في علوم القرآن دراسات ومحاضرات

مجموعة من المؤلفين

القسم الأول في علوم القرآن للدكتور محمد عبد السلام كفافي

القسم الأوّل في علوم القرآن للدكتور محمد عبد السلام كفافي

- 1 - علوم القرآن الكريم (تعريف)

بسم الله الرّحمن الرّحيم - 1 - علوم القرآن الكريم [(تعريف)] القرآن الكريم آخر كتب الله المنزلة، أنزل على خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فأخرج به الناس من الظلمات الى النور، وبدأ به عهدا من الهداية عاش في نوره ملايين البشر، بل آلاف الملايين خلال العصور. واليوم يعيش في ظل هذه الرسالة عدد من الناس يقدرون بنحو أربعمائة مليون من البشر، هم المسلمون المنتشرون في شتى أنحاء المعمورة، وتتركز أكثريتهم في قارتي آسيا وإفريقيا. وقبل أن نمضي في دراستنا لعلوم القرآن لا بد أن نقف وقفة قصيرة عند أسماء هذا الكتاب العزيز. أول هذه الأسماء وأشهرها هو «القرآن». ولعل أصح الأقوال في شرح معناه أنه مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسما لكلام الله المنزل على نبيه محمد صلوات الله عليه.

وقد قيل إن اسم القرآن مشتق من القرء بمعنى الجمع لأنه جمع ثمرات الكتب السابقة. والرأي الأول أصح. وقد ذهب الإمام الشافعي إلى أنّ لفظ القرآن ليس مشتقا ولا مهموزا، وأنه قد ارتجل وجعل علما للكتاب المنزل، كما أطلق اسم التوراة على كتاب موسى والإنجيل على كتاب عيسى. وليس لهذا الرأي ما يدعمه، كما أنه لم يلق قبولا عند غير الشافعي، فيما أعلم. ومن أسماء القرآن أيضا «الفرقان» قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وهناك سورة كاملة تدعى سورة الفرقان وهذا الاسم يعني أنه الكلام الذي يفرق بين الحق والباطل، أو أنه الكلام الذي نزل على الرسول مفرقا، أي منجّما. وكم كان في ذلك التنجيم من حكم بالغة، سوف ندرسها، حينما نتحدث عن نزول القرآن. ومن أشهر أسماء القرآن «الكتاب» و «الذكر» و «التنزيل». قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ (آل عمران 3)

المعنى الاصطلاحي للفظ القرآن:

وقال: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ (الأنبياء: 50) وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. (الشعراء: 192) وقد بالغ بعض الباحثين فجعل للقرآن الكريم أسماء اشتقها من صفات أطلقت على القرآن، فالزركشي ذكر للقرآن خمسة وخمسين اسما. وهناك مؤلف من المحدثين هو الشيخ طاهر الجزائري صاحب التبيان ذكر للقرآن نيفا وتسعين اسما استخرجها من صفات هذا الكتاب الكريم. من أمثلة ذلك أن الزركشي في كتابه البرهان يذكر من أسمائه «كريم» استنادا الى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ و (مبارك) من قوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ لكن من الواضح أن لفظتي «كريم» و «مبارك» في الآيتين الكريمتين ليستا سوى صفتين. ومن هنا لا نأخذ بقول من يقول إنهما من أسماء القرآن الكريم. المعنى الاصطلاحي للفظ القرآن: أما وقد فرغنا من بيان المعنى اللغوي فعلينا الآن أن نبين المعنى الاصطلاحي الذي

يفهم من لفظ «القرآن». وقد ذكر البعض «أنه الكلام المعجز المنزل على النبي صلوات الله عليه، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته» والذين يقولون بهذا التعريف ينتقون بعض الصفات المميزة لكتاب الله ليعبروا بها عن تعريفهم له. وليس معنى هذا أن التعريف يجمع كل صفات الكتاب العزيز. ومن المعرفين للكتاب الكريم من أوجز في تعريفه مقتصرا على صفتي الإعجاز والتنزيل، لأنّهما هما الصفتان الذاتيتان لكتاب الله، تحققتا له منذ نزوله، ومن قبل أن يؤمن به الناس ويكتبوه ويتناقلوه ويتعبدوا به. ومهما يكن الأمر فالقرآن الكريم ليس بحاجة الى تعريف منطقي، فلا معنى لإضاعة الوقت حول طول التعريف أو قصره ومدى إحاطته بصفات الكتاب العزيز.

- 2 - كلام الله، ومعناه عند المتكلمين

- 2 - كلام الله، ومعناه عند المتكلمين حينما تأثرت الحضارة الإسلامية بفلسفة اليونان، وبدأ ظهور علم الكلام مستخدما المنطق والفلسفة في تفسير بعض مسائل العقيدة، ظهرت مشكلة كان لها أثرها العميق في حياة المجتمع الإسلامي، وتلك هي مشكلة خلق القرآن. إنّ المعتزلة، كما تعلمون، وضعوا مفهوما للوحدانية، قائما على أنّ الله أزلي بذاته، وليس هناك من أزليّ سواه. فصفات الله من علم وقدرة هي عين الذات. فالله عليم بعلم هو ذاته قدير بقدرة هي ذاته وهكذا. وكان مذهبهم يقضي بأنّ وجود صفات أزلية منفصلة عن الذات يعني أنّ هناك ما هو أزلي إلى جانب الخالق. ومن هنا جاء قولهم بنظرية خلق القرآن. فالكلام- عندهم- لا يمكن أن يكون صفة أزلية من صفات الله وإلا كان أزليا مع الله. ثم إن القرآن يقرأ بالحناجر، ويكتب على الورق وليس من المستطاع أن يتعلق أزليّ بفان. وتعلمون أن هذه النظرية قد راقت الخليفة المأمون الذي كان يميل إلى الاعتزال فحاول فرضها على الناس بالقوة. وممن رفض القول بها أحمد بن حنبل، ولقي من جراء ذلك محنته المشهورة. وكان نفي الصفات هذا على النقيض مما كان يعتقده أهل السنة. فالشهرستاني قد ذكر أنّ كثيرا من السلف قد أثبت لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها.

ولما كان المعتزلة ينفون هذه الصفات فقد سموا معطّلة. ولم يلبث المعتزلة أن شربوا من الكأس التي شرب منها خصومهم، حينما ولي المتوكل الخلافة، وكان يدين بمعتقدات أهل السنة. وهنا ساد القول بأن القرآن غير مخلوق، وبالغ بعض القائلين بهذا الرأي فأصروا على أنّ فكرة أنه غير مخلوق تشمل النسخ المكتوبة من القرآن بالحروف المرسومة فوق الورق، وأن القرآن المقروء للصلاة والمتلو الخارج من حناجر المؤمنين لا يختلف عن كلام الله الأزلي غير المخلوق. ووقف الأشاعرة والماتريدية من هذه القضية موقفا وسطا، فكلام الله الأزلي هو الكلام النفسي أي الصفة الأزلية لله التي ليس لها بدء ولا يكون لها انقطاع. يقول الماتريدي: «إذا تساءلنا ما هو المكتوب في نسخ القرآن؟ نقول هو كلام الله. والذي يتلونه في المساجد والذي يتلفظونه من الحناجر هو أيضا كلام الله. لكن الحروف المكتوبة والأصوات والترتيل، كل ذلك مخلوق. «أما الأشعري فيقول بأنّ هذا الذي يظهر مكتوبا في نسخة القرآن ليس كلام الله الأزلي ولكنه تبليغ عن كلام الله الأزلي. يرى الأشعري أنّ كلام الله يطلق إطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين: أحدهما بالصوت، والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف وهو المعنى القائم بالنفس، الذي يعبر عنه بالألفاظ. فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله، رأينا أن كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين: المعنى النفس وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم، وهو لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات، وهذا الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم ... أما القرآن- بمعنى المقروء المكتوب- فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق فإن كل كلمة تقرأ تنقضي بالنطق بما بعدها، فكل كلمة حادثة، فهكذا المجموع المركب منها» (¬1). وهكذا جرّت البراهين العقلية الجافة التي أريد لها أن تفسر العقيدة إلى جدل عقيم. إنّ العقيدة الإسلامية في وضوحها وبساطتها لم تكن بحاجة إلى مثل هذه ¬

_ (¬1) أحمد أمين: ضحى الاسلام، ص 3، ص 40، 41.

المجادلات المنطقية، التي بلبلت أفكار المجتمع الإسلامي، وأشاعت الفرقة بين أبنائه في حقب مختلفة. ونحن اليوم في عصر العلم لا نشعر بالحاجة إلى مثل هذه البراهين لكي نؤمن بأن القرآن كلام الله المنزل على رسوله. فالإيمان بالوحي جزء من الإيمان بالغيب، وهذا من مقتضيات الإيمان الصحيح. إنّ الإنسان لم يمنح العلم بجميع الأسرار، وقدرته على المعرفة لم تمتد إلا إلى قدر ضئيل من العالم المادي، فكيف يمكنه ادعاء الإحاطة بما وراء هذا العالم من أمور لا يتناولها الحس، ولا يحيط بكنهها العقل.

- 3 - علوم القرآن: مفهومها وموضوعاتها

- 3 - علوم القرآن: مفهومها وموضوعاتها يمكن أن يفهم من عبارة علوم القرآن معنى واسع هو كل ما يتصل بالقرآن الكريم من دراسات، فيدخل في ذلك علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم إعراب القرآن وعلم غريب القرآن، وعلوم الدين واللغة إلى غير ذلك. وهذه الدراسات المتعددة التي تدور حول القرآن الكريم وتتناوله من مختلف جوانبه قد بدأت في الظهور منذ وقت مبكر من تاريخ الفكر الإسلامي. وإذا رجعنا إلى كتاب الفهرست لابن النديم، وهو الذي يذكر المؤلفين والكتب التي ألفوها حتى القرن الرابع الهجري نجد أنه يذكر لنا أنواعا مختلفة من الدراسات القرآنية، وعددا كبيرا من الكتب التي ألفت فيها. فمن الأنواع التي ذكرها: كتب التفسير، والكتب المؤلفة في معاني القرآن ومشكله ومجازه، والكتب المؤلفة في غريب القرآن، والكتب المؤلفة في لغات القرآن والكتب المؤلفة في القراءات، والكتب المؤلفة في النقط والشكل للقرآن، والكتب المؤلفة في لامات القرآن، والكتب المؤلفة في الوقف والابتداء ضمن القرآن والكتب المؤلفة في اختلاف المصاحف، والكتب المؤلفة في وقف التمام، والكتب

المؤلفة في متشابه القرآن، والكتب المؤلفة في هجاء المصاحف، والكتب المؤلفة في مقطوع القرآن وموصوله، والكتب المؤلفة في أجزاء القرآن، والكتب المؤلفة في فضائل القرآن، والكتب المؤلفة في عدد آي القرآن، والكتب المؤلفة في ناسخ القرآن ومنسوخه، والكتب المؤلفة في نزول القرآن، والكتب المؤلفة في أحكام القرآن، والكتب المؤلفة في معان شتى من القرآن. كل هذه الأبحاث كانت موضوعا لكثير من المؤلفات في فترة لم تتجاوز عام 377 هـ، وهو عام الانتهاء من كتاب الفهرست لابن النديم. وقد زادت القرون التالية على ما ذكره صاحب الفهرست ألوفا من المؤلفات التي تتناول بالدراسة كتاب الله العزيز. وقد فهم بعض الباحثين من عبارة «علوم القرآن» مفهوما ينطوي على كثير من التجوز والتأويل. ذلك لأنّهم يرون أن علوم القرآن تعني كل ما يمكن أن يشير إليه من مختلف المعارف وما يدل عليه من المعلومات. وقد ظهر ذلك في اتجاه بعض المحدثين إلى محاولة ربط القرآن بما تطور في زماننا هذا من علوم تجريبية وما ظهر من مخترعات آلية. وليس هذا الاتجاه مما يخدم الدراسات القرآنية، ولا يجوز أن يقحم على كتاب الله المعجز. فماذا يكون لو ربطنا بالتأويل البعيد بين نظرية علمية اشتهرت وبين نص قرآني، ثم ظهر بطلان هذه النظرية، كما يحدث في كثير من الأحيان. وقد كتب في هذا الموضوع أستاذ فاضل من أساتذة الأزهر هو الشيخ محمد الزرقاني كلاما أحبّ أن أنقله لكم لأطلعكم على رأي رجل متنور من رجال الدين حول هذا الموضوع. يقول: «إن القرآن كتاب هداية وإعجاز، من أجل هذين المطمحين نزل، وفيهما تحدث، وعليهما دل، فكل علم يتصل بالقرآن من ناحية قرآنيته، أو يتصل به من ناحية هدايته وإعجازه فذلك من علوم القرآن. وهذا ظاهر في العلوم الدينية والعربية.

أما العلوم الكونية، وأما المعارف والصنائع، وما جدّ أو يجدّ في العالم من فنون ومعارف كعلم الهندسة والحساب، وعلم الهيئة والفلك، وعلم الاقتصاد والاجتماع، وعلم الطبيعة والكيمياء، وعلم الحيوان والنبات، فإن شيئا من ذلك لا يجمل عده من علوم القرآن. لأن القرآن لم ينزل ليدلل على نظرية من نظريات الهندسة مثلا، ولا ليقرر قانونا من قوانينها، وكذلك علم الهندسة لم يوضع ليخدم القرآن في شرح آياته أو بيان أسراره. وهكذا القول في سائر العلوم الكونية والصنائع العالمية، وإن القرآن قد دعا المسلمين إلى تعلمها وحذقها والتمهر فيها خصوصا عند الحاجة إليها، وإنما قلنا: إنه لا يجمل اعتبار علوم الكون وصنائعه من علوم القرآن مع أن القرآن يدعو إلى تعلمها، لأن هناك فرقا كبيرا بين الشيء يحث القرآن على تعلمه في عموماته أو خصوصاته، وبين العلم يدل القرآن على مساءلة ويرشد إلى أحكامه ... » فالخلاصة أنّ القرآن الكريم يحث الإنسان على طلب العلم ويدعوه إلى النظر والتأمل في حقائق الكون، لكنه لا يقصد الى تعليم المؤمنين تفصيلات المعارف الكونية. ومن هنا كان الزج بهذه المعارف في تفسير القرآن من باب التأويل الذي قد يسيء إلى نصوص الكتاب الكريم، وإن حسنت نية الساعي إلى هذا التأويل. وقد كان المرحوم الأستاذ أمين الخولي يؤكد هذا المعنى دائما في محاضراته عن القرآن الكريم بجامعة القاهرة. وقد استقل بذاته كثير من علوم القرآن، أي الدراسات التي ارتبطت به، لوفرة ما كتب فيها من مؤلفات ولغزارة المادة التي عالجتها، فأصبحت عبارة علوم القرآن في مفهومها الخاص تقتصر على جانب معين من هذه الدراسات. لقد أصبح مجالها مقتصرا على أبحاث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ونحو ذلك. وهذا المعنى الخاص هو الذي سيكون موضوع محاضراتنا هذا العام، إلى جانب ما ندرسه من آيات القرآن الكريم.

- 4 - تاريخ البحث في علوم القرآن

- 4 - تاريخ البحث في علوم القرآن لم تكن هناك حاجة لتدوين علوم القرآن في عهد الرسول. فالرسول كان يتلقى الوحي من ربه، كما كان يتلقى بيان هذا الوحي ويعلم أصحابه. قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (القيامة: 16 - 19) لقد بلغ الرسول ما أنزل إليه، وكان أصحابه يحفظون عنه القرآن، كما أنه أمر بكتابة ما كان يوحى إليه أول بأول، ونهى أصحابه عن أن يكتبوا عنه شيئا سوى القرآن الكريم. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». كان الرسول عليه السلام يخشى أن يلتبس القرآن بغيره، وأن يدخل فيه ما ليس منه، ولهذا نهى أصحابه عن كتابة ما كان يحدثهم به. وقد مضى عصر لم تكتب فيه علوم القرآن ولا سجلت السنة النبوية

الشريفة. كان هذا العصر عصر الخلفاء الراشدين، وكلهم كان من صحابة الرسول المقربين، كما أنّ مجتمع المدينة كان حافلا بالصحابة الذين صحبوا الرسول، وأخذوا عنه القرآن وسمعوا أحاديثه، وتعلموا منه فروض الإسلام وشرائعه. وبقيت الدراسات القرآنية والسنة النبوية تروى مشافهة في العصر الأموي. لم يجد صحابة الرسول ضرورة لتسجيل هذه الدراسات، وكل ما حرصوا عليه كان جمع القرآن وكتابته في مصحف. بدأ هذا الجمع في عصر أبي بكر، ثم انتهى الأمر إلى جمع المسلمين على مصحف إمام في عصر عثمان بن عفان، كما سيرد في دراستنا لجمع القرآن وتدوينه. لكن الدراسات القرآنية، بقيت كلها- شأنها شأن سائر العلوم- تلقن بطريق المشافهة، وتنتقل بالرواية من جيل إلى جيل. جرى ذلك في أول الأمر على يد الصحابة، ثم جاء بعدهم جيل التابعين، ومن أشهرهم مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. وجاء بعد التابعين جيل آخر يعرف بتابعي التابعين ومن هؤلاء مالك بن أنس، صاحب المذهب المالكي في الفقه. وحين جاء عصر التدوين ألفت الكتب في مختلف الدراسات القرآنية، فسجلت روايات بعض التابعين في تفسير القرآن الكريم، كما ألفت الكتب في معاني القرآن ومشكله ومجازه، فمنها معاني القرآن للأخفش، ومعاني القرآن للرؤاسي ومعاني القرآن ليونس بن حبيب، ومعاني القرآن للمبرد، ومعاني القرآن لقطرب النحوي ومعاني القرآن للفراء ومعاني القرآن لأبي عبيدة، وغير ذلك كثير. وممن ألف في غريب القرآن أبو عبيدة وابن قتيبة وأبو عبد الرحمن اليزيدي ومحمد بن سلام الجمحي، وكثير غيرهم. وألفت الكتب أيضا في قراءات القرآن ونقطه وشكله، وفي الوقف والابتداء، وفي المتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من الدراسات القرآنية. وكانت كل دراسة تسمى باسمها، فلم يظهر اصطلاح علوم القرآن إلا في وقت متأخر. ففي القرن السادس الهجري ألف ابن الجوزي المتوفي عام 597 كتابين هما

«فنون الافنان في علوم القرآن»، والثاني هو «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن» وألف أبو شامة المتوفى عام 665 هـ كتابا أسماه المرشد الوجيز، فيما يتعلق بالقرآن العزيز. وقبل ذلك ظهرت كتب حول علوم القرآن لم تصل الينا، أو لم تلق شهرة واسعة بين الباحثين. وقد نشر المستشرق آرثر جفري (¬1) مقدمتين في علوم القرآن يرجع تأليف إحداهما إلى عام 425 هـ، وأما الثانية فترجع إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري، وهي من تأليف ابن عطية الغرناطي المتوفي حوالي عام 543 هـ. والواقع أنّ مفهوم علوم القرآن، كما ندرسها اليوم قد تبلور في القرن الثامن على يد الزركشي المتوفي عام 794 هـ، صاحب «البرهان في علوم القرآن»، ثم تبعه في التأليف بشيء من الإيجاز جلال الدين السيوطي صاحب الإتقان في علوم القرآن، وهو من رجال القرن التاسع وقد توفي في مفتتح القرن العاشر عام 916 هـ. وقد اشتهر كتابه شهرة واسعة بين الدارسين. ولقد أصبح مفهوم علوم القرآن مجموعة من الدراسات القرآنية تتعلق بتاريخ القرآن، وما يتصل به من دراسات لا بد من الإلمام بها قبل دراسة نصه والإقدام على تفسيره. فمن هذه المسائل نزول القرآن وجمعه وتدوينه، ومصاحف الصحابة ثم مصحف عثمان ورسمه، ومسائل تتعلق بالنص القرآني مثل الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، فهذه الدراسات تعتبر بمثابة مقدمة لدراسة القرآن والإقدام على تفسيره واستنباط الأحكام من ثنايا آياته. فهذا هو المعنى الخاص لمصطلح علوم القرآن في عصرنا هذا. وفيه ألف عدد من المؤلفين المحدثين يجيء في مقدمتهم الشيخ طاهر الجزائري صاحب التبيان في علوم القرآن. كما أن المستشرقين ألفوا كتبا كثيرة في هذه الموضوعات لا تخلو من الدس والميل مع الهوى. لكنّ هذا الاتجاه بدأ يضعف في العصور الحديثة ليحلّ محله ميل إلى الإنصاف والالتزام بعدالة الأحكام. ¬

_ (¬1) القاهرة، مكتبة الخانجي، 1954.

- 5 - نزول القرآن

- 5 - نزول القرآن يصف القرآن وصول آياته إلى الرسول الكريم بأنه نزول أو تنزيل. وقد تقدم أن التنزيل من أسماء القرآن الكريم. أما الآيات التي تحدثت عن النزول فكثيرة، لا نستطيع استقصاءها هنا. فمنها قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً (النحل: 89) وقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (الانسان: 23) والأصل في النزول هو الانحطاط من علو. والاستعمال هنا مجازي. فوصول رسالة الخالق إلى الرسول شبيه بالنزول، لأنه بلاغ من مقام العزة إلى عبد اصطفاه ربه هو الرسول عليه السلام. فنزول القرآن على الرسول معناه وصوله إليه من جانب الخالق.

وقد جرت محاولات مختلفة عند اللغويين للتفريق بين الإنزال والنزول والتنزيل. فقيل إن الإنزال يعني النزول دفعة واحدة، وأن التنزيل هو النزول بتدرج. ومثل هذه التفسيرات مشتقة من بعض الاستعمالات القرآنية لمادة نزل. فقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قد فسّر- بناء على بعض الأحاديث- بأن القرآن أنزل دفعة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ففي حديث عن ابن عباس أخرجه النسائي والحاكم والبيهقي أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة». أي أن القرآن- بعد أن أنزل الى سماء الدنيا، نزل منجما على الرسول منذ بداية بعثته حتى قبل وفاته بأيام. وهناك أحاديث تذكر للقرآن تنزلات ثلاثا أما أولها فهو إلى اللوح المحفوظ، وأما ثانيها فهو النزول إلى سماء الدنيا، وأما ثالثها فهو النزول المنجّم على الرسول إبان بعثته. وليس في القرآن الكريم إشارة إلى شيء من هذا ولكن هكذا وردت بعض الأحاديث عن الصحابة مفسرة للآيات التي عينت ميقاتا لنزول القرآن منها قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هذه الأحاديث تفسر معنى نزول القرآن في ليلة القدر، وفي شهر رمضان وارتباط ذلك بنزول الكتاب الكريم مفرقا على الرسول خلال مدة بعثته. وهناك من الأقوال ما يرى أنه ابتدئ بإنزال القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي. ولست أريد أن أطيل الوقوف عند الخلافات المتعددة في هذه المسائل، فتحقيقها بالدليل التاريخي البحت يعد من المحال. ولا بد من الأخذ بنص القرآن الكريم فيما أخبرنا به، وخلاصته أن القرآن نزل على الرسول عن طريق الوحي. والثابت لدينا أن هذا النزول كان منجما أي مفرقا على أزمان مختلفة. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة في قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ولقد ذكرت الروايات أن هاتين الآيتين نزلتا حين عاب اليهود والمشركون على النبي نزول القرآن مفرقا، فكان نزول هاتين الآيتين ردا عليهم. فلعل المقصود بإنزال القرآن في رمضان هو ابتداء نزوله.

الروايات المتعددة عن أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم:

الروايات المتعددة عن أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم: اختلف في تعيين أول ما نزل من القرآن. ولقد جاءت في ذلك أقوال أربعة. القول الأول: أنه صدر سورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وهذا أصح الأقوال ويستند على حديث صحيح عن عائشة رواه البخاري ومسلم. القول الثاني: أن أول ما نزل من القرآن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ويستند هذا القول على حديث روى عن جابر بن عبد الله. والمعروف أن هذه الآية نزلت بعد فترة الوحي وكانت أول ما نزل على الرسول بعدها. فلعل جابرا سمع من الرسول حديثه عن أول ما نزل عليه من القرآن بعد فترة الوحي، فاعتبر ذلك أول قرآن نزل على الإطلاق. وفي صراحة نص الحديث الأول ما يجعله مقدما على ما أخبر به جابر. القول الثالث: أن أول ما نزل هو الفاتحة. والاستناد في هذا إلى حديث مرسل سقط من سنده الصحابي، فليست له قوة الحديث المروى عن عائشة عن النبي. ولم يقل بهذا الرأي إلا قلة من العلماء منهم الزمخشري صاحب الكشاف. (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 24.

القول الرابع: أن أول ما نزل هو: بسم الله الرّحمن الرّحيم واستند في ذلك على حديث أخرجه الواحدي عن عكرمة والحسن. قالا: «أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، وأول سورة سورة اقرأ». (¬1) وهذا الحديث مرسل فليست له قوة الحديث المرفوع المروىّ عن عائشة. يضاف إلى ذلك أن البسملة تجيء في أول كل سورة إلا ما استثنى (وهي سورة براءة)، فمعنى ذلك أنها نزلت صدرا لسورة «اقرأ» كما نزلت صدرا لغيرها من السور. أما آخر ما نزل من القرآن فقد اختلف فيه على عشرة أقوال. القول الأول: يروى أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ القول الثاني: أن آخر ما نزل هو قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ القول الثالث: أن آخر ما نزل هو آية الدين وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ¬

_ (¬1) انظر الأقوال الأربعة في: الاتقان، ج 1، ص 23 - 25.

إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وهي أيضا من سورة البقرة. القول الرابع: أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة آل عمران: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى القول الخامس: أنه قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (النساء: 93) القول السادس: أنه قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وهي خاتمة سورة النساء. القول السابع: أن آخر ما نزل سورة المائدة. القول الثامن: أن آخر ما نزل خاتمة سورة براءة، وهي قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.

القول التاسع: أن آخر ما نزل هو خاتمة سورة الكهف، وفيها يقول سبحانه: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً القول العاشر: أن آخر ما نزل هو سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (¬1) وليس في هذه الأقوال قول مرفوع إلى النبي عليه السلام، وهي جميعا مستندة إلى اجتهادات الصحابة. قال القاضي أبو بكر في كتابه «الانتصار»: «وهذه الأقوال ليس في شيء منها ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون قال قائله بضرب من الاجتهاد، وتغليب الظن. وليس العلم بذلك من فرائض الدين حتى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط. ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو لمفارقته له، ونزول الوحي عليه بقرآن بعده. ويحتمل أيضا أن تنزل الآية، التي هي آخر آية تلاها الرسول مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخرا وتلاوته، فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب». (انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: ج 1، ص 210). وقد استغرق نزول القرآن فترة البعثة النبوية، فقد بدأ الوحي ينزل على الرسول منذ مبعثه، وتتابع النزول إلى قرب انتهاء حياة الرسول. ويختلف تقدير هذه المدة ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 26 - 28. الزركشي: البرهان، ج 1 ص 209 - 210.

ما بين عشرين وخمسة وعشرين عاما، فقد اختلف في تقدير فترة إقامة الرسول بمكة، فقيل إنها كانت عشرة أعوام وقيل ثلاثة عشر وقيل خمسة عشر. وأرجح الأقوال أنها كانت اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، بدأت من 17 رمضان من العام الواحد والأربعين من مولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وانتهت يوم أول ربيع عام 54 من مولده. أما إقامة الرسول بالمدينة فقد امتدت تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام. أي حتى العام الثالث والستين من حياته، وهو ذاته عام وفاته ويوافق العام العاشر من الهجرة. فمعنى ذلك أن نزول الوحي دام ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاما، تستثنى منها المدة التي فتر فيها نزول الوحي وتقدر بثلاث سنوات.

- 6 - لماذا نزل القرآن منجما

- 6 - لماذا نزل القرآن منجّما ننتقل الآن إلى مبحث مهم من المباحث القرآنية، نحاول فيه أن ندرك السر الكامن وراء نزول القرآن منجما على الرسول الكريم. والواقع أن اليهود والمشركين كانوا ينعون على الرسول أن القرآن لم ينزل عليه جملة واحدة. وهناك آيات كريمة تحكي أقوالهم وترد عليها بالحجة الدامغة. ومن هذه الآيات نستطيع أن نستخلص بعض الأسرار الكامنة وراء نزول القرآن منجما. كما أن هناك أمورا تدرك بالعقل والاجتهاد. ومن الملحوظ أن هذا الأمر كان مجالا لاجتهاد مختلف الباحثين الذين ساقوا الحجج المختلفة في بيان حكمة التنجيم، وأضافوها الى ما يمكن أن يستفاد من النصوص القرآنية. وربما أسرف بعضهم في التكلّف، ولهذا يجب الحذر عند بحث هذا الموضوع والابتعاد عن الإسراف في افتعال الحجج، فالأمر واضح الى حد بعيد. قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا وقال الله تعالى:

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا في هاتين الآيتين الكريمتين إشارات إلى اعتراض الكفار على نزول القرآن مفرقا، ورد عليهم يبين ألوانا من الحكمة الكامنة وراء هذا الأمر. ففي الآية الأولى إشارة إلى أن الله كان رفيقا برسوله وبالمؤمنين، فأنزل القرآن مفرقا ليسهل على الرسول حفظه، وليقرأه على الناس على مكث، قراءة المتأني، حتى يستطيعوا حفظه واستيعابه. إن آيات القرآن الكريم قد حوت من الحكم العالية والأسرار والتشريع ما لا يسهل استيعابه لو نزل القرآن دفعة واحدة. ومن هنا جعل التنجيم مجال الحفظ والتدبر واسعا أمام الرسول الكريم، وصحبه الذين كانوا يكتبون ما يوحى إليه ويحفظونه. ولقد كان الكتاب في المجتمع العربي الناشئ قلة نادرة، كما أن أدوات الكتابة كانت قليلة. فكيف كان مثل هذا المجتمع يستطيع تسجيل القرآن وحفظه لو نزل عليهم دفعة واحدة. أما الآية الثانية فتبين أن نزول القرآن مفرقا إنما كان لتثبيت قلب الرسول، فكم كان يلقى من عنت المشركين في مكة إبان سنوات الدعوة. ولقد ظل ثلاثة عشر عاما يدعو قومه إلى الإيمان، فلم يؤمن به إلا القلة، مما اضطره إلى الهجرة إلى المدينة. وفي المدينة قضى أعواما كلها كفاح ضدّ الكفر والشرك، وحفلت بغزوات كان الكثير منها مجهدا، اقتضى من الرسول عملا دائبا، وسعيا لا يلين من أجل إحقاق الحق ورفع كلمة الله. إن الرسول وأصحابه في سنوات الدعوة التي انقضت قبل الهجرة كانوا في أشد الحاجة إلى ما يثبت قلوبهم أمام ما كانوا يلقون من عنت واضطهاد. ونرى كثيرا من الآيات الكريمة يتحدث عن تثبيت قلوب المؤمنين. ومن الطبيعي أنهم كانوا بحاجة إلى ما يقويهم أكثر من صاحب الرسالة، معلمهم وهاديهم. قال تعالى:

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا (النحل: 102) وقال: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال: 11) وتشير آية كريمة إلى مؤازرة الوحي للرسول في محنته مع الكفار هي قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (الاسراء: 74) ومن قبيل التثبيت أيضا ما حفلت به آيات الكتاب الكريم من تعزية للرسول، تدعيم له في مواقفه، فكان بعضها يدعوه إلى الصبر الجميل، كمثل قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (المزمل: 10) وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (الأحقاف: 35)

وبعضها كان يسري عن نفسه ما ينالها من الحزن، مثل قوله تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (يس: 75) وقوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (يونس: 65) إن نزول الوحي منجما في سنوات الكفاح من أجل نشر الإسلام كان بحق معينا للرسول على النهوض بأعباء رسالته العظيمة، مقويا له، آخذا بيده. كما كان المؤمنون الأولون يستمدون من تكرار نزول الوحي العزم والقوة كلما أظلمت الأيام وقست عليهم الحوادث. من حكم التنجيم في النزول أيضا أن القرآن كتاب هداية، نزل على الرسول ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور. لقد كان يهدف إلى تعليم الناس. ومجتمع الجاهلية بما شاع فيه من المفاسد والتخلف ما كان ليستطيع أن يتلقى حكمة الكتاب الكريم دفعة واحدة، فعقول الناس ما كانت لتستطيع أن تستوعب هذا الفيض الغامر من الحكمة الإلهية. فنزول الآيات منجمة، وتلاوتها على الناس كان من قبيل التعليم التدريجي لهذا المجتمع الجاهل المتخلف. قال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151)

وقال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (آل عمران: 164) فالتدرج في تعليم المجتمع كان من النتائج التي تحققت بنزول القرآن منجما. أما الجانب الاجتماعى للرسالة المحمدية فقد تمثل على أوضح صورة في نزول آيات الأحكام، تلك التي وضعت الأسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد وإرساء قواعد المجتمع الصالح. وقد قضت الإرادة الإلهية أن يتم هذا الإصلاح الاجتماعي بصورة تدريجية. لقد تطورت الشريعة بهذا المجتمع فسنّت له الأحكام المختلفة. وكان كل حكم ينظم جانبا من حياة المجتمع، أو يحرّم بعض الرذائل التي كانت شائعة فيه. لم يكن من الممكن أن ينقلب مجتمع فاسد بين عشية وضحاها إلى مجتمع صالح. وقد تجلى هذا التدرج في تتابع نزول الأحكام من ناحية، وفي نسخ بعض الأحكام التي كانت قد نزلت مجاراة لصالح المجتمع الإسلامي. وهناك من الرذائل الاجتماعية ما قضى الإسلام بتحريمه بغير تدرج في هذا التحريم مثل تحريم الزنا. وهناك أمور حرّمت بالتدريج مثل الخمر. ومهما يكن الأمر، فإن شريعة الإسلام أخذت بيد المجتمع تنقله من مرحلة الى مرحلة حتى أرست له قانونا سماويا لا يضل من اتبعه.

- 7 - المكي والمدني

- 7 - المكي والمدني من القرآن ما هو مكي ومنه ما هو مدني. ومن المعروف أن القرآن الكريم قد بدأ نزوله بمكة. وقد توالى نزوله بعد هجرة الرسول إلى المدينة. وليس ترتيب القرآن في المصحف مسايرا لتاريخ النزول، بل هو ترتيب توقيفي، كما سيرد في حديثنا عن جمع القرآن. والواقع أن النصف الأول من القرآن هو في غالبه مدني أما النصف الثاني فهو مكي. فما الذي يعنيه هذان المصطلحان؛؟ ما المراد حين توصف الآية بأنها مكية وحين توصف بأنها مدينة. لقد فسر العلماء هذين المصطلحين على وجوه ثلاثة: أولها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وأن المدني ما نزل بعد الهجرة. وإن كان بمكة. وهذا هو أصوب الآراء وأولاها بالقبول. ذلك لأن هذا الرأي يأخذ في اعتباره تاريخ النزول، ولهذا أهميته الكبرى في معرفة الناسخ والمنسوخ واستنباط الأحكام. فالآية التي تتناول موضوعا أو حكما تناولته آية سابقة عليها، تكون ناسخة لتلك الآية السابقة. ولقد حاول بعض المستشرقين الذين عنوا بتاريخ القرآن في العصر الحديث ترتيب آياته ترتيبا تاريخيا، ومن هؤلاء نولد كه وبلاشير. ونحن بحاجة إلى أن ننهض

من جانبنا بمثل هذا العمل مستعينين بما وصل إلينا من روايات عن الصحابة وما حفلت به الكتب التي خلفها لنا السلف من تفصيلات حول هذا الموضوع. الرأي الثاني: في شرح اصطلاحي المكي والمدني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة. ويدخل في مكة ضواحيها فيعتبر مكيا ما أنزل على النبي بمنى وعرفات والحديبية، كما يدخل في المدينة ضواحيها، فيعتبر مدنيا ما أنزل على النبي ببدر وأحد وسلع. وهذا التقسيم لا يجدي في بيان ما تقدم نزوله من القرآن وما تأخر، وليس إلا تقسيما مبنيا على مكان النزول. ثم هو لا يفيد الحصر في جميع الحالات، فهناك آيات أنزلت على الرسول في غير مكة والمدينة، فقد نزل عليه الوحي في تبوك وكذلك في بيت المقدس. الرأي الثالث: في شرح اصطلاحي المكي والمدني أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة (¬1). ويحاول القائلون. بهذا الرأي أن يضعوا له الضوابط فيقولون إن ما صدّر في القرآن بلفظ: يا أَيُّهَا النَّاسُ أو بصيغة: يا بَنِي آدَمَ فهو مكي، لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة، فخوطبوا بيا أيها الناس أو يا بني آدم، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. أما ما صدّر من القرآن بعبارة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني، لأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. وهذا الرأي قابل لاعتراضات متعددة: ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 9. الزركشي: البرهان، ج 1، ص 187.

أولها: أن مخاطبة أهل مكة ومخاطبة أهل المدينة هما موضوعان من موضوعات القرآن الكريم. لكن هناك آيات كثيرة ليس فيها خطاب لأي من هذين الفريقين. فما موقفها بين المكي والمدني من القرآن؟ وما جدوى القول حينذاك بأن القرآن ينقسم الى مكي ومدني؟ ثانيها: أن الضوابط التي ذكرت لتعيين المكي والمدني- وفق هذا الرأي- وهي الخطاب «بيا أيها الناس» لأهل مكة «وبيا أيها الذين آمنوا» لأهل المدينة لا تطرد في القرآن الكريم. فهناك آيات مدنية صدّرت بقوله تعالى: «يأيها الناس»، ففي سورة البقرة، وهي مدنية جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وكذلك افتتحت سورة النساء- وهي مدنية- بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ومن ناحية أخرى ورد الخطاب بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في آيات مكية، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة الحج: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ثالثها: أن هذا التقسيم إلى مكي ومدني لن يفيدنا شيئا في دراسة تاريخ القرآن الكريم لأنه يستبعد الجانب الزمني، كما أنه لا يعتبر تقسيما موضوعيا لأن خطاب أهل مكة وخطاب أهل المدينة ليسا سوى جانبين من جوانب كثيرة تناولها القرآن الكريم على هذا نستطيع أن نقول إن تقسيم القرآن إلى مكي ومدني يرجع في أصوب الآراء وأشهرها إلى زمان النزول، أي أن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني هو ما نزل بعدها.

السبيل إلى معرفة المكي والمدني من القرآن الكريم

السبيل إلى معرفة المكي والمدني من القرآن الكريم يقول القاضي أبو بكر في كتابه الانتصار: «لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وفصّله لهم. ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذي تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول بعينه، وقوله هذا هو الأول المكي وهذا هو الآخر المدني. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته. وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية، فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس، ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه». (البرهان، ج 1، ص 192). يستخلص من هذا الكلام ثلاثة أمور: 1) أن معرفة المكي والمدني لم تكن مما علّمه الرسول لصحابته، أي أن هذه المسألة لم يعرف عن الرسول صلوات الله عليه تحديد لها. 2) أن معرفة المكي والمدني- على هذا- موضوع اجتهادي، يجوز لعلماء الأمة أن يحكموا فيه وفق اجتهادهم. 3) أن معرفة المكي والمدني ليست واجبة على كل مسلم، لكن لا بد من معرفتها لبعض علماء الأمة، حتى يعرفوا الناسخ من المنسوخ. فهي إذن مسألة اجتهادية تعتبر الإحاطة بها فرض كفاية، لا فرض عين.

لكنّ أهمية معرفة المكي من المدني لا تتزعزع بهذا القول. فالقاضي أبو بكر أوجبها على علماء الأمة. وممن تحدث بوضوح عن أهمية هذه المعرفة محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن». يقول: «من أشرف علم القرآن علوم نزوله، وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما نزل بالجحفة (¬1)، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم مدني. هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ له أن يتكلم في كتاب الله تعالى». (البرهان، ج 1، ص 192). وكلام النيسابوري هذا لا يناقض كلام القاضي أبي بكر، فهو يلزم المجتهد الذي يتصدى لكتاب الله بمعرفة المكي والمدني، ويفصل المسائل التي يجب عليه أن يعرفها. وقد أوردنا النص هنا لكي تعلموا منه المسائل التفصيلية التي حرص كثير من دارسي القرآن الكريم على معرفتها، ووردت بشأن الكثير منها روايات عن الصحابة. ولقد أثر عن بعض الصحابة علم واسع بهذه الأمور: فيروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «والله الذي لا إله غيره، ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله الا وأنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه». ¬

_ (¬1) الجحفة قرية على طريق المدينة بينها وبين مكة أربع مراحل.

الضوابط الاجتهادية لمعرفة المكي والمدني:

وخلاصة القول في هذا الموضوع أن لمعرفة المكي والمدني طريقين: فأما أولهما فطريق نقلي يقوم على ما روي في ذلك من أخبار صحيحة عن الصحابة والتابعين. وأما ثانيهما فاجتهادي يقوم على معرفة المجتهدين بأساليب القرآن الكريم وموضوعاته. الضوابط الاجتهادية لمعرفة المكي والمدني: ترجع هذه الضوابط إلى أمور بعضها لفظي أو أسلوبي وبعضها موضوعي. فأما الضوابط اللفظية أو الأسلوبية فهي كما يلي: أولا: كل سورة فيها لفظ (كلّا) فهي مكية. ثانيا: كل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية. ويستثنى من ذلك سورة البقرة وسورة آل عمران فهما مدنيتان بالإجماع. وهناك خلاف في سورة الرعد. ثالثا: كل سورة فيها يا أَيُّهَا النَّاسُ أو يا بَنِي آدَمَ في مكية. أما السور التي بها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

أما الضوابط الموضوعية فيكن إجمالها فيما يلي:

فهي مدنية. لكنّ هناك استثناء لذلك، كما قدمنا. والواقع أن الغالب في لكي مخاطبة أهل مكة بيا أيها الناس والغالب في المدني مخاطبة أهل المدنية بيا أيها الذين آمنوا. لكن الأمر لا يمثل قاعدة مطردة. رابعا: السور ذات الآيات القصار المفصلة مكية. والمفصّل من القرآن هو السور ذات الآيات القصار التي تكثر الفواصل بين آياتها. (وقد فسر البعض الفصل من القرآن بأنه ما خلا من النسخ، فقوله قول فصل). لكن هذه القاعدة أيضا لا تطرد، فقد نزل بالمدينة بعض السور من النوع المفصّل، ومثال ذلك سورة النصر وهي من أواخر ما نزل. أما الضوابط الموضوعية فيكن إجمالها فيما يلي: أولا: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية، ويستثنى من ذلك سورة البقرة. ثانيا: السور التي تحكي قصة آدم وإبليس مكية، سوى سورة البقرة. ثالثا: السور التي تتضمن ذكر الحدود والفرائض مدنية. رابعا: كل سورة أمرت بالجهاد أو أذنت به وتحدثت عن أحكامه فهي مدنية. خامسا: كل سورة ذكرت المنافقين فهي مدنية. وقد ورد ذكر المنافقين في سورة العنكبوت، وهي مكية، لكن الآيات التي تذكر المنافقين في هذه السورة آيات مدنية. وكان طبيعيا أن يذكر المنافقون في الآيات المدنية لأنهم كانوا يمثلون مشكلة للمجتمع الإسلامي، حينذاك. لم يكن النفاق من الظواهر المألوفة في فترة الدعوة بمكة، لأن المسلمين كانوا قلة، وكانوا ضعفاء بالقياس الى المشركين، فلم يكن مشركو مكة ينافقون المؤمنين، لكنّ الأوضاع تغيرت في المدينة، فقد كان المسلمون هناك قوة غالبة، ومن هنا لم يجرؤ كثير من الكفار على معارضتهم معارضة صريحة، فلجئوا إلى النفاق.

ولو أردنا أن نتحدث بتفصيل أكثر عن الطابع العام للمكي والمدني من الناحية الموضوعية أمكننا أن نذكر بعض النقاط المهمة التي يستعان بها في التمييز بين النوعين. فبالنسبة للمكي يمكننا أن نذكر ما يلي: أولا: القرآن الذي نزل بمكة حمل على الشرك وسخر من المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها. ودعاهم إلى التأمل في الكون والاحتكام إلى الحس والعقل. وأكد وحدانية الله، والبعث، والثواب، والعقاب. ثانيا: حفل المكي بألوان التهديد والوعيد، وواجه جبروت الكفار والمشركين بآيات تنذرهم وتحذرهم من عاقبة كفرهم وطغيانهم. لقد خاطبهم بآيات زلزل القلوب. ثالثا: أورد القرآن الكريم في تحذير هؤلاء قصص الأنبياء السابقين والأمم الماضية، وما حاق من العذاب بمن عصوا الله، وحاربوا رسالات السماء. رابعا: أظهر القرآن لأهل مكة قبح ما كانوا عليه من السير، وما انغمسوا فيه من الموبقات وقبيح العادات كالزنا والقتل وأكل مال اليتامى. ودعاهم إلى كريم الخصال، وحبّب إليهم الإيمان ونبذ المعاصي والرحمة والمحبة والإخلاص والبر بالوالدين والأقربين. والخلاصة أن القرآن الكريم رسم لهؤلاء العرب الجفاة التعجرفين مثلا أعلى في العقيدة النقية، والسلوك الإنساني الرفيع. أما بالنسبة للمدني فيمكننا أن نذكر ما يلي: أولا: كثر في الآيات المدنية نزول الأحكام المختلفة وذكر تفصيلاتها. وتنظم هذه الأحكام علاقات الفرد بأخيه، كما تنظم حياة المجتمع. وهي تتضمن كل أنواع القوانين التي فصّلت في العصر الحديث إلى أحوال شخصية، ومدنية وجنائية وهكذا. ثانيا: يكثر في القسم المدني دعوة أهل الكتاب للإيمان. كما تتحدث الآيات المدنية كثيرا عن سلوك اليهود وتحريفهم كلام الله، وغير ذلك مما ارتكبوا من الجرائم.

معنى وصف السورة بأنها مكية أو مدنية:

معنى وصف السورة بأنها مكية أو مدنية: توصف السورة بأنها مكية أو مدنية تبعا لما يغلب عليها، أو تبعا لفاتحتها. فإذا نزلت فاتحة سورة بمكة سميت مكية، وإن نزلت فاتحة السورة بالمدينة سميت مدينة. لكننا يجب أن ننتبه هنا إلى التفسير الاصطلاحي الذي أخذنا به، وهو أن المكي ما كان سابقا على الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة. فمعنى ذلك أن السورة التي نزلت فاتحتها قبل الهجرة تعتبر سورة مكية، والسورة التي نزلت فاتحتها بعد الهجرة تعتبر سورة مدنية، ويستثنى من كل سورة مدنية ما بها من آيات نزلت قبل الهجرة فهذه تعد مكية كما يستثنى من السور المكية ما بها من آيات نزلت بعد الهجرة لأن هذه الآيات تعد مدنية. فهناك سور اجتمع بها المكي والمدني، وسور كل آياتها مكية وأخرى كل آياتها مدنية. وهناك خلاف حول بعض السور من حيث وصفها بأنها مكية أو مدنية. ومن الجدير بنا أن نذكر هنا أن ترتيب الآيات في مواضعها كان توقيفا، فالرسول هو الذي أمر به، بوحي من ربه. وهناك روايات تعين السور المكية والسور المدنية وترتيب نزولها، وما يستثنى من المكية من آيات مدنية، وكذلك ما يستثنى من المدنية من آيات مكية. ويورد الزركشي رواية تبين السور التي نزلت بمكة مرتبة بتاريخ نزولها على الوجه التالي: أول ما نزل بمكة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثم ن وَالْقَلَمِ، ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، ثم وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى،

ثم وَالْفَجْرِ، ثم وَالضُّحى، ثم أَلَمْ نَشْرَحْ، ثم وَالْعَصْرِ، ثم وَالْعادِياتِ، ثم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، ثم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، ثم أَرَأَيْتَ الَّذِي، ثم قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ثم «سورة الفيل» ثم «الفلق»، ثم «النّاس»، ثم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ثم عَبَسَ وَتَوَلَّى، ثم إِنَّا أَنْزَلْناهُ، ثم وَالشَّمْسِ وَضُحاها ثم وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، ثم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، ثم الْقارِعَةُ، ثم لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، ثم الهمزة، ثم المرسلات، ثم ق وَالْقُرْآنِ، ثم لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، ثم الطارق ثم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، ثم ص وَالْقُرْآنِ، ثم الأعراف، ثم الجن، ثم «يس» ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم مريم، ثم طه، ثم الواقعة، ثم الشعراء، ثم النمل، ثم القصص، ثم بني اسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان،

أما ما نزل بالمدينة:

ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم. المؤمن، ثم حم. السجدة، ثم حم. عسق، ثم حم. الزّخرف، ثم حم. الدخان، ثم حم. الجاثية، ثم حم. الأحقاف، ثم وَالذَّارِياتِ، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنون، ثم الم تَنْزِيلُ، ثم وَالطُّورِ ثم الملك، ثم الْحَاقَّةُ ثم سَأَلَ سائِلٌ، ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ، ثم وَالنَّازِعاتِ ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، ثم الروم. واختلفوا في آخر ما نزل بمكة، فقال ابن عباس: العنكبوت، وقال الضحاك وعطاء: المؤمنون. وقال مجاهد وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. أما ما نزل بالمدينة: فيذكره مرتبا على النحو التالي: سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إِذا زُلْزِلَتِ، ثم الحديد، ثم محمد، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم هَلْ أَتى، ثم الطلاق ثم

لَمْ يَكُنِ، ثم الحشر، ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ، ثم الصفّ، ثم الجمعة، ثم التّغابن، ثم الفتح، ثم التّوبة، ثم المائدة (¬1). ومنهم من يقدم التوبة على المائدة. أما السور المختلف فيها فهي «فاتحة الكتاب» وكذلك وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (انظر البرهان، ج 1، 193، 194). أما السيوطي فأورد في الإتقان أقوالا كثيرة. ومن بين ما ذكر أن السور المختلف فيها اثنتا عشرة سورة هي: الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن، والتطفيف، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والمعوذتان. أما السور المدنية فيذكر- نقلا عن أبي الحسن الحصار- أنها عشرون سورة هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. أما بقية السور فهي مكية، وهي اثنتان وثمانون سورة. ¬

_ (¬1) انظر ايضا ترتيب نزول القرآن في كتاب المباني (ص 8 - 16)، المنشور مع مقدمة ابن عطية بعنوان: «مقدمتان في علوم القرآن». القاهرة، مكتبها الخانجي، 1954.

نماذج من السور المكية وما بها من آيات مدنية:

نماذج من السور المكية وما بها من آيات مدنية: سورة الأنعام: وهي مكية وبها آيات مدنية هي الآيات 20، 23، 91، 93، 114، 141، 151، 153. سورة الأعراف: وهي مكية ما عدا الآيات 163 - 170 فهي مدنية. سورة يونس: وهي مكية ما عدا الآيات 40، 94، 95، 96. سورة هود: وهي مكية ما عدا الآيات 12، 17، 114، فهي مدنية. نماذج من السور المدنية وما بها من آيات مكية: سورة البقرة: وهي مدنية ما عدا الآية 281 فهي مكية. سورة المائدة: وهي مدنية ما عدا الآية 3 فهي مكية. سورة الأنفال: وهي مدنية ما عدا الآيات من 30 - 36 فهي مكية. سورة التوبة: وهي مدنية، أما المكي فيها فهما الآيتان الأخيرتان.

- 8 - أسباب النزول

- 8 - أسباب النزول هذا مبحث جليل من مباحث علوم القرآن الكريم، يعتمد عليه في فهم قسم من القرآن نزل لأسباب معينة، إجابة لسؤال، أو بيانا لحكم، يتعلق بحادثة من الحوادث التي وقعت إبان حياة الرسول، وقد اهتم بهذا الموضوع بعض العلماء منذ وقت مبكر. وذكر السيوطي أهم من ألفوا فيه وهم علي بن المديني شيخ البخاري، والواحدي (وإن كان ينسب اليه القصور،)، والجعبري الذي اختصر كتاب الواحدي بحذف أسانيده، وابن حجر العسقلاني الذي ترك مسودة لكتاب في أسباب النزول لم يكتمل، وذكر السيوطي بعد ذلك الكتاب الذي قام هو بتأليفه ودعاه لباب النقول في أسباب النزول. وينقسم القرآن إزاء هذا الموضوع إلى قسمين، قسم نزل ابتداء، أي بدون سبب من الأسباب التي اصطلح على تسميتها بأسباب النزول، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال. وقد زعم البعض أنه لا طائل وراء هذا البحث، إذ أنه لا يعدو- عند هذا البعض- أن يكون جاريا مجرى التاريخ، لكن هذا الرأي بعيد عن الصواب. فسبب النزول يعين على معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. كما أن هناك أبحاثا في أصول الفقه استندت على معرفة سبب النزول، أو أفادت منها،

أمثلة توضح أهمية العلم بأسباب النزول:

مثل «خصوص السبب» عند من يرى ذلك، ويعني هذا الاصطلاح تخصيص الحكم بناء على خصوص السبب. ومنها أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه، وإذ ذاك يلزم التخصيص. وقد ذهب الواحدي- وهو على حق في ذلك- إلى أنه لا يمكن معرفة تفسير الآية بدون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. كما قال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن». وقال ابن تيمية: «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب (¬1)». وقال أبو الفتح القشيري: «بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز (¬2)». فقد علمت إذن أن سبب النزول يعين على فهم الآيات التي نزلت في مناسبات مختلفة لأسباب معينة جرت إبان حياة الرسول الكريم. والأقوال التي نقلناها هنا عن علمائنا القدامى لا تحتاج إلى بيان. أمثلة توضح أهمية العلم بأسباب النزول: 1) حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (المائدة: 93) والواقع أنهما لو عرفا سبب نزول هذه الآية لما قالا ذلك. فسبب نزولها أن ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 28. (¬2) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 22.

