في سبيل العقيدة الإسلامية

عبد اللطيف سلطاني

عبد اللطيف بن علي السلطاني في سبيل العقيدة الإسلامية الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م نشر دار البعث للطباعة والنشر قسنطينة - الجزائر

عبد اللطيف بن علي السلطاني في سبيل العقيدة الإسلامية الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م نشر دار البعث للطباعة والنشر قسنطينة - الجزائر

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

الإفتتاح

الإفتتاح إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا الآية 96 من سورة مريم عليها السلام جمعت هذه الآية بين الإيمان بقواعده في قوله آمنوا وبين الإسلام بقواعده في قوله وعملوا الصالحات.

الإهداء

الإهداء إلى أرواح المعذبين والمحرومين في مجتمعهم الإسلامي، إلى كل مؤمن بربه كامل في إيمانه، إلى كل مسلم صادق في إسلامه، إلى كل الأحرار غير المستعبدين في كل مكان، أهدي كتابي هذا ليثبتوا ويثبتوا فوق أرضهم أقدامهم، من أجل الحق والعقيدة الإسلامية وليفتحوا أبصارهم على ماضيهم، وينيروا بالإسلام بصائرهم. المؤلف

توجيه وإرشاد

توجيه وإرشاد: الحمد لله ولى المؤمنين ومسبغ النعم على الخلق أجمعين، فمن شكرها وأدى حقها عد في جماعة المؤمنين، ومن جحدها وأنكرها وكفر بها حشر في زمرة الأغبياء الجاهلين والجاحدين الكافرين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وخاتم رسل الله أجمعين محمد بن عبد الله أكرم رسل الله المعظمين وعلى آلهم ومن تبع هداهم، واستمر فى سيره على الطريقة المثلى إلى يوم الدين، ولم يخرج عنها إلى بنيات الطريق بل حافظ على السير في خطها المستقيم عاملا، وناصرا، وداعيا، ومدافعا، فكان من الناجحين، فالله وحده ناصر الحق وأهله، على الباطل وجنده، وهو القائل: ((وكان حقا علينا نصر المؤمنين)) والقائل: ((الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)). وبعد فإن من حق الله الخلاق العليم على عباده أن يعبدوه وحده ولا يشركوا معه غيره، وأن يطيعوه ولا يخالفوا له أمرا ولا نهيا، ولا يخافوا سواه، أولئك

هم الذين استنارت عقولهم بنور التوفيق، فوهبوا حياتهم وكل ما يملكون إلى ما يغرس في نفوس عباد الله حبه وطاعته وذلك بإرشادهم إلى سلوك صراط الله المستقيم والسبيل الواضح القويم وهو دين الله الإسلام الذي لا يقبل من أحد غيره ((ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))، إذ هو دين الله إلى البشر أجمعين وشريعته السمحة البينة عقيدة وعملا فقد كثرت عقائد الزيغ والضلال والبهتان وانتشر دعاتها في كل مكان، يصدون الناس عن سبيل الله ويوجهونهم شطر سبيل الشيطان وقد وجدوا في بعض الضالين من أعانهم على نشر باطلهم في المجتمعات وبلغ بهم هذا إلى المجتمعات الإسلامية، والأوساط الطلابية، والمفروض فيهم أن يكونوا على جانب من الحذر والنباهة، ولكنهم اغتروا بمعسول الكلام المزيف وألبس عليهم الأمر وانطلت عليهم الحيل وإنها - والله - لسبه شنيعة، وكارثة خطيرة لحقت بشعبنا المسلم وشبابنا المرجو للمهمات بعد أن استرد مجده السليب ووطنه العزيز من يد الغاصب الغريب ذلك هو شعبنا الجزائري الذي ما عرف في تاريخه القديم إلا بصلابة عوده وقوة عقيدته الإسلامية حتى في أحلك ليالي الاستعمار فقد كان له رصيد وافر من ذخيرة عقيدة التوحيد، فاستنار في حياته بنور الإسلام وعقيدة التوحيد، وبهذا - فقط - حافظ على شخصيته في دينه وعقيدته،

وعلى كل مميزاته ومميزات شخصيته الإسلامية من أخلاق فاضلة، وسجايا حميدة ذات الطابع الإسلامي، من حياء وكرم، وغيرة ونجدة في الملمات والمهمات، ولم يندمج فيما حاط به من جماعات الضلال، وتمسك بحبل الله المتين، واعتصم به وعقد العزم على أن لا يسل يده منه مهما نزل به ما نزل من صارفات الأيام وأحداثها فنجا - والفضل لله - من كل محاولات المستعمر الكثيرة، التي كم حاول واجتهد في صرفه عن دينه وعقيدته فباء في كل محاولاته بالفشل والخيبة واستمر شعبنا يقاوم الدخيل يتلك العقيدة إلى أن استرد أرضه وشرفه وحريته من غاصبها الدخيل وحررها من كل شيطان مارد. ومن المؤسف جدا أن تظهر في أوساط شباب هذا الشعب المسلم شرذمة قليلة حقيرة ادعت أنها من رجال العلم الحريصين على نفع الوطن وأهله فتفاءل الناس بها وقالوا عسى ولعل أن نرى منها قولا صحيحا وسلوكا سليما غير أن الواقع أبطل هذا التفاؤل وأظهر أنها ما اتخذت العلم لباسا إلا للتدليس وبث الإلحاد والبلبلة في أوساط الشباب - إذ يصعب عليها جلب الكبار المتشبعين بالتعاليم الصحيحة إلى ضلالها وإلحادها - فهي مسخرة ومسيرة ومأجورة من قبل أسيادها الملاحدة الذين يريدون مسخ شباب الأمة الجزائرية المسلمة ووجدت مساندة من بعض أبناء هذا الوطن ممن تغذوا بلبن المستعمر الكافر، وهم في حقيقتهم لا دين لهم،

ولا وطنية تعصمهم ولا ضمير يؤنبهم ولا هدف لهم سوى حب الشهرة وإشباع الشهوات، وتحريف الشباب الجزائري المسلم عن المنهج الأقوم وفتح المجال لهذه الشرذمة فأطنبت في الكذب والتزوير والبهتان، وأصدرت منشورات لطخت بياضها بسواد الكذب والبهتان كما لطخت بياض صحائفها فجاءت تلك الوريقات الملطخة ((وخذة)) وكارثة أصيبت بها أمتنا في شبابها! ومن العجب والوقاحة أنها صارت تعارض نشر الكتب الإسلامية في وطن الإسلام!! وما فكرت أنها في وطن إسلامي عريق في إسلامه، غيور عن معتقداته، وهي وأعوانها ومسيروها والحارسون عليها والراضون عنها في ذلك شركاء. فالبرغم من تشجيع هذه الشرذمة الضالة ورغم مساندتها المطلقة، فقد خابت في كل محاولاتها لإيقاف تيار الاتجاه الإسلامي فركضت وراء سرابها ما شاء لها الشيطان وأعوانه أن تركض وكذبت ما شاء لها الهوى أن تكذب، وشوشت على المصلين والعباد في بيوت الله إلى أن أطلقت لسانها وأقلامها المأجورة في أعز عزيز على الأمة الإسلامية وإلى ما في قلبها من عقيدة التوحيد، محاولة انتزاعها واقتلاع جذورها، ظنا منها أن هذا ميسور وسهل، ولكن هيهات ثم هيهات!! فقد اصطدمت بالواقع وباءت بالفشل الذريع والخيبة المرة. فتنبهوا أيها المسلمون إلى هذا ولا تغفلوا عما يراد بكم وبالوطن العزيز.

فإلى شبابنا المسلم الواعي لما يجب عليه هذه الفصول من حياة قادة التوحيد وأنصار عقيدته، والإدلاء على الخير وإصلاح النفوس وهم ما بين رسول من رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام - فقد أمرنا خالقنا بالتأسي بهم - وبين مؤمن بدعوتهم، فأخذ عنهم خالص العقيدة الصحيحة، وزبدة الإيمان الصحيح في الصدق والوفاء للعقيدة، والاقتداء بعباده الصالحين، فاصبروا - أيها الأبناء البررة - على ما يصيبكم في سبيل عقيدتكم كما صبروا وستفوزون بالنصر كما فانوا وكونوا لعقيدتكم الصحيحة تكن لكم، تمسكوا بها ودافعوا عنها عدوان الإلحاد والملحدين فإنكم أنصار الحق ودعاته وهم إنما يدافعون عن الباطل ويدعون إليه تماما كما كان مشركو قريش يفعلون في دفاعهم عن أوثانهم فما أشبه اليوم بالأمس، والليلة بالبارحة، واثبتوا كما ثبت أسلافكم الأولون فإن العاقبة للصابرين الثابتين والنصر إنما يناله الصادقون المخلصون والهزيمة والخذلان من نصيب المعتدين الظالمين واجعلوا نصب أعينكم قول الشاعر الحكيم حين قال: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا … إن الحياة عقيدة وجهاد واذكروا - أيها الأبناء - موقف رسول الله - إبراهيم الخليل - عليه السلام من أجل عقيدته، التوحيدية،

حيث قال حسبي الله ونعم الوكيل فهل تركه ربه للظالمين؟؟ وهل تخلى عنه وتركه ولم ينصره؟ حين أرادوا به كيدا فجعلهم ربه الأحسرين؟ كلا وتفكروا - جيدا - في موقف أصحاب الأخدود وهم يعرضون على النار الواحد بعد الواحد تلك النار التي أوقدها لهم الظالمون وهل خافوها؟ واعتبروا بصلابة عود الصحابى ((بلال)) في عقيدته وظهره تحت سياط مشركي قريش في حر الظهيرة وفى بطحاء مكة، يريدون أن ينتزعوا منه عقيدة التوحيد ليكفر بالله وبرسوله محمد صل الله عليه وسلم ويؤمن باللات والعزى ويكون من المشركين، وهل أجابهم إلى ذلك؟ كلا بل أخذ يقول ويردد ((أحد أحد)). لهذا يجب على العلماء أمام هذا الإلحاد الذي يتزايد خطره وشره يوما بعد يوم محاولا بث عقيدته الإلحادية يجب عليهم اليقظة والانتباه والعمل لدرء هذا الخطر بما يليق به من نشر الكتب التي تقاومه وتبطل عمله إذ هو لا يؤمن برب ولا بخالق ولا ببعث ولا بما يأتي بعده من حساب وجزاء ولا بنار ولا بجنة، ولا بالحياة الأخرى الدائمة، فهو مادي ولا يؤمن إلا بالمادة، إذ هو يسعى بكل قواه أن ينجح في أعماله الإجرامية هذه فعلى العلماء أن يحاربوا الإلحاد بجميع أشكاله وأنواعه وأساليبه فنحن مسلمون مؤمنون نؤمن بما جاءنا من عند الله فنؤمن بالبعث وبالياء الأخرى بعد هذه الحياة

هذا هو توجيهنا لشبابنا ولكهولنا ولشيوخنا فالسكوت عن الإلحاد ودعوته وهي تنشر بيننا، جريمة كبيرة يقترفها من يسكت عنها ترضية لجانب فلان أو فلان، فالحق واحد والإسلام حق والإلحاد باطل (والإسلام يعلو ولا يعلى) متى وجد أنصارا مخلصين ومؤمنين به صادقين. ونرجو الله ربنا ومولانا أن يقوي إيماننا ويتقبل منا أعمالنا وأن يثيبنا عليها بقدر إخلاصنا لعقيدتنا وأن ينصر جند الإسلام جند الحق والهداية والسلام أينما كانوا وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنا كما قال القائل: كتبت وقد أيقنت يوم كتابي… بأن يدي تفنى ويبقى كتابها فإن كتبت خيرا ستجزى بمثله… وإن كتبت سوءا عليها حسابها.

تمهيد

تمهيد: قال بعض علماء الإسلام ومنهم (عبد الرحمن ابن مهدي) الذي كان من الملازمين للإمام مالك، كما كان من أعلم الناس بالحديث ينبغي لمن أراد أن يصنف كتابا - دينيا - أن يبدأه بالحديث الصحيح الذي رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قوله: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما ففي هذا الحديث تنبيه لطالب العلم الديني إلى تصحيح نيته لأن الجزاء على الأعمال إنما يكون على حسب نية العامل إذ لا يصح وضوء ولا صلاة ولا صوم ولا جهاد ولا أى شيء من جميع الطاعات إلا لمن نوى وقصد أنه أراد بعمله طاعة الله عز وجل، أما إذا تجرد العمل من النية فإنه يكون لغوا لا ثواب عليه ولا جزاء فيه إذ بالنية والقصد تتميز الأعمال الدينية عن غيرها من سائر الأعمال، فالنية عنصر أساسي في

صحة الأعمال وبطلانها، فليس عمل المنافق الذي يحضر مصلى المسلمين ويصلي معهم من غير وضوء - وهو غير مؤمن بها - كمن يصليها بنية فعل الواجب الذي أوجبه الله عليه لأنه مؤمن بوجوبها عليه وإلى هذا تشير الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء). وقد جرى بعض العلماء على هذا العمل من تقديم هذا الحديث على غيره، منهم الإمام البخاري في صحيحه، حيث ابتدأه بالحديث المذكور وقد ذكره في سبعة مواضع من صحيحه للمناسبة. ونظرا لكثرة فوائد هذا الحديث وصحته فقد قال فيه الإمام الشافعي - رحمه الله - وغيره هو ثلث الإسلام، كما قال أنه يدخل في سبعين بابا من أبواب الفقه وقال آخرون من العلماء هو ربع الإسلام لما رأوا فيه من أن أصول الإسلام التي بنيت عليها أحكامه ترجع إلى أربعة أحاديث نبوية أولها حديث عمر هذا (إنما الأعمال بالنيات)، وثانيها حديث أبى هريرة رض الله عنه (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وثالثها حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه (إن الحلال بين وإن الحرام بين)، ورابعها حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه (إزهد في الدنيا يحبك الله الخ). وقيل غير هذه الأربعة وقد جمعها الحافظ أبو الحسن طاهر بن معوذ المعافري الإشبيلي الأندلسي فقال:

عمدة الدين عندنا كلمات…أربع من كلام خير البرية إتق الشبهات وازهد ودع ما…ليس يعنيك واعملن بنية وقيل قائلها الإمام الشافعي وحديث إنما الأعمال بالنيات المذكور حديث صحيح - كما مر - فهو من الأحاديث التي يدور عليها التكليف الديني، تعددت طرق رواياته وكلها تتصل بمن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يصح إلا من روايته هو عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على صحته لثقة رواته وتلقوه بالقبول واستخرجوا منه أنواعا شتى من أصول الأحكام والتوجيه وبه صدر الإمام البخاري صحيحه - كما تقدم قريبا - وأقامه مقام الخطبة لصحيحه حسبما أشار إليه من كتب عليه وشرحه وهذا العمل منه - رحمه الله - إشارة إلى أن كل عمل أو قول لا يراد به وجه الله فهو لغو وباطل لا ثمرة له ولا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل الذى يصلي رياء وسمعة من حيث لم يقصد بصلاته طاعة الله بفعل ما أوجبه عليه فإن صلاته لا تنفعه ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر لأن هذا من ثمرتها - وإن تردد فاعلها عن المساجد - وكمن يريد - باسم المجاهد وببطاقته - أن يكون مجاهدا له من الحقوق ما للمجاهدين في سبيل الله، ولم تكن له نية الجهاد في سيل الله، أو لم يجاهد

أصلا فحشر نفسه في زمرة المجاهدين بالرغم مما وضحه القرآن وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفصيح العبارة فهو مجاهد - بالسيف - وبالرغم على الإسلام والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت نفسه رأيناه لم يستجب لما طلبه منه الإسلام بفعل ما فرضه عليه وترك ما نهاه عنه من الاستقامة على شرعه بتحليل حلاله وتحريم حرامه، والقيام بواجباته والكف عن منهياته فهو تارك للواجبات - كالصلاة مثلا - منتهك للمحرمات - كشرب الخمر مثلا - فكيف يعقل أو يتصور متصور أنه من المجاهدين في سبيل الله، وهذا محال تصوره في الإسلام، ومن قال غير هذا فهو جاهل بالإسلام، ولم يفهم أحكام الإسلام أو سولت له نفسه الافتراء على الله الكذب إذ شتان بين الجهاد والقتال! و ((إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)). هذا هو الحق والصواب حب من حب وكره وكره، وما سواه غش في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم قال (من غشنا فليس منا) ولا ينبغي لمن لا يفهم أحكام الإسلام أن يقحم نفسه بين العلماء - ولو لقبه العامة بالشيخ - لأنه يكتسب بذلك إثما، ويكون سبة وعارا على الشريعة الإسلامية وكارثة تنزل بها وعرضة لمسخ الله إلى شر مخلوقاته، فقد كثر أدعياء العلم حتى صاروا يتكلمون في كل شيء، ولو فيما لا يعرفون، كما سمعناهم يتكلمون فيما ليس لهم به علم قال جرير: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القعانيس

ولمنزلة حديث عمر المتقدم (إنما الأعمال بالنيات الخ) ولمكانته عند من عرفوا منزلته في التشريع الإسلامي قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي - المتقدم الذكر - لو صنفت كتابا فيه أبواب لجعلت حديث عمر هذا في كل باب من أبوابه. أما الإمام مسلم - رحمه الله - فقد أورده في كتاب الجهاد من صحيحه، وكأنه أراد بعمله هذا أن يشير إلى أن البعض ممن يدعون الجهاد - ولم تكن لهم نية فيه - لا نصيب لهم في ثمراته ولهذا نبههم إلى أن النية في العمل هي روحه ومخه، وبدونها فهو جسد ميت بلا روح. وكلمة - إنما - تفيد الحصر كما قال جمهور علماء العربية والأصول وغيرهم حيث قالوا أن لفظة إنما موضوعة للحصر فتثبت المذكور هنا - وهو قبول الأعمال والجزاء عليها إذا عملت مصحوبة بالنية، وتنفي ما سواها، فكأنه قال إن الأعمال تحسب وتقبل ويجازى عليها فاعلها إذا كانت بنية ولا تحسب ولا تقبل ولا جزاء عليها إذا تجردت منها، مثل سائر العبادات والطاعات جميعها كما مر، وتفصيل هذا في كتب الفقه والحديث. وبناء على ما جاء في هذا الحديث فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأمته أنواعا ثلاثة ممن هاجروا من مكة إلى المدينة تاركين مكة أرض الشرك - في ذلك الوقت - إلى المدينة أرض الإسلام وهم: أ - مهاجر هاجر بنية وقصد تقوية حزب الله ونصره

وتأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه النية غالب الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين. ب - ومهاجر هاجر بنية وقصد كسب الدنيا والمال، لأن من كان يتعامل معهم من المؤمنين في مكة هاجروا إلى المدينة فلحق بهم من أجل فائدته الدنيوية، فلم يسعه المقام بعدهم في مكة فلحق بهم لنيل مكاسب دنيوية لا تعود فائدتها إلا عليه وكان يغزو معهم لينال نصيبه من الغنيمة. ج - ومهاجر آخر خطب امرأة ليتزوج بها تدعى (أم قيس) فأبت أن تتزوجه ما دام في مكة، إلا إذا هاجر إلى المدينة فأجابها إلى شرطها وهاجر إلى المدينة من أجل الزواج بها وجاء في الروايات عن الصحابة أن هذا المهاجر كان يعرف باسم (مهاجر أم قيس) فهذان الصنفان الأخيران من المهاجرين لم يكونا من المهاجرين لله لما بينا من انعدام النية في هجرتهما فلم يفوزا بثواب الهجرة إذ الهجرة في الشرع هي الخروج من أرض الكفر إلى أرض الإسلام وفي وقتنا الحاضر انعكست هذه المعاني فصارت الهجرة تطلق على من هاجر من أرض الإسلام إلى أرض الكفر لمقاصد سياسية وغيرها. جاء في الحكم المأثورة (لو نفع علم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار وعلماء أهل الكتاب) و (لو نفع عمل بلا إخلاص لما ذم الله سبحانه المنافقين). نسأل الله العالم بالنيات أن يجعل نياتنا في أعمالنا وأقوالنا خالصة له من كل شائبة تفسدها وتحبطها، ونرجوه أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم آمين.

تقديم العقيدة

تقديم: العقيدة العقيدة هي قوة عظيمة تحتل مكان الإحساس من الإنسان فتهب لصاحبها الإيمان بما يعتقده وشدة المقاومة لكل ما لا يتفق مع ما مالت إليه تلك العقيدة وارتضته لنفسها وهذا لتأييد ما عقد عليه صاحبها عزمه واختياره وتحول بينه وبين الضعف والخور والذوبان في كل طارئء جديد، وهذه الصفة إحدى مميزاتها قال الشاعر المفلق الحطيئة: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البناء…وإن عاهدوا أوفوا وإن عاقدوا شدوا فالعقيدة مأخوذة من العقد بمعنى اللي يقول القائل عقدت الحبل فهو معقود فهذا في الحسيات وأما في المعنويات فمعناها التعهد والالتزام ومن هذا جاءت عقدة النكاح والبيع والشراء وغير ذلك من العهود والعقود والالتزامات والعقد - بالكسر - هو الخيط ينظم فيه الخرز واللؤلؤ وغيرهما.

قال علماء اللغة العربية - في مادتها - عقد يعقد - بالكسر - عقدا وعقودا معناه التزم بالعهد والعقد فيجب عليه الوفاء بما التزمه وعقده وتقول تعاقد القوم على كذا بمعني تعاهدوا والتزموا به، ومنه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). قيل في تفسيرها هي العهود، وقيل هي الفرائض التي التزموها وتحملوها بعقيدة التوحيد والإسلام. والعقيدة هي الحكم الذي لا يقبل الشك في نظر معتقده كما قال الجوهري. وفى الدين ما يتصف به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود الله عز وجل، واعتقد كذا بقلبه آمن به وصدق، واعتقد الأمر صدقه وعقد عليه قلبه وضميره وتدين به واتخذه دينا فأصحاب العقيدة هم من كانت لهم عقيدة عقدوا عليها قلوبهم فصارت أرواحهم ونفوسهم وحياتهم مبذولة بسخاء في سبيل عقيدتهم فهم قد اشتروا بها - العقيدة - ما اعتقدوه - ودفعوها فداء وثمنا لها - وهي الغالية - في سبيل بقائهم على عقيدتهم التي اعتقدوها وعقدوا عليها حياتهم ورضوا بما دفعوه فيها، وذلك بثباتهم عليها وتمسكهم بها من غير أن يلزمهم بها أحد أو يجبرهم عليها مجبر، وهذا هو الإيمان بالعقيدة. وهذه فصول جمعتها من ملف حياة أبطال العقيدة الإسلامية الذين ظهروا مع ظهور دين الله الإسلام الخالد

تصلح لتربية النفوس وتوطينها عليها لكي تخوض معركة الحياة التي تجري بين الإيمان والإلحاد، فهي معارك ضارية من قديم الزمان إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم ويلزم مقاومة الإلحاد بالعقيدة القوية، فهي سلاح الانتصار الذي لا يغلب صاحبه جمعتها من قصص القرآن وكتب السيرة التي اهتمت بحياة أولئك الأبطال وما نالهم من خصوم الإسلام وأسميتها (في سبيل العقيدة الإسلامية) فهي تتناول مواقف شجاعة وقفها أولئك الأبطال في وجوه أعداء الله والأديان السماوية، مثلهم مثل كفار قريش الذين وقفوا في وجه العقيدة الإسلامية والدعوة المحمدية وحاولوا بكل قواهم صد الناس عنها وصرفهم عن الاهتداء بهديها غير أن الله مكن لها في الأرض وثبتها بثبات أولئك المؤمنين على عقيدتهم التي آمنوا بها فلم يرهبهم وعيد ولم يؤثر فيهم عذاب شديد بل صمدوا لكل ذلك صمود الجبال العظام ومنهم الرسل الكرام الذين اختارهم الله لتحمل الرسالة وتبليغ دين الله إلى البشر أجمعين وتطهير العقائد من كل ما يخل بعلو مرتبة الإنسان على سائر المخلوقات وقد ميزه خالقه بالعقل والإدراك للأشياء والموجودات على حقيقتها ومن غير اللائق به أن يخضع لمخلوق قد يكون أقل منه إدراكا وأحرى به إذا كان جمادا أو نباتا فإن في هذا الخضوع والطاعة لغير الخلاق العليم إهدارا لكرامة الإنسان التي أكرمه بها خالقه الحكيم ورفع منزلته على منازل غيره، وجعله هو

المتصرف فيها فقد ضل هذا الإنسان عن الصراط المستقيم - ولا زال في ضلاله إلى الآن - بالرغم من المراحل التي قطعها الإنسان في ميادين شتى من علوم وغيرها فجاءت دعوة الرسل والشرائع السماوية لتعود به إلى الطريق المستقيم التي حاد عنها بضلاله فآمن بها طائفة من هذا النوع هديت إليها فآمنوا بتلك الدعوة وهي تدعوهم إلى توحيد الله الخلاق العليم فأيدوها وكانوا من أنصارها بالرغم مما حاط بهم من مخاطر وأهوال تتفتت منها الجبال الصخرية ويذوب منها صلب الحديد من شدة فظاعتها وأهوالها لتكون لنا نعم العون على ما نلاقيه من أتعاب في سبيل حياتنا الإسلامية من خصوم الإسلام في بلد الإسلام سواء كانوا من الخارجين عنه بالأصالة أو المنتسبين إليه بالوراثة فقد كثر منهم التهجم والعدوان على العقيدة الإسلامية وعلى حامليها فنحن في حاجة ماسة إلى أمثلة بطولية صادقة، مما ضربه للعالم أولو العزم والثبات على العقيدة والمبدإ من أولئك الأبطال الذين هم من الرعيل الأول في بداية انبثاق نور الإسلام وعقيدة التوحيد، ففي ماضينا وتاريخنا - والفضل والحمد لله - أمثلة رائعة تصلح لتربية أنفسنا وأبناء زماننا عليها. فنذكرهم بهذه الأمثلة النادرة في غير ماضي الأمة الإسلامية لقد صرنا نخشى - والله - دروسها واندثارها بل ونسيانها حيث أننا شاهدنا ولمسنا وسمعنا بما يجرى في الأوطان الإسلامية من صدود

وإعراض ونكران لعقيدة الأسلاف، ولما أتت به هذه العقيدة - حيث لا أفضل منها في الوجود - ولقلة الدعاة لهذه العقيدة وتفرقهم وليست لهم أسلحة الدفاع العصرية فقد هجمت عليها عقيدة الإلحاد والكفر والذبذبة بوسائل العصر وهي تنادي وتقول أنها جاءت لمحاربة عقيدة الإسلام الموروثة عن الآباء والأجداد فالسكوت عن هذا الهجوم يعتبر من العقوق الفاضح الذي تلبس به أبناء هذا الجيل بل صرنا نخشى ضياعها حتى من أوساط من يزعمون أنهم من زمرة علماء الدين وورثة الأنبياء والمرسلين وهنا نتساءل هل سكت الأنبياء والمرسلون من تبليغ دعوتهم؟ وهل أهملوا دعوتهم التي كلفوا بها؟ وهل كان فيهم الذي لا يقول كلمة الحق للحق؟ وهل جرفتهم تيارات زمانهم الداعية إلى تلك العقائد الزائفة التي كانت سائدة في زمانهم؟ تلك العقائد التي كانت على شنا حفرة من النار وعلى شفا جرف هار. فنحن - الآن - إذا درسنا التاريخ وقرأناه فإنما ندرسه ونقرؤه من نافذة الحروب التي تشن على الأوطان - التراب والحجر والشجر الخ - وإذا مجدنا أبطاله إنما نمجدهم من زاوية مواقفهم في وجه الغزاة الفاتحين - ونعتز بهذا - أما من جهة العقيدة والدين والأخلاق، فذلك أمر تافه في نظر البعض منا - لا يدخل في الحساب والحقيقة هي كامنة في العقيدة والدين، وقد شاهدنا وعلمنا أن من كان يحيا بدون عقيدة ودين فإنه يسهل

عليه خيانة وبيع وطنه بأبخس الأثمان، والشاهد على هذا الذي قدمناه البطل المغوار المرحوم الأمير (عبد القادر ابن محيي الدين) فإنه إنما وقف في وجه الغزاة الاستعماريين حين احتلالهم للجزائر بلباس العقيدة والدين لا بسواهما مما تلوكه ألسنة القوم اليوم كل هذا مقصود به إبعاد الدين من ساحة الحرب والتحرير وهى نية خبيثة وقصد سيء لا يخفى على أحد. فالأمير عبد القادر - رحمه الله - كان عالما دينيا بعقيدته التوحيدية فقيها إسلاميا بفقهه في أحكام دينه وأجوبته التي كان يجيب بها سائليه مبسوطة في الكتاب الذي حوى سيرته وأعماله (تحفة الزائر) فقد كان في حياته عالما قبل أن يكون أميرا وقائدا ولذا قدمه أهله وبنو عشيرته لقيادة المجاهدين في حربهم للإستعمار وجيوشه فهو من أبطال العقيدة المعروفين بمواقفهم النادرة فإذا ما مجدناه في يوم - ما - فلا ينبغي أن يخفى هذا المعنى علينا فأبطال العقيدة عندنا كثيرون والحمد لله ولم تصدر منهم خيانة ولا ضعف أيام المقاومة كما وقعت من غيرهم ممن لا عقيدة دينية لهم. فمواقف كهذه المواقف الراسخة تقتضي علماء الإسلام الناصحين - أينما كانوا - أن يوحدوا كلمتهم، ويقووا صفوفهم ويدعموها بصدق النية والإخلاص في العمل لنصرة العقيدة ولمجابهة هذا التيار الإلحادي المهاجم على دين التوحيد، إذ لو وجدهم أمامه في ساعة الهجوم

لاختفى بدلا من الظهور بهذا المظهر الذي ينم على التحدي لعقيدة الأمة في وطنها وعلى من كان منهم ضعيفا أن يتخلى عن تلك الذبذبة المشينة التي ظهرت عليهم في هذا العصر فقد ساقتهم إلى توهين كلمة الحق التي هي كلمتهم وتقوية صف الباطل والإلحاد بسكوتهم وبكل أسف وحسرة فقد رأينا منهم من أظهر عداءه لدعاة الحق وناصري العقيدة الإسلامية بل وحتى أن البعض منهم لم يكتف بسكوته حتى أظهر الشماتة والتشفي بسبب ما أصاب بعض الدعاة ويصيبهم من أعداء الحق والعقيدة الإسلامية، وما ذلك إلا لأغراض دنيئة ونفوس مريضة بمرض - ما - كالحسد - مثلا - وهو داء قديم فيهم، نسأل الله الشفاء لنا ولهم من هذا المرض الخطير، أو كان ذلك منهم لمصالح ذاتية خوفا من أن تفوتهم بوقوفهم إلى جانب الحق وأنصاره فضلوا وأضلوا والله وحده يتولاهم بما يشاء فإنه يمهل ولا يهمل وهو - وحده - القوي العزيز. فإلى حماة العقيدة الإسلامية أمثلة صحيحة من تلكم المواقف التي - ثبتت كركائز للحق اعتمد عليها، فثبتت أقدامه ودعمتها في أرض الإيمان - فنجعلها نصب أعيننا كمصباح منير يرينا ويكشف لنا طريق السلامة والنجاة من مخاطر هذه الحياة ويجنبنا سبل الغواية والضلال، فإنهم - أهل تلك المواقف - هم أهل العقيدة الصحيحة الثابتون عليها بالرغم مما نالهم من أجلها وفي

سبيلها، فحفظ لهم التاريخ أروع القصص وأسما الأمثلة، وأصدق الإيمان. والعقائد كثيرة ومتنوعة، فمنها عقيدة التوحيد، وهي عقيدتنا نحن المسلمين، وهي التي ندين الله بها. وعقيدة التثليث، وهي التي طرأت على المسيحية بعد أن كانت في أول أمرها وفي زمان رسولها عيسى عليه السلام عقيدة توحيدية. وعقيدة الشرك بالله وفيها تعدد الآلهة المعبودة والمشركون أصناف وأنواع متعددة في إشراكهم. وعقيدة الملاحدة، التي تنكر وجود الإله بتاتا. وعقيدة التوحيد هي العقيدة الصحيحة وهي الحق الذي لا ينجو أحد إلا بها، وهي مبنية على توحيد الإله الخالق لكل شيء والذي تجب طاعته على كل المخلوقين إذ لا خالق سواه. ونراها في وقتنا الحاضر أصابها شيء من الضعف في قلوب البعض من المسلمين وهذا بسبب احتكاكهم بغيرهم ممن لا عقيدة لهم أصلا أو ممن لهم عقيدة باطلة وغير مقبولة شرعا وعقلا، وتظهر نتيجة هذا الضعف في الكلام الذي نسمعه من بعض من ينتسبون للإسلام، من ذلك أن بعض الناس ينطقون بكلمات تشعر بأن قائلها لا يفهم ما يقول، ولا يشعر بأن صفة الخلق والإيجاد لا تعطى

إلا لله الواحد القهار فهو الخالق لا خالق سواه وهذا معنى التوحيد ولا مدبر لشؤون الخلق إلا هو فهو العليم الحكيم، وليس له شريك يعينه، ولا وزير يؤازره بل هو وحده خالق كل شيء، لا إله معه، ولا قادر على الخلق والإيجاد يسانده أو ينوب عنه فهو كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك، تباركت وتعاليت). ومن إظهار سوء الأدب مع الخلاق العليم ما نسمعه - بين الحين والآخر - من بعض كبار الناس وصغارهم مما يعتبر في الشرع وقاحة وسوء أدب مع من خضعت له ولقدرته وعزته جميع المخلوقات من إنس وجان فقد سمعناهم يتفوهون بألفاظ نابية وغير لائقة بالعبد الضعيف والعاجز البين العجز فإذا أراد الواحد من هؤلاء الناس أن يتكلم عن العناية والاهتمام بالمواطن في تهذيبه وتهيئته لأي مهمة كانت لتناط بعهدته قال من غير حياء من الله خالقه وخالق كل شيء هكذا بتبجح وفخر (نريد خلق الإنسان المواطن) وهذه العبارة فيها إساءة الأدب - بل ربما الكفر والجحود للخالق الواحد - مع الله الذي لا شريك معه في خلق الإنسان المواطن وغيره فلا خالق مع الله الخالق لكل شيء، ومنه هذا المخلوق الخالق، غرورا، وجاء في القرآن الكثير من الآيات

لترفع عن هذا النوع من المغرورين غرورهم، فقد قال الله تعالى (يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) (¬1). وقال: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل) (¬2). فلا خالق إلا الله، فتنبهوا أيها (الغافلون المخطئون) العاجزون عن رد الموت عنكم إذا حل بكم وصححوا عقيدتكم في الله قبل أن يفوتكم الأوان فأي شيء جعلكم لا تدفعونه عنكم إذا نزل بساحتكم؟ ذلك هو عجزكم وضعفكم أيها الخالقون جهلا وغرورا واستخفافا بمن خلقكم ورزقكم فأنتم محتاجون إليه في كل حين. دعوا هذه الكلمات الغير اللائقة بالبشر الضعيف والتي قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر شيئا فشيئا إذ هي من خصائص المدبر الحكيم والخالق - وحده - الذي له الخلق والإيجاد والهداية والإرشاد، دعوها حتى لا تلعنكم الأجيال المقبلة كما (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون) (¬3) فقولوا نهيء بدل نخلق ¬

_ (¬1) سورة فاطر - الآية 3. (¬2) سورة الأنعام - الآية 102. (¬3) سورة المائدة - الآيتان 78 - 79.

