النقد أن لا يكون غامضا، ملتويا، مغلقاً كلغز يكون مفتاحه في يد صاحبه فقط ... بل يجب أن يكون برهانا واضحاً بيناً مفتوحا لكل عقل حتى يفهمه ((القارئ)) وهو غالبا ما يكون رجل الشعب، دون تكلف، يفهمه كي يستفيد منه عن علم أو ليرفضه عن يقين. إنه من الممكن أن يرى أحد القراء اعوجاجاً فيما أكتب، وأن يتفضل بتوجيه نقده لي، فمرحباً بهذا النقد وشكرا لصاحبه ما دام واضحاً في مبرراته وبرهانه حتى أستفيد منه، لا مجرد قول تمليه وتصحبه العاطفة. وفيما يخصني فإنني- بقدر المستطاع- كنت دائما حريصاً على أن أقدم للقارئ ما يمكن من الوضوح فيما أكتب، حتى أمكنه من أداء واجب النقد، إن رأى لذلك مسوغاً. ويبقى أن النقد يجب أن لا يكون موقف عداء يتبادل فيه خصمان الشتم والضرب ... بالأقلام والجمل ... بل موقفا فكرياً يتبادل فيه اثنان آراءهما. فعندما أنتقد نشاطنا الاجتماعي وأتهمه بـ ((الذَرية)) أي بعدم الاتصال في الجهد والمبادرات، فإنني مع كل أسف لا أتصور وضعاً بل أصفه كما هو ... ذلك أنني أرى نشاطنا يبدأ فجأة ويذهب كذلك ... كأنه وثبة برغوث ... ولنعتبر على سبيل المثال كم، منذ نهاية الحرب، ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بالسرعة نفسها. ولكن فلنغض الطرف عن مثل هذا السؤال، حتى لا يقال إنني أنتهز فرصة ... فمن يكتب حسب الفرص غير جدير بالكتابة، وربما هذا ما جعل دو هامل يقول، فيما يخص مهمة الكاتب: ((إنها ليست مهمة يتمتع صاحبها بالراحة)) ... ولكن ماذا كان يقول لو كانت له تجربة من يعيش في البلاد المستعمرة؟

وحدة الثقافة في الهند

وِحْدَةُ الثَّقَافَةِ فِي الْهِنْدِ الجمهورية الجزائرية في 18/ 12/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ لقد اطلعنا في أحد أعداد ((لوموند)) الأخيرة على صدى مناقشة دارت، في المنبر العام بهذه الصحيفة على جانب من اللياقة والكياسة دون أن تضيع فائدتها الفكرية، إذ تناولت، كموضوع، تفسير فكرة ((الساتياجراهة)) أو طريق الحقيقة، أي الطريقة التي اتبعها غاندي في النضال ضد الاستعمار الانجليزي. فالقارئ الفرنسي يتهم غاندي بأنه يتبع في الحقيقة سياسة الفرص أي سياسة انتهازية في نظره، وربما جنح إلى العنف لو سمحت به الظروف أو اقتضاه الموقف. لكن قارئاً هندياً يرد بكل حرارة، على هذا الاتهام، الذي يعطي لبطل الساتياجراهة واللاعنف صورة الرجل ذي الوجهين. من يقرأ هذه السطور يشعر بأنها تتضمن أكثر من مجرد مناقشة بين رجلين، وإدلاء كل منهما برأيه في قضية معينة، إنها تعبر في الواقع، عن مقابلة ومقارنة، بين شخصين محددين، بين مركَّبين معينين، مقارنة مباشرة، وإن كانت غير متنظرة، تطرح فجأة على بساط النقاش قضية في غاية الأهمية، لأنها تتصل بمشكلة الثقافة من حيث الوفاء للمبادئ بصورة مطلقة، أو حسب الظروف أو بعبارة أخرى من حيث وحدة مبرراتها أو تنوعها حسب الظروف في مجتمع معين، وتشعرنا هذه المناقشة، عن طريق المشاهدة تقريباً بحدة هذه القضية في العالم، وتعطينا فكرة، مهما يكن فيها من الوضوح أو الغموض، عن موقف الإنسان الهندي إزاءها. ولقد سبق لنا في مقالة نشرت (¬1) منذ أشهر، أن بينا بقدر الإمكان ما ¬

_ (¬1) لم نجدها فيما تحت أيدينا الآن.

يستحق هذا المظهر في الثقافة، من اهتمام، تاركين لفرصة أخرى توضيح شأنه في ثقافة الهند على وجه الخصوص. ولا شك أن موضوعا كهذا يستحق دراسة متعمقة، ولكننا نقتصر هنا فقط على تقديم بعض المعلومات للشباب الجزائري، كي نلفت نظره إلى إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجهها الإنسانية في القرن العشرين. إنه لمن المعلوم عن أي بلد ((عصري)) أن الحياة الفكرية- التي تتضمن مجموعة الأفكار والمبادئ المتعارف عليها- لا تطابق فيه بالضبط الحياة العملية - التي تتضمن الواقع والوقائع (والواقع السياسي على وجه الخصوص) بحيث يشعر الفكر عندما ينتقل من مجال المبادئ إلى مجال الواقع أنه يخرق حدوداً تفصل بين عالمين. بينما القضية على غير هذا المنوال في بلاد نهرو- بالنسبة إلى جوهر الأشياء إن لم نقل إلى صورها وأشكالها- لأنها احتفظت بوحدتها بحيث لا ينفصل بين صورة البلاد التقليدية وصورتها العصرية فاصل أكيد، فالروح التي كانت تشع في عصر الفيدا في الممواقف الصوفية، هي التي تشع اليوم في المواقف السياسية في موقف الملايين من الهنود الذين يتمسكون بمبدأ الساتياجراهة. وهذا الاتصال في التطور ليس بالظاهرة السيكولوجية الزهيدة بحيث لا تثير الاهتمام والتأمل، فهي- حسبما يبدو- تعزى إلى عوامل متعددة وإلى اثنين بالخصوص: (1) الإطار الأخلاقي الذي تكونت فيه الهند ((العصرية)). (2) والأوضاع النفسية الخاصة بشخصية ممتازة، غاندي، الذي تقمص شخصية الهند المعاصرة وأضفى عليها مما وهب له من صفات خاصة، ووجهها بما أوتي من اتجاه روحي، بحيث طبع بطابعه الشخصي رسالتها في العالم. أما الإطار الأخلاقي فهو يتمثل في نهضة روحية بدأ بصيص فجرها في الروح