أناسا قالوا لما حرّمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس. فنزلت هذه الآية. (أخرجه أحمد والنسائي). 2) قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 115) هذه الآية الكريمة يفهم منها أن للانسان أن يصلي موجها وجهه نحو أي جهة يشاء، وأنه لا يجب عليه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، يستوى في ذلك من كان مسافرا ومن كان مقيما. لكن الروايات التي وردت عن سبب نزول هذه الآية توضح أنها لا تعفى من وجوب التوجه في الصلاة إلى المسجد الحرام. وقد روي أنها نزلت في نافلة السفر خاصة، أو فيمن تحرّى القبلة وصلى، ثم تبين او خطأه. فحكم هذه الآية يقتصر على من يكون مسافرا ويؤدي نافلة الصلاة، أو المجتهد في تحري القبلة. إذا تبين له خطأه بعد أداء الصلاة. وروي عن ابن عمر أنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. فسبب النزول هنا بوضح لنا أن حكم الآية يقتصر على أحوال معينة، وليس حكما عاما يعفي من التوجه إلى القبلة في الصلاة. 3) قال تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (البقرة: 158)

من المعروف أن السعي بين الصفا والمروة جزء من شعائر الحج واجب الأداء، سنّه الرسول صلوات الله عليه. وعبارة: لا جناح في الآية الكريمة لا تفيد الفرضية. وقد أشكل الأمر على عروة بن الزبير في ذلك نظرا لصريح لفظ الآية الذي لا يفيد الفرضية. وقد سأل خالته السيدة عائشة أم المؤمنين، فأفهمته أن نفي الجناح هنا ليس نفيا للفرضية، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين- وهم في مطلع عصر الإيمان- من أن السعي بين الصفا والمروة كان من عمل الجاهلية، فلقد كان على الصفا صنم يقال له إساف وكان على المروة صنم يقال له نائلة. وكان المشركون في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة، ويتمسحون بالصنمين. ولقد حطم الصنما بعد أن ارتفعت كلمة الاسلام، لكنّ المسلمين تحرجوا في الطواف بينهما، فنزلت الآية. وقد روي سبب نزول هذه الآية في صحيح البخاري بتفصيلات أكثر لا تخرج عن جوهر ما ذكرناه. فمن هنا يتبين لنا أن سبب النزول أوضح لنا الأمر، وأنه رد على تحرج المسلمين في الطواف، وليس إلغاء لفرضية هذا الطواف. 4) قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (الأنعام: 145) هذه الآية الكريمة لا تحصر جميع ما حرّم أكله. فهناك على سبيل المثال

تفسير الآية:

ما يفيد تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع. ولقد ورد تحريمها جميعا بصريح لفظ القرآن الكريم. قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (المائدة: الآية 3) تفسير الآية: ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ما رفع به الصوت لغير الله عند ذبحه، وَالْمَوْقُوذَةُ التي ضربت حتى ماتت. وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي التي سقطت، يقال تردّى ترديا أي سقط وهوى. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي ما أدركتم ذكاته بالذبح وفيه بقية من حياة. والذكاة شرعا قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة. النُّصُبِ واحد الأنصاب، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها.

من هنا يتبين لك أن الآية الكريمة التي وردت في سورة الأنعام، لا تحصر ما حرّم أكله، ومع ذلك يفهم من لفظها معنى الحصر. ودفع الحصر يستفاد من سبب نزول هذه الآية، فقد نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إلا أن يحرموا ما أحل الله ويحلوا ما حرم. فنزلت الآية بهذا الحصر محادة للكفار ناقضة لقولهم، ولم تقصد إلى حقيقة الحصر، أي حصر المحرمات من الأطعمة فيما ذكرته الآية، لأنها لا تنحصر فيما ذكر، كما بينا. فكأنه تعالى يقول للكافرين: «لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به». فهذه أمثلة توضح لنا أهمية معرفة أسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم واستنباط أحكامه. وهناك أبحاث لعلماء أصول الفقه عن «عموم اللفظ» وخصوص السبب، أي ما نزل من القرآن الكريم بلفظ عام في سبب خاص، وهل العبرة بعموم اللفظ، أو بخصوص السبب. وقد اختلفوا حول هذه المسائل، وهذا البحث وأمثاله مما اقتضاه عمل الأصوليين، لأن مهمة هؤلاء الاستدلال بألفاظ الشارع على الأحكام. وصلة هذا بموضوع أسباب النزول هي كيفية الإفادة من هذه الأسباب في استنباط الأحكام. فهناك آيات نزلت في مناسبات خاصة بألفاظ عامة، مثل آيات «الظّهار» (المجادلة: 1 - 4)، واللعان (النور: 6)، والقذف (النور: 4). فأسباب نزول هذه الآيات كانت في مناسبات خاصة لكنّ لفظها كان عاما. ولقد عممت أحكامها لعموم لفظها. وقال بعض الأصوليين الذين يذهبون إلى أن العبرة بخصوص السبب أن تعميم الحكم في هذه الآيات ليس مصدره عموم اللفظ، بل قام على أدلة أخرى. وهناك حالات نزل فيها القرآن في مناسبات بلفظ عام وقصر حكمه على المناسبات الخاصة التي نزل فيها.

مثال لما نزل بلفظ عام في سبب خاص وعمم حكمه:

مثال لما نزل بلفظ عام في سبب خاص وعمم حكمه: قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (النور: 4) فهذه الآية نزلت في مناسبة خطيرة هي اتهام السيدة عائشة أم المؤمنين بالزنا، فنزل القرآن بتبرئتها، وعين حدا لمن يرمي المحصنات. فالحد الذي يجب أن يعاقب به قاذف المحصنات حكم عام، برغم أنه نزل في مناسبة خاصة. مثال لما نزل بلفظ عام في سبب خاص وخصّص حكمه: قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (آل عمران: 188) ولقد أشكل على مروان بن الحكم معنى الآية الكريمة، فقال: «لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون»، فبين له ابن عباس أن هذه الآية ذات حكم خاص لأنها نزلت في أهل الكتاب

كيف يعرف سبب النزول:

حين سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه» (أخرجه الشيخان). فلفظ الآية هنا عام لكنّ ابن عباس قصرها على ما أنزلت فيه من قصة أهل الكتاب. (انظر: الزركشي: البرهان: ج 1، ص 27.) واختلاف الأصوليين حول عموم اللفظ وخصوص السبب من الأبحاث المفصلة في علم أصول الفقه. ولسنا نريد أن نحملكم مئونة الإحاطة بهذا في المرحلة الحاضرة من دراستكم، لأن هذه الأبحاث من صميم علم الأصول ولسنا هنا بصدد دراسة مشكلاته. كيف يعرف سبب النزول: النقل الصحيح وحده هو السبيل إلى معرفة سبب النزول. ويراد بالنقل الصحيح هنا النقل عن صحابي. فقول الصحابي المتعلق بأمر لا مجال للاجتهاد فيه يكون له حكم الحديث المرفوع إلى النبي. ذلك لأن سبب النزول لا يحتاج في ذكره إلى اجتهاد. وإنما اعتماده على النقل. وليس من المعقول أن يقوم صحابي بتزييف أسباب للنزول يقحمها على القرآن الكريم. فمن هنا يقبل في معرفة أسباب النزول ما يروى عن صحابي إذا صح سنده. أما ما روى من أسباب النزول بسند ينتهي إلى تابعي فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا أيدته رواية أخرى بسند عن تابعي آخر، وبشرط أن يكون الراوي لسبب النزول من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة أخذا مباشرا كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير. التمييز بين سبب النزول وبين الموضوع الذي تتحدث عنه الآية: «سبب النزول» في معناه الاصطلاحي الذي تحدثنا عنه يكون من قبيل السؤال يوجه إلى الرسول أو الحادثة تقع في زمانه، فينزل الله ما يجيب

التعبيرات التي يفهم منها تعيين سبب النزول:

به عن هذا السؤال ويبيّن به الحكم في هذه الحادثة. أما ما ترويه الآيات من أخبار عن الأمم الماضية والأحداث السالفة. فليست هذه الأخبار مما يدخل في المعنى الاصطلاحي لسبب النزول. فقدوم الحبشة للتهجم على البيت ليس سببا لنزول سورة الفيل، إذا قصدنا المعنى الاصطلاحي لعبارة «سبب النزول»، لكن هذا القدوم هو موضوع هذه السورة، ذكره الله فيها. كما ذكر غيره من الأحداث السالفة، شأنه في ذلك شأن قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك (¬1) التعبيرات التي يفهم منها تعيين سبب النزول: لما كنا قد ذكرنا أن السبيل الوحيد لمعرفة أسباب النزول هو النقل، فوجب علينا الآن أن نحاول استقصاء العبارات التي تصدّر بها الروايات المعبرة عن تلك الأسباب. فمن هذه العبارات ما هو نص في السببية، فمثل هذه تصدر بعبارة «سبب نزول هذه الآية هو كذا» أو تذكر الحادثة التي نزلت من أجلها الآية مشفوعة بفاء السببية، كأن يقال «وقع كذا فنزل قوله تعالى ... »، وتذكر الآية التي تتعلق الرواية بسبب نزولها. وربما يفهم سبب النزول من قرينة واضحة، كأن يقال: سئل الرسول عن كذا، فنزل عليه الوحي جوابا على ذلك بقوله تعالى .. وتذكر الآية. هذه الأحوال كلها نص في السببية. لكن هناك أحوالا ترد فيها عبارة: «نزلت هذه الآية في كذا». ومثل هذه العبارة لا تعبر بالضرورة عن سبب النزول، بل ربما كانت مجرد تعبير عن مضمون الآية. فلو قيل مثلا إن سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ نزلت في محاربة الشرك الذي كان منتشرا بمكة، فليس هذا من قبيل التعبير ¬

_ (¬1) انظر: السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 31.

تعدد الأسباب المروية عن نازل واحد، وكيف يرجح بينها:

عن سبب النزول بالمعنى الاصطلاحي، بل هو تعبير عن مضمون السورة. فإذا وردت حول إحدى الآيات روايتان عن سبب نزولها إحداهما تتضمن نصا صريحا في السببية، والأخرى لا تتضمن نصا صريحا قدمت الرواية التي تعبر بصراحة عن السببية. تعدد الأسباب المروية عن نازل واحد، وكيف يرجّح بينها: قد تروى أسباب متعددة، كلها متضمنة نصا في السببية، حول نازل واحد. ولا يخلو الأمر حينذاك من أن تكون إحدى الروايتين أقوى سندا، فهي بهذا ترجح الرواية الأخرى. وربما يكشف البحث عن صحة إحدى الروايتين وزيف الأخرى، وهنا تختار الرواية الصحيحة. وربما كان السببان صحيحين، وأنهما وقعا في زمانين متقاربين، فنزلت الآية للحكم فيهما معا. ولو صحت روايتان عن سبب نزول آية واحدة، وكان السبب المروي في إحداهما يبعد في زمان وقوعه عن السبب المروي في الأخرى، حمل الأمر هنا على تكرار نزول الآية، وربما تكرر نزول الشيء تعظيما لشأنه. يقول الزركشي: «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه، خوف نسيانه. وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة ... وكذلك ما ورد في: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أنها جواب للمشركين بمكة، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة.

- 9 - جمع القرآن وتدوينه

- 9 - جمع القرآن وتدوينه نزل القرآن على الرسول خلال نيف وعشرين سنة، وكان نزوله منجّما. ولقد سهّل ذلك على الرسول وعلى صحبه حفظ ما كان ينزل من آي الذكر الحكيم. إن الرسول الكريم كان أول الحفاظ وأجمعهم لكتاب الله. وكان إلى جانبه جمع من الصحابة يحفظون ما ينزل عليه من آيات الكتاب. لكن الأمر لم يقف عند الحفظ بل قام إلى جانب الحفظ أيضا جهد دائب لتسجيل آيات الكتاب عقب نزولها. لقد جمع الرسول من حوله عددا من الكتّاب عرفوا بكتاب الوحي، وكان يملي على هؤلاء ما يوحى إليه فيكتبونه. إن الكتابة لم تكن منتشرة في زمن الرسول. وكانت أدوات الكتابة نادرة، ولا عجب في ذلك، فالجزيرة العربية لم تعرف حينذاك الكتب ولا الكتّاب. ولم تكن الكتابة في ذلك الوقت وسيلة الثقافة، ولا مصدر المعرفة. علينا أن نذكر أن الكتاب وليد عصر متأخر من عصور التطور الحضاري. وليست الكتابة من الأمور التي تعنى بها المجتمعات التي لم تبلغ درجة عالية من التطور الحضاري، وبخاصة قبل تيسير أدواتها، مما يسر صناعة الكتاب، وجعل له مكانة في المجتمعات الإنسانية.

جمع أبي بكر القرآن في المصاحف بعد رسول الله:

إن حرص الرسول الكريم على تسجيل القرآن وحفظه كان عظيما. وقد تجلى هذا الحرص في اتخاذه كتابا للوحي، وإملائه عليهم كل ما كان ينزل عليه، وأمره الصريح للمسلمين ألا يكتبوا عنه شيئا غير القرآن. ولقد سجّل القرآن الكريم على ما كان ميسورا من أدوات الكتابة كالعسب (جريد النخل)، واللخاف (الحجارة الرقاق)، والأديم والأكتاف (عظام الأكتاف)، والأقتاب (ما يوضع على ظهور الإبل). هذه السجلات المتنوعة كانت أول صورة لجمع الكتاب الكريم. وليس هناك خلاف على أن القرآن كله كان يسجل عقب نزوله، لكن هذا التسجيل لم يجعل في صورة تيسر وضع القرآن بين اللوحين أي في صورة كتاب مجموع بين الدفتين. ولعل تتابع نزول آيات الكتاب، واكتمال سوره على مراحل، وما كان يطرأ على بعض آياته من النسخ هي الأسباب التي أخّرت اتخاذ هذه الخطوة في حياة الرسول صلوات الله عليه. جمع أبي بكر القرآن في المصاحف بعد رسول الله: لقد جرت الحوادث في عصر أبي بكر، خليفة رسول الله، بما عجل بمهمة جمع القرآن الكريم. روي عن زيد بن ثابت أنه قال: «بعث إلى أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال: إن عمر بن الخطاب أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقال أبو بكر لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح صدري بما شرح له صدر عمر، ورأيت الذي رأى. قال زيد بن ثابت: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك. قد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فتتبع القرآن، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك. قلت: فكيف

تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر: هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر وعمر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرهما (صدر أبي بكر وعمر). فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف (يعني الحجارة)، وصدور الرجال. فوجدت آخر سورة التوبة (براءة) مع خزيمة بن ثابت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (¬1) (التوبة: 128، 129) وفي رواية أخرى أن زيد بن ثابت، وهو يجمع القرآن، فقد آية كان يسمعها من رسول الله فلم يجدها عند أحد، ثم وجدها عند رجل من الأنصار وهي قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (الاحزاب: 23) فوضعها في سورتها (¬2). ولقد حفظت الصحف التي جمعت عند أبي بكر حتى مات ثم عند عمر حتى مات، ثم عند حفصة بنت عمر. وقد وصفت الصحف التي جمعت عند أبي بكر بأنها «قراطيس (¬3)»، كما وصف عمل أبي بكر هذا بأنه أول جمع للقرآن ¬

_ (¬1) السجستاني: كتاب المصاحف، ص 7. (¬2) المصدر السابق، ص 8. (¬3) المصدر السابق، ص 9.

بين اللوحين، أي أنه اول جمع للقرآن في صورة كتاب. ولقد رويت عن عدد من الصحابة أحاديث تثني على أبي بكر لعمله هذا، منها قول عليّ: «رحمة الله على أبي بكر، كان أول من جمع بين اللوحين»، وقوله: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع بين اللوحين (¬1)». هذه المحاولة التي قام بها أبو بكر- حين استحرّ القتل بالقراء في حرب اليمامة- ربما سبقت بمحاولات قام بها بعض الصحابة من تلقاء أنفسهم. ومن ذلك ما روى من أن علي بن أبي طالب «أقسم ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل، فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن، قال لا والله، إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة، فبايعه ثم رجع (¬2)». ويشكك بعض المحققين في ورود كلمة «مصحف» بهذه الرواية، وهذا حق، لأن هذه الكلمة لم تكن قد استعملت بعد. كما فسر البعض جمع القرآن هنا بأنه حفظه (¬3). ولقد روي أن صحابة آخرين جمعوا القرآن في مصاحف. من هؤلاء أبيّ بن كعب، وسالم مولى حذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل وغيرهم. لكن عمل هؤلاء لم يتح له من التواتر والاستقصاء ما أتيح لمصحف أبي بكر. هذا العمل الجليل الذي قام به أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت قام على ما كان محفوظا في صدور الرجال، كما أن هذا المحفوظ عورض على ما كان مدونا في السجلات التي دونت بين يدي الرسول. وكان على كل من يأتي بشيء مدون من القرآن الكريم أن يجيء بشاهدين على أن ما معه دون بين يدي رسول الله. يقول السيوطي: «على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 5. (¬2) المصدر السابق، ص 10. (¬3) المصدر السابق.

عثمان بن عفان وجمع المصاحف:

به من تلقاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط والإتقان (¬1)». وهكذا أدى عمل أبي بكر هذا إلى جمع القرآن بأدق وسائل التحري والضبط، مما جعل الكتاب الكريم في مأمن من ضياع أقسام منه بوفاة حفاظها، أو بفقدان سجلاتها. ولم تكن السجلات الأولى مما يتسنى حفظه في سهولة ويسر، نظرا لاختلاف مواد الكتابة من عسب ولخاف وأكتاف وغير ذلك، وإلا فكيف يتسنى أن تنظم هذه السجلات معا لتكون مرجعا يطلع الناس فيه على كتاب الله. وقد صور الحارث بن أسد المحاسبي جمع أبي بكر القرآن بقوله: «كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء (¬2)». عثمان بن عفان وجمع المصاحف: اتسعت رقعة الأمصار الإسلامية في عهد عثمان. لقد حملت الغزوات المسلمين إلى أراض جديدة، وتفرق بعض الصحابة في الأمصار. وتعلم أهل كل مصر من هذه الأمصار قراءة القرآن على يد الصحابي الكبير الذي أقام بينهم، فاتفق أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود. وكان بين هذه المصاحف خلاف في القراءة. فلما اجتمع أهل العراق وأهل الشام لغزو ثغر أرمينية وآذربيجان ظهر الخلاف بينهم في القراءات، وأنكر بعضهم على بعض ما كانوا يقرءونه. وشهد ذلك حذيفة بن ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 58. (¬2) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 238.

اليمان، فركب إلى عثمان بن عفان وقال له: «يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة أن أرسلى إلى بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف. وقال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق ... قال الزهري: واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوة فقال النفر القرشيون التابوت، وقال زيد التابوة، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال اكتبوه: التابوت، فإنه لسان قريش (¬1)». والظاهر أن الخلاف في القراءة قد ظهر بصورة واضحة في المدينة ذاتها. فقد كان المعلمون يعلمون القرآن، فهذا يعلم قراءة رجل، وذاك يعلم قراءة رجل آخر، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين. وبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا، فقال: أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد ظنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إماما (¬2) (أي مصحفا اماما). وروى عن مالك بن أنس (جد الفقيه المشهور) أنه قال: «كنت فيمن أملي عليهم، فربما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يرسل إليه (¬3)». ¬

_ (¬1) السجستاني: كتاب المصاحف، ص 19. (¬2) المصدر السابق، ص 21. (¬3) المصدر السابق، ص 22.

ويذكر ابن حجر العسقلاني أن هذا الجمع تم عام 25 للهجرة. فالفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان «أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف، مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد، مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسّع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة (¬1)». ويصف القاضي أبو بكر- في كتابه الانتصار- مصحف عثمان بأنه قصد إلى جمع الناس على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد. أما عدد المصاحف التي نسخت فقيل إنها أربعة وقيل خمسة وقيل سبعة. ولقد لقى عمل عثمان هذا معارضة- في أول الأمر- من عبد الله بن مسعود. لكن كثرة الصحابة تلقوا عمله بالقبول والرضا، ولم ينكر عليه أحد إحراقه المصاحف المخالفة للمصحف الإمام، بل عدوا ذلك من مناقبه، حتى قال علي: لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل (¬2). وما لبث ابن مسعود بعد ذلك أن قبل ما قبله سواه من الصحابة. ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان، ج 1، ص 60. (¬2) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 240.

وهكذا قضى عثمان على مصدر للفتنة والخلاف بين المسلمين، وكان عمله هذا من أعظم ما أقدم عليه في زمن خلافته. ومع ذلك فقد حفظ التاريخ ذكرى لهذا الخلاف الذي قضى عليه عثمان. فقد ذكر ابن النديم أسماء كتب عدة في اختلاف المصاحف وهي كتاب اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة عن الكسائي، وكتاب اختلاف المصاحف لخلف، وكتاب اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف للفراء، وكتاب اختلاف المصاحف لأبي داود السجستاني، وكتاب اختلاف المصاحف وجميع القراءات للمدائني، وكتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق لابن عامر اليحصبي، وكتاب محمد بن عبد الرحمن الأصفهاني في اختلاف المصاحف. (¬1). ولعل التمسك بإحياء هذا التراث عند كثير من هؤلاء العلماء كان لحرصهم على دراسة اللغة العربية في مختلف لهجاتها القبلية. وقد وصل إلينا أحد هذه الكتب، وهو كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني المتوفي سنة 316 هـ. وكتب المصاحف التي ذكرها ابن النديم يتراوح ظهورها بين القرنين الثاني والرابع الهجريين. وقد سبقها جميعا ظهور كتاب ابن عامر المتوفي عام 118 هـ عن اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق. وإن ما جمعه السجستاني في كتابه المصاحف من أوجه الخلاف بين مصاحف بعض الصحابة والمصحف الإمام لا يعدو أن يكون خلافا في بعض القراءات، كما أن بعض هذه المصاحف التي قامت على جهود أفراد، كانت تضم إلى جانب ¬

_ (¬1) الفهرست، ص 39.

ترتيب الآيات والسور:

آيات الكتاب بعض ما كان يراه أصحابها في تأويل هذه الآيات. ويضاف إلى ذلك أن بعضها سجّل ما كان منسوخ التلاوة من القرآن الكريم إن المصحف الإمام الذي نسخه عثمان قد لقى إجماعا من المسلمين، ولم نسمع بقيام أية مقاومة لعمل عثمان هذا في أي مجتمع من مجتمعات المسلمين، بل على العكس من ذلك هدأت فتن كادت تثور، وخلافات كادت تستعر، واجتمع المسلمون منذ ذلك التاريخ على مصحف واحد. ولا عبرة لما تعلق به بعض المستشرقين من تشكيك في عمل عثمان، مستندين إلى ما روي عن المصاحف القديمة، وبخاصة ما جاء في كتاب السجستاني عن تلك المصاحف، فالأمة الإسلامية كلها عاصرت عمل عثمان، وكان هناك كثير من الصحابة الأفذاذ، ولم يروا خطأ فيما أقدم عليه، بل إنهم عدوا ذلك من حسناته، كما قدمناه، فلا عبرة لشكوك يثيرها بعض الدارسين الأجانب بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا، لم تقم خلالها شبهة حول هذا الأمر. ترتيب الآيات والسور: يقول السيوطي: «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك (¬1)». يروى عن زيد بن ثابت أنه قال: «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع ... (¬2)». وروي عن عثمان أنه قال: «وكان إذا نزل عليه (على الرسول) شيء دعا بعض من كان يكتبه فقال: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» (¬3) فترتيب آيات القرآن في المصحف ليس مماثلا لترتيب ¬

_ (¬1) الاتقان، ج 1، ص 60. (¬2) المصدر السابق ص 57. (¬3) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 234، 235.

النزول، لكنه لا خلاف على أن ترتيب الآيات على هذا النحو الذي نراه توقيفي، أمر به الرسول بوحي من ربه. يقول أبو بكر الباقلاني في كتابه الانتصار: «الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر، ولم يؤخر منه مقدم، وأن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة (¬1)». فالاجماع تام على أن ترتيب الآيات توقيفي، وقد حصل بذلك اليقين من النقل المتواتر، بهذا الترتيب، من تلاوة رسول الله ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف (¬2). أما ترتيب السور، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه كان باجتهاد الصحابة. ومن أدلة ذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب سور القرآن، «فمنهم من رتبها على النزول وهو مصحف علي، كان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبّت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني. وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد، وكذا مصحف أبيّ وغيره (¬3)». وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست ترتيب سور القرآن في مصحف عبد الله بن مسعود، كما ذكر ترتيب السور في مصحف أبيّ (¬4). أما ترتيب مصحف علي فقد سقط من نص هذا الكتاب، لكن هذا الترتيب قد ورد في ¬

_ (¬1) الاتقان، ج 1، ص 61. (¬2) المصدر السابق، ص 62. (¬3) المصدر السابق، ص 62. (¬4) الفهرست، ص 29، 30،.

عدد سور القرآن:

تاريخ اليعقوبي (¬1). وقد تعددت الروايات بأن مصحف علي كان مرتبا على ترتيب النزول وتقديم المنسوخ على الناسخ. ومن العلماء من ذهب إلى أنّ ترتيب السور توقيفي أيضا، ومنهم من ذهب إلى أن ترتيب بعض السور توقيفي، وأن البعض الآخر بني ترتيبه على اجتهاد الصحابة (¬2). عدد سور القرآن: يتضمن القرآن الكريم مائة وأربع عشر سورة. وقيل إن عدد السور مائة وثلاث عشرة سورة على اعتبار أن سورتي الأنفال وبراءة سورة واحدة لأنهما لا تفصل بينهما البسملة. ويقسم القرآن بحسب سوره إلى أربعة أقسام هي الطول، والمئون، والمثاني، والمفصّل. فالطول (جمع طولى، كما تجمع كبرى على كبر) أولها سورة البقرة، وآخرها براءة. ويعلل الزركشي ذلك بقوله: «إنهم كانوا يعدون الأنفال وبراءة سورة واحدة، ولذلك لم يفصلوا بينهما، لأنهما نزلتا جميعا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3)». وإنما سميت هذه السور السبع الطول لطولها على سائر سور القرآن (¬4). وأما المئون فهي ما كان من سور القرآن عدد آياته مائة آية أو تزيد عليها شيئا، أو تنقص منها شيئا يسيرا (¬5) ¬

_ (¬1) تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 152 - 154، طبعة لا يدن (¬2) اقرأ تفصيلات هذه الآراء في: الزركشي: البرهان، ج 1 ص 257 - 262. (¬3) المصدر السابق، ص 244. (¬4) الطبري: تفسير، ج 1، ص 103، طبعة المعارف. (¬5) المصدر السابق.

والمفصل:

وأما المثاني فهي ما ثنّى المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني. وقد قيل إن المثاني سميت مثاني، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر، وهو قول ابن عباس. وروى عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: إنما سميت مثاني لأنها ثنّيت فيها الفرائض والحدود. وقال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مثان (¬1). قال تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ والمفصّل: ما يلي المثاني من قصار السور، سمى مفصلا لكثرة الفصول التي بين السور. ويكون ذلك بقوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقيل: لقلة المنسوخ فيه (¬2). وقد عدّ بعضهم آيات القرآن، كما عدّ كلماته، وعدّ حروفه. وهناك خلاف حول عدد الآيات. يقول الزركشي: «وعدد آياته في قول علي رضي الله عنه: ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف ومائتان وأربع (¬3)». وسبب الخلاف في عدد الآيات مبني على الفصل والوصل بينهما. فربما لم يتنبه من استمع إلى النبي إلى عدد من أماكن الفصل بين الآيات. يقول الزركشي: ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق، وكذلك الزركشي: البرهان، ج 1، ص 245. (¬3) المصدر السابق، ص 251.

المعنى الاصطلاحي لكلمتي"سورة" و"آية"

«إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي للتوقيف. فإذا علم محلها وصل للتمام، فيحسب السامع أنها ليست فاصلة (¬1)». أما الخلاف حول عدد الكلمات وعدد الحروف فلا يفيدنا كثيرا أن نتحدث عنه. المعنى الاصطلاحي لكلمتي «سورة» و «آية» قال الطبري: (تسمى كل سورة من سور القرآن «سورة» وتجمع «سورا» على تقدير «خطبة وخطب»، «غرفة وغرف». والسورة بغير همز: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة، سمي بذلك الحائط الذي يحويها، لارتفاعه على ما يحويه. غير أن «السورة» من سور المدينة لم يسمع في جمعها سور، كما سمع في جمع سورة من القرآن (¬2)). وسميت كذلك لإحاطتها بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور. أما حدها الاصطلاحي فهي أنها «قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة وخاتمة. وأقلها ثلاث آيات (¬3)». وأطول السور سورة البقرة وأقصرها سورة الكوثر. وقد همز بعضهم السورة من القرآن فقال: السؤرة. وتأويلها في لغة من همزها: القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت، وذلك أن سؤر كل شيء البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه (¬4). والرأي الأصوب عدم الهمز. وأما الآية من آي القرآن، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهما: أن تكون سميت آية، لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 252. (¬2) تفسير، ج 1، ص 104، 105. (¬3) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 264. (¬4) الطبرى: تفسير، ج 1، 105.

أسماء السور:

وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل بها عليه (¬1). ولعل الأصوب أن الآية دلالة على نبوة محمد وصدق رسالته (¬2). والآية في معناها الاصطلاحي طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها (¬3). الآيات هي الجمل أو الفقرات من القرآن الكريم التي تنقسم إليها سوره. أسماء السور: قد يكون للسورة اسم واحد، وقد يكون لها اسمان أو أكثر. فمن السور ذات الاسمين سورة الجاثية وتسمى الشريعة، وسورة محمد وتسمى القتال. وقد يكون لها ثلاثة أسماء، كسورة المائدة، والعقود، والمنقذة. وقد يكون لها أكثر من ذلك كسورة براءة، والتوبة، والفاضحة، والحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين (¬4). وقد أورد الزركشي بحثا طريفا عن ارتباط أسماء السور بموضوعاتها. يقول: «ينبغي النظر في اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعي في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه ... وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها. وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء .... فإن قيل: قد ورد في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، فلم تختص باسم هود ¬

_ (¬1) المصدر السابق، 106. (¬2) الزركشي، البرهان، ج 1، 266. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق، 269.

وحده؟ وما وجه تسميتها به وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟ قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء بأوعب مما وردت في غيرها، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام، كتكرره في هذه السورة، فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته في أربعة مواضع، والتكرار من أقوى الأسباب التي ذكرنا. وإن قيل: قد تكرر اسم نوح في هذه السورة في ستة مواضع فيها، وذلك أكثر من تكرار اسم هود، قيل: لما جرّدت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك، كانت أولى بأن تسمى باسمه عليه السلام من سورة تضمنت قصته وقصة غيره، وإن تكرر اسمه فيها. أما هو فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه، عليه السلام ... (¬1)». وقد أورد صاحب المباني حديثا مرويا عن أبيّ بن كعب يذكر فيه الرسول القرآن سورة سورة بحسب ترتيبها في مصحف عثمان، ويذكر فضل كل سورة. وما يكون للمؤمن من ثواب على قراءتها. ويستدل من هذا الحديث الطويل على أمور أربعة: أولها: الترغيب في قراءة كل سورة. وثانيها: أن الرسول قرأ القرآن على أبيّ مرتين في السنة التي مات فيها. وثالثها: أن ترتيب السور- كما هو في المصحف- حفظ عن رسول الله، برغم أن كثيرا من الصحابة كان يقرأ السور على غير هذا الولاء. ورابعها: أنّ عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة على التأليف الذي جمع بين الدفّتين (¬2). لكنّ هذا الحديث موضع شك عند عدد من العلماء الثقاة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، 270، 271. (¬2) مقدمتان في علوم القرآن، ص 64 - 75. مقاهرة، 1954.

- 10 - الأحرف السبعة

- 10 - الأحرف السبعة روي عن الرسول- صلوات الله عليه- من طرق متعددة صحيحة قال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف. يقول الزركشي: «ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف». وفي الصحيحين أيضا عن عمر بن الخطاب أنه قال: «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها- وفي رواية: على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ»، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«هكذا أنزلت»، ثم قال لي: «أقرأ» فقرأت، فقال: «هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه (¬1)». وفي مقدمة تفسير الطبري روايات بصور مختلفة لهذا الحديث. ومما روي في ذلك عن أبيّ أنه قال: «لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء (¬2) فقال: «إني بعثت إلى أمة أميّين، فيهم الغلام والخادم، والشيخ العاسي (¬3) والعجوز، فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف (¬4)». وفي رواية أخرى عن أبيّ بن كعب أنه قال: «دخلت المسجد فصليت، فقرأت النحل، ثم جاء رجل آخر فقرأها غير قراءتي، ثم جاء رجل آخر فقرأ خلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كنت في الجاهلية. فقلت يا رسول الله: استقرئ هذين. فقرأ أحدهما، فقال: أصبت. ثم استقرأ الآخر فقال: أصبت. فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري وقال: أعاذك الله من الشك، وأخسأ عنك الشيطان فقال: أتاني جبريل فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: إن أمتي لا تستطيع. حتى قال سبع مرات. فقال لي أقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردّة رددتها مسألة. قال: فاحتاج فيها اليّ الخلائق، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم (¬5)». والروايات بعد ذلك كثيرة عن وصف القرآن الكريم بأنه نزل على سبعة أحرف. ولقد ذهب العلماء مذاهب شتى في بيان المعنى المقصود من الأحرف السبعة التي ذكرتها الأحاديث الصحاح. ¬

_ (¬1) الزركشي: البرهان، ج 1 ص 211. (¬2) أحجار المراء موضع بقباء خارج المدينة، وقيل هي قباء. وذكر البكري في «معجم ما استعجم» أنها موضع بمكة. (¬3) عسا الشيخ اذا كبر وأسن وضعف بصره ويبس جلده وصلب. (¬4) الطبري، ج 1، ص 35. (¬5) المصدر السابق، ص 37، 38.

ولقد وقع خلاف كثير في شرح معنى الأحرف السبعة وروى الزركشي عن الحافظ أبي حاتم بن حبّان البستي أن الناس اختلفوا في بيان ذلك على خمسة وثلاثين قولا. وليس من الميسور أن ننقل هنا كل هذه الأقوال، وإنما سنختار ذكر بعض منها، ونحاول ان نلقي بعض الضوء على هذا الموضوع الذي لم يستطع أحد علمائنا القدامى أن يقول فيه كلمة الفصل. 1 - فمن الآراء التي ذكرت أن هذا الحديث من المشكل الذي لا يدرى معناه، لأن العرب تسمى الكلمة المنظومة حرفا، وتسمي القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على المقطوع من الحروف المعجمة، والحرف ايضا المعنى والجهة (¬1). فخلاصة هذا القول هي الامتناع عن إبداء الرأي في معنى الحديث، واعتباره من المشكل الذي لا سبيل إلى معرفة المقصود منه، فهو شبيه بمتشابه القرآن. 2 - الرأي الثاني- وهو عند العلماء من أضعف الآراء- أن المراد بالأحرف السبعة سبع قراءات. وقد بين الطبري- في مقدمة تفسيره- وغيره أن اختلاف القراء، إنما هو كله حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وهو الحرف الذي كتب عثمان عليه المصحف (¬2). 3 - الرأي الثالث أن الأحرف السبعة سبعة أنواع من التعبير، فبعضها أمر ونهي، ووعد ووعيد، وقصص، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال، وغيره (¬3). 4 - أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل، وهلمّ، وتعال، وعجل، وأسرع، وأنظر، وأخّر، ¬

_ (¬1) الزركشي: البرهان، ج 1، ص 213. (¬2) المصدر السابق، ص 214، وكذلك الطبري، ج 1، ص 57. (¬3) الزركشي: البرهان، 1/ 216.

وأمهل (¬1) ... الخ. أي أن الأحرف السبعة هي التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ مختلفة. 5 - أن المراد بالأحرف السبعة بعض الموضوعات القرآنية. يقول أصحاب هذا الرأي: «علم القرآن يشتمل على سبعة أشياء: علم الإثبات والإيجاد، وعلم التوحيد، وعلم التنزيه، وعلم صفات الذات، وعلم صفات الفعل، وعلم العفو والعذاب، وعلم الحشر والحساب، وعلم النبوات، وعلم الإمامات (¬2). والظاهر أن القائلين بهذا الرأي يعدون علم التنزيه والتوحيد علما واحدا، وكذلك العفو والعذاب والحشر والحساب تدخل تحت علم واحد،. وبهذا يكون عدد العلوم سبعة. 6 - من الآراء ما يعطى الحديث تفسيرا فقهيا، فيرى أن الأحرف السبعة هي المطلق والمقيد، والعام والخاص، والنص والمؤول، والناسخ، والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والاستثناء وأقسامه. 7 - من الآراء ما يعطي الحديث تفسيرا أسلوبيا، فيقول بأن المراد: «الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والقلب والاستعارة، والتكرار، والكناية، والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر والغريب (¬3). 8 - وهناك تفسير نحوي للحديث يرى أن الأحرف السبعة هي: التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف والإعراب، والأقسام وجوابها، والجمع والتفريق، والتصغير والتعظيم، واختلاف الأدوات مما يختلف فيها بمعنى، وما لا يختلف في الأداء واللفظ جميعا (¬4). 9 - وهناك تفسير صوتي للحديث يرى أن الأحرف السبعة هي طرق ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 220. (¬2) المصدر السابق 224، 225. (¬3) المصدر السابق، ص 225. (¬4) المصدر السابق، ص 225، 226.

من الاداء الصوتي كالإظهار والإدغام والتفخيم، والترقيق، والإمالة والإشباع، والمدّ والقصر والتخفيف، والتليين، والتشديد. 10 - وهناك تفسير صوفي للحديث يربط الأحرف السبعة، ببعض أفعال الصوفية، وأحوالهم ومقاماتهم (¬1). وهكذا نرى في هذه الأقوال المتعددة التي ذكرناها اتجاهات مختلفة من الدارسين، ربطت معنى الحديث بموضوع دراساتها. وأرجح الآراء- فيما نعتقد- والله أعلم، أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات، من لغات القبائل العربية. فالحديث كما ورد في عدد من رواياته يشير إلى خلافات لغوية في قراءة القرآن الكريم، أدت إلى نقاش بين بعض الصحابة، ثم احتكم المختلفون إلى الرسول، فأقر المتنازعين على قراءاتهم، وذكر لهم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فالمرجح إذن أن هذه الأحرف السبعة هي سبع لهجات لبعض القبائل العربية. وقد يذهب البعض إلى حد تعيين لغات القبائل التي تعنيها الأحرف السبعة، مع العلم بأنهم لا يقصدون من وراء ذلك أن كل كلمة من القرآن الكريم كانت تحتمل سبعة أوجه، وإنما كانوا يرون أن القرآن نزل على سبع لغات متفرقة فيه «فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم وبعضه بلغة أزد وربيعة، وبعضه بلغة هوازن وسعد بن بكر، وكذلك سائر اللغات (¬2)». كما يذهبون أحيانا إلى البحث عن التعبيرات القرآنية التي تجلت فيها لغات تلك القبائل (¬3). ومهما قيل في مثل هذه المحاولات لتعيين القبائل التي نزل القرآن ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 226. (¬2) الزركشي: البرهان، 1/ 217. (¬3) انظر المصدر السابق: النوع السادس عشر. (معرفة ما وقع فيه من غير لغة أهل الحجاز من قبائل العرب (ص 283 - 286).

متضمنا عبارات من لغاتها، فنحن نرى أنها لا تتجاوز افتراضات لا تقوم على أساس من الدراسة الواضحة. وحسبنا أن نقول إن القرآن الكريم لم يخل من لغات قبائل أخرى إلى جانب لغة قريش. ويمكن أن يستفاد من معنى الحديث- في كثير من رواياته- أن الرسول كان قد رخص لأبناء القبائل المختلفة الذين اعتنقوا الإسلام أن يقرءوا القرآن بلهجاتهم. فقد آمن بالقرآن كثير من غير قريش. وكان من هؤلاء، الشيخ والفتى والطفل، وكان من العسير على جميع المؤمنين أن يقرءوا القرآن بلغة قريش، فكانت الرخصة التي أتاحت لهم أن يقرءوه بلغاتهم. وقد اختلف في مدى احتفاظ مصحف عثمان بالأحرف السبعة التي كان يقرأ بها على عهد الرسول. فابن قتيبة يذهب إلى أن مصحف عثمان ضم هذه الأحرف السبعة، وقصده من ذلك أن القرآن يضم سبعا من لغات العرب. وهذه اللغات السبع لا يقصد بها أن كل كلمة تقرأ عن سبعة أوجه، بل المقصود أنها مفرقة في القرآن. ويسند رأيه هذا بذكر سبعة أسباب لاختلاف القراءات، ثم يعلل السماح بالأحرف السبعة بقوله: «ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه الا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة». أما ابن جرير الطبري فيرى أن الأحرف السبعة لغات سبع سمح للقبائل أن تقرأ بها القرآن في حياة الرسول، نظرا لدخول قبائل عربية غير قريش في شريعة الإسلام. وكانت القراءة بالأحرف السبعة رخصة سمح بها إبان نشر الدعوة، لكن الأمة عدلت عن القراءة بستة من هذه الأحرف، واقتصرت على حرف واحد، حين ارتضت مصحف عثمان إماما، واجتمعت حوله. أما القراءات المتعددة التي نعرفها، فهي في رأي الطبري قراءات مختلفة لحرف واحد، هو الذي اجتمعت عليه الأمة.

ورأى الطبري هذا ينطوي على كثير من الصواب. فليس من شك أن هناك قدرا كبيرا من القراءة بلهجات القبائل قد عدل عنه في مصحف عثمان. لكن هذا المصحف لا يخلو من قدر من لغات هذه القبائل غير القرشية. والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من هذا البحث، هي أن الأحرف السبعة كانت- في أرجح الآراء- قراءات للقرآن بلهجات عدد من القبائل، وأن هذه القراءات لم تكن تتجاوز في الخلاف بينها نواحي لفظية طفيفة، لا تحل حراما، ولا تحرم حلالا، ولا تدعو إلى ترك أمر أو تنهي عن مباح. ومع أن كتابة المصحف قد غلبت فيها لغة قريش، وهجر غيرها من اللغات، فإن قدرا من لغات القبائل الأخرى. قد بقي في مصحف عثمان.

- 11 - رسم المصحف العثماني

- 11 - رسم المصحف العثماني المصحف أداة لتسجيل القرآن الكريم، لكنه لا يستطيع أن يقدم لنا كل ما يتعلق بقراءة القرآن وأصولها وأسرارها. ولا بد أن يؤخذ ذلك شفاها عن عالم بهذه الأمور خبير بأسرارها. ولقد كان رسم المصحف العثماني في بداية الأمر بدون نقط ولا شكل. وكانت بعض الكلمات تسمح بقراءات متعددة. وفي عصر عبد الملك بن مروان، كانت رقعة الدولة الإسلامية قد اتسعت اتساعا عظيما. ولقد رأى هذا الخليفة أن اتساع الدولة على هذا النحو، واختلاط العرب بالأعاجم قد أصبحا مدعاة لإدخال التحسين على رسم المصحف، والعمل على ضبط قراءته بعد أن أصبح العالم الاسلامي خضما يموج بمختلف الأجناس، منها ما يحسن العربية، ومنها ما لا يحسنها. وقد ندب عبد الملك واليه الحجاج للقيام بهذه المهمة، فعهد بها الحجاج إلى رجلين هما نصر بن عاصم الليثي، ويحيي بن يعمر العدواني، وكان كل منهما تقيا ورعا، خبيرا بوجوه قراءة القرآن، عالما متبصرا في اللغة العربية. هذان الرجلان أعجما المصحف لأول مرة، ونقطا جميع حروفه المتشابهة والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف عن ثلاث. ونحن حين ننظر اليوم في المصحف الشريف نجد أن رسمه يختلف عن طريقتنا في الكتابة مما جعل قراءة القرآن عسيرة على بعض أهل زماننا.

ولقد قلنا إن العبرة في تلقي القرآن إنما هي المشافهة، وما الكتابة والتسجيل سوى عاملين مساعدين في الحفظ والضبط. ومع ذلك فهناك حاجة ملحة إلى طبع القرآن الكريم وفقا لقواعد الإملاء الحديثة. ولقد وقفت دون تعديل الرسم العثماني قداسة أضفيت على هذا الرسم، إلى حد أن بعض العلماء قال إنه توقيفي، أي بوحي من الله. وكان هذا القول منهم مغالاة في تقديس الصورة التي كتب بها المصحف في عهد عثمان. ولو كانت هذه الكتابة توقيفية لتشابهت من كل جهة في خطوط كتاب الوحي، وهو ما لم يقل به أحد. ولعل هذا التقديس لصورة الكتابة جاء خوفا من أن يقع تحريف في النقل، أو أن يكتب بصورة يعتريها التغير بعد فوات عصرها، فيكون العدول عن الرسم العثماني أمرا يؤدي إلى تغيير صورة اتفقت عليها كلمة الصحابة في عصر عثمان، وليس يؤدي إلى وضع رسم ثابت له قداسته، يبقى القرآن الكريم مسجلا به، من غير أن يمس هذا التسجيل المتفق عليه أي تغيير. وقد اختلف في جواز كتابة المصحف بما استحدث من الهجاء، وكانت الآراء كلها اجتهادا من أصحابها. وليس منها ما بني على وحي أو نص. وممن أباح مخالفة الرسم العثماني القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الانتصار، حيث يقول: «وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن، وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم، وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه. ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه. ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنّة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه

جاز أن يكتب بالحروف الكوفية، والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه. وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا كانت خطوط المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ على الناس في ذلك حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان ... وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذلك». ولقد طبع المصحف الشريف في العصر الحديث بإشراف لجنة من العلماء المصريين، عنيت كل العناية بوجوب موافقة المصحف المطبوع للرسم القديم. ولا يزال هذا المصحف محتفظا بكل أصول الرسم القديم. ولقد لقيت مشكلة طباعة المصحف وفق قواعد الهجاء الحديث عناية من بعض علماء العصر. ومنهم من رفض ذلك رفضا باتا، مستندا إلى ما نقل عن السلف من تقديس لرسم المصحف، كما ورثناه عن عصر عثمان. ومنهم من نادى بأن من الواجب أن ييسر كتاب الله. وألا نتمسك برسم لم تقم على ضرورة التمسك به نصوص من كتاب ولا سنة. إن عصرنا هذا قد أصبح عصرا قارئا، والقرآن الكريم يقع في أيدي كثير من الناس قد لا يكونون على صلة بالحفاظ. وهم يقرءونه على قدر اجتهادهم. والسبيل الوحيد لضبط القراءة هو الطباعة وفق الإملاء الحديث. وكثير من الأبحاث تتضمن نقولا من القرآن الكريم. ويكاد يجمع الباحثون الذين يقتبسون آيات الكتاب الكريم ليستشهدوا بها على نقل هذه الآيات إلى الهجاء الحديث. ولا أحسب أن هذا الأمر قد لقي معارضة تذكر. لكن طباعة المصحف بالهجاء الحديث لا تزال موضع خلاف، يقف بها حتى الآن عند الرسم القديم.

وقد انتقد ابن خلدون فكرة الإصرار على الرسم القديم في سياق حديثه عن الخط العربي فقال: «فكان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير محكمة الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها، تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله، وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولى أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا. وأين نسبة ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسما، ونبه علماء الرسم على مواضعه. ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه ... وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان الله عليهم، عن توهم النقص في قلة إجادة الخط وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وليس ذلك بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين، ولا في الخلال. وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس.

وقد كان صلى الله عليه وسلم أميا، وكان ذلك كمالا في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالا في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا (¬1)». وفي كلام ابن خلدون هذا هجوم واضح على تقديس الخط القديم. والواقع أننا لو تتبعنا طريقة رسم المصحف لوجدنا أشياء لا يمكن تعليلها، ولا داعي للتمسك بها. من أمثلة ذلك قوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (الشعراء: 176) وقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ (ق: 14) في سورة الشعراء رسمت الأيكة (لئيكة) وفي سورة ق رسمت «الأيكة» مع أنه لا فرق بين الكلمتين. وفي سورة النمل كتبت لام التوكيد بصورتين مختلفتين في آية واحدة هي قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ (النمل: 21) فما الداعي لهذا الاختلاف في الرسم؟ وفي سورة البقرة رسم قوله تعالى: ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون، ص 350. طبعة بولاق.

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (البقرة: 231) فجاءت كلمة «نعمة» بتاء مفتوحة أي رسمت «نعمت» في حين أنها رسمت بتاء مربوطة في سورة المائدة، قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (المائدة: 7) ورسمت كلمة سنّة بتاء مفتوحة هكذا في قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (فاطر: 43) أما في سورة الفتح فرسمت كلمة سنة كما نرسمها في الوقت الحاضر. قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الفتح: 23) فما الداعي لرسم كلمة سنة مرة بتاء مربوطة وأخرى بتاء مفتوحة. وهناك الأسماء مثل هارون وإسحاق، وهذه تحذف فيها ألف في الرسم ولا تحذف في النطق.

ومن المتبع في المصحف أيضا كتابة كلمات مثل الصلاة والزكاة والحياة بالواو بدلا من الألف على النحو التالي: الصلاة والزكوة والحيوة. والأقدمون أنفسهم لم يقتنعوا بهذه الطريقة في التهجي. يقول ابن قتيبة في نطاق حديثه عن بعض القراءات: «وإن كانت خطأ في الكتابة، فليس على الله ولا على رسوله جناية الكاتب في الخط. ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي. فقد كتب في الإمام إنّ هذن لساحران بحذف ألف التثنية. وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان. وكتب كتاب المصحف: الصلاة الزكوة والحيوة بالواو. واتبعناهم في هذه الحروف خاصة على التيمن بهم» (تأويل مشكل القرآن، ص 40، 41). وهناك كثير من المواضع التي يمكن أن نذكرها هنا حيث رسمت الكلمة الواحدة بصور مختلفة من غير مبرر لذلك. ومن هنا فنحن نرى أن طبع المصحف بالهجاء الحديث يعتبر من الأمور المهمة النافعة، فهذا يمكن أن يؤدي إلى رفع كثير من الخطأ الذي قد يقع فيه كثير من المثقفين اليوم حين يقرءون القرآن الكريم.

- 12 - القراءات

- 12 - القراءات القراءات جمع قراءة، ويقصد بالقراءة في معناها الاصطلاحي «مذهب يذهب إليه أحد أئمة القراءات في التلفظ بالقرآن الكريم». إن القرآن الكريم قد نزل على الرسول فخاطب به أمة كانت متعددة اللهجات. لقد كانت القبائل العربية تتحدث العربية بلهجات مختلفة. ولم يستطع الرسول الكريم أن يغير لهجات هذه القبائل بين يوم وليلة، فهذا من غير المعقول. وكان أن سمح للقبائل بقراءة القرآن بلهجاتها وهذا- كما ذكرنا- هو التفسير الأقرب إلى الصواب لقول الرسول عليه السلام «أنزل القرآن على سبعة أحرف». فالأحرف السبعة التي يذكر الحديث الصحيح أن القرآن نزل بها كانت لهجت عربية مختلفة لقبائل أهمها قريش. وفي هذا المعنى يقول أبو شامة، نقلا عن بعض من أخذ عنهم: «أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب (¬1)». ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان: ج 1، ص 47.