أي السبل أنفع لنشر العلم

أي السبل أنفع لنشر العلم؟ إن حياة العالم العامل بعلمه موزعة بين تعليم العلم وبثه في أوساط أمته والراغبين فيه وبين تأليف الكتب لفائدة الخلق أجمعين وتصنيفها ونشر العلم بواسطتها، وكل هذا من واجبات العلماء العاملين بعلمهم ولكن أيهما أولى بالتقديم والعناية؟ هل نشر العلم وتصحيح العقيدة بواسطة التعليم للناس أهم وأولى بالاهتمام والتقديم؟ أو نشرهما بواسطة تأليف الكتب وتصنيفها؟ فمال بعض المفكرين من العلماء إلى الاهتمام بالتعليم ونشره بين الراغبين فيه وإعدادهم لقراءة الكتب التي تؤلف بينما مال البعض الآخر إلى نشره وتعميمه بواسطة تصنيف الكتب وتأليفها ليستفيد منها المعاصر وغيره إذ هي لمن حضر وعاصر مؤلفها ولمن سيأتي من بعد فهي بهدا الاعتبار من أهم ما يتركه الأولون للآخرين من التراث الغالي، كما هو الشأن فيما تركه لنا أسلافنا الأماجد، فقد استفدنا منها فوائد عظيمة لا تقوم بقيمة، إذ حفظت لنا لغتنا وديننا وعقيدتنا وأخلاقنا وتاريخنا وأدبنا وغير ما ذكر، ولولا ما تركه لنا أولئك الأسلاف العاملون بالرغم من

قلة الوسائل التي تعينهم على التأليف والنشر لولا تلك الكتب لضللنا عن طريقتهم المثلى ولأصابنا الزيغ والخسارة، إذ العلماء يموتون ويذهب علمهم بموتهم، إذا لم يدونوه - وهل عوضنا من مات من علمائنا في العهد الأخير؟ - بخلاف تآليفهم الباقية بعد موتهم فإنها تبقى ولا تضيع بموت مؤلفيها فمال إلى الرأي الأول واختاره كثير من العلماء السابقين، وإلى هذا الرأي مالت (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) فأنشأت المدارس لتعليم الصغار التعليم الابتدائي ومعهد ((عبد الحميد ابن باديس)) للتعليم الثانوي والمساجد لتعليم الكبار الراغبين في التعلم، وفيها وبواسطتها كانت تلقى دروس التوجيه الدينى والوعظ والإرشاد والأخلاق الإسلامية، للعامة الذين فاتهم التعلم في وقته. أما تأليف الكتب وتصنيفها بالنسبة إلى أفراد جمعية العلماء فكان قليلا بالنظر إلى صرف الاهتمام من معلميها وشيوخها إلى إعداد القراء للكتب أو للتأليف لأن شعبنا كانت فيه الأمية متفشية ومستحكمة الحلقات وكانت صحف الجمعية وغيرها قليلة الانتشار بالنظر إلى كثافة السكان، فقد رأينا البعض من أبناء الأمة يشتريها أو يشترك فيها بقصد التأييد والإعانة لا غير، أما القراءة لها والاستفادة منها فلا يستطيع لأنه أمي وبهذا الرأي عملت وداومت عليه حتى تخرج من مدارسها ومعهدها - الوحيد - لديها طائفة لا بأس بها استفادت منها الأمة فائدة أغنتها عن جلب الكثير ممن يقوم بأعباء

التعليم حين جاء وقت الاستقلال للوطن، وإن كان فيهم من اختار العمل في الإدارات الحكومية، فرارا من متاعب التعليم وأوزاره الثقيلة، وطلبا للراحة البدنية، وهذا عمل في غير محله إذ لو مال معلموهم القدامى إلى هذا من قبل أي إلى عبودية الإدارة لما كانوا هم في مستواهم الحالي وعلى كل حال فقد حصل ما حصل بواسطة التعليم وأتعابه ومشاقه. ولا زلت اذكر تلك السنوات التي قضيناها في التعليم وأشعر فيها براحة ضميري إذا ذكرتها أو تذكرتها فقد كنا نقضي معظم يومنا ونصيبا من ليلنا في التعليم بين تلامذة المدرسة ودروس المعهد ودروس المسجد للرجال وللنساء، وقد تصل ساعات العمل إلى اثنتي عشر ساعة بين اليوم والليلة وتارة تزيد على ما ذكر - وهو عمل مرهق ومضني - واخواني الشيوخ الأحياء يعرفون هذا. وبهذا تكون ((جمعية العلماء)) قد أدت ما عليها من واجبات ثقيلة لا يعرفها إلا من عاش معها ومارسها ولا يستسهل عملها أو يستصغره أو يستهين به إلا جاهل به أو مأفون الرأي عديم الذوق والمعرفة للأمور على حقيقتها ولا زلت أذكر ذلك اليوم الذي ودعنا فيه رئيسها المرحوم - إن شاء الله - الشيخ البشير الإبراهيمي في شهر مارس (1952) حيث امتطى الطائرة في طريقه إلى المشرق العربي كي يسعى لدى

دوله حتى تمد يدها للشعب الجزائري لتعينه بقبول بعثات من طلبة المعهد الباديسي يدرسون في معاهدها وجامعاتها فكان منها ما أرادت الجمعية وانتقلت بعثاتها والتحقت بالمعاهد والجامعات الشرقية العربية، وجاء استقلال الوطن عن الاستعمار وعادت البعثات من المشرق العربي وكانوا على درجات متفاوتة في العلم وكانت الجمعية تعلق على رجوعهم مزودين بالعلوم النافعة كثير الأمال، إذا عادوا إلى وطنهم بعلم غزير ونشاط كبير وتضحية فريدة في بابها، نظرا لما تركوا عليه وطنهم ونظرا لما رأوه في شيوخهم عن النشاط والجد والتضحية في العمل كل ذلك بدون حساب أو عوض. رحم الله من مات من أولئك الشيوخ الذين ضربوا أحسن الأمثلة في البذل والتضحية في حين كان المستعمر يلوح من بعيد ويرغب في وظائفه غير أن الجمعية ورجالها المنخرطين فيها أعرضوا عن ذلك وبقوا مخلصين لمبدأ الجمعية، وهو الترفع عن وظائف المستعمر ورضوا بأتعاب جمعية العلماء فشيوخها معلمون في وقت التعليم وسعاة وجباة للمال في وقت العطلة الصيفية والتنقل في الجبال والصحراء لنشر دعوتها الإسلامية والعقيدة السلفية البعيدة عن البدع والخرافات إذ هذا هدف من أهدافها يقومون به في جولاتهم

فصل الاشتغال بالتأليف واغتنام العمر

أما الرأي الثاني وهو التأليف والتصنيف ونشر العلم بواسطته، فقد مال إليه البعض من العلماء وقالوا إن التصنيف والتأليف للكتب أولى وأهم من التعليم فيهم طائفة من العلماء الأفذاذ منهم العالم الفذ المكثر من التآليف أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله ورضي عنه وعن أعماله فهو صاحب التآليف في شتى الأغراض والفنون والعلوم وخاصة فيما له صلة بالدين والعقيدة والحديث والمواعظ فقد صرح في كتابه ((صيد الخاطر)) برأيه، والمتأمل في الرأيين يدرك أهميتهما معا بالنسبة إلى حاجة الأمة إليهما كليهما، ولكل من أصحاب الرأيين وجهة هو موليها بنى عليها رأيه وما اختاره وكل منهما مصيب إن شاء الله، ولازم للأمة ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر فقد عقد ابن الجوزي فصلا في كتابه المذكور حيث قال: فصل: الاشتغال بالتأليف واغتنام العمر. قال رحمه الله ورضي عنه (رأيت من الرأي القويم أن نفع التصنيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأني أشافه في عمرى عددا من المتعلمين وأشافه بتصنيفي خلقا لا تحصى ما خلقوا بعد. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصنيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم فينبغي للعالم

أن يتوفر على التصانيف، إن وفق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل من صنف، صنف. وليس المقصود جمع شيء كيف كان إنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من شاء من عباده ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد) اه كلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله. وكلام الإمام ابن الجوزي هذا في غاية النصح والتوضيح والوضوح شأنه شأن علماء السلف الذين أفنوا أعمارهم في التعليم والتأليف بالرغم من قلة الوسائل التي تعينهم على عملهم الشاق والمرهق من الكتابة بأيديهم إلى نشر كتبهم بواسطة الأسفار إلى الأصقاع البعيدة ومع كل ما ذكر وغيره فقد عملوا وأنتجوا وتركوا لنا إنتاجهم مكتوبا بخطوط أيديهم وبأقلامهم القصبية فرحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا وعوضهم عن اتعابهم تلك رضوانه وعفوه عنهم وأسكنهم جنات النعيم آمين. إن المتقدمين من علماء المسلمين قد عنوا عناية فاقت كل عناية بالتأليف فلم يأت منها خلفهم بعشر معشار ما أتي به الأولون منهم، فكأنهم قالوا (إن اليد التي لا تكتب، كالرجل التي لا تمشي). فهي معطلة عن وظيفتها التي خلقها الله لها وفي حكمة خلق الله لوظائف أعضاء الإنسان ما يدل على هذا، فقد قال:

(الذي علم بالقلم). وقال (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) والقلم لا تمسكه الرجل - إلا ما ندر بصعوبة - أو غيرها من سائر أعضاء الإنسان - بل إنما تمسكه اليد ببنانها لهذا شبهت بالرجل إذا لم تقم بوظيفتها، ولحكمة جعل الله يد الإنسان ذات أصابع ليتنفع بها في إمساك القلم بتلك الأصابع كما يستعين بها في الصناعات ولو كانت قطعة واحدة كيد الحمار - مثلا - لفاته هذا. ولكل زمان مصاعبه ومتاعبه ففي زماننا هذا سهل أمر التأليف والكتابة لكثرة الوسائل المعينة عليه من مواد وورق وأقلام ومطابع ونقل الخ وتعددت المصاعب والعقبات فكثيرا ما أهملت مؤلفات وإنتاجات لسبب أو لآخر! فهل نحن في عصر العلم والنور والتقدم والحرية؟ أم نحن في زمن مضى وانقطعت آثاره إلى الأبد؟؟ إن عصرنا هذا عصر الصراحة والنصح والدعوة إلى ما ينقذ البشرية من ربقة العبودية والتخلف وإنارة الطريق أمام من على بصيرته غشاوة لا عصر خنق الحريات وإهدار كرامة الأفكار ومن رأى غير هذا فقد وضع نفسه أمام مرآة لا تريه إلا ما وراء ظهره وتحجز عنه المستقبل! فالكتاب ينظر إليه من عدة نواح قيمته محتواه حاجة القراء إليه ... الخ لا إلى زخرفته وحجمه

وعنوانه فكثيرا ما ظهرت عناوين جذابة لكن محتواها إلحاد ودعوة لانحلال الأخلاق وميوعتها شجعتها وسائل الإعلام التي تشرف عليها حكومات إسلامية وتسيرها مثل الأشرطة الخليعة والأفلام اللادينية والتحقيقات اللاأخلاقية وو فأين الضمير الغيور؟ وأين الرجل المناسب في المكان المناسب؟! وقد رأينا وسمعنا شيئا يعارض هذا تماما وهو ادعاء الديمقراطية وأي ديمقراطية هذه التي تعمل على تعطيل حرية الرأي والقول .. ؟ إذ حرية الرأي والتعبير أو القول والنشر من الحريات الأساسية التي تربي الشعوب على الصراحة والنصح والصدق فيهما لا تلك الحريات المزعومة التي تطبع الأشخاص بطابع النفاق والملق والتزلف إلى الحكام لنيل عطفهم ورضاهم وإن كان في هذا غش للشعب ورميه في مجاهل القرون الوسطى المظلمة قرون الجهل والانحطاط والتخلف الفكري والحضاري وإن كان قرننا هذا يدعى في المحافل الدولية بقرن العلم والنور والتقدم والحرية الخ هذا ما يعلي شأن الأمم ويرفع من مقامها في صفوف أمم العالم المتحضرة أما العودة إلى زمان الاستعمار - في وقت الاستقلال - في خنق الحريات وإهدار كرامة الأفكار فهو دليل على التخلف الفكري وحب السيطرة والانتقام الشخصي وإن ادعى مدع غير هذا فهو في الأوراق لا غير.

الإنسان وحقوقه في هذه الحياة

الإنسان وحقوقه في هذه الحياة .. ؟ ونظيف إلى هذا دعوى أخرى مللنا - كثيرا - سماعها وهي هذا القول الشائع على الألسنة والأقلام تحت عناوين جد ضخمة عن ((حقوق الإنسان)) قالوا عن هذه الحقوق أو العقوق)) أنها مبدأ مسطر في قوانين ((جمعية الأمم)) الموقرة كثيرا ومعنى هذه الحقوق أن كل دولة انخرطت في هذه الهيأة لزمها أن تطبق هذه القوانين وتنفذها في بلدها على رعاياها فتمكن كل إنسان من حقه الطبيعي كي يعيش في حياته هذه كريما محترما، غير أن الواقع انكشف على خلاف ذلك فتسطير القوانين على الأوراق شيء وتطبيقها شيء آخر وأرى أن هذه خدعة أو خرافة من الخدع والخرافات التي تقال للصبيان لتنويمهم أو لتلهيتهم حتى لا يقلقوا آباءهم وأمهاتهم بسؤالهم طلب بعض ما يريدون ويشتهون. فقد رأينا أنه كلما جاءت ذكرى يوم الإعلان العالمي (لحقوق الإنسان) المزعومة، وهي يوم 10 ديسمبر 1948 وذلك حين أعلنت جمعية الأمم عن حقوق الإنسان إلا ورأينا وسمعنا وسائل الإعلام انطلقت بأبواقها من صحافة وإذاعة وتلفزة ومجتمعات تعقد لهذا الغرض وهو تمجيد هذا اليوم الأغر في حياة الإنسانية التي عانت كثيرا من الظلم والاستبداد تمجده لما وقع فيه وهو هذا الحدث الهام الذي أعلنت فيه جمعية الأمم عن حقوق الإنسان.

ونحن كمسلمين ومؤمنين نومن بحقوق الإنسان مند أربعة عشر قرنا فإننا نعرف أن للإنسان حقوقه منذ أربعة عشر قرنا خلت، فقد قال لنا القرآن كتاب ربنا الذي ربانا عليه (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (¬1) وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم لآدم، وآدم من تراب) وقال (الناس سواسية كأسنان المشط) (¬2) وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ إن ديننا ((الإسلام)) قد ضمن للمسلم حريته في كل أطوار حياته في القول والتعبير والعمل ما لم يكن في ذلك أذى لغيره فإن كان القائل مصيبا فيما قال وأبدى رأيا فيه الخير والمنفعة للأمة سمع قوله وعمل به، وإن كان فيه المضرة والفساد أهمل وألغي وما لم يكن كفرا بالله ورسوله هكذا ربى ((الإسلام)) المسلم على الصراحة في القول وأوجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليصلح المجتمع الإسلامي حتى لا يكون فيه المنافق والمتملق والمداهن على حساب العقيدة فكان المسلمون يواجهون ملوكهم بالأسئلة المحرجة في المواطن الحرجة من غير أن يكموا أفواههم بالأمر بالسكوت، بل تعجبهم فيهم الصراحة إذا كانت ¬

_ (¬1) سورة الحجرات - الآية 13. (¬2) أخرجه الديلمي عن سهل بن سعد.

للمصلحة العامة، وشواهد هذا كثيرة في التاريخ الإسلامي وهذا بخلاف ما كان معمولا به في زمن ملوك الطوائف - وما أشبه زماننا هذا بزمن ملوك الطوائف - ولله الأمر من قبل ومن بعده ومن أبرز مظاهر تربية الإسلام لأمراء المسلمين وعامتهم على الصراحة أن رجلا من عامتهم قال لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب اتق الله يا عمر!! وهذا من باب النصيحة له فنهره أحد الحاضرين في المجلس وقال له أتقول لأمي المؤمنين إتق الله؟ فما كان من عمر إلا أن رد على هذا المنكر على الناصح قوله في كلمته المشهورة حيث قال: (دعه فليلها فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها) وكقوله لعمرو بن العاص وإلى مصر: (يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟؟؟) وهذا حين اعتدى بالضرب ابن الوالي عمرو بن العاص على ابن أحد الأقباط الشعبيين في سباق الخيل حين منعه من سبقه وقال له: أتسبق ابن الأكرمين؟ فاستدعى عمر الوالي وابنه في زمن الحج وأمر القبطي بأن يقتص من ابن الوالي في حضرة أبيه فهذا من عدل الإسلام في زمنه الأول، فما أعدل حكم الإسلام حين يلقى من يطبقه على المسلمين وغيرهم!!! بل كان بعض الأعراب يجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بالغلظة في القول فيعفو عنهم ولا يعاقبهم، وهو من هو؟ فهذا أبلغ درس عملي يلقيه الإسلام على الإنسانية المعذبة بالظلم والطغيان من لدن حكامها، وهذه هي

حقوق الإنسان في الإسلام تظهر بلا تهريج ولا صياح بلا فائدة من وراء ذلك الصياح والتهريج وهذه هي حقوق الإنسان والمواطن في الإسلام لو كان هذا العالم يبحث عن الحقيقة والواقع. وبعد الإسلام وقبل جمعية الأمم تلك وإعلانها المذكور قامت الثورة الفرنسية وأعلنت عن حقوق ((الإنسان)) سنة 1789 فتقبل الناس هذا الإعلان بالإعجاب والإكبار، ولكن بقي هذا الإعلان بلا تطبيق ولا عمل به حتى لحقه صنوه فأهمل هو كما أهمل سابقه. فقد رأينا أن الإسلام هو السابق لكل ذلك ثم فرنسا وقد تبعتها بعض الدول في إعلانها ذلك.

العقيدة الصحيحة قوة للقلب وقوت له والمعذبون من أجلها

العقيدة الصحيحة قوة للقلب وقوت له والمعذبون من أجلها: عندما نتساءل ما هي العقيدة الصحيحة؟ ومن هم أهلها؟ يأتينا الجواب هي عقيدة الحق والخير وأهلها هم أهل الحق والخير والصلاح الذين ثبتوا عليها ولم يتخلوا عنها ساعة من الزمن سواء في زمن اليسر أم في زمن العسر لم تطغهم مرتبتهم في مجتمعهم بل ظلوا متمسكين بها في كل الحالات، ولو عذبوا من أجلها وفي سبيلها حتى ماتوا عليها ولم يسلموا فيها أو يزهدوا فيها وفي الدفاع عنها، وإذا تساءلنا من هم؟ جاءنا الجواب هم من الأمم الموحدة القديمة منها والمتأخرة، لأن هذا النوع موجود في كل أمة منذ كانت الدنيا، وكانت عقائد الناس متباينة ومختلفة وفي طي هذا الجواب نحتاج إلى شيء من البيان والتوضيح. إنهم جماعة من المستضعفين والمعذبين الذين عاشوا في فترة طغى فيها كل جبار عنيف من ملك قوي نزع الإيمان بالله من قلبه كما نزعت منه الرحمة والعطف على خلق الله، كـ (النمروذ) مع خليل الرحمن ((إبراهيم)) عليه السلام في التاريخ القديم وإبراهيم هو إمام

الموحدين والمسلمين، وأبو الأنبياء والمرسلين كما قال ربنا في كتابه العزيز، مظهرا فضل خليله إبراهيم وملته الحنيفية (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) وكموسى مع الطاغية ((فرعون)) وكرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه مع كفار قريش الجهلة الأشداء عباد الأوثان قساة القلوب، فقد ألحقوا بالمؤمنين الموحدين الكثير من العذاب الذي لا يحتمل ولا يطاق ولكن أولئك الضعفاء تلقوه بقوة العقيدة في الله والصبر الجميل حتى مكنوا دين الله إلى من يعبد الله وحده ممن كانوا في زمانهم وإلى من جاء من بعدهم وغرسوا شجرة التوحيد في التربة الصالحة في أرض من سبقت لهم في علم الله السعادة والنجاة من الضلال فنمت وترعرعت وآتت أكلها بإذن ربها فماتوا وتركوا سيرتهم الطيبة مثالا يحتذى لمن يأتي من بعدهم كي يسيروا في حياتهم على ضوئها ويكونوا مع ظالمي زمانهم كما كانوا هم مع الظالمين في أيامهم وكأصحاب الأخدود في القديم من التاريخ وكأبي بكر وبلال وصهيب وغيرهم من أمثالهم ممن سيمر بنا شيء مما أصابهم في سبيل عقيدتهم رحمهم الله جميعا ورضي عنهم وعن مواقفهم وألحقنا بهم ونحن ثابتون على عقيدتنا غير مبدلين ولا مغيرين. فأمثالهم موجودون في كل زمان ومكان إلى الآن لكن لا يمكن استيعابهم جميعا وما أذكره هنا كاف في الاعتبار والاتباع لمن رزقه الله حسن الاقتداء، ومن

كان أهلا للعمل بما يرضي الله ورسوله وصالح المؤمنين فلهؤلاء أشباه ونظائر فيما مضى من الزمن وربما فيما يأتي - أيضا - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فالفضل يرجع في التمسك بالحق والعقيدة الإسلامية والتضحية بالأنفس إلى أولئك الأبطال الشجعان الأوفياء لعقيدتهم ودينهم وهم الذين حضروا في بداية معركة التوحيد مع الشرك حين تغلب الحق على الباطل بقوة العقيدة الصحيحة والإخلاص في العمل ونصر الله المبين فتولى الشرك مهزوما مدحورا وفي هذا العبرة للمعتبرين. فهم حقيقة أبطال قصة الكفاح الديني والعقائدي ومصباح تاريخنا الإسلامي الذي يجب علينا أن لا ننساه أبد الآبدين. أولئك هم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورفيقه أول المؤمن به أبو بكر الصديق وبلال الحبشي وصهيب الرومي وعمار بن ياسر وأسرته كلها، وفي مقدمتها أمه (سمية) وسلمان الفارسي وغيرهم ممن سنتكلم عن شيء من مواقفهم وما نالهم من التعذيب وصبرهم عليه وهو شيء لا نظير له فضربوا بهذا أروع الأمثال الرائعة والروعة في الصبر وبدل العزيز الغالي من نفس ومال في سبيل المبدأ والعقيدة وتأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ذاقوا من شديد العذاب والإهانة ألوانا وأنواعا وأشكالا من

قوم قساة القلوب، غلاظ الأكباد أقوياء الأعوان، حتى ألبسوهم أدرع الحديد وطرحوهم بها في حر الشمس وشدة الهاجرة وكووهم بالنار والجمر وما أطفأها إلا دسم جلودهم وشحمها. وهل يعد هذا العذاب عذابا يستهان به؟ ينال عبادا في الدنيا - بلا ذنب - إلا لأنهم قالوا (ربنا الله) لا والله وما هو بالأمر اليسير الذي يطاق لولا قوة العقيدة والصبر. وها نحن نشرع - مستعينين بالله وقوته - في تقديم هذه (العينات) البشرية ذات القوة الروحية التي غذاها إيمان كامل بالخالق، ووعده الصادق فكانوا إلى جانب من وفقوا فوقفوا في صف واحد لتأييد الحق وأنصاره وخذلان الباطل وأعوانه.

- 1 - سيدنا إبراهيم خليل الرحمن

- 1 - سيدنا إبراهيم خليل الرحمن: أول أولئك الأبطال إبراهيم خليل الرحمن ورسول الله إلى عباده بشريعة الإسلام شريعة التوحيد والإخلاص لله في كل الطاعات والعبادات، ونبذ الشرك وعبادة المخلوق كيفما كان هذا المخلوق، عبدا من عباد الله ملكا، أو شجرا أو حجرا، أو غير ذلك من الكواكب وغيرها، مما كان يعبد في الزمن القديم، واسم إبراهيم ينبئ بما في قلبه من معاني الشفقة والرحمة لذلك كان أهلا لاختيار الله له لتحمل عبء الرسالة ومواجهة المشركين بالدعوة إلى عبادة الله وحده في زمن كان ملكه وحاكم بلده طاغية من الطغاة ادعى الألوهية جهلا وغرورا بحقيقة نفسه ودعا الناس إلى عبادته فقيل إن كلمة إبراهيم (أب رحيم) في اللغة السريانية، (إحدى اللغات السامية) التي هي لغة قومه في ذلك الوقت أما لفظة الخليل فإنها مأخوذة من (الخلة) وهي المحبة الخالصة والصداقة الكاملة وبالطبع فهي خلة ومحبة لله لا لشيء آخر فهو قد صفا قلبه لله فأحبه الله وجعله خليلا له في هذا المقام العالي إذ الخلة منزلة عالية ودرجة رفيعة، لم ينلها في المرسلين غيره قال الله جل شأنه (واتخذ الله إبراهيم خليلا).

لماذا لقب إبراهيم بالخليل

لماذا لقب إبراهيم بالخليل؟ ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه ((الوابل الصيب من الكلم الطيب)) فقال سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول (أوحى الله إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: أتدري لم اتخذتك خليلا؟ قال: لا. قال: لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ). اه. وهذه صفة من صفات الخالق جل جلاله فإنه يعطي ولا يعطى ويطعم ولا طعم وقيل إنما اتخذه ربه خليلا لإطعامه الطعام وإكرامه الضيفان ومن هذا ما ذكره الإمام السيوطي في ((الدر المنثور)) ونسبه إلى البيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل (يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام). وكان ثناء الله على خليله إبراهيم ثناء يناسب مقامه عنده، جاء ذلك في كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: (إن إبراهيم لأواه حليم) وقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) وهذا مدح وثناء من الله على إبراهيم وقد علم الله أنه أهل لقيادة أمته والسير بها في طريق السلامة والنجاة، وهي طريق التوحيد الخالص فكان عليه أن يخلصها من رجس الوثنية وعبادة المخلوق وهو الدين الذي كان عليه أهل زمانه وأمته في عبادتهم لملكهم (نمروذ)

إذ قد حمله الرسالة، وفيها الدعوة إلى توحيد الله في العبادة والطاعة، وفي هذا قال الله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال ينال عهدي الظالمين). وقد لاقى إبراهيم من قومه الوثنيين ما لاقاه غيره من الدعاة إلى الله وإلى إصلاح المجتمعات من الفساد وسوء الأخلاق والمعتقدات فلحقه اضطهاد وتعذيب من جبار زمانه ((نمروذ)) الشيء الكثير. وكان هذا الجبار ادعى الألوهية بعد أن استحوذ على عقول بنى قومه بالقوة والجبروت حتى أخضعهم وطوعهم لسلطانه فأقروا له بالطاعة والألوهية - مرغمين - على أنه معبودهم ومالكهم وأرزاقهم بيده وكانت له مواقف مع رسول الله إبراهيم سواء قبل مبدأ الرسالة أو بعدها ومن لم يعترف لهذا الطاغية بهذه الألوهية ناله ما ناله من أنواع التعذيب والتنكيل الشديدين، إلا الخليل فإنه عصاه وسخر منه ومن دعوته الشيطانية ومن ادعائه الألوهية إذ هو من البشر الضعيف الذي لا حول له ولا طول، يجري عليه ما يجرى على أمثاله الضعفاء وليس له من القوة إلا ما لا مثاله من البشر، فلا يستطيع أن يدفع عنه بعوضة - وهي أضعف المخلوقات - من البعوض الذي سلطه الله عليه وعلى قومه فبعثه الرب القادر الخلاق العليم عليهم ليريهم مقدار ضعفهم وعجزهم العجز الذي لا شبيه له

ولا نهاية في العجز بعده وقد أعطى الله إبراهيم من قوة الحجة والبرهان ما صير هذا الملك الإله أضحوكة وسخرية في بني قومه. فقد وهب الله لخليله إبراهيم - من صغره - قوة الحجة العقلية وهو ما جعله يسخر من الأوثان وعبادها وعبادتها، وطاعة المخلوق للمخلوق، كيفما كان مركزه في المجتمع وقد علم أنه لا طاعة إلا للخالق الديان خالق كل موجود، ورب كل معبود من سائر المعبودات من دون الله زورا وبهتانا. نشأ إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام في بيئة جاهلة إلى أقصى حدود الجهل فهي تعبد الأوثان والأصنام وتخضع لها وتفعل هذا مع ملكها أيضا وهم أهل (بابل) في العراق، وكان ملكهم المعبود (نمروذ) بن كنعان مستوليا عليهم وقايضا على ناصيتهم بيد من حديد إذ هو جبار شديد البطش بهم وحاكم فيهم بأمره وهواه، أمرهم بعبادته وطاعته والخضوع له، من غير أن ينازعه في هذا منازع، وذلك لما يقدمه لهم من وسائل العيش ومادته والراحة لهم وأرزاقهم كأنه هو الذي خلقها وأوجدها من العدم، حتى يمن عليهم بها، وهذا هو سبيل الطغاة والظالمين في كل زمان ومكان، وقد ظهر في هذه السنوات الأخيرة رئيس دولة في شمال إفريقيا يمن على شعبه بمواقفه السياسة في تحرير بلاده من قبضة الاستعمار، فقال لشعبه المقهور

به وبطغيانه (أنا الذي خلقتكم، وجعلت لكم مقاما في العالم، وإلا فمن هم أنتم، وما هي قيمتكم لولاي؟؟ وماذا كنتم تساوون؟؟) وهذا من الغرور البشري النمروذي، وما درى هو نفسه أنه لولا شعبه أيده واستجاب لندائه وبذل الغالي والرخيص لما كان هو يساوى شيئا، ولما كان يجلس على كرسي الدولة والحكم؟ وهذا النوع موجود كما قلت في كل زمان ومكان وهو ناتج عن الغرور بالنفس أو الجهل بحقيقتها. نعود إلى موقف خليل الرحمن إذ في ذلك الوسط المتعفن بالظلم والطغيان ولد إبراهيم ولحكمة يعلمها الله فقد طهر قلبه من عقيدة الشرك بالله لأنه أعده لحمل أعباء الرسالة ومحاربة الشرك والباطل والظلم والجهل، حتى لا يقال له إذا حان وقت تحمل الرسالة والأمر بمحاربة الشرك، أنت كنت تفعل هذا معنا وهذا الموقف وقع لكافة الرسل الكرام كرسولنا محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين ذلك أن الله سبق في علمه أنه سيبعثه رسولا إلى أمته، فلا تراه في صغره يعبد أوثانهم وآلهتهم الباطلة وملكهم الطاغية، فبصره الله من زمن حداثة سنه بما عليه قومه من الباطل لذلك كله توجه خليل الرحمن إلى تسفيه أحلامهم فعاب أصنامهم من صغره، وبين لعابديها عجزها وسخر منها. وفي القرآن الكثير من هذا، من ذلك قوله تعالى ((ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51))

إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56)) سورة الأنبياء. فكان إبراهيم قوى الحجة - كما رأينا - وما سنرى مع أبيه وقومه ومع ملكهم أيضا، فأرانا القرآن كيف كانت حجته مع الملك حين حاجه بالدليل والإقناع لا بالقوة والظلم، كما فعل معه الملك، لما عجز عن الحجة، إذ أبهته إبراهيم وأعجزه عن الجواب العقلي المقنع، حين دعاه إليه ليريه قوته وجبروته وظلمه، فقال له من هذا الإله الذي تدعو الناس إليه وإلى عبادته؟ وهل تعرف ربا وإلها غيري هو أولى بالعبادة والطاعة والخضوع مني؟ فأجابه إبراهيم عليه السلام، بأن الإله الحق والمعبود بالصدق هو الله الواحد الأحد الذي لا إله للخلق غيره، ولا معبود سواه، هذا هو جواب إبراهيم عليه السلام وهو جواب المؤمن الموحد، فهو غير خائف منه، لأنه مخلوق مثله، فادعاؤه الألوهية زور وبهتان فبين له عجزه وكذبه فيما ادعاه، نتأمل هذا في قوله عز وجل ((ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي

القوم الظالمين))، الآية 258 من سورة البقرة. وشتان ما بين الحياتين أو الإحيائين فإحياء الله للأجساد منه فهو الذي خلق الحياة وأنشأ ها في الأجساد وإذا أراد سلبها منها سلبها منها بالموت، وحياة هذا المغرور أو إحياؤه للشخص صورية بحتة، فإنه يأمر بقتل هذا وإبقاء ذلك حيا فهو لم يخلق الموت والحياة إنما أمر فقط، فالمحيي والمميت في الحقيقة والواقع إنما هو الله، فبحياة الله التي خلقها في الشخص بقي حيا وبموت الله التي خلقها للشخص يموت فليس لهذا الجاهل قدرة على خلق أي شيء يسمى موتا أو حياتا، وكان إبراهيم حاضر الجواب المسكت والمبهت في آن واحد لهذا بهت هذا الملك الكافر واحتار في أمره وعجز عن الجواب الفعلي والعملي حيث طلب منه إبراهيم إظهار قوته إن كانت عنده قوة كما يدعي بالإتيان بالشمس من المغرب بعد غروبها عكس النظام الذي كانت تسير عليه بتدبير الله لها ولسائر الكواكب حيث كانت تطلع من المشرق فليحول هو طلوعها إلى المغرب، فعجز وانكشف أمره للناس واختفى غروره وأمثال هذا المخلوق المغرور كثيرون. فإبراهيم عليه السلام تارة يحاج أباه وتارة قومه وأخرى ملكهم الجبار، كل هذا ليظهر لهم ضلالهم وكفرهم وعجز معبوداتهم وتقليدهم لآبائهم بلا دليل لهم عليه إلا التقليد لهم

فإبراهيم إمام الموحدين - عليه السلام، يحاج أباه وقومه ويريهم الدليل على وحدانية الله إذ هو الإله المعبود بالحق ويظهر لهم عجز معبوداتهم حين خوفوه بمعبوداتهم الباطلة والعاجزة عن أن تلحق الضر بأحد فقال حسبما ذكره الله في القرآن ((وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)). يا له من حجاج بليغ، وحجة دامغة يوجهها خليل الرحمن لقومه المشركين الجاهلين، فأظهر لهم أنه لا يخاف معبوداتهم العاجزة، لأنها لا تستطيع أن تحدث شيئا إلا ما أراده الله المعبود بالحق فهو وحده المستقل بالضر والنفع وكان الأجدر بالخوف أن يكون منهم لأنهم عصوا رب الناس الذي بيده كل شيء فهذا هو كلام المؤمن بالله الذي احتوى قلبه على عقيدة التوحيد القوية وهي التي تصير صاحبها ثابتا عليها لا يرهب أحدا ولا يداهن مخلوقا ولا يتملق عاجزا مثله ولا يخاف إلا ممن بيده أرواح البشر وأرزاقهم وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن الموحد لربه، وإذا لم يكن هكذا كان كاذبا في دعواه الإيمان بالله وحده الذي لا شريك له.

ذلكم هو إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وقوة حجته مع خصوم التوحيد، فهو دائما يقيم لهم الدليل على وحدانية الله وأنه الإله الحق فلا يقبل الشركة في ألوهيته ولا في ربوبيته، وهذا إلهام رباني وتعليم إلهي له ليرشد به المشركين الضالين إلى أن المعبود واحد لا يسهو ولا ينام ولا يغيب عن معبوده فهو معه أينما كان حاضر في قلب معبوده ولنتأمل دعوته وحجته هذه، كيف تدرج بها وارتقى من درجة إلى أخرى، حتى أوقف المشركين على الصحيح من العقيدة والعبادة وهذا في قوله تعالى في سورة الأنعام (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رآى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رآى القمر بازغا قال هذا ربي فلما آفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رآى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)).

خليل الرحمن يبحث عن المعبود بالحق

خليل الرحمن يبحث عن المعبود بالحق: توجه خليل الرحمن بفكره الصافي إلى البحث عن المعبود بالحق كي يحق له أن يعبده ويتوجه إليه في طلبه لقضاء ما قد يعسر عليه من شؤون حياته كما يرجوه لآخرته وليقيم الدليل للناس على ضلال ما هم عليه وبطلان عبادتهم لغيره تعالى وهو القادر على كل شيء فعبادة الإله القادر العالم الذي لا يخفى عليه شيء وإن دق، هي العبادة الصحيحة إذا كانت خالصة له وحده من كل إشراك لغيره معه، فهو وحده يعبد لأنه أحق بها من غيره، فهو لا ينام، ولا يغيب، ولا يتغير وهكذا تدرج بفكره وارتقى بعقله إلى أن وصل في بحثه إلى الغاية المطلوبة من العباد وهي الوصول إلى إدراك الحقيقة كي يبنوا عليها حياتهم هذا ما رأيناه في الآيات السابقة من سورة الأنعام وما نراه الآن في الآيات الآتية من سورة مريم عليه السلام وذلك حين قال لأبيه حسبما نطق به القرآن (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ((41)) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ((142)) يا أبتي إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك

فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44)). بهذا الأسلوب في المخاطبة، يواجه خليل الرحمن أباه في رقة عبارة ولطف خطاب فيه نوع من الاستعطاف بلا قسوة ولا غلظة وهو يعلم أنه على الحق وأن أباه وقومه على الباطل حتى إذا لم يستجب إليه أحد من قومه - بمن فيهم أبوه - تنصل منهم وتبرأ من أعمالهم العالقة للفطرة وتمسك بما وصل إليه تفكيره من توحيد الله وترك ما سواه كما قص علينا القرآن هذا حين شرح للمؤمنين موقف إبراهيم ومن كان معه من المؤمنين فقد تبرأوا من كل مشرك حتى من الوالدين وجاهروهم بالعداوة من أجل العقيدة الصحيحة وفي سبيلها حيث طلب منا القرآن التأسي والاقتداء بخليل الرحمن ومن كان معه من المؤمنين ونبذ الكافرين والعصاة وعدم الاهتمام بهم، ولو كانوا من أقرب الناس إلينا فليكن حبنا واحترامنا مبنيا على أساس ما توجبه علينا العقيدة الصحيحة بلا مجاملة ولا احترام، هذا ما جاء في قوله تعالى (قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) الآية 4 من سورة الممتحنة.

أما ما ابتلي به إبراهيم من أجل عقيدته فذلك مثل رائع، كاد يكون فريدا في بابه وذلك في قوة العقيدة التي تستجيب لأوامر ربها وتمتثل له ولما يطلبه منها خالقها وأي بلاء أو ابتلاء وامتحان أشد وأقسى من الأمر بذبح الولد الوحيد في زمنه فذلك حين أمره الله بذبح ولده ((إسماعيل)) الوحيد الذي رزقه وهو في العقد التاسع من عمره، ذلك ما جاء في قوله تعالى (فبشرناه بغلام حليم ((101)) فلما بلغ معهم السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ((102)) سورة والصافات. فثبت إبراهيم عليه السلام في هذا الامتحان، وخرج من هذه المحنة فائزا منتصرا لقوة عقيدته وطاعته لربه، واستمر خليل الرحمن على نهج الدعوة إلى الله فلم يفتر أو يضعف أو يرهب أحدا من خلق الله يدعو إلى الله في الطرقات والمشاهد والمجتمعات العامة والخاصة إلى أن أقض مضاجع المشركين وعلى رأسهم ملكهم (نمروذ) بجنده وقوته، ولما أعياهم أمره تآمروا على إعدامه وإراحة مجتمعهم المشرك منه ومن دعوته واتفقوا على إحراقه بالنار لما عجزوا عن محاربته ومحاجته بما يقبله العقل السليم، من البرهان والدليل وهذا السلاح كثيرا ما يلتجئ إليه الأقوياء بقوة الباطل، الذين تنقصهم الحجة والدليل، فيميلون إلى قلتهم، والقوة سلاح العاجز عن المجابهة والمقاومة

خليل الرحمن يلقى في النار من أجل عقيدته

بالحجة والدليل ومع هذا فلم تغنهم فتيلا ولم تنصر باطلهم على حق رسول الله إبراهيم فقد تبت الحق وانتصر بقوة الحق وانهزم الباطل وا ندحر بسلاح الباطل وحده. خليل الرحمن يلقى في النار من أجل عقيدته: فقد أجمع المشركون على قتل إبراهيم وإحراقه بالنار بعد أن جمعوا - من أجل هذا - حطبا كثيرا، وأوقدوا فيه النار وألقوا فيها خليل الرحمن غير أن الله نجاه منها ومن حرها وإحراقها، وأبطل كيدهم، وخيب مكرهم قال الله تعالى في ذلك (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70)) سورة الأنبياء. بهذا الأسلوب من القمع والزجر وإخفات صوت الحق والدعوة إلى الله، حاول هذا الطاغية وجماعته أن يقضوا على عقيدة التوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده وهذا شأن الظالمين في كل زمان ومكان من قديم الزمان إلى يومنا هذا، والناس يعيشون في عالم تغيرت فيه كل معالم القرون الوسطى، تلك القرون الغابرة التي ذهبت وتركت وراءها ذكريات سوداء تعود لنا منها - بين الحين والآخر - بعض الأمثلة من تلك الصور والوقائع التي كانت سائدة في تلك العصور التعسة، من خنق لأصوات الحق وقهر للعباد، وإذلالهم وجعلهم يومئون

ويؤمنون - يقولون آمين - بكل ما يأمرهم به الطغاة والظلمة، ويصادقون عليه - بلا تصفيق - ولكن هيهات أن يصلوا إلى ما أرادوه هيهات!!! وفي الماضي عبرة بالغة لمن له قلب يعي ويدرك الأمور على حقيقتها فلا تفكروا في العودة إلى مثلها أيها الطغاة الظلة أينما كنتم. فإن نمروذ إبراهيم وفرعون موسى - موجودان في كل وقت ولهم أشباه وأمثال من أمثال (النمرود وفرعون) - سعوا بكل قواهم كي يصدوا الناس عن اتباع أمثال ذينك الرسولين الكريمين على الله - وعن الدعوة إلى الله - ويجعلوهم طائعين لهم دون غيرهم فيما يبدو لهم ويحلو في ذوقهم ولو كان قبيحا ومرا في واقع الناس أجمعين - فلم يفلحوا - فكما لم يوفق الله الظالمين لنجاح مسعاهم وخيبهم في ذلك الزمان السحيق، فكذلك سيؤول أمر جباري هذا العصر إلى ما هو أتعس وأخيب من أولئك الغابرين. إن الله لم يبلغ هذين الظالمين ما أراداه فثار الضعفاء في وجهيهما وأبوا عليهما دعوتهما الباطلة وردوها عليهما وذلك بقيادة هذين الرسولين فضربا المثل الصادق لكل حر يريد أن يحرر نفسه من سيطرة الطغاة القساة الظالمين، فإن النمروذ وقومه لما عجزوا عن محاجة إبراهيم بالحجة التي يقبلها العقل السليم لجأوا إلى القوة التي هي سلاح العاجز للتغلب على الخصم

الذي غلبهم بقوة الحجة، التي يقبلها العقل ويرضاها حكما في النزاع فأجمعوا أمرهم على إحراقه بالنار والتخلص من دعوته التي أفسدت عليهم شركهم وأبطلت عليهم باطلهم غير أن الله الذي خلق إبراهيم عليه السلام وهداه إلى الحق وطريق الرشاد في صغره وأرسله رسولا في كبره إلى عباده ليطهر قلوبهم من عقيدة الشرك والخرافات والبغي - كان في عونه على تبليغ دعوته ونصره على خصومه المشركين بمن فيهم ملكهم وغيره فأحبط مسعاهم وأفسد عملهم وأضل كيدهم فباؤوا بالخيبة والخسران ونجا رسوله وخليله إبراهيم عليه السلام وخلد قصته في القرآن فبقيت تتلى على مدى الأزمان لتكون موعظة وعبرة للمغرورين أمثالهم ذلك كما قال تعالى في الآية السابقة الذكر من عزم القوم وملكهم على إحراقه بالنار للتخلص منه ومن دعوته كي يصفو لهم الميدان ويبقى لهم وحده حتى يعلو باطلهم على حق الله ودعوة رسوله كما تقدم في تصوير القرآن لحالهم في قول الله عز وجل، جل شأنه وعظم سلطانه وغلبت قدرته كل مخلوق (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). هكذا يلجأ الظالمون - دوما - إلى القوة والقهر وإخماد شعلة الحق وإطفاء نور الله لينصروا باطلهم على حق الله في زعمهم ولكن محال ما حاولوه فقد رد الله كيدهم إلى نحورهم وأفسد تدبيرهم حين أججوا له نارا عظيمة، جمعوا لها حطبا جزلا، وأكثروا

منه كأنهم يريدون شيء عشرات الجمال أو مئات الأبقار والثيران كل هذا الاستعداد العظيم من أجل رجل واحد وما دروا أن من ورائه قوة الله تحميه من كل سوء، ذكر جل المفسرين أن النمروذ بنى صرحا عظيما له خاصة ليراقب منه عملية إحراق النار لإبراهيم طول هذا ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا من أجل أن يراقب عملية التحريق بحيث لا يصيبه حر النار العظيمة قال بن إسحاق (وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها واشتعلت واشتدت حتى أن كان الطائر ليمر يجنباتها فيحترق من شدة وهجها ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا فلما أرادوا إلقاءه في النار ضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع المخلوقات إلا الثقلين - الإنس والجن - ضجة واحدة ربنا إبراهيم ... ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق بالنار فأذن لنا في نصرته، فقال لهم أنا وليه وأنا أعلم به، وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال (إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنث سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك). ثم رموه بالمنجنيق، من مكان شاسع، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم

الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) سورة آل عمران الآية 173 وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (لما ألقي إبراهيم في النار قال اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك) أخرجه الحافظ أبو يعلى. وعن سعيد بن جبير أنه قال، حين ألقي إبراهيم في النار جعل ملك المطر يقول، متى أؤمر فأرسل المطر؟ فكان ر الله أسرع فقال (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم). وقال بعض السلف، جعل الله فيها بردا يدفع حرها وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه لا تؤذيه، وقال كعب وقتادة لم تحرق من إبراهيم إلا وثاقه، فأقام في النار مدة قيل أنها سبعة أيام وقيل أكثر لم يقدر أحد أن يقرب منها، ثم جاءوا إليها بعد خمودها فإذا هو قائم يصلي. أما الظالم (نمرود) فإنه اتخذ صرحا عاليا - لينجو من حرها ولهيبها كما مر - وليشاهد من بعيد عملية الإلقاء والإحراق وليشفي غيظه من الداعي إلى الله، ترى ماذا كان بعد هذا الاستعداد العظيم من أجل تحريق واحد من البشر؟؟ حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد حدث بعد كل هذه المحاولات الفاشلة أن الله أفسد عملهم وأبطل محاولتهم تحريقه بالنار لكي يبقى إبراهيم داعيا عباد الله إلى توحيد الله وعبادته وحده،