الهندية- حسبما يبدو- باتصال هذه الروح بثقافة الغرب، ذلك البصيص من النور الذي أضاء على وجه الخصوص حياة فيفيكانندا وإنتاجه الفكري أي باكورة الانتاج الفكري في الهند بعد أفول طويل. لقد كان هذا البعث فعلا في غرة هذا القرن، وفي مجال الروح بالذات في صورة بعث للفكر التقليدي، أي في وقت سيكون فيه هذا البعث الروحي المقدمة التي تفرضها الظروف لليقظة السياسية التي ستتبع وستصنع الهند ((العصرية))، حتى يمكن القول إن الهند الجديدة هي الهند القديمة، لا في ظاهر الأشياء ولكن في جوهرها، لأنه في بلاد انتقال الأرواح ( Métempsychose) لأشياء لا تفنى، وإنما تتغير وتُصيَّر، فروح الهند القديمة لم تمت عندما أشرقت عليها الحضارة الغربية، وإنما بعثت بعثاً جديداً. فالهند الفتية وجدت في الروح التقليدية وفي الفكرة الفيدية ما صنعت به روح ثورة الستياجراها وفكرتها، وما كان لهذه الظاهرة- ظاهرة امتصاص فريدة- أن تتحقق لولا شخصية غاندي الذي لم يكن الرجل السياسي بالمعنى الدارج، أي بالمعنى الذي يضع السياسة تحت تصرف الظروف دون قيد ولا شرط، بل كان القسيس الذي يخضع العمل والسياسة لشروط القداسة. ومن المعلوم أن ميدان السياسة- بالمعنى الذي تضفيه الحضارة الغربية على هذه الكلمة- هو ميدان النفاق والكذب والشعوذة و ((الشطارة)) والانتهازية. فغاندي دخل هذا الميدان من أجل تحرير بلاده، ولكنه لم يدخله إلا بسلاح الصدق والاخلاص والوضوح واللاعنف. ولقد كان من نتيجة هذا السلوك وتحديد هذه الوسائل، في ميدان السياسة - أي في الميدان الذي وضعت عليه ظروف القرن العشرين طابع التصنع والخداع- أن أعيد له، في خطة الساتياجراها، ذلك الانسجام الذي فَرَّطَتْ فيه الحضارة العصرية وهو الانسجام بين الظاهر والباطن، بين النية والعمل، بين الخاطر والقول.

إن لكل ثورة فلسفة ثورية؛ ففلسفة غاندي لم تكن مركزة على مفاهيم القوة والعنف، بل على مفاهيم البقاء والشعور بالألم. ولقد مرت الأيام على هذه الصفحة الماجدة وعلى التجربة الفريدة، دون أن تكذب في هذه تفصيلا واحداً، أو في تلك سطراً واحدا. فجاء عهد التنفيد عندما تحررت البلاد فبقيت ((سياسة)) نهرو وفية لفكرة غاندي. وفي هذا أكبر دليل وأوضح برهان على وحدة ثقافة!! .. فالساتياجراها لم تلعن العنف فقط، بل طهرت ميدان السياسة من النفاق- وطردت منه ذلك الازدواج (مثالية- واقعية) في بلد لا يسمح فيه للعمل أن يكذب النية، ولا لمذهب أخلاقي يتعامل به الناس في الشارع أن يكذب مذهبا أخلاقيا مقبورا في الضمائر لا أثر له في الحياة. فليس اللاعنف إلا مظهرا- المظهر السياسي- للروح الفيدي، الذي جعلت منه الهند العصرية أساساً لوحدة ثقافتها ومضمون رسالتها، هذه الرسالة التي تكون في العالم الغاص بروح العنف وبالسلاح الذري، النقيض الوحيد لهذه الأشياء. ويمكن القول إِن هذه المناقضة هي السبب القوي- الذي دفع رومان رولان إلى رفع صوته وتوجيه ندائه إلى هذا الجيل، مناديا برسالة السلام التي تتضمن، في حيز القوة، وفيما تحتويه فكرة الساتياجراها من بذور المصير، تتضمن مصير الإنسانية إلى توحيدها وإلى وحدة ثقافتها. ومما هو جدير بالملاحظة، أن الضمير الهندي يتضمن اليوم أكثر من غيره، في نطاق السياسة، فكرة هذا المصير بل ربما هي في جوهره. وعندما يقرأ غاندي شيئاً من القرآن، بعد ما يكون قد قرأ شيئا من كتاب ((الأوبانيشاد)) أو الإنجيل، فليس لمجرد التسلية، بل هي صورة تعبر عن ثقافته واستعداداته الروحية في عالم الواقع.

وإن مثل هذا السفر بين الكتب المقدسة المختلفة، لا يتاح لكل سائح إن لم يكن في نفسه ما في نفس ذلك السائح، سوامي رامه، الذي أتاحت له نفسه، بل دفعته إلى ذلك الطواف البعيد من بلاد سيلان إلى بلاد التيبت، تلك الرحلة الروحية التي أعطانا عنها فكرة، المسيو مرسيل برييون في مقالة نشرتها صحيفة لوموند. إن روح الهند التقليدية دبت في العالم المتحضر، وأتته عن طرق متعددة، من بينها الطريق التي تتمثل في إنتاج علماء الآثار السانسكريتية، في ألمانيا بالختصوص، ولكن أكبر أثرها في العالم الحديث، قد أتى عن طريق رومان رولان، الذي أبرز هذا التيار الفكري، من مجال التفقه العلمي الذي اختص به علماء السانسكريتيا إلى المجال العملي، وأضافه إلى القوى التي تغير وجه العالم اليوم. وليس من مجرد الصدفة، أن بلاد الميكادو والساموراي، أي البلاد التي تغلغل في نفسها الروح العسكري، بدأت اليوم تكافح من أجل التخلص من سياسة الأحلاف ومن التسلح، كما يبدو من خلال إحصائية أجراها أخيراً باليابان صحفي غربي، وأن يكون بين الآراء التي سجلها هذا الصحفي رأي لشاب ياباني يرى أن بلاده يمكنها الصمود في وجه أي اعتداء بوسائل اللاعنف. أليس جديراً بنا أن نتساءل: من ألقى هذه البذور الجديدة في ضمير الجيل الياباني الحاضر؟ أليس صاحب كتاب ((جان كريستوف (¬1))) هو الذي ألقى تلك البذور في بلاد أوكاكورا ومدام كريزنتم، بمؤلفاته عن غاندي والساتياجراها؟ ولنذكر بالمناسبة شيئا يبدو لنا في منتهى الغرابة: إن العدد الخاص لمجلة ((كراسة الجنوب)) عن رسالة الهند، لم يذكر من بين من عرف هذه الرسالة ورفع صيتها في العالم، اسم رومان رولان .... إن حظ الإنسان يكون أحياناً ¬

_ (¬1) الكتاب الذي نشر شهرة رومان رولان في العالم.

غريبا جداً. ولكن نتمنى، ونحن على أبواب الذكرى العاشرة لموت غاندي، أن الشرق يتدارك ما فرط فيه الغرب بجانب رومان رولان، ونتمنى أن الهند بالخصوص تأخذ على حسابها، في السنة المقبلة تنظيم يوم يليق بذكرى ذلك الكاتب الكبير الذي أذاع صيت رسالتها في العالم. ***

تحية إلى داعية اللاعنف

تَحِيَّةٌ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّاعُنْفِ الشاب المسلم في 3/ 1/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ في عالم يسوده القلق، وهو يتأهب مرة أخرى الى انطلاق الوحشية والعنف، يبدو أنه ليس! من العبث أن نذكر من حين إلى اَخر سيرة غاندي. لقد كنت في تلك الليلة أستمع الى إِذاعة مؤثرة ... اجتهد من نظَّمَها في جمع شهادات من بعض الشخصيات الحية التي تستطيع تذكر نبذة عن غاندي، أو تدلي بذكرى احتفظت بها عن حياته، حتى تستطيع بذلك أن تكشف لنا جانبا ما زلنا نجهله في محيط تلك ((النفس الكبيرة)) (¬1). وكان يتخلل الإذاعة صوت متخافت يرتفع من حين إلى آخر ببعض المقتطفات من الكتب المقدسة فهذه مقتطفة من دي ((الابانيشاد)) أو تلك من ((البهاجفاتجيتا))، وكان هذا الصوت يثقب من حين إلى آخر كلام المذيع المتأثر، بنبرة خاصة كي يحيطه بهالة من القداسة. ولكن اللحظة المؤثرة كانت دون أي شك عندما ارتفع مرتين صوت غاندي نفسه، مسجلا على شريط هو من أثمن مخلفات الفقيد الكبير. نعم ... إِننا لا نفهم هذه الكلمات المكشكشة التي تنفلت من رئة استنفدت قوتها، ومن فم فقد أسنانه ... ولكن هذا الصوت المتخافت الغريب، صوت من وراء القبر، يستولي على شعورنا، ويأخذ إحساسنا ... إنه قوة غير مرئية، قوة لا يدركها التحديد، ولكننا نشعر بطاقتها الجبارة .. فهي تأخذ قلوبنا وتتركنا فاقدي الأنفاس لحظة ... بعدما يسكت ذلك الصوت المتخافت ... ¬

_ (¬1) اللقب الذي يلقب به غاندي أصدقاؤه: المهاتما.