والروايات كثيرة عن قراءة أفراد من بعض القبائل بلهجاتهم بين يدي الرسول، وإقرار الرسول لتلك القراءة. فقد قرأ هذلي (عتّى حين) بين يدي الرسول وهو يقصد حَتَّى حِينٍ (¬1) وأجازه. وقرأ أسدي تَسْوَدُّ وُجُوهٌ (¬2). أمام الرسول بكسر التاء في تَسْوَدُّ وأجازه كذلك. ومنهم من كان يقرأ أفعالا مثل «قيل» و «غيض» بإشمام الضم مع الكسر. ومنهم من كان يقرأ «عليهم» و «فيهم» بضم الهاء، كما كان منهم من يقرؤهما «عليهمو» و «فيهمو». ومثل هذه القراءات كانت تجاز. والأمثلة إلى جانب ذلك كثيرة. يقول ابن قتيبة: «لو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة». ¬

_ (¬1) المؤمنون: 54. (¬2) آل عمران: 106.

وكانت كتابة المصحف- بناء على توجيه عثمان- بلغة قريش، وذلك حين أوصى كتبة المصحف بقوله: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم». وقد سبق أن ذكرنا أن الأحرف السبعة أو اللغات السبعة لم تكن تعني أن كل كلمة من المصحف كانت تقرأ بسبعة أوجه، وإنما كان الخلاف في مواضع محدودة. كان هذا الاختلاف بين لهجات القراء في عهد الرسول من الأسباب التي تولّد منها اختلاف القراءات على مر الزمن. وهناك سبب قوي لظهور القراءات، أن مصحف عثمان كتب بغير نقط ولا شكل، وظل كذلك حتى عصر عبد الملك بن مروان، حين قام الحجاج بن يوسف الثقفي بالإشراف على نقط المصاحف، وذلك بأن عهد بهذا الأمر إلى من كان خبيرا به من علماء عصره، كما ذكرنا. وهكذا خطا المصحف خطوة جديدة نحو ضبط الرسم. ومع ذلك فقد كانت الفترة التي بقي بها المصحف بدون نقط ولا شكل مصدرا من مصادر اختلاف القراءات. ونحن اليوم نسمع كثيرا عن القراءات السبع أو القراءات العشر. ونسمع قليلا عن القراءات الأربعة عشر. ولكن ليس معنى هذا أن عدد أئمة القراء كان منذ أقدم العصور محصورا في سبعة أو عشرة أو أربعة عشر. بل الأمر كان غير ذلك، وكان عدد القراءات أكثر من ذلك بكثير. ومن أوائل من ألف في علم القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفي سنة 224 هـ. وقد أحصى من القراءات نحوا من خمس وعشرين قراءة وكتب غيره كتبا في القراءات زاد فيها هذا العدد أو نقص منه حتى جاء أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد في خاتمة القرن الثالث فجمع قراءات أئمة سبعة هم عبد الله بن كثير في مكة، ونافع بن أبي رويم في المدينة، وأبو عمرو بن العلاء في البصرة وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلى الكسائي في الكوفة، وعبد الله بن عامر في الشام. ومن بعد ابن مجاهد جاء من زاد عدد القراء إلى عشرة

القراءات من حيث صحة إسنادها

فأضاف اليهم يزيد بن القعقاع في المدينة، ويعقوب الحضرمي في البصرة، وخلف البزّاز في الكوفة. وممن فعل ذلك الإمام ابن الجزيري المتوفي عام 833 هـ. أما من قال بقراءات أربع عشرة فقد أضاف إلى أئمة القراء الحسن البصري، وابن محيصن، ويحيى اليزيدي، والشنبوذي (¬1). ومما يزيد أمر القراءات صعوبة أن كل امام من الأئمة المشهورين تروى قراءته بطرق متعددة، وقد بلغ عدد الطرق التي تروى بها القراءات العشر المشهورة ما يقارب الألف طريق. إن اتساع رقعة العالم الإسلامي، واختلاف لهجات القبائل، وبقاء المصحف الإمام غير منقوط مدة من الزمان، وصعوبة الاتصال بين أبناء الأمة الإسلامية لبعد المسافات، وقلة وسائل الاتصال، أدت إلى كل هذا التعدد في القراءات وطرقها. ونحن نجد أنفسنا الآن في غير هذا الموقف لأن المدنية الحديثة يسرت أمورا كثيرة. فهناك المصحف المطبوع. وهناك قراء القرآن الذين يجيدون القراءة يذيعون القرآن على الملايين بواسطة الراديو، وهناك التسجيل الذي أتاح لأهل الضبط من القراء تسجيل تلاوتهم ووضعها في متناول الدارسين. وأين موقفنا اليوم من موقف أسلافنا، حيث كانوا يعملون في ظروف عسيرة، ويسعى كل دارس إلى حفظ ما توارثه، معتقدا أنه الصواب، فيحرص على روايته، ويحرص غيره على أخذه عنه. وإن ما دوّن بين أيدينا من هذه القراءات أقل مما ضاع منها وذهبت به أحداث الزمان. وقد سعى علماء القراءات إلى ضبطها، فوضعوا لذلك ميزانا تقاس به صحتها، قالوا: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا، ووافقت العربية ولو بوجه، وصح إسنادها فهي القراءة الصحيحة. [القراءات من حيث صحة إسنادها] ولعلماء القراءات مقاييس لصحة الإسناد اقتبست من علم الحديث. فقد قسمت القراءات من حيث صحة إسنادها إلى خمسة أنواع على الوجه التالي: ¬

_ (¬1) الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 410.

أولا: المتواتر:

أولا: المتواتر: وهو ما روته جماعة عن جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب. ثانيا: المشهور: وهو ما رواه عدل صحيح الرواية عن مثله، ووافق العربية ووافق أحد المصاحف العثمانية. ثالثا: ما صح سنده: وخالف رسم المصحف أو أصول العربية. وهذا لا يجوز قبوله برغم صحة سنده. وإلى جانب هذه الأنواع الثلاثة هناك «الشاذ» من القراءات. والقراءات الشاذة هي التي لم يصح سندها، ويجب إهمالها. وهناك «الموضوع» أي ما نسب إلى صاحبه على غير أساس، فهو من الزيف، ويرفض الأخذ به. وقد نقل الزركشي عن شهاب الدين أبي شامة قوله: «كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة. فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة (¬1)». ومما يبين رأينا في اختلاف حظّ الأقاليم الإسلامية من القراءات لاختلاف ظروفها، وقربها أو بعدها من مراكز الدراسات العربية قول أثير الدين أبو حيان في وصف كتابين أندلسيين من كتب القراءات هما «التيسير» و «الشاطبية». «لم يحويا جميع القراءات السبع، وإنما هي نزر يسير منها. ومن عنى بفن القراءات وطالع ما صنفه علماء الإسلام في ذلك، علم ذلك علم اليقين، وذلك أن بلادنا جزيرة الأندلس لم تكن من قديم الزمان بلاد إقراء السبع، لبعدها عن بلاد الإسلام. واجتازوا عند الحج بديار مصر، وتحفظوا ممن كان بها من المصريين شيئا يسيرا من حروف السبع، وكان المصريون إذ ذاك لم تكن لهم روايات ¬

_ (¬1) البرهان، ج 1، ص 331.

وجوه اختلاف القراءات:

متسعة، ولا رحلة إلى غيرها من البلاد التي اتسعت فيها الروايات (¬1)». وللزركشي في دراسته للقراءات قول واضح، يبين أنها اجتهادات من أئمة القراء، وأن من الواجب أخذها على هذا الوجه وحده. يقول: «واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكورة في كتابة الحروف أو كيفيتها، من تخفيف وتثقيل وغيرهما ... والتحقيق أنها متواترة عن الائمة السبعة، أما تواترها عن النبي ففيه نظر (¬2)». وجوه اختلاف القراءات: لابن قتيبة كلام مشهور عن وجوه اختلاف القراءات، نقله عنه الزركشي وغيره. وتتلخص هذه الوجوه فيما يلي: الأول: الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركات بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب، ولا يغير معناها. نحو «البخل» و «البخل» (¬3). كذلك قوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قرئ وهل يجازى إلّا الكفور (سبأ: 17) فبعض القراء قرأ بالقراءة الأولى، والبعض الآخر بالقراءة الثانية. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 323. (¬2) المصدر السابق: 319. (¬3) انظر سورة النساء: 37 (ويأمرون الناس بالبخل)، «قرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح الباء والخاء. وقرأ الباقون بالضم والسكون».

الثاني: الاختلاف في إعراب الكلمة في حركات بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها في الخط نحو: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وقد قرئت رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا (سبأ: 19) الثالث: الاختلاف في تبديل حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغير معناها ولا غير صورة الخط في رأي العين. نحو كَيْفَ نُنْشِزُها وقد قرئت ننشرها (سورة البقرة: 259) ومن الأمثلة على ذلك أيضا يَقُصُّ الْحَقَّ، ويقضي الحقّ (الانعام: 57) الرابع: الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة ولا يغير معناها. كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (القارعة: 5) وهي القراءة الثابتة. وقد قرئت كالصّوف المنفوش وهذه قراءة مرفوضة لمخالفتها خط المصحف.

الخامس: الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها في الخط ويزيل معناها. وهذا لا يقرأ به لمخالفته الخط الذي كتب به مصحف عثمان. السادس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، فالآية الكريمة وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ (سورة ق: 19) قيل إن أبا بكر قرأها ساعة موته «وجاءت سكرة الحق بالموت» ولعل هذا من اضطراب عراه ساعة مفارقة الحياة. وهذا لا يقرأ به لمخالفته المصحف. السابع: الاختلاف بالزيادة والنقص في الحروف والكلم. مثل (تجري تحتها) وتَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا* (التوبة: 100) وهذا يقرأ منه ما اتفقت عليه المصاحف في إثباته وحذفه. وهناك قراءات شاذة نبّه عليها أبو عبيدة في كتاب «فضائل القرآن» وبيّن أنها كانت تضيف الكلمة أو الكلمات لتفسير النص. فمن قبيل التفسير قراءة تنسب إلى عائشة وحفصة هي: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر (سورة البقرة: 238) فمن الواضح أن عبارة «صلاة العصر» كانت تفسيرا لمعنى الصلاة الوسطى فأخذت على أنها قراءة. وهي مخالفة للمصحف الإمام، ولما أجمع عليه الحفاظ. ومهما يكن الأمر، فالموضوع الآن بالنسبة للقراءات أصبح من الدراسات

اللغوية التاريخية. ونحن الآن في عصر التسجيل نستطيع الأخذ بالقراءة التي تتفق كل الاتفاق مع خط المصحف، مع السماح بما جاز من القراءات لهذا الخط في أضيق الحدود. ومصحفنا المطبوع بين أيدينا اليوم يغنينا عن كل وجوه الخلاف التي حتمتها البيئات القديمة بما انطوت عليه من صعوبات في الضبط والتحقيق. كما أنني لا أحب أن أختم هذا البحث دون أن أنبهكم إلى حقيقتين: أولاهما: أن بحث ابن قتيبة في وجوه اختلاف القراءات لا يعني أن كل أنواع القراءات التي تضمنتها هذه الوجوه جائزة مقبولة بل إن من هذه القراءات ما هو صحيح مقبول ومنها ما هو شاذ. وابن قتيبة لم يكن يعني تحقيق الصحيح من الشاذ بقدر ما كان يعني في هذا البحث بالذات بيان أوجه الخلاف. ثانيهما: أن الخلاف في القراءات وقع في قدر يسير من القرآن الكريم. أما الاتفاق فهو الأغلب. وكل قراءة لقيت من التحقيق ما جعل قبولها خاضعا لقواعد دقيقة من الضبط العلمي، ونزه كتاب الله عن خطأ المجتهدين في هذا الباب.

- 13 - الناسخ والمنسوخ

- 13 - الناسخ والمنسوخ مادة النسخ وردت في القرآن الكريم دالة على معنيين، أحدهما النقل كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وثانيهما هو الإزالة كما في قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ النسخ بمعنى النقل هو من باب قولنا نسخت الكتاب أي نقلته، أما النسخ بمعنى الإزالة، فهو من باب قولنا: «نسخت الشمس الظل» أي أزالته. والنسخ الذي يهتم الأصوليون بدراسته هو الذي ورد في القرآن الكريم بمعنى الإزالة، فمعناه الاصطلاحي إبدال حكم شرعي بحكم آخر لحكمة يراها الله في مصلحة عباده، تكون في غالب الأمر للتخفيف عنهم، بعد ابتلائهم بأحكام، تكون في العادة أكثر تكليفا من الأحكام الناسخة. وقد أشار الكتاب الكريم إلى النسخ الذي يعني الإزالة أو الإبدال بقوله تعالى:

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها (البقرة: 106) وكذلك بقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ. (النحل: 101) ولقد تهجم بعض أعداء الإسلام على الكتاب الكريم، مدّعين أن النسخ هو من قبيل «البداء: والبداء فكرة قال بها بعض غلاة الفرق الإسلامية، وتعني أن الله يقدر أمرا، ثم يبدو له فيعدل عنه». إن القول بالنسخ في الشريعة بعيد كل البعد عن فكرة البداء التي قالت بها الفرق الغالية. فالله قد أنزل الكتاب على رسوله حلال أكثر من عشرين عاما. ولقد تعلم المسلمون أحكام الشريعة خلال هذه الأعوام، ونزل عليهم من الأحكام في مختلف الظروف ما اقتضت الحكمة الإلهية خفيفة أو تعديله، رعاية لصالح المجتمع الإنساني. يقول الزركشي: «والعلم به عظيم الشأن، وقد ألف فيه جماعة كثيرون منهم قتادة بن دعامة السدوسى (وكان من التابعين توفي عام 188 هـ)، وأبو سيد القاسم بن سلام (توفي عام 223 هـ). وأبو داود السجستاني (توفي عام 215 هـ)، وأبو جعفر النحاس (المتوفي عام 338 هـ)، وهبة الله بن سلام (المتوفي 410 هـ) وابن العربي (صاحب كتاب أحكام القرآن، توفي عام 546 هـ)، وابن الخوزي (المتوفي عام 597 هـ، وابن الأنباري (المتوفي عام 328 هـ) ومكي بن أبي طالب المتوفي عام 313 هـ). (¬1) ¬

_ (¬1) الرمان، ج 2، ص 28.

فهذا العدد الكبير من المؤلفين في مختلف العصور، قد اهتموا بهذا العلم. وهم ينتمون إلى مذاهب فقهية مختلفة، وكذلك كانت إقامتهم في أقاليم مختلفة من العالم الإسلامي. وينقل الزركشي أيضا أن الامام علي بن أبي طالب قال لقاصّ: «أتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال: الله أعلم. فقال علي: هلكت وأهلكت (¬1)». معرفة الناسخ والمنسوخ إذن علم يجب على الفقيه أن يحيط به قبل التصدي لاستنباط الأحكام من الشريعة الإسلامية. وكما قيل بوجود النسخ في القرآن الكريم قيل أيضا بوجوده في السنة النبوية. وقسم بعض العلماء النسخ إلى ثلاثة أنواع: 1 - ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول. فيروى أن سورة النور كانت بها آية هي: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله. وأن تلاوة هذه الآية قد نسخت وبقي حكمها. وكثير من العلماء يرى أن هذا القول كان من أحاديث الرسول، ولم يثبت بالتواتر أنه من القرآن الكريم، فلا معنى لأن يكون في القرآن الكريم ما تنسخ تلاوته ويبقى حكمه. 2 - ما نسخ تلاوته وحكمه، فلا يجوز قراءته ولا العمل به. وهذا أيضا مما لم تثبت نسبته إلى القرآن الكريم، فكل ما يروى في ذلك أخبار آحاد لم يجتمع على نقلها وروايتها جمع من المسلمين كما هو الحال في مصحف عثمان. 3 - ما نسخ حكمه وبقي تلاوته. وهذا هو النسخ الذي يسلم به كثير من ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 29.

العلماء، وقالوا عنه إنه غالبا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة (¬1). ويعرف الناسخ من نصين ينقض أحدهما الآخر، ويعلم أن أحدهما متأخر، وذلك بنص منقول عن الرسول، أو بإجماع الأمة. يقول الشيخ محمد الخضري: «إذا ورد في الشريعة نصان متناقضان فلا بد أن يكون أحدهما منسوخا، إذ لا تناقض في الشريعة، والمنسوخ إنما هو المتقدم، ولا يعرف تقدم أحدهما وتأخر الثاني إلا بالنقل، وذلك إما أن يدل عليه لفظ الرسول نحو: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها»، أو بإجماع الأمة على أن أحدهما متأخر ناسخ لأن الأمة معصومة من الخطأ، أو بأن يصرح الراوي بتاريخ الناسخ، كأن يقول: «سمعت عام الخندق كذا، وكان النص الآخر معلوما قبل ذلك (¬2)». وهناك أحوال يجب التحري قبل قبولها. فإذا قال صحابي: «كان الحكم كذا ثم نسخ» فلا يعتبر قوله هذا حجة إن لم ينص على سماع وتاريخ. ذلك لأن الصحابي قد يقول ذلك عن اجتهاد. كذلك يجب أن ننتبه إلى أن ترتيب السور والآيات في المصحف ليس مطابقا لتاريخ النزول. فقد يوجد النص الناسخ في المصحف سابقا على النص المنسوخ. ولما كانت الآيات غير مرتبة ترتيبا تاريخيا فتقدم الناسخ على المنسوخ في المصحف لا يدل على تقدم تاريخي. فالعبرة في تعيين الناسخ والمنسوخ ليس في تقدم نص المنسوخ على الناسخ في المصحف، بل في تقدمه عليه في تاريخ النزول. وقد اختلف حول جواز نسخ السنة للقرآن، أو القرآن للسنة، فذهب الإمام الشافعي إلى أن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن والسنة لا تنسخ إلا بسنة. ومن الفقهاء من رأى جواز نسخ السنة للقرآن، لأن القرآن والسنة متكاملان في النص على أحكام الشريعة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 39. (¬2) أصول الفقه، الطبعة الرابعة، ص 298.

والواقع أننا لو تأملنا هذا الامر لم نجد تناقضا بين أحكام القرآن وأحكام السنة النبوية. فالواقع أن السنة النبوية تشتمل على كثير من التفصيلات لأحكام مجملة وردت في القرآن الكريم. فالصلاة مثلا وهي ركن من أركان الدين ورد النص على وجوب أدائها في القرآن الكريم، أما كيفية أدائها فذلك مما لا يعرف إلا من السنة النبوية. يقول الشيخ محمد أبو زهرة في هذا الشأن: «إن السنة هي المصدر الثاني للفقه الإسلامي. وهي مع هذا الاعتبار تالية للكتاب وتابعة له. فهي تبينه وتزيد أحكاما متصلة به ولذلك نقول إن الأحكام التي أتت بها السنة لها اتجاهات أربعة: أولها: أن تكون بيانا للقرآن الكريم. ثانيها: أنها تأتي بأحكام تثبت في القرآن بالنص، وزاد النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعها أحكاما بوحي من الله تترتب عليها أو متصلة بها. ثالثها: أن تأتي السنة بحكم ليس في القرآن نص عليه، وليس هو زيادة على نص قرآني. رابعها: وهو ما ذكره الشافعي وهو الاستدلال بالسنة على الناسخ والمنسوخ من الأحكام القرآنية» (¬1). ولقد بالغ بعض من تصدوا لدراسة الناسخ والمنسوخ فعدّوا أية زيادة للبيان أو التقييد تجيء في إحدى الآيات ناسخة للآية التي ورد فيها الحكم بلفظ الإطلاق أو العموم. ورفض الأصوليون الأخذ بهذا وعدوا بيان العموم أو تقييد المطلق من قبيل التفصيلات التي توضح الحكم وليست من قبيل النسخ. وتروى أمثلة كثيرة عن مغالاة بعض العلماء في الأخذ بفكرة النسخ. يقول الزركشي: «ومن ظريف ما حكي في كتاب هبة الله أنه قال في قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (سورة الانسان: 8) ¬

_ (¬1) محاضرات في مصادر الفقه الاسلامي، ص 143.

منسوخ من هذه الجملة «وأسيرا»، والمراد بذلك أسير المشركين، فقرئ الكتاب عليه وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت: «أخطأت يا أبت في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية؟ قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا (¬1)». وينقل ابن العربي عن بعض الفقهاء أنّهم قالوا في قوله تعالى في سورة البقرة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ*. أنه منسوخ، فنظر إلى أنه لما كان بهذا الوجه فرضا سوى الزكاة، وجاءت الزكاة المفروضة فنسخت كل صدقة جاءت في القرآن، كما نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الصلاة كل صلاة (¬2)». وهذا كما ترون ينطوي على نظرة خاطئة، فكلام الله يعني أن الإنفاق من الرزق الحلال مستحب، سواء أكان هذا الإنفاق للتصدق، أو إنفاقا على الأهل، ولا شأن لذلك بفريضة الزكاة المنصوص عليها. فهناك ألوان من المغالاة في افتعال هذا النوع من الدراسة عند بعض الباحثين. ومن جهة أخرى يرفض بعض المحققين فكرة النسخ في القرآن الكريم، ومن هؤلاء أبو مسلم الأصفهاني. ويرون أن المقصود بالآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها. أن المقصود بالآية هنا هو المعجزة، ويرى هؤلاء أن ما يدّعى نسخه لا يتعذر التوفيق بينه، فلا ناسخ ولا منسوخ بل الأحكام جميعها متكاملة ثابتة (¬3) ومما هو جدير بالذكر أن الآيات التي تحتاج إلى التوفيق بينها تكاد لا تزيد عن عشرين آية، أمّا ما ورد سوى ذلك فهو من قبيل التفصيل لحكم عام أو التقييد لحكم مطلق، وليس مما ينطبق عليه معنى النسخ، أي الإزالة. ¬

_ (¬1) البرهان، ج 2، ص 29. (¬2) أحكام القرآن، ج 1، ص 11. (¬3) ممن يميل إلى ذلك من فقهاء العصر الحاضر الشيخ محمد أبو زهرة. انظر مصادر الفقه الاسلامي، ص 143، 144.

- 14 - المحكم والمتشابه

- 14 - المحكم والمتشابه في آيات القرآن الكريم ما يصفه بأنه محكم. قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (هود: 1) ومنها ما يصفه بأنه متشابه. قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (الزمر: 23) ومنها ما وصفه بأن فيه المحكم والمتشابه: قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (آل عمران: 7) والرأي الذي عليه الجمهور أن القرآن يحتوي على المحكم والمتشابه من الآيات. فمعنى الإحكام والتشابه في الآيتين الأولى والثانية غيرهما في الآية الثالثة. فالإحكام في الآية الأولى متانة البناء ودقة البيان والإعجاز، ومعناه في الآية الثانية أن كتاب الله متشابه في قوة بنائه وحكمته وروعة إعجازه وصدقه في كل ما جاء به وأنه من عند الله. أما الآية الثالثة فهي المصدر الذي أوحى بفكرة وجود المحكم والمتشابه في القرآن الكريم. ويفسّر المحكم فيها على أنه النص الذي لا يقبل التأويل، أو أنه ما أحكم بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام. فقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (البقرة: 43) مما لا يقبل التأويل ويعتبر بذلك من المحكم. لكن الباحثين القدامى على عاداتهم جاءوا بوجوه أخرى كثيرة في تأويل معنى المحكم. فقيل المحكم هو الناسخ، وقيل هو الفرائض والوعد والوعيد. وقيل هو ما يعرف عند سماعه مثل قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. أما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني.

يقول الزركشي: «والمتشابه مثل المشكل لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره وشاكله (¬1)». وقيل في معنى المتشابه أقوال عدة هي أنه المنسوخ الذي لا يعمل به، وقيل القصص والأمثال، وقيل ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى الله، وقيل فواتح السور، وقيل ما لا يدرى إلا بالتأويل، وقيل: ما يحتمل وجوها في حين أن المحكم لا يحتمل إلا وجها واحدا. وإذا أردنا أن نخرج من كل هذه التفسيرات برأي فيمكننا أن نقول إن المحكم هو النص الظاهر الواضح الدلالة الذي لا يحتاج في فهم معناه إلى التأويل، أما المتشابه فهو ما لا يفهم معناه إلا بالتأويل، وقد يدل لفظه على أكثر من معنى واحد. واختلف حول قدرة العلماء على إدراك معنى المتشابه، وذلك بسبب الاختلاف في تفسير معنى الآية التي تنص على وجود محكم ومتشابه في القرآن الكريم. فقوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. فمن المفسرين من يعتبر الواو في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دالة على العطف فيفهمون من الآية أن الله وكذلك الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه. ومنهم من يقف عند (الله) فيفهم من الآية أن الله وحده هو الذي يعلم تأويل المتشابه، أما الراسخون في العلم فذكرهم استئناف، وهؤلاء يقولون آمنا به، ولا يطيلون الوقوف عند التأويل. ¬

_ (¬1) البرهان ج 2، ص 69.

ومثل هذين الرأيين يمثلان موقفين متناقضين لفريقين من علماء المسلمين. ففي القرآن آيات تتناول صفات الله، وتتحدث عن أمور غيبية لا يمكن الوصول في فهمها إلى رأي قاطع. وقد توقف بعض السلف عن الخوض في مثل هذه الآيات، ومحاولة تأويلها، معتبرين ذلك من البدع. فلم يحاولوا فهم استواء الله على العرش، في حين أن المعتزلة وغيرهم حاولوا فهم معاني القرآن، ولم يتوقفوا عند المتشابه، بل أولوه. نقل الامتناع من التأويل عن بعض الصحابة وعلماء السلف، فأم سلمة تحدثت عن الاستواء في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. فقالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب «وكذلك سئل الإمام مالك في هذا الأمر فأجاب بما أجابت به أم سلمة. وكذلك سئل سفيان الثوري فقال: أفهم من قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (طه: 5) ما أفهم من قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ. (فصلت: 11) وسئل الأوزاعي عن تفسير الآية فقال: الرحمن على العرش استوى، كما قال، وإني لأراك ضالا (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 78.

يقول الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: «وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه (¬1)». وقد ألف الغزالي كتابا بعنوان «إلجام العوام عن علم الكلام» حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم، إلا أن الغزالي لا يمنع العالم المحقق من البحث في كل ما يحتاج إلى التأويل. يقول: «فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش عن لأدلة (¬2)». أما المعتزلة ومتكلمو السنة وهم الأشعرية فاختاروا التأويل. وهؤلاء أيضا يستندون إلى بعض السلف فقد نقل التأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم (¬3). ورأي القائلين بوجوب التأويل، وأن الراسخين في العلم قادرون على الفهم راجع إلى مذهب هؤلاء في إعظام شأن العقل، إلى حد أنهم جعلوا كل حسن وقبيح من المدركات العقلية، وأن الشرائع جاءت مطابقة لما اهتدت إليه العقول، داعية إلى ما استحسنته، ناهية عما استقبحته- فمذهب المعتزلة والأشعرية متأثر بالمذاهب الفلسفية، لا يقبل التوقف عند النص، من غير محاولة لإدراك معناه. فهم يقولون في تأويل قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ (المائدة: 116) ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الرسالة الوعظية (ص 155 من كتاب الجواهر الغوالي من رسائل الغزالي). القاهرة، 1934. (¬3) الزركشي، ج 2، ص 79.

إن النفس هنا هي الغيب، تشبيها له بالنفس، لأنه مستتر كالنفس. ويقولون في تأويل قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أنه المعبود في السموات والأرض، أو أنه العالم بما فيهما. وقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ يقولون فيه: «لم يرد سبحانه بنفي النوم والسنة عن نفسه إثبات اليقظة والحركة، لأنه لا يقال لله تعالى يقظان ولا نائم، لأن اليقظان لا يكون إلا عن نوم، ولا يجوز وصف القديم به، وإنما أراد بذلك نفي الجهل والغفلة (¬1)». وهكذا يمضون في تأويل آيات مثل: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (ص: 75) وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ (الرحمن: 27) فيؤولون اليد والوجه وما شابههما إلى معان تصرفها عن المعنى الحسي أو الجسدي. والخلاصة أن أرجح الأقوال في المحكم هو أنه ما كان واضح الدلالة ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 85.

ظاهر المعنى، وأن المتشابه ما احتاج فهمه إلى تأويل، ولم يمكن القول في تأويله برأي قاطع، بل كان قابلا لأكثر من معنى، وإن رجح بعض هذه المعاني على سواه. وإلى مثل هذا ذهب الإمام الفخر الرازي في كتابه «أساس التقديس». وإلى هذا ذهب صاحب كتاب «المباني في نظم المعاني» (الذي ألف عام 425 هـ) يقول: «أما القول في المحكم والمشابه، فإن القرآن كله محكم من جهة النظم والإعجاز، كما قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وكله متشابه من تشابه ألفاظه بعضها ببعض، فليس فيه ما ينفى ويردّ لنا، ويخرج عن النظم ويهمل، وذلك قوله تعالى: نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً وبعضه محكم من جهة احتماله وجها واحدا لا يرتاب فيه مرتاب، وبعضه متشابه من احتماله وجوها كثيرة لا يقطع على واحد منها قاطع، كما أنه في بابه علم ساطع، وذلك قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فاللاتي هن أم الكتاب مثل قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. (سورة 6 آية 151) وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (سورة 113 آية 1)

وقوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ (سورة 59 آية 23) فأما المتشابه، فإنه مثل قوله: عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (سورة 39 آية 56) وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ (سورة 2 آية 210) وقوله: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (سورة 89 آية 22) وما أشبهها (¬1). أما الحكمة في وجود هذه الآيات المتشابهات فهي ما تقتضيه الضرورة في مخاطبة الآدميين، وكثير منهم لا يستطيعون تصور الذات الإلهية منزهة كل التنزيه، فكان الخطاب بأسلوب يقرّب تصور الذات من أفهام الناس، مع التحدث بصريح التنزيه عن الخالق في الآيات المحكمات. وبردّ المتشابه الى محكم آيات القرآن ينتفي التشبيه والتجسيد عن الذات الالهية، ويتضح الأمر أمام خاصة العلماء ¬

_ (¬1) كتاب المباني، ص 176، 177. (ضمن: مقدمتان في القرآن)، القاهرة، 1954.

الذين يناط بهم الإدراك الواضح لمعنى التنزيه. أما العوام فهم في العادة لا يستطيعون بلوغ هذه الغاية. وقد ساق صاحب كتاب المباني ثمانية أوجه لبيان الحكمة في متشابه القرآن، وسنذكر هذه الأوجه هنا بإيجاز. 1 - إن الله احتج على العرب بالقرآن، إذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة، وحسن البيان والاختصار والإطناب. وكان كلامهم على ضربين: أحدهما: الواضح الموجز الذي لا يخفى على صاحبه، ولا يحتمل غير ظاهره. والآخر على المجاز والكنايات، والإشارات والتلويحات وهذا الضرب هو المستحلى عندهم، الغريب من ألفاظهم، البديع في كلامهم. فلما قرعهم الله سبحانه فعجزهم عن المعارضة بمثل سوره أو سورة منه أنزله على الضربين ليصح العجز منهم وتتأكد الحجج ولزومها إياهم، فكأنه قال: عارضوا محمدا في أي الضربين شئتم، في الواضح أو في المشكل. ولم يقدروا عليه. ولو أنزله كله واضحا محكما بحيث لا يخفى على أحد سمعه منه لوجد المشركون مقالا، وقالوا: ما باله لم ينزله بالضرب المستحسن عندنا، والمستحلى في طباعنا؟ لأن ما وقع فيه الإشارة والكناية والتشبيه والتعريض كان أفصح وأعرب. ثم يؤيد بعد ذلك رأيه هذا بأبيات من الشعر فيها الاستعارات والمجاز والكناية ويطبق بعض هذه المفهومات البلاغية على آيات من القرآن. 2 - في الآيات المتشابهة اختبار لموقف المؤمن الذي يتقبل ما جاء بهذه الآيات ويردها إلى عالمها في حالة العجز عن إدراك معناها، في حين أن المنافق يتخذ من المتشابه سبيلا إلى بث عقائده الفاسدة، عن طريق التأويل السيّئ. 3 - في المتشابه حث للعلماء على التدبر والتأمل وهؤلاء ينهضون بالتأويل، وينتفع العامة بعلمهم، ولو كان كله واضحا محكما لاستوى فيه العالم والجاهل. 4 - في المتشابه من الآيات تدريب لعلماء الأمة على التدبر والتأمل، واستدعاء لهم لمداومة التفكر.

5، 6، 7 - يمكن أن ترد هذه الأوجه إلى الوجه الرابع، فكلها مرتبط بفكرة البحث والتأمل، وما لهما من أثر في إظهار العلماء، الذين يوالون البحث فيه. ولو كانت كل معاني القرآن واضحة ظاهرة لانتهى القول فيها، وتوقفت دراسة القرآن الكريم عند حد، وربما أدى ذلك إلى الانصراف عنه. 8 - في المتشابه اختبار يكشف عن المؤمنين الراسخين في الإيمان، وعن أهل العقيدة المتزعزعة. قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. (سورة 2 آية 26) وهذا هو المقصود من قوله تعالى بعد ذلك: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً. وهذا الوجه مرتبط إلى حد بعيد بالوجه الثاني الذي ذكره صاحب كتاب المباني (¬1). وكل هذه الأقوال تدخل في باب الاجتهاد. فهي من قبيل المحاولات التي تساق لإيضاح بعض جوانب الدراسات المتصلة بالقرآن الكريم. ولسنا مطالبين بالأخذ بها على علاتها، بدون التفكير فيها، والبحث عن مدى اتفاقها مع النصوص القرآنية. ¬

_ (¬1) كتاب المباني، ص 177 - 182. ضمن كتاب: مقدمتان في علوم القرآن. نشر: آرثر جيفري. القاهرة، 1954.

- 15 - فواتح السور

- 15 - فواتح السور يحصي الزركشي عشرة أنواع من الكلام افتتحت بها سور القرآن الكريم، نقلها عن الشيخ شهاب الدين أبي شامة المقدسي. 1 - فمن هذه الأنواع استفتاح الآيات بالثناء، بما يكون فيه إثبات لصفات المدح وتنزيه عن صفات النقص. 2 - ومنها الاستفتاح بالنداء نحو: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (المائدة، والحجرات، والممتحنة)، ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ (الأحزاب والطلاق، والتحريم). 3 - ومنها الاستفتاح بالجمل الخبرية نحو قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (سورة الأنفال)، بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ (سورة التوبة)، وهكذا. 4 - ومنها الاستفتاح بالقسم مثل قوله تعالى:

وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَالْفَجْرِ، وَالشَّمْسِ، وَاللَّيْلِ، وهكذا. 5 - الاستفتاح بالشرط نحو: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وهكذا. 6 - الاستفتاح بالأمر مثل قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وهكذا. 7 - الاستفتاح بالاستفهام مثل قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، عَمَّ يَتَساءَلُونَ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وهكذا. 8 - الاستفتاح بالدعاء مثل قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. 9 - الاستفتاح بالتعليل وقد ورد في موضع واحد هو لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. وكل هذه الأنواع التسعة واضحة الدلالة. أما النوع العاشر فهو:

الاستفتاح بحروف التهجي

الاستفتاح بحروف التهجي يحتاج هذا النوع من الاستفتاح لأن نقف عنده وقفة خاصة محاولين أن نرى بعض ما نقل عن الأقدمين في إيضاح أسراره. لقد افتتحت بعض سور القرآن الكريم بحروف التهجي، نحو الم، المص، الر، كهيعص، طه، طس، حم، حمعسق، ق، ن، وقد وقع هذا في تسع وعشرين سورة. وقد تراوح عدد الأحرف التي افتتحت بها هذه السور بين ثلاثة وخمسة. ومنها ما افتتح بحرف واحد. وقد أسرف المفسرون في استقصاء أنواع الحروف، ومحاولة النفاذ الى ما يكمن وراءها من أسرار. وحاول بعضهم دراسة قيمتها العددية أو الحديث عن خصائصها الصوتية. وقد اختلف البصريون والكوفيون حول اعتبار هذه الحروف آيات أو عدم اعتبارها. فأما البصريون فلم يعدوا شيئا منها آية وأما الكوفيون، فقد عدوا بعضها آيات، أما البعض الآخر فلم يعدوه من الآيات. وعندهم أن ما قالوه علم توقيفي لا مجال للقياس فيه. أما بالنسبة لتفسير معانيها فقد سلك العلماء إزاءها مسلكين: أحدهما: أنها علم مستور وسر محجوب استأثر الله به. وينسب أصحاب هذا الرأي إلى الصديق أنه قال: «في كل كتاب سر، وسرّه في القرآن أوائل السور». كما يروى عن الشعبي أنه قال: «إنها من المتشابه، نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل (¬1)». وثانيها: وهو اتجاه المتكلمين الذين ذهبوا إلى أنه لا يجوز أن يرد في كتاب ¬

_ (¬1) الزركشي، ج 1 ص 173.

الله ما لا يفهمه الخلق، لأن الله تعالى أمر بتدبره، والاستنباط منه، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه (¬1). فإذا انتقلنا إلى وجوه التفسير التي رويت عن هؤلاء وجدنا الكثير. ويذكر الزركشي وحده عشرين وجها. ومن قبله أفاض الطبري في تعداد الوجوه المنقولة عن أئمة التفسير من الصحابة والتابعين. وجاء بعض المستشرقين في الوقت الحاضر وحاولوا تقديم تفسيرات لهذه الحروف، وكذلك فعل بعض المحدثين من الدارسين المسلمين. 1 - ومن أوجه الآراء التي قرأتها بين هذه النقول أن هذه الأحرف أسماء للسور. فهذه الأحرف وضعت لتمييز السور بعضها عن بعض. وقد نقل الزمخشري ذلك عن كثير من العلماء، كما أن سيبويه نص على ذلك الرأي في كتابه. ووصفه فخر الدين الرازي بأنه قول أكثر المتكلمين. ومما يعترض به على ذلك أن بعض هذه الحروف قد ورد في افتتاح أكثر من سورة واحدة. فهناك مثلا الم. ذلِكَ الْكِتابُ (البقرة) الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (آل عمران) وردّ على ذلك بأن ما جاء بعد «الم» يميز السورتين إحداها عن الأخرى، كما يميز الاسم الواحد لشخصين بما لكل منهما من صفات، فيقال زيد النحوي وزيد الفقيه. ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

2 - ومن الآراء المعقولة أيضا أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من حروف الهجاء، فجاء بعضها مقطعا، وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين أتى القرآن بلغتهم على أن هذا القرآن المعجز مركب من الحروف التي يعقلونها ويبنون كلامهم منها. 3 - ومن الآراء المعقولة أيضا أن هذه الحروف قصد بها جذب انتباه العرب لاستماع القرآن. يقول الزركشي: «إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه. وقال بعضهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ (فصلت: 26) فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم سببا لاستماع ما بعده فترق القلوب، وتلين الأفئدة. هذه تأويلات بدت لي معقولة بين ركام ضخم من التأويلات، لم أر داعيا لتكرارها هنا، فليرجع إليها من يشاء في كتاب الزركشي أو في تفسير الطبري. ومن الطريف أن بعض المستشرقين وكذلك بعض الكتاب المحدثين أدلوا بدلوهم في تفسير هذه الحروف. لكني لم أجد فيما قالوا به ما يستند الى أساس معقول، اللهم إلا إن كان راجعا لواحد من هذه الآراء التي أسلفت ذكرها.

- 16 - اعجاز القرآن

- 16 - اعجاز القرآن من المعروف أن القرآن الكريم كان معجزة الرسول الكبرى. وربما تروى له معجزات أخرى، لكن المعجزة التي أجمع المؤرخون والعلماء على نسبتها إليه هي القرآن الكريم. وعلى هذا كان إعجاز القرآن طوال العصور موضوعا للدرس والبحث، وكان كل باحث يحاول أن يهتدي إلى سرّ هذا الإعجاز. وكم من كتب تناولت هذا الموضوع، فكان منها الكلامي، وكان منها البلاغي. وأعتقد بعد كل هذا البحث والدرس أننا لا نزال نفتقر إلى العمل العلمي الكامل الذي يضع يدنا على حقيقة الإعجاز في كتاب الله. لقد أراد الله أن تكون معجزة الرسول هي صميم رسالته. لم يجر الله على يد الرسول ما كان يجريه من قبل على يد أنبيائه، فموسى كان يلقي العصا فتصير حية، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء. وعيسى كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمة والأبرص أما الرسول فكانت معجزته الكتاب الذي أنزل عليه. ولقد كانت الجزيرة العربية إبان البعثة النبوية عامرة بالشعراء والخطباء والبلغاء.

فكانت المعجزة المحمدية معجزة تتفق وعصرها وكذلك مع طبيعة البيئة العربية التي كانت إذ ذاك تحفل بالفصاحة وتعتد بالبيان. يضاف إلى ذلك أن الاسلام يمثل آخر الرسالات السماوية. وقد جاء زمانها حينما كانت البشرية قد بلغت شأوا بعيدا من النضج، في عصر تاريخي متأخر نسبيا. فلم يعد من المقنع القيام بالمعجزات الشبيهة بالسحر، وإنما أصبح الوقت وقت الإقناع بالمنطق والحجة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. يقول القاضي عبد الجبار في كتابه المغنى: «إنه تعالى خص رسوله بالقرآن من حيث ختم به النبوة، وبعثه إلى الناس كافة، وجعل شريعته مؤيدة، لأن غيره من المعجزات كان يجوز أن يدرس على الأوقات (أي يختفي مع الزمن)، ويضعف النقل فيه، وذلك لا يتأتى في القرآن (¬1)». ويستدل من قول القاضي عبد الجبار هذا أن القرآن معجزة دائمة لا تنقطع، في حين كانت معجزات الأنبياء السابقين في الزمن على محمد مما حدث وقت دعوتهم ثم انقطع، فلم يشاهده إلا بعض من عاصر هؤلاء الأنبياء، أما القرآن فهو معجزة باقية على الأيام تخاطب العقل والروح. ومن الثابت بالتواتر أن الرسول تحدى العرب بالقرآن، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله. وفي القرآن الكريم نصوص تسجل مراحل التحدي. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الاسراء: 88) وتحداهم بعد ذلك بأن يأتوا بعشر سور. قال تعالى: ¬

_ (¬1) المغنى، ج 16، ص 165.

قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (هود: 13) وحين عجزوا عن الإتيان بعشر سور، دعوا إلى الإتيان بسورة واحدة. قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. (البقرة: 23) وإذا أردنا أن نتتبع طرق علمائنا القدامى في بحث الإعجاز نجدهم يبدءون ببيان قدر المعجز من القرآن. ونراهم ينقلون عن الأشعري أن أقل ما يعجز من القرآن السورة، قصيرة كانت أم طويلة. ويرى أيضا أن الآية التي تبلغ حروفها مقدار حروف السورة القصيرة فهي أيضا معجزة. أما المعتزلة فيرون أن كل سورة برأسها معجزة (¬1). أما تفسيرات القدماء للإعجاز فجاءت منوعة بتنوع النظرات إلى هذا الموضوع، وتبعا لاختلاف ثقافات الكتاب الذين تناولوه. وسنذكر هنا أمثلة لما ذكره هؤلاء القدماء في تفسيرهم لإعجاز القرآن. 1 - ذهب إبراهيم بن سيّار النظام أحد متكلمي المعتزلة إلى أن إعجاز القرآن راجع إلى أن الله صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم. وهذا الرأي لم يكن من الآراء التي لقيت قبولا عند العلماء، ذلك لأنه يجعل الإعجاز مقصورا على ¬

_ (¬1) الزركشي: ج 2، ص 108.

زمان الرسول، حين قام التحدي. كما أنه ينافي صريح القرآن، في قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. (الاسراء: 88) 2 - وفي رأي بعض العلماء الأقدمين أن الإعجاز راجع إلى تأليف القرآن الخاص به، ذلك الذي يتجلى في اعتدال مفرداته تركيبا ووزنا، واشتمال مركباته على أرفع المعاني بحث وقع كل فن في مرتبته العليا من حيث اللفظ والمعنى. 3 - وذهب فريق من العلماء إلى أن إعجاز القرآن يرجع إلى إخباره بالغيوب المستقبلة. فقد وقع في القرآن الكريم تنبؤ بأحداث قبل وقوعها، وتحقق ما أنبأ به. ومن أمثلة ذلك ما أخبر به عن تغلب الروم على الفرس، بعد أن أوقع الفرس الهزيمة بالروم واستولوا على بيت المقدس. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. (الروم: 1، 2) وقد اعترض على هذا بأن آيات القرآن التي أخبرت بالغيب قليلة، بالنسبة إلى حجم الكتاب كله، فهذا القول يجعل الإعجاز مقصورا على قسم صغير منه. على أن هذا لا ينفي عندهم أن الإنباء بالغيب من أسرار الإعجاز في الآيات التي ورد بها. 4 - ومن الأقوال في الإعجاز أيضا أنه راجع إلى الإخبار عن قصص الأولين، وما وقع في سالف العصور، بأسلوب من شهد الأحداث وحضرها. وهذا القول أيضا مردود كسابقه، لأن القرآن يتناول هذه الأخبار في قسم

منه، لا في جميع أجزائه. على أن هذا لا ينفي عندهم أن مثل هذا الإخبار من أسرار الاعجاز في الآيات التي تحدثت به. 5 - ومن الأقوال في أسرار الإعجاز أيضا أنه راجع إلى إخبار القرآن الكريم عن أسرار الضمائر، وكشف ما خفي عنها، ومن أمثلة ذلك كشفه عن ضمائر المنافقين، وهو قول ضعيف يقصر الإعجاز على قسم صغير من القرآن الكريم. 6 - هناك رأي آخر أختاره السكّاكي في كتابه مفتاح العلوم، يذهب إلى أن الإعجاز شيء لا يمكن التعبير عنه. إنه شيء يدرك ولا يمكن وصفه، يقول: «مدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا». وعنده أنه يدرك كما يدرك طيب النغم، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما. ويشير كلام السكّاكي هذا الى موضوع كان له خطره في تاريخ الدراسات العربية، وهو ارتباط علوم البلاغة بدراسة الإعجاز في القرآن. لقد كان هذا الارتباط وثيقا، وقد ساعدت دراسة الإعجاز على تطوير البلاغة العربية، وتوسيع مجال بحثها، وأغنتها بدراسات كثيرة. 7 - القائلون بأن الإعجاز راجع إلى فصاحة القرآن أو بلاغته كثيرون. وهناك كتابات متعددة تعبر عن هذا المعنى. فحازم القرطاجني يذهب في كتابه «منهاج البلغاء» إلى أن الإعجاز راجع إلى استمرار الفصاحة والبلاغة فيه استمرارا لا ينقطع، وبصورة لا يقدر عليها أحد من البشر. فكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في العالي فيه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد تفاريق وأجزاء منه. والفترات في الفصاحة تقع للفصيح، إما بسهو يعرض له في الشيء من غير أن يكون جاهلا به، أو من جهل به، أو من سآمة تعتري فكره ... وهكذا.

وخلاصة هذا الكلام أن في القرآن بلاغة تعم كل آياته، وفصاحة تشيع في مختلف نواحيه، بعكس كلام البلغاء يتفاوت في قوته وضعفه، ولا يخلو كلام أحدهم من الغث. وممن أرجع إعجاز القرآن إلى الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب مع اقتران ذلك بالتحدي العلامة فخر الدين الرازي صاحب التفسير المشهور. فهو يضيف التحدي إلى الفصاحة، وغرابة الأسلوب عما كان مألوفا عند العرب. ولأبي سليمان الخطابي المتوفي عام 388 أيضا رسالة في الإعجاز ترجع سره إلى البلاغة. ويرى أن بليغ الكلام ينقسم إلى نوع أعلى وآخر أوسط وثالث أدنى أي أقرب. يقول: «فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام يعالجان نوعا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسّرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا اليه من أمر دينه. وانما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني. ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها، وارتباط بعضها ببعض ... وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لها ناظم. إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى

نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه، والرقيّ إلى أعلى درجاته. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمّنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، ومنبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه. ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق امر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، ومناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه، غير مقدور عليه. وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب، وقرعا في النفس، يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. (الفرقان: 5)

مع علمهم أن صاحبهما أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا .. ثم أعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس، كالعلم والمعرفة، والشح والبخل، والنعت والصفة، وكذا بلى ونعم، ومن وعن، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف، والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك، لأن لكل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن اشتركا في بعضها». هذا النص الطويل يشير إلى كثير من الموضوعات البلاغية، كما أنه يشير إلى نظرية «النظم»، ويقدم أفكارا عنها. هذه النظرية أيضا قد أشار اليها أبو بكر الباقلاني (المتوفي سنة 403) صاحب «إعجاز القرآن»، وهو من أشهر الكتب في هذا الباب، فقد ذكر أن من أسرار الإعجاز ما في القرآن في النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب (¬1). لكن الباقلاني لم يسلك مسلك الخطابي من حيث التوسع في شرح مفهومات البلاغة، وخصائص النظم والتأليف، بل شغل نفسه بمسائل كلامية عقلية لا نراها قادرة على الوفاء بإيضاح معنى الإعجاز وأسراره. 8 - ولقد أتيح لفكرة «النظم» أن توضح على أحسن صورها وذلك على يد اللغوي البلاغي القدير عبد القاهر الجرجاني المتوفي عام 471. فهذا الرجل العبقري قد استطاع في كتابيه «دلائل الإعجاز» «وأسرار البلاغة» أن يضع الأسس التي قام عليها علم المعاني وعلم البيان. وقد توسع في إيضاح فكرة «النظم» بوصفه السر الكامن وراء كل كلام بليغ، واستعان بهذه الفكرة في إيضاح أسرار الإعجاز. ويرى الدكتور مندور أن عبد القاهر الجرجاني قد اهتدى في العلوم اللغوية ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن، ص 54.

كلها إلى مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير، وعلى أساس هذا المذهب كوّن مبادئه في إدراك «دلائل الإعجاز» في القرآن. إن عبد القاهر يرى «أن الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب (¬1)». من هنا لم يهتم عبد القاهر في بحثه عن الإعجاز بالمفردات اللغوية، على أساس أن هذه لا تعني شيئا إذا جرّدت من النظم الذي يخلق لها السياق، ويحدد العلاقات بينها. إن صفة الإعجاز- عند عبد القاهر- ينبغي أن تكون «وصفا قد تجدد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله. وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة، لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال، وهو أن تكون الألفاظ المفردة- التي هي أوضاع اللغة- قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن، لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن. ولا يجوز أن تكون في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا وصف لم يكن قبل نزول القرآن (¬2)». كذلك ينبغي أن لا يبحث عن الإعجاز في تركيب الحركات والسكنات، تلك التي يستعان بها في تمييز بحور الشعر بعضها عن بعض. وينفي عبد القاهر كذلك أن تكون المقاطع والفواصل سر الإعجاز «لأنه أيضا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة وزن، وانما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم (¬3)». ¬

_ (¬1) أسرار البلاغة، ص 2. (¬2) دلائل الاعجاز، ص 295. (¬3) المصدر السابق.