وترك الشرك والضلال وعبادة المخلوق للمخلوق ومقارعة الحجة بالحجة لا بالقوة والاحتيال. هذا وقد وردت روايات كثيرة عن كيفية إلقام إبراهيم عليه السلام في النار التي أججت له بعد جمعهم لها الحطب الكثير ولما تأججت واشتعلت وعلا لهيبها إلى عنان السماء أتوا بالمنجنيق - وهو آلة حربية كانت تستعمل في الحروب للقذف يقذف بواسطتها ما يريدون قذفه إلى المدى البعيد - فوضعوه في كفة المنجنيق ورموا به في تلك النار بعد أن أوثقوه وربطوا يديه حتى لا يفر وهنا تدخلت العناية الربانية لإنقاذ خليل الرحمن من المحنة والهوان اللتين سلطتا عليه بسبب موقفه من الشرك والمشركين، فأمر أحكم الحاكمين إذ هو الحاكم المطاع الذي لا حاكم غيره بيده الأمر والنهي وله الطاعة المطلقة على كل مخلوق ما عدا البعض من بني آدم فإنهم تجبروا وعصوا خالقهم، فأخر عقوبتهم إلى حين، من عير أن يعجز عنهم أو يخرجوا من قبضته فكل شيء طوع أمره وإرادته - أمر الواحد القهار النار فقال (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فكانت النار المطيعة لخالقها لذيذة على إبراهيم فلا هي بالحارة المحرقة ولا هي بالباردة المؤذية بل كانت، وسطا بينهما فسلب منها إحراقها وحرها وشدتها فكانت بين الحرارة والبرودة يستلذ بها إبراهيم - وهذا عكس ما أرادوه له - فلم تمسه بمكروه ولم تؤثر فيه بشيء ولو كان قليلا، إنما

أحرقت فقط الحبل الذي كان موثقا به - الوثاق فأزالت عنه شدته فبقى في النار طليقا يتنعم فيها فقد جاءت عنه روايات تفيد أنه قال (ما تنعمت في حياتي مثل المدة التي قضيتها في النار) وفي رواية أخرى وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم (ما كنت أياما وليالي قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار). ولما خمدت النار وسكن لهيبها وهمدت وهمد جمرها وجدوه على حالة من كان في نعيم لا في جحيم حتى أن النمرود اعترف له بحفظ الله له إذ روي أنه قال له نعم الإله إلهك يا إبراهيم، وفي بعض الروايات أن قائل هذه الجملة إنما هو أبوه. وجاء في بعض كتب التفسير والحديث أن البعض من الحيوانات سعت برسائلها الخاصة لإطفاء النار عن إبراهيم إلا (سار أبرص) وهو الوزغ المعروف فإنه خالفها في سعيها وأخذ ينفخ في النار لتزداد اشتعالا على خليل الرحمن ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله أين وجد وسماه (فويسقا). أخرج الأمام البخاري هذا ورواه عن الصحابية الجليلة (أم شريك) رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقال: كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام). هكذا يكون الإيمان بالله وحده وبقدرته على كل شيء وقد قال الله وأوضح (ومن يتوكل على الله

فهو حسبه) هذا هو التوكل على الله والاعتماد على قدرته القاهرة لكل مغرور فهو - وحده - الكافي لمن فوض أمره إليه والتجأ إلى حصنه المنيع فيجيء التوكل على الله والاعتماد عليه بالنصر على الخصوم والنجاة من أذاهم فقد فقدوا كل مكيدة كادوها لإبراهيم وأنجاه الله من كل ما أتوا به، لأن إبراهيم توكل على الله وعلى قدرته وحده (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). ويروى أن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما جعلوا يوثقونه قال (لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك) وروى أن عمره كان إذ ذاك ست عشرة سنة، وقيل غير هذا، والله أعلم. وهذا نظرا لقوله تعالى: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) الآية 60 من سورة الأنبياء فهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) الآية 51 من نفس السورة والفتى هو الشاب. وكان تحطيم إبراهيم لأصنام قومه المشركين وقولهم: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) كان هذا حين رجع القوم من الحفل الذي كانوا فيه، وهو الاحتفال بعيدهم الذي خرجوا إليه وطلبوا من إبراهيم أن يخرج معهم ويشاركهم فيه فأبى واعتذر ولم يخرج معهم وتخلف عنهم ليحطم أوثانهم التي أضلتهم وصرفتهم

محاجته لقومه المشركين

عبادتها عن عبادة الله وحده وعبادة الله وحده هي العبادة الواجبة عليهم وعلى غيرهم من الناس أما عبادة الأوثان فهي عبادة باطلة. محاجته لقومه المشركين: بذلك الإيمان القوي واجه إبراهيم الخليل عليه السلام عداوة قومه وأهله المشركين، وواجههم بقوله أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فه يهديني والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) سورة الشعراء من الآية 75 إلى الآية 83. وتحمل منهم كل ما أصابه من عذاب وإهانة وتحريق وغيرها، وذلك كله في سبيل الله وفي سبيل عقيدة التوحيد، العقيدة الصحيحة التي لا ظلم فيها لأحد، ولم يصرفه عن دعوته ما رآه من قومه المشركين قساة القلوب وحتى من أبيه الذي كان يقسو عليه ويعامله بما لم يقع - عادة - من الوالد لولده من العطف والرحمة والشفقة، في حين توجهت إلى نصرته ملائكة الله وسائر مخلوقاته، وكل الحيوانات التي لا تعقل ما عدا الوزغ - الفويسقة - وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بعداوة الأقارب لرسل الله، فيما أخرجه ابن عساكر

عن أبى الد، رداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أزهد الناس في الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون). قال سعيد بن جبير - وروى عن ابن عباس أيضا - لما ألقي إبراهيم في النار جعل خازن المطر يقول متى أؤمر بالمطر فأرسله؟ قال فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله تعالى (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) وقد تقدم - قريبا - مثل هذا القول، وذكر الإمام السيوطي في الدر المنثور قول أبي إبراهيم حيث قال وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه، فقال عند ذلك (نعم الرب ربك يا إبراهيم) وقيل إن النمروذ قال له هذا كما مر هكذا كان الأمر، فنجاه الله من كيد المشركين، وحفظه من هذه الداهية العظيمة التي أصابته من أجل عقيدته عقيدة التوحيد، فوثق بالله ووعده، ولم يعبأ بكيد الكائدين وفي هذا قال الله تعالى: (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين)، أي المغلوبين الأسفلين، ورقع مقام خليله إبراهيم عليه السلام. هذا هو الإيمان القوي الذي يجعل المؤمن لا يخاف المخلوق وقوته وجبروته وبطشه، ولا يخاف إلا الله، هكذا كان موقف إبراهيم فهو لم يخف إلا الله الذي أمره بتبليغ دينه وإظهاره بين خلقه ودعوة عباد الله إليه

ولم يكترث بما أصابه ويصيبه في طريقه من عقبات وتهديدات ومحاولات، وقد قال الله رسوليه - موسى وأخيه هارون - حين أرسلهما إلى فرعون (إنني معكما أسمع وأرى). وقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) ذلك أن النصر من الله وقد وعد به عباده المؤمنين الثابتين على عقيدتهم الذين لم يغيروها ولم يبدلوها لإرضاء فلان الحاكم أو فلان الغني، فإن الحق أحق أن يتبع وقد نصر الله خليله ورسوله إبراهيم عليه السلام، وأبطل كيد القوم ومكرهم، والله جل شأنه، وعظم سلطانه، قال في أمثال هذه المواقف لتأييد أنصار دينه في كل زمان ومكان (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) سورة النمل وقال (إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (17)) سورة الطارق وقال (وأملي لهم إن كيدي متين) 183 من سورة الأعراف وقال ها هنا (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) سورة الأنبياء الآية 70 حيث أراد ملكهم نمروذ وأصحابه أن يمكروا بإبراهيم ويبطلوا دعوته إلى الله، فجعلهم الله هم الخاسرين في أعالهم ومحاولاتهم، وجعل خليله هو الرابح الذي خرج من هذا الامتحان والمعركة فائزا منتصرا ورد الله مكرهم في نحورهم حين سلط عليهم أضعف مخلوقاته وهو البعوض كما ذكره المفسرون.

فقد ذكروا في تفسير الآية (ألم نر إلى الذي حاج إبرامم في ربه) الخ، تلك المناظرة أو المحاورة التي دارت بين خليل الرحمن من جهة، وبين الطاغية النمرود من جهة ثانية وبواسطتها ظهر عجز النمرود، وبهت أي احتار ولم يستطع أن يدفع حجة إبراهيم التي قامت عليه وأظهرت عجزه، فصار كأنه أخرس لا يستطيع أن يتكلم وهو الذي دام ملكه أربعمائة سنة إلى زمن إبراهيم فقط على ما ذكر وكان جبارا قويا، فساقه غروره بنفسه إلى أن أنكر وجود خالق كل شيء وهو الله رب العالمين وكان قابضا على أرزاق الناس - وبهذا تجبر - فكان يعطي الطعام لمن أقر له بالألوهية ويمنعه عمن لا يقر له بها فصادف ذات يوم أن جاء إبراهيم يمتار ويشتري الطعام لأهله فدخل على النمرود كما دخل عليه من جاء يمتار، وكان الملك سأل كل من جاء لأخذ الميرة - الطعام - فيقول له من إلهك؟ فمن قال أنت، أمر له بالميرة، ومن لم يقل هذا منع عنه الطعام، فجاء إبراهيم ودخل عليه للميرة كما دخل عليه الناس للغرض ذاته، فسأله النمروذ من هو ربك؟ فأجابه إبراهيم بما هو في عقيدته (ربي الذي يحيي ويميت) أي يخلق الموت كما يخلق الحياة فقال له هل هناك إله غيري؟ فقال له نعم هو الله، ولا إله غيره، وأنت عاجز، فأمر بمنعه من أخذ الطعام فعاد الناس إلى أهلهم بالطعام وهم الذين أقروا له بالألوهية وعاد إبراهيم إلى أهله بدون طعام، وبالغرارتين فارغتين، وبقلبه العامر

بالإيمان بربه ولم يبع دينه وعقيدته بشيء من الطعام ليملأ بطنه ويعطل عقله، وذكر المفسرون أيضا أن إبراهيم لما كان في الطريق مر بكثيب رمل ففكر في أمر رجوعه بدون طعام، وماذا يقول لأهله وأولاده أمام جيرانه وهم يعودون بأحمال مثقلة بالطعام ويعود هو فارغ الغرارتين، فكر إبراهيم في هذا فملأ الغرارتين رملا من ذلك الكثيب ليعود يهما عامرتين - على أعين الناس - حتى يظهر للناس أنه عاد بالطعام ليفرح - أهله وأولاده - بهه كما يفرح جيرانه وأولادهم بما جاءوا به، ولما وصل إلى منزله وأناخ راحلته وأنزل الغرارتين تعب من السفر فنام، فقامت امرأته - سارة - إلى الغرارتين وفتحت إحداهما فوجدتها مملوءة بدقيق جيد ما رأت مثله جودة وبياضا، فصنعت منه طعاما وأيقظته من نومه ليأكل، فرآى طعاما جيدا فقال لها من أين جاءكم الطعام؟ فقالت له هذا من الدقيق الذي جئت به، فعلم أن الله هو الذي رزقه به، وأنه رزق ساقه الله إليه، فالله هو الرزاق وهو خير الرازقين (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب). جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد الصحابة - واسمه عوف بن مالك الأشجعي - أسر العدو ولده وجزعت الأم فشكا إليه ما وقع، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله هو وأمه مع التحلي بالصبر، ففعلا، وبينما العدو في غفلة قام الولد وفر من الأسر وساق غنم القوم أو إبلهم وجاء بها إلى والديه، فنزلت

الآية السابقة تصديقا لما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإبراهيم لما منعه النمروذ من الطعام، أعطاه الله طعاما أحسن من طعام النمروذ، يظهر الله لعباده عجز الناس وقدرته وأنه هو الرزاق لا سواه، وفى وقتنا هذا نرى أشباها للنمروذ في بعض الحكام يمنعون الوظيفة لطلب العيش عمن لا يوافقونهم على سياستهم التي يسوسون بها البلاد، فهم نمارذة هذا الزمان، وسيلقون ما لقيه سلفهم. إن النمروذ أنكر وجود الله، وأنكر أن يكون ثم إله غيره، وأنه بيده رزق الناس، فمن أقر بألوهيته أعطاه ومن أنكرها منعه، كما أنكر هذا بعده (فرعون) وادعى جهلا وغرورا مثل ما ادعاه النمروذ قبله، وقال لمن حوله (ما علمت لكم من إله غيري) فكانت عاقبة هذين الطاغيتين الموت على أسوإ حالة من حالات الموت، ففرعون مات عريقا في البحر ولم تنفعه تلك القوة التي كان يدعيها، وبقيت وفاته عبرة لن جاؤوا بعده لو كانوا يعتبرون بدروس الماضي التي قضت على الجبابرة. أما النمروذ فقد سلط الله عليه أضعف مخلوقاته وهو البعوض فقد سلطه الله عليه وعلى مصدر قوته وهو الجند فبعث الله عليهم شيئا عظيما من جنده - البعوض - كما ذكر المفسرون فأكل لحومهم وشرب دماؤهم وتركهم عظاما مجردة، أما طاغيتهم فقد دخلت واحدة فقط من ذلك البعوض - جند الله - منخره

وتسربت إلى دماغه وبقيت فيه مدة من الزمن يتألم منها شديد الألم، ودام بقاؤها فيه حينا من الزمن الله أعلم به، وبعض المفسرين يقدرها بأربعين سنة، الله وحده أعلم بها، كل هذا زيادة له في العذاب وحرمته - بطنينها - نعمة التمتع بالحياة، وكان يحب من يضربه على رأسه لتسكن هي وليذوق هو شيئا من الراحة بسكونها وهذا أعز الناس عنده، وبقي على هذا الحال حتى هلك ومات. هذه نهاية الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان تختم حياتهم بأسوإ حالات الموت ليكونوا عبرة وموعظة للغافلين عن قدرة الواحد القهار، فإنهم كانوا إذا أحسوا شيء من القدرة والقوة بتسلطهم على الضعفاء من خلق الله وخضع لهم هؤلاء الضعفاء غرتهم أنفسهم الدنيئة فظلموا عباد الله ونسوا الخالق العليم القوي، وظنوا أنهم بمنجاة من قبضته، حتى تحين ساعتهم التي قدرها لهم ((إن الله يمهل ولا يهمل)) فإذا جاءت ساعتهم لا ينفعهم جند ولا حصون ولا قوة مهما عظمت، ولا أحذق وأمهر أطباء العالم أجمع، ولو أحضروا معهم أحدث الأجهزة الطبية وأصناف الأدوية، فلا يرد ذلك ما قدره الله، قال الله تعالى ((إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون)) من الآية 4 من سورة نوح عليه السلام، وقال ((فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) هكذا قال الله الخالق الرزاق الواحد القهار في القرآن

فأين ذهبت عقول العباد؟؟؟ ولا حول ولا قوة تقف أمام قوة الله فالنمروذ مات ببعوضة وفرعون مات غرقا في البحر وفي هذين عبرة لمن كان له قلب يفكر ويفهم ولمن أراد أن يعتبر من العباد المغرورين - وما أكثرهم - كما هو درس بليغ وفصيح للناس أجمعين. فالقوة والأمر والحكم لله وحده وهو رب العالمين.

- 2 - الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- 2 - الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أصابه من قومه المشركين وأول من أظهر الإسلام. ــــــــــــــــــــــــــــــ عندما يظهر الشرك والكفر بالله الخالق لكل مخلوق، تأتى رحمة الله بعباده، فيتداركهم بإرسال رسول منهم ينقذهم مما هم عليه، وينجيهم برحمته من غضبه على المشركين، الذين تركوا عبادة الله الواحد التي تجب عليهم له جل علاه، وأقبلوا على الأنداد والأوثان حيث اتخذوها شريكة له في العبادة، وخصوها بالقسم الأكبر منها. هكذا كانت حياة البشر في الأزمنة الغابرة، موزعة بين الشرك بالله والإيمان به، كفر وجحود للخالق الواحد وإيمان به وبألوهيته، وهذا نتيجة لبعث رسول من رسل الله أنقذ به البشر إلى حين، إذ لا يليق بمعبود يرجى جلب الخير ودفع الضر عن عابده أن يترك عابده تلعب بعقله رؤس الشرك والضلال فتوقعه في الغواية والخسران لأن الإنسان عاجز عن إدراك الحقيقة كما هي، فيما يخص الخالق، وما يجب له على عباده، من الطاعة والعبادة على وجهها الكامل وذلك لضعفه عن إدراك ذلك، فهو يستعين بقدرته

- تعالى - وتدبيره على تحصيل ما يريد من جلب الخير والمنفعة له، والاستعانة بقدرته على دفع ما يضر به وبمصالحه، وفي مقابل هذه العقيدة الصحيحة يخضع لقدرته ويراه أهلا للطاعة والعبادة، والخوف من غضبه وسطوته وانتقامه ممن عصاه وكفر به. ولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في ((مكة)) المكرمة ونشأ بها في وسط قوم مشركين بالله، يعبدون الأوثان والأحجار، ويعتقدون فيها أنها شريكة لله في الألوهية والعبادة، وأن عبادتها تقربهم إلى الله وتضر من لم يعبدها، وتنقع من عبدها، إذ قالوا ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) سورة الزمر الآية 3. وهذه هي عقيدة المشركين من قبل في آلهتهم، كما قال أصحاب رسول الله ((هود)) عليه السلام رسولهم هذا (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن (53) ان نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) (55) سورة هود، هذه هي عقيدة المشركين في آلهتهم وهي عقيدة ساذجة، لا تفكير فيها، حيث اعتقدوا أنها تنفع وتضر، فلو فكر المشركون - قليلا - في آلهتهم لما قالوا فيها ما قالوه عن عقيدة، تدل على الجهل والغباوة وقصر النظر فكيف تستطيع الحجارة أو غيرها أن، تلحق السوء والضر بمن لا يؤمن بها.

من أجل إبطال هذه العقيدة الفاسدة جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الله إله العالمين لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمره بتبليغها - إذ هي رسالة التوحيد - إلى هؤلاء المشركين وإلى غيرهم، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة إلى الناس كلهم وهي مستمرة على عمومها إلى قيام الساعة وانقضاء الدنيا. كما قال الله فيها وفيه ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون))، سورة سبأ - الآية 28 وقال ((قل يا أبها الناس إني رسول الله إليكم جميعا))، سورة الأعراف - الآية 158. وليس من الهين على أناس ألفوا عقيدة ولو كانت باطلة ومجانبة للحق والعقل أن يقلعوا عنها بادئ ذي بدء من غير حوار ومجابهة مرات ومرات فكان في المبلغين من آمن بها وقبلها وأقبل عليها وتذوقها وسعى في نقلها إلى أهله وعشيرته وجيرانه ومن له صلة به، بل ودافع عنها وعادى من أجلها وحارب لنصرتها حسب إيمانه فكان الذين أقبلوا على الدعوة المحمدية في أول الأمر قليلين، لكنهم أخذوا في الزيادة بالرغم مما تجده الدعوة والدعاة في سبيلهما من المقاومة الشديدة والحاقدة عليها وعليهم، لكنها كانت تستند إلى قوة عقيدة الدعاة، فهانت عليهم أرواحهم وأموالهم وأهلهم في سبيل نشرها وتأييدها والدفاع عنها، وهذا ما جعلها تتقوى شيئا فشيئا رغم كل ما ذكر.

وهذا سبيل كل دعوة تستند إلى الحق والحجة والإقناع، ولم تفرض على الناس فرضا، ولم تنشر بالكذب والتزوير والبهتان والإغراء بالوظيف أو بالمال والجاه شأن الدعوات السياسية منها وغيرها. وذلك ما جعل الدعوة الإسلامية تنتشر بسرعة مدهشة، ففي مدة عقد من الزمن بلغ صيتها الأماكن البعيدة عن مركزها الأصلي، ولم يوجد في ذلك الوقت عن وسائل النشر والإعلام لإيصالها إلى خارج حدودها ما يساعد على هذا، فأقبل عليها وعلى اعتناقها والدعوة إليها - أناس فتح الله لهم أبصارهم وبصائرهم، ففازوا بالسبق إليها، فمنهم من استشهد في سبيل عقيدته الحديثة الصحيحة، ولم يبخل عليها بروحه وماله، ومنهم من سلمه الله حتى رآى رأي العين ثمرتها ونتيجتها التي ظهرت للبشرية كلها، فتطهرت العقول والأفكار من أقذار الشرك والوثنية التي ألحقت بالإنسان المذلة والخزي والعار، حيث جعلته عقيدة الشرك ينقاد ويستسلم للأوهام والخرافات معرضا عن الحقائق البينة الثابتة بالحجة والبرهان، إذ لم تكن العقيدة الإسلامية - عقيدة التوحيد - تفرض على الناس بالقوة والقهر والكذب والتزوير، مثلما تستعمله - الآن - بعض العقائد الإلحادية التي تفرض بالقوة على الشعوب الضعيفة والمضطهدة، ويدعى جالبوها ومروجوها أنها اختيار شعبي، بمعنى أن الشعب هو الذي اختارها ورضي بها، ولماذا هذا التزوير؟ وما الداعي إليه؟ ذلك

لأن بعض المسؤلين في تلك الشعوب وجدوا فيها مكسبا ومغنما ومعينا لا ينضب ولا يغيض من الكسب غير المشروع قانونا وعرفا وأخلاقا، من متع الدنيا وملذاتها وشهواتها وجندوا لها جنودا من المرتزقة، هم أشبه شيء بجنود ((الفرقة الأجنبية)) في الجيش الفرنسي التي كانت عندنا بالجزائر وقد عاثت في الوطن فسادا بالقتل والنهب وغيرهما - وقد طهر الله منها ومن جرائمها الوطن بفضل حرب التحرير وبنعمة الحرية والاستقلال، هؤلاء المرتزقة الذين يدافعون عنها ويرغبون الناس في عقيدة الإلحاد، ويقولون لهم أنها أفضل من الشرائع السماوية التي جاء بها الرسل الكرام من عند خالق الخلق أجمعين، ومدبر الأكوان ومع ما أفسح لها من مجالات لنشر دعوتها الإلحادية فإنها لم تجد في الشعوب الحية ذات العقيدة الصحيحة إلا الرفض والإهمال والصدود والإعراض عنها وعن مروجيها متبوعة باللعنات التي تتبع دائما أصحاب الضلالات. إن العقيدة الإسلامية وشريعتها الكاملة جاءت بحرية الرأي والفكر والقول والحوار في كل شيء، ولم تلزم أحدا بقبولها بالقوة ذلك ما تجده في قوله تعالى: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)). سورة البقرة - الآية 258 كما قال الله لرسوله الداعي إليه بإذنه وإلى العقيدة التي أمره بالدعوة إليها وتبليغها إلى عباده مخاطبا له بقوله: ((ولو شاء ربك لآمن من في

الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) سورة يونس - الآية 99. فالشريعة الإسلامية وعقيدتها تقبل ممن يريد أن يتعرف عليها وعلى حقيقتها الحوار في سبيل ذلك، فكم من مجالس عقدت لهذا الغرض مع المخالفين لها، حتى إذا اتضح الأمر وبان المقصود اقتنع كل واحد بما مالت نفسه إليه بلا إلزام فمنهم من آمن ومنهم من كفر واستمر على كفره وعقيدته وأمر الله رسوله بأن يقول ((وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) سوره الكهف - الآية 29. لكن بعض المشركين الغشمة (ومن على شاكلتهم في هذا العصر) لا يحلو لهم البحث والحوار من أجل البلوغ إلى الحقيقة - والحقيقة بنت البحث دائما - فيعمدون إلى إلزام الناس وإجبارهم على اعتناق مذهبهم والعمل بعقيدتهم فيعتمدون على القوة والجبروت والطغيان ومثل هذا السلوك لا يفيد الدعوة بشيء فسرعان ما تنقلب على صاحبها وتريه عكس ما رآه وذهب إليه مثلما وقع من أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله في القرآن - وستأتي قصتهم قريبا إن شام الله - إذ شرح الرسول صلى الله عليه وسلم ما وقع لهم كما جاء في حديث الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه، إذ في قصص القرآن عبر وأي عبر لمن كان له قلب يفكر ويعتبر، كما قال الله تعالى: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى)) سورة يوسف الآية 111.

وقد أصاب المسلمين - قديما وحديثا - ما أصابهم من أذى واضطهاد من أجل عقيدتهم في دينهم، ولكن هل صدهم عنها هذا الذي لاقوه في سبيلها؟ كلا والله فإنهم تمسكوا بها وازدادوا حبا لها، وإيمانا بها، ودفاعا عنها، ونصرة لها. وبهذه المواقف الشجاعة تنتصر - دائما - عقيدة الحق على عقيدة الباطل فمهما ازداد الطاغون في طغيانهم إلا وقابلهم المستضعفون بثباتهم على عقيدتهم وإيمانهم بها إلى أن ينصر الله أهل تلك العقيدة الحقة - بعد الامتحان لهم بما يصيبهم في سبيلها - على أهل عقيدة الباطل والضلال والوثنية الباطلة وقد لحق ضعفاء المسلمين من أقوياء المشركين شيء كثير من العذاب والاضطهاد - وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فالظالمون يزدادون كل يوم عتوا وطغيانا، والمؤمنون عددهم في نمو وازدياد وصبر وثبات وتحمل لأذى المشركين، حتى كانت الهجرة إلى المدينة المنورة، وبعدها جاء النصر من عند الله للحق على الباطل، ودارت الدائرة - كما هو الشأن في مثل هذا - على البغاة والمفسدين أعداء الحق وأنصار الباطل. ومن الذين أصابهم اضطهاد مشركي قريش وجبابرتها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد لحقه من قومه وعشيرته من هذا الشيء الكثير ولا ننسى موقف عمه أبي لهب وزوجه أم جميل ((حمالة الحطب)) وفي هذا

دليل على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى الذي أصاب أصحاب الدعوة المحمدية وأنصارها وفي هذا قال شوقي رحمه الله: وكان من أفحشهم أبو لهب ... عم ولكن مذهب السوء ذهب ومثل الأنبياء في هذا العلماء والدعاة إلى الله وإلى شرع الله إذ هم ورثة الأنبياء والمرسلين في التبليغ والنواب عنهم إذا غابوا في تبليغ دعوتهم فيلحقهم ما لحقهم من طغاة الحكام الجاهلين لشرع الله إذا عارضوهم ولم يوافقوهم ولم يتواطؤا معهم على الضلال ولو بالسكوت عنهم إذ قد وجدوا السكوت في بعض من ينسبون إلى العلم والدين فبينما يجد هذا الصنف من العلماء المزعومين الحظوة عند الحكام الظلمة لسكوتهم عنهم يلقى الصنف الآخر منهم الرقابة الصارمة والمعاكسة التامة في كل شيء، وقف سلطت عليهم الشرطة السرية تحصي عليهم أنفاسهم وخطواتهم فهم - دائما - في متابعتهم وملاحقتهم - كأنهم الحفظة - من أجل الموقف الحر إلى جانب الدعوة إلى الله وفى سبيل الله وذلك النوع من العلماء المتملقين ضعفاء الإيمان بربهم وبدينهم الذين يسيرون في ركاب المحاربين لتلك الدعوة والعقيدة موجودون في كل زمان ومكان وإذا لزم الأمر ودعت الحاجة إلى إبطال السنن النبوية المؤكدة، أو ابتداع سنن أو فرائض أخرى أجابوا إلى ما يطلب منهم، وكانوا أسرع من البرق في لمعانه إلى هذه الإجابة بطرق فلسفية

عجيبة في باب الفلسفة الدينية - إن كانت لأحكام الدين فلسفة - كإبطال سنة الأضحية المؤكدة - مثلا - بدعوى لا أصل لها في الإسلام من تقديم الواجب على السنة بفكرة مخترعة متفلسفة وفي هذا قتل وتعطيل للسنن المؤكدة إذ الأضحية سنة الأنبياء والمرسلين من زمن إبراهيم إلى رسولنا محمد صلى الله عليهم - جميعا - وسلم ونحن مأمورون بإحياء السنن لا بقتلها كما فعل وضاعو الحديث الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم تزلفا للحكام والملوك. وقد ظهر في وقتنا هذا زهد وإهمال لجانب العلم والدين، وفي بعض الأوقات تزهيد فيه متعمد ومقصود، وقد لحق العلماء نصيب من هذا، وكي لا يفشل العلماء ولا يتأخروا عن واجبهم طمأنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سينالهم ما نال الرسل عليهم الصلاة والسلام، حيث قال في العلماء العاملين ما قاله في الأنبياء والمرسلين بحكم الوراثة وذلك حيث قال: (أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه). أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبى الدرداء رضي الله عنه وقد شاهدنا هذا بأعيننا في وطننا مع كبار علمائنا كالشيخين عبد الحميد ابن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي وغيرهما رحمهم الله على قيامهم بما فرض عليهم في أوقات صعبة جدا، فقد كانوا موضع عناية ورعاية واحترام من الناس الأباعد عنهم نسبا أو دارا، وهذا حين يفارقون

الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحلف الصحيفة

أهلهم وجيرانهم، سواء في داخل تراب وطنهم أو في خارجه وينزلون بين أبعد الناس عنهم نسبا أو دارا ولا يجدون بين أهلهم وجيرانهم ما يجدونه خارجهما فهذه المعاملة إحدى سنن خلق الله في عباده، من القديم إلى الآن، فلا عتاب ولا ملامة فيما جرت به السنن الإلهية، وما ذكرت هذا إلا للعبرة والاعتبار. الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحلف الصحيفة: لما شاهد مشركو قريش فشو الإسلام وسرعة انتشاره كما شاهدوا أن قوتهم وتعذيبهم لضعفاء المسلمين لم تجدهم نفعا، بل ما زاد الإسلام إلا انتشارا بين الناس فلما رأوا هذا عمدوا إلى مقاطعة آل الرسول صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد الطلب بني عبد مناف واتفقوا على مقاطعتهم، بأن لا يتعاملوا معهم كما أجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يتزاوجوا معهم حتى يسلموا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وكتبوا بهذا صحيفة ذكروا في صلبها هذا وأكدوا ذلك بالعهود والمواثيق، على أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم فيهم رأفة حتى يسلموا لهم رسول الله للقتل. وتم لهم هذا بمحاصرتهم لبني هاشم في شعب أبى طالب - الشعب بكسر الشين شق في الجبل يشبه المخبأ - فلبث بنو هاشم في الشعب، ومعهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم - ثلاث سنين كما ورد في كتب السيرة واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، وقطعوا عنهم الأسواق فلا بيع ولا شراء معهم، إذ يريدون من وراء هذا سفك دم الرسول صلى الله عليه وسلم فاتفق بنو هاشم وبنو عبد المطلب - مؤمنهم وكافرهم - وهم في الشعب تحت الحصار على أن لا يسلموا رسول الله إليهم ليقتلوه، ما عدا أبا لهب - طبعا - إذ هو وأولاده في صف المشركين انحازوا إليهم من أول يوم، والمقصود بهذا الحصار تجويع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إذ هو نوع من أنواع أعمال الطغاة وأسلوب معروف من أساليبهم كما فعلت - حديثا - دولة أمريكا هذا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أيامنا هذه، ودعت الدول التي تسير في فلكها - وحتى من بعض الدول العربية والمسلمة أيضا على ما هو مكتوب في دستورها - إلى مساندتها في عدم التعاون مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية - يا له من أسلوب كاذب تستروا وراءه - كل هذا لما رأوها تعمل للإسلام إذ شرعت في تطبيق حدوده وأحكامه كحد الزنى والسرقة والقتل، وأنها سائرة في طريق التقوى وبناء دولة إسلامية قوية فبعض جيرانها خشوا من شعوبهم أن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه الشعب الإيراني المسلم فوضعوا في طريقها العراقيل، وهم في هذا مدفوعون إليه من أعداء الإسلام إذ ما هم إلا منفذون لما يرغب

فيه أعداء الإسلام فأمثال مشركي مكة موجودون في كل زمان ومكان. وعندما اشتد أذى مشركي قريش على المسلمين شرعوا في الهجرة إلى خارج نفوذ المشركين فبعض المسلمين هاجروا إلى الحبشة المسيحية، إذ وجدوا في حاكمها ((النجاشي)) حسن الاستقبال والجوار والرعاية والأمان وسعة الصدر، وهذا لم يجدوه بين أهلهم وفي بلدهم مكة، إذ لم يضق صدره من المسلمين وهم في بلده وإن كانوا مخالفين له في عقيدته ودينه ذلك لأنه مسيحي صميم غير متعصب، ولم يكن في قلبه أي حقد على الإسلام وعقيدته وقد أثنى الله في القرآن عليهم - الحبشة - كما جاء في قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). سورة المائدة، الآية 82. إن حلف الصحيفة التي كتبها مشركو قريش وتحالفوا على تنفيذ ما جاء فيها أمره معروف والغاية منه كذلك ظاهرة، إن القوم أرادوا بذلك الحصار معاقبة الرسول الكريم إنتقاما وانتصارا لأحجارهم المعبودة من دون الله، وخاصة إذا علمنا أنهم كانوا يعتقدون نجاح عملهم هذا، وهذا كيد وخيانة والله لا يهدي كيد الخائنين، وقد أفسد الله عليهم هذه الخطة الشيطانية، إذ اتفقت كلمتهم على هذا الحلف

والمقاطعة والحصار، فقد كتبوا ما اتفقوا عليه - كما سلف - في معاهدتهم تلك، وأطلقوا عليها اسم (حلف الصحيفة) وتواثقوا على ما فيها فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة فعلوا هذا توكيدا للعهد والحلف وانحازت بنو هاشم، وبنو عبد الطلب - وهم بنو عبد مناف - إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله في صغره، ودخلوا معه في شعبه وانضموا إليه وخرج عن جمعهم هذا أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ودخل مع قريش في حلفها ولم يدخل مع بني هاشم عشيرته وأهله كما مر قريبا، وظاهر قريشا وهذا من تأثير العقيدة وإن كانت باطلة. قال ابن إسحاق، وحدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة - زوج أبي سفيان ابن حرب - حين ترك قومه وانحاز إلى قريش في حلفهم فقال لها يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟؟ قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة. وقال ابن إسحاق أيضا، وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول يعدنى محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك؟ ثم ينفخ في يديه ثم يقول - مخاطبا يديه - تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد، فأنزل الله فيه (تبت يدا أبي لهب وتب) وفي كلامه هذا سخرية

واستهزاء بما يعده به الرسول صلى الله عليه وسلم من الجنة وغيرها، وهذا الوعد من الله، وعد به المؤمنين. وكان في المشركين من لم يرض بهذا الحصار من قريش على بني عبد مناف فكان يحمل الجمل بالطعام ويأتي به في الليل حيث لا يراه أحد من قريش، وينزع عن البعير خطامه ويرسله عند مدخل الشعب فيذهب البعير وحده ويقف أمام المحاصرين فيقولون أخذ حمولته فينزلونها عن البعير ثم يرسلونه من حيث جاء فيعود إلى صاحبه، بعد أن أفرغت عنه حمولته وهذا دليل على أن في المشركين من كان غير راض بفعل قومه قساة القلوب متحجري الأكباد حيث منعوا الطعام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أسرته المؤمنة بالله ورسوله. ثم جاءت عناية الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مدة طويلة مرت عليه وهو في الحصار المضروب عليه من قبل المشركين جاءت بما لم يخطر على بال، فقد أرسل الله حشرة صغيره قضت على ذلك الحلف الجائر، المكتوب في السنة المعلقة في الكعبة، والذي أريد به تجويع الرسول وأهله والمؤمنين معه، حتى يسلموه لأعداء الله وأعداء الحق والدين، مقابل ملء البطون الجائعة، وما دروا أن ملء العقل وشحنه بالعقيدة الصحيحة المبنية على ما يحبه الله ويرضى به خير وأولى وأصلح بالعقل من كل شيء سواه، فهذا أولى وأجدى من ملء البطون وفراغ العقول.

كانت عناية الله برسوله وبدينه بالغة في تلك الحشرة الصغيرة فقد سلطها الله على صحيفة التحالف تلك، تلك الحشرة هي الأرضة - العثة - التي تتلف الورق والملابس فتجعلها غير صالحة للاستعمال فقد لحست كل ما كان مكتوبا فيها وأكلت ما في تلك الصحيفة من كلمات العهد والميثاق وما إلى ذلك ولم تترك سالما إلا الكلمات التي فيها ذكر الله، مثل باسمك اللهم الخ، وذكر ابن كثير في السيرة أن الوحي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بهذا، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعمه أبى طالب، فقال أبو طالب لا والثواقب ما كذبني ابن أخى، ولما استوثق عمه من هذا خرج إلى قريش وطلب منهم الإتيان بالصحيفة وقراءتها أمام الناس، فإذا وجد فيها ما اتفق عليه قريش وحلفاؤهم صحيحا سلم لهم ابن أخيه ليقتلوه ففرحت قريش بهذا وظنوه انتصارا لهم ولآلهتهم ونتيجة من نتائج الحصار، وأنهم سيقتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاؤوا بالصحيفة وجدوها خالية من كل ما قالوه واتفقوا عليه، ولم يجدوا فيها إلا بعض كلمات أسماء الجلالة التي كانت كتبت في الصحيفة وهنا دهشوا وخابت مساعيهم، وذهب عنهم فرحهم وبطلت أعمالهم ومكائدهم، حين ذهب ما في الصحيفة من العهود والمواثيق التي تعاهدوا عليها، فبطل التزام من التزم وعهد من تعهد، وكان البعض ممن حضروا التعهد بما في الصحيفة قد أعجبهم هذا المحو

اشتداد أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم

للصحيفة فلما وجدوها خالية من كل تعهد والتزام وجدوا السبيل أمامهم سهلا للخروج مما كانوا تعهدوا به، فنقضوا ما كانوا تعهدوا به وأبرموه، وبهذا ظهر نصر الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولحزبه حزب الله فلم يلن لهم ولم يضعف، ولم يترك الدعوة إلى الله مقابل إشباع بطنه كما يفعل في وقتنا الحاضر من يدعون الإسلام، وهم يعملون على تحطيمه بما يأخذونه مقابل سكوتهم عن نصرة الحق والعقيدة والدين والدعوة إليه ولله در عزيز النفس الذي قال: ولا ألين لغير الحق أسأله…حتى تلين لضرس الماضغ الحجر فالشاعر الحكيم قال: إنني لا أستجيب لأي إنسان طلب مني غير الحق ولا يجد في لينا وتساهلا لأجل طلبه إلا كما تليت الحجر لضرس الماضغ لها ومن المعروف أن الحجر لا تلين للمضغ، وهو تشبيه يدل على صلابة العود وقوة العقيدة التي تحلى بها هذا الشاعر فإنه لا يقبل التنازل ولا يميل ويلين إلا للحق. اشتداد أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم: أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبى طالب وزوجته البارة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بما لم يكن يصاب به لو كانا على قيد الحياة، فقد هلكا في عام واحد، والمدة بينهما قريبة، ولم

الرسول صلى الله عليه وسلم وقبيلة ثقيف في الطائف

يعرف بالضبط أيهما السابق في الوفاة لتعدد الأقوال، هل عمه قبل زوجته أو هي قبله، خلاف لا يتوقف عليه شيء، وكانا هما المشفقين عليه، ذلك عمه ومربيه وكافله من صغره، وهذه زوجه وناصرته ومعينته على تبليغ الدعوة والرسالة وأولى المؤمنات به من النساء عمه في الظاهر، وزوجه في الباطن كلاهما دفع عنه ظلم قريش فهو كافر به - كرسول - منكر لدعوته ولدينه، وهي مؤمنة به وبدينه وبدعوته، وقد نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تطمع فيه قبل موت عمه أبي طالب، وزوجه خديجة رضي الله عنها، فدخل بيته في يوم من الأيام والتراب فوق رأسه رمته عليه قريش، فقامت إحدى بناته تزيله عنه وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها (لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك)، وكان يقول في بعض المناسبات، (ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات عمي أبو طالب). الرسول صلى الله عليه وسلم وقبيلة ثقيف في الطائف: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف من أجل الدعوة إلى دين الله وكان هذا الخروج بعد موت عمه أبي طالب وزوجه البرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وقصد قبيلة (ثقيف) فصدها لعلها تنصره على خصوم الدعوة وتستجيب لدعوة الله فتفوز بالسبق إلى الدين الحنيف، وتنال ما يبقى لها ذكرا جميلا وذخرا طيبا، غير أنها أعرضت عن هذه

الدعوة المحمدية، وأقبلت على دعوة الشيطان، فسخرها إلى أن تكون في خدمة الأوثان أولى لها من أن تكون من جنود الرحمن، وقصد في ثقيف إخوة ثلاثة هم من عائلة مشهورة في القبيلة كان يظن أنهم يستجيبون له وينصرونه على من وقف في طريق تبليغ دعوة الله، ودعوة رسوله وذلك ما يكسبها الكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة، ولكن (تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن)، كما جاء في المثل العربي القديم وهؤلاء الإخوة الثلاثة هم عبد ياليل ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، وهم سادة ثقيف وأشرافها، ولهم الكلمة المسموعة والنافذة في القبيلة فجلس إليهم وحدثهم عن السبب الذي جعله يقصدهم من أجله غير أنهم ردوا دعوته ردا غير مناسب للداعي ولا لمن أرسله بعد أن بين لهم أنه إنما قصدهم لينصروه على المعارضين له حتى يبلغ دعوة الله، فقال له أحدهم في رده لتلك الدعوة: 1) هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك - يريد هو يزيلها ويرمي بها كما يزال الشعر ويرمى به - 2) وقال الآخر أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟ 3) وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما يتبغي لي أن أكلمك.