ثم يستعيد العقل نفسه .. إن هذا الهمس الذي مر على الأمواج، يمثل بالضبط نقيض زوبعة الكلام التي تنتظر زوبعة من التصفيق، إنها نبرة اللاعنف ذاتها .. ، النبرة الوحيدة التي تستطيع التعبير عن اللاعنف بالصوت ذاته ... هذا الصوت الضعيف الذي أبدى قوته القهارة على أربعمائة مليون من البشر سلحها بالصبر والبشاشة. لقد رجعت الدبابات إلى الوراء وتقهقرت عند تلك الأجسام التي انفرشت على الأرض أمامها، تقهقرت أمام أفواه ترتل بعض الأذكار المقدسة وأمام أرواح منغمسة في صلوات صامتة. إن جهاز الاستعمار الضخم وقف عند حده، وباء بالخسران أمام معزة غاندي، وسرباله (الساري) ومغزله، وصلواته وصيامه مع الجماهير وفي خلواته. إن كل هذا المظهر الجذاب، الأسطوري لكفاح غاندي والانتصار الذي توجه بالتالي، أصبح مما تعارف عليه الناس في المستقبل على أنه فصل جميل من تاريخ الإنسانية التقليدي، ولكن هذا المظهر الذي ينعكس فيه بالخصوص الضمير الهندوكي، لا يفسر لنا وحده معنى اللاعنف .. فهناك مظهر آخر نريد لفت النظر إليه هنا لأنه يكمل فيما نعتقد، النبذة التي أردنا تقديمها في هذه السطور، مع مطابقة، من ناحية أخرى مع معنى من معاني القرآن. إِن اللاعنف ما كان ((مقاومة)) فقط وما كان يعبر فحسب عن نافية شكليه، عن كلمة (لا) التي أفضى بها الضمير الهندوكي في المعركة، أي عن موقف سلبي في هذه المعركة، فاللاعنف كان أيضا موقفا إيجابيا في نواح أخرى، موقف الضمير الانجليزي ذاته وهو يرد ضمنا بكلمة ((نعم)) عندما يأخذه تيار المعركة ويفرض عليه الرد. إنه كان في إمكان الجندي الانجليزي أن يدوس بدباباته تلك الحشود من البشر التي رقدت على عرض الطريق بشواع كلكوتا وبومباي أيام المقاومة

السلبية، ولكنه لو فعل لداس الثقة النبيلة التي يكنها ضمير تلك الحشود البشرية التي ألقت- حين ألقت بنفسها على عرض الطريق- ألقت على ضمير الجندي الانجليزي عبئا ثقيلا، عبء حياتها وطموحها وصلاتها، وهكذا تقهقر الجندي الانجليزي من أجل أن لا يدوس ضميرَه وعظمةَ وطنه، وشرف ثقافته. وكان موقفه هذا كأنه الرد بكلمة ((نعم)) على الثقة المتناهية التي عبرت بها تلك الحشود وكأنها واجهت العنف بكلمة ((لا)). وهذا الرد الفذ بـ ((نعم)) يكمل معنى اللاعنف، يكمله كأنه حوار وفلسفة يرتكز مرتين على الثقة في الضمير الانساني. وليس مما يخالف طبيعة المسلم أن يرى في هذه الفلسفة، انطباقها على التوجيهات التي يعرفها في دينه، حيث أن القرآن يحث على أن يكون الكلام مع الخصم، موجها إلى ضميره حتى يصبح كأنه (وليٌّ حميم). وليس في هذه المقارنة ما يفاجئنا، إذ كانت اللحظات الأخيرة التي قضاها غاندي في هذه الدنيا مليئة بتلاوة القرآن والإنجيل والعهد القديم والبهاجفاقجيتا، يتلو غاندي هذه الكتب الواحد بعد الآخر، وكان يتلو القرآن بالنص الأردي قبيل موته. ولكن هذه اللحظات التي كانت، في صورة ما، تحكي لحظات الحديث على الجبل، في حياة المسيح كانت في الوقت نفسه تنذر بخسارة لا تعوض، ستخسرها الإِنسانية في شخصه، لأن هذا الرجل كان يتقمص إلى درجة بليغة- الضمير الانساني في القرن العشرين، كان يستطيع إنقاذ وحدة الإنسانية الأدبية في أخطر لحظة من تاريخها. وهكذا قدر لغاندي، داعية اللاعنف، أن يموت على يد العنف (¬1). إِنها لسخرية نادرة، ولكنها تشبه إلى حد كبير، حكمة نادرة، تكررها ¬

_ (¬1) قد قتله هندوكي بين التحقيق علاقته بجمعية إرهابية اسمها ((محاسبه)).

الطبيعة في كل فصل من فصول الربيع: فالبذرة التي يقدر لها أن تنبت، يجب أولا أن تدفن في التراب. إن الشعوب القديمة بنت أحيانا عقيدتها على هذه الحكمة، وكانت تستعير منها ربوبية أوثانها وأساطيرها ... نجد ذلك مثلا عند قدماء المصريين فالرب أزيريس- الرب الخلاق- يقتله ست (وربما يعين هذا الاسم ما يسمى الشيطان في الكتب المنزلة) يقتله ست الرب القائم بوظيفة التحطيم ولكن إيزيس، ربة الحب، تجمع أعضاء القتيل التي بعثرها خصمه الفتاك، تجمعها ويبعث إِيزيريس حياً منتصراً. هكذا رفات غاندي التي ذروها، طبقا للتقاليد، في مياه الغانج المقدسة ستجمعها الايام في أعماق ضمير الإِنسانية كيما ينطلق يوما انتصار اللاعنف، ونشيد السلم العالمي. ***

رومان رولان ورسالة الهند

رُومَان رُولَان وَرِسَالَةُ الْهِنْدِ الشاب المسلم في 26/ 6/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إن القرن العشرين يحفظ، في أعماق ضميره، الأفكار التي زرعها في التاريخ ويحفظ معها أسماء الزراع الكبار الذين زرعوها. كأنما ثمة معبد تحفظ فيه الأفكار الخالدة، ويدخل فيه أيضا إلى الخلد أصحاب تلك الأفكار، كما فعل أهل الكهف أولئك الفتية المؤمنون، حين أووا إلى كهف الخلد بعد أن كانوا شهود هذا الزمن، والرسل الذين بلغوه رسالة الهند. فعندما تنزل هاتان الكلمتان من القلم على القرطاس، يأتي وراءهما حشد من الاسماء الجليلة، نذكر طبعا من بينها غاندي .. طاغور .. وإذا ما أوغلنا فسنذكر فيفيكانندا، وربما ذكرنا معه أستاذه راما كريشنا. لكن حافظ المعبد ربما أضاف إلى هذه الاسماء اللامعة اسم شري نهرو، ذلك الرجل الذي يسير في طريقهم اليوم، ويحتذي حذوهم، ذلك التلميذ الذي لا يزال على قيد الحياة وفياً للأستاذ، غاندي، حتى في موكب التتويج يوم تتويج الملكة اليزابيت حيث نراه يسير في هذا الموكب العظيم، دون أن تصحبه أية أبهة عسكرية، كتلك الابهة التي رافقت من سار معه من ممثلي دول الكمونولث، فكان بذلك يعلن فكرة اللاعنف بصورة رمزية، في حدث هام من أحداث الحياة الدولية. ولقد تراودنا الفكرة، إِذا ما كنا مسلمين، أن نتساءل: هل من بين هؤلاء الزراع لفكرة اللاعنف، وهؤلاء الشهود الكبار الذين أووا إلى الكهف في القرن العشرين، هل من بينهم مسلمون؟