ويسخر من القائلين بأن مرد الإعجاز إلى الصرفة، أي إلى أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن، على نحو ما قال النظام. فمثل هذا ما كان ليدل على إعجاز القرآن بنفسه، وإنما بأمر خارجي، مما يجعل عجز العرب عن مجاراته مصدر العجب وليس القرآن ذاته. يقول: «أرأيت لو أن نبيا قال لقومه: إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم، وكان الأمر كما قال، مم يكون تعجب القوم؟ أمن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم». يتحدث بعد ذلك عن النظم فيقول: «ونعود إلى النسق فنقول: «فإذا بطل أن يكون الوصف الذي عجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون الاستعارة. ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز، وأن يقصد إليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة، في مواضع من السور الطوال مخصوصة. وإذا امتنع ذلك فلم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا النظم. وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف، وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها وجامعا يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل محال دونه ... فان قيل: «قولك إلا النظم» يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له، قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني- التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها- من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون، لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره (¬1)». ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

ويوضح لنا بصريح القول أن قصده من تفسير النظم بأنه الاستخدام النحوي لا يعني مجرد قواعد النحو، فهي مما يعرفه كل عربي سليم الفطرة. وإنما يقصد من ذلك دقائق تأليف الكلام، وأسرار الترابط بين مفرداته. يقول: «ثم إنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب مزية فيما طريقه الفكر والنظر من غير شبهة ... ومن هاهنا لم يجز إذن عد الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم، وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه بالروية». فالعرب جميعا يعرفون أن الفاعل مرفوع وأن المفعول منصوب والمضاف إليه مجرور. لكن إدراك الفاعل في مثل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ هو الذي يقتضي الذوق والعلم بالنظم. وهكذا في قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وهذا عنده ليس علما بالإعراب، بل بالوصف الموجب للإعراب. وهكذا إدراك عبارة قرآنية مثل وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وفهم العلاقات بين المفردات فيها هو الذي يعنيه عبد القاهر بالنظم القرآني. ثم يقف وقفة أخيرة أمام غريب اللغة، وكيف أن الإعراب في اللغة لا يمكن أن يكون ضربا من الإعجاز. فلو تحدى القرآن عالما بمفردات غريبة لما عجز عن مجارتها بمثلها. ولو تحدى جاهلا بهذه المفردات لكان كمن يتحدى العرب أن يتحدثوا بلسان الترك. ثم هو يقول بعد ذلك إن العرب لم يكونوا يعتبرون الإغراب اللغوي فضيلة، ويستشهد على ذلك بقول عمر في زهير: «إنه كان لا يعاظل

بين القول ولا يتتبع حوشيّ الكلام «فقرن تتبع الحوشيّ وهو الغريب إلى المعاظلة التي هي التعقيد. نظرية النظم تعني أن القرآن معجز بتأليفه، وبكل ما انطوى عليه هذا التأليف. وهي نظرة شاملة لا تبحث عن الإعجاز في جوانب تفصيلية، كالمفردات اللغوية، أو الأوزان، أو الحركات، أو الاستعارات، وإنما تبحث عنه في التأليف الجامع وما انطوى عليه. لكن هذه النظرة الشاملة التي تجلت عند عبد القاهر لم تنتشر بعد عصره، بل قامت دراسات تبحث عن أسرار الإعجاز في موضوعات تفصيلية نجد من أمثلتها ما تضمنه كتاب البرهان للزركشي من أبحاث في أساليب القرآن وفنونه البليغة، وأقسام التأكيد، والصفة، والبدل، وعطف البيان، وذكر الخاص بعد العام، وذكر العام بعد الخاص، وعطف أحد المترادفين على الآخر، والإيضاح بعد الإبهام، إلى غير ذلك من أبحاث تفصيلية تعد بالمئات. والجدير بالذكر أن دراسة الإعجاز على هذه الصورة كان لها أعمق الأثر في تطوير الدراسات البلاغية. 9 - ظهر عند بعض المتأخرين ميل إلى أن إعجاز القرآن يرجع الى كل الوجوه التي سبق لنا بيانها. فجميع الآراء التي ذكرناها من فصاحة وبلاغة، وإنباء بالغيب، وإخبار عن الأمم السالفة، وما تضمنه القرآن من الشرائع والأحكام، كل أولئك من أسرار إعجازه. وممن ذهب إلى ذلك من المعاصرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «مصادر الفقه الاسلامي» حيث عزا الإعجاز إلى بلاغة القرآن، وإخباره بأحوال القرون السابقة، وما جاء فيه من إخبار عن أمور مستقبلة وقعت كما أخبر الله سبحانه، ثم ما اشتمل عليه القرآن من حقائق ما كان يمكن أن تكون لأمي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك ما تضمنه كتاب الله من أحكام هي الشريعة القرآنية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مصادر الفقه الإسلامي، ص 16 - 25.

ولا تزال محاولات البحث عن أسرار الإعجاز مستمرة حتى زماننا هذا. وقد سعى البعض إلى نسبة الإعجاز إلى ما في لغة القرآن من موسيقى كما نسب البعض أسرار الإعجاز إلى التصوير البياني. وكلها أبحاث تتصل بمفهومات حديثة للنقد الأدبي، ولا نستطيع أن نقول إنها تفي بالكشف عن سر الإعجاز على وجه مكتمل. والى جانب هذا هناك أبحاث تسعى إلى اثبات الإعجاز بما يكشف عنه البحث الحديث من حقائق علمية، وردت إشارات إليها في القرآن الكريم. وتنشر من حين الى حين كتابات تتناول موقف القرآن الكريم مما يتكشف عنه العلم الحديث من حقائق ونظريات. وهذا اتجاه يجب تناوله بحذر. فما كل نظرية علمية تقال اليوم تثبت صحتها بصورة قاطعة. ومن هنا كانت محاولات الربط الوثيق بين العلم الحديث وبين القرآن الكريم من الأمور التي ينبغي الخوض فيها بحذر، يقي من الافتتان بكل ما يساق باسم العلم من آراء ونظريات، قد لا يكون العلم قد وصل فيها الى مرحلة اليقين، ومع ذلك يوجد من المسلمين من يسارع إلى إلصاقها بالقرآن الكريم، وحمل بعض آياته على القول بها.

- 17 - التفسير والمفسرون

- 17 - التفسير والمفسرون تفسير القرآن هو الكلام في شرح نصوصه بما يبين عن معانيه. لكن هذا التعريف الموجز يحتاج إلى كثير من الشرح والتحليل. إن شرح أيّ نص أدبي يكون له مستوى معقول من الإبداع أمر يكتنفه كثير من الصعوبات. فهناك الفهم اللغوي للنص، وهناك بعد ذلك ما يعنيه النص، وما يوحي به أو يرمز إليه. ومن أجل هذا نجد شرح النصوص الأدبية، كثيرا ما ينبثق عن ألوان مختلفة من الفهم لتلك النصوص. وأمامنا شراح دواوين كبار الشعراء، ومنهم من كان لديوانه أكثر من شراح، ففي الشروح نرى كيف اختلفت نظرة الشراح إلى النص الواحد، وبخاصة إذا أشارت ألفاظه إلى ألوان مختلفة من المعاني. إن التعبيرات الأدبية لا تكون واضحة المعنى بمجرد النظرة الأولى إليها. فالأدباء لا يعبرون عن موضوعات الحياة بذات اللغة التي يعبّر بها العلماء. إن اهتمام العلماء يكون بنقل المضمون إلى السامع بأبسط ألوان التعبير اللغوي. فالحقائق وحدها هي الهدف المقصود في التعبير العلمي، أما التعبير الأدبي فجمال العبارة، وروعة الصور البيانية مقصودة بجانب ما ينطوي عليه النص الأدبي من مضمون. ولسنا هنا نفرق بين اللفظ والمعنى، أو بين العبارة ومضمونها، لكنا ننبه إلى ضروب

التعبير في كل من العلم والأدب، وما يشيع في كل منهما من خصائص، تجعل تناولنا لنص أدبي مختلفا كل الاختلاف عن تناولنا لنص علمي. وإذا جئنا إلى تفسير القرآن الكريم فالأمر هنا أخطر وأشق من تفسير نصوص الأدب. هنا نقف أمام كتاب منزل ينطوي على ألوان مختلفة من المعارف التي أراد الله لعباده أن يتلقوها على يد رسوله. 1 - في القرآن أحكام شرعية. وكثير من هذه الأحكام وردت مجملة في نص الكتاب الكريم. ولا سبيل إلى استيضاح معناها إلا بالرجوع إلى السنة النبوية، فهنا نجد أن أحكام الشريعة لا بد من الرجوع إلى قول الرسول فيها، حتى يتم استيضاح معانيها والإحاطة بكافة تفصيلاتها، على الوجه الأكمل. فيمكننا هنا أن نقول إن تفسير أحكام الشريعة لا بد لنا فيه من الأخذ عن الرسول، وتحري النقل الصحيح عنه وعن صحابته. 2 - وفي القرآن آيات تنبئ عن مغيبات. من هذه مثلا قيام الساعة، وكيف يتم ذلك، وبعض تفصيلات عن هذا الموقف، وطبيعة الحساب ومواقفه، وغير ذلك، من الأمور الغيبية التي يتحدث عنها القرآن الكريم، ولم يكن حديثه عن الكثير منها سوى مجرد ذكر لها، أو إشارة مجملة إليها لا تنطوي على تفصيلات وشروح لمن أراد لذلك تفصيلا وشرحا. هذه الأمور لا يستطيع أحد أن يقول فيها برأي. والرسول ذاته قد توقف عن تفسيرها. فموقف المفسر بالنسبة لها يجب أن يكون موقف المصدق لما أخبر به القرآن من غيبيات لا سبيل إلى استيضاحها بتفصيل الإجابة عما عساه ينشأ حولها من تساؤلات. 3 - وفي القرآن آيات متشابهات، تعبر عن موضوعات يمكن الحديث فيها بنوع من التأويل. فهناك الآيات الكثيرة التي ورد بها ذكر يد الله أو وجهه أو استواؤه أو مجيئه. هذه الآيات- كما سبق أن ذكرنا في حديثنا عن المحكم والمتشابه- قد قوبلت بموقفين متعارضين من المسلمين. فبعض الأتقياء من السلف

الصالح قد رفضوا تفسيرها أو القول فيها برأي من الآراء. أما أتباع النظر العقلي من المعتزلة ومن تبعهم فقد أولوها، وكان موقفهم منها أن القرآن الكريم خاطب العرب بلغتهم، وأن على الإنسان أن يجتهد رأيه في تفسير مثل هذه الآيات، محاولا العلم بمعناها والإحاطة بمضمونها. 4 - وفي القرآن الكريم آيات يفهمها العربي العالم بأصول اللغة العربية وقواعدها، المحيط بأساليبها البيانية، الذي أوتي إلى جانب العلم باللغة والبلاغة ذوقا أدبيا رفيعا، وكان على معرفة بأقوال السلف في تفسير القرآن، وهذه الآيات تكون واضحة الدلالة إلى حد بعيد عند من اتصف بمثل هذه الصفات، وتحلى بهذا اللون من المعارف. 5 - وفي القرآن آيات تتحدث عن الأمم الغابرة ومن بعث إليها من الرسل، وتروي قصص هؤلاء الناس، وكيف كان منهم المكذبون، كما أن القرآن تضمن آيات عن خلق الكون وقصة آدم، وكثير من القصص لم يفصل الأحداث، فكان أن سأل العرب أهل الكتاب عما يعرفونه عن هذه القصص، وأمدهم هؤلاء بتفصيلات وقصص كان بعضها مستقى من العهد القديم أو من التلمود أو غيره من كتبهم، وأخذها بعض المفسرين وجعلوها قسما من تفسيرهم للقرآن. وقد عرفت هذه المادة المستقاة من أهل الكتاب بالإسرائيليات. ومثل هذه الإسرائيليات غريبة على النص القرآني ولا يجوز أن يقبل منها إلا ما كان متفقا تمام الاتفاق مع آيات القرآن الكريم. أما ما زاد على ما في هذه الآيات فلا يجوز قبوله، واعتباره جزءا من تفسير القرآن. 6 - بعد الحديث عن تنوع آيات القرآن من حيث مضمونها، نأتي بعد ذلك إلى الأسلوب القرآني. ففي القرآن آيات تعبر عن المعاني بأسلوب صريح قاطع، ولا تحتمل في تفسيرها أكثر من معنى، ومنه آيات تحتمل الكثير من المعاني، وتقبل تأويلات متعددة. كما أن من المفسرين من كان لا يقبل من التفسير إلا التفسير المروي عن الرسول أو الصحابة.

وكان منهم من رأى الاجتهاد في فهم نصوص القرآن بعد التسلح بأدوات الاجتهاد، وكان منهم من رأى أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وجاء لكل آية بتفسير لا يرتبط بلفظ الآية إلا عن طريق التأويل، وسنفصل القول في هذه الأمور على أساس ما وصلنا من آراء علماء التفسير القدامى والمحدثين. يقسم الطبري آيات القرآن من حيث قابليتها للتأويل إلى ثلاثة أنواع: 1 - ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره- واجبه وندبه وإرشاده- وصنوف نهيه ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض (أي ما يكون من علاقات تجب مراعاتها بين الناس)، وما أشبه ذلك من أحكام آياته التي لم يدرك علمها إلا ببيان الرسول لأمته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان الرسول لتأويله، بنص منه عليه أو بدلالة قد نصبها، دالة أمته على تأويله. 2 - ما لا يعلم تأويله إلا الله، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه. من ذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. (الأعراف: 187) وكان النبي إذا ذكر شيئا من ذلك، لم يدل عليه إلا باشراطه دون تحديده بوقته.

3 - ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة: 11، 12). لم يجهل أن معنى الإفساد ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح ما ينبغي فعله مما هو فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا. فالذي يعلمه ذو اللسان- الذي بلسانه نزل القرآن- من تأويل القرآن هو ما وصفت: من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة، غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة. (¬1) يلاحظ أن الطبري هنا يستخدم كلمة «التأويل» بمعنى التفسير. وشبيه بما قاله الطبري هذا ما روي عن ابن عباس من قوله: «التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله». (¬2) فالتفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته هو معرفة الأحكام من واجبات ومحرمات. وأما التفسير الذي يعلمه العلماء فهو تفسير الآيات المتشابهات، في حين أن التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما كان مرتبطا بأمور مضمرة في الغيب، لا سبيل إلى معرفتها. ¬

_ (¬1) الطبرى، تفسير، ج 1، ص 74، 75. (¬2) المصدر السابق.

التفسير المأثور:

وقد روي عن الصحابة تعلم التفسير منذ عهد الرسول. فهناك أقوال تنسب إلى عدد منهم. نذكر منها ما يروى عن ابن مسعود أنه قال: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن». (¬1) كما روي عن ابن مسعود أيضا أنه قال: «والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا وأعلم فيم نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله متى تناله المطايا لأتيته». (¬2). ولقد روي الكثير من تفسير القرآن عن عدد من الصحابة منهم عبد الله بن عباس الذي برع في تفسير القرآن، كذلك روي التفسير عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغير هؤلاء. كذلك روي التفسير عن عدد كبير من التابعين، وقد قسم هؤلاء بحسب الموطن إلى طبقات منهم طبقة أهل مكة وطبقة أهل المدينة وطبقة أهل العراق. فمن أهل مكة مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير. وكان أهل مكة أعلم الناس بالتفسير لتعلمهم من ابن عباس. التفسير المأثور: لقد نشأ التفسير على أساس ما كان يروى من مأثورات عن الصحابة والتابعين. كان التفسير يروى كما تروى الأحاديث النبوية. وكان يشغل في كتب الحديث أبوابا، ويخضع لما تخضع له نصوص الأحاديث من تمحيص الرواية وتحقيق السند. ولقد بقي كذلك زمنا طويلا، وتجمعت رواياته في تفسير الطبري أوسع التفسيرات رواية للمأثورات. ويحدثنا ابن خلدون عن نشأة التفسير وتطوره من تفسير أثري إلى تفسير بالدراية فيقول: «فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا يفهمونه، ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 80. (¬2) المصدر السابق.

ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان الرسول يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات، ومقتضى الحال منها ... ونقل ذلك عن الصحابة وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم، ولم يزل متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي، والثعالبي، وأمثال هؤلاء من المفسرين ... ثم صارت علوم اللسان صناعية: من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب، والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك، وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم ... (¬1)» فالتفسير في الأصل تفسير أثري يستند إلى الرواية عن الصحابة والتابعين. لكن التفسير تطور فيما بعد- حين دونت علوم اللغة والبلاغة- ووجد إلى جانب التفسير الأثري تفسير قام على الدراية. ومع ذلك، فمثل هذا التفسير لم يخلص من أثر التفسير الأثري، بل بقيت للروايات الصحيحة آثارها في توجيه الفهم، وإيضاح النص. لكن التفسير الأثري حوى كثيرا من الروايات التي يتطرق إليها الشك، وجمع عن أهل الكتاب روايات لا ترتبط بنص القرآن الكريم، وتعرف هذه بالإسرائيليات. يقول ابن خلدون عن كتب التفسير الأثري إنها «تشتمل على الغث والثمين، والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون، ص 366، طبعة بولاق.

مصادر التفسير المأثور:

ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك الا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ... وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام (¬1)». مصادر التفسير المأثور: 1 - ما ينقل من ذلك عن الرسول ، وكثير من هذا موضوع ضعيف السند، ولهذا يجب أن يؤخذ بحذر. وكان ابن حنبل ممن شك في التفسير المروي بوجه عام فقال: «ثلاث كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير». (¬2) 2 - ما يروى عن صحابي. وقد عرف عن بعض الصحابة تفسير القرآن. ومن أهم من روي عنهم عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص. ويجب التحقق من صحة السند في النقل عن هؤلاء. وكثير مما نقل عنهم مدسوس عليهم. 3 - ما يروى عن التابعين ، وكتب التفسير حافلة بالرواية عن هؤلاء. لكن ليس كل ما ينقل عنهم مما يجب قبوله، فهناك روايات كثيرة عن التابعين لا نستطيع أن نقبلها لأنها بعيدة عن تفسير النص، أو تقحم عليه مادة غريبة لا تكاد تتصل به، كما هو الشأن بالنسبة للإسرائيليات التي تقص تفصيلات لا صلة لها بنص القرآن. ابن عباس والتفسير المأثور: يقول السيوطي في الإتقان: «ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص 368. (¬2) الزركشي: البرهان، ج 2، ص 156.

كتب التفسير التي جمعت مأثور الروايات:

كثرة بروايات وطرق مختلفة، فمن جيّدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه» وهناك رواة آخرون يتفاوتون في جودة الرواية عن ابن عباس، ومقدار الثقة التي يمكن أن ينظر بها إلى رواياتهم. ومهما يكن الأمر فإننا- برغم هذه الروايات الكثيرة- لا نكاد نضع ثقتنا الكاملة إلا في قليل منها. ولقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث». كتب التفسير التي جمعت مأثور الروايات: بعد عصر التابعين دونت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين يذكر الزركشي كثيرا منها (¬1). وكثير من هذه التفاسير التي تذكر تعد الآن مفقودة، لكننا لا نزال نملك عددا صالحا من كتب التفسير التي جمعت كل ما ينسب إلى الصحابة والتابعين. يجيء في مقدمتها: تفسير الطبري: صاحب هذا التفسير هو العالم المؤرخ الكبير محمد بن جرير الطبري. (المولود عام 224، والمتوفى عام 310). لقد خلف لنا هذا العالم الجليل أكبر موسوعة في تاريخ العرب والإسلام إبان القرون الثلاثة الأولى من هذا التاريخ. وكانت طريقة الطبري في كتابة التاريخ معتمدة على الأسانيد. فهو يروي الوقائع التاريخية بأسانيدها. وكذلك اعتمد في تفسيره الكبير الذي يشغل ثلاثين جزءا على الروايات المسندة، وقد أجتهد الطبري في تحرير الأسانيد التي ذكرها، وأبان قويّها من ضعيفها ويكاد يكون تفسيره أوسع التفاسير، لكنه مع ذلك لا يخلو من روايات ضعيفة، كما أنه يشتمل على مادة لسنا بحاجة اليها اليوم في فهم القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) البرهان، ج 2، ص 15.

الروايات التي جاء بها في تفسير الرعد:

أذكر من أمثلة ذلك ما رواه من تفسيرات لظواهر الطبيعة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وكثرتها تفسيرات خرافية، لا يحتاج إليها في فهم النصوص القرآنية. وسأذكر لكم هنا بعض ما جاء به من روايات في تفسير الرعد والبرق في قوله تعالى: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. الروايات التي جاء بها في تفسير الرعد: 1 - الرعد ملك يزجر السحاب بصوته. 2 - الرعد ملك من الملائكة يسبح. 3 - الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبح، كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق التي رأيتم. 4 - الرعد ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته. 5 - الرعد ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير. 6 - الرعد اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب، اضطرب السحاب واحتك، فتخرج الصواعق من بينه. 7 - الرعد ملك في السحاب، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل. 8 - الرعد ريح. الروايات التي جاءت في تفسير البرق: 1 - البرق مخاريق (¬1) الملائكة. ¬

_ (¬1) المخاريق جمع مخراق وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به، ويلف فيفزع به، وهو من لعب الصبيان.

تفسير ابن كثير:

2 - البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب. 3 - الرعد الملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد. 4 - هو سوط من نور يزجي به الملك السحاب. 5 - هو ماء. 6 - البرق ملك له أربعة أوجه، وجه إنسان ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع (¬1) بأجنحته فذلك البرق. وهناك روايات أخرى إلى جانب ذلك (¬2). فمثل هذه التفسيرات لمعنى الرعد والبرق ليس لها أساس علمي، وهي لا تفيدنا شيئا في تفسير النص القرآني، الذي يبقى له جماله وإعجازه برغم هذه التفسيرات التي تلصق به. وكما نستطيع استبعاد مثل هذه التأويلات المتصلة بالظواهر الكونية، نستطيع أيضا استبعاد القصص والخرافات والأساطير التي قبسها بعض المفسرين عن أهل الكتاب وغيرهم وملئوا بها كتب التفسير، من غير أن تكون هناك حاجة إليها لفهم النص القرآني. لكننا نبادر فنقول إننا- برغم ما نلقاه من مثل هذه الأمور في تفسير الطبري وغيره من التفسيرات التي تجمع الروايات المأثورة- نجد في تفسير الطبري ألوفا من اللفتات القيمة والتوجيهات الذكية في بيان معاني الآيات. وإلى جانب تفسير الطبري الذي يعتبر أجمع التفسيرات لمأثور الروايات يمكننا أن نذكر التفسيرات الآتية: تفسير ابن كثير: مؤلفه عماد الدين اسماعيل بن الخطيب المعروف بابن كثير. من علماء دمشق، ولد عام 705 هـ وتوفي في عام 774. وهو من أوثق ¬

_ (¬1) المصع الضرب بالسيف أو السوط أو غيرهما. (¬2) انظر تفسير الطبري، ج 1، 338 - 345.

الدر المنثور في التفسير بالمأثور:

التفسيرات التي تجمع الروايات المأثورة وتحقق أسانيدها، وتمحص ما انطوت عليها نصوصها إلى حد بعيد. طبع بالقاهرة في تسعة أجزاء. الدر المنثور في التفسير بالمأثور: ومؤلفه جلال الدين السيوطي صاحب الإتقان في علوم القرآن، المتوفي عام 911 هـ. ونستطيع أن نطلع على نماذج من التفسير المأثور المسند إلى الرسول في خاتمة كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي. ونلحظ أن هناك طعنا في أسانيد كثير من الأحاديث المروية في التفسير. التفسير بالرأي: وردت أحاديث تنهى عن تفسير القرآن بالرأي. فمن ذلك ما روي عن ابن عباس من أن النبي قال: «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ معقدة من النار (¬1)». وقد روي هذا الحديث بصور مختلفة لكن مصدرها واحد. كذلك روي عن أبي بكر أنه قال: «أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم (¬2)». وهذه النصوص لا تمنع الاجتهاد في التفسير إنما تمنع التصدي للتفسير بغير علم. فهناك أمور كثيرة تجب الإحاطة بها قبل محاولة تفسير القرآن، ومن هذه الأمور معرفة ما أثر عن الرسول من بيان لمعنى الآيات، وبخاصة آيات الأحكام التي لا سبيل إلى معرفتها على الوجه الأكمل بدون الإحاطة بكل ما ارتبط بها من بيانات الرسول. يضاف إلى ذلك أن من الآيات ما لا يجوز الإفتاء برأي في معناه، وإنما يجب الاكتفاء بما ورد عنه من أخبار في نص القرآن، إذ قد يكون بعض ذلك مما استأثر الله بعلمه كموعد قيام الساعة، أو مما لم يرد له ذكر من أمور لا أهمية لها كلون كلب أصحاب الكهف أو نوع الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح وما الى ذلك. ¬

_ (¬1) الطبري، تفسير، ج 1 ص 77. (¬2) المصدر السابق.

إن تفسير القرآن وإيضاح معانيه واجب على علماء الأمة الإسلامية، فالقرآن نزل بلسان عربي، وخاطب أمة تفهم هذا اللسان. ولو نزل بلغة غير مفهومة لما كان هناك وجه لنزوله. يضاف إلى ذلك أن الله دعا الناس إلى تفهم آياته وتدبر معانيها. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. (النحل: 44) وقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ. (ص: 29) وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (القمر: 17، 22، 32). وقال: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر: 27، 28)

الفكر الاسلامي وتطور التفسير بالرأي:

وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (محمد: 24) فكل هذه الآيات تدعو الناس إلى تدبر آيات القرآن وتفهمها، وتحثهم على الاهتداء بما جاء فيها. ولا يتسنى القيام بهذا لو كان القرآن لا يقبل التفسير، أو يمنع اجتهاد المجتهدين في تفهم آياته، وإيضاح معانيها. من هنا كانت الأحاديث والروايات التي تمنع الإفتاء بالرأي- إن صحت- لا تعني منع الاجتهاد في تفسير القرآن، وإنما تعني منع الخوض في تفسير كتاب الله بغير علم ولا أهلية لمثل ذلك العمل. الفكر الاسلامي وتطور التفسير بالرأي: إن حياة المجتمع الإسلامي بعد الصدر الأول أخذت تتعقد من نواح متعددة. بعضها سياسي، وبعضها اجتماعي، وبعضها فكري. وكان من الطبيعي أن المجتمع الذي تطور على هذه الصورة تتغير مناهجه في دراسة العلوم، وتتباين سبلها. وكان للتفسير القرآني حظه من تطور الأسلوب، وتعدد المناهج. لقد انقسم المسلمون إلى أحزاب سياسية في أعقاب الحرب الأهلية التي جرت بين علي ومعاوية. وتمخضت هذه الحرب عن أحزاب أربعة رئيسية هي الشيعة والخوارج والمرجئة والموالون للحكم الأموي. وكان كل حزب من هذه الأحزاب يلتمس في القرآن تأييدا لرأيه، فكان أن فسر القرآن تفسيرات حزبية في بعض الأحيان. ولعل بعض هذه التفسيرات قد وضع بنية حسنة، يعتقد أصحابها بإخلاص أن حزبهم هو الحزب المهتدي إلى نهج الصواب. ولعل بعضها قد وضع بنية سيئة، تغلّب المصلحة الحزبية على الإخلاص الكامل للعقيدة. ويمكننا أن نلمس ألوانا من هذه التفسيرات الحزبية فيما ذهب إليه الخوارج في

معارضتهم للإمام علي. فهم قد اعتبروا المحاربين من جيش معاوية مشركين، لخروجهم على الخليفة الشرعي، وتمزيق شمل الجماعة الإسلامية. وتطرقوا من ذلك إلى أن عدّوا مهادنة على لمعاوية أيام اتفاق التحكيم مهادنة المشركين، وخروجا من عهد الإمامة. لقد استشهدوا بسورة براءة التي حرمت معاهدة المشركين، ورفضوا فكرة التحكيم لأنها توقف القتال، في حين أن هذه السورة توجب قتال المشركين حتى يثوبوا إلى أمر الله. وكانت نسبة الشرك إلى معاوية وأنصاره مقدمة أدت إلى مثل هذا التفكير. وكذلك كان القول بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار مدعاة إلى تفسير القرآن بما يؤيد هذا الرأي. والتمس الشيعة في القرآن ما يؤيد أهل البيت. وفسروا قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الأحزاب: 33) على أنه يعني عصمة الأئمة من آل البيت. وظهرت آراء المعتزلة، وكانت مبادئهم الخمسة المشهورة ومنها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين. وفكرة التوحيد عند المعتزلة اقتضت نفي الصفات، سواء منها صفات الذات أو صفات الفعل. والتمسوا لآرائهم تلك تأييدا في آيات القرآن. كما أدى قولهم هذا إلى نفي قدرة البشر على رؤية الله بالأبصار. وتكلموا في ذلك. فكان قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (الأنعام: 103) عندهم دليلا على أن البشر لا سبيل لهم إلى مشاهدة الخالق، فالعين الحسية محدودة، والله لا يحده مكان. وتأولوا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (القيامة: 22)

فقالوا إن المقصود أن هذه الوجوه ناظرة إلى ثواب ربها. ويتصدى لهم أهل السنة، خصومهم في العقائد، فيقولون إن خير ما يطمح إليه المؤمنون من ثواب يوم القيامة هو رؤية الله. فالرؤية في الآخرة متحققة. وعيون الناس لن تكون محدودة القدرة كعيون الحس في هذه الدنيا. أما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فيقولون إن هذا مقصور على الدنيا، فالرؤية ممتنعة في الدنيا لا في الآخرة. ونظرية العدل الإلهي عند المعتزلة أدت إلى قولهم بخلق الإنسان لأعماله. والتمسوا تأييدا لرأيهم في مثل قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. (الكهف: 29) وكان رأيهم أن التكليف يقتضي حرية الإرادة، وأن الحساب يستلزم حرية الفعل عند الإنسان. أما أهل السنة فارتئوا أن الله خالق كل شيء، وهو خالق الإنسان وما يعمل. ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ فكل أعمال العباد مخلوقة لله. وحين يجيبهم المعتزلة بأن هذا يتنافى مع العدل، ويصبح تكليف الله من قبيل التكليف بما لا يطاق، يكون ردّ أهل السنة أن الله قد يكلف بما لا يطاق. ولولا ذلك لما كان قوله تعالى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وهكذا أدى دخول الفلسفة ميدان دراسة العقائد إلى دخول هذه الأبحاث في تفسير القرآن. وكان أن ظهرت التفاسير التي تؤيد عقائد أهل السنة وتلك التي تؤيد عقائد المعتزلة، والشيعة. واصطبغت بعض التفاسير بالاتجاه الفلسفي، ومناقشة كل موضوع بأسلوب منطقي. فمثل قوله تعالى:

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لا يقبل على ظاهره. بل يتوقف الفخر الرازي عند هذه الآية ويؤول معنى قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ حيث أن الله لا يمكن مخادعته. يقول: «لا بد من التأويل وهو من وجهين: (الأول) أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسوله على عادته في تفخيم أمره وتعظيم شأنه. قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وقال في عكسه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه. فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى. (الثاني) إن يقال: صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع المخادع وكذلك، صورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم». ولقد ظهر التصوف الإسلامي، فكان له في تفسير القرآن شأن آخر، إن الصوفية لا يقفون من نصوص القرآن عند معانيها الظاهرة، بل يغوصون وراء الظاهر بحثا عن معان باطنة. وربما جاءوا في ذلك بلفتات قيمة في تفسير القرآن. لكن هذا الأسلوب كثيرا ما قادهم إلى الإتيان ببعض التأويلات البعيدة عن النص. ومن الصوفية من كانوا قريبين من أهل السنة، واكتفوا من التصوف بمجرد السلوك.

تفسير قوله تعالى:

ومنهم من كان تصوفهم منهجا فكريا قد مزج الإسلام وعقائده ببعض المذاهب الإشراقية كالأفلاطونية المحدثة. ومن أهم كتب التفسير الصوفي تفسير ابن سهل التستري وتفسير القشيري وتفسير ابن عربي. فأما تفسير القشيري فهو تفسير صوفي لا يبعد كثيرا عن تفسيرات أهل السنة، وإن استخدم المصطلحات الصوفية كالمقامات والأحوال والشهود والحجاب وما إلى ذلك. أما تفسير ابن عربي فيمثل التفسير الصوفي في مرحلة متأخرة من تاريخ التصوف. فمن المعروف أن ابن عربي صاحب فلسفة صوفية تختلف عن مذاهب الصوفية القدماء. وينسب اليه القول بوحدة الوجود وغير ذلك من المذاهب ذات الطابع الفلسفي، التي يقال إن التصوف قد اكتسبها من تأثره بفلسفات قديمة. وسنمثل هنا بنص مقتبس من تفسير القشيري المعروف بلطائف الإشارات الذي تم تأليفه عام 434 هـ، وذلك لبيان منهج التفسير الصوفي في صورة قديمة. ثم نأتي بعد ذلك بمثال مقتبس من تفسير ابن عربي الذي وضع بعد ذلك بنحو قرنين من الزمن. تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ القشيري: يقول القشيري في تفسير هذه الآية: «من كان في غطاء وصفه محجوبا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعي الغفلة أميل، وفي الإصغاء إليها أرغب. كيف لا وهو بكيّ الفرقة موسوم، وفي سجن الغيبة محبوس وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس من الحق أمان ... ويقال إن الكافر لا يرعوي عن ضلالته لما سبق من شقاوته، وكذلك المربوط

بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده ولا يسلك قصده. ويقال إن الذي بقي في ظلمات رعونته، سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المبطلين، لأن الله تعالى نزع عن أحواله بركات الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول ولا يصغي إلى داعي الرشاد». أما ابن عربي فيقدم لنا التأويل بصورة واضحة في تفسيره لقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. (البقرة: 19). يقول: «ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي، ووصول أمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر، والظلمات هي الصفات النفسانية، والشكوك الخيالية والوهمية والوساوس الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهي والوعيد القهري لوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوفهم فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبيهات الروحية عند سماع الرعد وتذكير الآلاء والنعماء، مما يطمعهم ويرجيهم، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة. ومعنى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) يتشاغلون عن الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد لكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن اللذات الطبيعية بهموم الآخرة إذ الانقطاع عن الذات الحسية هو موتهم، والله قادر عليهم قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي، قدرة المحيط بالشيء الذي لا يفوته منه، فلا فائدة لحذرهم».

هذان مثالان للتفسير الصوفي أردت أن أقدم فيهما لونا من التفسير القرآني عند هؤلاء المفكرين المسلمين الذين ذهبوا إلى أن آيات القرآن لها معان ظاهرة، وأخرى باطنة تشير الآيات إليها. وقد أعلن هؤلاء إيمانهم بالظاهر والباطن، فهم من هذه الناحية يختلفون عن فرق الباطنية التي تنصرف عن ظاهر النص وتكتفي بتأويل القرآن، مكتفية بما تدعي أنها المعاني الباطنية. وهؤلاء هم الذين حمل عليهم الغزالي في كتابه فضائح الباطنية. وقد نقل السيوطي عن ابن عطاء الله السكندري رأيه في تفسير الصوفية، وفيه يقول: «اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان. ولهم إفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه. وقد جاء في الحديث: (لكل آية ظهر وبطن). فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله، فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا. وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله ما ألهمهم». والواقع أن للصوفية لفتات جيدة في فهم كثير من نصوص القرآن. وما داموا يقرون بالمعاني الظاهرة للآيات، ويؤمنون بها، فلا خوف من تأويلاتهم التي لا تتعارض مع مضمون آيات القرآن. ويعتبر تفسير الكشاف للزمخشري مثالا لتفسيرات المعتزلة. لقد عني صاحب الكشاف بمسائل البلاغة في تفسيره. كذلك جاء تفسيره سهل العبارة، خاليا من الحشو. لكن الزمخشري يعنى في تفسيره بشرح عقائد المعتزلة، ويحاول تأييدها بشتى الأدلة.

مثال من تفسير الكشاف:

مثال من تفسير الكشاف: سأختار هنا مثالا من سورة البقرة، قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ يقول الزمخشري في تفسير الآية: «إن قلت: لم أسند الختم إلى الله تعالى، وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه، وهو قبيح، والله يتعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا ... وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها، وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم، وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم. ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ختم الله على قلوبهم مثلا كقولهم: سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه، ولا في طول غيبته، وإنما هو تمثيل، مثّلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي غيبته بحال من طارت به العنقاء. فكذلك مثّلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها». فالزمخشري هنا يفسر الآية بطريقة تجعل الكفار مسئولين عن ضلالهم، وأن الكفر كان من فعلهم لا من فعل الله. وهذا الرأي ينافي رأي أهل السنة، الذين

ذهبوا في تفسير الآية إلى أن الله ختم على قلوبهم، لأن الله خالق كل شيء، وهؤلاء الكفار قد كتب عليهم الهلاك منذ الأزل. وحين جاء العصر الحديث وظهرت مخترعات العلم، وتحقق للإنسانية هذا التقدم التقني الذي كان وليد المخترعات الحديثة، ظهرت نزعة عند بعض المفسرين المحدثين لتضمين التفسير القرآني كل ما جاء به العلم الحديث من حقائق، وما حققه من تقدم تقني. وأشهر من سلك هذا المنهج هو الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره المفصّل القرآن الكريم. ونحن نلحظ كيف أنه يزج بنظريات العلوم زجا في تفسير القرآن بصورة لا نجد لها كبير جدوى. فإذا فسر آية مثل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ نجد أنه يسرف في الحديث عن السماء والأثير ويعدد كواكب السماء وأبعادها عن الأرض وهكذا. فماذا يحدث لو بطلت هذه المعلومات التي ذكرها. إن الطبري ذكر ما كان سائدا في عصور التفسير الأولي عن البرق والرعد، والنتيجة كانت كما رأينا. وكثير من المعلومات التي ذكرها الجوهري كانت سائدة في زمن هذا المؤلف وهو الربع الأول من هذا القرن، لكنها لم تعد الآن سائدة بعد ما حققه العلم في السنوات الأخيرة، إذ نجح الإنسان في ارتياد الفضاء الخارجي والوصول إلى كوكب القمر، وعرف من الحقائق ما لم يكن معروفا في زمن الشيخ الجوهري. من هنا نقول إن الزج بالقضايا العلمية والتقنية أمر لا يستلزمه فهم الكتاب الكريم، كما أنه لا يقدم لنا عونا حقيقيا في النفاذ إلى أسراره. وهناك تفسيرات حديثة أخرى لم تسلك هذا السبيل إلا بقدر محدود، منها تفسير المنار للشيخ رشيد رضا، وتفسير المراغي وغيرهما. وقد دعا المرحوم الأستاذ أمين الخولي إلى تفسير القرآن بالقرآن، أي أن يوضع

تفسير يقوم على أن القرآن يفسر بعضه بعضا. فكل لفظة من ألفاظ القرآن يجب أن تفهم على ضوء استعمالاتها في مختلف المواضع التي وردت فيها، وبهذا نستطيع وضع معجم قرآني يكون أساسا للتفسير الصحيح. ولم يترك الخولي عملا كاملا في التفسير، لكنه وضع منهجا، لخصه في مادة «تفسير» التي كتبها للنسخة المعربة لدائرة المعارف الاسلامية. وتسير السيدة عائشة عبد الرحمن (ابنة الشاطئ) على نهج الأستاذ الخولي فيما تنشره من أبحاث في تفسير القرآن بعنوان «التفسير البياني». والخلاصة التي نصل إليها من هذا البحث أن القرآن الكريم قد فسر منذ أوائل عصور الإسلام، وأن التفسير قد تطور بتطور المجتمع الإسلامي، والثقافة الإسلامية. وكان كثير من المفسرين يتأثر في منهجه التفسيري بثقافته اللغوية أو البلاغية أو المذهبية أو الفلسفية. وكل كتب التفسير تعتبر مجموعة متكاملة في بيان معاني القرآن الكريم. ولا يزال مجال العمل منفسحا أمام تفسير جديد يجمع إلى مزايا التفسيرات القديمة مزية الوضوح والشمول، والدقة، مع الإفادة من أحدث ما ابتكر من أساليب في شرح النصوص وتحليلها.

القسم الثاني نصوص قرآنية (آيات من سورة البقرة) تفسير ودراسة للدكتور محمد عبد السلام كفافي

القسم الثاني نصوص قرآنيّة (آيات من سورة البقرة) تفسير ودراسة للدكتور محمد عبد السلام كفافي

آيات من سورة البقرة

آيات من سورة البقرة بسم الله الرحمن الرحيم 1 - الم ألف لام ميم، لقد افتتحت بعض سور القرآن- كما مر بك- ببعض الحروف الهجائية. وقد ذكرنا أنه قد وردت تفسيرات متعددة لمعنى هذه الأحرف، منها أنها كانت أسماء للسور، ومنها أنها كانت لجذب انتباه المستمعين لسماع ما بعدها. كما قيل في تفسيرها أيضا إنها كانت لتنبيه المستمعين إلى أن هذا القرآن المعجز صيغ من هذه الأحرف التي كان العرب يعرفونها. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الأحرف من الأسرار التي لم يدرك معناها. 2 - ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ الكتاب المشار إليه هنا هو القرآن الكريم. وقد كان للمستمعين سابق عهد به، أسبق نزول سور كثيرة منه قبل هذه السورة، فجازت الإشارة إليه بذلك، وهي الإشارة إلى البعيد. لا رَيْبَ فِيهِ

3 - الذين يؤمنون بالغيب

الريب هو الشك. فهذا الكتاب الكريم قد بلغ من الوضوح وصدق الحجة إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي أنه دليل يهدي ومرشد يوجه أهل التقوى. والتقوى هي اتقاء ما حرم الله فعله، وتجنب ما نهى عنه. هي أن يتقي الإنسان بصالح أعماله عذاب الله. وقال بعض المفسرين: التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك. ويفهم من مختلف تفسيرات الكلمة أن التقوى تكون في السلوك وكذلك في الاعتقاد، فمن حسنت أعماله، وصحت عقيدته فهو المتقي. 3 - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي الذين يصدقون تصديقا كاملا، أما الغيب فهو ما أخبر به الله مما غاب علمه عن العقول وشهوده عن الحواس. والإيمان بالغيب يقتضي درجة عالية من الإيمان، لأنه يدل على ثقة الإنسان الكاملة بما يخبره به الخالق، برغم أنه لم يتح له شهود شيء من ذلك الغيب المحجب. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل، بصورة يشترك فيها القلب والوجدان مع حركات الجوارح. فلا جدوى من صلاة يؤديها الإنسان بصورة حسية مجردة من شعور القلب، وإحساس الضمير بمعنى الصلاة، وما تعبر عنه من طاعة الإنسان لخالقه، وإيمانه به إيمانا قائما على المحبة والاقتناع. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ينفقون مما وهبهم الله من الرزق، والرزق هو الحظ والنصيب. وقد اختلف في معنى ما يوصف بأنه رزق، هل هو الرزق الحلال، أم أي كسب

4 - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون

مهما كان مصدره. ويرى المعتزلة أن الرزق هنا يقصد به الرزق الحلال ويحتجون على ذلك بوجوه، منها أن الآية تتضمن مدحا على الإنفاق، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق، ومنها أنه لو جاز أن يكون الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب من مال اغتصبه. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما اغتصب، بل يجب عليه رده، فهذا يدل على أن الحرام لا يكون رزقا. ولسنا بحاجة إلى مثل هذا الجدل حول طبيعة الرزق، فالآية تتحدث عن المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة. وهؤلاء يكونون من أهل الاستقامة الشرفاء، الذين يحصّلون رزقهم من الوجوه المشروعة، فلا داعي للتوقف طويلا للبحث حول ما يصح أن يوصف به مال السارق، لأنه أمر غير وارد في مضمون الآية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الإنفاق هنا يعني الزكاة المفروضة، لكني لا أرى داعيا للتخصيص، بل أوافق المفسرين إلى أن المقصود هو الإنفاق من الرزق الحلال بصفة عامة. وقد يتضمن الإنفاق ما يبذل من مال للصدقة. كما يتضمن الإنفاق على الأهل. 4 - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ هم الذين يؤمنون بالقرآن الكريم، المنزل على محمد صلوات الله عليه، وكذلك يؤمنون بما أنزل على الرسل قبل محمد وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يصدقون تصديقا قاطعا باليوم الآخر، فاليقين هو التصديق الذي لا يشوبه أدنى شك أو ريب. 5 - أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أشار بقوله

6 - إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.

أُولئِكَ إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة، وهم جملة المؤمنين عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي أنهم مهتدون بدين ربهم، وقيل على دلالة وبيان من ربهم، وإنما قال مِنْ رَبِّهِمْ لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى، إما لأنه فعله، وإما لأنه عرض له بالدلالة عليه، والدعاء إليه، والإثابة على فعله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح هو النجاح. فالمؤمنون الذين اتصفوا بكل هذه الصفات المتقدمة تحقق لهم الفلاح، وفازوا برضا الله، فسلوكهم المستقيم في الدنيا واعتقادهم السليم حققا لهم هذه النتيجة. 6 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الكفر في أصله يعني الستر. قال لبيد: «في ليلة كفر النجوم غمامها» أي سترها. والكفر في الدين ستر النعمة وإخفاؤها، كما أن الشكر نشرها وإظهارها. والإنذار إعلام معه تخويف. وقيل هو التحذير من أمر مخوف يتسع الزمان للاحتراز منه. وقد سعى المتكلمون لتحديد معنى الكفر وأطالوا في ذلك. فالكفر عدم تصديق رسول في شيء علم بالضرورة مجيئه به، ومثاله من أنكر وجود الخالق، أو كونه

7 - ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم

عالما مختارا، أو كونه واحدا أو كونه منزها عن النقائص والآفات، وأنكر نبوة محمد أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافرا لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه. (سواء) اسم بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ. فالمعنى أن هؤلاء المصرين على كفرهم من الكفار يستوي لديهم إنذارك لهم وتركك الإنذار، ذلك لأن نفوسهم الجاحدة قد وقفت حائلا دون نفاذ دعوة الحق إلى آذانهم. 7 - خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ الختم والكتم أخوان، لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه. فهذه القلوب المغلقة أصبحت كالمختوم عليها، لا تنفذ إليها هداية. وكذلك الختم على السمع يعني إغلاقه بغطاء كثيف يعوق السمع عن أداء وظيفته. ونسبة الختم إلى الله هنا من المسائل التي قد يختلف فهمها بين المعتزلة وسواهم. فالمعتزلة الذين يقولون إن الإنسان حرّ الإرادة يختار أعماله يرون أن نسبة الختم إلى الله هنا من قبيل المجاز البلاغي. فهم باختيارهم الكفر والضلال، وإصرارهم على ذلك، أصبحوا وكأن قلوبهم قد ختم عليها. يقول الزمخشري: «وأما إسناد الختم إلى الله عز وجلّ فلينبّه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء المخلوق غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم فلان مجبول على كذا ومفطور عليه». أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر (الفخر الرازي). وهذه الآية تتعلق بمشكلة الجبر والاختيار. ومن

الواضح أن فكرة الاختيار تستند إلى أساس واضح هو مسئولية الإنسان عن أعماله التي يحاسب عليها. قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي أن أبصارهم- لفرط جهلهم وإعراضهم- لا تبصر. قال تعالى: وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها وقال: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها. فتعطيل الحواس عند هؤلاء الكفار، مرده إلى عنادهم وميلهم مع الهوى. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ العذاب هو النكال. يقول الزمخشري: الفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير. فكان العظيم فوق الكبير. كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا. تقول: رجل عظيم وكبير، اريد جثته أو خطره. لقد استحق هؤلاء العذاب العظيم، لأنهم عطلوا حواسهم عن الإدراك ولم يتدبروا ما في الوجود من آيات ناطقات بوجود الخالق وقدرته. وحينما دعاهم

8 - ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

داعي الحق أصموا عن دعوته آذانهم، وأغلقوا دونها قلوبهم، فحاق بهم جزاء الكافرين. 8 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. بعد أن تحدثت السورة الكريمة في مفتتحها عن المؤمنين، الذين اتصفوا بأكرم صفات الإيمان. وثبت بالكفار الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، قلوبا والسنة، انتقلت في هذه الآية إلى الحديث عن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا. وهؤلاء يسمون بالمنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله، وأمقتهم عنده، لأنهم خلطوا بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك استهزاء وخداعا، ولذلك أنزل فيهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولقد وصف الذين كفروا في آيتين، أما المنافقون فقد وصف حالهم في ثلاث عشرة آية نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم الأمثال التي تصور حالهم أروع تصوير. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة. يقول الرازي: إنّ المنافق اختص دون الكافر بمزيد أمور منكره (أحدها) أنه قصد التلبيس، والكافر الأصلي ما قصد ذلك، (وثانيها) أن الكافر على طبع الرجال والمنافق على طبع الخنوثة (وثالثها) أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، ولم يرض إلا بالصدق، والمنافق رضي بذلك (ورابعها) أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

9 - يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

9 - يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. الخداع هو الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق سميا بذلك لخفائهما. وقالوا خدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا. أما الخداع الخلقي فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير. وكانت هناك أمور دفعت هؤلاء المنافقين للمخادعة بإظهار الإيمان مع إبطان الكفر. فالمنافقون يمثلون لونا من الأعداء الذين تصدوا للإسلام بعد أن انتقل من مرحلة الضعف إلى القوة. حينما كان المسلمون في مكة، كانوا قلة مستضعفة، ولهذا كان عتاة الكفار من قريش يسخرون بهم ويؤذونهم. ولقد هاجر الرسول الكريم مع المؤمنين من أهل مكة إلى المدينة، وهناك قوي أمر الإسلام إذ وجد من الأنصار مساندة قوية، وأصبح المسلمون هم القوة الغالبة في الموطن الجديد الذي هاجروا إليه. من هنا كان ظهور فئة المنافقين لأسباب متعددة، (أولها) أنهم ظنوا أن النبي والمؤمنين يعظمونهم ويكرمونهم إذا هم أظهروا الإيمان خداعا مع بقائهم على كفرهم (وثانيها) أنهم ربما أرادوا بإظهار الإيمان أن يطلعوا على أسرار النبي والمؤمنين ثم ينقلوها إلى أعدائهم من الكفار. (وثالثها) أنهم دفعوا عن أنفسهم القتال، فالرسول كان يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (ورابعها) أنهم ربما طمعوا بهذا النفاق في الحصول على شيء من أموال الغنائم. وأما معنى مخادعة المنافقين لله، وهو العالم بالأسرار، فقد أولها الفخر الرازي على أن المقصود بها مخادعة النبي. وقد وردت آيات يذكر فيها الله ويكون المقصود النبي، حينما يكون الموقف مقتضيا تعظيم شأن الرسول، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ فالرسول وهو المنفذ لإرادة الله، الداعي إلى دينه، كانت مبايعة المؤمنين له مبايعة لله، وكذلك كانت مخادعته من جانب المنافقين مخادعة لله، لأنها ترمي بالنفاق والرياء إلى إحباط دعوة الحق، ومناصرة الشرك.

10 - في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.

واستعمال صيغة المفاعلة في قوله يخادعون يبين أن خداعهم كان يقابل بمقاومة، فهم لم يخدعوا بل سعوا إلى الخداع. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي أن وبال أمرهم راجع إليهم في الدنيا لأن الله كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم. وَما يَشْعُرُونَ الشعور في اللغة علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر نفاقهم بهم واقع عليهم، كأنه محسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة صاروا كمن لا يحس. وكم من منافق يحسب أن نفاقه يخفى على الناس، وما هو بخاف، لأن شخصية المنافق تكون مضطربة مهتزة، وتتناقض تصرفاته من حيث لا يشعر، لأنه لا يعمل وفق مبدأ، بل تتحكم فيه ظروف علاقاته مع الناس، وما ينبثق عنها من مواقف تظهر كذبه ونفاقه. 10 - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. الأصل في القلب أنه موضع لمعرفة الله وطاعته. فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعا من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضا للقلب. فالكفر والجهل من أمراض القلب، لأنهما يحجبانه عن مشاهدة الحقيقة. وحمل المرض أيضا على الغم لأنهم كانوا يغتمون كلما رأوا ثبات أمر النبي. وقد زادهم الله غما بزيادته الرسول والمؤمنين قوة وثباتا. وربما كان هذا الغم ممزوجا بالغيظ والحقد، لأن نجاح الرسول في أداء رسالته كان يزيدهم حنقا، وكان هذا مرضا قلبيا جلبوه على أنفسهم، وزادهم الله مرضا بإعلائه شأن الإسلام وتدعيم المؤمنين. أما إن

11 - وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون

كان المقصود بالمرض هو الجهل والكفر، فإن الله زادهم جهلا وكفرا لإصرارهم في موقفهم من المؤمنين. والمعتزلة يرفضون حمل المرض هنا على الكفر، لأن ذلك يؤدي إلى القول بأن الله خلق في قلوبهم مزيدا من الكفر، فالزيادة على حد قولهم من جنس المرض. وينفي فعل الله للكفر هنا أنه قال بعد ذلك: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ فهم منافقون كاذبون، مرضت قلوبهم حنقا على المسلمين، وتظاهروا بموالاتهم، فأنذرهم الله بالعذاب الأليم الذي أعده لأمثالهم، جزاء على كفرهم ونفاقهم. فالكذب هنا هو قولهم: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. 11 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من القائل لهم لا تفسدوا في الأرض؟ قال بعض المفسرين: القائل هو الله تعالى لنهيه عن الكفر والفساد. ومن المفسرين من قال هو الرسول عليه السلام. ومنهم من قال: بعض المؤمنين. يقول الرازي: «وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك، ونصحهم، فأجابوا بما يؤكد إيمانهم، وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظا لهم، قائلا لهم لا تفسدوا في الأرض». وبعض هؤلاء المنافقين كان يفتضح أمرهم، فيكذبون الناقلين عنهم ويحلفون على ذلك الأيمان الكاذبة. ولقد وصفهم الله بقوله:

12 - ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ. لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ الفساد ضد الصلاح، وهو خروج الشيء عن كونه منتفعا به. والمراد بالفساد في الارض هنا إظهار معصية الله. فالله قد سن الشرائع لإقرار السلام في الأرض وتحقيق مصلحة الناس. فمن كان كافرا بالشرائع كان داعيا إلى الفساد، لأن ترك الشريعة يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية، ويسمح بوقوع العدوان على الناس، وهذا فساد كبير. وقيل إن المقصود بالفساد هو مساندة الكفار في الخفاء مع إظهار الإيمان، فهم بذلك يزيدون الكفار قوة وعنادا. قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون. ومعنى ذلك أنهم جحدوا فساد فعلهم، وبالغوا في النفاق، فوصفوا سوء عملهم بالصلاح. وهو لون من الإصرار والعناد الذي يتصف به مثلهم من الكفار، وإن حاولوا أن يلبسوا الفساد ثوب الصلاح، كذبا ورياء. وربما كان ادعاؤهم صلاح عملهم أنهم يردون على من ينصحهم بالانحياز الواضح إلى جانب المؤمنين بقولهم: إنهم إنما وقفوا هذا الموقف المذبذب بين الإيمان والكفر ليصلحوا بين الفريقين. 12 - أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ في هذه الآية يكذب الله دعوى المنافقين، ويعلن أنهم هم المفسدون بكفرهم ونفاقهم، لكنهم لا يشعرون لفساد مداركهم، من جراء ميلهم مع الهوى واتباعهم لما توحي لهم به قلوبهم المريضة.