ولما لم تستجب إليه هذه القبيلة على لسان أشرافها رجع إلى مكة بدون نتيجة من ثقيف فلم يستجيبوا للدعوة بل أغروا به السفهاء منهم والعبيد والأوباش ومن لا خلاق له من الصبيان وغيرهم فسبوه وصاحوا عليه بأقوال السفهاء، والسفهاء لا يعرفون إلا السفهاء ومن لا خلاق لهم، فاجتمعوا عليه وجعلوا فيما بينهم صفين يرمي عليه بالحجارة كل صف منهما فإذا سلم من هذا الصف وحجارته، أصابته حجارة الصف المقابل فما خرج من بين الصفين إلا وقدماه الشريفتان تسيلان دما، وهما اللتان جعلهما الله لتبليغ الدعوة إلى الخلق، ولخدمة الإسلام والعقيدة والسير بهما في سبيل الله، فكل ما أصابه أو يصيب غيره من الدعاة إلى الحق والخير إنما هو من أجل الدعوة إلى الله والثبات عليها، وإرادة الخير لبني الإنسان. وعند منصرفه من الطائف عائدا إلى مكة بعد أن رده أهلها ذلك الرد القبيح نزل في مكان وارتاح فيه، ثم توجه إلى ربه بدعاء له مغزاه، وتضرع إليه كي ينصر دينه وأنه لم يفرط فيما أمره به ربه ليبلغه للناس فقال (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر

الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) (عن ج 1 من سيرة ابن هشام ص 420 - تاريخ الطبري ج 2 ص 345). هذا هو دعاء الرسول المهموم والمغموم من رد أشراف قبيلة ثقيف دعوة الله ورسوله ردا لا يليق بالأشراف ولكنه الجهل وعبادة الأوثان وأثرهما في النفوس. وثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته فقالت قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هل أتي عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب - قرن الثعالب، قال القاضي عياض قرن المنازل وهو قرن الثعالب وهو مكان بين مكة والطائف وهو بسكون الراء - فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد قد بعثني الله إليك، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت نطبق عليهم الأخشبين

- الأخشبان هما الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرجو أ، يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا). وفي رجوعه من الطائف إلى مكة بعد أن يئس من أهلها نزل بوادي ((نخلة)) فقام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من الجن، وهو يصلي، قيل أنهم سبعة، فلما سمعوه يقرأ القرآن في صلاته رجعوا إلى قومهم مؤمنين بما سمعوا من كلام الله، ذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة من قولي تعالى في سورة الأحقاف: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى قوله تعالى: (في ضلال مبين) الآيات من 29 إلى 32 منها على ما ذكره علماء التفسير، إذ تكرر سماع الجن للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. (وكل ميسر لما خلق له) فجميع ما نال الدعاة كان من أجل الدعوة إلى الله والثبات عليها، وإرادة الخير لبني الإنسان أينما كانوا. ومن المحاولات التي قام بها مشركو قريش لصده عن الدعوة وتبليغ الدين إلى الناس تلك المحاولة التي قاموا بها، حين توجهوا إلى عمه أبى طالب طالبين منه أن يكون واسطة بينهم وبين ابن أخيه، بأن يترك الدعوة إلى دينه ويتخلى عن شتم آلهتهم - الباطلة - غير أنهم خابوا في محاولتهم هذه فقد حاول أبو طالب - في حياته بعد مساعي قريش الملحة - أن يصده عنها استجابة لرغبة

قريش، ويتخلى عن الدعوة إلى الله ويترك الإساءة - في زعمهم - إلى أوثانهم وآلهتهم فأبى، وقال لعمه (يا عم ... والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته). هذا هو السبيل أو الخط الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام ودعوته وعقيدته، فلم يضعف ولم يترك الدعوة وصبر على أذى أعداء الله وأعداء دين الله الحق حتى نصره الله على الخرافيين عباد الأحجار والأشجار، وقد رسم هذا الخط بمواقفه الصلبة في وجه خصوم العقيدة والدين - رسمه لأتباعه ليسلكوا مسلكه، وليقتفوا آثره في مثل مواقفه تلك غير أن هؤلاء الأتباع تحولوا عن خطه ومنهاجه، فحل بهم البوار والضعف. ومما زاد في قوة الإسلام - بعد ما لحق الرسول ما لحقه - وانتصاره على الخرافيين إسلام بعض الشخصيات القوية في مجتمعها ومحيطها ودخولها في الإسلام شخصيات لها وزنها وقيمتها في وسطها، مثل حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم ((أسد الله)) وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما، فلما أسلما واتبعا الرسول وشاع خبر إسلامهما وانتشر في الأوساط الوثنية، خاف كفار قريش على شركهم وأوثانهم من الزوال بل وتيقنوا أن عهد الشرك قد ولى مدبرا، وصاروا

يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته

يحسبون للإسلام والرسول حسابهما وتبدل ميزان القوة فرجحت كفة الإسلام، وخفت كفة الشرك والأوثان - وأوهنهم ذلك النصر المبين - وعندما خفت كفة الشرك والمشركين، وحق لميزان الكفر والضلال أن يخف، خف آذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار المسلمون بعد هذين الحدثين الهامين يعلنون إسلامهم جهارا وأمام المشركين، بعد أن كانوا يخفون شعائر دينهم حذرا من عدوان قريش عليهم، وذلك مثل الصلاة وتلاوة القرآن وغيرهما من التجمعات لفائدة الدعوة والتبليغ، فصار كل هذا، يقع أمام المشركين، فيزيدهم هذا غيظا وتحرقا وحنقا على الإسلام والمسلمين، وعجزا عن محاربته، والتعرض لأنصاره، وهذا من عوامل القوة، إذ الناس لا يلتفتون للحق إلا إذا كانت معه قوة تعزز جانبه، وإلا تكن له قوة فلا يخضع له أحد، إلا إذا كان من أهل الفكر والإدراك. يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته: حاولت قريش - كما مر - بكل ما تملكه من وسائل الترهيب والضغوط على أن تصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهته التي وجهه ربه إليها فلم تستطع، وباءت بالفشل والخسارة، ولما لم تحصل على شيء منه، حولت الطريق إلى ما ترى فيه أملا ونفعا لشركها وأوثانها، فاتخذت سبيل الترغيب بدل الترهيب، وشرعت تلوح له بما تشتهيه النفس الدنيئة لا الشريفة

فإن النفس الشريفة، لا تترك مبدأها التي عرفت به وتتخلى عنه إلى شيء يعطل أو يمحو مبدأها ذاك، فقد ذكر كتاب السيرة النبوية أن مشركي قريش توجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لم ينجحوا في صده بالقوة، إلى وسيلة الترغيب والتلويح بما تشتهيه النفس الضعيفة التي لم تستكمل إيمانها بعد. فقد لوحت له بالمال والملك والسيادة وغيرها حسبما جاء في مصادر السيرة النبوية الشريفة، إلا أن صاحب العقيدة الصحيحة الذي يؤمن بعقيدته وحقها في الظهور والدوام والبقام والسيادة، لا يتساهل فيها أو يقبل بالتخلي عنها أو أخذ الرشوة عنها فعقيدته لا تباع ولا تشترى بل ولا تقع فيها المساومة أبدا وبأي صفة كان ذلك، فقد ذكر ابنا هشام وكثير وغيرهما من أصحاب السيرة النبوية ما عرضه مشركو قريش على محمد صلى الله عليه وسلم من المرغبات في مقابل التخلي عن دعوته، فرفض كل ذلك وتمسك بعقيدته في إباء وعزة وكرامة حتى لا يقال أن محمدا تنازل عن دعوته لفائدة أو لأخرى، وبهذا مهد الرسول صلى الله عليه وسلم لدعاة أمته الطريق كي يجدوها ممهدة فيسيروا عليها إذ ما عليهم بعد مواقفه إلا أن يسلكوها مطمئنين ثابثين موقنين بالنجاح إذا أخلصوا في أعمالهم، غير خوارين ولا مذبذبين، اتباعا لسنة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم

ذكر ابن كثير في سيرته عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا حليما في قومه - قال ذات يوم وهو جالس في نادى قريش ورسول الله صل الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد، يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا؟؟ وذلك حين أسلم ((حمزة)) ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة - الشرف - في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت يه جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم وديتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها. قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الوليد قل اسمع، قال أبو الوليد عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي

يأتيك ((رئيا)) - جنا - تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبدلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه. حتى إذا فرغ عتبة من عرضه ذاك قال له النبي صلى الله عليه وسلم، أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال اسمع مني قال أفعل (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) الآيات 1، 2، 3، 4، 5 من سورة فصلت فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع عتبة القراءة أنصت لها وألقى يديه خلقه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ليسمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال سمعت، قال فأنت وذاك، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلسوا إليه قالوا، ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على

العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك محمد والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم. ونلاحظ من هذا أن لسماع القرآن - كلام الله - تأثيرا عجيبا في نفوس سامعيه ولو كانوا كفارا لا يؤمنون به وقد لمسنا هذا في الخبر السابق الذكر، وفي نفس عتبة ابن ربيعة وهو المشرك الجاهل، وقد ألجأه ما سمعه منه إلى أن يقول فيه ما قال وهذا من تذوقه لبلاغته وفصاحته وبعده عن كلام البشر وهو سر إعجازه، ومثل عتبة ابن ربيعة في هذا الاعتراف ببلاغة القرآن مثله مثل ذلكم المشرك العنيد، القوي بماله وجاهه ((الوليد بن المغيرة)) عدو الله ورسله، حيث اجتمع مع طائفة من كفار قريش - وكان هو رئيس الجلسة - للنظر والتشاور في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي موقف يقفونه تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموسم الحج قد قرب منهم، وما يقولونه للناس في أمر الرسول (ص)، وفي دعوته إلى الله وإلى الإسلام ولابد من صد الناس عنه وعن دعوته، وذلك لصرفهم عنه حتى لا يتأثروا بدعوته ولا بالقرآن عند سماعه، وحتى لا يدخلوا في الإسلام، وأدلى كل واحد عن المجتمعين برأيه وبما بدا له، والقوم يسمعون، وبعد ذلك يتفقون على قول واحد ورأي واحد

يخرجون به من الاجتماع، وكون هو القول والرأي الذي يقال للحجاج، وبه يعودون إلى أهلهم وذويهم وشعوبهم فقائل قال نقول لهم إنه كاهن فرد عليه رئيس الجلسة ((الوليد بن المغيرة)) بقوله ما هو بكاهن، فقد سمعنا كلام الكهان فما هذا من ذاك، وقال أحدهم نقول إنه مجنون فرد عليه رئيس الجلسة بقوله ما هو بمجنون، قالوا نقول إنه شاعر، قال الرئيس لقد سمعنا الشعر وعرفناه، فما هذا بالشعر، وما هو بشاعر، قالوا نقول إنه ساحر فقال لهم عرفنا السحر وتأثيره، فما هو بساحر، ولما أعياهم البحث عن كلمة يقولونها للعرب في موسم الحج حتى لا يستجيبوا لدعوته، ولا يسمعوا منه القرآن خوفا من تأثيره في نفوسهم ولما لم يهتدوا إلى رأي يقع عليه الإجماع ويتفرقون عليه رجعوا إلى رئيس الجلسة وقالوا له - مستطلعين رأيه - فقال له القوم الذين هم معه في الجلسة فما تقول أنت يا عبد شمس؟ قال والله إن لقوله لحلاوة، ثم قال لهم، وما أنتم بقائلين فيه من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل!!! وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بهذا الرأي والقول، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حتى قدموا في موسم الحج ليبلغوهم كلمة الجماعة، فلا يمر بهم أحد إلا حذروه منه وذكروا له أمره.

وهذا سبيل من سبل الدعاية، ولكن هل كان لها صدى في أوساط الحجاج؟ لا شيء من هذا وقع (وخسر هنالك المبطلون) وننظر الآن ما هو رد الفعل عن هذا الكذب والبهتان، من هذا الساعي في الأرض بالفساد والإلحاد، فقد أنزل الله فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، عقابا له من كذبه وافترائه على كلام الله، حيث أنزله لهداية البشر، كما أنزل فيه الأحكام والمواعظ والأخبار التي تفيد الإنسان في حياته كلها، وفي جميع الأطوار التي يمر بها هذا الإنسان الذي سيشقى إذا هو لم يعمل بالقرآن وبما جاء فيه، فقد جاء في حق هذا العدو لله وللرسول وللإسلام كما ذكره المفسرون، قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) إلى قوله تعالى: (ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر). سورة المدثر. هذا هو تأثير القرآن في النفوس، وقصة تسلل البعض من كفار قريش - ليلا - منفردين إلى الاستماع لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، فقد ذكر محمد بن مسلم بن هشام الزهري قال: حدثت أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس ابن شريق خرج ثلاثتهم ليلا ليستمعوا إلى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل واحد منهم لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون إلى

الفجر، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق وتلاوموا، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا، ولكنهم يعودون ليلا من غير أن يشعر الواحد منهم بصاحبه، وداوموا على هذا ثلاث ليال متتاليات، وذلك لتأثير القرآن في نفوسهم، فهم يخرجون ليلا خفية وبدون أن يعرف الواحد منهم ما يخفيه صاحبه، حتى لا يراهم عامة الناس والعبيد بالخصوص، وتعاهدوا في آخر الأمر فيما بينهم على الكتمان، حتى لا يفلت زمام الأمور من أيديهم وتضيع منهم القيادة نتيجة أعمالهم التي لم تكن مطابقة لأقوالهم ومواقفهم، فإن من يسمع القرآن يدخل قلبه، فيسلم من أجل تأثير القرآن في النفوس إذا سمعته سماعا خاليا من التعنت. ومثل هذا ما سعى فيه المشركون عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين طلبوا منه أن لا يرفع صوته بقراءة القرآن في صلاة الليل، كي لا يقع القرآن في قلوبهم فيسرعوا إلى الإسلام بتأثير سماعهم لقراءة القرآن وكان أبو بكر رقيق القلب سريع التأثر والبكاء عند تلاوته للقرآن، ومشركو قريش لا يحبون سماع القرآن خوفا عن التأثر به والتأثير عليهم لهذا عملوا - بقوة - على منع المسلمين من رفع أصواتهم بالقرآن لذلك وفى هذه القصة ظهر ما قاوموا به القرآن حتى لا يتطرق إلى أسماع أبنائهم ونسائهم وعبيدهم، والقصة مذكورة في كتب السيرة، وهي من

نوع الحرب التي حاربوا بها الدعوة الإسلامية خوفا من انتشارها بينهم. هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من آمن بالله والرسول والإسلام، وجد من المشركين هذا بالرغم من قوة قبيلته ((تيم)) في وسط المشركين، ومن أجلها لم ينله كثير العذاب الذي نال إخوانه المؤمنين، ولما ضيقوا عليه الخناق من أجل إسلامه حاول الخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة كما فعل ضعفاء الصحابة، وفي يوم من أيام تلك المحن التي أصابت المؤمنين خرج إلى الفضاء الواسع أين يجد حرية الدين والعبادة، وقصته مع ابن الدغنة (¬1) تبين ما أصابه. فقد ذكر من كتب في السيرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لحقه من الأذى ما ألجأه إلى الهجرة فرارا بدينه وعقيدته، فخرج مرة من مكة مهاجرا إلى الحبشة، كما هاجر إليها ضعفاء الصحابة من قبل، فلقيه رجل من أهل مكة، له مكانة واعتبار في وسط القوم المشركين يقال له ((ابن الدغنة)) فقال له أين تريد يا أبا بكر؟ فقال له أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال له ابن الدغنة، مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على ¬

_ (¬1) الدغنة بضم الدال والغين وفتح النون المشددة وككلمة وفيما غيرهما والأول أشهر.

نوائب الحق، إرجع في جواري، فأنا لك جار، واعبد ربك في بلدك، فرجع أبو بكر إلى مكة في جوار ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية بين قريش وأعلمهم بأنه جار لأبي بكر، وأبو بكر هو الآن في جواري، يريد بهذا الإعلام أنه في حمايته، فلا يعتدي عليه أحد، والجوار عند العرب معناه أن المجير - ولا يكون إلا رجلا قويا مهابا عزيز الجانب، وبذلك لا يستطيع أحد أن يمس من أجاره بسوء، خوفا من قوة المجير - يحمي المجار من كل أذى قد يصيبه. ولما أجار ابن الدغنة أبا بكر قال له المشركون: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، ورضيت قريش بجوار ابن الدغنة لأبي بكر، فهي قد تعهدت بأن تكف أذاها عن أبي بكر لأنه في جوار ابن الدغنة، وابن الدغنة. هذا اسمه ربيعة ابن فريع، نسب لأمه الدغنة. هذه أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها تصف لنا هذا الجوار، قالت، لما أنفذت قريش جوار ابن الدغنة قالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه هذا مدة، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن،

فتقصف - ازدحم - عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، وذكروا له ما فعل أبو بكر حيث لم يلتزم بما جاء في جوار ابن الدغنة له، فقال ابن الدغنة له يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى جواري وذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له (وخفر الجوار معناه نقض العهد وإبطاله من جانب واحد وهو الغدر في الذمة والحماية والجوار) فلما سمع أبو بكر من ابن الدغنة هذا ترك له جواره وحمايته والتجأ إلى الله يستجير به ويحتمي به ويلوذ بحماه، فقال له أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة. إن ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من الصحابة شيء كبير لا يثبت له إلا أقوياء الإيمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتر عن الدعوة إلى الله وتبليغ هذا الدين إلى من أرسل إليهم من لدن رب العالمين، وهو في عراك دائم ومستمر مع مشركي قريش، وبلا هوادة، ففي ذات يوم كان في عراك معهم وإذا بالصراخ يعلو بينهم، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: أتى الصراخ آل أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا

- وله غدائر (¬1) - فدخل المسجد وهو يقول (ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر، قالت أسماء رضي الله عنها فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول (تباركت يا ذا الجلال والإكرام). هذا نزر يسير مما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه من القوم المشركين ولا ننس أن الله حماهما من بطش مشركي قريش - كما تقدم - بحماية العم والقبيلة - تيم - ومع هذا فقد ذاقا من العذاب ما قرى عزمهما فلم يضعفا ولم يهنا كل هذا ليكون درسا عمليا للدعاة إلى الإسلام فلا يضعفوا أمام التهجمات على الإسلام والعقيدة من الجاهلين لهما، وقد عرفنا مبلغ تخوف المشركين على نسائهم وأبنائهم من سماع آيات القرآن تتلى وهم يسمعون، خشية أن يصل نوره إلى قلوب النساء والأبناء والعبيد. ويذكرني موقف كفار قريش في العهد الجاهلي بموقف آو وقوف البعض من المشرفين (أو المسرفين) على تقديم برامج الإذاعة الجزائرية الصباحية، فإذا حان وقت إذاعة القرآن الكريم - على قلة وقت الحصة - بعد إذاعة موجز الأنباء في الساعة السادسة صباحا - طبعا - فإن المكلف يضع الصحن أو الشريط المسجل ¬

_ (¬1) الغدائر جمع غديرة المظفور من شعر الرأس، وهي الذوائب.

عليه نصيب من القرآن فإذا شرع القارئ في التلاوة توجهت إليه القلوب والأفكار تتبع تلاوته وتتأمل بخشوع فيما تسمع وفجأة - وفي بعض الأيام يوقف المشرف على الإذاعة تلاوة القرآن، ويقول - من عنده - صدق الله العظيم، والمدة التي يسمح بها لإذاعة القرآن ربما لا تتجاوز الربع ساعة وأحيانا لا تصل العشر دقائق يفعل هذا ليفسح المجال للغناء السمج بعد الحديث الديني لوزارة الشؤون الدينية، فهل هذا المشرف أو المسرف من بقية، وهل هذا التصرف من ابتكاراته، أو هو مأمور به وما عليه إلا التنقيذ لا غير؟؟؟ أمر عجيب والله، ذلك ما يؤلم المؤمنين الذين يحبون الاستماع إلى القرآن كلام ربهم، وعلى كل حال وكيفما كان الأمر، فإنها - حقيقة - خيبة أو صدمة يتلقاها المؤمنون في الصباح الباكر من أيد لا يشعر حاملوها بتأثير كلام الله في نفوس سامعيه. فعسى أن ينفعنا الله بما نسمع من كلام الله، أما كلام غيره من البشر فإن له بعض الآدمين وأشباههم تهفو قلوبهم وأسماعهم إليه وتهواه. واعلموا أيها الناس ..... أنكم في شعب مسلم أكثريته تؤمن بالقرآن وتحب سماعه، فلا تحرموها من سماعه، ولله في خلقه شؤون.

- 3 - أصحاب الأخدود في القرآن

- 3 - أصحاب الأخدود في القرآن بلاؤهم وصبرهم وهم يطرحون في النار: ــــــــــــــــــــــــــــــ الأخدود هو الشق الكبير المستطيل في الأرض أو هو الحفرة في الأرض مثل الخندق، ويجمع على أخاديد. وأصحاب الأخدود الذين خددوها وقعدوا قريبا منها وأمروا أعوانهم بإلقاء المؤمنين بالله في النار التي أوقدوها لهم، فإن العلماء ذكروا أنهم كانوا بـ (نجران) - البلد المعروف في اليمن مما يلي مكة - فهم من النصارى المؤمنين الموحدين لله، أما زمانهم فإنهم كانوا في الفترة التي سبقت مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قص الله علينا قصتهم في القرآن حيث قال في سورة البروج (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) الخ، وتنتهي قصتهم عند قوله تعالى: (فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).

فأصحاب الأخدود كما ذكر القرآن جماعتان كلاهما تعنيه القصة، جماعة كافرة ظالمة حاكمة في بلدها وهي المعذبة للمؤمنين، وجماعة مؤمنة بربها موحدة له لا تقبل الشرك ولا ترضى به، وهي الجماعة المعذبة من طرف الحكام الظالمين، فهذه الجماعة المؤمنة، آمنت بالله الخالق وحده، لا إله غيره، وعقدت العزم على الاستمرار في التمسك بدينها وعلى الإقرار بأنه إله واحد لا شريك له، ولا إله غيره في الوجود يستحق العبادة والطاعة، وهذا هو الحق والصواب والواقع، فهي قد تمسكت بالحق وما تدعو إليه الفطرة السليمة. أما الجماعة الأخرى فهي الجماعة الكافرة المنكرة لربها وخالقها، رئيسها ملك ظالم تعينه حاشية مثله في الظلم والكفر والجحود لخالق كل شيء، إذ هو من نوع الملوك الذين ادعوا الألوهية، مثل سابقيه المغرورين (النمروذ وفرعون) فعقيدتا الجماعتين مختلفة متناقضة من أجل هذا التباين بينهما حاولت الجماعة الجاحدة لربها صد المؤمنين عن عقيدتهم التي التزموا بها وأعطوا العهد على الإيمان بها، والوفاء لها وتحمل كل ما يعترضهم من عقبات وألم في سبيلها. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كلمة قتل الواردة في القرآن معناها طرد أي لعن وأبعد عن رحمة الله هؤلاء القوم، وهم أصحاب الأخدود الكافرون الجبارون الذين يحاولون أن يجبروا عباد الله المؤمنين

على الشرك بالله، بجعل ملكهم إلها يطاع ويعبد من دون الله الخلاق العليم، ولما لم يستجب لهم المؤمنون الموحدون شقوا أخدودا وأخاديد ليلقوا فيها المؤمنين بالله وحده، بعد أن ملؤوها حطبا وأوقدوا فيه النار، لذلك الغرض الذي يدل على الحقد والبغضاء لكل من آمن بالله ربه هذه هي أعمالهم المزرية بكرامة الإنسان المهذب فشقوا الأخاديد وحفروا الحفر الطويلة وجمعوا فيها الحطب الكثير وأوقدوا فيها النار وألقوا فيها المؤمنين بالله وحده. فعلوا هذا بالجماعة المؤمنة بالله ولا ذنب لها إلا أنها قالت ربي الله فآمنت بالله وحد، وعقدت العزم على الإقرار به، بأنه إله واحد، لا شريك له في ملكه، ولا إله في الوجود غيره يستحق العبادة والطاعة. من أجل هذه العقيدة الصحيحة الموافقة للواقع حاول المشركون صدهم عن عقيدتهم هذه التي أعطوا العهد لله على الإيمان بها والثبات عليها والوفاء لها، وتحملها وتحمل كل ما ينالهم في سبيلها ومن أجلها، والعقلاء يعرفون أن العذاب له أسباب معقولة، مثل ارتكاب المجرمين للجرائم التي تفسد المجتمع، وتشيع فيه الفساد وسوء الأخلاق وغير هذا، ولماذا فعل أصحاب الأخدود - وهم موقدو النار - بهؤلاء المؤمنين الضعفاء هذا الفعل الشنيع؟ ما هو ذنبهم؟ ما فعلوا حتى يستحقوا كل هذا العذاب؟ وما الداعي لهذه المعاملة القاسية؟

وهذا العذاب الشديد؟ هل ارتكبوا جرما وذنبا استوجب لهم هذا الجزاء الشديد والعذاب الأليم، والواقع يقول لا هذا ولا ذاك وقع منهم، إنما العتو الإنساني، والغرور بالنفس، وحب الاستعلاء على خلق الله هو الذي ساقهم إلى هذا، إنما ذنبهم الوحيد - في نظرهم - إن كان الإيمان بالله ذنبا - هو الإيمان بالله وحده، الذي لا شريك له في ألوهيته، ولا نظير له في ربوبيته فهو الخالق وحده، والرب القادر على كل شيء، فلا طاعة ولا عبادة إلا له وحده، الذي لا شريك له فهو القوي العزيز الحميد الذي لا يضام من التجأ إليه وتمسك بحبله المتين، ولا يهان من احتمى بحماه المنيع، وما وقع لهؤلاء المؤمنين من العذاب والتحريق بالنار لأجل عقيدتهم التوحيدية، كان امتحانا لهم ودليلا على قوة عقيدتهم وصبرهم على ما يصيبهم من أجلها، وهذا يزيدهم رفعة في الدنيا وعزا وكرامة في الآخرة، حيث أنهم ضربوا المثل الأعلى في الصبر على ما لحقهم من الجبارين الطغاة، ويبقى موقفهم الثابت يدل على عقيدتهم موقف يدل على قوة إيمانهم بخالقهم، كما تبقى حادثتهم هذه تتلى في المحافل عبر التاريخ الطويل والمجتمعات الأممية، ليكون ما نالهم من أجل عقيدتهم درسا عظيما يلقنونه لكل الأجيال القادمة ليستفيدوا منه قوة العقيدة وفائدة التمسك بها، فلولا هذا الموقف الوحيد في التضحية لما طرقت أسماعنا هذه الوقائع والأحداث، التي ترشد إلى الطريق المستقيم لكل من

أراد سلوكه ممن يأتي من الأجيال المقبلة فقد هلكت بعدهم أجيال وقرون طويلة نسيهم فيها الناس، ولم يذكروهم، أما هم - أصحاب الأخدود - فإن حادثتهم سجلها القرآن، فبقيت محفوظة فيه وفي العقول والصدور، فكانت سراجا منيرا في طريق العقيد ة الحقة وهذا ذكر حسن لهم، وشرف وأي شرف هو؟ أما جزاؤهم من ربهم الذي ثبتوا على الإيمان به ولم يجحدوه وينكروه كما فعل غيرهم، فالمنازل العالية والدرجات الرفيعة والحياة الكريمة في دار العزة والكرامة، التي لا يزول نعيمها ولا تنقضي الحياة فيها أبد الآبدين، والويل والعذاب والغضب من رب الأرباب لأولئك المعذبين والطغاة الظالمين، كل هذا لهم جزاء ظلمهم وتعذيبهم لعباد الله على اعترافهم بالحق الواجب على كل مخلوق، وقد فاز به المؤمنون، فهنيئا لهم. ترى من يكون هؤلاء الكافرون الجبارون قساة القلوب أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين بالنار على إيمانهم بالله؟ ومن هم أولئك المؤمنون المحرقون بالنار؟ هذه مأساة رقت لها قلوب وتحجرت لها أفئدة، خلاف وقع بين المفسرين لكلام الله وأولى الرأي من علماء الإسلام في شأنهم، لأنهم هم الذين يهمهم أمر العقيدة والدين أكثر من غيرهم من البشر. فالمفسرون لكلام الله لم يتفقوا على قول واحد يقف عنده من يريد أن يحصر الواقعة في جهة معينة بتحديد

زمانها ومكانها، والقرآن ذكرها بلا تحديد للمكان ولا توقيت للزمان، وما ذكره القرآن هو حق وواقع لا ريب فيه، فمن لم يصدق بما جاء في القرآن من أخبار وأحكام فهو جاحد له كافر بأحكامه منكر لأخباره. والقرآن لم يحدد في أخباره وقصصه ووقائعه في الكثير منها الزمان والمكان، وهي كثيرة، لأن القرآن كتاب أحكام ومواعظ وعبر وتربية، يربي النفوس على الحق والصدق، ويعظها ويخوفها بذكر أخبار السابقين من الأمم الماضية، المؤمنة منها والكافرة، حتى لا يقع للأمم المتأخرة في الزمان ما وقع للأمم السابقة، وهذا ما يهم المؤمن في حياته الدينية، وعلماء التفسير لا يجرؤون على القول في القرآن بمحض الرأي الخالص، من غير أن يكون مدعما بحجة ودليل جاء من طريق الوحي والرسالة، ولم يكن علماء التفسير عندنا كعلماء اليهود الذين مسخوا التوراة بأقوالهم وآرائهم الشخصية من غير اعتماد على وحي إلهي، فسلبوا عنها قداسة الكتب السماوية وتركوها لا تخرج عن إطار الكتب الوضعية البشرية، فوجب على المسلمين لهذا الاعتبار الإيمان والتصديق بكل ما جاء في القرآن، خصوصا وأن الله جل جلاله تولى بنفسه حفظ كلامه من التحريف والتغيير لا بالزيادة ولا بالنقصان، فهذا هو عين الحق والصواب، وهو ما يجب على المؤمنين الإيمان به فهو كما جاء من عند الله نحن نقرؤه اليوم بعد تلك القرون الأربعة عشر

الماضية من زمان نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو القول الحق، والعقيدة الصحيحة. فالقرآن لم يكن كتاب تاريخ حتى يخبرنا بزمان ما حدث ولا هو كتاب جغرافية حتى يحدد لنا مكان ما حدث بالضبط، وهذا هو سر القرآن والخلاف في تحديد الزمان والمكان للوقائع الواردة في القرآن لا يترتب عليه حكم يخشى توقيفه أو تضييعه، فذلك هو الوعظ البليغ للناس والتعريف الزاجر للنفوس الجامعة، حتى لا يكفر الناس بالله خالقهم ومد بر أمورهم، وحتى لا يقع لهم ما وقع لمن سبقهم من الأمم. وقد تعددت آراء المفسرين للقرآن، واختلفت أقوالهم في أصحاب هذه القصة من هم؟ فمن قائل أنهم من أهل فارس، حين أراد ملكهم تحليل الزواج بالمحارم، فيتزوج الرجل ابنته، أو أخته أو خالته أو عمته - مثلا - فلم يقبل له هذا علماؤهم ورجال الدين فيهم، فعمد إلى حفر أخدود وألقى فيه من أنكر عليه هذا الرأي ولم يرض به لأنه مخالف للشرائع السماوية وللفطرة الإنسانية السليمة (ونقل هذا القول عن علي رضي الله عنه) فعصى الملك العلماء ونفذ ما أراده، وبقي في الفرس هذا العمل جاريا إلى أن من الله عليهم بالإسلام الذي يحرم الزواج بالمحارم، فأبطلوه بينهم، والحمد لله على نعمة الإسلام الطاهرة المطهرة للمجتمعات.

ومن قائل أنه وقع هذا في اليمن، وفي ((صنعاء)) عاصمة البلاد، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم - وكانوا قوة - ففعل المشركون بالمؤمنين ما قصه علينا القرآن. ويميل البعض من رواة التاريخ إلى القول بأن القصة وقعت في بلاد اليمن، وكانت اليمن تحت حكم ملك يهودي يدعى ((ذو نواس)) وكان ظالما وطاغية، حاول بفعلته هذه فرض اليهودية على النصارى - نصارى نجران - وإرغامهم على ترك النصرانية التي اعتنقوها، لأنها دين جديد مالت نفوسهم إليها، وهناك قول بأنهم من الحبشة، وأيا ما كان مكانها وزمانها فالقصة ذات عبرة بليغة، وموعظة عظيمة، يستفيد منها المؤمنون الصادقون المتمسكون بعقيدتهم مهما كانت العقبات أو العقوبات التي تصيبهم وتعترضهم في سبيل التمسك بعقيدتهم. وقد روى أصحاب الحديث قصتهم هذه بروايات متعددة، وأخرجوها بطرق مختلفة، ترجع إلى زمانها ومكانها وأهلها، فتكتفي هنا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وبسنده عن صهيب الرومي رضي الله عنه كما أخرجها أيضا الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرهم. قال الإمام مسلم في صحيحه حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم قال: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه - إذا سلك - راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرة بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقل: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى وأنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويدوي الناس، من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه لفم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك

ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟؟، فقال: إني لا أشقى أحدا، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمئشار - المنشار - فوضع المئشار في مفرق رأس فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته - أعلاه - فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه - دحرجوه - فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل - اضطرب وتحرك حركة قوية - فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور- سفينة صغيرة - فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت - انقلبت - بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي - جعبة تجعل فيها السهام - ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس

في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في في موضع السهم فمات، فقال الناس:.آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي - رضيع - لها فتقاعست - تأخرت ولم تتقدم - أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه فاصبري فإنك على الحق) من صحيح الإمام مسلم، ج 18. انتهت القصة، وهي كما جاءت في صحيح الإمام مسلم، فالمحرقون في النار هم من مؤمني نصارى نجران فهم مؤمنون موحدون اضطهدهم وعذبهم ملك اليمن، المسمى ((ذو نواس)) اليهودي الحميري، كما جاء مصرحا به في بعض روايات قصص التاريخ القديم. وقالوا، إن هذا الملك عمل ما استطاع عمله لتكون اليهودية دينا يشمل كل أرجاء اليمن، وأمر بتحكيم التوراة في كل نازلة أمرا لابد منه، وبهذا يضمن لدينه الانتشار، ولكتابه الدوام والبقاء والاستمرار في الحياة، ومن أجل هذه الأمنية يجب أن يزول من طريق ذلك الدين كل دين آخر قد ينافسه ويقاسمه

الحكم والسيطرة، فلا عقيدة إلا عقيدة اليهودية، وهذا رأيه، ومن أجل تنفيذ رأيه هذا ارتكب ذلك الجرم الفظيع. رأينا أن قصة أصحاب ((الأخداود)) هذه تألفت من عنصرين وطائفتين، عنصر الأساس الذي وضعت عليه، وهو الملك والساحر، في جهة، والراهب والغلام في جهة أخرى، وعنصر آخر فيه الشعب المؤمن الموحد المتدين الذي لم يرض بترك دينه وعقيدته استجابة لتهديد الملك وأعوانه وأنصاره، أما الطائفتان فطائفة كافرة جاحدة لربها وخالقها، وطائفة مؤمنة بالله ربها وخالقها، غير أن هذه الطائفة المؤمنة ضعيفة ضعفا ماديا، والطائفة الأخرى قوية بقوة الملك وجنده وأعوانه الظلمة، إذ هي كافرة مشركة بالله، وهي قوية بيدها الأمر والنهي والحكم، فهي بقوتها تسلطت على الطائفة الضعيفة، ففتنتها في دينها بشتى أنواع الفتن لتردها عنه وعن عقيدتها التوحيدية في الله، ولكنها وجدتها صلبة قوية فيها، فلم تستجب لها، ولم ترهبها عندما أرادت منها خلاف عقيدتها، فاصطدمت فيها بصخرة العقيدة الصلبة القوية، وفشلت في محاولاتها تلك، كما فشلت محاولات مشركي قريش مع الضعفاء من أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، هذا هو عمل العقيدة إذا تجردت من الدواعي الخارجة عنها، فكلهم صبر على ما قام به الطغاة الظالمون نحوهم، حتى نصرهم الله على أعدائهم، وهذه هي عاقبة الثبات على

عقيدة الحق تتجدد في كل أوان وحين، وهكذا يتحقق وعد الله الذي وعد به أولياءه وأنصار دينه كما قال (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) وصدق الله في وعده. وبالتأمل والتدقيق في أمر تينك الطائفتين المذكورتين يتبين لنا ما يلي: أ - ملك جبار قاهر للضعفاء، غشوم في تصرفاته وتسيره لأمر الرعية، ادعى الألوهية، يحيط به أعوان ظلمة أعانوه على ظلمه، يرهبونه فيستجيبون له في كل ما يأمرهم به، فهم مسخرون بين يديه، يعملون له ما يشاؤه ويريده بكل طاعة وانقياد، لا من يعارضه منهم فيما يطلبه ويبتغيه، ولا من يكفه ويحول بينه وبين الفتك بالضعفاء من عباد الله الذين ليس لهم ناصر إلا هو. ب - وطائفة من رعيته أبت أن تقر له بدعواه ((الألوهية)) الباطلة، فآمنت بالله وحده ربها ورب العالمين، فأفردته بالطاعة والعبادة والعقيدة الصحيحة، وكانت عقيدتها في ربها ثابتة راسخة رسوخ الجبال، وليس من السهل الميسور تحويلها عنها إلى غيرها، وخصوصا إذا كانت هذه العقيدة التي حاول هذا الطاغية صرفهم إليها عقيدة باطلة، لا يستسيغها العقل البشري النير بنور الإيمان السليم من كل أوساخ الشهوات والأطماع، فصاحب هذه العقيدة لا يستجيب إلا لنداء

الحق ودعاء الخير والفضيلة والضمير الحي، فهي قد قبلت عذاب الدنيا ورضيت به في سبيل عقيدتها لتلقى ربها يوم القيامة طاهرة من رجس الشرك والمعاصي ظاهرة فوق المشركين. فتعرضت هذه الجماعة المؤمنة إلى أقسى أنواع التعذيب، إذ هو امتحان بالغ القساوة والشدة، فإنه لا أقسى ولا أشد من العذاب بالنار، إذ لا يعذب بها إلا الخلاق العليم من جحده وكفر به، وهو - وحده لا غير - ولي النعم، ومنزل النقم، له السلطة الكاملة على عباده كلهم، وإذا عصاه بعض عباده وكفر به عاقبهم بما يشاء لأن الخلق كلهم خلقه، فهو مولاهم ومالكهم، يتصرف فيهم بما تتطلبه حكمته، ويقتضيه تدميره وسلطانه، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يعذب - أو لا يحرق - بالنار إلا رب النار) أو كما قال، وكان في تلك الجماعة المؤمنة الموحدة أم مع طفلها الرضيع، وراهب - عابك - يعلم الناس الدين والتوحيد وطاعة الله، ورجال آخرون تمكنت عقيدة التوحيد من قلوبهم، فصعب عليهم تركها والتخلي عنها، أو انتزاعها منهم، فرضوا بالموت تحريقا بالنار في سبيلها، وكان فيهم غلام، يا له من غلام أراده الملك أن يكون ساحر القصر الملكي، غير أنه ترك ما انتدبه الملك إليه وأعرض عنه وتردد على مقر الراهب وتعلم منه الدين، فكان - الغلام - بما أخذه عن الراهب داعية إلى الله وإلى توحيده، فنفعه الله بعلمه، فنفعه في نفسه وبث به

التوحيد في أمته، فأنقذ به خلقا كثيرين من عذاب الله، وهذه خطة من تعلموا العلم لله، فنفعوا أنفسهم ونفعوا غيرهم، فأقبل على علم الدين وأعرض عن تعلم السحر - والسحر حرام في كل شريعة سماوية - فساقه الله إلى ذلك الراهب، حيث تعلم منه الحق، وترك السحر والساحر - ولا يفلح الساحر حيث آتى - وأعرض عن الساحر وكذبه وتعليمه له فنون السحر والشعوذة والغطرسة، وكان في تلك الجماعة غير هؤلاء المؤمنين المذكورين، من المؤمنين الموحدين لله ولسلطانه ممن شاهدوا قتل - بطل هذه القصة - وهو الغلام المؤمن الموحد حين رماه الملك بالسهم الذي أخرجه من كنانة الغلام المؤمن، وذكر الله عند رميه كما دله الغلام على هذا، فانقلب الجمع الغفير الحاضر لهذه الواقعة إلى مؤمنين صادقين بما شاهدوه وعاينوه، والجمع كثير العدد، فشاهد هذه العملية الإجرامية التي فعلها هذا الطاغية بجماعة آمنت بالله الواحد الأحد وتلك حيلة تنبه إليها الغلام المؤمن، وخفيت على الملك البليد، وهذا ما أراده الغلام المؤمن وقصده، وفي هذا الدعوة إلى دين التوحيد، بواسطة أعمال الملك الظالم، فكانت بتضحية هذا الغلام بروحه في سبيل الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأشخاص المغرورين، كما في جمع الناس في صعيد واحد لمشاهدة عجز الإنسان المغرور، وقدرة الله الواحد القهار دعوة أيضا إلى عقيدة التوحيد، وهي كما قلت حيلة لم يفطن إليها الملك الجبار

فخسر بها هذه المعركة التي دارت ها الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك، فعادت على الملك بالوبال والخسران في الدنيا، وما سيلقاه يوم القيامة من شديد العذاب والهوان أعظم، مما لا طاقة له بتحمله - فهو لا يطاق - فيعامل الله الخالق العظيم هؤلاء الجبارين الطواغي في الدنيا الضعفاء في الآخرة، يعاملهم بأقصى ما عاملوا به عباده المؤمنين - جزاء وفاقا - كما قال هنا في نهاية هذه القصة؟ (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). ولما عجز الملك - بقوته - على قتل الغلام المؤمن بالله، سواء حين أرسله مع أعوانه لإلقائه من رأس الجبل وأعلاه، أو مع أصحاب ((القرقور)) الخ، قال الغلام للملك، إنك لا تقتلني إلا بما أشير به عليك فقال له الملك: وما ذاك؟ فقال له خذ سهما من كنانتي الخ، ما مر، واجمع الناس في مكان واحد، وهنا جاءت الحيلة التي أرادها الغلام واللعبة الرابحة وهي إظهار قدرة الله لمن لم يؤمن بها، وتأثير عقيدة التوحيد في النفوس المؤمنة، أمام الجمهور العظيم لتؤثر فيهم فيؤمنوا، وذلك هو المراد، ففعل الملك بما أشار به عليه الغلام فأخذ السهم من الكنانة ووضعه في كبد القوس وقال باسم الله رب الغلام ورمى به الغلام فلما فعل ما قاله الغلام أصاب هدفه ونفذ السهم إلى صدغ الغلام فقتله، والناس في ذلك الجمع

الكبير يشاهدون هذه العملية، وهكذا ضحك الغلام على الملك، وأظهر للناس أن الملك ليس ربا بل هناك رب آخر غيره، وهو واحد وهو للناس أجمعين، وهو الفاعل المختار، ومنه تكون الموت والحياة، وقد رآى المشاهدون لهذه العملية تأثير الدعوة إلى الله في نفوس المؤمنين، كما تحقق المشاهدون - بالمعاينة - أن الملك ليس بإله، وأن هناك إلها آخر غيره، وهو رب العالمين كلهم، ملوكهم وعامتهم، فما وسع الحاضرين والمشاهدين لتلك العملية إلا الرضوخ والإيمان بالله وحده والكفر بالملك، وهذا ما أراده الغلام بالملك، فانقلب الموقف لصالح الغلام وعقيدة التوحيد، وخسر الشرك والملك وكل المؤيدين له. هكذا تكون التضحية في سبيل العقيدة والدعوة إليها، وهكذا يكون الجود والبذل بالأنفس والأرواح في سبيل الدين والعقيدة، وهذا هو الجهاد في الإسلام، وهو كما قال الشاعر الحكيم حين قال: الجود بالمال جود فيه مكرمة…والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال الله تعالى: ((إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)). هكذا أتبع الله ما ذكره في هذه القصة من أعمال الفئة الباغية، وما سلطته على الفئة الموحدة، أتبعه بنوع الجزاء الذي سيناله الظالمون، حيث اعتدوا على

عباده المؤمنين به، فهو يعاملهم بنوع ما عذبوا به عباده المؤمنين، فكما أحرقوهم بالنار فسينتقم للضعفاء المؤمنين من أولئك بالنار، ولكن أين عذاب نار جهنم من عذاب نار الدنيا؟ وما نار الدنيا إلا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، كما جاء في الحديث الصحيح فهناك فرق كبير - جدا - بين النارين فنار الدنيا - مع ضعفها - تصيب من سلطت عليه لحظة قصيرة، ثم تريح من كان فيها، أما بالموت وإما بالخروج منها والبعد عنها وعن حرها، أما نار جهنم فإنها دائمة وباقية وأبدية، لا تنطفئ ولا تطفأ ولا تخمد أبدا، كما قال الله فيها ((إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما)). سورة النساء الآية 56 ومثل هذه الآية وكم لها في القرآن من مثيلاتها - قوله تعالى ((والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور)) سورة فاطر الآية 36. أما أولئك الضعفاء المؤمنون بالله المحرقون بالنار فى الدنيا فإن الله سيعوضهم عما أصابهم من الظالمين بسكنى الجنان والمنازل الكريمة الدائمة جزاء صبرهم على تعذيبهم في ذات الله، ومن أجل إيمانهم به قال بعد ذكره لعذاب الظالمين الطاغين، ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار

ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد)) وفي أول القصة جاءت كلمة (قتل أصحاب الأخدود) والمعنى بكلمة ((أصحاب)) هو الملك ومن معه من أعوانه الظلمة، ويكفي فيهم كلمة ((قتل)) فمعناها لعن وطرد وأبعد - كما قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما - فهي دليل على غضب الله ومقته لهؤلاء الظلمة، وإبعادهم عن ساحة الرحمة الإلهية الواسعة، لأنهم لا يستحقونها بما ارتكبوه من فظيع الإجرام، مع عباد الله، وشناعة هذه الفعلة القبيحة التي تشعر بقساوة قلوبهم وانعدام الشفقة منها وأنهم تجاوزوا الحدود فيما أتوا به، فاستوجبوا لذلك أن تحل بهم نقمة الله ولعنته وغضبه، فجلسوا بعيدا - كما فعل النمرود مع إبراهيم - عن الأخدود يراقبون وينظرون أعمال أعوانهم وهم يعرضون المؤمنين على النار، فمن ارتد منهم عن دينه وكفر بالله - استجابة لهم - رضوا عنه وأحلوا سبيله وتركوه ومن رفض ما أرادوه واستمسك بعقيدته ودينه رموه في النار وأقحموه فيها، كما أخبر الله تعالى الرحمن الرحيم عنهم ((إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد)).