ويؤسفنا أن لا نجد من بينهم حتى إقبال، ذلك الفكر الذي لا ينسى، عندما ينكب على مشكلات العالم الإِسلامي، لا ينسى ولا يتناسى ((التصميم العام الذي يشمل الكتلة البشرية كلها)). لكننا لا نرى واحدا من الكتاب في الغرب أو في الشرق يذكر اسم إقبال من بين تلك الاسماء ونحن سنغض الطرف كمسلمين عن هذا النسيان الغريب، إذ ربما يعود سببه الأول إلى حدة المزاج عند الحافظ الأول لأسماء أهل الكهف في القرن العشرين. وأول سدنة المعبد الذي تحفظ فيه أسماؤهم الخالدة، ونعني رومان رولان. إننا نتساءل إن لم يكن هذا المؤمن الذي فر بإيمانه من قيود الكنيسة، وهذا الأستاذ الذي زهد في كرسي أستاذيته، وهذا المواطن الفار من حدود القومية الضيقة، ومن حدود الطبقة، ومن كل إِطار رسمي ليكون مجرد انسان ((فوق الخصومة)) (¬1) - أي في الواقع ليكون في صميم المعركة من أجل الحق والعدالة والجمال- أو بكلمة موجزة: إننا نتساءل إن لم يكن هذا الرجل، الذي تخلص من كل العقد التي يرثها الناس في الغرب من ثقافة القيصرية، لم يتخلص بعد من بعض العقد الموروثة في بلاده ضد الإسلام؟ ولكننا كمسلمين سنغض الطرف عن هذا السؤال أيضاً، لنقول كلمة واحدة: فربما كان الرجل يحمل عن الإِسلام وعن الفكرة الإسلامية صورة مشوهة، كتلك الصورة التي تنقل في بلاد الغرب عن الإِسلام والمسلمين تشويها لسمعتهم. لكن ينبغي الحذر حتى لا نعطي للخصوم مبررات التشويه، فالهند التي يقودها نهرو لا زالت وفية لمبدأ اللاعنف، أما القطاع من البلاد الذي تولى أمره جناح فإِنه أصبح دولة ألقت بالملايين من المسلمين في سياسة الأحلاف العسكرية ¬

_ (¬1) عنوان كتاب لرومان رولان نشره في أيام الحرب العالمية الأولى وقد أثار به ضجة كبرى في أوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص.

كحلف بغداد وهذا يجعلنا نتساءل ما إذا كان المرحوم أبو الكلام آزاد قد اختار البقاء بنيودلهي ليبقى وفيا لطريقة الساتياجراها التي حررت البلاد؟ ومهما يكن الأمر فرومان رولان لم يشرك أحدا من المسلمين في أمر الساتياجراها وفي رسالة الهند على وجه العموم، وليس من المتيسر أن نضيف أحدا إلى قائمة أبطال الفكرة في العالم دون أن نخل شيئا ما بقداسة التقليد الذي نشأ من إشعاع الفكرة، لا نستطيع إفممافة أي اسم لهذه القائمة الخالدة حتى ولو اسم تولستوي، مع أنه كان في طليعة هذه الدعوة- دعوة السلام- بل كان أول داعية وأول مبشر بها، بحيث يمكن اعتباره، با لنسبة إلى غاندي وإلى الساتياجراها بمثابة يحيى المعمدان بالنسبة إلى دعوة المسيح. ولكن فلنحدد أولا دخول هذه الفكرة في تاريخ العالم. وهنا يمكن، بل يجب، أن نعتبر خطواتها الأولى في التاريخ، تلك الرحلة التي قام بها في أوائل هذا القرن قبل غاندي ومدرسته فيفيكانندا حول العالم، وزيارته إلى أمريكا الشمالية على وجه الخصوص، إذ ذهب هذا الشاب- والفيلسوف المتصوف- لينشر دعوته، الدعوة إلى ((قداسة الإِنسان)) هذا المذهب الذي سيكرس طاغور، فيما بعد، حياته للدفاع عنه، والتبشير به، وكانت هذه الرحلة أول بلاغ لرسالة الهند في العالم. ولكن هذه الصرخة غير المنتظرة، وغير المألوفة. لم تثر إلا اهتمام بعض الاوساط المهتمة بما يسمى علم الأرواح و ((الإِلهيات)) حتى أن صرخة فيفيكانندا: (إلهي!! إِليك الفقراء من كل وطن ومن كل جنس!) ... هذه الصرخة الرائعه التي تعبر في أعماق ضمير ممتاز عن مذهب يدين بخدمة الإِنسان، يدين بفكرة من يقول: إذا أردت أن تجد الله فاخدم الإنسان .. هذه الصرخة مرت مع خطوات الزائر دون أن تترك صدى كبيراً في الضمير الأمريكي، ولم يسجل لها أثر في التاريخ، سوى أثر تلك الفتاة الأمريكية التي اعتنقت المذهب، وسارت وراء خطوات صاحبه، كما ستسير فيما بعد، تلك الفتاة الانجليزية، مسز سلاد،

وراء خطوات غاندي، لتمثل في قصة الساتياجراها دور المجدلنية في هذا العصر. أما في أوروبا، فلم يكن لهذه الصرخة أي صدى، وما كان لها أن تترك أثراً في تلك البلاد المنهمكة في نعيم ((العصر الجميل)) (¬1) حيث كانت الجماهير الأوروبية ترقص فيه رقص فيينه، على نغمات شتراوس الساحرة، تحت سيول الأضواء الكهربائية التي بدأت تنير، إذ ذاك الحياة المتمدنة. ولم يكن المعاصرون للملكة فيكتوريا أولئك الذين طبعوا ذلك العصر بما في نفسيتهم ومزاجهم، لم يكونوا يزورون الهند من أجل أن يسمعوا صرخة الإِنسان الهندي، بل ليتمتعوا بصوت النمر الرهيب في غابات البنغال الكثيفة. ولكن هناك، في البنغال بالضبط، حيث قمعت بالدماء بعض أحداث ثورية بدأ يصعد، حوالي سنة 1905، صوت طاغور. الذي وجه نداء الهند لأول مرة إلى أوروبا، ولقد كان في أوروبا ضمير يقف بالمرصاد، وأذن رقيقة الحساسية تتحسس كل هبوب تدفعه الروح، وكل نداء يأتي من الإنسان، وكل أنين يصعد من الآلام ... ، وهكذا سمع رومان رولان بكل حساسيته النادرة صوت طاغور، ((صوت ذلك العصفور)) كما سيسجل في مذكراته عندما يسجل اسم الشاعر الكبير لأول مرة. ومن تلك اللحظة، يبدأ تاريخ الساتياجراها، أو رسالة الهند في العالم. لأن رومان رولان بدأ من تلك اللحظة تبليغها ونشرها ليس في أوروبا فحسب - موطن دمه- ولكن في العالم، موطن روحه. ولم يقم بهذه الدعوة دون أن يشعر بجلالها وقداستها، كما نرى ذلك من خلال مذكراته عندما يذكر بعض رفاق الطريق، وعلى وجه الخصوص، عندما يذكر رفيقين قضيا نحبهما في ذلك الطريق، في خدمة الدعوة، لقد رافقا غاندي في الأيام الأولى عندما كانت الدعوة في بدايتها بافريقيا الجنوبية، وهكذا يتساءل ¬

_ (¬1) يطلق هذا الاسم في أوروبا على العهد الذي ملكت فيه الملكة فيكتوريا تقريبا إلى إبان الحرب العالمية الأولى.