13 - وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون.

13 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. حاج القرآن الكريم المنافقين. ودعاهم إلى ترك الفساد، فأعلنوا أن عملهم؟؟؟ ان دعاهم إلى إيمان شبيه بإيمان الناس. إن كانوا حقا يريدون الصلاح؟؟ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ. يدعوهم لأن يؤمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص، بعيدا عن النفاق، ويقصد بالناس هنا الغالبية العظمى من الناس. فالأوس والخزرج كان أكثرهم مسلمين، أما المنافقون فكانوا قلة بينهم، فأطلق لفظ العموم على الأكثر. وقد تفسر كلمة (النّاس) على وجه آخر، هو أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها، لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي. والدعوة الموجهة إلى المنافقين ليؤمنوا إما أن الرسول هو الذي وجهها إليهم أو المؤمنون. قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان! فالكبر والغرور كانا مانعين لهؤلاء من الإيمان. والسفه هو الخفة، يقال سفهت الريح الشيء إذا حركته. وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه لأنه خفيف لا رزانة له.

14 - وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن

ولقد وصف المنافقون المسلمين بالسفهاء لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرئاسة في الجاهلية، أما المؤمنون فكان أكثرهم من الفقراء، فاستخف هؤلاء الأغنياء الأقوياء بفقراء قومهم، على سابق عادتهم في الجاهلية، ولم يفطنوا إلى أن الإسلام قد قلب أوضاع الجاهلية، وغير قيمها وموازينها. ومن هنا وصف القرآن هؤلاء المنافقين بأنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. فمن سفههم أنهم لم يشعروا بتغير الأوضاع في ظل الدين الجديد. ومن سفههم أنهم أصروا على معاداة الله ورسوله. وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ والعلم هو المقابل للسفه. فهؤلاء هم السفهاء لكنهم لا يعلمون مدى ما هم عليه من السفه. في الآية السابقة قال: (لا يشعرون) حيث كان الموقف هو الإفساد في الأرض، وهم في ذلك سادرون لا يشعرون بعملهم. أما في هذه الآية فقال: لا يَعْلَمُونَ لأن المقام هنا مقام علم وجهل، واهتداء عقلي، وضلال نفسي. 14 - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ صورة جديدة من صور النفاق، تتجلى في إعلان هؤلاء إيمانهم باللسان، ثم عودتهم عن ذلك الإيمان المعلن حين يخلون إلى شياطينهم. والمراد بالشياطين هنا زعماء المنافقين، الذين كانوا إما من أكابر الكفار أو من أكابر المنافقين.

15 - الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أصل (الاستهزاء) من الهزء وهو العدو السريع. يزيد المنافقون شياطينهم تأكيدا لمناصرتهم لهم، بأن الموافقة الظاهرية للمؤمنين ما هي الا استهزاء بهم وسخرية منهم فالاستهزاء يكون بالموافقة الظاهرية مع إضمار السخرية. ومن قبيل الاستهزاء أنهم بإظهار الإيمان يحققون مصالح مادية، فيحصلون على نصيب من الصدقات والغنائم، ويأمنون عادية القتال. ثم هم- في الوقت ذاته- على ما هم عليه من إضمار الكفر. 15 - اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الله يستهزئ بهم يعني أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم. إن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزاء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء. قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وقال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ البقرة: 194) فجزاء السيئة وصف بأنه سيئة مع أن الثانية قصاص والأولى عدوان. كذلك وصف رد العدوان بأنه عدوان وذلك لأن الجزاء من جنس العمل. وما هو قصاص بالنسبة للمقتص هو في الوقت ذاته مصدر ألم للمعتدي الذي ينال الجزاء على جرمه.

وقد يفسر الاستهزاء من جانب الله على أساس أن ضرر استهزاء المنافقين راجع إليهم غير ضار بالمؤمنين، فكأن الله استهزأ بهم ورد كيدهم من حيث لا يعلمون. وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال الزمخشري: «مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مدّ الدواة وأمدها إذا زادها ما يصلحها، ومددت السراج إذا أصلحته بالزيت، ومددت الأرض إذا أصلحتها بالسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمده إذا واصله بالوسواس. وقال البعض: مدّ يستعمل في الشر وأمدّ في الخير. قال تعالى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وقال في النعمة وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ فمعنى قوله: وَيَمُدُّهُمْ أي أنه يزيد صفاتهم الشيطانية بتهيئة موادها وأسبابها التي هي مشتهياتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحرين، فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (والطغيان) هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو. (العمه) مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير، فالمصاب به لا يدري أين يتوجه.

16 - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

وقد فسرت وَيَمُدُّهُمْ بأنه يعني ويمهلهم، لكن يعترض على ذلك بأنه لو كان يعني الإمهال لقال «ونمدّ لهم». 16 - أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. الضلالة هي الخروج عن القصد وفقد الاهتداء، واستعير للذهاب عن الصواب في الدين. واشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه، واستبدالها به. فإن قيل: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ والجواب أنهم جعلوا لتمكنهم من الهدى كأنه في أيديهم، فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به. إن الهدى كان ميسرا لهم، فقد جاءتهم دعوة الحق فأعرضوا عنها. أما قوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فهو مما يقوي أمر المجاز ويحسنه، فلا ربح هنا ولا تجارة، وإنما تستكمل الصورة البيانية بهذه العبارة. لقد حسبوا الضلالة كسبا، فخسروا في هذا الحساب، ولم يقف الأمر عند حرمانهم من الربح، بل إنهم خسروا رأس مالهم وهي عقولهم، فلم تعد هذه العقول قادرة على الاهتداء إلى العقائد الصحيحة، بل أصابها ما جعلها عاجزة عن كسب تلك العقائد. 17 - مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. يتحدث الرازي عن الأمثال في القرآن فيقول: «المقصود من ضرب الأمثال

أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح ... ... ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه أمثاله. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ. مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل تائه في ظلمات البيداء استوقد نارا يهتدي بها، فلما أضاءت ما حوله أطفأها الله. لقد كان هؤلاء المنافقون حيارى يتخبطون، فتظاهروا بالإيمان ليسلموا من القتال ويحققوا المغانم، فكان فعلهم هذا كفعل التائه الذي استوقد نارا، وما كادوا يركنون إلى هذا الوضع الزائف حتى فضحهم الله وكشف أمرهم، وذهب بنورهم الذي استوقدوه- بإظهار الإيمان- وتركهم كما كانوا حيارى في ظلمات جهلهم وضلالهم يتخبطون. أما تشبيه الجماعة بالواحد في هذا المثل فيمكن أن يؤول على وجوه متعددة: (أولها) أن يكون المراد جنس المستوقدين، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا. (وثانيها) أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد، وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومثله قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ ... الإضاءة فرط الإنارة، كما يظهر من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً أما النور فهو ضوء كل نيّر، واشتقاقه من النار.

18 - صم بكم عمي فهم لا يرجعون

18 - صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ هذه الجملة إخبار لمبتدإ محذوف هو ضمير المنافقين. والصمم آفة مانعة من السماع، وأصله الصلابة واكتناز الأجزاء، ومنه الحجر الأصم، والقناة الصماء، وصمام القارورة سدادها. سمى به فقدان حاسة السمع لأن العرب كانوا يعللون فقدان حاسة السمع باكتناز باطن الصماخ وانسداد منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموجه. والبكم الخرس. وقد وصف المنافقون بذلك مع سلامة حواسهم، لأنهم لما سدوا مسامعهم عن الإصغاء لما يتلى عليهم من الآيات، وأبوا أن يتلقوها بالقبول وينطقوا بها ألسنتهم، ولم يجتلوا ما شاهدوا من آيات الله، تلك التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس، صاروا كفاقدي تلك المشاعر. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى أن هؤلاء المنافقين- بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة- لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيعوه، أو لا يرجعون عن الضلالة التي تعلقوا بها. 19 - أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ الصيّب: المطر، أصله صيوب، لكن اجتمعت الواو والياء وأولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة، ومثله سيّد وجيّد. يجعلون: جعل يكون على وجوه: أحدها أن يتعدى إلى مفعولين، نحو جعلت الطين خزفا. وثانيها: أن يأتي بمعنى صنع ويتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله:

وجعل الظلمات والنور. وثالثها: أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد يفعل كذا. والآية تصور حالة الخوف والفزع والقلق التي كان يحياها هؤلاء المنافقون، في موقف كانت تنفعهم فيه الاستقامة لو سلكوا سبيلها. وجميع المفسرين يكادون يجمعون على أن هذه الآية تتضمن تشبيه تمثيل لأحوال المنافقين على النحو التالي: إن المراد من الصيّب هو الإيمان والقرآن. أما الظلمات والرعد والبرق فهي الأمور الشاقة على المنافقين مثل التكاليف من صيام وصلاة، وترك الرئاسات، والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد للنبي مع شدة استنكافهم عن الانقياد له. فكما أن الانسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعا بسبب ما يقترن به من ظلمات ورعد وبرق، فكذا المنافقون يجتنبون الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور التي تقترن بهما. وفي الآية تصوير لهول المطر وما اقترن به من ظلمات متراكمة، وما تخلله من رعد يبث الفزع في النفوس، وبرق يخطف الأبصار ثم يتركهم في ظلمة لا يبصرون، والظلام بعد النور أقسى من الظلمة المستمرة، إذ يترك البصر أكثر عجزا عن اختراق جدار الظلام. وهؤلاء المنافقون يسلكون سلوكا أحمق، يظنون أنه ينجيهم، إذ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، فهذا التصرف لا ينجي، كذلك هم حسبوا أن التظاهر بالإيمان ينجيهم من أخطار الكفر، وما كان ينتظر الكافرين من قتال وموت، ونسوا أن الله محيط بالكافرين. ومعنى أنه محيط بالكافرين يقبل التأويل على وجهين: أحدهما: أنه عالم بهم. وثانيهما أن قدرته مستولية عليهم. وفي قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ

20 - يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، إن الله على كل شيء قدير.

بيان لمدى الرعب الذي أحاط بهم فكانوا يدفعون أصابعهم داخل آذانهم، ظانين أن هذه الآذان قد تتسع لها. ولم يقل يجعلون أناملهم في آذانهم، لأن هذا يكون أقل تصويرا لحالة الرعب التي استشعرتها نفوسهم. أما قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فيعبّر عن قوة المطر الذي أخذ أقطار السماء. ولقد بينا كيف فسر الطبري البرق والرعد بطريقة خرافية تلائم حال المعارف العلمية، قبل أن تشرق شمس النهضة العلمية على العرب. فالطبري قد جمع نقولا عن بعض التابعين في تفسير هاتين الظاهرتين. ونلحظ في تفسير الفخر الرازي تجاوزا لهذه الخرافات وسعيا إلى شيء من التفسير العلمي. فيقول مثلا عن الرعد إنه: الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السماء تضطرب وترتعد إذا أخذتها الريح فيحدث ذلك الارتعاد صوتا. والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقا إذا لمع. أما الصاعقة فهي قصف رعد ينقض معها شعلة من نار، وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه، لكنها مع قوتها سريعة الخمود مثل هذا الشرح الذي قدمه الرازي للظواهر الطبيعية، قد لا يكون متمشيا مع أحدث ما وصل إليه العلم في شرح تلك الظواهر، لكنه أقل إمعانا في الخرافة من روايات الطبري في شرحها. 20 - يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تكمل هذه الآية الصورة التي بدأت في الآية السابقة، والمقصود بهذه الآية

21 - يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون

تمثيل حيرة المنافقين وشدة الأمر عليهم، فهم شبيهون بمن أخذهم المطر الشديد والعواصف القوية، وما يعانيه هؤلاء من شدة التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا لمحة من البرق انتهزوا ظهورها فخطوا خطوات، برغم خوفهم من أن يخطف البرق أبصارهم، فإذا خفي البرق بقوا واقفين، وجمدوا في مكانهم، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد، فأصم آذانهم وفي ضوء البرق فأعماهم. واستعمال «كلما» مع أضاء لأن الموقف هنا يتضمن الحركة، فهم يتحركون مع كل لمعة برق، لكن يختلف عن ذلك الحال حين يعود الظلام، فلا حركة وإنما جمود، ولهذا صور القرآن الكريم هذا بقوله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي وقفوا ثابتين في مكانهم، فليس في هذه العبارة ذلك التصوير للتحفز للحركة كلما حانت الفرصة لذلك بالتماع البرق. والمهم أن الآيتين تعبران بالتصوير البياني عن حيرة المنافقين وفزعهم، فهم في هذه الحيرة شبيهون بمن أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وصواعق. 21 - يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تدخل هذه السورة الكريمة في مرحلة جديدة بهذه الآية. فبعد أن ذكرت تلك الطوائف الثلاث، وهم المؤمنون والكفار والمنافقون، تبدأ هنا إقامة الدليل على التوحيد والنبوة والمعاد. يخاطب الله المكلّفين فيذكرهم بنعمته عليهم إذ أوجدهم بعد أن لم يكونوا شيئا، فهم مدينون له بهذا الوجود، وكذلك تدين له الأجيال السابقة من البشر بوجودها. وما دام الإنسان قد توقف وجوده على إرادة الخالق، فلا أقل من أن يكون في حياته ملتزما بطاعته.

22 - الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون.

والعبادة موافقة الأمر، ويدخل فيها التوحيد بالقلب، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم. ويقال: اعبدوه بالتجرد من المحظورات، والتجلد في أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات بالخشوع والإذعان. وقوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعلّمهم معنى الخوف والرجاء من الله، فالإنسان عليه أن يبذل جهده في الطاعات لعله بذلك يكون من أهل التقوى، ولعله بعد ذلك يفوز بالجزاء الأوفى. 22 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يذكّر الله عباده بأن من موجبات عبادتهم له أيضا أنه رازقهم، فهذه الأرض في رحابتها وتنوع ثمارها، جعلت مقرا لهم. ومن فوقهم هذه السماء تمطرهم بالماء الذي يرويهم وينبت لهم مختلف الثمرات. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً يعني أن الله خلق الأرض ووطأ أكنافها للناس، وجعلهم قادرين على الاستقرار فيها. وَالسَّماءَ بِناءً إن ذلك الفضاء الرحب المحيط بنا، بما فيه من كواكب ونجوم يقف على هذه الصورة كأنه البناء المحكم. ولقد توصل العلم الحديث إلى أن هناك قوانين طبيعية تحكم هذا الوضع المتماسك. فلو اختلت نسب الجاذبية بين أجرام الكون،

23 - وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين

وكانت هذه الأجرام تسير على غير قوانين محكمة، فهل كان هذا البناء يستقر. إن الكون بمختلف أجرامه يقف كالبناء المحكم، وهذا دليل على قدرة الخالق، وعظمة خلقه. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فمن عجائب القدرة ذلك الماء الذي يمتزج بالتربة فيخرج مختلف الثمرات التي ينعم بها الإنسان. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ من جعل لله ندا بعد أن رأى مظاهر قدرته، ودلائل عظمته فقد ضل ضلالا بعيدا، فهنا دعوة إلى إبعاد ما يؤدي إلى الشرك. وربما اتخذ بعض الناس من مخلوقات الدنيا أندادا لله، فقد يستعبد المال بعضهم فينسون خالقهم، وقد يستعبد متسلط أتباعه كأنه خالقهم. والإنسان بما أوتي من قدرة على التمييز قادر على معرفة خالقه، كما أنه يستطيع بالفطرة أن يدرك معنى التوحيد. وهنا يكون الشرك- مع وجود العلم والإدراك- مما يزيد من شناعة هذا الجرم. فالله قد علم الإنسان ما لم يعلم، فوجب عليه أن يعرف خالقه بهذا العلم. 23 - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لما احتج الخالق على الكفار والمشركين بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك، فذكر كيف خلق الناس أحياء قادرين، وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم، وخلق السماء بناء عجيبا، وأنزل منها الماء الذي يحيي الأرض ويخرج الثمرات، وهي كلها أدلة موصلة إلى التوحيد، مبطلة للشرك، لأن شيئا من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد، وما يقرر إعجاز القرآن.

24 - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين

كان المشركون يقولون عن القرآن إنه لو كان من عند الله لم ينزل نجوما، سورة بعد سورة، وآيات في اثر آيات، على حسب النوازل، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر حيث يخطبون أو ينظمون الشعر في المناسبات التي تدعو إليهما، فلو أنزله الله لأنزله جملة. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً هذه الآية ترد على اعتراض المشركين فتقول: إن كنتم في شكّ ممّا أنزل الله على محمد فأتوا بسورة من مثله، تجاريه في بيانه وحكمته وحسن نظمه. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله، فالمعنى: ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله، وزعمتم أنهم أربابكم. وقيل إن الشهداء تعني الأعوان والأنصار، فيكون المعنى حينذاك: وادعوا من يشهدون لكم من دون الله على أنكم قد استطعتم معارضة القرآن. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما زعمتم من قدرتكم على معارضة القرآن. ففي آية أخرى حكى القرآن عن المشركين أنهم قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا. 24 - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ

25 - وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابها، ولهم فيها أزواج مطهرة، وهم فيها خالدون

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يعني فيما مضى. وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تقدروا على ذلك فيما يأتي. فَاتَّقُوا النَّارَ أي اجتنبوا دخول النار بتصديق النبي، وطاعة الله. الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ خصت هذه العبارة الناس إلى جانب الحجارة بأنهم يكونون وقود النار. وفي هذا إشارة للمسئولية الخاصة التي يتحملها الإنسان، بوصفه هو الكائن المكلف من بين المخلوقات. أما كون الحجارة وقودا للنار فدليل على شدة اشتعالها وقوة إحراقها. فهذه النار قد أعدت للكافرين. 25 - وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَهُمْ فِيها خالِدُونَ سنة الله في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، تنشيطا للناس في التزام الطاعات، وتثبيطا لهم عن اقتراف الذنوب، فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، أتبع ذلك بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله:

وَبَشِّرِ والمأمور بقوله وَبَشِّرِ هو الرسول عليه السلام، أو كل أحد من علماء المؤمنين، وفضل التفسير الثاني، لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه، وفخامة شأنه، جدير بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. والبشارة هي الإخبار بما يظهر سرور المخبر به. ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل أبنائك. والصَّالِحاتِ مفردها صالحة، وهي مثل الحسنة في جريها مجرى الاسم. والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة. والجنة هي البستان من النخل والشجر المتكاثف. ومادة جنّ تدور على معنى الستر والاختفاء، ومنها الجنّ والجنون والجنين والجنة والجان والجنان. ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة، مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا المراد أن الأنهار تجري من تحت أشجارها، كما ترى الأشجار النابتة على

26 - إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة. الآية

شواطئ الأنهار الجارية. ففيها ذلك الجمال الذي تألفه كل نفس، وتسعد به كل روح. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ يفسر هذا على وجهين. إما أن هؤلاء رأوا ما رزقوه في الآخرة شبيها بما رزقوه في الدنيا، من حيث المظهر، وإما أنهم يعدون ما ينالونه في الآخرة رزقا وعدوا به في الدنيا لقاء حسن عملهم. وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي أن الثمرات التي رزقوا بها جاءت مشابهة لما عهدوا في مظهرها، وإن اختلفت في حقيقتها. وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أزواج جمع زوج، والمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي ظافرون بنعيم أبديّ لا يزول. 26 - إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ...... الآية لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلا ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله فنزل إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا

أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها. وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم. ولا يجوز على الخالق التغير وخوف الذم، فالذي يصدق على الإنسان ويجوز في حقه، لا يجوز في حق الله. فالإنسان في مقاييسه ينظر باحتقار للحشرات، ويحسب أن نظرته هذه تصدق على الله، خالق كل شيء. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة إذ يسألون: أما يستحي ربّ محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة، وإطباق الجواب على السؤال. (ما) إبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عموما كقولك: «أعطني كتابا ما»، تريد أيّ كتاب. (بعوضة) عطف بيان لمثلا. (فما فوقها) أي فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا، وهو القلة والحقارة، وربما تفسر أيضا بأن ما فوقها هو ما زاد عليها في الحجم، فكأنه بذلك يرد على ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، وهما أكبر منها حجما. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا

(أمّا) حرف فيه معنى الشرط، ولذا يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أنه يعطيه زيادة في التوكيد. تقول زيد ذاهب، فإذا أردت توكيده، وأنه لا محالة ذاهب، قلت: أما زيد فذاهب. ولذا فسرها سيبويه بقوله: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وهذا التفسير يفيد كونه تأكيدا، وأنه في معنى الشرط. وفي إيراد الجملتين مصدرتين به إحماد عظيم لشأن المؤمنين، واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق، ونعي على الكافرين إغفالهم التفكر والتدبر، واندفاعهم بالكلمة الحمقاء. وفرق كبير بين هذا التعبير وبين أن يقول: فالذين آمنوا يعلمون أنه الحق، والذين كفروا يقولون ... و (مثلا) منصوب على التمييز أو على الحال. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً إن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بعين العقل، إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق، أما الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم فهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا، وقابلوه بالإنكار وحكموا عليه بالبطلان، فذلك هو سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الفسق هو الخروج عن القصد. والفاسق في الشريعة هو الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة، وهذا في مذهب أهل السنة. أما في مذهب المعتزلة فهو نازل لين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمن والكافر.

27 - الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون.

27 - الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. النقض الفسخ. والعهد هو الميثاق. والمراد بهؤلاء الناقضين عهد الله أحبار اليهود المتعنتون، أو منافقوهم، أو الكفار بوجه عام. وعهد الله هو الفطرة الطبيعية التي فطر عليها الناس، وما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به الله ووثقه عليهم. وقيل عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الأول أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته، وهو قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (الاعراف: 172) وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين، وهو قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وعهد خص به العلماء، وهو قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والظاهر أن المقصود من الآية أن ناقضي العهد هم الكفار، الذين خرجوا عن الميثاق الذي يربط بين الناس وخالقهم، وهو إيمانهم به، بموجب الفطرة السليمة، والعقل الذي ركزه فيهم. وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ

28 - كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون

وهذا بقطعهم الأرحام، وكذلك بمعاداتهم للمؤمنين. أو ربما كان المقصور قطعهم ما بين الأنبياء من الصلة والاجتماع على الحق، ذلك لأنهم كانوا يؤمنون ببعضهم، ويكفرون بالبعض الآخر، في حين أن رسالات السماء ترتبط بجوهر واحد وحقيقة واحدة. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بقطع السبيل، ونشر الكفر، وصرف الناس عن الاستماع إلى رسالة الحق. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وذلك لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب. 28 - كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (معنى الاستفهام هو الإنكار والتعجب، أي كيف تكفرون بالله ومعكم ما بصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان؟ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الواو للحال. والأموات جمع ميت. ويقال لعادم الحياة ميت. قالى تعالى: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً فالناس قبل أن يخلقوا كانوا في حالة عدم، أو فقدان للحياة. ويطلق الموت على فاقد الحياة من الجماد. قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ

29 - هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم.

ويجوز أن يكون اطلاق الموت على الجماد استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كما وهب الله الإنسان الحياة، فإنه سوف يميته، لكنه وعد بإعادة الناس إلى الحياة ومحاسبتهم. فالإحياء هنا هو النشور. ولست أوافق على تفسيره بأنه الإحياء في القبر. فالإنسان سوف يبعث، ويعود إلى ربه، حيث يحاسبه، ويكون مصيره النهائي رهنا بإرادة الله. 29 - هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. تشير هذه الآية الكريمة إلى منزلة الإنسان بين مخلوقات الله. لقد خلق الله كل شيء من أجل الإنسان، فلا يجوز أن يستعبد في سبيل المادة، كما لا يجوز أن يعتبر أي شيء من الموجودات المادية أهم من الإنسان. إن أهم ما تطمح إليه الحضارة البشرية هو الوصول إلى المستوى الذي يجعل الإنسان سيدا حقيقيا للأرض ما عليها. وربما تجاوزت في طموحها الأرض، وتطلعت إلى كواكب السماء. لقد بين القرآن الكريم أن كل الموجودات المادية إنما خلقت لخدمة الإنسان، وهذا هو التصور المثالي للقيمة الإنسانية بالقياس إلى غيرها من القيم. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ الاستواء هو الاعتدال والاستقامة. وأهل السنة لا يتصدّون لتفسير معنى الآية، وهم يرون أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول. أما المعتزلة فيتصدّون للتفسير. يقول الزمخشري: «ثم استوى إلى السماء أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق

30 - وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون.

ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو. والضمير في (فسوّاهنّ) ضمير مبهم، وو سَبْعَ سَماواتٍ تفسيره. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن أو إتمام خلقهن. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت. وفي إحكام مواقع الكواكب، وما يقوم بينها من مسافات، وما يحكمها من قوانين توصل العلم إلى كشف جانب منها دلائل على إحكام الخلق واستوائه. 30 - وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. بدأت هنا قصة خلق الإنسان وما انطوت عليه من حكمة إلهية. لقد أخبر الله ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة هو آدم وذريته، يسكنون الأرض ويعمرونها. وكلمة خليفة من قبيل الاستعارة، فالله موجود في كل مكان، ولا حاجة به إلى من يخلفه. لكن المقصود أن الله وكل الأرض للإنسان، يعمل فيها بأمر ربه، فكأنما قد استخلفه عليها. أما القول بأن الخلافة هنا تعني أن بني آدم يخلفون الملائكة في سكنى الأرض، فهذا ما لا نجد دليلا عليه في نص الآية.

31 - وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

وقول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ دليل على أن حكمة الله تخفى أسرارها على كافة مخلوقاته، لا يستثنى منهم الملائكة. فهؤلاء قد علموا أن الإنسان وقد فطر من جسد وروح سوف يمتحن بالمادة، وما يرتبط بها من الشهوات، وما قد يقود اليه ذلك من الإفساد وسفك الدماء. وكل ذلك بدا أمام نظرهم عديم الجدوى، حيث هم في عالم الملكوت يسبحون ويقدسون، ولا يرون فائدة لخلق الإنسان. قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فعلم الله وسع ما لا يعلمه أحد من مخلوقاته. مهما علت منزلته، وكل خلقه حكمة وصلاح. ويتخذ الصوفية من قصة آدم رمزا لتمجيد الإنسان في أكمل صوره، فهو بتحقيق الكمال يكون جديرا بخلافة الله في أرضه. والإنسان الكامل- على هذا- هو أفضل مخلوقات الله. ومن هنا دعوا كل مؤمن إلى العمل على التحقيق بصفات الكمال. 31 - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. لما سأل الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه إياهم في الأرض، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم ذلك المجمل فبين لهم من فضل آدم

ما لم يكن معلوما لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله، وقصورهم عنه في العلم، وهكذا يتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي. وقد أثار تفسير هذه الآية بعض المشكلات الفكرية. من ذلك مثلا أن بعض المتكلمين وهم الأشعري والجبائي والكعبي ذهبوا- على أساس هذه الآية- إلى أن اللغات توقيفية، وأن الألفاظ كانت موجودة قبل خلق آدم، وأن الله هو الذي علم الإنسان اللغات. وهذا تأويل بعيد، لا يمكن أن يستقر على قاعدة متينة من الواقع. وخير من ذلك أن يقال إن معنى تعليم الله إياه أن يخلق فيه إذ ذاك بموجب استعداده علما ضروريا تفصيليا بأسماء جميع المسميات وأحوالها وخواصها اللائقة بكل منها، فيتلقاها آدم بمقتضى استعداده وقدرته العقلية، وقابليته الفكرية. وهناك تفسير صوفي يذهب إلى أن تعليم الأسماء تضمن علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. كذلك هناك تفسير فلسفي يفسر تعليم آدم الأسماء بأن الله خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها، وكيفيات استعمالها. ومهما يكن فإن الله قد حبا آدم بعلم لم يكن للملائكة عهد به، وجعله في موقف القدرة على مواجهة حياته التي يسرها له الخالق. ومن أهم ما يمتاز به الإنسان قدرته على الرمز للأشياء بأسماء يصطلح عليها، وهذه القدرة أساس من أسس العلم الإنساني. أما نوع العلم الذي تلقاه آدم، وهل كان ألفاظا لغوية أم إلهاما فكريا، وما نوع اللغة التي خاطب الله بها الملائكة، فهذا مما لم يفصله القرآن، فكل تفسير يذكر في هذا الصدد إنما هو من قبل التخمين والرجم بالغيب. وحسبنا أن نقول إن الله خلق في آدم قدرة على معرفة الأشياء وتمييزها، والرمز إليها بأسماء، وكانت هذه القدرة هي الأساس الأول للمعرفة الإنسانية.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ الضمير في (عرضهم) للمسميات التي دلت عليها الأسماء. فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ في هذا القول نوع من اللوم للملائكة على اعتراضهم، وإظهار لعجزهم. وهنا نتساءل: ما الذي عرضه الخالق على الملائكة؟ إنه عرض أصحاب الأسماء، أي أنه عرض المسميات على الملائكة وفيهم من يعقل وفيهم من لا يعقل فقال: عرضهم، غلب العقلاء فأجرى على الجميع كناية من يعقل كقوله: «والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع». أجرى عليهم كناية من يعقل. وفي قراءة أبيّ ثمّ عرضها وفي قراءة ابن مسعود ثمّ عرضهن وعلى هاتين القراءتين يصح أن يكون الضمير عائدا إلى الأسماء. ويتصدى المفسرون للحديث عن كيفية العرض، وهم- بطبعية الحال- يختلفون في ذلك، فما أقوالهم في مثل هذا الأمر إلا من قبيل التخمين. قيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة، وقيل صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها، وقيل: عرض عليهم من كل جنس واحدا وأراد بذلك تعجيزهم.

32 - قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما ادعيتم علمه من أسرار الحكمة الإلهية، حتى تساءلتم عن حكمة خلق آدم وذريته. 32 - قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الحكمة نقيض السفه. والإحكام الإتقان. والحكمة هي التي تقف بك على أمر الحق الذي لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب. ويقال: حكمة بالغة. ورجل حكيم إذا كان ذلك شأنه، وكانت معه أصول من العلم والمعرفة. بالحكمة في الإنسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل. قال الملائكة: تنزيها لك وتعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك. أو تنزيها لك وتعظيما عن أن يعترض على فعلك، مهما جهلنا الحكمة فيه. لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا معناه: إنا لا نعلم إلا بتعليمك، وليس هذا فيما علمتنا. ولو أنهم اقتصروا على قولهم: لا علم لنا لكان كافيا في الجواب، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك تعظيم الله والاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم، وأن جميع ما يعلمونه إنما هو مما تفضل الله به عليهم. وبهذا تقرر فضل آدم إذ علّمه الله ما لم يعلم الملائكة ورفع بهذا درجته عندهم. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ أي العالم بجميع المعلومات. والعليم صيغة مبالغة من علم. فالعليم فوق العالم. وقيل إنها تعني أن الملائكة أثبتوا لله ما نفوه عن أنفسهم من العلم، الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم، في حين أن ما علموه كان تعليما تفضل به الله عليهم.

33 - قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون

الْحَكِيمُ الذي لا يشوب علمه جهل ولا يتطرق إليه وهم. 33 - قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أمر الله آدم أن يخبر الملائكة بأسماء المسميات التي عرضها عليهم. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وضح الحق لديهم، وعرفوا حكمة الله في خلق آدم. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وهو تفصيل لجوانب من علم الله الذي أحاط بغيب السماوات والأرض، وأحاط بكل ما يبديه المخلوق أو يخفيه. وكان قد أجمل وصف هذا العلم في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ 34 - وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ تجلى عصيان إبليس في مخالفته صريح الأمر الإلهي بالسجود لآدم. لقد كان الأمر بالسجود واجب الطاعة، مهما بدا للملائكة من وضوح فضلهم لتمسكهم

35 - وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين

بطاعة الله وتسبيحه، وابتعادهم عن المعاصي التي رأوا أن بعض ذرية آدم سوف تتورط فيها، فتفسد في الأرض وتسفك الدماء. ولهذا فإن إباء إبليس وكبره قاداه إلى الكفر، وأخرجاه من زمرة الملائكة، بعد أن تكشفت طبيعته أمام هذا الامتحان. ولقد نقل القرآن الكريم في موضع آخر احتجاج إبليس لعصيانه. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الاعراف: 12، ص: 76) وأنت ترى كيف تبدو هذه الحجة واهية، وتدل على الطبيعة الخسيسة التي اتصف بها هذا الشيطان. فما النار وما الطين أمام قدرة الخالق؟ وهل يجوز لمخلوق أن يتباهى بفضله أمام خالقه. إن قول الشيطان: أنا خير منه هو قول شائع في دنيا الناس، ينطق به كثير منهم، ويتجلى فيه مرض العجب الذي يصيب النفس فيبث فيها الحقد على الآخرين، كما أنه يصيب العقل بالغفلة. والاستكبار والتكبر والتعظم والتجبر نظائر، وحقيقة الاستكبار الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه وهو أيضا رفع النفس إلى درجة لا تستحقها. 35 - وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. أَنْتَ تأكيد للضمير المستكن في

اسْكُنْ، ورَغَداً وصف للمصدر، أي كلا أكلا رغدا واسعا رافها. حَيْثُ للمكان المبهم، فهو يعني أيّ مكان من الجنة، شِئْتُما كانت إباحة الأكل من أي موضع في الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها التي تفوق الحصر. وكانت الشجرة فيما قيل الحنطة أو الكرمة أو التينة. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله. هناك تفصيلات قد يسأل عنها في تفسير هذه الآية، منها موضع الجنة التي سكنها آدم في أول الأمر. وهذا من الغيب المحجب الذي لا نعرف شيئا عنه، ولا ضرورة لمعرفته من أجل فهم الآية. وتتضمن هذه الآية أساسا مهما من أسس التشريع، قوامه أن طاعة الله الله واجبة، في جميع الأحوال، مهما خفي سرّ التكليف على العقل. فآدم قد أبيح له الأكل من جميع الأشجار فيما عدا شجرة واحدة. وقد يميل العقل المجرد إلى مناقشة هذا الأمر، والقول بأنه لا فرق بين شجرة وأخرى، ويغري الإنسان بمخالفة صريح الأمر. إن هذه الآية تعلمنا أن طاعة الأمر الصريح مقدمة على كل قياس نظري، أو تفكير منطقي بحت. ولقد كان أمر آدم وزوجته بألا يأكلا من الشجرة تدريبا لهما على الالتزام بما تأمر به شريعة الله. لقد كان

36 - فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين

امرأ ينمي الإرادة الإنسانية، في مواجهة الرغبات والشهوات. وكأن هذا التدريب على استخدام الإرادة كان إكمالا لخلق آدم. 36 - فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. وقيل إن المعنى هو: فحملها الشيطان على الزلّة بسببها أي فأصدر الشيطان زلتهما عنها. وقرئ فأزالهما أي فأبعدهما. وقد ذكر القرآن بعض ما وسوس به الشيطان لآدم وحواء. قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (7: 20) فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم والكرامة، أو من الجنة. وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قيل إن هذا خطاب لحواء وآدم وإبليس، والصحيح أنه لآدم وحواء، والمراد

37 - فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم

هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم والدليل عليه قوله: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ويدل على ذلك أيضا قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وهذا حكم يعم الناس جميعا، ومعنى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول الى الأرض. مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار، أو استقرار، وَمَتاعٌ أي تمتع بالعيش. إِلى حِينٍ يمكن أن يعني إلى يوم القيامة على اعتبار أن الخطاب للبشرية جميعا في حياتها على الأرض. ويمكن أن يعني إلى الموت، على اعتبار أن الإنسان يعيش في الدنيا فترة مؤقتة تنتهي بالموت. 37 - فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

38 - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات، على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. وقد نقل القرآن الكريم كلمات آدم في التعبير عن توبته، وذلك قوله تعالى: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (الاعراف: 23) فَتابَ عَلَيْهِ أي فرجع عليه بالرحمة والقبول، والأصل في التوبة ندم الإنسان على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح. وهنا نرى طبيعة آدم التي هي في حقيقتها طبيعة خيرة، وكيف أدرك أنه أخطأ، وأن الذنب الذي اقترفه كان من فعل يديه، فلم ينسب ذنبه إلى ربه، كما فعل الشيطان، حين نسب خطيئته إلى الله فيما نقل عنه القرآن من قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (15: 39) فهنا ينسب الشيطان ضلاله إلى الله، وقد استقبلت توبة آدم بالغفران، ولم تكن الخطيئة آدم تبعات تقع على أبنائه، بل كل إنسان مسئول عن عمله. 38 - قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تكرار الأمر بالهبوط للتأكيد. ويفسر الفخر الرازي تكرار الأمر بالهبوط على الوجه الآتي:

39 - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

إن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر الأول، ووقع في قبلهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة، فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي بيان ودلالة. وقيل أنبياء ورسل. وعلى هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله: اهْبِطُوا لآدم وحواء وذريتهما. واختلف حول تفسير الهدى هنا، وهل يفهم منه أن الإيمان يكون بالشرع أو أنه من موجبات العقل. وذهب أهل السنة إلى أن الشريعة هي التي تدعو إلى الإيمان، وأنه لا حكم قبل الشرع. أما المعتزلة فيرون الإيمان من موجبات العقل وأنه لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب، وأنه إن لم يبعث الله رسولا ولم ينزل كتابا كان الإيمان به وتوحيده واجبا، لما ركب فيهم من العقول، ونصب لهم من الأدلة، ومكنهم من النظر والاستدلال. 39 - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا

40 - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون

أي جحدوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي دلالاتنا وما أنزلناه على الأنبياء. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي الملازمون للنار. هُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون. وفي هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه، وكذب بآيات ربه، فهو مخلد في النار. وآيات الله دلائله وكتبه المنزلة على رسله. 40 - يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وبهذه الآية تدخل سورة البقرة في مرحلة جديدة، هي الحديث عن بني إسرائيل، وما كان منهم خلال العصور السالفة على الإسلام. فالخطاب في قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ هو لجميع اليهود. وقيل هو ليهود المدينة وما حولها. اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم، ونزول

41 - وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون

الكتب التي وجّهت إليهم، وإنجائهم من فرعون ومن الغرق، وإنزال المن والسلوى عليهم، وعد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء. وذكر النعمة بلفظ الواحد والمراد بها الجنس كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها والواحد لا يمكن عده. وربما كان التذكير هنا لا يقتصر على ما أنعم به الله عليهم في سالف أزمانهم، بل يتعدى ذلك إلى ما أنعم به عليهم في واقع حالهم، فقد حفظهم في الماضي من اضطهادات وقعت عليهم، ويسر حياتهم في مناطق كثيرة من الأرض، وحفظ عليهم وحدتهم وتماسكهم. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يريد بالعهد جميع الأوامر والنواهي التي عهد بها إليهم، وأمرهم بتنفيذها. وكان من الأوامر- زمن البعثة النبوية- دعوتهم إلى الإيمان بمحمد ورسالته. وتعبر عن ذلك الآية التي تجيء بعد هذه الآية. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي خافوني في نقض العهد. وفي هذه الآية دليل على وجوب شكر نعم الله. 41 - وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ قوله .. أَوَّلَ كافِرٍ

يعني أول الكافرين. فهذه الآية تدعو اليهود إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد من رسالته التي جاءت مصداقا لما أنزل عليهم. إن ما في القرآن من دعوة للتوحيد جاءت مصداقا لما أنزل عليهم من قبل. كما أن في التوراة ذكرا لظهور النبي وبشارة بقدومه، فكان ينبغي على اليهود- وهم من أهل والكتاب والتوحيد- ألا يكونوا أول الكافرين به. ولقد كان اليهود وغيرهم من أهل الكتاب يبشرون بين العرب بظهور النبي ويستفتحون به، فلما بعث كان أمرهم على العكس. قال تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء يوضع موضع الاستبدال، وكذا الثمن يوضع موضع البدل والعوض عنه، فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمنا عند فاعله. قال ابن عباس: إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك النفع المادي. فقيمة مثل هذا النفع المادي قليلة جدا بالنسبة للإيمان وثوابه، ومن هنا وصف إعراض أشراف اليهود عن الإيمان من أجل هدايا أتباعهم شراء للثمن القليل بآيات الله. وكذلك روي أن علماء اليهود كانوا يأخذون الرشا من أجل كتمان أمر الرسول، وتحريف آيات التوراة التي تبشر بظهوره. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ يقرب معناه مما تقدم من قوله وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، واما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم

42 - ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون

بحصول ما يتقى منه، فكأنه تعالى أكد هنا وجوب خوفهم من العذاب المحقق. 42 - وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ اللبس شبيه بالتغطية والتعمية. وضد اللبس الإيضاح. واللباس ما واريت به جسدك. إن قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ في الآية السابقة هو أمر بترك الكفر والضلال. أما قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فهو أمر بترك الإغواء والإضلال. وإضلال الغير له سبل مختلفة، فإن كان ذلك الغير قد سمع دلائل الحق، فإضلاله يكون بتشويش تلك الدلائل عليه، وإن كان لم يسمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها. وقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ إشارة إلى السبيل الأول وهو تشويش الدلائل عليه. أما قوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ فهو إشارة إلى السبيل الثاني من سبل الإضلال، وهو منع الغير من الوصول إلى الدلائل. أما الباء في قوله:

43 - وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين

بِالْباطِلِ فالأظهر أنها باء الاستعانة، كما تقول: كتبت بالقلم. والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وما تقومون به من تحريف الدلائل أو إخفائها. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن محمدا نبي حق وردت الإشارة إليه في كتبكم، أو وأنتم تعلمون البعث والجزاء وما يكون فيه من عقوبة للكفار والضالين، أو وأنتم تعلمون ما نزل من العقاب وما ينزل من ذلك بمن كذب على الله. والخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب. 43 - وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ لما أمرهم الله بالإيمان أولا ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانيا ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع، وذكر من جملة الشرائع ما كان أكثرها دلالة على الطاعة وهي الصلاة أعظم العبادات البدنية المقترنة بخشوع الروح، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية. والدعوة إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هنا إجمالية. وقد بين الرسول للناس أركان الصلاة. والأصل في الصلاة الدعاء، ثم أصبحت علما على طريقة العبادة المعروفة، التي علّمها الرسول لأمته. أما الزكاة فهي في اللغة عبارة عن النماء. يقال زكا الزرع إذا نما. وتدل أيضا على التطهر. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر. والزكاة قد وصفت في حديث للرسول بأنها «تزيد الرزق وتكثر

44 - أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون

المال وتعمر الديار، فهي من هنا شبيهة بمعنى النماء كما أنها وصفت بأنها تطهر وتنقي. قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها (التوبة: 103) وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين، فيكون المعنى هنا متضمنا الدعوة إلى صلاة الجماعة، بعد أن دعت الآية إلى أداء الصلاة بوجه عام. وربما كان الأمر بالركوع هنا أمرا عاما بالخضوع، فيكون الكلام هنا منطويا على دعوتهم لترك التكبر، وللشعور بالتواضع والخضوع أمام الله وهذا الوجه الثاني أفضل. 44 - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ في الآية استفهام يعبّر عن التقريع والتعجب. أما البرّ فهو اسم جامع لأعمال الخير. ومنه برّ الوالدين. ويوصف العمل الخيّر بأنه عمل مبرور، أي رضيه الله. وقد يكون بمعنى الصدق، كما يقال: برّ في يمينه، أي صدق ولم يحنث. ووصف الله التقوى بأنها من البرّ. قال: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى كان اليهود يتظاهرون بالتدين، فيأمرون الناس بطاعة الله وينهون عن معصيته، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ

45 - واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.

أي وأنتم تقرءون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم. أَفَلا تَعْقِلُونَ تنطوي هذه العبارة على تعجب للعقلاء من فعلهم. فهؤلاء كانوا يدعون إلى الطاعة ويحثون الناس عليهما بالدعوة والموعظة، لكنهم كانوا هم أنفسهم سادرين في المعاصي. والأولى بالداعي أن يعظ نفسه قبل أن يعظ غيره، وأن ينصح نفسه قبل أن يقدم على نصح سواه. قال علي بن أبي طالب: قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك. وروى أنس من حديث الرسول عن المعراج قوله: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار، فقلت يا أخي، يا جبريل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم». وعن الشعبي: «يطلع قوم من أهل الجنة الى قوم من أهل النار فيقولون: لم دخلتم النار؟ ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم فقالوا: إنا كنا نأمر الناس الخير ولا نفعله». ويقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالرأي منك وينفع التعليم 45 - وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. لما أمر الله اليهود بالإيمان، وبترك الإضلال، وبالتزام الشرائع وهي الصلاة

46 - الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون

والزكاة، وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرئاسات والإعراض عن المال والجاه، لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ كأنه قيل: واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا، والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد بالصبر أي بحبس النفس عن اللذات، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليها، وخف عليها. ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر لأن المشتغل بالصلاة لا بد وأن يكون مشتغلا بذكر الله وذكر جلاله وقهره، وذكر رحمته وفضله، فإذا تذكر رحمته مال إلى طاعته، وإذا تذكر عقابه ترك معصيته، فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وترك المعصية. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الضمير في إنها عائد إلى الصلاة، أي الصلاة ثقيلة إلا على الخاشعين. وثقل الصلاة بالنسبة لغير الخاشع أمر واضح. فلا بد من اقتناع قلبي بالإيمان ليسهل أداء الصلاة. أما من لم يخشع فهو لا يعتقد أن في أداء الصلاة ثوابا ولا في تركها عقابا، فيصعب عليه فعلها. أما الخشوع فهو الخضوع. 46 - الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ الظن هنا بمعنى العلم. ولا يجوز أن يفسر الظن هنا بالاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض. فلو كان هذا الظن مقصودا لاقتضى أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وهذا كفر لا يتمشى مع معنى الآية. ففي هذه الآية مدح على الظن، فوجب أن يكون معنى الظن هنا هو العلم الذي يفيد اليقين. ونظيره قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ.

47 - يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين

أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي أنهم يوقنون بالعودة إلى الله. وقد استدل أهل السنة بقوله مُلاقُوا رَبِّهِمْ على جواز رؤية الله تعالى. أما المعتزلة فقالوا: لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية. قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً وقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وهو قول موجه إلى الكافر والمؤمن. وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى حيث لا يكون لهم مالك سواه، وأن لا يملك لهم أحد غيره نفعا ولا ضرا، فيكون ما توهموه من نفع عند غير الله قد تكشفت حقيقته، وغدا هباء لا طائل وراءه. 47 - يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أعاد الله هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم، وتحذيرا لهم من عواقب محاربة النبي محمد. وقد قرن قوله هذا بالوعيد الذي احتوته الآية التالية، وفيها قوله تعالى:

48 - واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون

وَاتَّقُوا يَوْماً ... فالآية تذكر بسالف النعم، والآية التالية تحذر من عاقبة العصيان، أما قوله تعالى وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فالمقصود به أن الله فضلهم على أهل زمانهم، فقد حباهم بدين قائم على التوحيد، وكان إيمانهم به مما رفع قدرهم على أهل زمانهم الذين لم يهتدوا للإيمان. 48 - وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ اتقاء اليوم هو اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب، فاليوم نفسه لا يتقى، ولا بد أن يأتي هذا اليوم لأهل الجنة وأهل النار جميعا، فلا سبيل إلى الإفلات منه. لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً لا تحمل نفس عن نفس شيئا في يوم القيامة، ولا تذود عنها شيئا يصيبها، بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه. فطاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه. فالأمر بالنسبة للطاعات ليس شبيها بالعلاقات المادية في الدنيا، حيث يستطيع الرجل أن ينوب عن أخيه في حمل الأعباء، فيقضي عنه دينه، أو يحمل عنه بعض أعبائه. فالطاعات واجبة على كل انسان، وأداؤها مفروض عليه، ومن هنا لا تجزي نفس عن نفس شيئا يوم الحساب. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع

كان صاحب الحاجة كان فردا، فصار الشفيع له شفعا أي أنه صار قرينا مؤيدا له. والضمير في قوله وَلا يُقْبَلُ مِنْها راجع الى النفس الثانية، وهي العاصية التي تحتاج إلى الشفاعة، ومع ذلك، فلو جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها. ويجوز أن يرجع الضمير إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لغيرها لم تقبل شفاعتها، كما أنها لا تجزي عنها شيئا. وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية. وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول: ما أعدل بفلان أحدا، أي لا أرى له نظيرا. قال تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ تحذر هذه الآية من تعودوا في الدنيا على أن يحلّوا بالمال كل مشكلاتهم، فتبين أن من كفر لا يكون يوم القيامة قادرا على افتداء نفسه مهما كان الثمن الذي يقدمه. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ (آل عمران: 91) وقدم الشفاعة على المال هنا، وفي ذلك إشارة إلى حرص اليهود على المال، حيث يؤثرون الخلاص عن طريق الشفاعة، فإن عز ذلك عليهم فعن طريق المال. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ التناصر يكون في الدنيا على أساس القرابة أو الصداقة. فالنصر هو دفع الشدائد، ولا أحد يستطيع أن يدفع عذاب الله عن عمن استحق هذا العذاب.

49 - وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

يرى المعتزلة أن هذه الآية تنفي إمكان الشفاعة للعصاة. فالمعتزلة يرون أن شفاعة الرسول تكون للمستحقين للثواب، وتأثير الشفاعة تكون في أن تحصل لهم زيادة في الثواب. واستدلت المعتزلة بهذه الآية وبغيرها على أن الشفاعة لا تكون لأهل الكبائر. أما أهل السنة فيقولون إن لشفاعة الرسول تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إما بأن يشفع لهم يوم القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو بأن يخرجهم من النار إن كانوا قد دخلوها. ومعروف أن أهل السنة لا ينعتون مرتكب الكبيرة بالكفر إذا كان قد أقر بالإيمان. ومن هنا أجازوا أن يشمله اللطف الإلهي. لكن الشفاعة لا تكون للكفار. أما المعتزلة فهم بناء على قولهم بالوعد والوعيد أي بوجوب مكافأة المطيع ومعاقبة العاصي، لا يقولون بإمكان الشفاعة يوم القيامة. 49 - وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قدم الله تعالى ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالا، ثم بين بعد ذلك أنواع تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة. فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ فرقنا بكم البحر. وهذه الآية تذكر النعمة الأولى وهي إنجاء اليهود من آل فرعون. أصل الانجاء والتنجية هو التخليص، وللفعل لغتان: نجّي وأنجى. وقالوا للمكان العالي نجوة لأن من صار إليه نجا أي تخلص، ولأن الموضع المرتفع بائن عما انحط عنه، فكأنه متخلص منه. (آل) أصلها أهل ولذلك يصغر بأهيل، فأبدلت هاؤه ألفا، وخصّ استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم. وقيل: الأهل أعم من الآل. يقال أهل الكوفة وأهل البلد، ولا يقال آل الكوفة وآل البلد. فمعنى ذلك أن الآل تطلق على أقارب الرجل وخاصة أهله.