وفي النهاية أعلمنا الله القوي العزيز - كي نثبت على ديننا وعقيدتنا - بأن الصراع والنزاع موجود من قديم الزمان، وهو قائم بين التوحيد والشرك، وبين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكافرين على أنواع وأشكال وأساليب مختلفة، ولا يزال مستمرا بأنواعه وأشكاله إلى يومنا هذا، بل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ذلك امتحان يمتحن الله به عباده، ليظهروا للناس على حقيقتهم، وينكشف ما في ضمائرهم وسرائرهم فيعرفوا بما هو مستور في باطنهم، حتى لا يصدق الناس بالأقوال وحدها مجردة من الأعمال، وكم علم الناس وتعلموا من هذا الامتحان حقائق كانت مجهولة لديهم، وبالامتحان بان كل مخبوء وانكشف كل مستور، وذلك ما أراده الله العالم بما في السرائر، وبمن هو أهل للإيمان الكامل الذي يثبت عليه ولو يلقى في النار، ومن اتخذ الإيمان (دثارا لا شعارا) غير أن الله عود أهل التوحيد والإيمان النصر على خصومهم أعداء الله وأعدائهم، فتكون العاقبة لهم في كل موقف وقفوه تجاه أعدائهم، ذلك ما وقع في كل موقف وحال مضى، والعقوبة على أعدائهم مهما امتد الزمن وطال كما قال (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) سورة آل عمران الآية 126، وصدق الله العظيم.

فرئيس أصحاب الأخدود الملك ((الحميري)) ذو نواس اليهودي قد أحرق في الأخدود كل من تتصر من أهل نجران لأن أهل نجران - باليمن - دانوا بالنصرانية، قبل ظهور الإسلام، وهكذا شأن الظالمين مع المؤمنين، وقد قدم منهم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا اختيارا منهم، بلا تحريق ولا تعذيب، لسماحة صدر الإسلام، وقد بعث إليهم الرسول من علمهم من الصحابة، وقصتهم مذكورة في الوفود.

- 4 - بلال بن رباح

- 4 - بلال بن رباح أحد المستضعفين المعذبين من الصحابة مثال من أمثلة أبطال العقيدة الإسلامية ــــــــــــــــــــــــــــــ هو بلال ين رباح مولى أبى بكر الصديق وعتيقه رضي الله عنهما، ويكنى أبا عبد الله وقيل أبا الحكم، وقيل أبا عبد الرحمن وهو من مولدي مكة المكرمة وقيل مولدى السراة، واسم أمه ((حمامة)) وكانت لبعض بني ((جمح)) وهو حبشي الأصل، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلال سابق الحبشة) - يعني إلى الإسلام - وكان بلال من مستضعفي الصحابة ومؤمنيهم الأولين، وكان يعذب العذاب الشديد من أجل عقيدته التوحيدية - فيصبر على العذاب - وهذا حين أسلم وأبى أن يرجع عن دينه وعقيدته، فما أعطى معذبيه - قط - كلمة ترضيهم وتسخط عليه ربه، مما يريدونه منه، حيث طلبوا منه أن يرجع عن دينه ((الإسلام)) الذي هداه الله إليه، إذ كان من السابقين إليه، وقد ألح عليه معذبوه - كثيرا - وهو تحت العذاب والسياط، أن يكفر بالله

من أنواع التعذيب له

وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيأبى أن يجيبهم إلى شيء مما يريدونه، بل يصارحهم - ليغضبهم - ويقول لهم في رفض وإباء لما أرادوه منه - أحد أحد - ويقول: لو كنت أعرف كلمة أحفظ - أغيظ - لكم منها لقلتها لكم، وكان الذي يتولى تعذيبه المشرك الجبار (أمية بن خلف) وهو إذ ذاك عبد مملوك للمشركين. وكان إذا اشتد عليه المشركون في التعذيب والتنكيل به يقول: أحد أحد، فيستريح قلبه بذكر الله، وينسى العذاب الذي هو فيه، فيقول له المشركون قل كما نقول نحن فيقول لهم بلسان المؤمن الثابت في إيمانه، القوي في عقيدته: أن لساني لا يحسنه: يعني كلمة الكفر بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ما طلبوه منه ليقلعوا عن تعذيبه. من أنواع التعذيب له: ذكر ابن سعد - وغيره - في الطبقات الكبرى: أن بلالا أخذه أهله - أي مالكوه - فمطوه - أي مدوه - وألقوا عليه من البطحاء - أي الزبل - وجلد بقرة، فجعلوا يقولون: ربك اللات والعزى، وهو يقول أحد أحد، فهم يحاولون أن يردوه عن دينه دين التوحيد، ليشرك مع الله الأوثان والأصنام، فكان لا يجيبهم إلا بكلمة التوحيد، وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قال فأتى عليه أبو بكر الصديق

رضي الله عنه، فقال لمعذبيه: علام تعذبون هذا الإنسان؟ وطلب منهم أن يبيعوه له فقبلوا - بعد محاولات - فاشتراه منهم بسبع أواق وقيل بتسع وقيل بخمس، فأعتقه لله وفى سبيل الله، فذكر هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: الشركة يا أبا بكر، فقال: قد أعتقته، فتم عتقه على يد أبي بكر وأزال عنه قيد العبودية لغير الله الخالق الحكيم، وكان بلال لأبى بكر خازنا ورسول الله مؤذنا. وروى عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كان يقول: أبو بكر سيدنا واعتق سيدنا (يعنى بلالا) وجاء في بعض الأخبار التي تعرضت لمحنة بلال أن أبا بكر مر ببلال ومم يصنعون به ما يصنعون من ألوان التعذيب والتنكيل، فقال لمعذبه (أمية بن خلف) ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ فقال له أمية: أنت أفسدته فأتقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى وهو على دينك أعطيكه به قال: قبلت، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذاك وأخذ بلالا منه فأعتقه، هذه إحدى روايات عتق بلال، ثم أعتق معه سبعة على الإسلام - قبل أن يهاجر من مكة - ست رقاب وبلال سابعهم. قال ابن اسحق: وكان بلال مولى أبى بكر رضي الله عنهما لبعض بني جمح، مولدا عن مولديهم، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف

ملاحظة على هذه الرواية

ابن وهب بن حذافة بن جمح يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له (لا والله) لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيجيبه وهو في ذلك البلاء الشديد، أحد أحد، ولو أعلم كلمة أحفظ - أكثر غيظا - لكم منها لقلتها لكم زيادة في غضبكم عني. وقال ابن اسحق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به - بلال - وهو يعذب بذلك العذاب وهو يقول أحد أحد فيقول له ورقة أحد أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف وعلى من يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانا، (أي لأجعلن قبره موضع حنان وزيارة) أي عطف ورحمة فأزوره كما تزار قبور الصالحين والشهداء للعبرة والذكرى والقدوة الحسنة، هذه رواية ابن إسحاق في السيرة. ملاحظة على هذه الرواية: قال ابن كثير في السيرة النبوية بعد أن ذكر ما قاله ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه من مرور ورقة ابن نوفل على بلال وهو في العذاب، الخ قال ابن كثير: قلت وقد استشكل بعضهم هذا، من جهة أن ورقة بن نوفل توفي بعد البعث في فترة الوحي

من هم أول من أظهروا الإسلام

وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول (يا أيها المدثر) فكيف يمر ورقة ببلال وهو يعذب؟ وفيه نظر، فابن كثير لم يرض بما قاله ابن إسحاق ولم يطمئن قلبه إليه لما ذكره من اختلاف الزمان. وقد نال تآخي رسول الله بين الصحابة رضوان الله عنهم بلالا، فقد آخى بينه وبين عبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب، وقيل بل كانت هذه المؤاخاة بينه وبين أبي رويحة الخثعمي، وقيل بينه وبين أبي عبيدة ابن الجراح. من هم أول من أظهروا الإسلام؟ ذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى عند كلامه على ترجمة بلال رضي الله عنه قال: أخبرنا جرير ابن عبد الحميد عن منصور بن مجاهد قال أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار بن ياسر وأمه سمية، قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وقبيلته وأخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فأجابوهم - في بعض الأوقات - إلى ما طلبوه منهم، من كلمات ترضيهم، فيها نوع من الكفر بالله - ظاهرا - أما قلوبهم فهي عامرة بالإيمان بالله وحده، مثل ما فعل

عمار بن ياسر رضي الله عنه، فتد أجابهم إلى بعض ما أرادوه منه، ونطق ببعض كلمات الشرك كما يأتي في ترجمته إن شاء الله، إلا بلالا رضي الله عنه، فإنه لم يعطهم أي شيء مما طلبوه منه، فقد هانت عليه نفسه وذاته في الله وفي دين الله، ولم يقبل أن يرضي المشركين بشيء ما طلبوه منه، بل كان يفوه بكل كلمة تغضبهم كما مر سابقا، حتى ملوه وملوا الحديث معه، من أجل ما يسمعهم من إظهار وحدانية الله في كلمة صريحة مدوية - لا غموض فيها ولا تورية - تصم آذانهم وتؤذي مشاعرهم نحو آلهتهم المعظمة في قلوبهم، ولما أعياهم أمره جعلوا في عنقه حبلا من ليف وسلموه إلى صبيانهم، ثم أمروهم أن يشتدوا عليه في التعذيب، ويسرعوا به بين أحشبي - جبلي - مكة، فهو في أيديهم، وهم يفعلون به ما أمروا أن يفعلوه به، وهو يقول أحد أحد، أي لا شريك مع الله في ألوهيته، وهذا هو الثبات على العقيدة وأيم الله، حتى في الأموال والشدائد. قال الشعبي: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أول الناس إسلاما؟ فقال: أبو بكر، أوما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة… فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها… بعد النبي وأوفاها بما حملا

بلال أول مؤذن في الإسلام

الثاني التالي المحمود مشهده…وأول الناس منهم صدق الرسلا وقد أصاب أبا بكر أذى كثير من الشركين من أجل إسلامه، وهم الذين حاربوا الدعوة الإسلامية في أول بزوغ شمسها لأنه كان أول رجل آمن وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا مفرق رأسه، مما جبذزه بلحيته، وكان رجلا كثير الشعر. بلال أول مؤذن في الإسلام: شرع الله الآذان في الإسلام لحضور المسلمين الصلاة المفروضة عليهم وهي الصلوات الخمس والآذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة وفيه دعوة المسلمين ونداؤهم لأداء هذا الفرض العظيم في الإسلام وهو الصلاة، وسواء أكان الأداء لها في المساجد أو في أي مكان كان. هذا وقد شرع الله الأذان للصلاة في السنة الثانية من الهجرة، حين كان المسلمون يجتمعون إليها بلا نداء ولما ازداد عددهم بانتشار الإسلام، وتفرق في البلاد وأطرافها للقيام بأعمالهم المعاشية، كانوا في حاجة ماسة إلى دعوتهم لأداء الصلاة، وتنبيههم إلى حضور وقتها حتى لا يتأخروا بها عن وقتها، وكانت دعوة اليهود إلى صلواتهم بالبوق، أو الصور، ودعوة

النصارى بالجرس أو الناقوس، فتأكدت الحاجة إلى دعوة المسلمين بشيء ينبههم لها، فشرع الله لهم الآذان لذلك، كي يقبلوا إلى المساجد لأداء الفرض الواجب عليهم وهو الصلاة، فكان بلال أول من أذن في الإسلام، واستمر على هذا مدة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو مؤذنه حضرا وسفرا وكان إذا فرغ من الآذان وأراد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن، وقف على باب حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال حي على الصلاة حي على الفلاح يا رسول الله، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته ورآه بلال ابتدأ الإقامة. وكان للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين هم بلال، وأبو محذورة، وعمرو بن أم مكتوم الضرير، فإذا غاب بلال أذن أبو محذورة، وإذا غابا أذن عمرو بن أم مكتوم. ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة سنة ثمان من الهجرة، أمر بلالا أن يؤذن على ظهر الكعبة المشرفة - لانعدام المئذنة يومئذ - فصعد بلال فوقها وأذن، وقد أزعج المشركين وأقلقهم صوت هذا الحبشي وهو يؤذن من فوق ظهرها إذ لم يكونوا يسمحون لأحد غيرهم بالصعود فوقها، إذ الإسلام محا جميع الفوارق العرقية والبشرية، فكل المسلمين سواء، ويسعى بذمتهم أدناهم

بلال حامل العنزة

بلال حامل العنزة: مما أكرم الله به بلالا رضي الله عنه زيادة على أن إسلامه كان في أول المسلمين، وبلاؤه البلاء المر والبلاء الشديد، وصبره على كل ما أصابه في سبيل الله، فقد أكرمه الله بكرامة أخرى، حيث اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون حامل عنزته، فقد جاء عن ابن عمر رضي عنهما قال: كانت العنزة تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد يحملها بلال المؤذن، وكان يركزها بين يديه، والمصلى يومئذ فضام لتقوم مقام ((السترة)) التي توضع أمام المصلي، فإذا أراد أحد المارة أن يمر أمام المصلي مر من ورائها، فتكون السترة حائلا بين المار وقت مروره وبين المصلي وقت صالته، والسترة من سنن الصلاة إذا كان المصلي يصلي وأمامه فضاء يمر منه الناس وذلك حتى لا يقطع المارة على المصلي صلاته، ولا يشغلوه عنها وقت مرورهم، وقد زهد في فعلها المسلمون في الوقت الحاضر، فهي من السنن النبوية التي تنوسيت، وكاد المصلون أن لا يعرفوها إلا القليل منهم، فبلال هو الذي كان يحملها ويمشي بها أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شرف آخر حازه بلال بفضل إيمانه ويقينه الذي لم يزعزعه أو يضعفه التهديد والوعيد بل حتى والعذاب الشديد, والعنزة: هي عود من خشب

أطول من العصا وأقصر من الرمح، في أسفلها وطرفها الذي يمس الأرض زج كزجر الرمح، - الزج حديدة - يتوكأ عليها الشيخ الكبير ومن تقدمت به السن، وذلك لعجزه عن السير بدونها، وهي شبه العكاز التي نعرفها الآن عندنا. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى بسنده عن حفص بن عمر بن سعد عن أجداده وغيرهم أنهم أخبروه أن النجاشي الحبشي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عنزات، فأمسك واحدة لنفسه، وأعطى علي بن أبي طالب واحدة، وأعطى عمر بن الخطاب واحدة، فكان بلال يمشي بتلك العنزة التي أمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بين يديه في يومي العيد - الفطر والأضحى - حتى يأتي المصلى فيركزها بين يديه فيصلي إليها ثم كان يمشي بها بين يدي أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، ثم كان سعد القرظ يمشي بها بين يدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في العيدين، فيركزها بين أيديهما فيصليان إليها، قال عبد الرحمن بن سعد، وهي هذه العنزة التي يمشى بها اليوم بين يدي الولاءة. وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر بن محمد ابن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن بلال ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبر، فكان إذا قال: أشهد أن

بلال لا ينكر أصله

محمدا رسول الله انتحب الناس في المسجد - يعني بكوا بالصوت وذلك هو النحيب - فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر: أذن، فقال إن كنت إنما أعتقتني لأكون معك فسبيل ذلك - وفي رواية فاحبسني - وإن كنت اعتقتني لله فخلني ومن اعتقتني له، فقال، ما اعتقتك إلا لله، قال فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدلك إليك، قال فأقام حتى خرجت بعوث الشام فسار معهم حتى انتهى إليها. وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر لما قعد على المنبر يوم الجمعة قال له بلال: يا أبا بكر، قال: لبيك، قال اعتقتني لله أو لنفسك؟ قال: لله، قال: فأذن لي حتى أغزو في سبيل الله، قال: فأذن له فذهب إلى الشام فمات ثم. بلال لا ينكر أصله: فقد جاء عن قتادة أن بلالا تزوج امرأة عربية من بني زهرة، وجاء في طبقات ابن سعد قال: خطب بلال وأخوه، إلى أهل بيت من اليمن فقال: أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تنكحونا فالحمد لله، وإن تمنعونا فالله أكبر، وجاء بنو أبي الكبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: زوج أختنا فلانا فقال لهم: أين أنتم عن بلال؟ وللمرة الثالثة وهم

يطلبون منه أن يزوج أختهم من فلان، فقال لهم: أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عن بلال رجل عن رجال الجنة؟ قال: فأنكحوه. وقال أصحاب السير: كان الناس يأتون بلالا فيذكرون فضله، وما قسم الله له من الخير، فكان يقول لهم إنما أنا عبد حبشي كنت بالأمس عبدا. وكان المشرك (أمية بن خلف) الجمحي ممن يعذبون بلالا، بل كان هو أكبر معذبيه، فكان يوالى عليه العذاب والإهانة والمكروه، فكان من قضاء الله وقدره أن مكن الله بلالا من عدو الله وعدوه أمية بن خلف يوم غزوة بدر فقتله، حسبما ورد هذا في كتب السيرة، فقد جاء فيها أن بلالا لما أبصر عدو الله أمية بن خلف صاح وقال: أمية بن خلف عدو الله، لا نجوت إن نجا، وأجهز عليه فقتله، وأخذ ثأره وحقه منه، لما كان يفعله به من أنواع التعذيب والتنكيل والإهانة، فقال فيه أبو بكر رضي الله عنه. هنيئا زادك الرحمن خيرا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال ذلك أن أمية بن خلف - معذب بلال - كان يخرجه إذا حميت شمس الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة - كما مر - ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: (لا والله) لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيجيبه

ومن فضائله رضي الله عنه

بلال وهو في هذا البلاء العظيم أحد أحد، وقيل يقول له: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد. هذا هو إيمان هذه الشخصية العظيمة في عقيدتها، والصلبة في دينها، وبهذه العقيدة الفذة تغلب على كل الصعاب والعقبات التي اعترضت سبيله، في كل مراحل حياته الإسلامية. فهل يوجد في المسلمين - اليوم - من له شيء من إيمان هذا الرجل العظيم؟ من غير اعتبار اللون والوطن. رواة الحديث عنه: روى الحديث عن بلال وأخذ عنه كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين منهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق، وعلي بن أبي طالب، وعالما الصحابة عبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، كما روى عنه جماعة من كبار التابعين بالمدينة والشام والكوفة وقال علي بن عمر: روى عن بلال جماعة من الصحابة وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأسامة ابن زيد، وعبد الله بن عمر، وكعب بن عجرة والبراء بن عازب، وغيرهم. ومن فضائله رضي الله عنه: روى ابن وهب وابن القاسم عن الإمام مالك قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال (يا بلال إني دخلت الجنة، فسمعت فيها خشفا - والخشف

الوطء بالإقدام والحس - أمامي قال: فقلت: من هذا قال: بلال، قال: فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى). وجاء أنه كان إذا أذن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الصحابة بعهد الرسول عليه الصلاة والسلام فبكوا لذلك، وروى الإمام الذهبي في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) عن زيد بن أسلم عن أبيه قال قدمنا الشام مع عمر بن الخطاب، فأذن بلال فذكر الناس النبي صلى الله عليه وسلم، فلم أر يوما أكثر باكيا منه. وقال الذهبي أيضا: قال أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الصبح (حدثذي بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت الليلة خشفة - حركة - نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملا أرجى من أني لم أطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهارا إلا صليت لربي ما كتب لي أن أصلي). ومن المعلوم أن الذي سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من بلال إنما هو روحه لا جسده، فإن جسده لا زال لم يدخل الجنة، وفيه أيضا أنه دعا بلالا فقال له: (بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا وسمعت خشخشتك - الخشخشة حركة لها صوت كصوت السلاح - أمامي وأنت على قصر من ذهب، فقال بلال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث إلا توضأت، ورأيت أن لله علي ركعتين أركعهما، فقال: بهما).

وتوفي بلال رضي الله عنه بدمشق، وقيل مات في ((داريا)) وحمل فأقبر في الباب الصغير، وقيل دفن بباب كيسان، أما داريا فهي قرية كبيرة من قرى دمشق بالغوطة مشهورة، وكانت وفاته سنة عشرين من الهجرة، وقيل سنة إحدى وعشرين، ودفن بدمشق عند الباب الصغير في مقبرة دمشق، على الخلاف كما مر، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل ابن سبعين سنة ويقال أنه كان ترب أبى بكر رضي الله عنهما، وقد شهد بلال بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما حضرته الوفاة قال: (غدا نلقى الأحبه، محمدا وحزبه) ولما سمع امرأته تندبه وتقول: وا ويلاه - على عادة النساء عند مشاهدة موت ذويهن - فقال هو وافرحتاه، رحمه الله ورضي عن هذا الرجل العظيم الذي كان من السابقين الأولين الذين واكبوا الدعوة الإسلامية من أولها.

- 5 - عمار بن ياسر وأسرته

- 5 - عمار بن ياسر وأسرته من أول من أظهروا الإسلام: ــــــــــــــــــــــــــــــ هو أبو اليقظان عمار بن ياسر، وأمه سمية البرة التقية المؤمنة الصالحة، أول شهيد في الإسلام، وأبوه ياسر وأخوه عبد الله، وهذه الأسرة الطيبة الكريمة على الله من المستضعفين، ومن السابقين إلى اعتناق الإسلام وعقيدة التوحيد ونبذ الشرك وعبادة غير الله تعالى من معبودات الجاهلية، وكان إسلام عمار بعد بضعة وثلاثين ممن أسلموا، وهو وأمه ممن عذبوا في الله العذاب الشديد. وأسلم عمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، أين كان يجتمع بالمسلمين خفية لتعليمهم قواعد الدين ليكونوا ثابتين على عقيدتهم فلا يفتنهم المشركون، والوقت ذاك وقت فتنة، أسلم هو وصهيب بن سنان الرومي في وقت واحد. قال عمار: لقيت صهيب بن سنان على باب ((دار الأرقم)) ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقلت له: ما تريد؟ فقال لي: وما تريد أنت؟ فقلت: أريد

أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، فقال لي: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يوما على ذلك حتى أمسينا ثم خرجنا، ونحن مستخفون، وكان إسلام عمار وصهيب بعد بضع وثلاثين رجلا كما سلف. وكان عمار بن ياسر من مستضعفي الصحابة الذين كانوا يعذبون في مكة من مشركيها ليرجعوا عن دينهم ولكنهم كانوا يأبون هذا الذي يأمرهم به المشركون. والمستضعفون قوم لا عشائر لهم في مكة تحميهم من طغاة أقوياء المشركين فكان العذاب ينزل عليهم بلا شفقة ولا حنان ولا خوف من أحد، إذ ليس لهم منعة ولا قوة غير قوة الله الواحد القهار، فكانت قريش تعذبهم بالرمضاء في وسط النهار، ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار وصهيب يعذبان العذاب الشديد حتى ما يدرى أحدهما ما يقول، فبمواقف هؤلاء المؤمنين وبصبرهم على ما أصابهم من شديد العذاب ظهر الحق وانتصر على الباطل وأعوانه وأنصاره، وانتشرت عقيدة التوحيد، وهي العقيدة الصحيحة. ذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى نسب عمار بن ياسر ونسب أمه سمية فقال: هو عمار بن ياسر بن عامر ابن مالك بن كنانة ... الخ، ثم قال: كان قدم ياسر ابن عامر وأخواه الحارث ومالك من اليمن إلى مكة يطلبون أخا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وبقي

دار الأرقم

ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وزوجه حذيفة أمة له يقال لها ((سمية بنت خباط)) (¬1) فولدت له عمارا، فأعتقه - عمارا - أبو حذيفة، ولم يزل ياسر وعمار مع أبي حذيفة إلى أن مات، وجاء الله بالإسلام فأسلم ياسر، وسمية وعمار وأخوه عبد الله بن ياسر وكان عمار يكنى أبا اليقظان. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب وصهيب، وعمار، وأمه سمية. دار الأرقم: ودار الأرقم بن أبي الأرقم كانت أول مركز - تجمع فيه المسلمون - وخلية من مراكز وخلايا انبثاق نور الإسلام، إذ كان المسلمون لا يجرؤون على الجهر بالإسلام وإقامة شعائره أمام الناس، كالصلاة، فلا يستطيعون إظهارها، وكانوا يجتمعون سرا في هذه الدار، إلى أن أظهر الله الدين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخرج بهم إلى الحرم وأدوا الصلاة فيه، - والمشركون ينظرون ويسمعون - فلم يمنعهم أحد، ودار الأرقم مقرها بجوار ((باب الصفا)) في مكة المكرمة ولهذه الدار وصاحبها الشجاع فضل ومزية في نشر الإسلام ودعوته ¬

_ (¬1) خباط بضم المعجمة وتشديد الموحدة، الإصابة ج 8 ص 113 - 114.

محنته وفتنته مع معذبيه

محنته وفتنته مع معذبيه: قال الكثيرون ممن كتبوا في سيرة الصحابة رضي الله عنهم: ان المشركين عذبوا من أسلم وأظهر إسلامه شديد العذاب ليرتدوا عن دينهم ويكفروا بالله الواحد الأحد وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يطلبون منهم النطق بكلمة الشرك ليكفوا عن تعذيبهم، وإلا استمر تعذيبهم ما داموا على الإسلام، فمن أولئك المعذبين من أبى أن يعطيهم شيئا مما طلبوه كبلال رضي الله عنه - كما تقدم - عند بيان موقفه الصلب وعقيدته في الله وفي رسوله وفى الإسلام ومنهم من أعطاهم ذلك - ظاهرا - ليخففوا عنه العذاب، وثبت على عقيدة التوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في باطن نفسه، كعمار بن ياسر، فقد ذكر جل المفسرين للقرآن الكريم أن هذه الآية وهي قوله تعالى: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) (¬1) نزلت في عمار ابن ياسر ومن عذب من المستضعفين، حين عذبهم المشركون، وشددوا عليهم في العذاب، وقالوا له - عمار - لا نكف عن عذابك حتى تكفر بمحمد فوافقهم على ما طلبوه منه - مكرها - وجاء معتذرا إلى ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 106.

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وشكا له ما أصابه من ذلك العذاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تجد قلبك)؟ قال مطمئنا بالإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد، وجاء في بعض الروايات عند البيهقي وغيره أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم تحت الضغط عليه بل وذكر آلهتهم بخير وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما تركت حتى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير، فقال له: (كيف تجد قلبك؟) قال مطمئنا بالإيمان فقال له: (إن عادوا فعد) وفي هذا أنزل الله تعالى قوله ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)). ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له - ظاهرا لا باطنا - أن يقبل ويفعل ما طلب منه فعله إبقاء على حياته، كما فعل عمار بن ياسر وله أن يمتنع عن إجابتهم لما طلب منه كما فعل بلال رضي الله عنه، فإنه أبى أن يعطي شيئا للمشركين، وهم يعذبونه ويفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في ساعة اشتداد الحر، ويأمرونه بقول كلمة فيها ما يرضيهم، فيأبى عليهم هذا، ويقول لهم: أحد أحد، بل ويقول لهم: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم لقلتها لكم زيادة في غيظكم وغضبكم. وبناء على ما سلف بيانه من موقف عمار بن ياسر مع معذبيه، قال المفسرون لكتاب الله: أن الآية السابقة: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن

بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) إن هذه الآية تشمل نوعين ممن كفر بالله وأشرك معه غيره، أو جحده بتاتا. النوع الأول: من كفر وجحد وجود الله، أو وحدانيته وهو في كفره مختار وكفر عن رضى منه، وانشرح صدره له، فهذا حكمه في الإسلام أنه كافر، قولا ونية وقصدا، وعملا، لانشراح صدره بالكفر، فهو ممن غضب الله عليه، لقوله تعالى ((فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) وذلك لأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة، وآثرها عليها وأولاها كل عنايته واهتمامه في حياته، ولم يستجب لدعوة الله له إلى التوحيد، فإن كان كفره عن وراثة من أهله، فإنه يدخل في عامة الكفار، وحكمهم بين في الإسلام، وأما من كفر بالله - مختارا - بعد الإيمان به والإقرار له بالألوهية والتوحيد، وهو ما أشارت إليه الآية وصرحت به فإنه يعتبر فيه الارتداد عن الإيمان إلى الكفر، فإنه يسمى مرتدا - راجعا وعائدا من الإيمان إلى الكفر - وحكمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من بدل دينه فاقتلوه) أخرجه أئمة الحديث، كالبخاري وأحمد وأصحاب السنن، عن ابن عباس رضي الله عنه، فهو قد انتقل من صف المؤمنين بالله، إلى صف الكافرين الجاحدين له، وهذا منه تلاعب واستهزاء بدين الله، فكانت تلك عاقبته وعقوبته، فهو قد ارتد عن دينه

مختارا، لهذا جازاه الله وعاتبه على ذلك بالعذاب العظيم، في الدنيا والآخرة. أما النوع الثاني: وهو من أظهر خلاف ما أبطن كما فعل عمار بن ياسر مع معذبيه، فأظهر لهم خلاف ما أبطن، وقال ما قال اتقاء لشرهم وتعذيبهم له، وذلك ليخففوا عنه العذاب، فهذا لا حرج عليه في سلوكه مع معذبيه أعداء الله هذا المسلك، إذا أظهر لهم أنه موافقهم على ما طلبوه منه - ظاهرا فقط - فقد طلبوا منه الكفر بالله وبالدين وبالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكفوا عن تعذيبه، فأجابهم إلى ما طلبوه منه واتبع رأيهم في الظاهر، فهذا لا شيء عليه كما تقدم ولا يخاف عذاب الله على كفره به - ظاهرا - لأنه اتقى به فقط عذاب معذبيه، والله جل جلاله قال: ((إلا أن تتقوا منهم تقاة)) سورة آل عمران، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). رواه ابن ماجه من أبي ذر رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عند ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي كلا سند الحديتين للعلماء مقال. ولبيان كل ما تقدم يظهر هذا في قوله تعال: ((ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم

عذاب عظيم)) فانشراح الصدر في الآية كناية عن القبول الاختياري والرضى بالأمر الذي مالت إليه النفس ورضيت به واختارته عقيدة وعملا، فمن وسع صدره وقلبه وعقله لقبول الكفر بالله والردة بعد الإيمان، من غير أن تنازعه نفسه في هذا الرضى والقبول، فهذا كان مختارا من غير اضطرار، فانشرح صدره ورضي قلبه بقبول الكفر والجحود، غير مكره عليه ولا كاره له، فهذا ملعون ومغضوب عليه من الله، الإله الواحد لجميع المخلوقات فهذا ظلم وقع من ظالم لذا وجبت معاقبته، وهذا العذاب العظيم جزاء كفره وجحوده، وهو عذاب جهنم الذي أعده الله لمن كفر به وجحده. فالذي نطق بكلمة الكفر مكرها عليها بالتهديد بالقتل كعمار بن ياسر رضي الله عنه، كان الإكراه في حقه عذرا مقبولا، فإن نطقه بها يطبق عليه قوله تعالى: ((إلا أن تتقوا منهم تقاة)) سورة آل عمران، ذلك أن العلماء قالوا: أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان راض به، ولا تبين منه زوجته - أي تطلق عليه - ولا يحكم عليه بالردة والكفر بعد الإيمان، ذلك أنه يدخل في باب ((التقية)) المرخص فيها شرعا، لتكون ملجأ للنجاة من ظلم الظالمين.

بعض ما كان المشركون يعذبون به المؤمنين

بعض ما كان المشركون يعذبون به المؤمنين: ذكر ابن الأثير في كتابه ((أسد الغابة)) نقلا عن محمد بن سيرين فقال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمار بن ياسر وهو يبكي يدلك عينيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك؟ أخذك الكفار فغطوك في الماء - وفي رواية في النار - فقلت كذا وكذا، فإن عادوا لك فقل كما قلت؟) وهو يقصد من هذا أن الكفار ألزموه بسب الرسول وشتمه، والنطق بكلمات الشرك، إذ لا حرج على من أكره على ذلك. وقال ابن الأثير أيضا عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهم: أكان المشركون يبلغون من المسلمين في العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟؟ فقال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى أنه ليعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له، اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم، وحتى أن ((الجعل)) - نوع من الخنافس- ليمر بهم فيقولون له: هذا إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم لما يبلغون من جهد. هذا هو الصحابي الجليل عمار بن ياسر وبعض ما أصابه من مشركي قريش وهو مخزومي من بني مخزوم، وقد هاجر إلى الحبشة فيمن هاجر من الصحابة حين اشتد عليهم المشركون في التعذيب، وشهد بيعة

الرضوان وبدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلى ببدر البلاء الحسن، كما شهد ((اليمامة)) فأبلى فيها أيضا، وفيها قطعت أذنه رضي الله عنه. وأرض اليمامة معروفة، وهي جزء من بلاد العرب، معدودة من تراب ((نجد)) وكان في اليمامة إذ ذاك ((مسيلمة)) الكذاب الذي ادعى النبوة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرب اليمامة وقعت في السنة الثانية عشرة من الهجرة فقد ارتد من ارتد من بعض القبائل العربية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنعوا الزكاة فلم يدفعوها إلى بيت المال كما كان العمل جاريا في زمنه، ومن تلك القبائل قبيلة بني حنيفة باليمامة بزعامة كذابها مسيلمة النبي الكذاب، فجهز لهم الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاثة جيوش فكان ثالثها وآخرها - وهو جيش النصر - القاضي عليها بقيادة سيف الله المسلول على الكافرين ((خالد بن الوليد)) رضي الله عنه، على ما ورد في كتب التاريخ، كما مر، ودارت الحرب بين حنيفة وجيش الإسلام بشدة، وقتل فيها زعيمها مسيلمة الكذاب، كما قتل فيها من الصحابة رضوان الله عنهم عدد وافر وخاصة حفظة القرآن الكريم وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يفكر في جمع القرآن مخافة دروسه وذهابه بذهاب حفظته، فأشار على أبي بكر بذلك، فامتنع الخليفة الأول أولا ثم شرح

الله صدره له فيما بعد، حيث توقف في الجمع والنسخ، لأنه عمل لم يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد قتل زعيم أهل الردة ((مسيلمة)) وانتصار جيش الإسلام وانهزام حنيفة جرى الصلح بينهم وبين القائد البطل خالد رضي الله عنه وعن جميع الصحابة حماة الإسلام والعقيدة، وانتهت حروب الردة. وعمار بن ياسر عن السابقين إلى الإسلام كما تقدم، وقد شارك في بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، اقتداء بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وذلك حين كان يعمل مع أصحابه في بنائه ليرغبهم في العمل، وكان عمار يحمل اللبن - الطوب - وقد أثقله إخوانه به، إذ كانوا يحملون لبنة لبنة ويحملونه هو لبنتين اثنتين، فشكا لرسول الله ما يلاقيه من إخوانه الصحابة، قال: يا رسول الله قتلوني، - وهو يمزح - يحملون علي ما لا يحملون هم، وقد ذكرت أم سلمة رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته - الوفرة ما نزل من الشعر على الأذنين - بيده الشريفة، وكان عمار رجلا جعد الشعر، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: (ويح ابن سمية، ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية). قال أصحاب السير: أن أول من بنى مسجدا هو عمار بن ياسر، يعنون بهذا مسجد ((قباء)) ذلك أن

عمارا هو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه وقال: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن نجعل له مكانا إذا استظل من قائلة أن يستظل قيه، ويصلي فيه، فجمع حجارة وبنى مسجد ((قباء)) فهو أول مسجد بني على ما قيل، إذ هو الذي جمع الحجارة له فلما أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم استتم بنيانه عمار. وعندما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كانت مؤاخاة عمار بن ياسر مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.