رومان رولان في شأنهما، فيكتب في مذكراته: ((من سيتحدث عن القديس أندريوس وعن القديس بير سون؟)). من سيتحدث عنهما؟. وهل شهادة تشيد باسميهما وتخلدهما في التاريخ أكثر من هذه الشهادة التي أراد رومان رولان أن يضفي عليها طابع القداسة فأعطى فيها لكلا الرفيقين لقب القديس؟ ولكننا بدورنا نتساءل: من سيتحدث عن القديس رومان رولان!؟ والواقع أن عملية تعمية بدأت تحيط باسمه منذ اليوم، حيث نجد تعريفه في القاموس بهذا النص: ((رجل متمسك بمبدأ السلام والاشتراكية العالمية، صاحب كتاب (جان كريستوف))). إن هذا التعريف يكفي لا شك لتخليد اسم في الأدب، ولكن رومان رولان يستحق أكثر من ذلك! إننا لو اعتبرنا في تاريخ القرن العشرين ((أفكار غاندي)) كتيار رئيسي في هذا القرن، لوجدنا نفوسنا في اللحظة ذاتها مضطرين إلى اعتبار رومان رولان لا كمجرد مبلغ لأفكار الغبر، ولكن كأستاذ بالنسبة لهذا التيار، لأنه لم يقم فقط بدور من عرف أفكار غاندي في العالم المتحضر، بل إنه أحيانا وسع نطاق تلك الأفكار وعمقها. لقد عمقها في كل مرة شعر فيها بضرورة إِضافة عنصر من عناصر تفكير فيفيكانندا إليها. أي من تفكير ذلك الفيلسوف الإنساني الذي يشعر بضعف الإِنسان أكثر من غاندي الذي ربما وجدنا عنده بعض المعاني الإنسانية المتحجرة. بسبب الشدة التي يقتضيها أحيانا العمل في الحقل السياسي، عندما يكون العمل السياسي مطبوعا بشدة التمسك بالمبدأ كما كان الأمر بالنسبة إلى غاندي .. إذ كان يفقد أحيانا الشعور بحدود طاقة الإنسان.

فرومان رولان وسع نطاق هذه الأفكار، في كل مرة شعر أن صلاحيتها تمتد إلى أبعد من مصلحة الهند وحدها، هكذا نراه يعمد، إلى تخليص تلك الأفكار من الإطار الهندي الذي خصصها غاندي له لتصبح صالحة لخدمة الإِنسانية كلها. إن رومان رولان استطاع أن ينقل الأفكار التي وضعها غاندي في فلك الهند، إلى الفلك العالمي الذي كان يشعر به أكثر من غاندي ... إذ كان ابن ذلك الفلك الأوروبي الذي أصبح- بمقتضى انتشار الحضارة والثقافة الغربية- الفلك العالمي ... ـ[(ضاع ما يتبع من هذا المقال)]ـ. ***

الأساس الغيبي لفلسفة الإنسان في الإسلام

الْأَسَاسُ الْغَيْبِيِّ لِفَلْسَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ الجمهورية الجزائرية في 29/ 9/ 1950 ــــــــــــــــــــــــــ إن المقالة التي نشرها الدكتور عبد العزيز خالدي (¬1) بعنوان ((الاستعمار والحرية)) - وربما كانت تستحق عنوانا آخر لأنها تتعرض لمشكلة في منتهى الأهمية بالنسبة إلى كفاحنا اليومي- قد وضحت عقدة جوهرية في النفسية الأوروبية تجاه الإنسان، العقدة التي تمنع الفكر الأوروبي من فهم الإنسان بمعناه التام، أو كما يقول صاحب المقالة، في عبارة موفقة، فهم ((الإنسان بأكمله)). وهذه الحقيقة واضحة في النفسية الأوروبية كما سنحاول توضيحها في هذه السطور. ولكن الدكتور خالدي يعزو هذه العقدة إلى ظاهرة رأسمالية، وبالضبط إلى الثقافة الرأسمالية التي، حسبما يرى هو، قد أذابت سفهوم ((الإِنسان الأبيض المتحضر)) و ((الإنسان الملون المتهمج دون رجعة، والمتخلف بصورة مزمنة)). فهذا التفسير للقضية، أي تفسيرها على أنها من معطيات المجتمع الرأسمالي، يكون مقبولا لو أنه تمشى مع الوضع الأوروبي منذ عهد معين، أي منذ ظهور الرأسمالية في أوروبا وتكوين الأمبراطورية الاستعمارية، ولا شك أن الواقع الاستعماري، الذي نعرف آثاره الغربية في أوروبا، بحيث يعمي الأبصار حتى ينظر الناس إلى الرجل الأشقر من جبال الأوراس بالجزائر على أنه ((الزنجي)) بينما يرون الرجل الأسمر الذي يعيش مثلا بجبال قسطيليا أسبانيا على أنه ((الأبيض))، لا شك أن الفكر الاستعماري، الذي يمارس تحريف الواقع بهذه الصورة المكشوفة حتى في مجلة للأطفال، لا شك أن هذه الأشياء تجعلنا نركن إلى رأي الدكتور خالدي في القضية. ¬

_ (¬1) الدكتور عبد العزيز خالدي هو صاحب كتاب ((القضية الجزائرية أمام الضمير العالمي)) سنة 1946

ولكن القضية على جانب من الأهمية تستحق أن توضع في التاريخ في حدودها الحقيقية. إن الرأسمالية تفسر، لا شك، أشياء كثيرة في النفسية الأوروبية ولكنها لا تفسر كل شيء. لقد أشرت في مرة سابقة، في فصل من فصول كتاب ((شروط النهظة)) إلى أن الاستعمار نكسة في تاريخ الإِنسانية تعود بالتاربخ إلى العهد الروماني. ويجب أن نلاحظ أن هذه النكسة لم تقع في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، عندما بدأ يتكون الوضع الرأسمالي والاستعماري في أوروبا، بل وقعت في غرة القرن السادس عشر، مع تلك الحركة المعقدة التي يسميها التاريخ حركة النهضة، والتي عبرت عن نفسها بأنها ((رجوع إلى العهد الروماني والاغريقي)). إن دراسة ظهرت هذه الأيام في علم الإِنسان بقلم المسيو ريموند شواب، تحت عنوان ((النهضة الشرقية)) تبين كيف وقع أفول للانسانيات في الغرب بهذا ((الرجوع إلى العهد الروماني)). إنني أطالع، بكل أسف، هذه الدراسة، ولكنني شعرت بقيمتها من خلال ما قاله فيها النقد، حيث يقدمها لنا على أنها ((دراسة كبيرة توسع نطاق الإنسانيات)) ويقدم صاحبها لنا على أنه يرى ((في التقاليد الرومانية، لا في القيم المسيحية)) السبب الكبير، إن لم نقل الوحيد، لانفصال الفكر الغربي عن الإِنسانية الشرقية. إن هذه الكيفية في فهم القضية سليمة، فيما يبدو لي، ولكنها تقتصر على اعتبارها بالنسبة إلى محور (الشرق - الغرب) فقط، مع أن الحقيقة تشمل موقف الأوروبي إزاء الانسانية بصفة عامة، إذ أنه في حالة انفصال عنها. منعزل عنها، ملتفت عنها كأنه ليس منها، بل يتربص بها الدوائر، كي يجعل منها ((حاجة)) يملكها، و ((شيئاً)) يغتصبه، عندما تدق ساعة الفتوحات الاستعمارية.