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يقال سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم: اذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونه بكم. والسوء مصدر ساء. وسوء الخلق وسوء الفعل يعني قبحهما. وسوء العذاب والعذاب كله سيّئ- يعني أشده وأصعبه، فهو بالغ القبح إذا قيس بسائر أنواع العذاب. يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ يقتلون الذكور من أبنائكم دون الإناث. ولم يقل يذبّحون رجالكم وهو اللفظ المقابل للنساء في قوله وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ لأن الذكور كانوا يقتلون أطفالا فلم يكونوا يبلغون مبلغ الرجال، أما النساء فكن يعشن ويصلن إلى مرحلة البلوغ. والتعبير عن الإبقاء على الإناث بقوله ويستحيون نساءكم تجسيم للمشكلة التي كان يواجهها اليهود إذ كان مجتمعهم بتحول رويدا رويدا إلى مجتمع نسائي وفي هذا ما كان يهدد بانقراضهم. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البلاء هو الاختبار والامتحان. قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: 35) وقال: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ (الأعراف: 168)

50 - وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون

فان كان المراد بالبلاء هنا المحنة كان راجعا إلى عمل فرعون، الذي سلّطه الله عليهم ليختبر صلابتهم وثباتهم، ثم نصرهم عليه في نهاية الأمر. وإن كان المراد بالبلاء النعمة فهو راجع إلى ما أنعم الله به عليهم من النعم التي ذكّرهم بها هنا، ومنها انجاؤهم من آل فرعون بعد ما لقوا على أيديهم الأهوال، فكان حدوث هذه النعمة مصدر ابتلاء لهم، واختبار لمدى اعترافهم بفضل الله عليهم. 50 - وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ تشير هذه الآية إلى خروج بني إسرائيل من مصر، وتروي معجزة حققها الله على يد نبيه موسى، إذ واجه بنو إسرائيل البحر، وكان فرعون وجنوده يطاردونهم، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانفلق البحر عن طرق يابسة مرّ فوقها بنو إسرائيل، وعبروا البحر سالمين، ولما رأى فرعون هذه الطرق اليابسة اقتحم البحر بجنوده متابعا لهم، فغشيهم البحر، وأغرقهم بمياهه. برغم هذه المعجزة الباهرة التي وقعت لبني إسرائيل، على يد موسى، فإنهم عادوا إلى العصيان من جديد، فكان العقوق والعصيان في أوائلهم، كما كان في أواخرهم حين خاطبهم القرآن مذكّرا بنعم الله عليهم في سالف الزمن، فما سمعوا ولا انقادوا. وقد علل المعتزلة وقوع مثل هذه المعجزة على النحو التالي: «إنّ في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء، ويختص بالبلادة، وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك، فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى، ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعبدون الأصنام، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلا لها كما لهم آلهة». وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي وأنتم تبصرون ما وقع بهم من هلاك، وتشاهدون هذه المعجزة العظيمة التي أدت إلى هلاك عدو كان يطلب إهلاككم.

51 - وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون

51 - وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ترك موسى قومه أربعين ليلة، وكان الله قد وعده أن ينزل عليه كتابا يبين للناس ما يعملون وما يتركون، فاستخلف أخاه هارون على قومه، وقصد إلى الطور حيث تلقى الوحي من ربه، ونزلت عليه التوراة. ولما عاد إلى قومه وجدهم يعبدون العجل الذي أغراهم السامري بعبادته. هذا النزوع إلى الوثنية حقيقة سجلها التاريخ على بني إسرائيل في أوائل عهدهم. فمن المعروف أن دولة إسرائيل القديمة قد انقسمت إلى دولتين بعد موت سليمان هما دولة يهوذا والدولة السامرية الشمالية. وقد انتشرت في الدولة السامرية الشمالية عبادة العجول الذهبية على نطاق واسع. وكان اتخاذهم العجل إلها بعد ما خصّهم به الله من المعجزات، وما حباهم به من الكرامة، دليلا على رسوخ الجهل في طبيعتهم، وتسلط العناد وحب المال على نفوسهم. فقد كانت عبادتهم للعجول الذهبية رمزا لهذا الجشع وتلك المادية التي غلبت عليهم خلال العصور، وجعلتهم موضع سخط الناس. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ لأنفسكم بهذه الوثنية التي سوف تجر عليكم أقسى أنواع العقاب. أو وأنتم ظالمون بارتكابكم هذا الفعل، وإشراككم بربكم قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ذلك لأن ارتكابه ينطوي على ضرر لا نفع فيه، ومن هنا يكون فاعله ظالما، لأنه يظلم نفسه. قال تعالى في وصف أحد الجاحدين: «ودخل جنته وهو ظالم لنفسه فقال ما أظن أن تبيد هذه أبدا».

52 - ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون

52 - ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (العفو) اسم لاسقاط العقاب المستحق. فمع ارتكاب اليهود هذه الآثام عفا عنهم الله، وبعث إليهم الأنبياء بعد موسى، لعلهم يشكرون نعمة العفو، ويلزمون الطاعة. 53 - وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وهذه نعمة أخرى من نعم الله ذكّر بها بني إسرائيل، هي إنزاله على موسى الكتاب، وإيتاؤه الآيات الباهرات التي تفرق بين الحق والباطل. وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الله يريد من الناس الهدى، ولولا ذلك لما كانت هناك فائدة لنزول الكتب السماوية. فلو كان الله هو الذي يخلق الكفر في الناس ما نفعهم إنزال الكتب عليهم. ويجيب على ذلك أهل السنة بأن الله علم منذ الأزل ما يكون عليه كل إنسان، وخلقه وفقا لما كان عليه مآله في الحياة الدنيا. وربما لم تكن الآية بحاجة إلى مثل هذا التحليل الفلسفي، فهي تحكي قصة نبي أرسله الله إلى قومه، وآتاه الكتاب والآيات، لعلهم يفيدون من هذه الرسالة السماوية ومما يريهم النبي من آيات الله، فيهديهم ذلك إلى الإيمان. (الفرقان) قيل في تفسيره إنه الآيات التي تفرق بين الحق والباطل، وهي المعجزات التي جرت على يد موسى، وقيل إنه وصف للتوراة لأنها هي التي جاءت بالشرائع التي تفرق بين الحق والباطل. 54 - وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

55 - وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون

(الْبارِئُ هو الخالق، الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، وهو مع ذلك يتميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة. وقال بعض المفسرين إن الآية تتضمن أمرا لليهود بأن يقتلوا أنفسهم، أو بأن يقتل المؤمنون منهم من ارتدوا. ولعل المقصود اقتلوا النفس الأمارة بالسوء، وذلك بالإخلاص في العبادة وبالتوبة الصادقة. يقال: قتل الرجل نفسه ندما، وهذا- في اعتقادنا- هو الأقرب إلى الإمكان في فهم الآية. إن في قتل النفس الأمارة بالسوء، وذلك بإخضاعها لمشقة العبادة، وحرمانها من الشهوات واللذات الدنيوية ما يجعلها تتقرب من الله بعد اقتراف جريمة الكفر، وذلك بعبادة العجل والصوفية يعتبرون القتل هنا رمزا لإخضاع النفس وقتل هواها بالرياضة والتعبد. 55 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ صورة أخرى تنعكس فيها بلادة الحس عند اليهود، والعناد والتمسك بالمادية إلى أقصى الحدود. لقد رأوا المعجزات الباهرات، ومع ذلك لم يقتنعوا، بل طالبوا موسى بأن يريهم الله جهرة. ثم إن هذه الصورة تبين أنهم لا يقفون عند حد في مطامعهم. لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لا نصدقك ولا نعترف بنبوتك حتى نرى الله جهرة عيانا. أصل الجهرة من الظهور يقال جهرت الشيء كشفته، ويقال صوت جهير، ورجل جهوري

56 - ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون

الصوت إذا كان صوته عاليا. ويقال وجه جهير إذا كان ظاهر الوضاءة. وإنما قالوا جهرة تأكيدا، لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل، على ما يراه النائم. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ للمفسرين في ذلك وجهان: أولهما أن صاعقة نزلت من السماء فقتلتهم، ثم أحياهم الله بعد ذلك. وثانيهما أنهم قد اعترتهم إغماءة أفقدتهم الوعي، ثم أفاقوا منها. ويستدل القائلون بالوجه الثاني على ذلك بقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة، كما أنه تعالى قال في حق موسى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتا، لأنه قال: فَلَمَّا أَفاقَ والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الإغماء. 56 - ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إذا كان تفسير الصاعقة بالموت المحقق هو الوجه الصحيح، فالبعث هنا كان إحياء من الموت. وإذا كان التفسير بالإغماء هو الصحيح، فالبعث هنا يعني الإفاقة والوعي. وقد وصف الله يقظة أهل الكهف بعد نومهم الطويل بأنها بعث. قال تعالى: «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثناهم لنعلم أي

57 - وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا. فكأن اعماء المصعوق كان شبيها بالموت وكانت تجربة مروا بها نتيجة لتبجحهم، ومطالبتهم برؤية الله جهرة، فأذاقهم الله موتا أو غشية شبيهة بالموت، ثم أعادهم إلى الحياة، لعلهم بعد هذه التجربة يكونون من المؤمنين الشاكرين. 57 - وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ من النعم التي ذكر بها الله بني اسرائيل أيضا ما عبرت عنه هذه الآية. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أي وجعلنا الغمام يظلكم، وذلك في التيه. يروى أنه سخر لهم السحاب يظلمهم من الشمس. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المنّ طعام شبيه في شكله بالثلج، كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. أما السلوى فهي السماني، فكانوا يذبحون منها ما يكفيهم. وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي وما ظلمونا بعصيانهم لكنهم ظلموا أنفسهم بكفر هذه النعم. 58 - وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

كان اليهود بعد التيه باحثين عن الاستقرار فأمروا بأن يدخلوا القرية. والقرية المذكورة هنا لم يعرف تحديدها من نص القرآن الكريم، وقال المفسرون إن المقصود بها بيت المقدس، وقيل المقصود أريحا. ومهما يكن الأمر، فإن هؤلاء اليهود كانوا في ذلك الوقت جماعة من الساميين الذين يتجولون في مناطق من سيناء أو العقبة، باحثين عن موضع يستقرون فيه، شأنهم شأن غيرهم من الجماعات السامية التي كانت تتجول في تلك الأزمنة القديمة، باحثة لها عن موضع تستقر فيه، وكانت الشعوب السامية متشابهة النشأة متقاربة التراث. وقد أمروا بأن يسكنوا إحدى القرى ولا بد أن قادتهم عينوا لهم الموضع المقصود. فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً دعوة لهم لاستئناف حياة جديدة بعد محنة التشرد في البلاد، فأتيح لهم أن يعيشوا مستقرين كغيرهم من الناس، وأن يأكلوا من ثمرات الأرض. وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً دخول الباب ساجدين هنا يعني دخولهم القرية متواضعين خاضعين لله تائبين من ذنوبهم. وقد أجهد بعض المفسرين أنفسهم في تفسير معنى دخول الباب ساجدين، فمنهم من قال إن باب القرية كان صغيرا فوجب السجود للدخول فيه، ومنهم من قال إن المقصود هو الركوع لا السجود، ثم تحيروا في التوفيق بين السجود وبين التحرك للدخول، وكل هذا مما لا طائل وراءه، ولا حاجة بنا إلى القول به. وكفانا أن نفهم أن السجود هنا كناية عن الخضوع لله، ومثل هذا الخضوع كان ضروريا لهم بعد ما اقترفوا من الذنوب، كذلك كان ضروريا لهم ليحسن استقرارهم مع غيرهم في مناطق هجرتهم، فالتعالي والغرور اللذان كانا من صفات اليهود حيثما استقروا، كثيرا ما سببا لهم سخط الناس عليهم، وجعلهم عنصرا بغيضا في كل أرض هاجروا إليها. وَقُولُوا حِطَّةٌ

59 - فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون

بعد أن امرهم بدخول الباب على وجه الخضوع، وليس على هيئة العراة الفاتحين، أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعا مستكينا، وكان أن أمرهم بأن يقولوا قولا يدل على ندمهم واعترافهم بما كان من أخطائهم، لتكتمل بذلك صور التوبة، من ندم قلبي، واعتراف باللسان، فالحاصل أن هؤلاء القوم أمروا بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع، وأن يذكروا بلسانهم التماس غفران الذنوب، حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب، وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان. وكلمة (حطّة) تعني قولا دالا على التوبة والندم والخضوع، فالتوبة تكون بندم القلب، وكذلك بذكر لفظ يعبر به اللسان عن حصول الندم في القلب. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني أنّ من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه، ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل، كما قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أي نجازيهم بالإحسان إحسانا وزيادة. وربما كان غفران الخطايا يختص به من أذنب ثم تاب، أما قوله وسنزيد المحسنين فيقصد به زيادة الثواب للمطيعين الدائبين على التمسك بالطاعات. 59 - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ

60 - وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

فبدّل الذين ظلموا ما أمرهم به من التوبة، والاعتراف بالذنب، بالانهماك في الشهوات، والعودة إلى العصيان. وقد تكررت في الآية عبارة «الذين ظلموا» زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذانا بأن إنزال الرجز عليهم إنما كان لظلمهم. (والرّجز) هو العذاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العقوبة. ويقال إن هذا الرجز كان وباء أصابهم فأمات منهم الألوف في أيام قلائل. والفسق هو الخروج من طاعة الله إلى معصيته. ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وهذا هو الأصل المادي للمعنى الشرعيّ. وقد عين الله نوع الظلم الذي ارتكبه هؤلاء، وذلك بأن وصفه بأنه من الفسق. والفسق لا بد أن يكون من الكبائر. فوصفهم بأنهم ظلموا لم يعين نوع الإثم الذي ارتكبوه، حتى جاء قوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فبين أن ظلمهم كان بارتكابهم الكبائر. 60 - وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ تروي هذه الآية قصة معجزة أخرى تحققت لموسى، وكانت نعمة تفضل بها لله على قومه، فقد ظمئوا، ولم يكن هناك ماء، فالتمس موسى من الله السقيا

61 - وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد. الآية

لقومه، فأمره أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه عيون بعدد قبائل بني إسرائيل. لقد كانوا اثنتي عشرة قبيلة فانفجرت لكل قبيلة عين يجري ماؤها في جدول. ولا بد أن هذا قد وقع لهم إبان وجودهم في أرض التيه، وكان تفجر الماء على هذه الصورة معجزة لموسى، وفضلا تكرم به الله على قوم موسى. ويتحدث الفخر الرازي عن المعجزات على النحو التالي: «كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير؟ الجواب: هذا السائل إما أن يسلم بوجود الفاعل المختار أو ينكره، فإن سلم فقد زال السؤال، لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء، كما خلق البحار وغيرها، وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن، والنظر في تفسيره. وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص». قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ أي أن كل قبيلة من قبائل اليهود قد علمت العين التي خصصت لها، ولم يكن أحد ينازعها فيها. كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ويتضمن ذلك أمرا لهم بأن ينعموا بما وهبهم الله من الرزق، وأن يستمدوا من الرزق قوة على الطاعات وصالح الأعمال، لا أن يكون الرزق مصدر نشاط لهم في الشر واقتراف الآثام. (العثي) هو مطلق التعدي، فالأمر لهم هنا أن يتركوا العدوان الذي يحدثون به الفساد في الأرض. 61 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ... ... الآية

عَلى طَعامٍ واحِدٍ المراد ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فان قيل: هما طعامان فلماذا قالوا عَلى طَعامٍ واحِدٍ والجواب على ذلك أنهم أرادوا الواحد ما لا يختلف ولا يتبدل. فلو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا. (الزمخشري). فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها يخرج لنا يعني: يظهر لنا ويوجد. و (البقل) ما أنبتته الأرض من الخضر، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها. (وفومها) الفوم هو الحنطة. وقيل هو الثوم، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وثومها». تمول الزمخشري: «وهو للعدس والبصل أوفق». قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ الَّذِي هُوَ أَدْنى الذي هو أقل منزلة وأدون مقدارا. والدنوّ والقرب يعبّر بهما من قلة المقدار. اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ أي انحدروا إليه من التيه. ويعرف الزمخشري بلاد التيه بأنها ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين. والمراد أي مصر من الأمصار التي توجد بها مثل هذه الحاصلات الزراعية. وقيل إن المقصود أرض مصر، وتؤيد هذا قراءة الأعمش: «اهبطوا مصر» بدون تنوين.

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ من قولك: باء فلان بفلان اذا كان حقيقا بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة، وما استحقوه من غضب الله، أي ذلك الذي أصابهم كان من جراء كفرهم وقتلهم الأنبياء. وقد قتلت اليهود شعيا وزكريا ويحيى وغيرهم. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق. لكن هذه العبارة ذكرت هنا لبيان أن اليهود القتلة لم يقتلوا الأنبياء لذنب اقترفوه إزاءهم، فكل ما فعلوه أنهم نصحوهم، وقاتل الناصح لا يكون محقا، فمن هنا كان ذكر عبارة «بغير الحق» مفيدا تجسيم عدوانهم، وشناعة جرمهم. ذلِكَ تكرار للاشارة. بِما عَصَوْا

62 - إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين .... الآية

أي بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي وخروجهم على حدود الله في كل موقف، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. ويجوز أن يكون المعنى: إنهم عصوا وبالغوا في العصيان والعدوان حتى قادهم ذلك إلى الكفر بآيات الله وقتل النبيين بغير الحق، فتكون الإشارة في ذلِكَ بِما عَصَوْا إلى الكفر وقتل الأنبياء، حيث كانت هذه الأفعال نتيجة الإغراق في الإثم والعدوان. 62 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ .... الآية الذين آمنوا تحتمل تفسيرات مختلفة، فيمكن أن يكون المقصود بهم المسلمون. وربما كان المقصود بهم النصارى الذين آمنوا بعيسى قبل بعثة النبي، لكن هذا التفسير ينفيه ذكر النصارى في الآية ذاتها وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود. وَالصَّابِئِينَ أطلق لفظ الصابئين على جماعات مختلفة من أهل الأديان، فمنهم جماعة من عبدة النجوم سموا بالصابئين، وهؤلاء هم الصابئون الحرانيون، ومنهم فرقة من النصارى كانوا يعرفون بالصابئين. والظاهر أن هذه الفرقة هي المقصودة في هذه الآية، لأن عبدة النجوم من الوثنيين بدون خلاف. وقد وصفهم المفسر أبو السعود بأنهم قوم بين النصارى والمجوس، وهو وصف قريب من الحقيقة، لأنهم كانوا فرقة مسيحية متأثرة بغير المسيحية من الآراء المجوسية.

مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والمعنى أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من الجماعات كلها فلهم أجرهم عند ربهم، ولهم الثواب يوم القيامة على إيمانهم. وهذه الآية تبين موقف المؤمنين من أهل الكتاب الذين صدقوا في إيمانهم قبل بعث الرسول، فهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولن يكون مصيرهم مثل مصير العصاة من بني إسرائيل الذين قص القرآن في الآيات السابقة أنباء عصيانهم وكفرهم وقتلهم النبيين. فإن قيل: ولماذا النص على أن أهل الكتاب المؤمنين قبل نسخ أديانهم يثابون على ذلك، وهذا مما هو مسلم به، فالجواب على هذا أن الآيات السابقة على هذه الآية أفاضت في شرح مثالب اليهود وتعداد جرائمهم، حتى ليكاد قارئ هذه الآيات يحسبهم جميعا من الخاطئين. فجاءت هذه الآية لتبين موقف الصالحين منهم، ومن أهل الكتاب بوجه عام، وتقرنهم بأهل الإيمان في استحقاق الثواب. وللمفسرين في هذه الآية كلام كثير غير مقنع. ومن المشكلات في تفسير الآية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وقد ذكر أكثر المفسرين أن المقصود بهؤلاء المنافقون، وهو تفسير غريب، قادهم إليه اعتبار الفرق المذكورة كلها من أهل الضلال، وأن من آمن بالله منهم وصدق باليوم الآخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم. يقول الفخر الرازي: «إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم اذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فان الله يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته البتة. واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه، أعني الإيمان برسله، ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة، فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف

63 - وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب». هذا أحسن آراء القدامى في تفسير الآية، لكني أرى أن تفسيرها على الوجه الذي ذكرناه أولى. 63 - وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ واذكروا وقت أخذنا ميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة والعمل بأحكامها. وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ عطف على قوله: (أخذنا) أو حال، أي وقد رفعنا فوقكم الطور كأنه ظلة. روي أن موسى لما جاءهم بالتوراة وقرءوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فأبوا قبولها، فرفع فوقهم الطور وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم، حتى قبلوا. وفي هذا إشارة إلى عناد اليهود، ورفضهم التسليم لحكم العقل، منذ ذلك الزمن القديم. يقول الرازي: «من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد، وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز، فلا جرم وقفت في المركز، ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات، ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات، فوجب أن يكون الله قادرا عليه» خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب

64 - ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين

(بقوّة) أي بجدّ وعزيمة، (واذكروا ما فيه) واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لكي تتقوا المعاصي، أو لعلّكم أن تنتظموا في سلك المتقين، أو لعلكم تطلبون التقوى. 64 - ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ثم أعرضتهم عن الميثاق والوفاء به. فلولا ما تفضل الله به عليكم من الإمهال وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين، أي من الهالكين. وربما كان المقصود بفضل الله عليهم هنا توفيقهم للتوبة. 65 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت. وقد اعتدى أناس من اليهود في يوم السبت أي جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه، واشتغلوا بالصيد. وكان ذلك نتيجة لاختبار إلهي، فقد كانت الحيتان تظهر في البحر يوم السبت، فإذا مضى السبت تفرقت ولم تظهر. وقد ذكر القرآن ذلك في موضع آخر. قال تعالى:

إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (الأعراف: 163). وروي عن ابن عباس تفسير الآية على الوجه التالي: «إن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة، حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة، وهي القرية المذكورة في قوله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ .... (الأعراف: 163). فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم في السبت، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك، وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العهد استسن الأبناء بسنة الآباء، واتخذوا الأموال، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهروهم فلم ينتهوا وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا الله به إلا خيرا، فقيل لهم: لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك، فأصبح القوم وهم قردة خاسئون، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا». ويرى الفخر الرازي أن في ذكر هذه القصة إظهارا لمعجزة محمد فإن قوله: ولقد علمتم كان خطابا لليهود الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام، فلما أخبرهم محمد عن هذه الواقعة، مع أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي.

وقد رأى مجاهد أن المسخ لم يقع على صور الآدميين بل إن الله مسخ قلوبهم ولم يمسخ صورهم، وهو مثل قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح: كن حمارا. واحتج على امتناع المسخ الجسدي بأمرين: الأول: أن الانسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المحسوسة، فإذا أبطلها وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله، كان ذلك إعداما للإنسان وإيجادا للقرد، فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنسانا، وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قردا، فهذا يكون إعداما وإيجادا، ولا يكون مسخا. الثاني: لو جوزنا ذلك لما أمنا في كل ما نراه قردا أو كلبا أنه كان إنسانا عاقلا، وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات. وقد رد على هذين بأن هيكل الإنسان قابل للتغيير من النحف إلى الضخامة، فالهيكل ليس جوهر الإنسان، ومن ثم فلا استحالة لتغييره بالقدرة الخالقة التي تقول للشيء كن فيكون. ومن الطريف أن البحث لم يقف عند هذا بل تطرق إلى موضوعات مختلفة، منها أثر المسخ على الفهم والإدراك وهل وقع المسخ على الجسم فقط أم على الفهم والإدراك. وقال البعض إن المسخ لو وقع على الجسم وكذلك على الفهم والإدراك لم يكن هناك عذاب، لأن القردة الحقيقية لا تتعذب من طبيعتها، وهنا تصدى البعض فقال إن المسخ قد وقع على الجسد وبقي الإدراك سليما حتى يخجل هؤلاء الناس مما اقترفوه، ويدركوا ما نالهم من العقاب. وحرص المفسرون أيضا على بيان أن هذه القردة لم تتناسل، بل هلكت بعد ثلاثة أيام، حتى لا يقال بأن من القردة ما ولد لآدميين.

66 - فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين

وهذه الآية لا تؤدي إلى القول بنظرية التناسخ المشتهرة عند الهنود، فهي لم تعد أن ذكرت حادثة وقعت لجماعة من العصاة، عقابا لهم على عصيانهم، وعلى العكس من ذلك عقيدة التناسخ التي تقيم نظاما للكون على أساس من هذه النظرية. بقي أن نشرح كلمة (خاسئين) والخاسئ هو الصاغر المبعد المطرود. 66 - فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فَجَعَلْناها اختلف في تفسير الضمير، أي في تعيين ما يعود إليه الضمير على وجوه: الأول: جعلناها يعني المسخة التي مسخوها. الثاني: يعني جعلنا القردة نكالا. الثالث: جعلنا قرية أصحاب السبت نكالا. الرابع: جعلنا هذه الأمة نكالا، لأن قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ يدل على الأمة أو الجماعة. والوجوه الثلاثة الأولى ممكنة أما الوجه الرابع فتأويل بعيد. (النّكال) هو العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية. وأصله من المنع والحبس، ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها. ويقال للقيد النكل، وللجام الثقيل أيضا نكل لما فيهما من المنع والحبس. قال تعالى: «إن لدينا أنكالا وجحيما». ومنه أيضا التنكيل. قال تعالى:

67 - وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا والمعنى: إنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رداعة لغيرهم. لِما بَيْنَ يَدَيْها أي لما يحضرها من القرون والأمم، وَما خَلْفَها أي لما بعدها من الأمم والقرون لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغ إليه خبر هذه الواقعة. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ إنّ من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ ويخاف، إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، وإن لم ينزل عاجلا فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأكثر دواما. وخص المتقون بالذكر لأنهم أكثر الناس تأثرا بآيات الله، واتعاظا بها. 67 - وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. تبدأ هنا قصة البقرة التي سميت بها السورة كلها، وخلاصتها أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، وطرحوه على باب مدينة، ثم جاءوا يطالبون بديته، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله.

68 - قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون

قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوا بنا، أو الهزو نفسه لفرط استهزائك بنا. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه، فموسى ينقل أمرا تلقاه من ربه، ولا مجال للمزح في مثل ذلك. 68 - قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ تساءل بنو إسرائيل عن هذه البقرة العجيبة التي أمرهم موسى أن يذبحوها ويضربوا الميت ببعضها ليحيى، وطلبوا منه أن يدعو الله ليزيدهم بيانا لصفات هذه البقرة. ال فارِضٌ هي المسنة. وقد فرضت فروضا فهي فارض. والبكر في البقر هي الفتية التي لم تلد. وقيل هي التي ولدت بطنا واحدا، أي جاءت بباكورة نسلها. والباكورة هي أول الثمر. والأظهر أنها هي التي لم تلد. وال عَوانٌ هي النصف أي متوسطة العمر. وقيل هي التي ولدت بطنا بعد بطن. ويقال حرب عوان إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة.

69 - قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين

بَيْنَ ذلِكَ بين يقتضي شيئين فأكثر، ودخوله على ذلك لأن ذلك إنما يشير إلى شيئين هما الفارض والبكر. فالعوان نصف بين الفارض والبكر. أما الإشارة بذلك إلى مؤنثين وهما الفارض والبكر، مع أن «ذلك» إنما هو للإشارة إلى الفرد المذكر فقد جاء على تأويل: بين ما تقدم ذكره، من أجل الاختصار. فكأنما الكلام: بقرة لا فارض ولا بكر بل هي عوان بين ما تقدم أو بين ما سبق ذكره. فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ما تؤمرونه، بمعنى ما تؤمرون به، وذلك مثل قولك: أمرتك الخير. 69 - قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لما عرف بنو إسرائيل حال السن شرعوا بعد ذلك في تعرف حال اللون فأجابهم الله تعالى بأنها صفراء فاقع لونها، والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، يقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر. (تسر الناظرين) أي أن هذه البقرة لحسن لونها تسرّ من نظر إليها. 70 - قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا، وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قيلت في تفسير هذه العبارة وجوه: أولها: وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي تمتاز بها عما عداها.

71 - قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون

ثانيها: وإن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها. وثالثها: وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة، أي نرجو ألا نكون على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث. ورابعها: إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل، إذا وصفت لنا البقرة المطلوبة وصفا يميزها عن سواها. 71 - قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ أي لم تذلّل لحراثة الأرض. فالدابة الذلول هي الطيّعة التي يسهل تسخيرها في العمل. وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي أنها ليست من الدواب التي تستخدم في سقاية الحرث. مُسَلَّمَةٌ فسرت هذه الكلمة على وجوه عدة: أولها: أنها مسلّمة أي بريئة من العيوب كلها. وثانيها: أنها بريئة من آثار العمل الذي ذكر. وثالثها: أنها مسلّمة من الشية التي هي خلاف لونها، أي خلصت صفرتها من اختلاط سائر الألوان بها. وهذا القول الأخير ضعيف، لأن قوله (لا شية فيها)

72 - وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون

يعبر عن هذا المعنى، وهو براءة لونها الأصفر من امتزاجه بغيره من الألوان. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ يعني الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به، وتميزت البقرة المطلوبة عن غيرها. فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ يعبر هذا القول عن نوع من تردد اليهود في القيام بالذبح المطلوب، وذلك يمكن أن يفسر بأنهم استكثروا الثمن الذي كان عليهم دفعه لقاء هذه البقرة فترددوا، أو لأنهم خافوا انكشاف أمر جريمة القتل، فترددوا في تنفيذ الأمر الإلهي. 72 - وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَادَّارَأْتُمْ فِيها فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا، أي يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض. أو دفع بعضكم بعضا عن البراءة واتهمه. وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل. 73 - فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

(اضربوه) الضمير يشير إلى القتيل. وقد أشير إليه من قبل بقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً لكن الضمير في اضربوه جاء مذكرا لأنه كان من المعروف أن القتيل رجل. بِبَعْضِها أي بجزء من جسم البقرة. وقد ذكر بعض المفسرين العضو الذي ضرب به القتيل، وجاءوا في ذلك باجتهادات كثيرة، لا يرجح أحدها على الآخر. والآية نصت على أن يضرب بأي قسم من جسد البقرة. وهناك كلام محذوف يستفاد من السياق تقديره: فضربوه فحيي. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى خطاب لمن أنكر قدرة الله على إحياء الموتى. وقد يكون هذا الخطاب موجها لبني إسرائيل الذين شهدوا إعادة القتيل إلى الحياة. وقد يكون موجها لكل من أنكر ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي دلائله على أنه قادر على كل شيء لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لعلكم تحكّمون في الأمر عقولكم وتعلمون أن من قدر على إحياء النفس على هذه الصورة قادر على بعث الموتى يوم القيامة.

74 - ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ... الآية

وفي قصة البقرة حكم أشار اليها المفسرون. منها أنه يستحب تقديم القربان للتقرب إلى الله، ومنها أن القربان يجب أن يكون جيدا منتخبا، ومنها أن الناس يتكلفون ثمن شراء القربان وفي ذلك نوع من التضحية، ومنها أن بعث القتيل وقع بناء على أفعال أمرهم الله بها، فنفذوها بأيديهم، وكلها مما لا يحيي الموتى، فضرب قتيل بقتيل لا يولد حياة، لكن الله بقدرته جعل هذا الضرب مؤثرا فقام القتيل من الموت وأخبر بقاتليه. وكان ذلك كله آية أجراها الله تحت أعين هؤلاء الناس، ليبين لهم كيف يحيي الموتى، حتى يؤمنوا بالبعث، ويصدقوا بأن من أحيى قتيلا على هذه الصورة قادر على إحياء الموتى، كما وعد في كتبه. 74 - ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... الآية من شأن القلب أن يتأثر ويعتبر بالدلائل والآيات، وفي هذا ما يمهد سبيل الطاعة، ويصرف عن الإحساس بالتمرد والعتو والتكبّر، فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيها بالحجر، وهنا يوصف لقلب بأنه قاس غليظ، أو بأنه قلب متحجّر لا ينفذ إليه إحساس. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يحتمل أن يكون المقصود: من بعد ما اظهره الله من آياته بإحياء القتيل عند ضربه ببعض جسم البقرة، أو أن المقصود: من بعد كل ما أظهره الله لكم من آياته وبيناته فتكون الإشارة إلى جميع الآيات والمعجزات التي تقدم ذكرها. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً إن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآيات لقبلتها، كما قال: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله». (إن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها البتة، ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه).

وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي أن من الحجارة ما يندى بالماء الكثير فتفيض منه الأنهار، ومنها ما يندى بالماء القليل فتتفجر منه العيون، وهؤلاء قلوبهم في صلابتها لا تندى بشيء من الخير لهم ولا لسواهم. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هو من قبيل قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (الحشر: 21) فلو جعل الله في الجبل العقل والفهم لصار كذلك. كما أن الحجر لا يستعصي على التشكل بما يراد له، في حين أن هذه القلوب قد استعصت على كل آية وموعظة أرادت صرفها عن عنادها وكفرها. لو أن الله أراد لجبل أن يدكّ لخر خاشعا، فما بال هؤلاء تتجلى أمام عيونهم آيات الله، ويدعوهم الأنبياء للإيمان، فيصمون عن دعوتهم الآذان، ويغلقون دونها القلوب. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ المعنى أن الله تعالى محيط بما يعمله هؤلاء القساة، محص لأعمالهم، فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وفي هذا وعيد لهم، ينبههم إلى إحاطة الله بكل عمل يعملونه، ولو كان من مكنونات القلوب.

75 - أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون

75 - أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أفتطمعون أيها المؤمنون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ من طريق النظر والاعتبار، والانقياد للحق باختيارهم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هم في مثل حالهم من أسلافهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ إذ تبلغهم رسالته واضحة جلية مدعمة بالآيات البينات، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي يغيّرون معناه، أو يتأولونه على غير تأويله، أو يعمد أحبارهم إلى استغلال سذاجة الناس، وجهلهم، فيوجهونهم أي وجهة يريدونها مدعين أنهم يأمرون بما أمرت به التوراة. وقد كان اليهود الذين عاصروا الرسول ينكرون نبوته، برغم أنهم كانوا على علم بظهور النبي، إذ أن الأحبار كانوا يصرفون الناس عن الإيمان، ويحثونهم على التكذيب، ويظهرون لهم النبي بمظهر المدعي، وذلك برغم الأدلة الكثيرة التي كانت تبيّن لهم صدقه، وارتباط دعوته بما سبقها من الأديان، بما فيها دين بني إسرائيل. وَهُمْ يَعْلَمُونَ

76 - وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون

ما اقترفوا من الإثم بتحريف كلام الله. أو وهم يعلمون ما ينتظرهم من العقاب، جزاء على ما ارتكبوه من التحريف والتزييف. 76 - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ مما روي عن ابن عباس أنه قال: إن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق، وأن قوله حق، ونجده بنعته وصفته في كتابنا، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجّوكم به، أما معنى قوله لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة، في إيمانكم بالنبي، إذ كنتم مقرّين به، ومخبرين بصحة أمره من كتابكم، فهذا يبيّن حجتهم عليكم عند الله. وقال ابن الأنباري: معنى عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في حكم ربكم، كما يقال هذا حلال عند الشافعي، أي في حكم الشافعي. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تفقهون أيها القوم أن إخباركم محمدا وأصحابه بما تخبرونهم به من وجود نعت محمد في كتبكم حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم.

77 - أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون

وقيل إن معناه أفلا تعقلون أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون، فلا تطمعوا في ذلك. وهذا قول ضعيف، أفضّل عليه القول السابق، فالعبارة مرتبطة بحديث المنافقين حين يخلو بعضهم إلى بعض. 77 - أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ هؤلاء اليهود الذين يعرفون الله، ويعرفون أنه يعلم السرّ والعلن، كيف يجيزون لأنفسهم أن يسلكوا إزاء الحق هذا النهج من النفاق، ظانين أنهم بذلك يتخلّصون من المسئولية. وقال البعض إن المعنى: أن الله يعلم ما يسرون من كفرهم إذا خلا بعضهم إلى بعض، وما يعلنون من قولهم آمنا إذا لقوا أصحاب محمد. والقول الأول هو رأي أكثر المفسرين. 78 - وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ استنبط الفخر الرازي من هذه الآية ومن سابقاتها وصفا لطوائف اليهود التي عاندت الرسول فقال: الفرقة الأولى هي الضالة المضلة وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والفرقة الثانية هم المنافقون، والفرقة الثالثة هم الذين يجادلون المنافقين ويدعونهم إلى إخفاء ما عرفوه، أما الفرقة الرابعة فهم المذكورون في هذه الآية، وهم العامة الأميّون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة، وطريقتهم التقليد، وقبول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع عندهم واحدا، بل لكل جماعة منهم سبب يتعلق بهم. (الأميّ) من لا يحسن القراءة والكتابة. والأمانيّ جمع أمنية.

79 - فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ... الآية

لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ يعني لا يعلمون من الكتاب إلا ما تتمناه قلوبهم. قال تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي ما تتمناه قلوبهم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ليس علمهم بالكتاب إلا من قبيل الظنون والأوهام، فهم بعيدون عن كل علم يقيني. وفي هذه الآية دليل على أن التقليد في الأمور التي يجب العلم بها غير جائز، وأن الاقتصار على الظن في أبواب الديانات لا يجوز، وأن الحجة بالكتاب قائمة على جميع الخلق، ما دام العلم به قد بلغهم، وأن من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرد تلاوته. 79 - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية الويل هو العذاب والهلاك. هؤلاء كذبوا على الله بأن نسبوا إليه ما لم ينزل، فكان إثمهم أنهم كذبوا على الله، وأنهم أضلوا الناس بهذا الكذب، وأنهم مهدوا بمثل هذه الكتابة سبيلا مستمرا للإضلال. وقد زاد في شناعة إثمهم أنهم فعلوا ذلك كله من أجل الثمن القليل أي الكسب الدنيوي الحقير، فهم لم يفعلوا هذا التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلبا للمال والجاه. وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم، وقوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ

80 - وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون

يدل على أن كتابتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده، وكذلك أخذهم المال عليه، فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب. وقد اختلف في تفسير قوله تعالى: مِمَّا يَكْسِبُونَ هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم، والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه، فالعبارة معناها: عذاب لهم وخزي لهم مما يجمعون من المال الحرام والرشى التي يأخذونها من العوام. 80 - وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وَقالُوا أي قالت اليهود. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي لن تصيبنا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي إلا أياما قلائل، كقوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ (يوسف: 20)

81 - بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

والمعدودة إذا أطلقت كان معناها القليلة. ويروى في تفسير هذه الآية عن ابن عباس ومجاهد أن الرسول قدم المدينة واليهود تزعم أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع العذاب. وقيل: إنهم كانوا يقولون إن العذاب يمتد أربعين يوما هي مدة عبادتهم للعجل. ومهما يكن الأمر فإن اليهود قد أبدوا نوعا من الغرور والتبجح بادعائهم أنهم لن يعذبوا سوى أيام معدودة. (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) أي قل لهم يا محمد: أقولكم هذا عهد اتخذتموه عند الله. فهذا الاستفهام الإنكاري ينطوي على استهزاء باليهود الذين تجرءوا على الله فحددوا له فعله في الآخرة، وكأنما صلتهم به شبيهة بصلة إنسان يعقدون معه معاهدة يتفقون فيها على شروط التعامل التي يعاملهم بمقتضاها، ويتوقعون منه ألا يخلف ما عاهدهم عليه. حقا إن الله لا يخلف وعده، لكن أين هو الوعد الذي وعدهم وحدّد لهم بمقتضاه ألا تمسهم النار إلا أياما معدودة؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أم تتحدثون عن الله بالباطل جهلا منكم به، وبجزاء العمل والثواب والعقاب. 81 - بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بَلى جواب لقولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. والفرق بين بلى ونعم أن بلى جواب النفي، ونعم جواب الإيجاب. لقد رد الله على اليهود قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً فقال: بَلى

أي ليس الأمر كما قالوا. (من كسب سيئة) اختلف في معنى السيئة فقيل هي الشرك، وقيل هي الكبيرة الموجبة للنار، وقيل هي الذنوب التي يعذب مرتكبها بالنار. وأصل الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا بمباشرة منه له ومعاناة فهو كاسب. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ يحتمل أمرين: أحدهما: أنها أحدقت به من كل جانب، كقوله تعالى: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين». والثاني: أن المعنى أهلكته، من قوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ وقوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهذا كله بمعنى البوار والهلاك. فالمراد أنها سدّت عليهم طريق النجاة. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي يصحبون النار ويلازمونها. هُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون أبدا. استدل الخوارج بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. وعلى العكس من ذلك من يقولون بأن أهل الإيمان لا ينطبق عليهم حكم هذه الآية ولو ارتكبوا الكبائر. ويرى هؤلاء أن قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ يقوي هذا المعنى،

82 - والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

لأن مثل هذا العاصي تحدق به خطاياه وتشتمل عليه حتى لا يجد منها مخلصا ولا مخرجا، ولو كان معه شيء من الطاعات لم تكن السيئة محيطة به من كل جانب. 82 - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ في هذه الآية وعد لأهل التصديق والطاعة بالخلود في الجنة. والقرآن الكريم يذكر الوعد دائما إلى جانب الوعيد، فالله يظهر بوعده كمال رحمته، وبوعيده كمال حكمته. ويختلف أهل السنة والجماعة مع المعتزلة حول معنى الإيمان فيذهب أهل السنة إلى أنه الاعتقاد الصادق من غير أن يدخل فيه العمل، أما المعتزلة فيرون أن الإيمان تصديق واعتقاد وعمل. يقول أهل السنة إن قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يفيد أن الإيمان يختلف عن العمل، فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارا، أما المعتزلة فيقولون بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة، إلا أن قوله آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول والذين آمنوا وعملوا الصالحات. والخلاصة أنهم يختلفون حول تحديد معنى الإيمان هل هو الاعتقاد وحده أم هو الاعتقاد والعمل مقترنين معا. 83 - وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية وَإِذْ واذكروا إذ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي عهدهم. وقيل: الميثاق هو الأدلة من جهة العقل والشرع، وقيل هو

المواثيق التي يأخذها الأنبياء على أممهم، والعهد والميثاق لا يكون الا بالقول، فكأنه قال: أمرناهم ووصيناهم وأكّدنا عليهم. لا تَعْبُدُونَ إخبار في معنى النهي، كما تقول: تذهب لفلان تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان قد سورع إلى الامتثال بالنسبة للأمر، والانتهاء بالنسبة للنهي، فهو يخبر عنه، وكأن الفعل المطلوب قد وقع. إِلَّا اللَّهَ وحده دون ما سواه مما اتخذوه أندادا. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا. والإحسان الذي أخذ عليهم الميثاق أن يفعلوه هو ما فرض على المسلمين أيضا من برّ بالوالدين، وإحسان إليهما، وقول جميل، ورأفة، ورقة في المعاملة عبر عنها الكتاب الكريم بخفض جناح الذل لهما. وَذِي الْقُرْبى أي ووصاكم بذي القربى أن تصلوا قرابته وَالْيَتامى أي ووصاكم باليتامى أن تعطفوا عليهم بالرأفة والرحمة وَالْمَساكِينِ أي وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليكم في أموالكم.

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يفسر الفخر الرازي معنى قول الحسن كما يلي: قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية، فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان، وهو مع الكفار، أو في الدعوة إلى الطاعة، وهو مع الفساق. أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون بصدد دعوتهما لفرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أمرهما تعالى بالرفق مع فرعون. وقال لمحمد: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر: قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف في القول لم يحسن سواه، فثبت أنّ جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ اختلف فيمن أريدوا بقوله ثم توليتم على وجهين: أحدهما أنهم من تقدم من بني إسرائيل وثانيهما أن الخطاب في العبارة لمن كان في عصر النبي من اليهود يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم.

84 - وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون.

إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إذا اعتبرنا المقصود بالتولي من تقدم من بني إسرائيل، فالاستثناء هنا للقلة منهم التي بقيت على دينها. وإذا كان المقصود بمن تولوا هم اليهود في عصر النبي فالقلة المستثناة هم اليهود الذين اهتدوا للإسلام. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي وأنتم قوم دأبكم الإعراض ونبذ المواثيق. 84 - وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. لا يفعل ذلك بعضكم ببعض، جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا. وقيل: من قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يجلب على نفسه القصاص. فالميثاق قد دعاهم إلى نبذ ما كان يقوم بينهم من صراع. وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي ولا يعتدي بعضكم على البعض الآخر بإخراجهم من ديارهم. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليها. كقولك: فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها. وهناك خلاف حول من قصدوا بهذه الآية، أهم أسلاف اليهود، أم اليهود في

85 - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ... الآية

زمن النبي، فقيل نزلت في أسلاف اليهود، كما قيل إنها نزلت في بني قريظ والنضير. وهي من جهة المعنى منطبقة على السلف والخلف من اليهود. 85 - ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ... الآية قال السدّي: «إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه، وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس وبنو النضير حلفاء الخزرج، حين كان بينهما ما كان من العداوة والقتال، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خربوا ديارهم، وأخرجوهم منها، ثم إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا، فيفدونه، فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم، فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، ولكن نستحي أن نذلّ حلفاءنا، فذمّهم الله تعالى على المناقضة». ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ خطاب خاص بالحاضرين من اليهود، فيه توبيخ لهم وتذكير بسوء فعلهم. تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ تبدأ الآية الكريمة هنا تفصيل أحوالهم المنكرة وأولها قتل بعضهم للبعض الآخر وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ وهذا هو الإثم الثاني الذي أخذته عليهم الآية. تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تتعاونون على إخراجهم مع سواكم، وأنتم بفعلكم هذا متلبسون بالإثم والعدوان.

وَالْإِثْمَ هو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ أسارى جمع أسير وهو من يؤخذ قهرا. والأسر هو الشدّ. تُفادُوهُمْ أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وكان الأولى بكم أن تبتعدوا عن إيقاع الضر بهم، إذ أخرجتموهم من ديارهم. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ الهمزة استفهام إنكاري والإيمان ببعض الكتاب هو الإيمان بما أمرتهم به التوراة من مفاداة أسراهم، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو ما نصت عليه التوراة من حرمة القتال بينهم، وإخراج بعضهم البعض من ديارهم. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

86 - أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون

الخزي هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ. والتنكير في قوله خزي يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى. 86 - أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ هؤلاء اختاروا وآثروا بعض متع الحياة الدنيا ومنافعها على الآخرة، فاستحقوا عذاب الآخرة في أعنف صوره، ولن يكون لهم هناك من نصير يلجئون إليه حتى يدفع عنهم العذاب، ومن يذله الله فما له من ناصرين. 87 - وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ .... الآية الْكِتابَ هو التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي أتبعنا، مأخوذ من الشيء يأتي في قفا الشيء أي بعده. وتشير هذه الآية إلى رسل بني إسرائيل الذين توالى ظهورهم وهم يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. واختلف في معنى إرسال هؤلاء الرسل، وهل كانوا حملة رسالات أم كانوا مجرد دعاة لحفظ شريعة موسى أو تجديد ما اندرس من معالمها. ذهب البعض إلى أن الرسل تواتر ظهورهم في بني إسرائيل بعد موسى، وظهر بعضهم في أثر بعض والشريعة واحدة، حتى ظهر عيسى فجاء بشريعة جديدة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فإنه يقتضي أنهم على حدّ واحد في الشريعة، يتبع بعضهم بعضا فيها ويذهب البعض الآخر إلى أن كل رسول لا بد أن يضيف جديدا.

واذا كان لنا أن نأخذ بقول الباحثين المحدثين فهم يرون أن الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم هي توراة موسى، أما الباقي فهي فصول أحدث تاريخا منها. كما أن القرآن أخبر عن إيتاء داود الزبور. فمعنى ذلك أن هؤلاء الرسل كانوا يضيفون بعض الإضافة إلى ما جاء به موسى. وربما اقتصرت هذه الاضافة على مجرد التوضيح والدعوة إلى إحياء معالم الشريعة. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الرسل الذين جاءوا إلى بني إسرائيل بعد موسى كانوا تابعين له في شريعته، حتى جاء عيسى، فأتى بدين جديد نسخ به دين موسى. أما البينات فهي المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك مما عرف من معجزاته. وقيل إن البينات هي الإنجيل فهو أشمل للرسالة وللمعجزات. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل في تفسير روح القدس وجوه متعددة، منها أنه جبريل، ويذكر أنه سمي روح القدس بمعنى الروح المقدسة، كما يقال حاتم الجود، فوصف بذلك تشريفا له وبيانا لعلو مرتبته، أو لأن الدين يحيا به كما يحيى الجسم بالروح، فهو المكلف بإنزال الوحي على الأنبياء. وقيل إنه روحاني كسائر الملائكة لكن روحانيته أتم وأكمل فسمي روح القدس. ومن المفسرين من قال إن روح القدس هو الإنجيل، ومثله قوله تعالى في القرآن رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ومنهم من قال إنه الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. ومنهم من قال إنه الروح الذي نفخ في عيسى، فجعله يولد بطريق مخالف لسائر البشر.

88 - وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون

أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ كان اليهود من بني إسرائيل إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه. وقد عرف عنهم قتل بعض الأنبياء، كما أنهم قاموا بمحاولة لقتل محمد، إذ أهدت امرأة يهودية شاة مسمّمة إلى الرسول، وقال عليه السلام عند موته «ما زالت أكلة خيبر تعاودني»، وكان ذلك إشارة إلى أكله قطعة من لحم تلك الشاة المسممة 88 - وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (غلف) جمع أغلف، والأغلف هو ما أحاط به غلاف، فالمعنى: قلوبنا مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها. وشبيه بذلك ما حكاه القرآن من قولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ويفسر المعتزلة هذه الآية بأسلوب يبين أن ما ادعاه هؤلاء من أن قلوبهم غلف لم يكن سوى تأثير كفرهم وعنادهم. يقول الزمخشري. «ثم ردّ الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، بأن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك في منع الألطاف التي تكون لمن يتوقع إيمانهم، وللمؤمنين». أما أهل السنة فيرون أن الله خلق قلوبهم على هذه الصورة حينما اختاروا الكفر على الإيمان.

89 - ولما جاءهم كتاب من عند الله .... الآية

وهذا الجدل لا يقدم ولا يؤخر، بل المهم هنا هو أن هؤلاء اليهود جابهوا الرسول بقولهم إن قلوبهم غلف لا سبيل لها للاستماع إلى دعوته، وكان ذلك عنادا وكفرا، لعنهم الله عليه. فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ هؤلاء الناس- برغم ادعائهم الإيمان- لا يؤمنون إلا بالقليل مما أنزله الله عليهم. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم، كما يقال: قليلا ما يفعل، بمعنى لا يفعل البتة. قال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قليلا ما تنبت، يريدون لا تنبت شيئا. 89 - وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .... الآية كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يؤيد لهم صدق دينهم، ويدعوهم إلى دين الإسلام وهو المكمل لرسالات السماء التي سبقته، جاء يبني عليها، وينقل العالم إلى مرحلة جديدة، مبنية على الإقرار بما سبق نزوله على الأنبياء، متضمنة مبادئ جديدة جاءت لمصلحة الإنسانية بعد أن قطعت مرحلة طويلة من تاريخها. وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا قيل في سبب النزول وجوه. أحدها: أن اليهود من قبل مبعث محمد ونزول

القرآن كانوا يستفتحون أي يسألون الفتح والنصرة، وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأميّ. ثانيها: أن اليهود كانوا يقولون لأعدائهم من المشركين. قد أظلّ زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم بنصرته. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من الحق الذي تجلى في رسالة محمد ونزول القرآن كَفَرُوا بِهِ بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ لم يقل فلعنة الله عليهم، بل قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ليكون ذلك إيذانا بأن استحقاقهم اللعنة إنما مرده لكفرهم. ويقصد باللعنة الحرمان من خيرات الآخرة، لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعونا. فاللعنة تمثل في الجزاء الذي يلاقيه الكافر يوم الحساب.