- 6 - سمية

- 6 - سمية أما أمه ((سمية)) رضي الله عنها - أول شهيد في الإسلام - فهي أيضا لم تنج من تعذيب المشركين، ولم يكف فيها التعذيب وحده، بل وصل بهم الأمر إلى قتلها، فقد قتلها عدو الله، أبو جهل عمرو بن هشام حيث وجأها - ضربها - بحربة من حديد في قبلها - وقيل في قلبها - والأول أشهر فماتت، فهي أول شهيد في الإسلام فكان هذا الشهيد امرأة، وهكذا ينال المسلمين ما ينالهم من أعدائهم بلا فرق وبلا تمييز بين الرجال والنساء فهم فيه سواء، كما حدث أيام ثورة التحرير الجزائرية، من الجيش الفرنسي الاستعماري. وشهد عمار بن ياسر قتال المرتدين - في حرب اليمامة - التي قتل فيها مسليمة النبي الكذاب، كما تقدم فقد روى نافع عن ابن عمر قال: رأيت عمارا

يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إلي، قال: وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تذبذب - تتحرك - وهو يقاتل أشد القتال. وصحب عمار عليا رضي الله عنهما وشهد معه الجمل وصفين، فأبلى فيهما، قال أبو عبد الرحمن السلمي شهدنا ((صفين مع علي فرأيت عمار ابن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية ((صفين)) إلا رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم، قال: وسمعته يومئذ يقول لهاشم ابن عتبة بن أبي وقاص: يا هاشم تفر من الجنة؟ الجنة تحت البارقة - السيوف - اليوم ألقى الأحبة، محمدا وحزبه، والله لو قاتلونا حتى يبلغوا بنا شعاب هجر لعلمت أننا على حق وأنهم على الباطل، وقال أبو البختري: قال عمار بن ياسر يوم ((صفين)) إيتوني بشربة، فأتى بشربة لبن، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى: (آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن) فشربها، ثم قاتل حتى قتل، رحمه الله ورضي عنه، وكان عمره أربعا وتسعين سنة، وقيل ثلاثا وتسعين، وقيل إحدى وتسعين. وفي المعذبين من ضعفاء الصحابة رضوان الله عنهم نزل قوله تعالى على ما قاله المفسرون: ((والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة

ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)) (¬1) وقوله ((ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)) (¬2). وقال بعض المفسرين، أنها نزلت في عمار بن ياسر خاصة، والمعذبون من الصحابة رضي الله عنهم هم عمار بن ياسر، وأمه سمية، وأبوه ياسر وبلال، وصهيب، وخباب. قال ابن إسحاق وكانت ينو مخزوم يخرجون بعمار وأبيه ياسر، وبأمه سمية، وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، وهي شدة حرارة الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بأسرة عمار بن ياسر وهي تعذب فيقول لهم (صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة). وعن محمد بن كعب القرظي قال: أخبرني من رآى عمار بن ياسر متجردا في سراويل - سروال - قال فنظرت إلى ظهره فيه حبط كثير - أثر الضرب بالسياط - فقلت له، ما هذا؟ قال: هذا ما كانت تعذبني به قريش في رمضاء - حر - مكة، كما عذبوه بالإحراق بالنار. ¬

_ (¬1) الآية 41 من سورة النحل. (¬2) الآية 110 من سورة النحل.

بعض فضائل عمار بن ياسر ووفاته

بعض فضائل عمار بن ياسر ووفاته: قال بعض كتاب السير: أنه لم يسلم أبوا أحد من السابقين المهاجرين غير أبي بكر وعمار. وجاء في ((أسد الغابة)) لابن الأثير عن حذيفة ابن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه). وأخرجه أبو يعلى في مسنده، وأخرج الترمذي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال: (اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي، أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود) كما أخرجه ابن عدي عن أنس، وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما)، وقال له: (أبشر عمار تقتلك الفئة الباغية). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((أمن هو قانت آناء الليل)) قال: نزلت في عمار ابن ياسر. والذي أجمع عليه رواة الأخبار في موته، أنه قتل في معركة ((صفين)) في حرب علي بن أبى طالب مع معاوية بن أبى سفيان، في صفر سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة وقيل في هذا كما مر.

ودفن هناك في ((صفين)) رحمه الله ورضي عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (تقتله الفئة الباغية) كما قال فيه أيضا (إن قاتله وسالبه في النار) وروى هذا الأثر الأخير عن عبد الله ابن عمرو بن العاص حين أخبر بقتله معاوية يوم الوقعة المذكورة، فكأن عمرو بن العاص حين أخبر معاوية بقتل عمار يشير إلى أنه هو المقصود بهذا الأثر، غير أن معاوية المشهور بحيله ودهائه رد على عمرو يقوله: (لسنا نحن الذين قتلناه حتى تكون من البغاة بل قتله من جاء به إلى المعركة حتى يموت فيها). وهذا من معاوية تأويل بعيد كما يقول الفقهاء، وعلى كل حال فهذا من قدر الله، وعنده يجتمع الخصوم، وهو الحاكم بين الخصوم يوم القيامة، وهناك لا يظلم أحد، ولا تضيع الحقوق في ذلك اليوم كما ضاعت في الدنيا، وقد نهينا عن الخوض فيما حدث بين الصحابة، نظرا لمنزلتهم عند الله وعند رسوله، لما قدموه من تضحيات جسام لا يستطيعها سواهم، وجاء في فضله ومنزلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء من ذلك، كما في سنن ابن ماجه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه قول علي: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عمار بن ياسر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ائذنوا له، مرحبا بالطيب المطيب). وفيها أيضا عن هانئ بن هانئ قال: دخل عمار على علي فقال: مرحبا بالطيب المطيب، سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول: (ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه) - رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين -. وفي سننن ابن ماجه أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما). ومن أعمال أبي جهل بالمسلمين الذين يسلمون ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا سمع برجل أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينظر إليه على حسب قوته وهيبته ومكانه في قومه، فإن كان له شرف وحسب ومنعة في قومه لامه على إسلامه وأنبه وخزاه، من غير أن ينال منه بمكروه، ويكتفي بالقول له: تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك، ولنفيلن (¬1) رأيك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا قال له: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، أما إن كان ضعيفا لا منعة له، ولا قبيلة تحميه وتدافع عنه ضربه وأغرى به ونال منه بما شاء، من أنواع التعذيب والعذاب والأذى، هذا شأنه مع المسلمين الأقوياء منهم والضعفاء، من أجل نصرة معبوداته وأصنامه وآلهته المعبودة بالباطل، ينتصر لها بما يستطيع، وهذا دأب الضالين والظالمين في كل زمان ومكان، ولكن العاقبة والنهاية للمحقين والمتقين ¬

_ (¬1) فيل رأيه تفييلا ضعفه وقبحه وخطأه.

- 7 - صهيب بن سنان الرومي

- 7 - صهيب بن سنان الرومي: هو من السابقين إلى الإسلام، ومن المستضعفين ومن أولئك السابقين الذين نالهم من مشركي قريش أذى كثير، وفتنة عمياء وبلاء عظيم لا يتحمله إلا أصحاب العقيدة الصحيحة المؤمنين بها، من أجل عقيدتهم، ومن الثابتين على الحق بالرغم من كل ذلك. فهو ((صيب)) بن سنان بن مالك بن عبد عمرو، وهو من بني ((النمر بن قاسط)) وأمه سلمى بنت قعيد بن مهيص، وكنيته ((أبو يحيى)) كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عربي الأصل، إذ هو من ((الجزيرة)) ومن أرض الشام، وقال من كتبوا عنه، وإنما قيل له الرومي، لأن الروم سبوه (اختطفوه) وهو صغير، فقد سبي من قرية ((نينوى)) من أعمال الموصل، وكان أبوه أو عمه عاملا لكسرى على ((الأبلة)) قال يا قوت الحموي في معجم البلدان (الأبلة بلد على شاطئ دجلة البصرة العظمى، وفي زاوية الخليج الذي يدخل إلى البصرة)، وبلدة الأبلة أقدم من البصرة - إذ البصرة بناها عتبة بن غزوان الصحابي المعروف - في خلافة عمر بن الخطاب رضي

إسلامه

الله عنهما - وكانت منازل آل صهيب على نهر دجلة من جهة الموصل، وقيل كانت مغازلهم بأرض الموصل في قرية على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل وقيل كانوا على الفرات من أرض الجزيرة، فأغارت الروم عليها فأخذت صهيبا وهو طفل صغير، فنشأ بالروم، فصار ألكن، فباعته الروم إلى رجل من قبيلة ((كلب)) ثم قدم يه من اشتراه إلى مكة فاشتراه منه ((عبد الله بن جدعان)) القرسي التيمي وأعتقه، وأقام معه إلى أن هلك عبد الله بن جدعان، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد الله له الكرامة، فمن عليه بنعمة الإسلام فأسلم. وقال صهيب وولده: بل إنه هرب عن عند الروم لما كبر وعقل، فقدم مكة وحالف عبد الله بن جدعان وأقام معه إلى أن هلك - مات - ابن جدعان. ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة أسلم وكان من كبار السابقين والبدريين، وروى عنه أنه قال: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه) وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول. إسلامه: قال الواقدي: كان إسلام صهيب وعمار بن ياسر في يوم واحد - كما مر - وكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلا، وكان من المستضعفين في مكة، الذين عذبوا من أجل عقيدتهم واتباعهم رسول الله صلى الله

صهيب يشتري هجرته ونفسه بكل ما يكسبه

عليه وسلم، وقيل كان اسمه قبل أن يسبى (عميرة) فسماه الروم ((صهيبا)) لأنه كان شديد الصهوبة، تشوبها حمرة. قال عمار بن ياسر - كما تقدم عنه - لقيت صهيب ابن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت له: ما تريد؟ فقال لي: وما تريد أنت؟ فقلت: أردت الدخول إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأسمع كلامه، فقال: فأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا حتى أمسينا، ثم خرجنا مستخفين. وقال ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة في تمييز الصحابة) عند ترجمته لصهيب رضي الله عنه مسندا ما ذكره إلى أبي زكرياء يزيد بن إياس ما يلي: وكان اشتراه - يقصد صهيبا - عبد الله بن جدعان من رجل من كلب (قبيلة) بمكة، وكانت كلب اشترته من الروم - وقيل بل هو فر من الروم - وأعتقه، وأسلم صهيب ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ((الأرقم))، بعد بضعة وثلاثين رجلا، وكان من المستضعفين بمكة المعذبين في الله عز وجل، وأسلم هو وعمار في يوم واحد، كما مر في كلمة عمار. صهيب يشتري هجرته ونفسه بكل ما يكسبه: حين عزم صهيب على الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم

وبمن هاجر من إخوانه صحابة رسول الله وكان هذا في منتصف شهر ربيع الأول، وكان هو وعلي بن أبي طالب من آخر من هاجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زال مقيما بقباء لم يرم - يفارق ويبرح - بعد. وذكرت كتب السيرة: أن صهيبا لما خرج من مكة مهاجرا لحقه مشركو قريش وقالوا له: يا صهيب أتيتنا صعلوكا (¬1) حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم قال: فإني جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح صهيب ربح صهيب) وفي مال صهيب الكثير، قال مصعب الزبيري: هرب صهيب من الروم ومعه مال كثير، فنزل مكة فعاقد عبد الله بن جدعان وحالفه وانتمى إليه. وجاء في رواية أخرى فيها شيء من زيادة البيان والتوضيح عن موقف المشركين مع صهيب في قصة خروجه من مكة بنية الهجرة واللحاق بمن سبقه، جاء فيها، أن صهيبا حين خرج مهاجرا إلى المدينة تبعه نفر من المشركين، ولما رآهم مقبلين نحوه يريدونه وقف لهم ونتل كنانته (¬2) - استخرج نبالها ونثرها أمامه - ¬

_ (¬1) الصعلوك الفقير (¬2) الكنانة جعبة تجعل فيها النبال سواء كانت من جلد أو من غيره.

وقال لهم: يا معشر قريش تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء فإذا كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، قالوا: فدلنا على مالك، ونخلي عنك، فتعاهدوا على ذلك، فدلهم عليه وتركوه، فلحق برسول الله صلى ألله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (ربح البيع أبا يحيى) فأنزل الله عز وجل في هذا قوله: ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)) (¬1). وروى أصحاب السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السباق أربعة أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة). وقد تقدم عن مجاهد أنه قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وصهيب، وخباب، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، رضي الله عنهم اجمعين، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من عذابهم بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر الصديق فمنعه الله يقومه، لمكانتهم عند العرب، وأما الآخرون فأخذوا وألبسوا أدراع الحديد ثم صهروا في الشمس. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 207.

بعض الأحاديث التي رويت عنه

فإلى هؤلاء المسلمين الضعفاء يرجع فضل نشر الإسلام وانتشاره، فقد تحملوا من أنواع العذاب الشيء الكثير، والسؤال الموجه منهم إلينا: هل استفدتم أيها المسلمون - بعدنا - من مواقفنا الصلبة التي لم تلن في جانب الله وعقيدة التوحيد لأي أحد مهما كانت قوته؟؟ وهل أخذتم عنا ما يكون لكم مادة قوية وذخيرة حية صالحة للتربية على أن تنهجوا في حياتكم نهج الحق والصلابة فيه؟ وعدم التساهل مع من يسعى لتوهين هذه العقيدة في قلوب المسلمين، هذه العقيدة التى هي عقيدة الحق، ولا عقيدة غيرها: (فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون)؟؟. بعض الأحاديث التي رويت عنه: أخرج الإمام مسلم والترمذي عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألا تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ وتنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم). وجاء في رواية أخرى أوردها كل من الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدا

يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ويبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة؟ وينجنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم) وجاء في بعض روايات الحديث المذكور أن ذلك هو (الزيادة) التي قال الله فيها: ((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)) سورة يونس. وروى الترمذي بسنده إلى صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) وقال الذهبي في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) قال أبو زرعة: حدثنا يوسف بن عدي حدثنا يوسف ابن محمد بن يزيد بن صيفى عن أبيه عن جده عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب صهيبا حب الوالدة لولدها) كما ذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) في ترجمة صهيب. وروى ابن عمر عن صهيب أنه قال: (مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي إشارة بإصبعه) ومن الأحاديث التي رواها صهيب قوله عليه الصلاة والسلام: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). أخرجه الإمامان: مسلم وأحمد.

وله نحو الثلاثين حديثا، روى له مسلم منها ثلاثة وروى عنه من الصحابة: عبد الله بن عمر، وجابر وغيرهم، ومن التابعين: كعب الأحبار، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وأسلم مولى عمر، وسعيد بن المسيب وآخرون ويعد في المدنيين، وكان يقول - فيما نقل عنه -: هلموا نحدثكم عن مغازينا: فأما أن أقول: قال رسول الله فلا، فهو بهذا يتجنب رواية الحديث. وكان فيه مع فضله وإيمانه وعلو درجته - مداعبة وحسن خلق، وروى عنه من هذا أنه حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته وهو بقباء قبل أن يتحول منها، ومعه أبو بكر، وعمر، وكان بين أيديهم رطب وتمر، وصهيب قد رمد، إذ أصابه الرمد وهو في طريقه إلى المدينة، كما أصابته مجاعة شديدة من قلة الزاد معه، ولما وجد الرطب والتمر أمامه وقع في الرطب يأكل أكل الجوعان، فقال عمر: يا رسول الله ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (تأكل الرطب وأنت رمد؟) فقال له صهيب: إنما آكل على شق عيني الصحيحة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال صهيب: يا رسول الله ما تزودت إلا مدا من دقيق عجنته بالأبواء حتى قدمت عليك

وكان في لسانه عجمة شديدة، وهي ناتجة عن تربيته وطول إقامته في أرض الروم، لأنهم أخذوه من وسط قومه وهو طفل صغير كما مر ذكره آنفا، وروى زيد ابن أسلم - الذي كان ملازما لعمر - عن أبيه قال: خرجت مع عمر حتى دخل على صهيب حائطا له بالعالية، فلما رآه صهيب قال: يا ناس يا ناس، فقال عمر ما له - لا أبا له - يدعو بالناس، فقلت له: إنما يدعو غلاما له اسمه ((يحنس)) وإنما قال ذلك لعقدة في لسانه، فقال له عمر: ما فيك شيء أعيبه يا صهيب إلا ثلاث خصال لولاهن ما قدمت عليك أحدا: أراك تنتسب عربيا ولسانك أعجمي، وتكتنى بأبي يحيى اسم نبي وليس لك ولد، وتبذر مالك، فقال له صهيب: أما تبذير مالي فما أنفقه إلا في حقه، وأما اكتنائي بأبي يحيى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني بأبي يحيى، فلن أتركها، وأما انتمائي للعرب ولساني أعجمي فإن الروم سبتني صغيرا فأخذت لسانهم، وأنا رجل من النمر بن قاسط من الموصل ولو انفلقت عن روثة - بعرة - لانتسبت إليها. وكان من حب عمر لصهيب رضي الله عنها، أن عمر كان حسن الظن في صهيب، وظهر هذا معه في عدة مناسبات، منها أنه حين طعن رضي الله عنه أوصى أن يصلي عليه إذا مات صهيب، كما أوصى أن يصلي بجماعة المسلمين ثلاثا حي يتفق أهل الشورى على من سيخلف.

نشاطه وخدمته للإسلام وسط المجموعة الإسلامية

وذكر ابن سعد في طبقاته أن صهيبا قال لأبي بكر: وعدتني أن نصطحب - يعنى في الهجرة - فخرجت وتركتني، وقال هذا أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعدتني يا رسول الله أن تصاحبني، فانطلقت وتركتني فأخذتني قريش فحبسوني، فاشتريت نفسي وأهلي بمالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ربح البيع) فأنزل الله: ((ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)) سورة البقرة - الآية 207. نشاطه وخدمته للإسلام وسط المجموعة الإسلامية: روى الحميدى والطبراني عن صهيب ومن طريق الستة أنه قال: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها، ولم يسير سرية إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو قط حتى توفي، وكان صهيب حاضرا بدرا والمشاهد بعدها، ولم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي مشهد من المشاهد التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم.

كلمة حول عبد الله بن جدعان

قال ابن شهاب: وممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من النمر بن قاسط صهيب بن سنان وفي كتاب البخاري عن محمد بن سيرين قال: كان صهيب من العرب من النمر بن قاسط. كلمة حول عبد الله بن جدعان: من يكون عبد الله بن جدعان هذا؟ معتق صهيب، والذي اشتراه من بعض قبيلة كلب، أو حليفه كما جاء في الرواية الأخرى. هو عبد الله بن جدعان - بضم الجيم وسكون الدال - القرشي التميمي من مشاهير أجواد العرب وكرمائهم، كان يعيش في مكة المكرمة قبل الإسلام، وهو من أثرياء قريش وأغنيائهم، وكان رجلا كريما مضيافا يطعم الطعام، وكان يلقب بـ (حاسي الذهب) لأنه كان يشرب في إناء من ذهب، وفي سبب غناه أقوال ربما لا يحتملها العقل، وكان يطعم الناس الطعام، ويفعل المعروف مع من يعرف ومن لا يعرف، على عادة الأجواد والكرماء العرب، وكان ربما حضر النبي صلى الله عليه وسلم طعامه قبل البعثة، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شاهدت مأدبة في دار بن جدعان). وكانت له جفنة كبيرة، بلغت من كبرها وسعتها ما لا يتصوره العقل على ما رواه الرواة فيها وفي وصفها، فقد قالوا في وصفها ونعتها: أن القائم يأكل منها واقفا، وكذلك

الراكب على البعير من عرض حافتها، وكثرة طعامها لعظمها وسعتها، وقالوا أيضا، أنه سقط فيها صبي فغرق ومات فيها، وكان يملأها بلباب البريلبك - يخلط - بالشهد والسمن، على عادة العرب في كرمهم. وجاء في غريب الحديث لابن قتيبة ج 1 ص 400، وفي الفائق للزمخشري ج 2 ص 32، كما جاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج 3 ص 43، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان في الإسلام صكة عمي) وهي شدة الحر في الهاجرة، وعبد الله بن جدعان هذا ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه - على ما ذكره الرواة، إذ هو تيمي، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها - من أجل تلك القرابة التي كانت بينه وبين أبيها - كما جاء في صحيح الإمام مسلم قالت: (يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنه لم يقل يوما: رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين). وكان لابن جدعان مناد ينادي لقصعته: (هلم إلي الفالوذ) وكان هذا في الجاهلية، وربما حضر طعامه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه). هذه الجملة سيقت مساق المدح والثناء على من قيلت فيه، فقد تناقلها الناس، وبحثوا هذا الأثر من الزمن القديم، واختلفوا في قائله، فمن قائل أنه حديث نبوي شريف، ومن قائل أنه غير حديث لكثرة البحث عنه ممن لهم عناية واهتمام بالحديث، فالكثير من العلماء يرون أنه من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد علمنا مما تقدم أن عمر كان يحب صهيبا، وهذا ما جعله يقدمه على غيره في عدة مواضيع قال العجلوني في كتابه (كشف الخفاء) اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر البهاء السبكي: أنه لم يظفر به بعد البحث. وهذا الأثر يورده علماء العربية كثيرا كشاهد على عمل حرف ((لو)) الشرطية، كما يذكره علماء الأصول والمعاني، من غير تعرض لبقية استعمالاتها، إذ لاستعمال حرف ((لو)) خمسة أقسام. 1) أن تكون للعرض، نحو لو تنزل عندنا فتصيب خيرا. 2) أن تستعمل للتقليل، كقوله عليه الصلاة والسلام (تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه ابن المبارك عن

عكرمة مرسلا والأثر الآخر: (تصدقوا ولو بظلف محرق). 3) أن تكون للتمني، نحو لو تأتينا فتحدثنا بما يفيدنا. 4) أن تكون مصدرية مثل أن، إلا أنها لا تنصب الفعل المضارع، نحو قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) الإدهان: اللين والمجاملة للأعداء، أي تمنى المشركون منك يا محمد أن تلين لهم فتتنازل عن دينك فيقابلونك بالمثل. 5) أن تكون شرطية مثل الواردة في الأثر السابق والمذكور أولا، وهي التي تحتاج إلى شرط وجوابه، ليتم بهما المراد من الجملة، ونحن نعلم أن ((لو)) الشرطية تحتاج إلى فعل الشرط وجوابه مثل بافي أدوات الشرط المعروفة، غير أنها لا تجزم الفعل المضارع كما تجزمه أدوات الشرط الجوازم، فاستمالها شرطية على قسمين. 1) امتناعية، وهي للتعليق في الماضي وهذا هو الكثير في استعمالها. 2) امتناعية بمعنى ((ان)) وهي للتعليق في المستقبل وهذا قليل في استعمالها، وإلى هذا يشير ابن مالك في ألفيته حيث قال: لو حرف شرط في مضي ويقل…إيلاؤها مستقبلا لكن قبل

فاستعمالها في الجملة يدل على تعليق فعل على فعل فيما مضى، وهذا هو الأكثر في استعمالها فيلزم من تقدير حصول شرطها حصول جوابها، ويلزم كون شرطها محكوما بامتناعه في بعض استعمالاتها. وقد تبارى علماء اللغة العربية في إطلاق تعريف شامل لـ ((لو)) الشرطية هذه، وهذه التعاريف لم تسلم من الاعتراض عليها، لما يطرأ عليها من النقص وعدم الشمول، وأسلمها - نوعا ما - تعريف إمام اللغة العربية ((سيبويه)) حيث قال في تعريفها: (هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره) ولم يسلم تعريفه هذا لها من أشكال أيضا، كل هذا مبسوط في محله من كتب النحو مثل ((المغني)) لابن هشام وغيره، وبعض النحويين يعرفها بقوله: (هي حرف امتناع لامتناع) وفساد هذا التعريف ظاهر. ومما هو معلوم في مدلول الجملة التي دخلت عليها ((لو)) الشرطية أن لو الشرطية تجعل الجملة على خلاف ظاهرها، فإن كانت في سياق الإثبات دلت على أنها منفية وإن كانت في سياق النفي دلت على أنها مثبتة، أي على إثبات مدلول الجملة، ويوضح هذا قولك لولدك - مثلا - الذي لم ينجح في امتحانه: (لو اجتهدت في قراءتك لنجحت في امتحانك)، فهذه الجملة كانت في سياق الإثبات، فانقلبت بعمل ((لو)) إلى النفي، فيصير معناها لم تنجح في امتحانك لأنك لم تجتهد في قراءتك، فانتفى

جواب لو وهو النجاح في الامتحان لانتفاء شرطها وهو الاجتهاد في القراءة، وهكذا العمل في الجملة المنفية، فإنها تفيد الإثبات، كأن تقول لولدك ((لو لم تجتهد في قراءتك لم تنجح في امتحانك). ومعنى هذا أنك نجحت في امتحانك لأنك اجتهدت في قراءتك. ومن هذا القبيل الأثر السابق المنقول عن عمر رضي الله عنه وهو قوله: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه) فإن الجملة كانت في سياق النفي فتفيد الإثبات، فـ ((لو)) في هذا الأثر لتقرير الجواب، وبناء على قاعدة، ((لو)) الشرطية يكون معنى الجملة أن صهيبا (خاف الله وعصاه) وهذا غير مراد للقائل، فيلزم على هذه القاعدة في الأثر المذكور ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف من الله، وهذا عكس المراد منه، بل المراد لعمر أن صهيبا لا يعصي الله أبدا، سواء خافه أو لم يخفه، وأولى إذا خافه، فهو لا يعصيه ولو لم يخفه، والذي صيره لا يعصي ربه هو إجلاله وتعظيمه والحياء منه، والحب له والمهابة من عظمته، فترك صهيب معصية الله إنما كان لأمر خارج، وذلك لما طبع عليه من الطاعة والحب والمهابة لجلاله والحياء منه إذا وقف بين يديه يوم القيامة للحساب، فعدم معصيته له معلل بأمر خارج عن الخوف وعدمه، وذلك كالإجلال والتعظيم لله جل جلاله هذا ملخص عمل ((لو)) الشرطية، في هذا الأثر المحفوظ. ومثل هذا الأثر الذي قاله عمر في صهيب، ما قاله العلماء فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حين

عرض عليه الزواج بربيبته ((درة)) بنت أبي سلمة - أخيه من الرضاع - فقد جاء في كتب الحديث ما يلي: عرضت أم حبيبة بنت أبي سفيان - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - عليه أن يتزوج أختها فقال لها: (فإنها لا تحل لي) وهذا منه إشارة لقوله تعالى: ((وأن تجمعوا بين الأختين)). قالت أم حبيبة، فقلت له فوالله لقد أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة، فقال (بنت أبي سلمة؟) قالت نعم قال: (فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة, فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن). قال رواه الحديث: متفق على صحته، وقال العلماء: أن حل بنت أبي سلمة منفي عنه صلى الله عليه ومسلم من جهتين اثنتين، أولا أنها ربيبته في حجره وهذا حرام بنص الآية، وثانيا أنها ابنة أخيه من الرضاعة، وهي عليه حرام بلفظ الحديث صراحة والقرآن ضمنا، إذ لو كان فيها مانع واحد لكفى في التحريم، فكيف إذا اجتمع فيها مانعان اثنان كما هنا مانع كونها ربيبته في حجره لقوله تعالى: ((وربائبكم اللاتي في حجوركم)) والمانع الثاني كونها ابنة أخيه من الرضاعة، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب). فقد أرضعت ((ثويبة)) مولاة أبي لهب وأمته الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي سلمة، فكان أبو سلمة أخا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحل للمسلم الزواج

بابنة الأخ سواء من النسب أو من الرضاع، وكون أمها زوجته، فهي ربيبته تربت عنده وفي حجره، والرجل إذا تزوج امرأة حرمت عليه ابنتها من غيره، فهذا معنى اجتماع مانعين فيها وكما تقدم في الأثر السابق الوارد في صهيب، فمعصية صهيب لله تعالى منتفية من جهتي الخوف والإجلال والتعظيم لله تعالى والحياء منه. وقد سقت هذا الأثر لبيان فضل هذا الصحابي الورع، وقد كنا درسناه في أيام الدراسة، أما الآن فقد تركت الآثار والقواعد العلمية التي تفتح الفكر للنقاش والحوار لفهم اللغة العربية، كما في ذلك رياضة للفكر وتدريب له على الكلام البليغ والفصيح لفطاحل علماء اللغة العربية، لغة كلام الله وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. هذا وتوفي صهيب رضي الله عنه بالمدينة سنة ثمان وثلاثين في شوال، وقيل سنة تسع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل ابن سبعين، ودفن بالمدينة، وكان أصهب شديد الصهوبة تشوبها حمرة، لذلك سمي صهيبا، وكان ليس بالطويل ولا بالقصير وهو إلى القصر أقرب، كثير شعر الرأس، رحمه الله ورضي عنه.

- 8 - خباب بن الأرت

- 8 - خباب بن الأرت كان من المؤمنين الصادقين، والمسلمين الصابرين على البلاء والامتحان والعذاب الذي نزل عليه من أعداء الله، وخصوم الشرائع السماوية، وأنصار الشرك بالله، وعباد الأوثان، فهو من المستضعفين المعذبين في الله، لما خلعوا من رقابهم قيد العبودية لغير الله، وكان من نجباء الصحابة السابقين، فهو خباب بن الأرت - بتشديد التام - بن جندبة، واختلف في نسبه، فقيل أنه تميمي وقيل هو خزاعي، والذي صححه النسابون أنه تميمي النسب، لحقه سباء - أسر - في الجاهلية، حيث كان العرب يسبي بعضهم بعضا، فاشترته امرأة تسمى ((أم أنمار)) بنت سباع (الخزاعية) من خزاعة وأعتقته، فهو من السابقين إلى الإسلام، وروي أنه كان سادس ستة، وكان قينا (حدادا)) يعمل السيوف في الجاهلية، ويكنى أبا عبد الله، وقيل أبا يحيى، وقيل أبا محمد، وكان قديم الإسلام كما مر، وكان من المستضعفين، لأنه أسلم في الأوائل وهؤلاء كانوا ضعفاء، لا قوة لهم تحميهم وتقف أمام جبروت مشركي قريش، فلا غرابة إذا أصابه ما أصاب إخوانه، السابقين

إلى اعتناق عقيدة التوحيد، ونبذ عقيدة الشرك بالله، والابتعاد عن أعمال المشركين عباد الأحجار والأوثان، فهو إذن من المستضعفين الذين استضعفهم كفار قريش، فألحقوا بهم العذاب الشديد، وكانوا يطاردونهم من مكان لآخر، وكان المسلمون يختفون عن أنظارهم حتى لا يصيبهم منهم ما يكرهون، إلى أن اشتد ساعد المسلمين بإسلام عمر بن الخطاب، وحمزة ابن عبد المطلب وغيرهم، فعندها رجحت كفة ميزان الإسلام وصار المسلمون يفعلون شعائر دينهم جهارا نهارا وأمام الملإ من مشركي قريش، وقد عذب خباب العذاب الشديد من أجل عقيدته الإسلامية - عقيدة التوحيد - فصبر على ما أصابه في سبيل دينه. وكان خباب بن الأرت تميميا بالنسب، كما كان خزاعيا بالولاء، لأم أنمار بنت سباع الخزاعية كما سبق، قد وقع عليه سبي - أسر - فاشترته وأعتقته، فولاؤه لها. وذكر أن عمر بن الخطاب - سأله عما لقي في ذات الله من العذاب، فكشف له عن ظهره ليرى بعينيه أثر العذاب والإحراق بالنار، فلما رأى عمر ذلك قال: ما رأيت كاليوم!!! فقال خباب: يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارا فما أطفأها إلا شحمي. وكان خباب بن الأرت يتردد على بيت سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل، زوج فاطمة بنت الخطاب - أخت

عمر - وكانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد ابن زيد قد أسلما وآمنا بالله ربا واحدا لا شريك له في ألوهيته، وبمحمد رسول من الله، وصدقا بكل ما جاء به من عند الله. فلما سمع عمر بإسلام أخته فاطمة وإيمانها بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما آمن وأسلم خباب ابن الأرت وأنه يتردد عليهما في منزلهما ليقرئهما القرآن، هاله ما سمع وبينما عمر يتجول في سكك مكة يتتبع أخبار الدعوة الإسلامية أين بلغت ويبحث عن عدى انتشارها في الأوساط القرشية، كما يتتبع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الدعوة والرسالة، إذ فاجأه الخبر بإسلام أخته فاطمة وزوجها حيث التقى في الطريق بنعيم بن عبد الله النحام - رجل من قوم عمر بني عدي - وكان هو الآخر قد أسلم وأحفى إسلامه فرقا وخوفا من عمر، وكان عمر - حين لقيه نعيم بن عبد الله - متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورهطا من أصحابه قد ذكروا له بإسلامهم واتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكروا له بأنهم مجتمعون في دار عند الصفا - هي دار الأرقم - وكانت دار الأرقم في ذلك الوقت مركزا لنشر الدعوة الإسلامية وتعليم المؤمنين فروض عقيدتهم ومبادئ الإسلام، وكان القوم المجتمعون فيها قريبا من أربعين، ما بين رجال ونساء، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدار

((عمه حمزة))، وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من عصبة الإيمان، فخرج عمر يبحث عنهم ليفتك بهم، حسبما خولته له نفس الجاهل المشرك دفاعا عن أوثانه الحجرية، وقد جعل الله لكل شيء سببا فكان خروجه هذا آخر العهد بوثنيته، بل بالأوثان كلها، فلما رآه نعيم بن عبد الله قال له: أين تريد يا عمر؟ أجابه عمر بقوله: أريد محمدا هذا الصابئ - الكافر - الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فقال له عمر: وأي أهل بيتي تريد؟ قال: ختنك - صهرك - وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد - والله - أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. لنتصور وقع هذا الخبر على نفس عمر، في هذه اللحظة بالخصوص، وهي لحظة دقيقة وحرجة عليه للغاية، وما هو موقفه من نفسه التي أخذت في الغليان مثلما تغلى المرجل أو القدر الكبيرة، فبينما كان يبحث في سكك مكة وطرقها عمن آمنوا وأسلموا واتبعوا دين الله ورسوله، إذا به يفاجأ بنبأ أظلم عنه شمس النهار وجعله في حيرة من أمره لهذا الخبر، الطارئ عليه، إذ ما كان يتوقعه، فذهب مسرعا، وترك ما خرج من أجله - عامدا بيت أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، تاركا البحث عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم وصحبه الكرام، فأتى منزلهما، وكان عندهما - في ذلك الوقت - الصحابي الجليل ((خباب بن الأرت)) ومعه صحيفة مكتوب فيها شيء من القرآن، من سورة ((طه)) يقرئهما إياها، فلما اقترب من البيت الذي فيه أخته وزوجها وخباب سمع صوت قراءة خباب عليهما القرآن، فقرع باب الدار ودخل، فأسرع خباب إلى الاختفاء منه، ووقع ما وقع من عمر لأخته وزوجها، حين قامت لتكفه عن زوجها وصهره، وكان قد سمع شيئا من القرآن عند ما قرب من الدار. إن شجاعة فاطمة بنت الخطاب أخت عمر دلت على تمكن الإيمان من قلبها، فإنها عند ما قامت إلى أخيها لتحجزه وتكفه عن زوجها دفعها بقوة الجاهل حتى سقطت على الأرض وضربها فشج وجهها وأسال دمها، فصاحت في وجهه قائلة: لقد أسلمنا وآمنا بالله وبرسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رآى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع بها، وارعوى عن غيه وجهله، فسلك سبيل الحق. وفي هذه اللحظة بلغت رحمة الله إلى قلب عمر وأدركته السكينة التي تنزل على المسلم، فاطمأن قلبه عند ما سمع كلام الحق جل جلاله، وذهب عنه ما كان يجده من بغضه للإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم فسكنت نفسه الثائرة، وهدأت تلك الفورة الغضبية عنه، فهش قلبه للإيمان بالحق، والدخول في دين الله، وخلع عبادة الأوثان والآلهة الباطلة , وكأنه قال

لنفسه الغاضبة عن الحق، كفاك أيتها النفس الأمارة بالسوء التواقة إلى الباطل، تسعين إليه سعيا حثيثا لكي ترضيه ويرضى عنك، دعى المكابرة في الحق وعودي إلى الصواب والواجب، فالرجوع إلى الحق من الفضائل النفسية، فرق قلبه الجافي جفاء الجاهليين إلى الإيمان بالله وبرسوله وبدينه، ولما هدأت نفسه الغاضبة وثاب إليه رشده ووعيه الذي كان فقده من سيطرة الباطل الجاهل عليه، سأل عن مكان وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، ليذهب إليه ويعلن عنده إيمانه وإسلامه. ولما سمع خباب - المختفي من عمر - قول عمر هذا خرج من مخبئه بعد أن علم أن عمر هو الآن سائر في طريق الإيمان، والهداية الإسلامية، فخرج وقال لعمر أبشر يا عمر، فلعل الله قد استجاب دعوة رسوله فيك، فإني سمعته أمس يدعو ويقول (اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر) وفي رواية أخرى أوردها الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وغيرهما أنه قال (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب). وحين دلوا عمر على مكان وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بأنه في دار - الأرقم - عند الصفا مع نفر من أصحابه، أخذ عمر سيفه فتوشحه ثم ذهب إليه ليظهر إسلامه، وليطهر قلبه من رجس الشرك

والوثنية، وينطق بكلمه الشهادة أمامه، فسار إليه ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن دق الباب وعلم من كان في الدار أن الطارق للباب هو عمر ابن الخطاب، فذعروا وخافوا من شدته أن يصيبهم منها أذى أو مكروه وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، فذهب إليه الرسول وتلقاه بالباب، وأخذ بتلابيبه وزجره عن تماديه في الغواية والضلال، ولكنه طمائنه بأنه ما جاء إليه إلا ليعلن إسلامه وينطق بكلمة الشهادة، كلمة الحق والصدق الواجبة على كل إنسان عرف الحقيقة وواقعه، وهداه الله، وعرف أنه ما هو إلا مخلوق ضعيف لخالق قوى قادر على كل شيء، يجب على هذا المخلوق أن يقر له بالألوهية والربوبية، وعليه أن ينزع إلى الحق، ويكف عن الباطل، ويقلع عن الضلال والسفه والغواية والطيش، إن كان يحب لنفسه الخير والسعادة السرمدية. وعند ما دخل عمر على الرسول صلى الله عليه وسلم الدار التي كان فيها ودار بينه وبين الرسول ما دار من الكلام، أعلن عمر إسلامه أمامه وبين يديه بكلمة جهورية مدوية فكبر لها الرسول صلى الله عليه وسلم تكبيرة سمعها من في الدار، وعلموا أن عمر قد أسلم وفرحوا بإسلامه فرحا لا نظير له، لأن إسلام عمر نصر كبير له على نفسه، كما هو نصر مبين للإسلام أراده الله له، وتأييد للدعوة الإسلامية في وقت احتاجت فيه إلى قوة تساندها وتدفعها إلى الأمام، لتنتشر في الآفاق

وقفة استعراض وتقييم

ولتنقذ العديد من الملاين من أبناء الإنسانية الضالين عن سبيل الله، سبيل الحق والخير، فجعل الله من إسلام عمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد الطلب وغيرهما نصرا عظيما وقوة كبيرة للدعوة الإسلامية، كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب). وقفة استعراض وتقييم: وهنا نقف وقفة استعراض وتقييم، نستعرض فيها مراحل الدعوة الإسلامية في نشأتها الأولى وفي بدايتها التي أصابها فيها ما يصيب - عادة - جميع الدعوات في نشأتها، وقفة نطق لا وقفة صمت للترحم على أرواح شهداء الدعوة الإسلامية تلك الدعوة التي شقت طريقها وسط مجتمع جاهل ألف التمسك بتراث الآباء والأجداد ولو كانوا على ضلال مبين. في زماننا هذا ظهرت في مجتمعنا وقفة خشوع مفتعل وتقليد كافر بالدين والقيم الروحية، إذ هي ليست منا ولا يعرفها مجتمعنا المسلم الطاهر، فلكل زائر من المسلمين للمقابر أن يدعو الله لساكنيها بالرحمة والمغفرة لهم والعفو عنهم، تلك الوقفة التقليدية التي أخذناها عن الكفرة بالله، ولم يكن لها نصيب في شرعنا الطاهر الحنيف، فهي مبتدعة وبعيدة عنا، فنحن المسلمين نترحم على موتانا في كل وقت

وحين، وإثر صلواتنا وفيها، وفي غير هذين الوقتين، ومن غير المعروف - شرعا - أن ذلك لا يتم إلا إذا كان أمام هيكل الميت، قلنا: إنها وقفة تقليدية، وخاصة إذا كانت مصحوبة بإكليل من النوار والأزهار المتنوعة الأشكال والأنواع والألوان، وهنا نتذكر المثل الشائع بيننا القائل (كم من قبر يزار وصاحبه في النار). قلت إنها وقفة تقليدية لمن لا يؤمن بالله راحم عباده المؤمنين، إذ هو الرحمن الرحيم العفو الغفور، وهل أولئك الذين يتعبون أنفسهم يرفع أكفهم بالدعاء لطلب المغفرة والرحمة للشهداء هل هم أهل لأن يستجيب الله دعاءهم؟؟ فيغفر لميتهم؟ ولو تصدقوا بقيمة ذلك الإكليل من الورود - وثمنه مرتفع جدا - لكان أجدى وأنفع للميت، فليراجع كل منهم موقفه من ربه، الذي يطلبون منه الرحمة للميت. فإن كان تقديم الإكليل لله فإن الله منزه عن شم الرياحين، وإن كان للميت، فالميت قد فقد حاسة الشم بموته، فلمن إذن تقدم تلك الأزهار؟ إن الشهيد الذي قتل مجاهدا في سبيل الله قد غفر الله له كل خطاياه، فهو لا يحتاج إلى غيره، بل غيره يحتاج إليه كالشفاعة مثلا، وهذا هو السهو والغفلة عن الأعمال، وينظر إلى ذلك شرعا بأنه إسراف وتضييع لمال المسلمين - وهذا حرام شرعا - كيف والقوم قد تعودوا على الإسراف وفعل الحرام وتضييع المال فيما لا فائدة فيه؟ فمن علم من نفسه أنه أهل لدعاء أهله