وتصاغ للتعبير عن هذا الانفصال الكلي الكلمات المناسبة: فكل ما ليس بأوروبي فهو ((الأهلي المتوحش))، ولا يخرج عن هذه القاعدة أحد في أوروبا، حتى ماركس الذي ثارت ثائرته يوما، في وثيقة خرجت من يدي ومن ذاكرتي، عندما رد بكل عنف على مؤرخ معاصر له، لأن هذا المؤرخ قد وضع على صعيد واحد، في نظره، ((آسيا)) في ذلك العهد وإلى حد ما اليوم أيضاً، في درجة ما من التأخر بالنسبة إلى أوروبا، ولكن ماركس كان يدلي بحكمه في القضية بصورة قطعية مطلقة، كأنهما آسيا في نظره، خلقت لتكون على طول الزمن ((آسيا المتوحشة)) ... ولكن مثل هذه الأحكام لا تخضع للمنطق حتى عند ماركس، لأنه لا يحكم هنا بما يمليه العقل ... ولكن بما يمليه الوسط والثقافة. الواقع- كما يلاحظ المسيو شواب- هو أن صورة ((الشرق)) في الذهن الغربي تتجلى من خلال عاطفة متعالية ومطلقة، تعبر عن شعور الغرب نحو نفسه ونحو الآخرين. غير أن القضية تستحق مزيداً من الوضوح: فإِن هذا التعالي المطلق ليس - فيما يخص الحقل الفكري على الأقل- واقعا خاصاً بطبقة معينة، إذ أن الفرد الأوروبي يحمل جراثيم هذه الكبرياء دائما لأنه يتلقاها من الجو الأمومي الذي يتكون فيه منذ الطفولة، ويتكون فيه تصوره للعالم وللانسانية، فهو يعتقد، على وجه الخصوص، أن التاريخ والحضارة يبتدئان من أثينا، ويمران على روما، ثم يختفيان فجأة من الوجود لمدة ألف سنة، ثم يظهران من جديد بباريس في حركة النهضة .. أما قبل أثينا فليس شيء يذكر في ذهن هذا الفرد المشحون بالكبرياء ... الذي لا يرى بين أرسطو وديكارت إلا الفراغ. وإننا- عندما نلاحظ هذه الملاحظات- لا نشير إلى أسرة الفراشين المحترمين في الجامعات الغربية، بل نعني أساتذة هذه الجامعات أنفسهم. إن هذه النظرة الخاصة للغربيين هي التي تشوه منذ اللحظة الأولى فلسفة

الإِنسان عندهم، وتشوه بالتالي السياسة الغربية في العالم، وربما يجب بعض الاستثناء بخصوص ما يسميه الدكتور خالدي: المعجزة الانجليزية، عندما يشير إلى الاتجاه الجديد الذي اتخذته انجلترا إزاء المستعمرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن أليس مما يستحق الملاحظة أن انجلترا كانت، في الوقت ذاته الذي تعلن فيه استقلال بعض مستعمراتها مثل الهند، تفسح المجال إلى جيوش الاستعمار الهولندي التي تنزل بميناء سانغافورة كي تحتل أندونيسيا من جديد. ولكن فلنعف عن ((المعجزة)) لأنها ما قبلت ولا تقبل التحليل ولنتركها قابعة في سرها، وحسبنا أن نسجل هذا الاتجاه الجديد في سياسة انجلترا باعتباره قد اتخذ فعلا في التاريخ مبادرة تحرير مستعمراتها دون أن تشعر في ظاهر الأمر، بضغط من الخارج. ولكن هل ان هذا التطور الرسمي الذي ظهر أثره في أعمال الحكومة الانجليزية، قد تجاوب مع تطور حقيقي في نفسية الفرد الانجليزي تجاه الإنسان؟ ... القضية في هذا المجال فيها نظر ... والواقع أن فلسفة الانسان لا زالت في الغرب رهينة تعابير ومصطلحات لا تسمح للذهن الغربي أن يتصور وحدة الانسان، وتضامن ملحمته على وجه الأرض .. ، فهناك كلمات مثل ((الأهلي)) و ((الولد)) و ((الولود)) و ((الأسود)) و ((الجلد الأحمر)) تعبر، في الغرب، عن عينات إِنسانية سفلى، وهناك عبارات تضفي على بعض الأجناس صفات أو ألقاباً معينة إلى الأبد، مثل ((الهندي الخفي)) و ((العربي غير المكترث)) و ((الصيني الغامض)) ألخ .... ففي اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور يقع تحت نظري عدد من مجلة ((إيكو)) أرى على وجهها صورة رجل صيني، أراد محرر المجلة أن يعلق تحتها هذا السؤال ((ماذا يختفي وراء هذا الوجه الغامض))؟ وإنني أحدق في الصورة كي أرى ما يبرر هذا السؤال، فلا أجد أي غموض،

في ملامح هذا الوجه المريح المتفتح المستبشر: فلا شك أنني رأيت وجوهاً أكثر غموضاً منه بشوارع الجزائر أو باريس، مع أنني لم آلف بعد الوجوه الصينية. ومن المحتمل جداً أنني لم أر منها في حياتي العدد الذي رآه صاحب المجلة. هكذا نجد أنفسنا، فجأة، في نقطة تقاطع، تتقاطع فيها نظريتان عن الإِنسان. ولقد أشعر بأن هذه الملاحظة كأنها تلتقط صورة غير مؤهبة، لنظرية أخرى عن الإنسان، صورة حية برزت من ضميري مباشرة كمسلم، في حالة شعور عابرة أو عن لا شعور، ليعبر عن شيء يمكن أن نطلق عليه ((فلسفة الإنسان في الإسلام)). وإِنني أقدر موقع التعجب الذي تقعه هذه العبارة في ذهن من يقدر الكلمات بحرفها أكثر من معناها، إن معرفتي القليلة بأصول اللغة العربية لا تتيح لي الحكم الجازم بوجود كلمة عربية تعبر عن كلمة Humanisme [ التي نترجمها هنا بعبار فلسفة الإنسان] ولكن روح هذا المفهوم ليس مرتبطاً بلفظه، كما أن واقعه ليس خاصاً بإِدراك عقل عالم، بل هو في متناول أي ضمير بمجرد اتصاله الطبيعي بالإنسان. فهذا الاتصال هو الذي يحمل معنى الكلمة ويعبر عن واقعها. فإذا تحدثنا عن ((فلسفة الإنسان في الإسلام)) فإننا نعبر عن نوع اتصال بالإِنسان خاص، وضع فيه الإسلام أساساً غيبياً، حتى إن الضمير الإسلامي لا يمكنه أن يفصل مفهوم ((الإنسان)) عن هذا الأساس الغيبي، دون أن ينفصل هو عن الإِسلام الذي قرن هذا المفهوم بتكريم الله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. وهذا التكريم ليس خاصاً بالعربي أو المسلم بل بنوع ((ذي اليدين))، كله من ذرية آدم، ذي اليدين الذي يتمتع في نظر الضمير المسلم بقيمة تفوق كل قيمة طبيعية تحتمل ((الكم)). إِذ ((الإنسان)) ليس، في نظر المسلم، ((الكم)) الذي تجري عليه الاحصائية والوزن، أي الشيء الذي تجري عليه تجارب المختبر، وعمليات المصنع، وحاجات الجيش.