القسم الثالث أعلام المفسرين وأمثلة من تفسيراتهم للاستاذ عبد الله الشريف

[القسم الثالث] أعلام المفسّرين وأمثلة من تفسيراتهم للاستاذ عبد الله الشريف

جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري

أعلام المفسرين في هذا الفصل نستعرض بعض الكتب المدونة في التفسير، وهي قليل من كثير، فدراستها جميعا أمر لا يتيسر للباحث بسهولة، لعدم إمكان جمعها من جهة، ولكثرة عددها من جهة أخرى. وسوف نتكلم عن أشهر الكتب التي تداولها الباحثون في التفسير، لنلقي الضوء على أعلام المفسرين من حيث الأهمية والشهرة، فنعرض نبذة مختصرة عن المؤلف، ثم نبين خصائص كتابه وطريقته فيه. جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري التعريف بالمؤلف هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، إمام جليل، ومجتهد عظيم، له تصانيف مشهورة، وأصله من طبرستان، ولد سنة 224 هـ، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره رحل من بلده طالبا العلم، يطوف

تفسير ابن جرير وأسلوبه فيه

الاقاليم، ساعيا في مصر والشام والعراق، إلى أن استقر به المقام في بغداد، حيث بقي إلى أن وافته المنيّة سنة 310 هـ. وهو واحد من اعلام الأئمة، يؤخذ رأيه، ويرجع الى قوله، لمكانته في العلم، وقدرته على الفتوى، فقد كان حافظا لكتاب الله الكريم، بصيرا بآياته، فقيها في أحكامه، ملما بالحديث والسنة، مطلعا على أقوال الصحابة والتابعين ومن خلفهم. كان ابو العباس بن سريح يقول فيه: محمد بن جرير فقيه عالم. وهي شهادة صادقة، دلت عليها آثار ابن جرير في علوم متعددة حيث أنتج في علم القراءات والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ. ويعتبر الطبري مرجعا في التفسير، كما يعتبر مرجعا في التاريخ الاسلامي، يقول ابن خلكان عنه: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحدا. ومع أن ابن جرير كان له مذهبه الخاص المنفرد المستقل، وأقوال واختيارات، وأتباع ومقلدون (¬1) فقد نقل عنه انه كان شافعي المذهب أول طريقه، وقال في ذلك: أظهرت فقه الشافعي، وافتيت به ببغداد عشر سنين، وتلقاه مني ابن بشار الأحول، استاذ أبي العباس بن سريح. هذا هو ابن جرير، وهذه أقوال العلماء فيه، وذلك حكمهم عليه، ومنها يتبين لنا قيمته وقدره (¬2). تفسير ابن جرير وأسلوبه فيه قلنا إن تفسير ابن جرير يعتبر من أشهر التفاسير وأوفاها، كما يعتبر مرجعا أول عند المفسرين سواء منهم الذين عنوا بالتفسير النقلي أو العقلي، لما فيه من توجيه القول، والاستنباط، وترجيح القول على غيره، بأسلوب يعتمد على صحة النقل ودقة البحث واكتماله. ¬

_ (¬1) السيوطي (¬2) وفيات الاعيان ج 2

أسلوب ابن جرير في التفسير:

وتفسير ابن جرير يقع في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير، وله طبعات متعددة. وأقوال العلماء في تفسير ابن جرير من الشرق والغرب، كثيرة تجمع على عظيم قيمته، وتتفق على أنه مرجع لا غنى عنه لطالب التفسير. قالوا عنه: وكتابه- يعني تفسير الطبري- أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والاعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين (¬1). وقالوا: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري (¬2). كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، (¬3) ويذكر صاحب لسان الميزان: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال: نظرت فيه من أوله الى آخره فما أعلم على أديم الارض أعلم من ابن جرير (¬4). ونستطيع القول بأن تفسير ابن جرير هو التفسير الأول بين الكتب، زمنا وفنا وصناعة، أما أوليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل الينا، وما سبقه من محاولات في التفسير ذهبت بمرور الزمن، وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك عائد لما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه، حتى أخرجه للناس كتابا له قيمته ومكانته. أسلوب ابن جرير في التفسير: الباحث في طريقة ابن جرير في تفسيره، يشاهد أولا، أنه إذا أراد تفسير ¬

_ (¬1) الاتقان للسيوطي ج 2 (¬2) الاتقان (¬3) فتاوى ابن تيمية ج 2. (¬4) لسان الميزان.

موقفه من المفسرين بالرأي فقط

آية من القرآن الكريم يقول: القول في تأويل قوله تعالى ... ثم يبدأ تفسير الآية مستشهدا بما أثر عن الصحابة والتابعين من تفسير فيها، عارضا كل قول روي عن الصحابة أو التابعين في الآية التي ذكر فيها قولان أو أكثر. وتفسير الطبري يتعرض أيضا لتوجيه الاقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما يتعرض عند ما تدعو الحاجة إلى توضيح الناحية الإعرابية، كما يشرح استنباط الحكم الشرعي الذي يمكن أخذه من الآية مع سرد الأدلة وترجيح ما يختاره. موقفه من المفسرين بالرأي فقط لقد كان الطبري معارضا كل المفسرين الذين يعتمدون في التفسير على الاستقلال بالرأي، مشددا إلى ضرورة الرجوع الى العلم الراجح عند الصحابة أو التابعين، وما نقل عنهم بسند صحيح مستفيض، واجدا في ذلك وحده أسلوب التفسير الصحيح، مثال ذلك: عند قوله تعالى في الآية (65) من سورة البقرة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. يقول ابن جرير «حدثني المثنى، قال: حدثنا ابو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. قال: «مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا» ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول

رأي ابن جرير في الأسانيد:

وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف الخ» (¬1) رأي ابن جرير في الأسانيد: كان غالبا لا يتعقب الأسانيد بتصحيح أو بتضعيف، وإن كان يلتزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، وهو ذات الاسلوب الذي سار عليه في تاريخه. ومع هذا فابن جرير يقف من السند أحيانا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الاسناد، ويجرح من يجرح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويعطي رأيه المناسب فيها، فمثلا: عند تفسيره لقول الله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا يقول «روي عن عكرمة في ذلك- بشأن ضم السين وفتحها في كلمة «سدّا» ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السدّ يعني بفتح السين. وما كان من صنع الله فهو السدّ، ثم يعقب على هذا السند فيقول: وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه». (¬2) رأي ابن جرير في القراءات نرى أن ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وغالبا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة المعتبرين عنده وعند علماء القراءات، وكذلك تلك التي تقوم على أصول مضطربة بما يكون فيها من تغيير وتبديل لكتاب ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير ج 1 (¬2) تفسير ابن جرير ج 16

معالجة ابن جرير للأحكام الفقهية:

الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر، مع توجيه رأيه بالأسباب، فمثلا عند قول الله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً (¬1). يذكر أن عامة قرّاء الأمصار قرءوا (الرّيح) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: «والقراءة التي لا استجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه». وعناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها، ترجع الى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى قالوا عنه: إنه ألف فيها مؤلفا خاصا في ثمانية عشر مجلدا ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشاذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور» (¬2). وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل الينا، شأن الكثير من مؤلفاته. معالجة ابن جرير للأحكام الفقهية: نرى في تفسير الطبري أن ابن جرير يعرض للأحكام الفقهية ساردا أقوال العلماء ومذاهبهم، ثم يعطي رأيه الذي يختاره، بترجيح علميّ قيّم، مع الشرح بالدليل، فمثلا يقول عند تفسيره لقول الله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الانبياء 81 (¬2) معجم الادباء ج 18 (¬3) سورة النحل 8

إن الآية لا تدل على حرمة شيء من ذلك، يقصد أقوال العلماء في حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. ثم أبدى رأيه الذي اختاره، والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني- أي أنّ الآية لا تدل على الحرمة- وذلك انه لو كان في قوله تعالى: لِتَرْكَبُوها دلالة على أنها لا تصلح إذا كانت للركوب للأكل، لكان في قوله فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (¬1) دلالة على أنها لا تصلح إذا كانت للأكل والدفء للركوب. وفي اجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى وَمِنْها تَأْكُلُونَ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال لِتَرْكَبُوها جائز حلال غير حرام، الا بما نصّ على تحريمه، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بيّنا في كتابنا كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك. وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول من استدل بهذه الآية على تحريم لحم الفرس». (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النحل 5 (¬2) تفسير ابن جرير ج 14

رأيه في أمور العقيدة

رأيه في أمور العقيدة الباحث في تفسير الطبري يرى أن صاحبه تعرّض لبعض النواحي الكلامية عند كثير من آيات القرآن الكريم، بما يشهد لعلمه الممتاز في أمور العقيدة، فهو يناقش بعض الآراء الكلامية بإجادة وقوة، موافقا لأهل السنة في آرائهم، متصديا للرد على المعتزلة في كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلا يجادلهم مجادلة حادّة في تفسيرهم العقلي التنزيهي للآيات التي تثبت رؤية الله عند أهل السنّة كما نراه يذهب الى ما ذهب اليه السلف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها، مع المعارضة لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أولئك الذين يشبهون الله بالانسان. فمثلا عند تفسير قول الله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... (¬1) يقول: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته توبيخا لهم بذلك، وتعريفا منه نبيّه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم واغترارهم به، وانكارهم جميع جميل اياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم، واحتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نبيّ مبعوث ورسول مرسل، إن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيّ علومهم ومكنونها، التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرءوا كتابا ولا وعوا من علوم أهل الكتاب علما، فأطلع الله على ذلك نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم. يقول تعالى ذكره: وقالت اليهود من بني إسرائيل يد الله مغلولة، يعنون أن خير الله ممسك وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيّه (صلى) «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط» وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك والمعنى العطاء، ¬

_ (¬1) سورة المائدة 64

انصراف ابن جرير عما لا فائدة فيه

لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشح وضيق، بإضافة ما كان من ذلك في صفة الموصوف إلى يديه كما قال الأعشى في مدح رجل: يداك يدا مجد فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضنّ بالزاد تنفق ... إلى أن يقول: فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال: «وقالت اليهود يد الله مغلولة» يعني بذلك انهم قالوا: إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف. تعالى الله عمّا قالوا، فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم: «غلّت أيديهم» يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط». (¬1) انصراف ابن جرير عمّا لا فائدة فيه والطبري في تفسيره لا يهتم كغيره بالأمور التي لا تغني ولا تفيد، انظر اليه عند تفسير قول الله تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (¬2) يعرض لمحاولات قدماء المفسرين في تحديد عدد الدراهم، هل هي عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟ ... إلى آخر ما ذكر من الروايات .. ثم يعقب على ذلك كله بقوله «والصواب من القول أن يقال: إن الله- تعالى ذكره- أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ¬

_ (¬1) الطبري ج 6 ص 171 (¬2) سورة يوسف 20

رجوعه إلى الشعر القديم

يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر، وأيّ ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه». (¬1) رجوعه إلى الشعر القديم نجد ابن جرير يرجع أحيانا إلى شواهد من الشعر القديم بشكل واسع، متبعا في هذا ما أثاره ابن عباس في ذلك، فمثلا عند تفسير قول الله تعالى ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ... (¬2) يقول: «قال أبو جعفر، والأنداد جمع ندّ، والنّد: العدل والمثل كما قال حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بندّ ... فشركما لخير كما الفداء يعني بقوله: ولست له بند، لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظيرا لشيء وشبيها فهو له ندّ» (¬3)، ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السلف .. كما كان الطبري يتعرض أيضا لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين في النحو والصرف، ويوجه الاقوال، تارة على المذهب البصري، وأخرى على المذهب الكوفي؛ محتكما الى ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع الى الشعر القديم ليستشهد به على ما يقول، وتعرضه للمذاهب النحوية عند ما تمس الحاجة، جعل كتابه يحتوي على جملة كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية، التي أكسبت الكتاب شهرة عظيمة. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير ج 12 ص 103 (¬2) سورة البقرة 22 (¬3) تفسير ابن جرير ج 1 ص 125

وإجمالا نقول: إن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية، جعلت تفسيره مرجعا مهما من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولغوية (¬1) وعلمية قيّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة؛ فكتاب تفسير القرآن، لابن جرير، الذي بيّن فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومشكله وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص وأخبار الأمة والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة والى أبي جاد، كتاب جيّد فلو ادعى عالم أن يصنّف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل (1). ¬

_ (¬1) طبقات المفسرين للداودي

تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء ابن كثير

تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء ابن كثير التعريف بالمؤلف: هو الإمام الكبير، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري الدمشقي، واحد من فقهاء الشافعية، حضر مع أخيه الى دمشق صغيرا بعد وفاة أبيه. فسمع من كبار المفسرين والمحدثين والفقهاء، وقرأ على الآمدي وابن عساكر وغيرهما، وأخذ عن ابن تيمية وتحمس لآرائه، حتى قال بعضهم فيه: إنه كانت له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة عنه، وأتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي. (¬1) وقال آخر: كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، ولي مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبي. وبعد موت السبكي مشيخة الحديث الأشرفية مدة يسيرة ثم أخذت منه (¬2). ولد في سنة 700 هـ وتوفي عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، ودفن عند شيخه ابن تيمية في مقبرة الصوفية، بعد أن كفّ بصره في آخر عمره. ¬

_ (¬1) طبقات المفسرين لابن قاضي شهبة (¬2) طبقات المفسرين للداودي

درجته العلمية

درجته العلمية ابن كثير، كان على جانب كبير من العلم والفضل، كما يشهد له بذلك رأي العلماء فيه، خصوصا في الحديث والتاريخ والتفسير، له كتاب في التاريخ سمّاه البداية والنهاية وأخرج كتاب طبقات الشافعية، وصلت كتبه شتى البلاد في حياته، وانتفع منها الناس بعد وفاته، كان محدثا فقيها، « ... كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم (¬1)»، قال فيه ابن حبيب: «زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنّف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث فأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت اليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير، فهو إذن: الإمام المفتي، المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة (¬2). أخذ عنه كثيرون من تلاميذه اسلوبه في التصنيف، وطريقته في النقل والرواية، قال فيه أحدهم: «أحفظ من أدركناه لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أني واجتمعت به على كثرة ترددي عليه والا واستفدت منه». والذين اعتنوا بالبحث في انتاج ابن كثير، وقرءوا تفسيره أو كتابه في التاريخ، وجدوا فيه، شخصية عميقة الفهم، واسعة الاطلاع، غزيرة العلم. تفسير ابن كثير وطريقة التأليف فيه: يعتبر تفسير ابن كثير من أشهر كتب التفسير المأثور، وهو بذلك يأتي في المرتبة الثانية بعد تفسير ابن جرير الطبري، يروي فيه أبو الفداء عن المفسرين من السلف، شرح كتاب الله تعالى، بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبالآثار المسندة الى أصحابها، مع التعليق عليها جرحا وتعديلا. أعاد طبعه المرحوم الشيخ ¬

_ (¬1) شذرات الذهب (¬2) المعجم المختص للذهبي

احمد شاكر أخيرا بعد أن جرّده من الاسانيد، وكان مطبوعا في أربعة أجز كبار. تعرّض ابن كثير للأمور التي تتعلق بالقرآن وتفسيره في مقدمة مطوّلة، على جانب عظيم من الأهمية العلمية، أخذ معظمها من كلام أستاذه ابن تيمية. يمتاز بطريقة خاصة في التفسير، فهو يذكر الآية أولا ثم يفسرها بالعبارة السهلة الموجزة، مع توضيحها بآية أخرى على سبيل المقارنة بينهما إن أمكن ذلك، تبيانا للمعنى وإظهارا للمراد، وهو شديد العناية بهذا الاسلوب الذي يطلق عليه تفسير القرآن بالقرآن. وبعد ذلك يبدأ في سرد الأحاديث النبوية التي تتعلق بالآية، مبيّنا ما يستدل منه على تأكيد المعنى، معقبا شرحه بأقوال الصحابة والتابعين ومن يليهم من علماء السلف. ولمعرفة ابن كثير بفنون الحديث وأحوال الرجال، كان يرجح الأقوال على بعضها، ويبين درجة الرواية تضعيفا أو تصحيحا، تعديلا لبعض الرواة أو تجريحا. ولم يفت ابن كثير أن يلفت نظر القارئ الى المنكرات الاسرائيليات في التفسير المأثور، محذرا منها على وجه الاجمال مرّة. وعلى وجه التعيين والبيان مرّة أخرى، فمثلا عند تفسيره لأول سورة «ق» يقول: ... «وقد روي عن بعض السلف، أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا والله وأعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز لرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني اسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النّقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتاب الله وآياته؟ وانما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله «وحدثوا عني بني اسرائيل

دخول ابن كثير في المناقشات الفقهية

ولا حرج» فيما قد يجوّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل والله أعلم». (¬1) دخول ابن كثير في المناقشات الفقهية نلاحظ في تفسير ابن كثير انه كان يدخل في المناقشات الفقهية، فيذكر أقوال العلماء، ويسرد أدلتهم، ويوضّح آراءهم عند ما يشرح آية من آيات الاحكام، فمثلا عند تفسيره لقول الله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. (¬2) نراه يورد أقوال الفقهاء: «وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية (إحداها) أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه فليس له الافطار بعذر السفر، والحالة هذه لقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وإنما يباح الافطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر. ثم يبدي ابن كثير رأيه بقوله: وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلّى عن جماعة من الصحابة والتابعين، وفيما حكاه عنهم نظر والله أعلم، فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر، أخرجه صاحبا الصحيح. ويستمر في ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ج 4 (¬2) سورة البقرة

؟ رد أقوال الفقهاء ... (الثانية) ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير وليس بحتم لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، قال: فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فلو كان الافطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرّ شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة، وما فينا صائم إلا رسول الله (صلى) وعبد الله بن رواحة. (الثالثة) قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الافطار لفعل النبي (صلى) كما تقدم، وقالت طائفة: بل الافطار أفضل أخذا بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله (صلى) أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: «من أفطر فحسن ومن صام فلا جناح عليه» وقال في حديث آخر «عليكم برخصة الله التي رخص لكم» وقالت طائفة هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: «إن شئت فصمّ وإن شئت فأفطر»، وهو في الصحيحين، وقيل إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه فقال: «ما هذا»؟ قالوا صائم فقال: «ليس من البرّ الصيام في السفر» أخرجاه، فأما إن رغب عن السنّة ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الافطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفه (الرابعة) القضاء هل يجب متتابعا، أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان: (أحدهما) أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء (والثاني) لا يجب

التتابع بل إن شاء فرّق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل، لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (¬1) وبهذا يتضح لنا أن ابن كثير كان يخوض في خلافات الفقهاء، عن دراية وعلم، وحسن اطلاع وتدقيق وضبط، ساردا أدلتهم، شارحا مذاهبهم، كلما تكلم عن آية من آيات الأحكام، ومع ذلك فهو لا يسرف كما أسرف غيره من الفقهاء المفسرين. وتفسير ابن كثير بعمومه، من خير كتب المأثور، بأسلوب لم يؤلف فيه على نمطه مثله. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير ج 1

مفاتيح الغيب للإمام محمد الرازي

مفاتيح الغيب للإمام محمد الرّازي تعريف بالمؤلف هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، التميميّ، البكريّ، الطبرستاني، الرّازي، الملقب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعي، ولد سنة 544 هـ وتوفي- رحمه الله- سنة 606 هـ، وقد قيل في سبب وفاته: إنه كان بينه وبين الكرّامية خلاف كبير وجدل في أمور العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سبّا وتكفيرا، حتى سمّوه فمات على إثر ذلك مسموما. (¬1) كان- رحمه الله- متكلم عصره، وفريد زمنه، إماما في التفسير والكلام، والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، جمع كثيرا من العلوم ونبغ فيها، ولقد أكسبه نبوغه العلمي شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويأتون لمجلسه من مختلف الأقطار والأمصار. خلّف للناس مجموعة كبيرة من تصانيفه في الفنون المختلفة، وانتشرت في البلاد، ورزق فيها الخطوة الواسعة، والسعادة الكبيرة، حيث اشتغل الناس بها، وأعرضوا عن غيرها من كتب الذين سبقوه، أخذ العلم عن والده ضياء الدين ¬

_ (¬1) وفيات الاعيان ج 2

طريقة الرازي في تفسيره"مفاتيح الغيب"

المعروف بخطيب الريّ، وعن الكمال السمعاني والمجد الجيلي، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم. وله فوق شهرته العلمية شهرة عظيمة في الوعظ، حتى قيل إنه كان يعظ الناس بالعربية والفارسية، وكان شديد التأثر في وعظه إلى حد أنه كان يغلب عليه البكاء، من أهم المصنفات التي أخرجها: تفسيره الكبير، المعروف بتفسير فخر الدين الرّازي، المسمّى بمفاتيح الغيب الذي نحن بصدده، وله تفسير مستقل لسورة الفاتحة في مجلّد واحد، وله في علم الكلام: كتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزّيغ والطغيان، والمطالب العالية. كما له في أصول الفقه كتاب المحصول، وفي الحكمة الملخّص، وفي الطلسمات السرّ المكنون، وشرح الإشارات لابن سينا، وشرح عيون الحكمة، كما شرح المفصّل في النحو للزمخشري والوجيز في الفقه للإمام الغزالي، مما يدل على سعة علم الرجل، وغزارة ثقافته. طريقة الرّازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» هو تفسير يقع في ثماني مجلدات كبار، طبع وتداولته أيدي أهل العلم. وردت فيه أقوال تدعو للحيرة، قد لا يوفق الباحث للوصول إلى حلّ لمشكلها. ولقد قال ابن قاضي شهبة: إن الفخر الرازي لم يتم كتابه. وأكد هذا ابن خلكان في وفيات الأعيان، فمن يا ترى أكمل هذا التفسير؟ وكم من الأجزاء أو السور أتم؟ لقد تضاربت الأقوال في هذا الموضوع، وتعددت الآراء فيه: .. (ا) صاحب كشف الظنون يقول: «وصنّف الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد القمولي تكملة له وتوفي سنة 727 وقاضي القضاة، شهاب الدين بن خليل الدمشقي، كمل ما نقص منه أيضا، وتوفي سنة 639 هـ (¬1). ¬

_ (¬1) كشف الظنون ج 2

(ب) ابن حجر العسقلاني يقول: «الذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي، هو أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي نجم الدين المخزومي القمولي مات سنة 727 هـ وهو مصري» (¬1). وفي هذين القولين ما يتفق على أن الرازي لم يتم تفسيره. (ج) يعود صاحب كشف الظنون فيقول: «الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلا عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء (¬2). وفي هذا القول توضيح أو بعض توضيح للتساؤل حول أي موضع وصل الفخر الرازي في تفسيره؟ (د) لو تتبعنا التفسير نفسه لوجدنا عبارات يستدل منها تأكيد أقوال العلماء في مسألة عدم اتمام الرّازي لتفسيره. فعند شرحه للآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... (¬3) يتعرض لموضوع النيّة في الوضوء، مستشهدا على اشتراط النيّة بقول الله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (¬4). مبيّنا أن الإخلاص عبارة عن النية ثم يقول: وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قول الله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان» (¬5). وهذه العبارة تدلّ من حيث ظاهرها ¬

_ (¬1) الدرر الكامنة ج 1 (¬2) كشف الظنون ح 2 (¬3) سورة المائدة 6 (¬4) سورة البنية 5 (¬5) مفاتيح الغيب ج 3

المجرد عن كل شيء بأن الفخر الرازي فسر سورة البيّنة، أي وصل إليها في تفسيره. (هـ) عند تفسيره لقول الله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (¬1). وردت عبارة تقول: «المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها .. » (¬2). وهي تدلّ من حيث ظاهرها أيضا بأن الرازي لم يكمل تفسيره، ولم يصل به إلى هذه السورة. ولعل الإمام الرازي- وهو مجرد رأي- كتب تفسيره المشهور إلى سورة الأنبياء ثم شرح في تكملته شهاب الدين الدمشقي ولكنه لم يتمه، فأكمل ما بقي منه نجم الدين القمولي. أو لعل الامام الرازي قد كتب تفسيرا مستقلا لسورة البيّنة، أو للآية المذكورة وحدها، وعموما، فإن القارئ لتفسيره، لا يستطيع أن يميّز بين أصل وتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الرازي، أو المقدار الذي كتبه صاحب التكملة، إذ ليس فيه تفاوت في المسلك أو المنهج، بل جري على نمط واحد من أول الكتاب إلى آخره، وبطريقة واحدة. والذي يعنينا قوله، إن تفسير الرازي، يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالفيض الواسع حين البحث، وفي نواح متعددة من العلم، مما جعله ذا شهرة واسعة بين العلماء، «فقد جمع فيه كل غريب وغريبة (¬3). فهو كتاب شبيه بالموسوعات العلمية في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، وتلك ناحية غلبت عليه، حتى كادت تقلل من أهمية الكتاب كتفسير للقرآن الكريم فقالوا فيه «إن الامام فخر الدين الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب» (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الواقعة 24. (¬2) مفاتيح الغيب ج 8. (¬3) وفيات الأعيان ج 2 (¬4) كشف الظنون ج 1

ملاحظات حول تفسير الرازي

ملاحظات حول تفسير الرازي أولا: رأي الرازي في المعتزلة: فهو كسنّي يرى ما يراه أهل السنة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام، فيعرض لمذهب المعتزلة عند كل فرصة، بذكر أقوالهم والردّ عليها، ردا لا يراه البعض شافيا ولا كافيا، حتى قال فيه الحافظ بن حجر: «وكان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلّها حتى قال بعض المغاربة: «يورد الشبهة نقدا ويحلّها نسيئة» (¬1) ثانيا- اهتمام بالنحو والبلاغة وبعلوم الفقه والأصول تراه في كتابه يستطرد لذكر المسائل الأصولية، والنحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع في ذلك توسعه في مسائل العلوم الكونية والرياضية. كما أنه يذكر مذاهب الفقهاء في كل آية من آيات الأحكام، مروجا مذهب الشافعي الذي يقلّده- بالأدلة والبراهين. ثالثا- الاهتمام بالعلوم الفلسفية والرياضية فهو يعرض كثيرا لأقوال الفلاسفة، ويرد عليهم ويفنّد أقوالهم. بصياغة تتفق ونمط استدلالاتهم العقلية في كل بحث إلهيّ، بما يؤكد تأييده لمذهب أهل السنّة، مكثرا من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة في الملّة، على ما كانت عليه في عهده، كالهيئة الفلكية وغيرها. رابعا- الاهتمام بكثرة الاستنباطات والاستطرادات وهذا واضح من مقدمة تفسيره، حيث لا يسعك إلا أن تحكم على الفخر ¬

_ (¬1) لسان الميزان ج 4

الرازي بهذا الحكم، وهذا ظاهر من ولعه بهذا الاسلوب كلما استطاع إيجاد الصلة بين المستنبط أو المستطرد إليه وبين اللفظ القرآني، يقول في المقدمة: «اعلم أنه مرّ على لساني في بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة- يريد الفاتحة- يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا الحساد، وقوم من أهل الجهل والغيّ والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب، قدمت هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول، قريب الوصول ... » (¬1) ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب ج 1

أنوار التنزيل وأسرار التأويل لقاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل لقاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي التعريف بالمؤلف هو قاضي القضاة، ناصر الدين أبو الخير، عبد الله بن عمر بن محمد بن عليّ، البيضاوي الشافعي، وهو من بلاد فارس، ولي القضاء بشيراز، وتوفي بمدينة تبريز، على اختلاف في سنة وفاته، قال ابن كثير: توفي 685 هـ. وقال السبكي: سنة 691 هـ. له مصنفات كثيرة أهمها: أنوار التنزيل وأسرار التأويل في تفسير القرآن الكريم، وكتاب المنهاج وشرحه في أصول الفقه، وكتاب الطوالع في أصول الدين، وهي كتب مشهورة ومتداولة بين أهل العلم. قال عنه ابن قاضي شهبة في طبقاته: «صاحب المصنّفات، وعالم اذربيجان، وشيخ تلك الناحية، ولي قضاء شيراز». وقال السبكي: «كان إماما مبرزا نظارا خيرا، صالحا متعبدا»، وقال ابن حبيب: «تكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه لكفاه» (¬1) ¬

_ (¬1) شذرات الذهب ج 5 وطبقات المفسرين للداودي-

طريقة البيضاوي في تفسيره

طريقة البيضاوي في تفسيره جمع العلّامة في تفسيره بين التأويل والتفسير، على مقتضى قواعد اللغة العربية، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السنة. وهو كتاب مختصر عن تفسير الكشاف للزمخشري، باستثناء أقوال المعتزلة التي تركها البيضاوي ولم يأخذ بها، وإن كان في بعض الأحيان يقف موقف الزمخشري في التفسير. فصاحب الكشاف كان يذكر في نهاية كل سورة حديثا يبيّن فضلها وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله، وهي أحاديث موضوعة باتفاق أهل الحديث؛ فوقع البيضاويّ فيما وقع فيه الزمخشري، وروى الأحاديث في آخر تفسيره لكل سورة. موقفه من الآيات الكونية البيضاوي إذا عرض للآيات الكونية، لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث الكون والطبيعة، ولعلها ظاهرة سرت إليه من طريق التفسير الكبير للفخر الرازي، حيث استمدّ منه وأخذ عنه، يقول في تفسير قول الله تعالى ... فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (¬1). موضحا حقيقة الشهاب: «الشهاب ما يرى كأنّ كوكبا انقض»، ثم يرد على من يخالف ذلك فيقول: «وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين إن صح لم يناف ذلك .. » (¬2) موقفه من مذهب أهل السنّة ومذهب المعتزلة نجد من تفسيره بأنه يقرّر في أغلب الأحيان مذهب أهل السنّة ومذهب ¬

_ (¬1) سورة الصافات 10 (¬2) تفسير البيضاوي ج 5

موقفه من الروايات الإسرائيلية

المعتزلة، عند ما يعرض لآية لها صلة بنقطة من نقط النزاع بينهم. انظر إليه كيف يعرض لبيان معنى الإيمان والنفاق عند أهل السنة والمعتزلة والخوارج، بتوسع ظاهر وترجيح منه لمذهب أهل السنّة عند تفسيره لقول الله تعالى ... الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (¬1) وكذلك عند ما يفسّر قول الله تعالى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (¬2) فيتعرض للخلاف الذي بين أهل السنّة والمعتزلة فيما يطلق عليه اسم الرزق، ويذكر وجهة نظر كل فريق، مع ترجيحه لمذهب أهل السنة. والبيضاوي يستمد من تفسير الامام الرّازي، ومن تفسير الراغب الأصفهاني ويضم لذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، كما أنه يعمل فيه عقله، فيضمنه نكتا بارعة، واستنباطات دقيقة، ولطائف رائعة، في أسلوب رائع موجز، وفطنة نيّرة، وعبارة دقيقة لا تخفى على ذي بصيرة ثاقبة. اهتم البيضاوي بالصناعة النحوية ولكنه لم يتوسع فيها ولم يستفض، كما أنه ذكر القراءات ولكنه لم يلتزم بالمتواتر منها فذكر الشواذ. موقفه من الروايات الإسرائيلية كان رحمه الله مقلّ جدا من ذكر الروايات الإسرائيلية، وهو يصدر الرواية بقوله: «روي أو قيل»، إشعارا منه بضعفها». أنظر اليه عند تفسير قول الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة البقرة 3 (¬2) تفسير البيضاوي ج 1

البيضاوي كما يقول في مقدمة تفسيره

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (¬1). يقول بعد أن فرغ من تفسير الآية: روي أنه عليه السلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهّز للحج ... فهو يروي القصة ويقف منها موقف المجوّز لها، غير قاطع بصحتها، فيقول: «ولعل في عجائب قدرة الله وما خصّ به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك، يستكبرها من يعرفها، ويستنكرها من ينكرها» (¬2) البيضاوي كما يقول في مقدمة تفسيره قال بعد الديباجة في مقدمة تفسيره « ... ولطالما أحدث نفسي بأن أصنّف في هذا الفن- يعني التفسير- كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نكات بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين، وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوّة إلى الائمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القرّاء المعتبرين، إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته، والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسميه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل .. (¬3) ثم يشير الى أنه اختصر من تفسير الكشّاف ولخّص منه، ضمن ما اختصره ولخصه من كتب التفسير الأخرى، غير أنه ترك ما فيه من نزعات الضلال، وشطحات الاعتزال، فيقول: «وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة، وصفوة آراء ¬

_ (¬1) سورة النحل 22 (¬2) تفسير البيضاوي ج 4 (¬3) تفسير البيضاوي

اعلام الأمة، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه، والكشف عن عويصات ألفاظ ومعجزات مبانيه، مع الايجاز الخالي عن الإخلال، والتلخيص العاري عن الإضلال، الموسوم بأنوار التنزيل وأسرار التأويل (¬1). وكتاب تفسير البيضاوي، كما يصفه صاحب كشف الظنون، كتاب عظيم الشأن، غنيّ عن البيان، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ومن التفسير الكبير ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الاشارات، وضم اليه ما روى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن السريرة، وزاد في العلم بسطة وبصيرة. ولكونه متبحرا جال في ميدان فرسان الكلام، فأظهر مهارته في العلوم حسبما يليق المقام، كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الإشارة، وملح الاستعارة وهتك الأستار الأخرى عن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها، وترجمان المناطقة وميزانها، فحل ما أشكل على الأنام، وذلل لهم صعاب المرام، وأورد في المباحث الدقيقة ما يؤمن به عن الشبه المضلّة، وأوضح لهم مناهج الأدلة». (¬2) وجملة القول أنّ كتاب تفسير البيضاوي، ملخّص جيّد، فيه ما لا يستغني عنه من أراد أن يفهم كلام الله، ويقف على أسراره ومعانيه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ج 5 (¬2) كشف الظنون

الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للإمام الزمخشري

الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للإمام الزمخشري التعريف بالمؤلف هو أبو القاسم، محمود بن عمر بن عمر الخوارزمي، الإمام الحنفي المعتزلي، الملقب بجار الله، لأنه سافر الى مكة وجاور بها زمانا حتى عرف بهذا اللقب واشتهر به وصار كأنه علم عليه. ولد سنة 467 هـ بزمخشر، وهي قرية في خوارزم، وتوفي سنة 538 بجرجانية خوارزم بعد عودته من مكة، حيث رثاه الكثيرون، وقال بعضهم: فأرض مكة ندّى الدمع مقلتها ... حزنا لفرقة جار الله محمود (¬1) لقي كبار العلماء وأخذ عنهم عند ما قدم بغداد، ولقد ذاع صيته وطار ذكره حتى صار إمام عصره من غير مدافعة، وكان كلما دخل إلى بلد اجتمع عليه اهلها وتتلمذوا له، كما اعترف بفضل علمه وغزارة فقهه كل من ناظره أو ناقشه. «كان الزمخشري معتزلي الاعتقاد، متظاهرا باعتزاله، حتى نقل عنه: أنه كان إذا قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول، يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له، أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنّف كتاب الكشاف كتب ¬

_ (¬1) وفيات الاعيان ج 2

أسلوب الزمخشري في تأليفه للتفسير

استفتاح الخطبة «الحمد لله الذي خلق القرآن» فيقال إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه، فغيّره بقوله «الحمد لله الذي جعل القرآن» وجعل عندهم بمعنى خلق، والبحث في ذلك يطول. ورأيت في كثير من النسخ، «الحمد لله الذي أنزل القرآن» وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنّف» (¬1) وللزمخشري مؤلفات كثيرة منها: الفائق في تفسير الحديث، والمفصل في النحو، والمحاجّة في المسائل النحوية، وأساس البلاغة في اللغة، والمفرد والمركب في العربية، وكتابه المشهور في التفسير وهو ما نحن بصدده الآن. وقصة التعليق على خطبة الكشاف، هل كتب الزمخشري «خلق» مكان «أنزل ثم غيّرها أنكرها بعض العلماء، وردّوها. «قال بعض الطلبة: إنه كان في الأصل كتب (خلق) مكان (أنزل) وأخيرا غيّره المصنّف حذرا عن الشناعة الواضحة. وهذا قول ساقط جدا، وقد عرضته على أستاذي فأنكره غاية الإنكار، وأشار إلى أن هذا القول بمعزل عن الصواب لوجهين: أحدهما: أن الزمخشري لم يكن أهلا لأن تفوته اللطائف المذكورة في أنزل وفي نزل في مفتتح كلمة خالية من ذلك. والثاني: أنه لم يكن يأنف من انتمائه إلى الاعتزال، وإنما كان يفتخر بذلك، وأيضا أتى عقيبه بما هو صريح في المعنى- حيث قال: أنشأه كتابا ساطعا بيانه ... وقد رأيت النسخة التي بخط يده بمدينة السلام، مختبئة في تربة الإمام أبي حنيفة، خالية عن أثر كشط وإصلاح» (¬2) أسلوب الزمخشري في تأليفه للتفسير لقد أضفى الزمخشري على كتابه نبوغه العلمي والأدبي، ولفت إليه أنظار العلماء وعلّق به قلوب المفسرين، لما امتاز به من الإحاطة بعلوم البلاغة والاعراب ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان (¬2) كشف الظنون ج 2

تفصيل الملاحظات على تفسير الكشاف

والبيان والادب، وكتابه- بصرف النظر عما فيه من الاعتزال، تفسير لم يسبقه إليه أحد، بيّن فيه من وجوه الإعجاز وأظهر فيه جمال النّظم القرآني وبلاغته، وكشف فيه جمال القرآن وسحر بلاغته، لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم، خصوصا إلمامه بلغة العرب، ومعرفته بأشعارهم. اهتم الزمخشري في تفسيره بالنّواحي البلاغية القرآن، وتذرّع بالمعاني اللغوية لنصرة مذهبه الاعتزالي، فكان إذا مر بلفظ يشتبه عليه ظاهره ولا يتفق مع مذهبه، يحاول بكل جهده أن يبطل هذا المعنى الظاهر، وأن يثبت للفظ معنى آخر موجودا في اللغة. كما اعتمد على الفروض المجازية، متذرعا بالتمثيل والتخييل فيما يستبعد ظاهره، هذا، وأن الزمخشري انتصر لمذهبه الاعتزالي وأيده بكل ما يملك من قوّة الحجة وسلطان الدليل، كما سار على مبدأ حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة عند ما تصادفه آية تخالف مذهبه وعقيدته. ولم يكن بعد هذا ليّنا في خصومته لأهل السنّة، بل كان حادّا عنيفا، يتهم خصمه بالزيغ والضلال، ويرميه بأوصاف يسلكه بها في قرن واحد مع الكفرة الفجرة، كلما تعرّض لناحية العقيدة. متعصبا للمعتزلة، إلى حدّ يجعله يخرج خصومه السنيين من دين الله وهو الاسلام. هذا، وإن الزمخشري- رحمه الله- تعرّض إلى حدّ ما وبدون توسع، إلى المسائل الفقهية التي تتعلق ببعض الآيات القرآنية، باعتدال ليس فيه تعصب لمذهبه الحنفيّ. أما ذكر الروايات الإسرائيلية فقد أقلّ منها، ما ذكره من ذلك إمّا أن يصدره بلفظ روي، ليشعر القارئ بضعف الرواية وبعدها عن الصحة، وإما أن يفوّض علمه الى الله سبحانه. تفصيل الملاحظات على تفسير الكشاف (1) ذكر الروايات الإسرائيلية كان الزمخشري في الغالب عند ذكره للروايات التي لا يلزم من التصديق بها مساس بالدين يبدأ تفسيره بقوله «روي» لشعوره

(2) حملة صاحب الكشاف على أهل السنة:

بأن الرواية ضعيفة وبعيدة عن الصحة ولاعتقاده بأنها من الاسرائيليات، أما إذا كانت الرواية ذات مساس بالدين وتعلق به فقد كان ينبّه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو الضعف ولو بطريق الإجمال. يقول في تفسير قول الله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً ... (¬1) «روي أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيده حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشّابه إلى السماء، فأراد الله أن يفتنهم، فردت إليه ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه والله أعلم بصحته» (¬2) فنحن نلاحظ هنا أن القصة صدّرها بقوله «روي» وعقب عليها بقوله «والله أعلم بصحته» مما يدل على أنه متشكك في صحة هذه الرواية. (2) حملة صاحب الكشاف على أهل السنّة: الزمخشري كما قلنا، عنيف في خصومته، حريص على أن يحوّل الآيات القرآنية التي وردت في حق الكفار إلى ناحية مخالفيه في العقيدة من أهل السنة، ¬

_ (¬1) سورة القصص 38 (¬2) الكشاف ج 2

يبالغ في السخرية والاستهزاء بهم، ويحقرهم ويرميهم بالأوصاف المقذعة، وأحيانا يسميهم القدرية، تلك التسمية التي أطلقها أهل السنة على منكري القدر، فرماهم بها الزمخشري لأنهم يؤمنون بالقدر، حتى أنه جعل حديث رسول الله صلى عليه وسلم الذي حكم فيه على القدرية بأنهم مجوس هذه الأمة، منصبا عليهم. يقول في تفسير قول الله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (¬1) «وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكى ودسّ لله تعالى، وأن تأنيث الراجع إلى من، لأنه في معنى النفس، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون (¬2) على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم في تمحل الفاحشة ينسبونها إليه» (¬3). ويقول في تفسير قول الله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (¬4). ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيّها صلى الله عليه وسلم- وكفى به شاهدا- إلا هذه الآية لكفى بها حجة» (¬5). فالزمخشريّ أراد أهل السنّة حين اعتبر الآية حجّة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، وهي تسمية المعتزلة لهم بذلك لقولهم: جميع الحوادث- خيرا ¬

_ (¬1) سورة الشمس 9، 10 (¬2) ورك فلان ذنبه على غيره، إذا قرفه به، أي اتهمه. ومراده بالقدرية .. أهل السنة. (¬3) الكشاف ج 2 (¬4) سورة فصلت 17 (¬5) الكشاف ج 2

(3) التعصب للمعتزلة

كانت أو شرا من أفعال العباد الاختيارية أو غيرها- فهي بقضاء الله تعالى وقدره، خلافا للمعتزلة: حيث ذهبوا إلى أن جميع الأفعال الاختيارية ليست بقضائه تعالى وقدره، ولا تأثير له فيها أصلا. (3) التعصب للمعتزلة وهو واضح جليّ في أكثر من موضع من كتابه، يقول في تفسير قول الله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ... (¬1) «فإن قلت ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم هذا التعظيم، حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج والبراهين القاطعة، وهم علماء العدل والتوحيد- يريد أهل مذهبه- فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد- يعني في قوله: إن الدين عند الله الإسلام- قلت: فائدته أنّ قوله: لا إله إلا هو توحيد، وقوله قائما بالقسط تعديل، فإذا أردفه قوله «إنّ الدّين عند الله الإسلام، فقد أذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين. وفيه أن من ذهب الى تشبيه أو ما يؤدي إليه كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الاسلام». (¬2) ويقول في تفسير قول الله تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (¬3): ¬

_ (¬1) سورة آل عمران 18 (¬2) الكشاف ج 1 (¬3) سورة النساء 93

«هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخطب غليظ، ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي من أنّ توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنّة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، وفي الحديث (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم) وفيه (لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه) وفيه (إن هذا الانسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه). وفيه (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله). والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم لهواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (¬1). فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما بين الدليل وهو تناوله له قوله (ومن يقتل) أي قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمن ادّعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله). (¬2) وهو بهذا التفسير، إنما يتيه على خصومه من أهل السنّة نصرة لمذهبه، ويندد حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وإن لم يتب منه صاحبه، وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار. ¬

_ (¬1) سورة محمد (صلى) 24 (¬2) الكشاف ج 1

(4) حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة عند ما يصادم النص القرآني مذهب المعتزلة:

(4) حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة عند ما يصادم النصّ القرآني مذهب المعتزلة: وهو مبدأ سار عليه الزمخشري، واعتمده في تفسيره، فإذا مرّ بآية تعارض مذهبه، وآية اخرى في موضوعها تشهد له بظاهرها نراه يدعي الاشتباه في الاول والإحكام في الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية، وبهذا يرضي هواه المذهبي، وعقيدته الاعتزالية. فهو في تفسير قول الله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (¬1). وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (¬2) يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية متشابهة، وعليه فيجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية الأولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها وردها إليها، فمذهب المعتزلة يرى عدم جواز رؤية المخلوق لله تعالى، ومذهب أهل السنة يرى الجواز. وإذا كان الزمخشري قد تأثر في تفسيره بعقيدته الاعتزالية، فمال بالألفاظ القرآنية إلى المعاني التي تشهد لمذهبه، أو تأولها بحيث لا تتنافى معه على الاقل، فإنه في محاولاته هذه قد برهن بحق على براعته وقوة ذهنه، وصوّر لنا مقدار ما كان من التأثر والتأثير بين التفسير وهوى العقيدة. وليس لنا أن نغضّ الطرف عن تفسير الزمخشري، تأثرا بمذهب السنّة، أو كراهة لمذهب المعتزلة، وبخاصة بعد ¬

_ (¬1) سورة الانعام 103 (¬2) سورة القيامة 22، 23

ان ثبت الثناء الكبير من علماء أهل السنّة عليه- فيما عدا ناحيته الاعتزالية- واعتماد معظم مفسريهم عليه وأخذهم منه. فالزمخشري إمام الطريقة اللغوية في تفسير القرآن الكريم، وبها أمكنه أن يكشف عن وجه الإعجاز فيه، ومن أجلها طار كتابه في أقصى المشرق والمغرب، واشتهر في الآفاق، واستمد كل من جاء بعده من المفسرين من بحره الزاخر، وارتشف من معينه الفياض، واعتنى الأئمة المحققون بالكتابة عليه.

مجمع البيان لعلوم القرآن للطبرسي المتوفي عام 538 هـ

مجمع البيان لعلوم القرآن للطبرسي المتوفي عام 538 هـ ينتمي صاحب هذا الكتاب إلى مذهب الشيعة الإمامية، فتفسيره يمثل أتباع هذا المذهب في فهم كتاب الله. التعريف بالمؤلف هو أبو علي، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهديّ (¬1)، الفقيه المحدث، الجليل الثقة، النبيل. وهو من بيت عرف أهله بالعلم، فهو وابنه رضي الدين أبو نصر حسن بن الفضل صاحب مكارم الاخلاق، وسبطه أبو الفضل على ابن الحسن، وسائر أقربائه من اكابر العلماء. يروي عنه جماعة من العلماء منهم: القطب الراوندي، والشيخ منتجب الدين، ويروي هو عن الشيخ ابن علي بن الشيخ الطوسي. قال صاحب مجالس المؤمنين فيه «إن عمدة المفسرين، أمين الدين، ثقة الاسلام، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، كان من نحارير علماء التفسير، وتفسيره الكبير الموسوم بجمع البيان، بيان كاف، ودليل واف لجامعيته لفنون الفضل والكمال، ثم لما وصل إليه بعد هذا التأليف كتاب الكشاف واستحسن ¬

_ (¬1) الطبرسي نسبة إلى طبرستان، والمشهدي نسبة للمشهد الرضوي المدفون فيه.

الحوافز التي دفعت الطبرسي لتأليف كتابه

طريقته، ألف تفسيرا آخر مختصرا، شاملا لفوائد تفسيره الأول ولطائف الكشاف وسماه الجوامع، وله تفسير ثالث أيضا أكثر اختصارا من الأولين، وتصانيف أخرى في الفقه والكلام. يذكرون قصة هي غاية في الغرابة واللطافة، في سبب تأليفه لتفسيره مجمع البيان الذي نحن بصدده فيقولون: «ومن عجيب أمر هذا الطبرسي، بل من غريب كراماته، ما اشتهر بين الخاص والعام، أنه قد أصابته السكتة فظنوا به الوفاة، فغسلوه وكفنوه ثم رجعوا، فلما أفاق وجد نفسه في القبر ومسدودا عليه سبيل الخروج عنه من كل جهة، فنذر في تلك الحالة أنه إذا نجا من تلك الداهية ألف كتابا في تفسير القرآن. فاتفق أن بعض النباشين قصده لأخذ كفنه، فلما كشف عن وجه القبر أخذ الشيخ بيده، فتحير النباش ودهش مما رآه، ثم تكلم معه فازداد به قلقا، فقال له: لا تخف، أنا حي وقد أصابتني السكتة ففعلوا بي هذا، ولما لم يقدر على النهوض والمشي من غاية ضعفه، حمله النباش على عاتقه وجاء به إلى بيته الشريف، فأعطاه الخلعة وأولاه مالا جزيلا، وتاب على يده النباش، ثم إنه بعد ذلك وفى بنذره الموصوف، وشرع في تأليف مجمع البيان». الحوافز التي دفعت الطبرسي لتأليف كتابه يقول الطبرسي في مقدمة كتابه « ... وقد خاض العلماء قديما وحديثا في علم تفسير القرآن، واجتهدوا في ابراز مكنونه وإظهار مضمونه، وألفوا فيه كتبا جما غاصوا في كثير منها إلى أعماق لججه، وشغفوا الشعر في إيضاح حججه، وحققوا في تفتيح أبوابه وتغلغل شعابه، إلا أن أصحابنا- رضي الله عنهم- لم يدونوا في ذلك غير مختصرات نقلوا فيها ما وصل إليهم في ذلك من الأخبار، ولم يعنوا ببسط المعاني فيه وكشف الأسرار، إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس من ضيائه الحق، ويلوح عليه رواء الصدق، وقد تضمن فيه من المعاني الأسرار البديعة، واختصر من الالفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون تبينها، ولا بتنميقها دون

تحقيقها، وهو القدوة أستضيء بأنواره، وأطأ مواقع آثاره، غير أنه خلط في أشياء مما ذكره في الإعراب والنحو الغثّ بالسمين، والخاثر بالزباد، ولم يميز الصلاح مما ذكر فيه والفساد، وأدى الالفاظ في مواضع من متضمناته قاصرة عن المراد، وأخل بحسن الترتيب وجودة التهذيب، فلم يقع له لذلك من القلوب السليمة الموقع المرضي، ولم يعل من الخواطر الكريمة المكان العلي». «وقد كنت في ريعان الشباب وحداثة السن، وريان العيش ونضارة الغصن، كثير النزاع شديد التشوق إلى جمع كتاب في التفسير، ينظم أسرار النحو اللطيفة، ولمع اللغة الشريفة، ويفي موارد القراءات من متوجهاتها، مع بيان حججها الواردة من جميع جهاتها، ويجمع جوامع البيان في المعاني المستنبطة من معادنها، المستخرجة من كوامنها، إلى غير ذلك من علومه الجمة. وقد زرف سني على الستين واشتعل الرأس شيبا، وامتلأت العيبة عيبا، فحداني على تصميم هذه العزيمة ما رأيت من عناية مولانا الامير السيد الأجل العالم، ولي النعم جلال الدين ركن الاسلام .... فخر آل رسول الله صلى الله عليه وآله، ابي منصور محمد بن يحيى بن هبة الله الحسين- أدام الله علاه- بهذا العلم، وصدق رغبته في معرفة هذا الفن، وقصر همه على تحقيق حقائقه، والاحتواء على جلائله ووثائقه، والله عز اسمه المسئول أن يحرس للاسلام والمسلمين رفيع حضرته، ويفيض على الفضل والفضلاء سجال سيادته، ويمد على العلم والعلماء أمداد سعادته ... فأوجبت على نفسي إجابته إلى مطلوبه، وإسعافه بمحبوبه، واستخرت الله تعالى، ثم قصرت وهمي وهمّي على اقتناء هذه الذخيرة الخطيرة، واكتساب هذه الفضيلة النبيلة، وشمرت عن ساق الجد، وبذلت غاية الجهد والكد، وأسهرت الناظر وأتعبت الخاطر وأطلت التفكير وأحضرت التفاسير، واستمددت من الله التوفيق والتيسير». وفي المقدمة كما يبدو مخالفة صريحة لما ورد في القصة المتقدمة. وتفسير الطبرسي كما وصفه صاحبه كتاب هو «غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوي قصوصه وعيونه،

اسلوب الطبرسي في تفسيره

من علم قراءاته ولغاته، وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكرنا ما يتفرد به أصحابنا- رضي الله عنهم- من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، على وجه الاعتدال والاختصار، فوق الايجاز دون الاكثار، فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة، إذ لم يبق من العلماء إلا الأسماء، ومن العلوم إلا الذّماء» (¬1) اسلوب الطبرسي في تفسيره 1 - تقديم ذكر المكي والمدني في مطلع كل سورة. 2 - ذكر الاختلاف في عدد الآيات وأقوال تلاوتها وقراءاتها مع توضيح العلل والاحتجاجات. 3 - ذكر الإعراب والمشكلات، وأسباب النزول ومعاني الاحكام والتأويلات. 4 - سرد القصص والبراهين المبينة في المشكلات. 5 - ذكر ما جاء من الاخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله نماذج من تفسير الطبرسي (1) تأكيد الإمامة لعلي كرّم الله وجهه: فالطبرسي يدين بإمامة علي رضي الله عنه، ويرى أنّه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل، لذا نراه يحاول بكل جهوده أن يثبت إمامته وولايته من القرآن فنراه عند تفسيره لقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) الذماء في الاصل بقية الروح في المذبوح

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (¬1). يبذل مجهودا كبيرا لاستخلاص وجوب إمامة علي رضي الله عنه من هذه الآية، فنجده أولا يتكلم عن المعاني اللغوية لبعض مفردات الآية فيفسر الولي بقوله «الولي هو الذي يلي النصرة والمعونة، والولي هو الذي يلي تدبير الأمر. يقال: فلان ولي أمر المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها. وولي الدم من كان إليه المطالبة بالقود والسلطان ولي امر الرعية. ويقال لمن يرشحه للخلافة عليهم بعده ولي عهد المسلمين. قال الكميت يمدح عليا: ونعم ولي الأمر بعد وليه ... ومنتجع التقوى ونعم المؤدب ثم فسّر الركوع وذكر الإعراب، ثم ذكر سبب النزول فقال: ( ... بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة، فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال الرجل: قال رسول الله، فقال ابن عباس، سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمّتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول (عليّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، ومنصور من نصره، ومخذول من خذله) أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده الى السماء فقال: اللهم إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي راكعا فآوى بخنصره اليمين إليه- وكان يتختم فيها- فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله (صلى) فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال ¬

_ (¬1) سورة المائدة 55

(2) إثبات عصمة الأئمة

رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (¬1). فأنزلت عليه قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما (¬2) اللهم وأنا محمد نبيّك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا أشدد به ظهري. قال أبو ذر: فو الله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال: يا محمد، اقرأ، قال: ما أقرأ قال: اقرأ؟ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الاسناد بعينه. وروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن- على ما حكاه المغربي عنه- والروماني، والطبري انها نزلت في عليّ حين تصدق بخاتمه وهو راكع، وهو قول مجاهد والسدي، والمروي عن ابي جعفر وأبي عبد الله وجميع علماء أهل البيت» (¬3) (2) إثبات عصمة الأئمة لما كان الطبرسي يدين بعصمة الأئمة فإنا نراه عند تفسير قول الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة طه 25 - 32 (¬2) سورة القصص 35 (¬3) كتاب ج 1

(3) القول بمبدإ التقية

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (¬1) يقصر أهل البيت على النبي (صلى) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، ليثبت بأن الأئمة معصومون من جميع القبائح كالأنبياء سواء بسواء، فلهذا يقول بعد ما سرد من الروايات ما يشهد بقصر معنى أهل البيت ( ... والروايات في هذا كثيرة من طريق العامة والخاصة، لو تصدينا لإيرادها لطال الكلام، وفيما أوردناه كفاية ... واستدلت الشيعة على اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة بأن قالوا: إن لفظة إنما محققة لما أثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإن قول القائل إنما لك عندي درهم، وإنما في الدار زيد، يقتضي أنه ليس عندي سوى الدرهم، وليس في الدار سوى زيد وإذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الارادة المحضة، أو الارادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس، ولا يجوز الوجه الأول، لأن الله تعالى قد أراد من كل مكلف هذه الارادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة، ولا مدح في الارادة المجردة، فثبت الوجه الثاني. وفي ثبوته ثبوت عصمة الأئمة بالآية من جميع القبائح، وقد علمنا أن من عدا ما ذكرنا من أهل البيت غير مقطوع على عصمته، فثبت أن الآية مختصة بهم لبطلان تعلقها بغيرهم، ومتى قيل: إن صدر الآية وما بعدها في الازواج، فالقول فيه، إنّ هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون اليه، والقرآن من ذلك مملوء، وكذلك كلام العرب وأشعارهم ... ) (¬2) (3) القول بمبدإ التقيّة وهو جواز إظهار الموافقة على الكفر حين الخوف على النفس. في تفسير قول الله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الاحزاب 33 (¬2) تفسير الطبرسي ج 1

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (¬1). يقول: «من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من الله في شيء، أي ليس هو من أولياء الله، والله بريء منه، وقيل: ليس هو من ولاية الله تعالى في شيء. وقيل: ليس من دين الله في شيء. ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً والمعنى: الا أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه، ومداراتهم تقية منهم ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك. وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا، إنها جائرة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين. قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: وظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند لخوف على النفس- وقد روى رخصته في جواز الإفصاح بالحق عنده، وروى الحسن، أنّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله. قال: نعم قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ .. قالها ثلاثا، كل ذلك يجيبه بمثل الأول، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران 28

(4) - تأثر الطبرسي بفقه الشيعة في تفسيره

فقال: أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه، فعلى هذا تكون التقيّة رخصة والإفصاح بالحق فضيلة). (¬1) (4) - تأثر الطبرسي بفقه الشيعة في تفسيره الطبرسي متأثر في تفسيره بفقه الإمامية الاثني عشرية وآرائهم الاجتهادية، فنراه يستشهد بكثير من الآيات على صحة مذهبه، أو يرد استدلال مخالفيه بآيات القرآن على مذاهبهم، وهو في استدلاله وردّه، ودفاعه وجدله، عنيف كل العنف، قويّ إلى حد بعيد. أ- في نكاح المتعة: نجد الإمامية الاثني عشرية يقولون بجواز نكاح المتعة، ولا يقومون بنسخة كغيرهم من الأئمة، لهذا أخذ الطبرسي دليله على هذا المذهب من كتاب الله تعالى عند ما فسر قول الله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (¬2). في حين يرى أهل السنة غير ذلك، ويقولون بنسخ نكاح المتعة. ب- في فرض الرجلين في الوضوء يقول الطبرسي- كغيره من علماء مذهبه- بأن المسح هو فرض الرجلين في الوضوء، مدافعا في ذلك عن مذهبه، مناصرا بأدلة إن دلّت على شيء، فهو قوة عقليته، وسعة ذهنه، وكثرة اطلاعه، فقد أورد أقوال العلماء جميعها في تفسير قول الله تعالى ¬

_ (¬1) ج 1 ص 28 (¬2) سورة النساء 24

ح - في الغنائم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... (¬1) وبيّن خلاف العلماء في الفرض، هل هو المسح أم الغسل؟ باعتبار عطف الأرجل على الرءوس أو الوجوه والأيدي في الآية، بأسلوب يظهر قوته وتمكنه وإلمامه الشامل (¬2) ح- في الغنائم لما كانت الإمامية الاثنا عشرية لهم في الغنائم نظام خاص، يخالفون به من عداهم، فيوجبون الخمس لمستحقيه في مطلق الغنيمة، فهو غير مختص عندهم بغنائم الحرب. بل يشمل أنواعا سبعة هي:- غنائم الحرب، وغنائم الغوص، والكنز الذي يعثر عليه، والمعدن الذي الذي يستنبط من الارض، وأرباح المكاسب، والحلال المختلط بالحرام، والارض المنتقلة من المسلم الى الذمي- وليس الخمس الهاشمي الذي يرون وجوبه فيما عدا الغنائم الحربية من الصدقات كما يتوهم البعض، ولكنهم يعتبرونه حقا امتيازيا لآل محمد الذين حرمت عليهم الصدقات نظير ما تمتاز به الأسر المالكة اليوم من التمتع بمخصصات خاصة، وقد تضافر الحديث عن الأئمة بأن الخمس حق سلطاني بارادة ملكية، هي إرادة مليك الكائنات لمستحقيه الذين ذكرهم القرآن (¬3). لهذا نجد الطبرسي ينزل ما ورد في الغنائم من الآيات على مذهبه، يقول في تفسير قول الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة المائدة 6 (¬2) راجع ج 1 ص 314 - 386 (¬3) تعريف الشيعة.