له وطهره من ذنوبه طاعته للرحمن الرحيم، فهو إذا دعاه رجا منه المغفرة للميت وقبول دعائه، أما إذا كان عاصيا لربه بترك الفروض التي هو مكلف بها، أو هو فاعل لما هو منهي عنه، أو كان غير مقر له بالألوهية ولا هو معترف له بالربوبية، بأنه الخالق لكل موجود والذي هو واحد في ألوهيته فهذا عليه أن لا يتعب نفسه برفع يديه إلى السماء - فللشرع موازينه - وليرسلهما في أمور أخرى، هو أعلم بها، وذلك أجدى له وأنفع والنبي (ص) قال ما قال: في حق الذي يدعو ربه ولم يكن مستقيما على سبيل الشرع العزيز إن كانت معيشته، من أكل وشرب ولباس وتغذيه في صغره، وطول حياته مكتسبة مما حرم الله، ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، وهو قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا .... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)؟ فقد سأل رسول الله سؤال تعجيب حيث قال (فأنى يستجاب له؟) فكأنه قال: تعجبوا ممن هذا حاله ووصفه، كيف يدعو الله ويرجوه ليجيب دعاءه؟ والدعاء لا يكون له عند الله قيمة واعتبار إلا إذا توفرت فيه شروطه، وهذا الداعي لم تتوفر في دعائه شروط الدعاء، وكذلك لا يكون من الذين قال الله فيهم: ((يستخفون من الناس ولا يستخفون من

الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)) سورة النساء الآية 108. إننا نستعرض في هذه الوقفة القصيرة حالة المسلمين في بداية ظهور الإسلام، فالمسملون الأولون - وهم المستضعفون - كانوا قبل إسلام عمر قلة، ومع هذه القلة الضعيفة فقد ثبتوا على ما هداهم الله إليه من خلع عبادة الأوثان، والإقبال على عبادة الرحمان الواحد الديان، بالرغم مما أصابهم من ألوان التعذيب والاضطهاد، وقد تجاوز مشركو قريش كل ما عرف في الماضي من أنواع التعذيب والاضطهاد لمن خالقهم في العقيدة، وكل هذه الأنواع مدونة ومسجله في كتب التاريخ والسير، وقد أراد الله لهذا الدين نصرا وعزا يدومان له إلى الأبد، فبدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بأن ينصر الإسلام بأحد الرجلين اللذين كانت لهما العزة والمنعة، وهما عمر بن الخطاب، أو عمرو ابن هشام - أبو جهل - فإن من كان في جوار أحدهما عز وبز، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في إسلام عمر بن الخطاب: (إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر، قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه). فبهذه الوقفة - القصيرة - التي استعرضنا فيها لمحة من حال المسلمين قبل إسلام عمر بن الخطاب كانت

معرفتها والإحاطة بها ضرورية لنا، فقد رأينا كيف تمثل فيها العدوان والظلم والقهر والباطل بأبشع صوره من مشركي قريش على المستضعفين من المسلمين دفاعا عن أحجارهم وأوثانهم المعبودة من دون الله، أما حالهم بعد إسلامه فإنهم نالوا به عزا ومنعة وقوة منحتهم الحرية في عبادتهم لربهم، وإظهار شعائر دينهم كالصلاة في أي مكان أرادوه، وهل هناك مكان تقام فيه الصالة أفضل من حرم الله وأمام بيت الله، وقبلة المسلمين فيما بعد فقد تبدل الحال وصار المسلمون يصلون لربهم، ومشركو قريش ينظرون إليهم ولا يتكلمون، كل هذا بفضل الإيمان بالله والصبر على ما أصاب المسلمين في سبيل الله، إن العاقبة لأهل الإيمان والعقيدة الصحيحة. هذا وغيره ناله المسلمون من إسلام عمر بن الخطاب، فهذا - لعمري - هو النصر المؤزر من الله جاء من إسلام عمر. إن الباطل لا يلجمه إلا لجام القوة، وفي المثل المعروف (لا يفل الحديد إلا الحديد). فقد مرت على المسلمين في اعتناقهم للإسلام والتحاقهم بركب الموحدين لربهم، بعد أن كانوا تائهين في ضلال الشرك والوثنية مع الأحجار صباحا ومساء - قلت مرت على أوائل المسلمين سنوات شداد عليهم من جراء قساوة قلوب مشركي قريش عليهم ومعاملاتهم

لهم، فالمسلمون يتنقل بهم الزمان ويتطور من سنة لأخرى، فيزيد عددهم، ويزيد معه البلاء والمحن والعذاب من لون إلى لون، فكل واحد من المشركين ينتقم لآلهته الحجرية بحسب ما يراه يرضيها عنه، كما هو الحال في آلهة زماننا هذا من حكام المسلمين أينما كانوا، فإذا ما تكلم أي إنسان في سلوك واحد منهم المنحرف عن الصراط المستقيم وأظهر ما في هذا السلوك من العيوب والأخطار التي ستلحق الأمة المحمدية نتيجة لذلك الانحراف، أو كشف النقاب عن مخازيه وعبثه وتفريطه فيما هو واجب عليه، أو تبذيره لأموال حزينة الدولة التي هي في الحقيقة حزينة شعبه وأمته، أو إهماله لشؤون وظيفته ومصالح الشعب الذي هو مسؤول عنها وعنه، أو خاف من غضب شعبه عليه وانتقامه منه أو محاسبته - في يوم من الأيام - على أعماله وتصرفاته إذا وقع شيء من هذا ارتفعت الأصوات ونودي: أن ((المكاسب)) في خطر! ما بمثل هذا النوع تخدم الأوطان، وتجلب لها الرفاهية والسعادة! إن الحكام المنصفين النزهاء - أمثال عمر الفاروق - يسمعون كلام خصومهم قبل كلام أعوانهم وأنصارهم وأوليائهم، كي يصلحوا خللهم ويقوموا اعوجاجهم ليبقوا صالحين في أماكنهم، إذا كانوا صالحين للبقاء فيها، وكان عمر يقول: (رحم الله

عبدا أهدى إلي عيوبي) فعد ذلك منه هدية له، وعن سفيان بن عيينة قان: قال عمر بن الخطاب (أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي). إننا فقدنا النصيحة، وفقدنا تأثيرها فينا، وأحللنا مكانها، الغش والخديعة والتزوير، والبهتان والتملق وما إلى ذلك، ورسولنا عليه الصلاة والسلام قال (من غشنا فليس منا). فقد فقدنا بالنصيحة حرية الرأي وحرية القول الذي يترجم عن ذلك الرأي وهذا من أمارات الخسران، وبذلك كثرت شهادة الزور التي هي من كبائر الذنوب، وانتشرت حتى من بعض من ينتسبون للعلم والجهاد، فيا ويل هؤلاء يوم يقفون بين يدي الله للحساب على ما صدر عن العباد، من العقاب الشديد لشاهد الزور. الإسلام يأمر المسلمين بأن ينصر يعضهم بعضا، كما ثبث هذا بصريح الحديث الصحيح، فالمفروض على المسلم أن ينصر أخاه المسلم إذا كان مظلوما، فيرد عنه ظلم الظالم له، أما إذا كان هذا الأخ ظالما فيكون عليه نصره أيضا بنهيه عن الظلم منه وإرجاعه إلى سبيل الحق والصواب، وهذا نصر له وهو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل تربية المسلمين على قولة الحق والإنصاف والعدل، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الأئمة مثل البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل كيف أنصره ظالما؟ قال تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره). وأكثر ما يتعجب منه العقلاء والنزهاء في هذا الزمان ادعاء طائفة من الناس أنهم من أهل العلم وخاصة علم الدين، والواقع الملموس أنهم من أبعد خلق الله عليه، لهذا انكشف أمرهم، بل هم الذين كشفوا أنفسهم بأنفسهم، وهذه عاقبة الطائشين والذي لم يدرس شيئا في حياته كيف يسيغ لنفسه التكلم فيه، اللهم إلا إذا كان ذلك لغرض شخصي ونفس دنيئة ألفت الصيد في الماء العكر، أو دفعوا إليه دفعا من غيرهم وهذا أتعس شيء في حياة الإنسان، حيث يظهر أن ما قاله ليس منه بل أملي عليه إملاء، وعند الله يجتمع الخصوم. وقفة قصيرة وقفناها على حال المسلمين قبل إسلام عمر بن الخطاب وبعد إسلامه، وذكرنا شيئا عن ضعفاء الإيمان والعقيدة في الدين، وقد بان لنا من خلال ذلك صفات الرجال العظماء أصحاب المبادئ العالية والثابتة، التي كانت للحق لا للخلق، نرجو أن نحذو حذوها، فنستفيد منها، فلا صلاح للنفوس والمجتمعات في غير الحق والإنصاف، كما رأينا بعض صفات وخصال ذوي النفوس المهينة الحقيرة التي باعت ضمائرها لغيرها.

تعذيب المشركين لخباب

تعذيب المشركين لخباب: كان مشركو قريش يتفنون في تعذيب المؤمنين بالله وحده، كل حسب رأيه وهواه، فتعذيبهم وعذابهم لهم لا يختلف كثيرا، في مقاديره، وإنما يختلف في أنواعه، فقد كان البعض منهم يلبس من كلف بتعذيبه درع أو أدراع الحديد، ثم يصهرونهم في حر الشمس - يحمونهم بها - فيبلغ منهم الجهد والعذاب ما شاء الله أن يبلغ من حر الشمس وحر الحديد المحمى فيها معا، قال الشعبي وغيره: إن خبابا صبر على ذلك العذاب ولم يعط الكفار ما سألوه، فجعلوا يلصقون ظهره بالرضف - الحجارة المحماة بالنار أو بالشمس - حتى ذهب متنه. وروى عن عروة بن الزبير قال: كان خباب من المستضعفين الذين يعذبون في مكة ليرجع عن دينه. وروى عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ - أي تدعو الله تعالى لينصرنا على المشركين - ألا تدعو لنا؟ فجلس - محمرا - وجهه وقال: (لقد كان من قبلكم يحفر له حفرة، ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق، ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله تبارك وتعالى هذا الأمر

حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى خصرموت لا يخشى إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون (¬1). فهذا امتحان لأهل الإيمان، هل يصبرون على ما يصيبهم فيفوزوا بالحياة الهنية السعيدة والآمنة، أو يجزعون فيخسروا ذلك؟ وقد انتدبهم الله إلى حمل شريعته وتبليغها إلى عباده المهيئين لحملها وتحملها وتحمل كل أذى يصيبهم في سبيل ذلك. وهذا ما أراده الله ورسوله للمؤمنين كي يصبروا ويوطنوا أنفسهم على تحمل الأتعاب والمشاق في سبيل العقيدة الإسلامية، عقيدة الحق والتوحيد، ولا يستعجلوا، فمن أراد الشهد أصابه لسع إبر النحل. كان خباب في جاهليته قينا - حدادا - يصنع السيوف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فأخبرت مولاته - سيدته - بذلك فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه - عقابا له - فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له وقال: (اللهم انصر خبابا) فأجاب الله دعاء رسوله في هذه المراء سيئة الخلق والمعاشرة للمملوك الذي جعله الله تحت يدها، فعاشرته معاشرة سيئة إذ عاقبته بالنار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتردد عليه ويجلس معه فاشتكت - مرضت هي الأخرى - سيدته ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد ج 5 ص 109 والجزء 6 ص 395 بألفاظ متقاربة، وأسد الغابة لابن الأثير ج 2 ص 98

أم أنما - من مرض أصاب رأسها، فكانت تعوي مثل الكلب - من عقاب الله لها - فقيل لها، اكتوي، فكانت تأمر عبدها خبابا بأخذ الحديدة المحماة فيكوى بها رأسها. ما شاء الله كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكان الجزاء الإلهي السريع من جنس العمل، وكان سريعا لكن مع وجود الفارق، كانت سيدته تعذبه بالنار ولا يستطيع أن يمتنع منها لأنها مالكته وسيدته، فبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم نزل عليها قضاء من لا يخفى عليه شيء، سبحانك ما أعدلك يا رب العالمين، هذه هي محكمة العدل الإلهي، لا يفر منها ظالم مهما كان فأصابها وجع برأسها، فاضطرت إلى أن تطلب من عبدها خباب أن يكويها بالنار، إذ لعلها تجد في الكي راحة، فيكف عنها وجعها، كما كانت هي تكويه بالنار عقابا له على إيمانه واتباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبارك الله أعدل الحاكمين وناصر المظلومين. قال الشعبي: سأل عمر بن الخطاب خبابا رضي الله عنهما عما لقي من المشركين؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنظر إلى ظهري، فكشف له عن ظهره فلما رآه عمر قال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل، وذلك لما رآى فيه من أثار الإحراق بالنار، من أجل عقيدته وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانه به واتباعه لشرع الله وتركه لعبادة الأوثان، فقال خباب لما دهش عمر من أثر الحريق: لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري.

رواة الحديث عنه

ومما أصابه من المشركين ما قصه هو بنفسه قال: كنت رجلا قينا - حدادا - وكان لي على العاص بن وائل - أحد طغاة المشركين - دين فأتيته أتقاضاه - أطلب ديني منه - فقال لي، لن أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت له: لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال وإني لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد - قالها استهزاء - قال فأنزل الله فيه ((أفرأيت الذي كفر بآيتنا وقال لأوتين مالا وولدا)) الآيات 77 - 78 - 79 من سورة مريم. رواة الحديث عنه: وممن روى الحديث عن خباب الإمام الشعبي، ولهذا يذكر الكثير من أخباره، كما روى عنه غيره من رواة الحديث، وممن روى عنه ابنه عبد الله بن خباب ابن الأرت، فقد روى عن أبيه خباب قال: صلى رسول صلاة فأطالها فقلنا: يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال: (أجل إنها صلاة رغبة ورهبة، إني سألت الله عز وجل ثلاثا، فأعظاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها) وقد أخرج حديث خباب هذا الإمام أحمد في مسنده وغيره عن رواة الحديث، كما جاء بعضه في حديث ثوبان - مولى رسول الله - عند الأئمة - مسلم والترمذي وأبي

داود وهو قوله (إن الله زوى لي الأرض، الخ) بقليل من اختلاف الألفاظ. وكان خباب رضي الله عنه لا يأمن على نفسه من التقصير في العمل بما يرضي الله عز وجل، فكان بحذر شديد الحذر من أن يخالف فعله قوله، فقد ذكر ابن الأثير في كتابه ((أسد الغابة)) بسنده إلى مالك ابن الحارث عن أبى خالد، شيخ من أصحاب عبد الله قال: بينما نحن في المسجد إذ جاء خباب بن الأرت فجلس وسكت، فقال له القوم: إن أصحابك قد اجتمعوا لتحدثهم أو لتأمرهم، قال: بم آمرهم؟ ولعلي آمرهم بما لست، فاعلا. وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: عاد خبابا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تقدم عليهم غدا، فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع من الموت ولكن ذكرتموني أقواما وسميتموهم إخوانا، وأن أولئك قد مضوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا من بعدهم وأوتى بكفنه قباطي - نوع من الثياب الكتانية منسوبة غلى القبط - فبكى، ثم قال: لكن حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم كفن في بردة، فإذا مدت على قدميه قلصت عن رأسه، وإذا مدت على رأسه قلصت على قدميه، حتى جعل عليه إذخر، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى

الله عليه وسلم ما أملك دينارا ولا درهما، وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف، ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا. فكلمة ((خباب)) هذه تشبه كلمة ((عمر بن الخطاب)) رضي الله عنهما، تلك الكلمة الوعظية التي قالها حين بسطت الدنيا أجنحتها على المسلمين، فكثر عليهم المال حتى فاض، بعد أن كانوا فقراء لا يجدون قوتا ولا كساء ولا مسكنا في أيامهم الخالية، قبل الإسلام، وقبل كثرة الفتوحات، ولا عجب في خوفهما هذا فكلاهما شرب من معين النبوة الصافي من الأكدار، وارتوى من نبع القرآن العذب المروي لا يحتاج الشارب منه إلى سواه وكلاهما يشير إلى آية سورة الأحقاف وهي قوله تعالى: ((ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)) الآية 20 من سورة الأحقاف، هكذا فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم التلذذ بمتاع الحياة الدنيا، فهم يخشون شديد الخشية أن تكون هذه الملذات التي أصابوها في حياتهم الدنيا، بعد الفقر والفاقة، من أطعمة وألبسة، ومساكن وقصور، أن تكون هي حظهم من النعيم قدم لهم واستوفوه في حياتهم الدنيا، إذ قد أطلقوا لأنفسهم وشهواتهم العنان في التمتع بها وبجميع أصنافها وأنواعها بلا حدود يقفون عندها، لذا فهم يخشون أن لا يكون لهم نصيب في متاع

الحياة الآخرة، فيقول لهم ربهم ما يقول للكافرين الذين قضوا كل حياتهم الدنيا في الملاذ والشهوات، فإذا جاؤوا يوم القيامة للحياة التي وعدوا بها، وهي الحياة الدائمة، جاؤوا إليها بلا زاد لحياتهم هذه، إذ لم تتركهم شهواتهم يقدمون إليها شيئا من الطاعات لربهم يجدون ثوابه ينتظرهم لتلك الحياة الطويلة، والتي لا نهاية لها، فيقول لهم ربهم: لاحظ لكم هنا ولا نصيب من التمتع في هذه الحياة، فقد أذهبتم طيبات حياتكم هذه في حياتكم الأولى واستمتعتم يها هناك إذ غلبتكم شهوات نفوسكم، فلم تدخروا من الأعمال الصالحة لهذه الحياة ما يسعدكم فيها وينجيكم من عذاب الله إذ اتباع الشهوات يقود صاحبه إلى النار، كما أن فعل ما تكرهه النفوس - ترضية لله - يقود صاحبه إلى الجنة دار الراحة والكرامة والتكريم، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا مزيد عليه لمن هداه الله ووفقه لما يرضى عنه ربه مثل حديث البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) ومثل حديث الأئمة أحمد ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - عن الله - ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار باشهوات)). فالجنة محجوبة عن الأنظار بفعل ما هو ثقيل على النفس فتكرهه، فمن ألزم نفسه بما تكرهه كأن يقوم بالفرائض التي أوجبها الله عليه كالصيام والصلاة والزكاة الخ

وألزم نفسه - وهي كارهة لها - بأدائها دخل الجنة ومن غلبته شهوات نفسه - وذلك ما تحبه النفس الأمارة بالسوء - وأطاعها وعصى ربه، قادته طاعته لنفسه باتباع شهواتها إلى جهنم، فالسور الذي أحيطت به الجنة هو ما تكرهه النفوس وما هو ثقيل عليها، والسور الذي أحيطت به النار هو اتباع شهوات النفس وهو خفيف عليها فتخطي سور الجنة للدخول إليها لا يكون إلا بما تكرهه النفس، كما أن فعل كل ما تشتهيه النفس وما هو خفيف عليها يدخل إلى النار، هذا معنى الحديثين الشريفتين والتوفيق من الله تعالى. فكلا الصحابيين رضي الله عنهما نظر إلى ما ناله المسلمون من متاع الدنيا بعد أن كانوا محرومين منه، فخافا أن مكون هذا تعجيلا من الله لهم ثوابهم الذي أعطاهم لهم جزاء أعمالهم التي قدموها في الحياة الدنيا ليجدوا ثوابها في الآخرة، فإن كل واحد منهما خاف أن يكون قد تعجل في الدنيا - أجر طاعته لله - كالجهاد في سبيل الله - مثلا - ولا يكون له نصيب منه في الآخرة فكان عمر يقول: أخشى أن يقول الله لنا كما يقول للكافرين: ((أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)) سورة الأحقاف الآية 20. وعندما مرض خباب مرضه الشديد وطال به واكتوى سبع كيات، وعاده بعض إخوانه قال لهم: لولا أني

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لألفاني حتى تمنيته). ونزل خباب الكوفة ومات بها، وجاء أنه أول من دفن بظهر الكوفة من الصحابة، وكان موته سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلا ث وسبعين سنة، ولم يشهد ((صفين)) مع علي، قال زيد بن وهب: سرنا مع علي حين رجع من صفين حتى إذا كان عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال علي: ما هذه القبور؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك إلى صفين، فأوصى أن يدفن في ظاهر الكوفة، وكان الناس إنما يدفنون موتاهم في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم فلما رأوا خبابا أوصى أن يدفن بالظهر دفن الناس، ثم دنا من قبورهم فقال: (السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبع، عما قليل لا حق، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب وقنع بالكفاف، وأرضى الله عز وجل). وأخرج الطبراني من طريق زيد بن وهب قال: لما رجع علي من ((صفين)) مر بقبر خباب فقال: (رحم الله خبابا، أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه أحوالا، ولن يضيع الله أجره). هذه شهادة تزكية واعتراف من أمير المؤمنين ((علي)) كرم الله وجهه لهذا البطل العظيم من أبطال الإسلام

وعقيدة التوحيد، فهو لها أهل، وبها أحق وأجدر، رحمه الله ورضي عنه، وجعل في المسلمين المعاصرين من يسلك سبيله ويقتفي أثره آمين. وذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى قال: دخل خباب بن الأرت على عمر بن الخطاب فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، فقال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال - وفي رواية عمار بن ياسر - قال فقال له خباب: يا أمير المؤمنين ما هو بأحق به مني، إن بلالا كان في المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني أخدوني وأوقدوا لي نارا ثم سلقونى - أحرقوتي - فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض، أو قال برد الأرض إلا بظهري، قال: (ثم كشف عن ظهره، فإذا هو قد برص) أي أصابه البرص من العذاب بالنار. وشهد خباب بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه الله ورضي عنه ورزقنا القدوة الحسنة لإبطال الإسلام ذوي العقيدة الراسخة والإيمان القوي المتين الذي لا تزعزعه صروف الأيام، ولا تقلبات الزمان والأحوال آمين.

- 9 - سلمان الفارسي

- 9 - سلمان الفارسي وابتداؤه رحلة الإيمان ــــــــــــــــــــــــــــــ هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويعرف - بعد إسلامه - سلمان الخير، وهو أحد المؤمنين المستضعفين، الذين عذبهم كفار قريش المشركون لعقيدتهم التي آمنوا بها - عقيدة التوحيد - ولإسلامهم وإيمانهم بالله وبرسوله، ولتركهم للأوثان وعبادتها وعبادها، بالرغم من أنه نشأ في وسط المجوسية وعبادة النار، ولكن الله أراد له السعادة الأبدية، والنجاة السرمدية، فساقه إلى حمى الإسلام، وسئل يوما عن نسبه فأجاب: (أنا ابن الإسلام). أصله من بلاد الفرس، ومن بلدة تسمي ((رام هرمز)) وقيل أنه من ((جي)) وهي مدينة بناحية (أصبهان) المشهورة، وكان اسمه قبل إسلامه ((مابه بن بوذخشان)) وكان مجوسيا - بحكم بيئته وقومه - ممن يعيدون النار، كما كان سادنها وخادمها الذي يزودها بالحطب حتى لا تخمد، والقائم عليها، وكان سبب إسلامه ما أخبر به - هو - نفسه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم

أجمعين، قال ابن عباس: حدثني سلمان الفارسي وأنا أسمع من فيه قال: كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان من قرية يقال لها (جي) ابن رجل من دهاقينها، وقال كان: أبي دهقان (¬1) أرضه، وكنت أحب خلق الله إليه وفى رواية أحب عباد الله إليه، فأجلسني في البيت كالجواري، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت (قاطن النار) الذي يوقدها ولا يتركها تخبو - تطفأ - ساعة وكانت لأبي ضيعة - مزرعة - وكان له بنيان يعالجه، فقال لي يوما: يا بني قد شغلني ما ترى فانطلق إلى الضيعة، - وأمرني ببعض ما يريد - ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري، قال: فخرجت لذلك، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت فيها أصواتهم وهم يصلون، فملت إليهم وأعجبني أمرهم، فقلت هذا والله خير من ديتنا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس، لا أنا آتيت الضيعة، ولا رجعت إليه فاستبطاني وبعث رسلا في طلبي، وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم، أين أصل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى والدي فقال: يا بني قد بعثت إليك رسلا فقلت: مررت بقوم يصلون في كنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم، وعلمت أن دينهم خير من ديننا، فقال: يا بني دينك ودين آبائك خير من دينهم، ¬

_ (¬1) الدهقان بكسر الدال وضمها، والجمع دهاقنة هو رئيس الإقليم أو شيخ القرية العارف بالفلاحة وبمصالح الأرض.

سلمان الفارسي يبحث عن حقيقة العقيدة والدين الصحيح

فقلت كلا والله، فخافني وقيدنى بالحديد، فبعثت إلى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم. وقصته مذكورة في كتاب ((دلائل النبوة)) للإمام البيهقي وفي غيره. سلمان الفارسي يبحث عن حقيقة العقيدة والدين الصحيح: هذا سلمان الفارسي في رحلة زمانية ومكانية طويلة وشاقة محفوفة بالمخاطر والأهوال، وفي نهايتها يبلغ مراده، بعد أتعاب ومشاق وأهوال، قال سلمان وسألتهم - النصارى - إعلامي بمن يريد الشام ففعلوا، قال: فألقيت الحديد من رجلي وخرجت معهم إلى الشام، فسألتهم عن عالمهم؟ فقالوا: الأسقف فأتيته فأخبرته وقلت له أكون معك، أخدمك وأصلي معك، فقال: أقم، فمكثت مع رجل سوء في دينه وكان يأمرهم بالصدقة، فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه، حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا - فضة - فتوفي فأخبرتهم بخبره، فزبروني - زجروني - فدللتهم على ماله، فصلبوه ولم يغيبوه ورجموه، (فقد كان هذا الراهب يسرق الأموال باسم الدين، فجازوه جزاء الخائن للأمانة، فما أولى بهذا الحكم وما أحقه بالتطبيق على خونة هذا الزمان باسم الدين) قال سلمان، وأجلسوا مكانه رجلا فاضلا في دينه، زهدا ورغبة في الآخرة

وصلاحا، فألقى الله حبه في قلبي حتى إذا حضرته الوفاة قلت له: أوصني، فذكر رجلا بالموصل، كانا على أمر واحد، حتى هلك، فأتيت الموصل، فلقيت الرجل فأخبرته بخبري، وأن فلانا أمرني بالإتيان إليك، فقال لي: أقم، فوجدته على أمره وسبيله، حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصني فقال ما أعرف أحدا على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية - بلدة في أرض الروم - - الشام -، فأتيته بعمورية فأخبرته بخبري، فأمرني بالمقام عنده واكتسبت، فاتخذت غنيمة وبقرات فحضرته الوفاة فتلت له: إلى من توصي بي، وبم تأمرني؟؟ فقال أي بني، والله لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم ((الحنيفية)) يخرج بأرض العرب، مهاجره بأرض بين حرتين، بينهما نخل، وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تلحق بتلك الأرض فافعل. ثم استمر سلمان في سرد قصته - العجيبة - وهداية الله له إلى الإسلام الحنيف، الذي رحل من أجله هذه الرحلة الطويلة في الزمان والمكان بحثا عن الحقيقة إلى أن ظفر بمبتغاه، قال سلمان: فتوفي ذلك الرجل الصالح - وهو الثالث ممن صحبهم سلمان - من أجل البحث عن الدين الحق، والعقيدة الصحيحة، ومر بي ركب من العرب من قبيلة (كلب) فقلت لهم، أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم

فحملوني إلى وادي القرى (¬1) قال سلمان: فظلموني وباعوني عبدا من رجل يهودي، فرأيت النخل فعلمت أنه البلد الذي وصف لي، فأقمت عند الذي اشتراني، وقدم عليه رجل من بني قريظة، فاشتراني منه وقدم بي إلى ((المدينة)) فعرفتها بصفتها، فأقمت في ((رقي)) معه أعمل في نخله، وبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام، وعقلت عن ذلك، حتى قدم المدينة، فنزل في بني عمرو بن عوف، فإني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لصاحبي فقال: أي فلان قاتل الله بني قيلة (¬2) مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة، يزعم أنه نبي فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذني العرواء - الرعدة من الحمى والبرد - ورجفت بي النخلة حتى كدت أن أسقط، ونزلت سريعا فقلت: ما هذا الخبر؟ فلكمني صاحبي لكمة شديدة وقال: وما أنت وذاك؟ أقبل على شأنك، فأقبلت على عملي حتى أمسيت، فجمعت شيئا فأتيته به وهو بقباء عند أصحابه، فقلت له: اجتمع عندي شيء أردت أن أتصدق به، فبلغني أنك رجل صالح ومعك رجال من أصحابك ذوو حاجة، فرأيتكم أحق به، فوضعته بين يديه، فكف يده وقال لأصحابه: كلوا، فأكلوا، فقلت هذه واحدة - يعني من أمارات ¬

_ (¬1) وادي القرى قال فيه ياقوت: هو واد بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى. (¬2) بنو قيلة هم الأنصار، وقيلة اسم امرأة وهي أم الأوس والخزرج.

سلمان يكاتب عن حريته

نبوته - ورجعت وتحول إلى المدينة فجمعت، شيئا فأتيته به فقلت: أحببت إكرامك فأهديته لك هدية وليست بصدقة، فمد يده فأكل، وأكل أصحابه، فقلت هاتان اثنتان، ورجعت، فأتيته وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد وحوله أصحابه، فسلمت وتحولت أنظر إلى الخاتم في ظهره، فعلم ما أردت، فألقى رداءه، فرأيت الخاتم، فقبلته وبكيت فأجلسني بين يديه، فحدثته بشأني كله، كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك وأحب أن يسمعه أصحابه، قال سلمان: ما فاتني من الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدر وأحد، فقد فاتاني بسبب الرق، لأني كنت عبدا مملوكا لليهودي. سلمان يكاتب عن حريته: لأن الحرية مبدأ أساسي في الإسلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحرية والتحرر من ربقة الرق والعبودية لغير الخلاق العليم وهذا هو المبدأ الإسلامى الأساسي في الدعوة، بل وفي حياة المسلمين كلها، والحرية مبدأ أساسي في الإسلام فالإنسان ولد حرا، فينبغي أن تبقى له حريته هذه وتصاحبه طول حياته كي يتمتع بها، إذ هي هبة له من الله خالقه ورازقه ومدبر أموره كلها، فإذا طرأ عليها طارئ الرق والعبودية بأي أسلوب كانت هذه العبودية،

أسرع الإسلام وتشريعه الرباني إلى فك رقبته من قيود العبودية، من أجل هذا شرع الإسلام تحرير الرقبة في الكفارات وفى غيرها من سبل البر والخير، والإحسان إلى الناس، وخاصة الضعفاء منهم والحرية مطلب مهم في التشريع الإسلامي وقد ذكرت هذه الآية وجها من ذلك، في قوله تعالى: ((قلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسبغة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة)) (¬1) لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: (كاتب يا سلمان عن نفسك). فالقرآن يحض المسلمين ويحثهم على ما فيه الخير لبني الإنسان كلهم في هذه الآيات الثمانية، على فك الرقبة - تحريرها - من قيد العبودية، إلى ميدان الحرية، أو إطعام البطون الجائعة في أيام المجاعة المهلكة - وهي المسغبة - لليتامى والمساكين، ويزيد على ما ذكر إيمان وتصديق بالله وبرسوله وبكل ما جاء من لدن رب العالين، مع رحمة وعطف على النفس وعلى عباد الله أجمعين، ملأت القلب وصيرته زينة للنفس، إذ بدونها لا يساوي قلامة ظفر. فبهذه المذكورات هنا وبغيرها من خصال الخير من كل ما جاء في الشرع الإسلامي، يمكن اقتحام عقبة يوم ¬

_ (¬1) سورة البلد.

القيامة، ولا عقبة هنا، وإنما المراد بها الشدائد يوم القيامة والحساب الذي سيحاسبه العباد، وهو أمر شديد يشبه صعود العقبة الصعبة الصعود، وهي عقبة شديدة الاقتحام لا يعرف الإنسان حقيقتها، ويكفيه دلالة على شدة يوم القيامة وما يقع فيه من الأهوال أن الله عبر عنه هنا باقتحام العقبة لما فيمه من الشدائد والأهوال على ضعفاء الإيمان أو عادميه، فقد ذكر أهوال يوم القيامة الشديد بلفظ العقبة، لأن صعود العقبة شاق ومتعب لا يستطيعه إلا أقوياء الأبدان - وهو هنا الإيمان - الأشداء فيه، فكذلك الحساب يوم القيامة وهو آت لا ريب فيه، سواء آمن به بعض البشر أو جحدوه، وهو يوم الوقوف بين يدي الرب الواحد القهار المعبود بحق، في ذلك اليوم المشهود، وتلك العقبة الكؤود الشاقة والصعبة الصعود، فلا يستطيع تخطي هذه العقبة إلا الصالحون والصادقون. نعود إلى سرد قصة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سلمان)) الفارسي حيث استقر به المقام بالمدينة المنورة بعد أن حظي بمراده، وبلغ مناه، بعد تلك الرحلة الطويلة التي قطع فيها ((سلمان)) مئات الأميال لينال ما جاء من أجله، وهو جائزة سنية للحياة الحقة، وذلك في اعتناقه للإسلام ومشاهدته وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي مكسب خير من هذين المكسبين العظيمين، غير أن حظه هذا لم يكن سهلا ميسورا، فقد كلفه ذلك ما كلفه من أتعاب وأوصاب،

فقد فقد - زيادة عما ذكر - حريته الشخصية من أجل ذلك، إلى أن أعادها إليه الإسلام، ولم يخف الله فيه من صحبه من وطنه ذلك إلى أرض العرب، فاسترقه واستعبده، وهو حر ابن أحرار على ما كان سائدا في ذلك الزمان المظلم بظلام الجاهلية الأولى، وباعه من التجأ إليه في مسيرته تلك لليهود أعداء الله والحرية وعباد المادة والمال، وهم أشرار خلق الله، وتاريخ الإنسانية عامر بمآسيهم المحزنة، ومآمراتهم الخسيسة، وفسادهم في الأرض، قلنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سلمان بتحرير رقبته - بالمكاتبة - ونزع قيد الذل والعبودية عنه، فقال له الحبيب محب الحرية والتحرر كما أخبر سلمان نفسه، قال ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: (كاتب يا سلمان عن نفسك). قال سلمان: فلم أزل بصاحبي - يعني مالكه اليهودي - أسأله وأطلب منه المكاتبة، حتى كاتبني على أن أغرس له ثلاثمائة وقيل خمسمائة (ودية) - صغار النخل - - فسيلة - وهي الجبارة أو الزمرة كما يسميها عندنا في الجزائر أهل غراسة النخيل لا زراعة النخيل فالنخيل تغرس ولا تزرع، مضافا إلى الثلاثمائة ((ودية)) أربعين أوقية من الذهب، على هذا المبلغ من الذهب والغراسة المذكورة تم الاتفاق بين سلمان ومالكه اليهودي، وهو مبلغ باهظ يطلب من رجل فقير لا مال عنده، وغريب عن هذه الديار ولا أهل له يعينونه على أداء ما أبرم بينه وبين اليهودي وهو من جنس الذين

لا يرحمون سواهم، ولكنه ثمن ((الحرية)) والحرية يبذل فيها كل ما يمكن بذله من جهد ومال وأنفس ثلاثمائة - فسيلة - وأربعون أوقية ذهبا، ثمن كثير وأخبر سلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تم الاتفاق عليه مع اليهودي الجشع، قال سلمان: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عنهم أجمعين (أعينوا أخاكم) قال سلمان: فأعانوني بالخمس والعشر نخلات صغيرة، حتى اجتمع عدد الثلاثمائة بفضل هذا التعاون من الصحابة وبفضل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بمديد المعونة لأخيهم سلمان على فك رقبته وقيده من ذل العبودية قال سلمان: فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: (اذهب يا سلمان ففقر - احفر - لها، ولا تضع منها شيئا حتى أضعه أنا بيدي) فقال سلمان: ففعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعانني أصحابي على الحفر حتى فرغت، فأتيته، فكنت آتيه بالنخلة فيضعها ويسوي عليها ترابا، فانصرف - والذي بعثه بالحق - فما ماتت منها واحدة، وبقي الذهب، فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل بيضة الدجاجة من ذهب أصابه من بعض المعادن، وقيل من بعض الغزوات فقال (دع لي سلمان المسكين الفارسي المكاتب، فلما جئته قال: أد هذه) فقات: يا رسول الله وأين تقع هذه مما علي، قال (خذها فإن الله سيؤدي بها عنك).

قال سلمان فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم منها. وبهذا التعاون الإسلامي تم عتق رقبة سلمان الفارسي، وخرج للدنيا حرا طليقا حرا مثل عباد الله الأحرار، وكما رأينا، فقد شارك في تحرير سلمان ثلة من الصحابة بالتعاون، وأمامهم إمامهم الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فقد بذل لسلمان ما أعانه على الوفاء بما التزم به لمالكه اليهودي، أعانه بعرق جبينه الشريف، حيث كان يغرس له بيده الطاهرة كل (ودية جبارة) فصلحت كلها، ولم تيبس منها واحدة هكذا كان ويكون التعاون بين المسلمين، لا فرق بينهم في المعاملة الحسنة، كلهم يتعاونون على فعل الخير وليس هناك مثال - وكم له من أمثال - أدل على هذا التعاون من مشاركة خير الخلق أجمعين في عمل شاق فيه تحرير رقبة ((عبد)) من فارس، ذلك أن الإسلام يعتبر المسلمين كلهم إخوة، بلا فرق في العرق والجنس، ليت المسلمين رجعوا إلى تشريع شريعتهم وألغوا ما استوردوه من فضلة قوانين وضعية وضعها الكفرة بالله، زرعت بينهم الحسد عن التعاون والبغضاء والأنانية وحب الذات، وهذه كلها أمراض تصيب المجتمع فتعوقه وتقتل فيه روح التعاون، ليتهم يفعلون هذا فيسعدوا وينفعوا بحياتهم هذه، فقد كفاهم ما هم فيه من التفرق والتدابر والتناحر والتخاذل الشنيع وهذه الأمراض الاجتماعية نتيجة لتلك الأمراض،

ولكنهم ابتعدوا - كثيرا - عما هم طالبون به، والله الموفق للخير والهداية، فعتق سلمان بهذا التعاون وخرج من الرق حرا يتمتع بحياته، كما يتمتع بها الأحرار، يعبد ربه كما يشاء ويريد، ويتبع رسول الله كما يحب أن يتبعه من غير أن يمنعه مانع، ويزوره كما يشاء بلا خوف ولا اختفاء عن أعين الرقباء، هذه هي الحرية التي دعا إليها الإسلام، وطبقها في أيام حكم القرآن، لا حرية الكفر والفجور والفسوق والعصيان والإلحاد، التي يتبجح ويفتخر بها بعض الحكام الذين ابتليت بهم الشعوب الإسلامية، فقد قهروا المسلمين بظلمهم وطغيانهم باسم الحرية، وفتحوا الباب على مصراعيه لمن لا دين له ولا ذمة يرعى حقوقها، فعاثوا في الأرض فسادا، وزرعوا في شعوبهم بذور الشرور والتفرقة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، ومنعوا حرية الرأي والقول والتعبير، فلا يسمح لأحد أن يتكلم أو يكتب أو ينشر على الناس إلا ما وافق أغراضهم وأهواءهم وما فيه مصالحهم الخاصة بهم ولو كان في ذلك هلاك الوطن والأمة معا، في حين تركوا الملحدين وذوي الأخلاق السيئة يقولون ما يريدون أن يقولوه، وينشرون على الناس ما ظهر لهم أن ينشروه، والويل لمن كتب في الإسلام، أو تعرض لفضائله وأحكامه، هذا ما رأيناه منتشرا في غالب الأوطان الإسلامية، بالقول وبالفعل، وهذه إحدى النكبات التي أصابت الشعوب الإسلامية بعد تحررها من الاستعمار الكافر بفضل الإسلام

من هو المكاتب وما هي الكتابة

فانقلب بعض حكامهم على الإسلام وصاروا له خصوما والبعض منهم تحول - بعد فوات الأوان - إلى مسلم شديد التمسك بالإسلام يدعو إليه ويعترف بفضله عن غيره من أنواع الحكم، بعد أن وصفه بـ ((البالي)) وسمى القائمين بالإسلام والداعين إليه والمدافعين عنه بالرجعيين! ولولا الإسلام لما وصل هؤلاء إلى ما وصلوا! فصار حالنا شبيها بحال من كان يعيش في القرون الوسطى المظلمة بظلام الجور والذل والقهر، وقد أغلقوا أبواب مقر حكمهم الحديدية في وجوه الظلومين، وبذلك أثبتوا أنهم لا يصلحون للحكم بين الناس، ونسوا موقفهم يوم القيامة - وهو آت لابد منه - بين يدي أحكم الحاكمين وسيحاسبهم على أعمالهم وهو أسرع الحاسبين، وصاروا لا يقبلون النصيحة من أي أحد كان، وإذا ضاعت الحقوق في الدنيا فإنها لا تضيع يوم القيامة، وتكملة روح التعاون التي كانت بين المسلمين أقول: قد روى أبو الطفيل عن سلمان الفارسي قال: أعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب، فلو وزنت بأحد - الجبل - لكانت أثقل منه. من هو المكاتب وما هي الكتابة؟؟ الكتابة عقد يبرم ويتم بين السيد المالك وعبده المملوك له، فهي عقدة بيع وشراء واتفاق بينهما على

مبلغ من المال يدفعه العبد لسيده، فإذا دفعه له خرج من عنده حرا فلا تكون له سلطة عليه، وهذا نوع من أنواع العتق، فالعبد المملوك يشتري رقبته من سيده ومالكه، ليزيل عن نفسه عناء العبودية وذلها وشقاءها، يمنح السيد عبده فرصة للعمل خارج نطاق ملك سيده، فيعمل العبد بالأجرة ويأتيه بالقدر الذي يحصله منها ويدفعه له فإذا تم دفع المبلغ المتفق عليه بينهما حرر العبد نفسه بنفسه، كما فعل سلمان مع مالكه اليهودي، بإشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا كان العمل جاريا في السابق من الزمان أيام كانت العبودية والعبيد، ومن تتبع التاريخ القديم أدرك مدى الغاية التي يرمي إليها الإسلام في تشريعه لهذه الأحكام، التي ترمي إلى الحرية والتحرر، سواء كان هذا بالمكتابة، أو بتحرير الرقاب، كما في الكفارات، أو بالعتق لله وفي سبيل الله، والكتابة المذكورة باب من أبواب الفقه الإسلامي. وقد رغب القرآن الكريم في الكتابة هذه وحث المسلمين عليها وطلب من المالكين تسهيلها وتيسيرها على عبيدهم، إذا علموا فيهم خيرا، كصلاح في الأقوال والأعمال، أو قدرة على كسب المال، أو ليتفرغوا لشؤونهم الخاصة، كزواج، وجهاد، وتعلم حرفة، إلى غير هذا مما يزيد في قوة المسلمين، فإذا طلبها العبيد من مالكيهم أعطوها لهم ومكنوهم منها، كما فعل مالك سلمان - اليهودي - وغيره من السادة

المالكين للعبيد، وهذا كان شائعا في العصور القديمة، وقد دعا إليها الله جل جلاله ورغب فيما، فقال: ((والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)). سورة النور من الآية 33. فالآية فيها ترغيب للمسلمين على منح الكتابة لعبيدهم وتسهيل ذلك عليهم، بل ما هو أكبر من ذلك، فقد أمر بإعانتهم بالمال على ذلك، سواء كان المال من مال السيد الخاص به، أو من مال الجماعة الإسلامية كمال الزكاة مثلا، وهذا حق لهم مقرر من الله وموجود في مصارف الزكاة الثمانية، إذ هذه الإعانة على التحرر إحدى الأوجه الثمانية، وهي في قوله تعالى: ((وفي الرقاب)) فتلخص من هذا أن العبد المملوك يشتري نفسه من سيده بمال يؤديه له حسب الاتفاق الذي يتم بينهما، ويكون بدفع ذلك المال حرا وسيدا لنفسه ولا سلطة لأحد من الناس عليه، وهذه هي الكتابة شرعا. هذا ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه ((سلمان الفارسي)) حين طلب منه أن يكاتب مالكه اليهودي، وعلى هذا أعانه بالمال - الذهب - وغرس النخيل حتى فك رقبته من سيده اليهودي الذي اشتراه هو بالمال أيضا كما تقدم وهذا باب معتبر من أبواب الخير والإعانة عليه، كما هو باب من أبواب الفقه الإسلامي، له شروطه وأحكامه المقررة له.