فالإنسان ليس ((الكم)) بل ((الصفة)) التي قرنها الله بالتكريم في سلالة آدم، فالمسلم يكرم هذه الصفة بصورة مطلقة. وكما هو منتظر فإن هذا التكريم له آثاره المحسوسة في الحياة: في التشريع وفي الآداب وفي العادات ... فالإسلام يقرر لأقل عبد رقيق الحق في العتق إذا ما تبين أن ربه ظالمه في العمل أو في الغذاء. ونرى الخليفة عمر يخضع للواقع عندما ترفض عجوز يهودية أن تسلم حقها في مِلْك يقع في حرم المسجد الذي بني بالمقدس. وفي رحلات العرب، إِبان العصر الذهبي، مثل رحلات ابن بطوطة والمسعودي وأبي الفداء فإِننا لا نجد فيما يكتبون عن الشعوب والقبائل البدائية المكتشفة أي ثرثرة تشوه إنسانية هذه الشعوب، ولا نرى في اتصالهم بها أي آثار للكبرياء في علاقات الإنسان المتحضر العربي إزاء الإِنسان البدائي، ولا نجد فيما كتبه الرحالة العرب المصطلحات الدارجة التي تعبر عن الإنسان بالتشويه، والسخرية والاحتقار مثل العبارات التي أوجدتها لغة الاستعمار للتعبير عن الإنسان المستعمَر. فشرف الإِنسان محرم في الإسلام حتى في الصورة التي عليها ملامحه في قطعة من الورق، فالمسلم يستحي بطبيعته من أن يستعمل هذه القطعة للاستبراء مثلا، بينما تجد صورة شيخ ذي وقار أو صورة فتاة ذات جمال فتان ملطخة في أماكن الراحة في البلاد المتحضرة، بل أكثر من ذلك، إنك لا تجد في هذه الأماكن في البلاد الإسلامية مجرد الورق المكتوب، لأن الكتابة في نظر المسلم البسيط صورة لفكر الإنسان، فهي على ذلك مقدسة. فهذه الأشياء الطفيفة تحمل أثراً أعمق لفلسفة الإِنسان من تلك الكلمات المنمقة، التي تعبر بها عن تلك الفلسفة، البلاد التي أعدت مصطلح هذا المفهوم بحرفه، وزهدت في معناه، كما هو أعمق من هذا المفهوم نفسه، في ضمير أولئك

الكتاب الذين لا يستطيعون أن ينظروا إلى الإنسان، دون أن يحاولوا هتك حرمته والمس بعرضه، مثل زملائهم، أولئك الفنانين والمخرجين السينمائيين، الذين لا يلقون نظرتهم على الحياة الإنسانية، دون أن ينزعوا عنها برقع حيائها، فتراهم يركزون عدسات كامراتهم، على أكوام المزابل والنقائص والأسمال والجروح الضي تنز ..... بدعوى أنهم يخرجون أفلاماً للالستعلامات! ... أو أنهم واقعيون. فكم نشعر باحتقار هؤلاء الأدباء والفنانين للإنسان لأنهم يقدرونه بتقدير ((الكم)). هذا ((الكم)) الذي أراد أن يعبر عنه بلغته مخرج أمريكي مقتدر، في فيلم أخرجه أخيراً يقول أحد أبطاله في حوار مؤثر: إنما الإنسان نقطة حقيرة على وجه الأرض. فكل تقدير ((كمي)) هو في الواقع تقدير لشيء لا قيمة له، أي لمجرد نقطة، وما النجمة الضخمة من حيث ((الكم)) إلا نقطة تراها أعيننا في السماء، هذا إن كانت مرئية، وأحياناً تكون ((لا شيئاً)) إن لم تكن مرئية!. أما الإسلام فقد أعطى للإنسان كل حجمه في ضمير المسلم، لأنه وضع قيمته في هذا الضمير، لا على تقدير الكم ولكن على أساس غيبي يجعلها قيمة لا متناهية. ولا نقول أن ليس من يقدر الإِنسان هذا التقدير من غير المسلمين فلا شك أن الدكتور خالدي قد أصاب فيما لاحظ من تقدير إنساني في لهجة نهرو الذي يبدو أنه يعطي هو الآخر للإنسان كل حجمه وكل التقدير. إنني لا أدري إذا كانت لغة الأردو، التي يتكلم بها رئيس حكومة الهند قد صاغت المصطلح الذي يعبر عن فلسفة الانسان، ولكن لا أشك في أن ضميراً صاغته تعاليم غاندي لابد أنه يحتوي هذا المفهوم. ومهحما يكن الأمر، فإن هذا المفهوم يستحق، بكل تأكيد، أقصى ما يمكن من الوضوح، في عصر بدأت فيه الإنسانية تقرر مصيرها في مستوى الكرة الأرضية. ولا شك أن المجهودات المبذولة اليوم في الغرب، مثل ما نشاهد في كتاب المسيو

ريمند شواب، أو في إنتاج مدرسة رونيه جينون، تفتح عهداً جديداً. وحبذا لو كان وراء هذه المجهودات الفردية تأييد المؤسسات الكبيرة، وإننا نجد فعلا في الأونيسكو ما يبشر بهذا. ولكن نتمنى لو كان مع ما نرى لموظفيها المحترمين من نشاط وراء جدرانها الشامخة، أكثر تفتحاً فيها على قضية الإِنسان ومشاكل الحياة الواقعية. ***

الدراسات الحديثة والتصوف الإسلامي

الدِّرَاسَاتُ الْحَدِيثَةُ وَالتَّصَوُّفُ الْإِسْلَامِيُّ الشاب المسلم في 8/ 5/ 1953 ــــــــــــــــــــــــــ إن المفكر الإنجليزي ألدوس هكسلي، يبدو الكاتب الوحيد الذي تناول، كتابه ((الفلسفة الخالدة)) دراسة التصوف كموضوع علمي أو بالضبط كطريقة بحث، وكمنهج يتبعه الاجتهاد العقلي لاكتشاف مجهول من نوع خاص، أي على أن التصوف ((علم)) يبحث عن هذا المجهول، حيث أن كل علم هو في جوهره الجهد الذي يبذله الإِنسان من أجل اكتشاف ما يجهل ... وإِننا لنعلم أن المتصوف هو، فعلا، باحث عن الحقيقة الخفية، بل هو أحياناً أكثر الباحثين حرارة وروعة في بحثه عن الحقيقة، يبحث عنها في خفايا نفسه الحميمة، وأبعد من هذا المجال النسبي، في سر ذلك الأفق النائي الذي تسبح فيه الحقائق المطلقة. كما نعلم أيضاً أن هذه التجربة الذاتية، قد تؤدي أحياناً إلى كارثة عندما ينتهي الطواف إلى فكرة ((وحدة الوجود))، وهي الكارثة التي تنتظر المتصوف عندما تضيع معالم الطرق أمامه، في حالة من أحواله، فيفقد فيها الاتزان النفسي، فيصبح لا يفرق بين الحقيقة النسبية التي تكنها نفسه في عالم الـ ((أنا)) المحدود، والحقيقة المطلقة التي يكنها ملكوت السموات والأرض في عالم لا حدود له .. هكذا يخلط بين هاتين الحقيقتين كما حدث لمؤسس البابية الذي وقع في مثل هذا الخبط فخرج به عن الجادة إِلى أحقر صور الكفر. وإنما يجب أن نقول: إن هذه التجربة، مهما تكن قيمتها الروحية من ناحية أخرى، فهي تخص مجالا تقاس وقائعه غالباً بالمقياس الأخلاقي، وأحياناً حتى بالمقياس الجمالي كما حدث، على سبيل المثال، فيما يخص عمر الخيام الذي يعده