د - في ميراث الانبياء

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... (¬1): «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى» أي من أموال كفار أهل القرى «فلله» يأمركم فيه بما أحب «وللرسول» بتمليك الله إياه (ولذي القربى» يعني أهل بيت رسول الله وقرابته، وهم بنو هاشم «واليتامى والمساكين وابن السبيل» منهم؛ لأن التقدير ولذي قرباه، ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم. د- في ميراث الانبياء يقول كغيره من علماء مذهبه بأن الانبياء عليهم السلام يورثون كما يورث سائر الناس، ولهذا نراه يتأثر بمذهبه هذا عند تفسيره، يقول في قول الله تعالى: ... وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (¬2). في هذا دلالة على أن الانبياء يورثون المال كتوريث غيرهم .. وهو قول الحسن- وقيل معناه أنه ورث علمه ونبوّته وملكه دون سائر اولاده. ومعنى الميراث هنا أنه قام مقامه في ذلك، فأطلق عليه اسم الارث كما اطلق على الجنة اسم الارث ... » (¬3) وفي قوله بوراثة الأنبياء رد على أهل السنة الذين أخذوا بما ذهب إليه أبو بكر من أن الانبياء لا يورثون، فمنع فاطمة من وراثة الرسول في ذلك. هـ- عدم الأخذ بحجّية الإجماع فعلماء الشيعة لا يعتبرون حجيّة الإجماع مهما كان نوعه إلا إذا كان كاشفا ¬

_ (¬1) سورة الحشر 7 (¬2) سورة النحل 16 (¬3) ج 2 ص 229

(5) روايته للأحاديث الموضوعة

عن رأي الامام أو كان الامام داخلا في جملة المجمعين. (¬1) فهو يرد الأدلة القرآنية التي استدل بها الجمهور على حجيّة الاجماع ويناقشهم في فهم هذه الآيات. فمثلا عند تفسيره لقول الله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (¬2) يقول: « ... واستدل بعضهم من قوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» على أن اجماع الأمة حجة بأن قالوا: إنما أوجب الله الرد إلى الكتاب والسنّة بشرط وجود التنازع، فدل على أنه إذا لم يوجد التنازع لا يجب الرد، ولا يكون كذلك إلا والإجماع حجة. وهذا الاستدلال إنما يصح لو فرض أن في الأمة معصوما حافظا للشرع، فأما إذا لم يفرض ذلك فلا يصح، لأن تعليق الحكم بشرط أو صفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه عند اكثر العلماء، فكيف اعتمدوا عليه هاهنا. على أن الأمة لا تجمع على شيء إلا عن كتاب أو سنة. وكيف يقال إنها إذا أجمعت على شيء لا يجب عليها الرد إلى الكتاب والسنّة وقد ردّت إليهما؟» (¬3). (5) روايته للأحاديث الموضوعة ان الطبرسي رحمه الله كان راويا لكثير من الاحاديث في تفسيره، ومنها أحاديث موضوعة وردت في فضائل السور، فوقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بما جاء من الأحاديث في فضائل السور مسندا إلى أبيّ ¬

_ (¬1) تعريف الشيعة (¬2) سورة النساء 59 (¬3) ج 1

(6) موقفه من الإسرائيليات

وغيره، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي احاديث موضوعة باتفاق أهل العلم. (6) موقفه من الإسرائيليات وكثيرا ما يروي الطبرسي في تفسيره الروايات الإسرائيلية، معزوّة إلى قائليها، ونلاحظ عليه أنه يذكرها بدون أن يعقب عليها، اللهم إلا إذا كانت مما يتنافى مع العقيدة، فإنه ينبّه على كذب الرواية، ويبيّن ما فيها من مجافاتها للحق وبعدها عن الصواب. فمثلا عند قول الله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ... (¬1) نجده يقول: «واختلف في استغفار داود من أي شيء كان، فقيل: إنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع والتذلل بالعبادة والسجود، كما اخبر سبحانه عن إبراهيم بقوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (¬2) ... قال: إن استغفاره كان لذنب صغير وقع منه، ثم إنهم اختلفوا في ذلك على وجوه: أحدها: أن أوريا بن حيان خطب امرأة وكان أهلها أرادوا أن يزوجوها منه، فبلغ داود جمالها فخطبها ايضا فزوجوه منها، فقدموه على أوريا، فعوتب داود على الدنيا .. ثانيها: أنه اخرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل فلم يجزع عليه جزعه على ¬

_ (¬1) سورة ص 21 (¬2) سورة الشعراء 82

(7) التفسير الرمزي

أمثاله من جنده إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين. وثالثها: أنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأته فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها، فحينئذ يجوز لغيرهم ان يتزوج بها، فلما قتل اوريا، خطب داود امرأته ومنعت هيبة داود وجلالته أولياءه أن يخطبوها فعوتب على ذلك. ورابعها: أن داود كان متشاغلا بالعبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وذلك نظر مباح، فمالت نفسه إليها ميل الطباع ففصل بينهما وعاد إلى عبادة ربه، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله فعوتب. وخامسها: أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يحكم قبل ذلك، وإنما انساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العبادة (¬1). (7) التفسير الرمزي نلاحظ على الطبرسي أحيانا أنه يذكر التفسير الرمزي للآية، مع أنه في كتابه يفسر القرآن تفسيرا يتمشى مع الظاهر المتبادر إلى الذهن، مثال ذلك تفسيره لقول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .. (¬2) نجده يقول «واختلف في هذا المشبه والمشبه به على أقوال ... ثم ذكر هذه ¬

_ (¬1) ج 2 (¬2) سورة النور 35

(8) اعتداله في التشيع

الاقوال فكان من جملة ما ذكره ما روى عن الرضا أنه قال (نحن المشكاة فيها المصباح محمد صلى الله عليه وسلم يهدي الله لولايتنا من أحب) وما نقله من كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه رحمه الله بالاسناد عن عيسى بن راشد عن أبي جعفر الباقر في قوله (كمشكاة فيها مصباح) قال: نور العلم في صدر النبي المصباح (في زجاجة) الزجاجة صدر علي، صار علم النبي إلى صدر علي، علّم النبيّ عليا (يوقد من شجرة مباركة) نور العلم (لا شرقية ولا غربية) لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) قال: يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل (نور على نور) اي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد (صلى)، ذلك من النبي آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الاوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه، وحججه على خلقه، لا تخل الأرض في كل عصر من واحد منهم، (8) اعتداله في التشيع والطبرسي معتدل في تشيعه غير مغال في، لا تلمس في تفسيره تعصبا كبيرا، ولا تأخذ عليه أنه كفّر أحدا من الصحابة أو طعن فيهم بما يذهب بعدالتهم ودينهم. كما أنه لم يغال في شأن الإمام عليّ كرم الله وجهه- بما يجعله في مرتبة الإله أو في مصاف الانبياء، وإن كان يقول بالعصمة. ولقد وجدناه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا في شأن من والى عليا ومن عاداه، وهو بصرف النظر عن درجته من الصحة يدل على أن الرجل وقف موقفا معتدلا، فقد أورده في الوجه الرابع من الوجوه التي سيقت في سبب نزول قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ... (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الزخرف 57

حيث قال: ( ... ورابعها: ما رواه سادة أهل البيت عن علي عليهم افضل الصلوات أنه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إلي ثم قال: يا عليّ إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، وابغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقال: يشبهه بالانبياء والرسل فنزلت الآية .. ) والحق أن تفسير الطبرسي كتاب عظيم في بابه، يدل على تبحر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة. والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه، في تناسق تام وترتيب جميل، وهو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلم عنها، فإذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد، واذا تكلم عن وجوه الاعراب أجاد، وإذا تكلم عن القراءات أجاد، وإذا شرح المعنى الإجمالي أوضح المطلوب، واذا تحدث عن اسباب النزول وشرح القصص استوفى الاقوال وأفاض، واذا تناول الاحكام تعرض لمذاهب الفقهاء عن خبرة ودراية،. وهو جملة، تفسير يجمع بين حسن الترتيب، وجمال التهذيب، ودقة التعليل، وقوة الحجّة. كما أنه يمثل وجهة نظر الشيعة الإمامية في فهم القرآن الكريم، ويبث مذهبهم في ثنايا تفسيره.

الجواهر في تفسير القرآن الكريم للشيخ طنطاوي جوهري

الجواهر في تفسير القرآن الكريم للشيخ طنطاوي جوهري ولد سنة 1870 م وتوفي سنة 1940 م، وكان مغرما بالعجائب الكونية، متأملا في البدائع الطبيعية، يدفعه شوقه لمعرفة ما في السماء من جمال، وما في الارض من بهاء وكمال، لذلك نهج طريقة التفسير العلمي، الذي كثر رواجه لدى بعض المتأخرين من المفسرين، راميا إلى جعل القرآن مشتملا على سائر العلوم ما جدّ عنها وما يجدّ، استجابة للروح المهيمنة على بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم، وعناية بالقرآن الكريم، وكان من أكثر هذه النزعة التفسيرية التي تسلطت على قلوب أصحابها، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيرا من الكتب، يحاول أصحابها فيها أن يحملوا كل علوم الأرض والسماء وأن يجعلوه دالا عليها بطريق التصريح أو التلميح، اعتقادا منهم، بأن عملهم هذا فيه بيان صدق القرآن وإعجازه، وصلاحيته للبقاء. وهو تفسير بدأه مؤلفه أيام كان مدرسا بمدرسة دار العلوم بالقاهرة، فكان يلقي تفسير بعض آيات على طلبتها، وبعضها كان في مجلة الملاجئ العباسية، ثم استمر في تفسير بقية القرآن حتى أخرج موسوعة كبيرة. أسباب حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير يقول في مقدمة كتابه، بأنه تأمل الأمة الاسلامية وتعاليمها الدينية، فوجد

منهج المؤلف في تفسيره

اكثر العقلاء وبعض أجلة العلماء معرضين عن تلك المعاني، ساهين لاهين عن التفرج عليها، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودع فيها من الغرائب، مما دفعه إلى أن يؤلف كتبا كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، فتوجه إلى الله يسأله التوفيق إلى أن يفسر القرآن تفسيرا ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد. منهج المؤلف في تفسيره المؤلف في تفسيره هذا، يريد توجيه الفكر الاسلامي إلى التأمل في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون، حاثا على العمل بما فيها، منددا بمن يغفل عن هذه الآيات على كثرتها، وينعي على من أغفلها من السابقين الأولين، الذين وقفوا عند آيات الاحكام وغيرها مما يتعلق بأمور العقيدة. يقول: يا أمة الاسلام: آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعا من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها ... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الاسلام، وهذا زمان رقيّه، يا ليت شعري .. لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله .. الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهي فرض عين على كل قادر ... إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن، هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الاسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (¬1) كما يرى الشيخ طنطاوي ضرورة ارتقاء نظام التعليم الإسلامي، لإظهار ¬

_ (¬1) الجواهر ج 3

أسلوب المؤلف في هذا التفسير

ما في القرآن الكريم من علوم أظهرها الله في الأرض، وتتجاوب مع النظريات المستحدثة التي لم يكن للعرب عهد بها. يقول في تفسيره « ... لماذا ألف علماء الاسلام عشرات الالوف من الكتب الاسلامية في علم الفقه .. وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه، وقلّ جدا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؟ بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة، ويجهلوا علما آياته كثيرة جدا؟ إن آباءنا برعوا في الفقه، فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات .. لنقم به، لترقى الأمة .. ) (¬1) أسلوب المؤلف في هذا التفسير إنّ القارئ لتفسير الشيخ طنطاوي، يلاحظ طريقته التي سلكها، ويرى الصورة واضحة في الأسلوب الذي اتبعه وقصده. فهو يفسّر الآيات القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا، لا يخرج عما في كتب التفسير المتداولة، ولكنه يدخل في ابحاث علمية مستفيضة يسميها هو «اللطائف أو الجواهر. هذه الابحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من افكار العلماء في العصر الحديث، جاء بها المؤلف ليبيّن أنّ القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الابحاث ونبّه إلى تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بعصور بعيدة. تراه يضع في تفسيره كثيرا من صور الحيوانات والنباتات، ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم، ليوضح للقارئ توضيحا يجعل الحقيقة أمامه وكأنها أمر مشاهد محسوس. كما أنه رحمه الله- يستشهد أحيانا على ما يقول بما جاء في إنجيل برنابا- وهو في رأيه أصح الأناجيل- وفي تفسيره يعتمد على النظريات الحديثة، والعلوم الجديدة، التي لم يكن يعرفها العرب. ¬

_ (¬1) الجواهر ج 25

نماذج من تفسيره

نماذج من تفسيره نجده في تفسير قول الله تعالى في أول سورة آل عمران الم يعقد بحثا طويلا عنوانه «الأسرار الكيميائية، في الحروف الهجائية، للأمم الاسلامية، في أوائل السور القرآنية» وفيه يقول: «انظر رعاك الله .. تأمل .. يقول الله: أ. ل. م. طس. حم. وهكذا يقول لنا: أيها الناس، إن الحروف الهجائية، إليها تحلّل الكلمات اللغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية العربية أم اللغات الأعجمية، شرقية، وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون. ولا جرم أن العلوم قسمان: لغوية وغير لغوية، فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذا تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية. لا يعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الاعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم» (¬1) ومثلا عند ما تعرّض لقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (¬2) يقول: « ... قوله (وما بينهما) دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء ¬

_ (¬1) الجواهر ج 2 (¬2) سورة طه 5، 6

وجميع العالم المسمى (الآثار العلوية) وهو من علوم الطبعية قديما وحديثا. وقوله (وما تحت الثرى) يشير لعلمين لم يعرفا إلا في زماننا، وهما علم طبقات الأرض، وعلم الآثار ... فالله هنا يقول: «وما تحت الثرى» ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى .. » (¬1) ومثلا عند قوله تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (¬2) نجده يقول: « ... والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات، هكذا الجان من أنواع من اللهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة، غير ما لم يعلموه، فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائما، وإنما خلق الجنّ من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم بأن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة .. ) (¬3). ومثلا في تفسير سورة الزلزلة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها .... نجده يفسرها تفسيرا لفظيا مختصرا، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضا ¬

_ (¬1) الجواهر ج 10 (¬2) سورة الرحمن 15 (¬3) الجواهر ج 24

ما وقع من حوادث الزلزال في مختلف البلاد، وما وصل اليه العلم الحديث من استخراج البترول والفحم من الأرض، وما كثر في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كشف في مصر من آثار قدمائها، وفي اليونان وغيرها، ثم يقول بعد أن أفاض فيما سبق: « ... ألست ترى أن هذه السورة- وإن كانت واردة لأحوال الآخرة- تشير من طرف خفيّ إلى ما ذكرنا في الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها في حال زلزلة، وقد أخرجت أثقالها وكنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون وها هم أولاء يلهمون الاختراع، وها هم اولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها، وكل إنسان في عمله الخاص به وينتفع به) (¬1) ومثلا عند ما تعرض لقول الله تعالى: ... وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ... الآية (¬2). نجده يقول: «الفوائد الطبية في هذه الآية- ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب، ثم يقول- أو ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن؟ أو ليس قوله «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير رمزا لذلك؟ كأنّه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى ... وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقي والحياة الحرّة، أفضل من حياة شقية في المدن بأكل التوابل واللحم، والإكثار ¬

_ (¬1) الجواهر ج 25 (¬2) سورة البقرة 61

من الوان الطعام، مع الذلة وجور الحكام، والجبن وطمع الجيران من الممالك فتحتطفكم على حين غفلة وانتم لا تشعرون. بمثل هذا تفسر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله ... » (¬1) وهكذا نرى أن تفسير الشيخ طنطاوي، أخذ يوضح اشتمال القرآن على ما جدّ من نظريات علمية تؤيد إعجاز القرآن، باعتبار أن العلم كشف في القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة، تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء العصر، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخلفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه. وذلك بأن العلماء اكتشفوا الأثير وهو مادة الكون، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (¬2). واكتشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة، والقرآن يقول: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ... (إلى أن يقول) وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (¬3) وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض، وترتجّ في دورتها، والقرآن يقول: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (¬4). ¬

_ (¬1) الجواهر ج 1 (¬2) سورة فصلت 11 (¬3) سورة يس 40 (¬4) سورة النحل 15

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. والكتاب- كما ترى- موسوعة علمية، ضربت في كل من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: (فيه كل شيء إلا التفسير) بل هو أحق من تفسير الفخر الرازي بهذا الوصف، وأولى به. والكتاب يدل على أن المؤلف- رحمه الله- كان كثير التجوال في ملكوت السموات والأرض بفكره، يطوف في شتى نواحي العلم بعقله وقلبه قاصدا تفسير آيات الله في الآفاق وفي نفوس الناس، هادفا إلى إثبات أنّ القرآن تضمّن ما جاء وما قد يجيء به الانسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقا لقول الله تعالى في كتابه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ (¬1). ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه. إن الذين يعتبرون أن التفسير العلمي هو الذي يبيّن إعجاز القرآن مخطئون ولا شك. فالاستناد إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، أو إلى دعوة الله للناس بالنظر في كتاب الكون وآياته التي بثها في الآفاق وفي أنفسهم، لإظهار أن القرآن قد جمع علوم الأولين والآخرين، تأويل غير صحيح؛ ذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وفي أنفسهم، لا يراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة في النفس وجلال ¬

_ (¬1) سورة الانعام 38

في القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب طب أو فلسفة أو هندسة ... وليعلم أصحاب هذا اللون من التفسير، أن القرآن غنيّ عن أن يعتز بمثل هذا التكليف، الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الانساني الاجتماعي، في اصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى. فليس من الخير أن ننهج بالقرآن هذا النهج في التفسير، رغبة في إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشي مع التطور الزمني، وحسبنا أن لا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جدّ ويجدّ من نظريات وقوانين علمية، تقوم على أساس من الحق وتستند إلى أصل من الصحة.

تفسير الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

[تفسير] الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده التعريف به في قرية «محلة نصر» من إقليم البحيرة بمصر، ولد الشيخ محمد عبده بن حسن خير الله عام 1849 م، ونشأ في أسرته المتوسطة الحال، نشأة أمثاله من القرويين، وترك بدون تعليم حتى ناهز العاشرة، ثم حفظ القرآن الكريم، والتحق طلبا للعلم بالجامع الأحمدي في طنطا، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر في القاهرة. في طليعة أيامه بالأزهر، مني بمعلمين غير أكفاء، رغبوه عن التعليم، ونفروه عن المعرفة، فسئم الدرس وفرّ، ولكنه أتيحت له ظروف جعلته يستسيغ حلاوة العلم، فصبر بعدها على مرارة التحصيل، وأقبل على الدرس بنهم وشغف، يسعفه عقل راجح، وذهن ثاقب، وبصيرة نافذة، حتى غدا نبراسا يضيء، وإماما يستفتى، وحجة من حجج الإسلام. وحين وفد المصلح الكبير جمال الدين الافغاني على مصر، وأعاد إلى رحابها دروس الفلسفة والمنطق وعلوم الكلام والحكمة، كان «محمد عبده ألزم تلاميذه له، وأقر بهم منه، وأنبغهم فيما يأخذ عنه. وفي عام 1294 هـ نال اجازة العالمية من الازهر الشريف، وبعدها بعام

واحد، عين مدرسا للأدب والتاريخ العربي بمدرستي الألسن ودار العلوم؛ ولكن لحرية فكره، وجرأة كلمته، ومجاهرته بدعوة الإصلاح، فصل من عمله ولزم بلده فترة. ثم احتيج إليه ليشرف على إصلاح لغة الوقائع المصرية، ثم أصبح رئيسا لتحريرها، وسارت به كفاءته إلى أن غدا مراقبا على كتابة الجرائد وتحريرها. وحين نمت مبادئ الأفغاني، وزكت دعوته في القلوب، شبت الثورة العرابية، وكان الشيخ محمد عبده من مشايعيها، والمحركين لها، ولقد أفتى بخلع الخديوي فنفي من مصر وذهب إلى سوريا- لبنان- وأقام في بيروت، وتولى التدريس في مدارسها- وفي بيروت ألف رسالته المشهورة- رسالة التوحيد، ثم التحق بالسيد جمال الدين الأفغاني بباريس، وأنشأ معه جريدة العروة الوثقى .. ثم عفا الخديوي عنه، وعاد لمصر وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية، وبقي مثالا للقاضي النزيه، الصحيح النظر والحكم، حتى عين مفتيا للديار المصرية عام 1317 هـ وتولى التدريس بالأزهر، وبقي على ذلك حتى وافته منيته عام 1323 هـ- 1905 م. والإمام محمد عبده، يعتبر من اكبر المصلحين الاسلاميين في العصر الحديث، فقد سلط من فكره ضياء على أباطيل البدع والأضاليل فبددها، وكشف للناس جوهر الاسلام ناصعا بعد أن غشيته سحب كثيفة من ظلمات الجهل، ووقف ببصيرة نفاذه يوفق بين العلم والدين كما فعل من قبله ابن سينا وابن رشد، وأخذ يفسر كتاب الله على ضوء من العلم والمعرفة والعقل، وكتب رسالة التوحيد ببلاغة متمكنة تقرب العقائد من الأفهام، وتخلص النفوس من الأسقام، وتصدى للمبشرين بسيف الحق، يرد كيدهم ويقطع السبيل على مفترياتهم، وكتاباه «الاسلام والرد على منتقديه» و «الاسلام والنصرانية» من أقوى ما كتب في هذا المجال. لقد كان- رحمه الله- من الأخيار الذين يصطفيهم الله على فترات من

إنتاجه في التفسير

الزمان، ليجددوا إيمان الناس بالحق وقد سيته، وليخلصوا الفكر الإسلامي من الخبث الذي يتسرب إليه بفعل الأهواء، وسكوت الفصحاء. إنتاجه في التفسير إن المستقصي لما انتجه الاستاذ الإمام من عمل في التفسير، يجد له تفسيره المشهور لجزء (عمّ) الذي ألفه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الاسلامية، ليكون مرجعا لاساتذة مدارس الجمعية في شرح ما يحفظ التلاميذ من سور هذا الجزء، وليكون عاملا للإصلاح في اعمالهم واخلاقهم. أتم الاستاذ الامام تفسير هذا الجزء في سنة 1321 هـ ببلاد المغرب، وبذل جهده كما يقول (في أن تكون العبارة سهلة التناول، خالية من الخلاف وكثرة الوجوه في الاعراب، بحيث لا يحتاج في فهمها إلا أن يعرف القارئ كيف يقرأ، أو السامع كيف يسمع، مع حسن النية وسلامة الوجدان) (¬1) كما يجد له تفسيرا مطولا لسورة (العصر) كان قد ألقاه على هيئة محاضرات، أو دروس على علماء مدينة الجزائر ووجهائها في سنة 1903 م كما يجد له بعض البحوث التفسيرية، التي عالج فيها بعض مشكلات القرآن، ودفع بها بعض ما أثير حول القرآن من شكوك وإشكالات، كشرحه لقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (¬2). وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) مقدمة تفسير جزء (عم) (¬2) سورة النساء 78

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (¬1) حيث جمع بين الآيتين، ووفق بين ما يظن فيهما من تناف وتضاد، وهو نسبة أفعال العباد تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى العبد. ومن آثار الاستاذ الامام في التفسير، تلك الدروس التي ألقاها في الازهر الشريف. على تلاميذه ومريديه، وكان ذلك بمشورة تلميذه السيد محمد رشيد رضا، وإقناعه به، كما يقول هو في مقدمة تفسيره (¬2). والاستاذ الامام، ابتدأ بأول القرآن في غرّة المحرم سنة 1317 هـ وانتهى عند تفسير قول الله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (¬3) دروسا كان يلقيها على طلابه ولم يدون منها شيئا، لذلك اعتبرت أثرا من آثاره في التفسير، وذلك لأن تلميذه السيد محمد رشيد رضا كان يكتب في اثناء إلقاء هذه الدروس مذكرات يودعها ما يراه أهم اقوال الاستاذ الامام، ثم يحفظ ما كتب ليمدّه بما يذكره من أقواله وقت الفراغ، ثم قام بعد ذلك بنشر ما كتب في مجلته (المنار) وكان- كما يقول في مقدمة تفسيره- يطلع الاستاذ الامام على ما أعده للطبع، كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه، فكان ينقح فيه بزيارة قليلة، أو حذف كلمة أو كلمات. قال: «ولا اذكر أنه انتقد شيئا مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضيا بالمكتوب بل معجبا به .. (¬4) ¬

_ (¬1) سورة النساء 79 (¬2) تفسير المنار ج 1 (¬3) سورة النساء 126 (¬4) تفسير المنار ج 1

طريقته في التفسير

طريقته في التفسير يعتبر الاستاذ الامام، الأول الذي قام وحده من بين رجال الازهر بالدعوة إلى التحرر من قيود التقليد، وإلى التجديد، فاستعمل عقله الحر في كتاباته وبحوثه، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من افكار المتقدمين، واقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها من سبقه، فأغضبت عليه الكثير من أهل العلم، وجمعت حوله قلوب مريديه والمعجبين به. هذه الحرية العقلية، وهذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ في المنهج الذي نهجه الشيخ لنفسه، وسار عليه في تفسيره. فهو قد اتخذ لنفسه مبدأ يسير عليه في تفسير القرآن الكريم، ويخالف به جماعة المفسرين المتقدمين. إذ يفهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، «لأنه يرى أن هذا هو المقصد الأعلى للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله. (¬1) والاستاذ الإمام يقسم التفسير إلى قسمين:- أولا: جاف مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الالفاظ، وإعراب الجمل، وبيان ما ترمي اليه تلك العبارات والاشارات من النكت الفنيّة. قال: وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرا، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون، كالنحو والمعاني وغيرهما. ثانيا: أن يذهب المفسر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام، على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام؛ ليتحقق فيه معنى قول الله تعالى (هدى ورحمة) ونحوهما من الأوصاف. وفي هذا يقول: «وهذا هو الغرض الأول الذي ارمي إليه في قراءة التفسير (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير المنار ج 1 (¬2) تفسير المنار ج 1

العقيدة تؤخذ من القرآن

العقيدة تؤخذ من القرآن يرى الاستاذ الامام، أن القرآن الكريم هو الميزان الذي توزن به العقائد لتعرف قيمتها، ويقرر انه يجب على من ينظر في القرآن أن ينظر إليه كأصل تؤخذ منه العقيدة، ويستنبط منه الرأي، وينعي على ما كان من اكثر المفسرين، من تسلط العقيدة عليهم، ونظرتهم للقرآن من خلالها، حتى تأولوا القرآن بما يشهد لعقائدهم، ويتمشى معها. وفي هذا يقول «إذا وزنّا ما في أدمغتنا من الاعتقاد بكتاب الله تعالى، من غير أن ندخلها اولا فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن، وحشرناها فيه أولا، فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يدري ما هو الموزون به. «أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون، وتاه فيه الضالون (¬1) طريقة الأستاذ الامام في دروس التفسير يحدثنا تلميذه السيد محمد رشيد رضا عن طريقة الاستاذ الإمام في دروس التفسير فيقول: «كانت طريقته في قراءة الدرس على مقربة مما ارتآه في كتابة التفسير، وهو أن يتوسع فيما أغفله أو قصر فيه المفسرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الالفاظ، والاعراب، ونكت البلاغة، وفي الروايات التي تدل عليها، ولا تتوقف على فهمها الآيات (¬2) وكان الاستاذ الإمام يعتمد في دروسه وكتابته في التفسير على عقله الحر، وكان- كما يقول عنه بعض الكاتبين- «لا يلتزم في التفسير كتابا، وإنما يقرأ في المصحف، ويلقي ما يفيض الله على قلبه (¬3) ¬

_ (¬1) تفسير سورة الفاتحة (¬2) تفسير المنار ج 1 (¬3) محمد عبده لعثمان أمين

وكان من دأبه أنه لا يرجع إلى كتاب التفسير قبل إلقاء دروسه، حتى لا يتأثر بفهم غيره، وكل ما كان منه أنه إذا ما عرض له وجه غريب من الاعراب او كلمة غريبة في اللغة، رجع إلى بعض كتب التفسير، ليرى ما كتب في ذلك، وقد حدث عن نفسه بذلك فقال «إنني لا أطالع عند ما أقرأ، لكنني ربما أتصفح كتاب تفسير إذا كان هناك وجه غريب في الاعراب، أو كلمة غريبة في اللغة (¬1). ثم نجد تلميذه السيد محمد رشيد رضا يذكر أن الاستاذ الامام كان «يتوكأ في ذلك يعني في دروسه في التفسير- على عبارة تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرّها، أو ينتقد منها ما يراه منتقدا ثم يتكلّم في الآية أو الآيات المنزلة في معنى واحد بما فتح الله عليه، ما فيه هداية وعبرة (¬2). والاستاذ الإمام لم يقف عند ما كتبه قدماء المفسرين، ولم يلغ عقله أمام عقولهم، بل ندّد بمن يكتفي في التفسير بالنظر في اقوال المتقدمين فيقول «التفسير عند قومنا اليوم ومن قبل اليوم بقرون، هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب المفسرين على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (¬3) وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه، ولكنهم لم يطلبوا ذلك، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها، ويمارون فيها من يباريهم في طلبها، ولا يخرجون لإظهار البراعة في تحصيلها عن حدّ الإكثار من القول، واختراع الوجوه من التأويل، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل. ¬

_ (¬1) تفسير المنار ج 1 (¬2) المنار ج 1 (¬3) سورة النساء 82

موقف الاستاذ الإمام محمد عبده من مبهمات القرآن

«إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن اقوال الناس وما فهموه، وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سنّة نبيّنا الذي بين لنا ما نزل إلينا «وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم (¬1) «يسألنا هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبرتم ما بلغتم؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم وما به امرتم؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن، واهتديتم بهدي النبي، واتبعتم سنته؟ عجبا لنا ننتظر هذا السؤال ونحن في هذا الإعراض عن القرآن وهديه، فيا للغفلة والغرور (¬2). والاستاذ الإمام يعرّف الفهم الصحيح للقرآن ويحدّده بقوله « ... وأعني بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها، وتملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه. لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان. اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر (¬3). موقف الاستاذ الإمام محمد عبده من مبهمات القرآن نلاحظ أنه كان ينفر من شرح مبهمات القرآن فلا يخوض فيها، فلم يكن كغيره من المفسرين الذين كلفوا بالاسرائيليات فجعلوا منها شروحا وتفصيلات، وذلك لاعتقاده بأن الله تعالى لم يكلفنا بالبحث عن الجزئيات لما جاء به مبهما في كتابه، ولو أراد الله منا ذلك لدلنا عليه في كتابه أو على لسان نبيّه «مذهبه في جميع مبهمات القرآن يقف عند النص القطعي لا يتعداه ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه» (¬4) فهو عند تفسيره لقول الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة النحل 44 (¬2) تفسير المنار ج 1 (¬3) تفسير المنار ج 1 ص 27 (¬4) تفسير المنار ج 1 ص 320

معالجة القضايا الاجتماعية

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ (¬1). يقول: «ومن الغيب الذي يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به في كتابه: أنّ علينا حفظة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات، ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أي شيء خلقوا، وما هو عملهم في حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومواد كالمعهود عندنا ... وهو يبعد فهمه؟ أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التي ترسم هي على نحو ما نعهد؟ أو إنما هي أرواح تتجلى لها الاعمال فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نكلف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر وتفويض الأمر في معناه إلى الله، والذي يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل في عملنا، هو: أنّ أعمالنا تحفظ وتحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير» (¬2). وعند ما تعرّض لقول الله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (¬3) نجده يقول: «وقد يروي المفسرون هنا حكايات في تصوير إرم ذات العماد، كان يجب أن ينزه عنها كتاب الله، فإذا وقع إليك شيء من كتبهم، ونظرت في هذا الموضع منها، فتخط ببصرك ما تجده في وصف إرم، وإياك أن تنظر فيه» (¬4). معالجة القضايا الاجتماعية والاستاذ الإمام يقف عند بعض آيات القرآن التي يمكن أن تؤخذ منها طرق ¬

_ (¬1) سورة الانفطار 10 و 11 (¬2) تفسير جزء (عم) ص 36 (¬3) سورة الفجر 6، 7 (¬4) تفسير جزء (عم) ص 79

معالجة الامراض الاجتماعية، فيفيض في تصوير خطر العلة الاجتماعية التي يتحدث عنها، ويرشد إلى وسائل علاجها والتخلص منها بوحي مما يفهمه من القرآن الكريم نفسه. أنظر إليه عند تفسير قول الله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (¬1) كيف يوضع معنى البرّ وما يكون به الانسان من الأبرار، فيقول: «فلا يعد الشخص برا ولا بارا حتى يكون للناس من كسبه ومن نفسه نصيب، فلا يغترن أولئك الكسالى الخاملون، الذين يظنون أنهم يدركون مقام الأبرار بركعات من الخشية خاليات، وبتسبيحات وتكبيرات وتحميدات ملفوظات غير معقولات؛ وصيحات غير لائقات بأهل المروءة من المؤمنين والمؤمنات، ثم بصوم أيام معدودات، لا يجتنب فيها إيذاء كثير من المخلوقات، مع عدم مبالاة الواحد منهم بشأن الدين قام أم سقط، ارتفع أو انحط، ومع حرصه وطمعه وتطلعه لما في أيدي الناس، واعتقاده الاستحقاق لما عندهم، لا لشىء سوى أنهم عاملون في كسب المال وهو غير عامل، وهم يجرون على سنة الحق وهو مستمسك بسنة الباطل، وهم يتجملون بحلية العمل وهو منها عاطل، فهؤلاء ليسوا من الأبرار، بل يجدر بهم أن يكونوا من الفجار» (¬2) ومثلا عند ما تعرض لقوله تعالى ... وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (¬3) تجده يقرر «أن قوله تعالى ولا يحض على طعام المسكين، كناية عن الذي لا ¬

_ (¬1) سورة الانفطار 13 (¬2) تفسير جزء (عم) ص 37 (¬3) سورة الماعون 3

شرح القرآن على ضوء العلم الحديث

يجود بشيء من ماله على الفقير المحتاج الى القوت الذي لا يستطيع له كسبا ... ثم يقول: «وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين، ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه. وفيه حث للمصدقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم، وهي طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية، وبه قوله تعالى من سورة الفجر كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ونعمت الطريقة هي لإغاثة الفقراء، وسد شيء من حاجات المساكين ... » (¬1) شرح القرآن على ضوء العلم الحديث يلاحظ أن الاستاذ الامام- رحمه الله- يتناول بعض آيات القرآن فيشرحها شرحا يقوم على أساس من نظريات العلم الحديث، وغرضه في ذلك، أن يوفق بين معاني القرآن التي قد تبدو مستبعدة في نظر بعض الناس، وبين ما عندهم من معلومات تكاد تكون من المسلّمات عندهم، أو هي مسلّمة بالفعل، وهو- وإن كان يقصد بشرحه هذا غاية نبيلة- يخرج في بعض الأحيان بمثل هذا الشرح والبيان عن مألوف العرب، وما عهد لديهم وقت نزول القرآن. يقول عند تفسير قول الله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (¬2) «انشقاق السماء، قبل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة إذا السماء انفطرت وهو فساد تركيبها، واختلاف نظامها، عند ما يريد الله خراب هذا العالم الذي ¬

_ (¬1) تفسير جزء (عم) ص 162 (¬2) سورة الانشقاق 1

موقف الإمام من السحر:

نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجرّ إليها سير العالم، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره (¬1). وهو تفسير اجتهادي غايته منه تقريب معاني القرآن من بعض ما تحدث به أصحاب العلوم الطبيعية في زمانه عن ظواهر الكون وقرروا ثبوته. ولكن .. هل يا ترى، لا بد من حدوث هذه الظاهرة الكونية، حتى يفسد الكون؟ وهل ربّ العالمين بحاجة إلى ذلك أو إلى بعضه ليتم أمره وينفذ قضاءه؟ الأجدر بنا أن نؤمن بما جاء به من القرآن، ولا نخوض فيما وراء ذلك من تفصيلات أو جزئيات. موقف الإمام من السحر: لقد وقف الإمام من السحر موقفا عقليا صريحا، نراه يقول في تفسيره لقول الله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (¬2) بعد أن شرح معنى النفث والعقد، المراد بهم هنا- يقصد النفّاثات- هم النمامون، المقطعون لروابط الألفة، المحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما في الآية، لأن الله جلّ شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السّحرة المشعوذين، الذين إذا أردوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجته- مثلا- فيما يوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها، ليكون ذلك حلا للعقدة التي بين الزوجين. والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر، لأنها تحول ¬

_ (¬1) تفسير جزء (عم) ص 43 (¬2) سورة الفلق 4

ما بين الصديقين من محبّة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تضلل وجدان الصديقين، كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الفاسق ... ». وقد ضعف بعض الأحاديث التي وردت في الصحيحين حول إصابة الرسول بالسحر، ولم يأخذ بها لأنها روايات آحاد قال: «والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء ينفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذا هو ليس بمسحور قطعا. وأما الحديث فعلى فرض صحته، هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، على أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال، فلنا بل علينا أن نفوّض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، وناخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان ... » (¬1) وهذا الحديث ليس وحده الذي يضعفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه- رواية آحاد، فهناك أحاديث كثيرة نالها هذا الحكم، كحديث الشيخين «كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» فإنه قال فيه «إذا صح هذا الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة» (¬2) فهو لا يثق بصحة ¬

_ (¬1) تفسير جزء (عم) ص 131 (¬2) تفسير المنار ج 3

الحديث برغم رواية الشيخين له، ويرى أنه- لو صح- من باب التمثيل، وهو في هذا متفق مع المعتزلة الذين يرون أن الشيطان لا تسلط له على الانسان إلّا بالوسوسة والإغواء فقط. هذه لمحة عن إنتاج الاستاذ الإمام في التفسير، الذي يعتبر صاحب مدرسة لمفسري العصر الحديث، قائمة على النظر الى القرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب من المذاهب، بعيدة عن التأثر أيضا باصطلاحات العلوم والفنون، التي زجّ بها في التفسير بدون أن يكون في حاجة إليها. ولم يتناول تلاميذ الإمام ذلك إلا بمقدار الحاجة، وعلى حسب الضرورة.

تفسير القرآن الكريم المشهور"بالمنار" للشيخ محمد رشيد رضا

تفسير القرآن الكريم المشهور «بالمنار» للشيخ محمد رشيد رضا التعريف بالمؤلف هو الشيخ محمد رشيد رضا، ولد في طرابلس الشام عام 1282 هـ ونشأ بها، وتلقى علومه عن شيوخها وعلمائها، وجلس للناس يعطيهم من علمه، ويعظهم بنصائحه وإرشاداته، حتى وقعت يده على نسخة من جريدة العروة الوثقى، وهي التي أخرجها وكتب فيها السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الاستاذ الإمام محمد عبده، فقرأها الشيخ رشيد، وأعجب بالرجلين إعجابا شديدا، وسعى للاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني ولكنه لم يوفق، فاتصل بخليفته الشيخ محمد عبده، وقابله، وعرض عليه اقتراحا، بأن يكتب للقرآن الكريم تفسيرا على منهج ما كان يكتبه في جريدة العروة الوثقى. وبعد محاورة وتداول، اقتنع الاستاذ الإمام، بأن يقرأ دروسا في التفسير بالجامع الأزهر الشريف. وكان الشيخ رشيد- رحمه الله- أكثر الناس حرصا على ملازمة الإمام محمد عبده في دروسه، وتلقيها وضبطها، فكان يكتب بعض ما يسمع، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك، حتى قام بنشر ما كتبه على الناس في مجلته (المنار)، بعد أن راجع شيخه فيما كتب، وبعد أن نقّحه وهذّبه. (¬1) ¬

_ (¬1) مقتبس من مقدمة من مقدمة تفسير المنار ج 1

إنتاج الشيخ رشيد في التفسير

ولذا، قال بعض العلماء: إن الشيخ رشيد هو الوارث الأول لعلم الاستاذ الإمام، إذ أنه أخذ عنه فوعى ما أخذ، وألف في حياته وبعد وفاته، ناهجا منهجه. وسالكا طريق فكره، حتى روي أن الإمام محمد عبده- رحمه الله- كان يقول: «صاحب المنار ترجمان أفكاري». (¬1) ووصفه مرّة بقوله: «إنه متّحد معي في العقيدة، والفكر، والرأي، والخلق، والعمل». (¬2) توفي رحمه الله في سنة 1354 هـ. إنتاج الشيخ رشيد في التفسير باعتبار أنه اكثر رجال مدرسة الاستاذ الامام محمد عبده إنتاجا في التفسير، فقد كتب تفسيره (المنار) مبتدئا بأول القرآن الكريم، ومنتهيا عند قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (¬3) حيث عاجلته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن كله. وقد فسّر الشيخ بعض قصار السور، كالإخلاص، والكوثر، والكافرون، والمعوّذتين، ولم يعرف له انتاج تفسيري أكثر من هذا. وفيه تبدو روح الامام محمد عبده ممزوجة بروح تلميذه، فالمنهج واحد، والأفكار واحدة، والمصادر واحدة، والهدف واحد، وقلّ أن يوجد فرق بين الرجلين. ¬

_ (¬1) ج 2 ص 498 (¬2) المحدث بهذا القول هو تلميذ الشيخ رشيد، الاستاذ عبد الرحمن عاصم في مقال كتبه عن حياة الشيخ رشيد في السنة الخامسة من مجلة نور الاسلام. العدد 12. (¬3) سورة يوسف 101

الهدف من تفسيره

الهدف من تفسيره وهو مماثل لهدف الاستاذ الإمام سدّا لحاجة النّاس، وهداية وإصلاحا، بعد أن أقحم كثير من المفسرين، تفصيلات العلوم، وموضوعات الحديث، وخرافات الاسرائيليات، في تفسيراتهم، مما يصرف الناس عن هداية القرآن. يقول في ذلك: «إن حاجة الناس صارت شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة، المنزلة في وصفه، وما أنزل لأجله، من الانذار، والتبشير، والهداية، والإصلاح (¬1) وكان الاستاذ الإمام قد صرّح قبله بأنّ هدفه من التفسير هو: «فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة» (¬2). طريقته في التفسير: وهي نفس الطريقة التي سلكها استاذه الإمام، لا يتقيد بأقوال المفسرين، ولا يخوض في الاسرائيليات، ولا يتعلق بأحاديث موضوعة، ولا حشد لمباحث الفنون، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم. يشرح آيات القرآن بأسلوب جيّد، يكشف فيه المعنى بعبارة سهلة مقبولة، ويوضح مشكلات القرآن مدافعا عنه، ورادّا على ما أثير حوله من شبهات. وهو في ذلك يبيّن هدى القرآن، ويدل على عظيم ارشاده، ويظهر معالجته لأمراض المجتمع بالدواء الناجع، كما يبيّن سنة الله في خليقته. ومع هذا، فقد حاد الشيخ رشيد- رحمه الله- عن منهج استاذه بعض الشيء، وذلك بعد وفاة شيخه، واستقلاله بالعمل. يحدثنا بذلك فيقول: «وإنني لما ¬

_ (¬1) تفسير المنار ج 1 ص 10 (¬2) المرجع نفسه ج 1 ص 17

رأيه في أصحاب الكبائر:

استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه- رحمه الله- بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرا لها، أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو بحل بعض المشكلات التي أعيا حلها، بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس». (¬1) رأيه في أصحاب الكبائر: عند ما تعرض لقوله تعالى وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (¬2) وهي في شأن المرابين، نجده يخالف أهل السنّة، ويؤكد أن صاحب الكبيرة التي في درجة أكل الربا وقتل العمد، إذا مات ولم يتب منها يخلد في النار، ولا يخرج منها أبدا فيقول «أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم، الذي لا ينهاهم إلا عما يضرهم في أفرادهم أو جمعهم، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه، فيكونون فيها خالدين ... ثم يقول: ما كل ما يسمى ايمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه. وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالايمان، متمكنة في العقل بالبرهان مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الارادة المصرفة للجوارح في الأعمال ¬

_ (¬1) تفسير المنار ج 1 ص 16 (¬2) سورة البقرة 275

رأيه في بعض المسائل الفقهية:

بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الانسان من غلبة جهالة أو نسيان. وليس الربا من المعاصي التي تنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش، كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والفطرة، فهذا هو الايمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله، ولكنه لا يجتمع مع الاقدام على كبائر الاثم والفواحش عمدا، إيثارا لحب المال واللذة، عن دين الله وما فيه من الحكم والمصالح. وأما الايمان الاول: فهو صوري فقط، فلا قيمة له عند الله تعالى، لأنه تعالى لا ينظر الى الصور والاقوال، ولكنه ينظر الى القلوب والأفعال، كما ورد في الحديث، والشواهد على هذا الذي قرّرناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدا، فهو مذهب السلف الصالح، وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة، حتى جرأوا الناس على هدم الدين، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين، وإن لم يعمل به، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات، مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرّم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر إنني آكل الربا ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنّه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه يرضى أن يكون محاربا لله ولرسوله، وظالما لنفسه وللناس». (¬1) رأيه في بعض المسائل الفقهية: نرى في تفسير المنار، أن الشيخ رشيد يعطي نفسه حريّة واسعة في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم، مخالفا بذلك جمهور الفقهاء، معترضا على ما ذهبوا إليه، حاملا عليهم حملة شديدة. ففي تفسيره لقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) تفسير المنار ج 3 ص 98 - 99

وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (¬1) تراه يقرر: أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه، ولا علّة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافرا، مع أن جماعة الفقهاء ذهبوا إلى أنّ المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، يقول صاحب المنار: «سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم ... إن الآية واضحة المعنى، كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء. وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين؟ ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها اليه؟ .. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء- وإن كان المقلد لا يحاجّ لأنه لا علم له- وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح؛ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه، لحمله على كلام الفقهاء؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر، التي فيها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر في رمضان؟ فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء، وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين؟ ... إلى أن قال: «ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام ... وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد، بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه في السفر (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النساء 43 (¬2) تفسير المنار ج 5 ص 118 - 122

دفاعه عن الإسلام:

وصاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحيانا قدماء المفسرين، مع قسوة منه عليهم في الكثير الغالب. دفاعه عن الإسلام: ولا يفوتنا أخيرا، أن صاحب المنار، قد دافع عن الاسلام والقرآن، وكشف عما أحاط بهما من شكوك ومشاكل، وقد استعمل في ذلك لسانه وقلمه؛ وضمنه مجلته وتفسيره، وتلك مزية للرجل يحمد عليها، أمام ما له من أفكار جريئة وآراء متطرفة. تمّ الكتاب

§1/1