البعض من شعراء التصوف والبعض يعده من شعراء الغزل والخمريات. ومهما يكن من الأمر، فالتصوف يعتبر الميدان الذي نقدر فيه الأشياء في نوعيتها وخصوصيتها، كل شيء بميزته، وكل شخصية متصوفة بما يميزها، بينما يأتي الدوس هكسلي، فيحاول ضم هذه النوعية في إطار وحدة شاملة، ووضع هذه الأشياء والشخصيات المختلفة تحت قانون عام، في نطاق منهج شامل يحيط بروح التصوف لا بتفاصيله، أي يحيط به كظاهرة خاصة بالفكر الإِنساني. وهو يصل إلى هذه النتيجة لأن اطلاعه المتسع يتيح له استخدام معطيات كل الثقافات الدينية فيقارن بعضها ببعض، ليصل بعد مقابلة النصوص المختلفة، إِلى حقيقة علمية تعطي التصوف صورة المنهج الموحد، المتشابه الأطراف، المتماسك الأجزاء، المتقارب المصطلحات في مختلف الأديان واللغات، رغم هذا الاختلاف، حتى إننا نجد في التصوف ما يوحد تصوراته واتجاهاته في كل العصور وفي كل البلاد، ويتخذ بذلك في نظرنا السمة التي يطلق عليها ألدوس هكسلي ((الفلسفة الخالدة)). لا شك أن موقف المفكر الإِنجليزي لا يخلو هنا من بعض الغرابة، ولكن محاولته تذهب إلى أبعد مما يبدو فيها من مجرد غرابة، أو كأنها تتعداها لتأخذ مكانها في محاولة أوسع نطاقاً، هي محاولة التوفيق والتوحيد التي توجه العالم اليوم بصورة غامضة، وسواء عن شعور، أو غير شعور، إلى توحيد مصيره في كل المجالات. فالتصوف يأخذ مكانه، في ضوء هذه الدراسة، في أحد هذه المجالات. فمحاولة هكسلي تأخذ هكذا مكانها في هذا الاتجاه العام مع محاولات أخرى كالتي يقوم بها روني جنون ومدرسته في نفس الموضوع، ومع ما ينشر من حين إلى آخر ككتاب ((وحدة الأديان من الناحية الميتافيزيقية)) الذي يعبر بمجرد عنوانه عن أهميته بالنسبة لموضوعنا. فليس إذاً من اللغو أن نتساءل عن مكان التصوف الإسلامي عند هذا المؤلف

الإنجليزي: إذ لا نجده قد أعطى الفكرة الصوفية الإسلامية حقها مع أن كتابه القيم كان يهدف إلى ضم كل رحاب الموضوع بين دفتيه. إنه لا شك يذكر الغزالي وجلال الدين الرومي، مرة أو مرتين. ولكن هذه القلة نفسها تدل على نقص في الكتاب إذا ما قدرنا الأشياء بالنسبة إلى خصوبة الموضوع أي بالنسبة إلى مجال ثقافة دينية- كالثقافة الاسلامية- يتضمن بجانب تصوف تاريخي يُرى بأسيماء لامعة، تصوفاً حياً أو معاصراً، تبدو آثاره حتى وراء ملامح مؤدب الكتاتيب البسيطة بالأرياف الجزائرية، في صور جميلة تدل على أن الحياة الإسلامية ما زالت، رغم الفقر الروحي المنتشر في العالم، ما زالت توقظ رسالات صوفية تستحق الاعجاب، وتمدها من الاشعاع الروحي بما يناسب حاجاتها والتزاماتها ... وإننا لواثقون- لو أن هذا الموضوع أغرى بض المثقفين السائحين في ... سبيل الله- أنه يستطيع في هذا السبيل جمع ما يكفيه من الآثار لتأليف كتاب جميل ... وربما خامرت هذه الفكرة عقل كاتب مراكشي من فاس حيث أنه أعطانا صوراً رائعة انتقاها من حياة الشارع والسوق والمسجد، وصبها بأسلوب قصصي لطيف في كتاب استحق عنوانه ((عقد العنبر)). إننا لا نستغرب إذا لم نجد هذا الجانب من التصوف الإِسلامي الذي يمكن أن نسميه الجانب الشعبي، في كتاب مثل كتاب هكسلي الذي يمتاز بالطابع العلمي. ولكن كنا نود لو وجدنا فيه بعض ما يستحق الذكر من التصوف الإِسلامي التاريخي .. ، أي الفكرة الصوفية الإسلامية التي سجلها التاريخ في الحركة الصوفية العالمية. ولكن إذا كان هذا النقص في الكتاب، مما يؤسف له. فيجب مع ذلك أن لا ننسى أنه أيضاً ومن ناحية أخرى يعبر عن عجز الطبقة المثقفة المسلمة، التي لم تقم، باستثناء محمد إقبال، بتبليغ القيم الإسلامية إلى

لغات الثقافة العصرية في العالم، بحيث ضاعت عليها الفرصة لتساهم في التراث الروحي العالمي في زمننا. وهذا العجز يعبر عن هذا الزهد- الذي أشرنا إليه في مكان آخر (¬1) - الذي يتصف به العالم الإِسلامي في التعريف بنفسه .. حتى إِننا نحيي الترجمة الفرنسية التي نشرت تحت إشراف هيئة ((اليونسكو)) لرسالة الغزالي ((أيها الولد)) نحييها كمبادرة تأتي في أوانها لتسد فراغاً في محاولة التوحيد والتوفيق الروحي التي تجري تفاصيلها تحت عيوننا في هذا العصر .. بالخحوص إذا لاحظنا أن المقدمة التي وضعت لهذه الرسالة تعطي للشباب المسلم- المثقف بالثقافة الغربية- بالإضافة إلى ما تعطيه من المعلومات عن وجه هو أكثر وجوه الماضي جاذبية في تاريخ الإِسلام، وإلى ما تمنحه من فرصة ليعيش بعض اللحظات الممتعة في حضرة هذا الوجه المشرق بأنوار الروح الإسلامي، فإنها تعطيه ملخصاً مهماً عن تاريخ الفكرة الصوفية في الإِسلام. ... ¬

_ (¬1) كتاب وجهة العالم الإسلامي.

فهرس ¬

¬

مشكِلاَت الحضَارة إصدار نَدوَة مَالِك بنْ نبي ـ[صدر منها]ـ ميلاد مجتمع تأملات في مهب المعركة بين الرشاد والتيه دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين شروط النهضة الظاهرة القرآنية وجهة العالم الإسلامي فكرة الأفريقية الآسيوية مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي فكرة كومنولث إسلامي المسلم في عالم الاقتصاد الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

§1/1