ونلاحظ هنا

ونلاحظ هنا: أن الرق - والعبودية بالمعنى القديم - قد زال من العالم الحاضر، لانعدام الجهاد الشرعي فقد خلفه رق من أنواع أخرى، وهو أخطر وأفظع وأشد على النفس البشرية من الرق القديم، والمعروف أن ذلك هو رق الأفكار والعقول والمشاعر، فقد استولى عليها رق الإلحاد الذي نشر سلطانه على ضعفاء العقيدة ووجد الوسائل الكفيلة ببلوغه إلى مراده ومنه اسرقاق الحكومات القوية - كأمريكا وروسيا - لبعض الشعوب وحكوماتها الضعيفة فجعلتها تابعة ومسخرة لها تسير في فلكها لا تملك لنفسها أمرا، ويضاف إلى ذلك نوع آخر كرق حب المال والشهوات، ومن المعروف أن الرق أو العبودية لا يوجم إلا في أوساط الضعفاء، فيتسلط عليهم بقوته، غير أن الضمير الإسلامي لازال يقظا - والحمد لله - فالإلحاد مثله مثل السارق الذي ينتهز فرصة غفلة رب البضاعة أو المتاع ليستحوذ عليها، ومن سوء طالعه التعيس أن تيقظ له هذا الضمير، فانتبه لما يريده0 هذا اللص الخبيث، فصاح به مستعملا كلمة كنا نسمعها من بعض الصبيان وقت اللعب في صغرهم مع بعضهم البعض أو عن بعض الرجال من محترفي - السياسة - في أيام مجدهم السياسي وارتفاع صيتهم في غفلة من الزمان، فإذا أرادوا الرجوع إلى كسب ما فقدوه من مناصب كانوا عبثوا فيها وداسوا بها الكرامة والمبادئ، صاح بهم أبناء الشعب الذي سخروا منه أولا مرددين هذه الكلمة،

وهي قولهم لهم (فاقوا بكم) - ومعناها انتبه الناس لما تريدون - هذا ما يقوله المسلم - اليوم - لدعاة الإلحاد، والشهوات، وعبيد المال. إذن فليعن بعضنا البعض على التحرر من عبودية الشهوات، وعقائد الزيغ والضلال والإلحاد، إذ عبودية الرقاب قد انتهى زمنها، وذهب غير مأسوف عليه وخلفته عبودية الشهوات ورق المال اللذين صيرا الأحرار عبيدا. إن سلمان الفارسي قد شارك المسلمين في حياة النضال والجهاد من أجل العقيدة الصحيحة بعد أن نال حريته بكتابته، فقد اندمج في حياة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشارك في كل الغزوات معهم بعد التحرر، ولم يفته من تلك الغزوات إلا غزوتا بدر وأحد وبعض المناوشات لأنه كان عبدا رقيقا مملوكا لسيده والمملوك لا جهاد عليه، وأول غزوة شارك فيها هي غزوة (الخندق) لأنه تحرر من الرق، ولم يتخلف عن مشهد من المشاهد بعدها، وسميت بغزوة الخندق لأن سلمان الفارسي هو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحفره إذ العرب كانت لا تعرفه فهو من تنظيمات الدول الحربية.

روايته للحديث

روايته للحديث روى سلمان عدة أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله عليه الصلاة والسلام، (لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، أخرجه الإمامان أحمد والبخاري، وروى عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله ملى الله عليه وسلم: (هل تدري ما يوم الجمعة؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: هو اليوم الذي جمع الله عز وجل فيه أباكم أو أباك آدم عليه السلام، ما من عبد يتطهر يوم الجمعة، ولا يتكلم حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة لما قبلها). وقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم صاحبه سلمان، وشاهد ذلك الحب قوله عليه الصلاة والسلام فيه: (سلمان منا أهل البيت)، فهذا وحد كاف في منزلته عنده، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان) وفي رواية أربعة بزيادة المقداد، أخرج الأول الترمذي والحاكم، وأخرج الثاني الطبراني، وأبو نعيم في الحلية.

وكان سلمان رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم ومن ذوى القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها، كان لسلمان مجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى كان يغلبنا على رسول الله، وسئل علي رضي الله عنه عن سلمان فقال: (علم العلم الأول والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت). وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): سئل علي عن سلمان فقال: (من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ وقال فيه أيضا، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت). مكانة سامية، ودرجة عالية في أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم يصل إليها سلمان، فهو رجل من الفرس غريب عن العرب، يلحقه الرسول العربي بأسرته وعشيرته (سلمان منا أهل البيت) ما ذاك إلا رابطة الدين التي تمحو فوارق العرق والوطن واللون وتثبت رابطة العقيدة التي قوت هذه الصلة الروحية التي شرعها الرسول الكريم بنفسه لأمته، وهذا لم يكن في غير الإسلام إلى يومنا هذا، ولن يكون أبدا وإلى أبد الآبدين - إن شاء الله - وهذا من فضل الله على الإنسانية كلها، والحمد لله رب العالمين، وقد أهملت هذه الرابطة الحكومات الإسلامية في وقتنا الحاضر، وجعلت مكانها التجنس بجنسية الدولة، لمن

أخوة الإسلام

أراد أن يكون مواطنا في تلك الدولة المسلمة، له حق الإقامة والعمل فيها، سبحان الله، ما هذا؟ فقد ألغيت جنسية العقيدة والشريعة الواحدة التي تجمع بين أبناء الملة الواحدة فوطتهم واحد أينما كانوا ووجدوا فوطنهم العقيدة الواحدة، وعوضت بقوانين من وضع البشر الحقير، وشتان بين ما شرعه الله وما شرعه البشر لأنفسهم من القوانين الوضعية، وهي أخوة العقيدة. أخوة الإسلام: ما بين سلمان الفارسي، وأبي الدرداء العربي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، ومن بين من آخى بينهم سلمان الفارسي وأبو الدرداء العربي كما آخى بين المهاجرين والأنصار، سكن أبو الدرداء الشام، وسكن سلمان العراق، فكتب أبو الدرداء من الشام إلى أخيه سلمان المستقر بالعراق يقول له: أخي سلمان سلام عليك، أما بعد فإن الله رزقني بعدك مالا وولدا ونزلت الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان من العراق،> يقول: أخي أبا الدرداء سلام عليكم، أما بعد فإنك كتبت إلي أن الله رزقك مالا وولدا، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك وكتبت إلي تقول: إنك نزلت الأرض المقدسة، وأن الأرض لا تعمل لأحد، فاعمل لكأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى.

زهده في الدنيا

زهده في الدنيا: جاء في الأخبار أن حذيفة قال لسلمان: ألا نبني لك بيتا؟ قال له سلمان: لم؟ لتجعلني ملكا وتجعل لي دارا مثل بيتك الذي بالمدائن؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتا من قصب، ونسقفه بالبردى، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يصيب طرفيك، قال: فكأنك كنت في نفسي. وكان عطاء سلمان - وهو ما يأخذه من بيت المال - خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه فرقه في الفقراء والمساكين، وأكل من كسب يده، وكان يسف الخوص - أي ينسجه - ليجعل منه المكاتل وغيرها. وهو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، حول المدينة المنورة حين تحزبت عليه الأحزاب وهم (كفار قريش، والمنافقون، واليهود) الذين أتوا لغزو المدينة سنة أر بع من الهجرة، وعمل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، بعد أن عمل بإشارة سلمان عليه بحفره، وقد شارك أصحابه في العمل، كما هو مذكور في محله، فكان الخندق واقيا للمدينة من زحف الأحزاب عليها، وبه سلمت من هجوم الأحزاب عليها بقواتهم الوافرة، وعددهم الضخم إذا قيس بقوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي مكيدة حربية غير معروفة عند العرب في ذلك الزمان، فإلى سلمان يرجع فضل سلامة المدينة من فساد

اليهود والمنافقين والمشركين، فلم تقع حرب فيها، كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ((وكفى الله المؤمنين القتال)) حيث رجع الأحزاب على أعقابهم خاسرين وخاسئين، إذ سلط الله عليهم ريحا قوية وشديدة أسقطت قدورهم من فوق أثافيها المنصوبة عليها، كما اقتلعت وأسقطت عليهم قوائم خيامهم التي كانت تحملها، وألقت الرمال والأتربة عليهم، وقد أفزعهم ما رأوه واقعا ونازلا بهم في لحظة قليلة، فأسرعوا بالعودة من حيث أتوا هاربين فارين، وهذا من نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الله وحده، فلا حرب فيها ولا قتال، وكان اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لما أشار به سلمان عليه يحفر الخندق نجاحا له لم يكن متوقعا على الأحزاب وانتصارا باهرا لرسوله الكريم، فقد جاؤوا بنية الغزو والفساد للبلاد والعباد فكانت الخيبة والهزيمة من نصيبهم الذي غنموه وعادوا به إلى ديارهم، وهذا من صنع الله، لحماية دينه ووقاية رسوله من شر الغزاة المفسدين، ولما عمل رسول الله بإشارة سلمان (في حفر الخندق) ولما رآى فيها من أنها وسيلة من وسائل الحماية والوقاية للمسلمين، ادعى كل من الأنصار والمهاجرين نسبة سلمان إليهم، فقال الهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سلمان منا أهل البيت))، أخرجه الحاكم والطبراني عن عمرو ابن عوف.

رواة الحديث عنه

رواة الحديث عنه: روى عنه الحديث كثير من الصحابة، منهم عبد الله ابن عباس، وأنس، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قال: قلت يا رسول الله وكيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال: تبغض العرب فتبغضني) أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم عن سلمان. فإلى بعض الجهال ممن يدعون الإسلام نسوق هذا الحديث. ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه: فضل الله البعض من عباده على غيرهم بفضائل ظهرت في أعمالهم وسلوكهم، ومما سلف علمنا فضل سلمان الفارسي، الذي دفعه حبه للدين الصحيح والعقيدة السليمة وبحثه عن الحق إلى المخاطرة بحياته، وإلى المغامرات التي خاضها من أجل البلوغ إلى غايته التي قطع في سبيلها الفيافى والقفار، ولم يشأ أن ينعم بنعيم الحياة الدنيا مع أبيه الذي كان يحبه حبا عظيما وبين أهله وعشيرته التي كانت تجله وتقدره لما يقوم به من أعمال دين قومه وعقيدتهم ونارهم المعبودة، من دون الله رب العالمين، وهذا توفيق من الله لهذا الرجل الصالح

وتلك الغاية التي هام بها ومن أجلها، هي الوصول إلى الشرب من معين الدين الحق الذي دله عليه الراهب النصراني المسيحي، الذي لازمه مدة لأخذ الدين عنه، فاستجاب سلمان لنداء ضميره وما تصبو نفسه إليه، لذا - وحده - فارق أسرته التي نشأ بين أحضانها، وترك ذلك العطف والمحبة والحنان الذي كان يحبوه به أبوه، كما أخبر به هو نفسه، فارق ذلك كله بحثا عن الحقيقة، وقد ساقه الله إلى قوم فيهم المحسن والمسيء، حتى بيع على أنه عبد مملوك، والواقع أنه حر، إلى أن بلغ مراده، واستقر في - يثرب - مدينة الرسول قبل أن يهاجر إليها، فسبقه سلمان، وهذا من علامات السعادة التي أنعم الخالق بها على هذا المسلم والمؤمن الصادق الذي تعلق قلبه الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما وصفه له آخر من صحبه من رهبان النصارى، وعاش صحبة الرسول الكريم، وقد أحبه وقربه إليه وحباه من فضله وبره، وقديما قيل (لا يعرف الفضل إلا ذووه) وقيل أيضا في القديم: فألقت عصاها واستقر بها النوى…كما قر عينا بالإياب المسافر ومما جاء في الثناء عليه ما أخرجه الإمام الترمذي في جامعه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يوما: ((وإن تتولوا

يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم سورة محمد صلى الله عليه وسلم، الآية 38 قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: (هذا وقومه) قال الإمام الترمذي بعد أن ساق هذا الحديث: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وفي رواية فضرب على فخذ سلمان وقال: (هذا وأصحابه). وجاء في صحيح الإمام البخاري من كتاب التفسير عند الكلام على سورة الجمعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة، وفيها قوله تعالى: ((وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الرحيم)). قال قلت من هم؟ يا رسول الله: فلم يراجعه حتى قالها ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع يده على سلمان ثم قال (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء). وجاء في صحيح الإمام مسلم - ج 16 بشرح النووي - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان الدين عند الثريا لذهب إليه رجل من فارس، أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله) ومن طريق أخرى (كما تقدم عن الترمذي في جامعه) عند مسلم أيضا وفي نفس الجزء عن أبي هريرة أيضا قال: كنا جلوسا عند النبي صلى

الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ ((وآخرين منهم لما يلحقوا بهم)). قال رجل من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأل مرتين أو ثلاثا، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). بينت هذه الأحاديث الشريفة فضل سلمان الفارسي وفضل الشعب الذي ينتسب إليه، إنه شعب يحب الدين والإيمان، ويكثر من البحث والاستقصام للحقائق، ولا يكتفي بالقشور الفارغة دون اللب العامر بالفوائد والخيرات. قد عرفنا السبيل الذي سلكه سلمان الفارسي، وهو سبيل شاق وطويل، للوصول إلى حقيقة الدين الصحيح، والمصاعب التي كابدها واعترضت سبيله في رحلته الطويلة، فقد تنقل في حياته الدينية بين المجوسية - دين آبائه - والمسيحية التي فضلها أولا على المجوسية والتي عاشها سنوات بحثه عن الدين الحق، وتنقل من أجلها فيما بين الشام والعراق، إلى أن وصل إلى الغاية من تلك الرحلة الشاقة والطويلة في الزمان والمكان، وليس هذا بالأمر السهل على كل أحد، لو لم يكن له الصدق في الطلب، والعزم في السعي، والهمة العالية،

والرغبة الصادقة، لما بلغ مراده، رضي الله عنه ورزقتا همة كهمته وعزما كعزمه، وإيمانا مثل إيمانه، إنه السميع المجيب، ولله در من قال (وهو علي بن أحمد النعيمي) في القديم من الزمان. إذا أظمأتك أكف اللئام … كفتك القناعة شعبا وريا فكن رجلا رجله في الثرى … وهامة همته في الثريا فإن إراقة ماء الحيا … ة دون إراقة ماء المحيا فقد حفظ التاريخ بض الرجال من الشعب الفارس خصائص قل أن وجدت في غرهم عن قديم الزمان سواء في ميدان العلوم أو الحضارة، وهو الشعب الذي لا يقل عن بقية الشعوب الإسلامية تمسكا بدينه وعقيدته بل ربما فاق البعض منها في بعض المواقف، وألاحظ هنا: (بأنني عربي مسلم، ولست شعوبيا، فلا يظنن ظان غير هذا فيهلك مع الهالكين) وفي هذا التاريخ المحفوظ أسماء لامعة لبعض العلماء العظماء، سواء في اللغة العربية، أو في التفسير وعلوم القرآن، أو في علوم الحديث، أو في العلوم العقلية، وقد شاركوا بمجهوداتهم الفكرية في الثقافة الإسلامية، فلا ينكر فضلهم إلا الحسود والجهول، ومن هنا تظهر خصائص الدين الإسلامي الحنيف، البعيد عن سوس السياسة المتحيزة ووسواسها الخناس وشيطانها المريد، إذ لا طائفية ولا عنصرية في الإسلام، فكل المسلمين إخوة، أبناء دين واحد وعقيدة واحدة، ولا عبرة فيه لتباين

لغاتهم ولهجاتهم، وهذه هي الأخوة الإسلامية التي تقاوم نزعات شياطين الإنس والجن، فتدفعها بعيدا عن الساحة الإسلامية الطاهرة حتى لا تفسدها، فيجب على المسلمين الصادقين أن يرعوا هذه الأخوة - دائما - وليحذروا تسرب تلك النزغات والنزعات الشيطانية إلى صفوف البعض ممن يدعون الإسلام، فإنها تفسد ما بين الإخوة، وتفرق الجماعة المجتمعة، وتوهن القوى، ومن أجل هذه الآثار السيئة التي تتركها تلك العصبية الجاهلية في الجماعة الإسلامية حاربها الإسلام ونبيه كما هو معلوم لمن درسه بتجرد عنها، من ذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم (في غزوة المريسيع) عند ما سمع الأنصاري يستنجد بالأنصار، والمهاجر يستغيث بالمهاجرين قال: (ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة)، فالاستنصار بالعصبية القبلية والطائفية خبيثة العنصر والمادة، تؤول بالجماعة الواحدة إلى الفرقة والعداوة، فرائحتها خبيثة، وما تتركه في الأمة شر كبير، لا يميل إليها، ولا يرضى بها إلا الأشرار والمفسدون، الذين سيؤول أمرهم إلى تفريق الجماعة، إذا عملوا بها واستجابوا لشيطانها لأنها من دعوى الجاهلية التي نهى عنها المسلمون بعد أن دخلوا في الإسلام، وقد وجد فيها أعداء الإسلام وسيلة فعالة لتفريق الأمة الإسلامية بطوائفها المتعددة، فالمغرور والجاهل بالعواقب من استجاب لهم وعمل بقولهم، ذلك أن عواقبها تؤدي إلى الفرقة والتشتت، ثم إلى الضعف

والوهن - وهذا ما يريده أعداء الإسلام - كما جاء في حديث ((الحارث الأشعري)) رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكرياء بخمس كلمات إلى آخر ما جاء في نصفه الأول، وجاء في نصفه الأخير قوله عليه الصلاة والسلام؛ وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم، فقال رجل يا رسول الله: وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام - وزعم أنه مسلم - فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين، عباد الله). (صحيح الترمذي ج 10)، وقال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه ((الوابل الصيب)) بعد أن ساق الحديث بطوله قال: فذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الشأن - الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله - ما ينجي من الشيطان وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه) انتهى كلام ابن القيم. إن الهدف الذي يرمي إليه الإسلام ويدعو المسلمين إليه - وهو المعتبر في حياة الأفراد والجماعات - إنما هو العقيدة، والتدين والصلاح والاستقامة، ونقاوة السريرة، من غير نظر واعتبار إلى النسب علا وارتفع،

أو نزل وتدلى، ومن هذا المنطلق والاعتبار ما ذكره الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) عن معمر عن قتادة قال: كان بين سعد بن أبي وقاص وبين سلمان شيء، فقال له سعد: انتسب يا سلمان (يريد اذكر نسبك) - وفي طلب سعد هذا لمزة - فقال سلمان ما أعرف لي أبا في الإسلام، ولكن (سلمان ابن الإسلام) فلله در سلمان في هذا الجواب، فقد قال المسلم القديم قبله مفتخرا بإسلامه، تاركا لمن يفخر بالعظام البالية النخرة وإلى من يجري وراءها في ميدانهم ما أرادوه أبي الإسلام لا أب لي سواه … إذا افتخروا بقيس أو تميم فبلغ ما قاله سعد لأخيه سلمان إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب، فلقي عمر سعدا ذات يوم، فقال له عمر انتسب يا سعد، فقال سعد لعمر، أنشدك بالله يا أمير المؤمنين (قال وكأنه عرف ما أراده عمر من انتسابه) فأبى عمر أن يدعه، حتى انتسب، تم قال له عمر، لقد علمت قريش أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية، وأنا عمر ابن الإسلام، أخو سلمان ابن الإسلام، ثم قال له عمر، أما والله لولا شيء لعاقبتك. فما أعدل الإسلام وما أطيبه، وما أعدل عمر في حرصه على سلامة الإسلام واطمئنان الغرباء عن العرق العربي إلى نسبتهم إليه فلا عيب عليهم، ولا حيف ولا ظلم يلحقهم إذا كانوا خارجين عن النسب العربي، فهم والعرب سواء

في النسبة إليه، لأن الإسلام دين الله إلى كل البشر، لا إلى العرب وحدهم، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، فلا يفتخروا بهما - الإسلام ومحمد - عن غيرهم، فهما لمن اتبعهما وعمل بما جاءا به، وقد غرس عمر حب الإسلام في القلوب الحية، ثم أوضح لسعد ما يفيده بأن الافتخار بالأجداد المشركين لا يكسب المسلم العز والفخر، بل الهوان والمذلة، ثم قال له: أوما علمت أن رجلا انتمى إلى تسعة آباء في الجاهلية فكان عاشرهم في النار؟ فعمر رضي الله عنه يشير بقوله هذا إلى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده - وانفرد به - عن أبي ريحانة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكرما فهو عاشرهم في النار)). أو كان - عاشرهم في النار - كما جاء في بعض طرق الحديث. بهذه الروح الإسلامية النقية التي لا تحب الفخر بالآباء المشركين، ظهرت الأخوة الإسلامية بأجلى مظاهرها ولا ترضى بذلك الانتساب المشين، والافتخار المهين - أن يتسرب ويتنلغل في صفوف أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة، إذ ما يرمي إليه عمر هو ما دعا إليه الإسلام، وحث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمير المؤمنين عمر أراد للمسلمين أن يتحلوا بحلية الأخوة الإسلامية البعيدة عن الفخر والإعجاب بالأنساب

الجاهلية، فهم إخوة في الإسلام متساوون في كل شيء لا فرق بين عربي وعجمي إلا بقدر طاعة الله , والعمل بالإسلام وللإسلام، ومن غير اللائق بهم أن يتطاول منهم أحد على أخيه، بنسبه أو بعرقه، لأن هذا من شأن الجاهلية المشركة الأولى ومن أعمالها، فهو موقف صلب هذا الذي وقفه عمر مع قائد من قواد المسلمين - وهو من الصحابة أيضا - المشهورين بالشدة في الحروب، (سعد بن أبي وقاص) من غير أن يجامله - كما نفعل نحن - على حساب الدين والمبادئ، أو بغض الطرف عنه لأنه من حزبه، أو كان تحت إمرته وقيادته، فما أحسنك يا تربية الإسلام. فسعد بن أبي وقاص أراد أن يفتخر بنسبه العربي الجاهلي على سلمان الفارسي، فرده عمر إلى الصواب، وإلى ما يجب أن يكون عليه مع رجل هو آخوه في الدين والعقيدة جاء من وطن بعيد في رحلة طويلة وشاقة، استغرقت مدة من الزمن وقطع فيها آلاف الأميال يطلب الهداية والنور والحقيقة، فلا يليق بصاحب الأخلاق الإسلامية أن يهينه أو يحتقره، وهو الذي كان أبناء شعبه الفرس يحترمونه لأنه كان سادن معبودهم - النار - وخادمها القائم عليها حتى لا تخبو ولا تطفأ قال فيه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) وكان لبيبا حازما، من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم، وقد رأينا كلمة عمر في تركه للافتخار بأصله الجاهلي، وافتخر بالإسلام

وفاته

تطمينا لخاطر سلمان وردا على ما طلبه سعد من سلمان، وتلك هي الحقيقة التي جنح إليها عمر، فقال عمر (وأنا عمر ابن الإسلام). وللعلاقة الأخوية التي كانت بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وهي الأخوة التي جعلها بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ذكر أهل السير عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء نزل في الشام - كما تقدم ذكرم - وكتب إلى سلمان النازل بالكوفة - كما مر - يقول له: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان، أن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا - يشير سلمان إلى منصب القضاء الذي كان يشغله أبو الدرداء بين الناس - فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطببا - دعيا - فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا حكم بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما وقال (متطبب والله إرجعا أعيدا علي قضيتكما) أو قصتكما. وفاته: قال أهل العلم: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، وقيل مائتين وخمسين سنة على خلاف في مدة حياته وقال أبو نعيم: كان سلمان من المعمرين. وتوفي سلمان رحمه الله ورضي عنه سنة خمس وثلاثين للهجرة، في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل أول سنة ست

وثلاثين، وقيل غير هذين، وقال الواقدي: مات سلمان في خلافة عثمان بالمدائن، سنة ثلاث وثلاثين، وقيل ست وثلاثين، ولم يحضر وقعتي الجمل وصفين، رحمه الله ورضي عنه، ورزقنا حبه والقدوة الحسنة لسلفنا الصالح، أنصار العقيدة الإسلامية، وعمدة الدين

كلمة ختامية - فيها عبرة وذكرى لكل عبد منيب

كلمة ختامية - فيها عبرة وذكرى لكل عبد منيب: بأمثال هؤلاء المؤمنين المستضعفين الصابرين على البلاء والعذاب ظهر الحق وزهق الباطل وانتصر العدل على الجور والطغيان، واندحر الظلم والباطل والفساد، فاستنارت البصائر المظلمة، وأشرقت على عالم الإنسان شمس اليقين، وفي هذا السعادة كل السعادة، والطمأنينة كل الطمأنينة، فبعثت أرواح بني آدم بعثا جديدا، فحلت في أجسامها بعد أن سكنتها أرواح مردة شياطين الوثنية، وطهرت من خبث الطوية. وبمثل هؤلاء الأخيار الطيبين أمكن رفع لواء التوحيد عاليا وخفاقا، وجد السير به سيرا حثيثا ومتواصلا أشواطا تتبعها أشواط، إلى أن أشرقت شمس المسيرة الإسلامية على أحياء الأحرار، ومحبي معاشرة الأحرار الأخيار فأنارتها بنور اليقين بعد ظلام دامس في أيام الشرك ولياليه، تلك التي امتدت عبر أزمان غابرة، قطعتها الإنسانية في جهالة جهلاء، فلما حان موعد الحياة الحقيقية الصالحة بالإنسان، قال الله الخالق المدبر الحكيم لرسوله محمد العظيم: ((إنا أرسلناك

بالحق بشيرا ونذيرا)) (¬1) وقال له: ((لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون)) (¬2) وقال له: ((ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون)) (¬3). وقال له: ((لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون)) (¬4). فبمثل هذه النفوس الخيرة التي كونها وصانها الإسلام، والتي مر بنا شيء يسير من مواقفها الصلبة، في صف الحق واليقين، ضد الباطل والفساد، تحول اتجاه الإنسانية، وبمثلهم تطهرت الأرض من رجس الوثنية، وأقدار الباطل والضلال، لا بأولئك المتكبرين والمذبذبين الخوارين ضعاف الإيمان، أصحاب الوجوه المتلونة كـ - الحرباء - التي تعطي للشمس لونا وللظل لونا آخر غير لون الشمس. أولئك المذبذبون الذين مرجت نفوسهم، وضعفت عقائدهم، فتراهم واقفين تارة إلى جانب الحق ساعة ظهوره وقوته، وتارة أخرى تنقلهم الريح - إذا هبت - إلى جانب الباطل، حين يقوى - مؤقتا - فيكونون لسانه وسمعه وبصره، إذا لزم الأمر ولاحت المصلحة الذاتية من بعيد، فطائفة من البشر مثل هؤلاء، لا تحسب لا في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 119. (¬2) سورة يس، آية 6. (¬3) سورة القصص، آية 46. (¬4) سورة السجدة، آية 3.

العير ولا في النفير، فوجودهم وعدهم سواء، فلا يوثق بهم ولا يعتمد عليهم، أما أصل العقيدة وما تتطلبه من الوقوف إلى جانبها إذا حاربها خصومها، وما يقتضيه ذلك الموقف فهذا شيء آخر بحسب الظروف والملابسات، فهم مع الحق في زمن ظهوره، ومع الباطل في ساعة عتوه وجبروته، والفضل يرجع - دائما لأهل الصدق والوفاء، فهم أنصار الدين المتمسكون بعقيدتهم الإسلامية. ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يميل إلى الجبابرة والطغاة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بل كان يحب الفقراء ويميل إليهم، فهم في الغالب يصبرون على ما ينالهم، ولا يخافون على أموالهم أن تضيع أو تنقص، ولا على مناصبهم أن تنزع منهم، بل كان يجالسهم ويعطف عليهم، وقد ضرب المثل الأعلى في هذا وكان يقول (اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين). أما الطغاة والجبابرة الذين يأنسون من أنفسهم نوعا - ما - من القوة، فإنهم يترفعون - جهلا وغرورا - عن إخوانهم الضعفاء، فكم وكم من نصيحة قدمها، وكم من توجيه وجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقائد المسلمين فلم يعبأوا به، فأصابهم ما يصيب المعرضين عن نصائح الرسل الكرام، ففكر قليلا - أيها المسلم - في قوله عليه الصلاة والسلام، فيما أخرجه

البخاري عنه صلى الله عليه وسلم حين قال: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)، والضعفاء إذا دعوا الله لينصر المسلمين استجاب لهم - إذا أخلصوا - وإذا استرزقوه رزقهم، ولا كذلك المتكبرون والمتجبرون فإنهم لا يتواضعون لله، ولهم أعمال تخالف وصايا الشرائع السماوية، وهذا شأن الكثير منهم، وقليل فيهم الصلاح والتقوى. والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وجهه ربه هذا التوجيه، وأدبه هذا التأديب البعيد عن تأديب الخلق ليكون مثالا صالحا للأخذ عنه والاقتداء به، وخسر حياته من لم يأخذ حظه من أخلاقه وسجاياه الحميدة ومع هذا التوجيه والتأديب فقد حاول جبابرة قريش أن يخرجوه من صف المساكين ساعة من الزمن ليخلو بهم وحدهم دون مشاركة الضعفاء لهم، غير أن الله عصمه وحفظه مما أرادوه منه، وأمره بمجالسة الفقراء، ومن أراد من الأغنياء أن يجالس الرسول مع الفقراء فله ما أراد بلا تخصيص ولا امتياز، إذ ليس في الإسلام تفضيل طبقة من الناس على طبقة أخرى إلا بتقوى الله كما قال: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، فشريعة الإسلام شريعة العدالة والمساواة، وبهذا تمتاز عن غيرها من الشرائع. جاء في سنن ابن ماجه عن خباب بن الأرت في سبب نزول قوله تعالى: ((ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة

والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين))، سورة الأنعام الآية 52 قال: جاء بعض كفار قريش (منهم الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة ابن حصن الفزاري، قبل أن يسلما) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون الجلوس معه، فلما رأوه جالسا مع الفقراء الضعفاء، أمثال خباب بن الأرث وبلال، وعمار بن ياسر، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، الخ نفروا منهم، ولم يرغبوا في الجلوس إليه في مجلس واحد مع هؤلاء الضعفاء، واحتقروهم لضعفهم وفقرهم، فأتوه واختلوا به وقالوا له: نحن نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأاعبد، فإذا جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن في غنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية، فزل جبريل من قبل رب العالمين، على رسوله الأمين، بهذه الآية ((ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من جسابهم من شيء زما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين)) فكف وترك ما عزم على كتبه إجابة لرغبة عظماء قريش، يا لها من تربية ربانية لرسوله الحبيب إليه، فنسبه ربه إلى الظلم إن هو أبعد الفقراء عن مجالسته لحظة من الزمن ليتفرغ فيها

الى عظماء المشركين المتجبرين، الذين يأنفون من مجالسة الفقراء، ثم أشار إلى ما رغب فيه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن (قبل أن يسلما) فقال الله بعد تلك الآية: ((وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)) ثم قال تعالى في هذا السياق التربوي الإسلامي ((وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة))، سورة الأنعام الآيتان 53 - .54 وبعد هذه التربية الربانية لرسوله الكريم الحريص على نشر الإسلام قال خباب بن الأرت: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فلما أنزل الله عليه الآية 28 من سورة الكهف وهي قوله تعالى ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا (أي لا تجالس الأشراف الكفرة) ثم قال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا - عيينة والأقرع - واتبع هواه وكان أمره فرطا)) أي هلاكا، قال خباب فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. هذه حياته صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل الهجرة، أما بعدها فقد تحول الحال وتبدلت العلاقات، وأسلم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وصار

الأشراف والفقراء والأغنياء طبقة واحدة، بفضل الروح الإسلامية التي بثت فيهم الحب لبعضهم والأخوة فيما بينهم، وسارت في نفوسهم تقضي على كل فوارق الجاهلية. فقضية التمييز بين الناس بحسب مراتبهم أو طبقات الأشراف والأراذل قضية قديمة بقدم الإنسان، لكن الإسلام أبطل التعامل على حسب تلك الفوارق المجحفة، التي جعلها الإنسان لنفسه وليعلو بها على أخيه وأثبت - الإسلام - أن الفرق بينهما يكون بما لا إجحاف فيه، فهو يرى أن عمل الإنسان هو الذي يرفعه أو يضعه وإلى هذا يشير القرآن حيث قال: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين)) وقال: ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)) إن الإسلام ينظر إلى النفوس والأعمال لا إلى الذوات والأنساب، فإن أشراف الناس هم أشراف النفوس والهمم، ولو كانوا فقراء، وأن أراذل الناس وأنزلهم قيمة هم أراذل النفوس والهمم، ولو كانوا أغنياء بنسبهم وأموالهم، ولم يخل زمان ولا مكان منهما، فالأشراف لا يظلمون الناس لشرفهم، فهم سراة القوم وأعيانهم، لهذا كانوا يختارون للحكم بين الناس وللمناصب العالية، فالأمة التي تختار من بين أفرادها النخبة الصالحة من أبنائها للسياسة والرئاسة تسعد وتنال ما تتمنى من الحياة العزيزة الكريمة وكذلك الحكومة المختارة من بين أفراد الأمة الذين جمعوا بين النفس الشريفة والخلق الكريم، فإنها تشرف

وطنها وتعلي رأسه بين الأوطان، والعكس بالعكس أما أراذل النفوس فإنهم يبعدون عن الحكم والسياسة والرئاسة، لما في نفوسهم من النقص والخسة والرذيلة، وهذا مجرب صحيح كما يقول أهل الطب، وقديما قال الشاعر العربي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم…ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقال آخر: إذا كان الغراب دليل قوم … يمر بهم على جيف الكلاب وللمناصب والولايات في الشريعة الإسلامية موازين ومقاييس، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته العاملة بشرع الله أن ترعاها وتطبقها إذا أرادت الخير والمنفعة للدين والوطن، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعمل رجلا من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). أخرجه الإمام أحمد والحاكم، وقال عليه الصلاة والسلام: م (من ولي أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) واختلف في معنى الصرف والعدل، فقيل الصرف التطوع، والعدل الفرض، وقيل الصرف التوبة، والعدل الفدية، وقيل غير هذا، وعلى كل حال فهو تهديد لمن لا يعدل في ولايته أو توليته لموظفي مصالح المسلمين، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام

(إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكر، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه). أخرجه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها، ولما أهمل هذا الاعتبار الإسلامي في اختيار الموظفين للمناصب ساء الحال، وتدهورت الأوضاع و ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس)). نعود إلى موضوعنا السابق في حق أولئك الضعفاء من الصحابة، وهم: صهيب، وخباب، وبلال، وعمار، وسلمان وفضائلهم، كثيرة، وغيرهم من الصحابة أيضا، وقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات من القرآن كقوله: ((وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)) إلى قوله تعالى: ((والله أعلم بالظالمين)) الآيات من 51 إلى 58 من سورة الأنعام، وقد سبق بعضها. وذكر ابن عبد البر في كتابه ((الاستيعاب) في ترجمة صهيب قال: إن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب، وبلال، وغيرهم من ضعفاء الصحابة - وكانوا قعودا - فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله - كان هذا قبل أن يسلم - مأخذها، فقال لهم أبو بكر أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي قالوا، فقال له النبي

صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ والذي نفسي بيده لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربك). فرجع إليهم أبو بكر فقال لهم: يا إخوتي لعلي أغضبتكم؟ فقالوا له: يا أبا بكر يغفر الله لك. وبالجملة ففضائل الصحابة كثيرة، فلهم فضل السبق إلى إجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الله، وفي محاربة الباطل الذي تجسم في الشرك والإلحاد، في حين أعرض عنه وعنها ذوو القوة والبطش من صناديد قريش وأعيانها، وهذه حقيقة قديمة، فالضعفاء هم أنصار الرسل والدين في كل زمان ومكان، والقرآن ذكر لنا ما قاله قوم نوح - مثلا - لنوح عليه السلام، فقد أرادوا أن يعيبوا عليه دعوته وينقصوا من قيمتها - في نظرهم - ويحتقروها بقياسهم قيمتها بقيمة أتباعها والمؤمنين بها والمعتنقين لها، حين قالوا له: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)) أما المدركون للحقائق التاريخية والمتتبعون لما جرى من الأحداث في الزمن الماضي، فإنهم عرفوا أن بعض الضعفاء هم أنصار الحق - دائما - كما عرفوا صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، بأتباعه، من مثال ((ورقة)) بن نوفل وهرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة وغيرهم، فقد ذكر التاريخ أن ((هرقل) اغتنم فرصة وجود ركب تجاري في الشام من العرب، فيهم أبو سفيان بن حرب، جاؤوا للتجارة، فبعث إليهم واستدعاهم إليه، وسألهم عن

الرسول الجديد الذي ظهر فيهم، ذلك حيث سأل هرقل كبير قريش أبا سفيان بن حرب عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليدرك من خلال هذا حقيقة هذا الرسول وهل هو صادق في دعواه أو هو كاذب، فأجابه أبو سفيان - وهو يدس في جوابه انتقاصا - في زعمه - في حق الرسول صلى الله عليه وسلم - فقال هرقل لأبي سفيان: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعناؤهم؟ فقال بل ضعفاؤهم، ففهم هرقل الحقيقة من جوابه فقال لأبي سفيان: هم أتباع الرسل، فظهرت الحقيقة من فيه من غير أن يشعر، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته من ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء والفقراء، ولم يتبعه من الأشراف إلا القليل، مثل أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، فهذه حقيقة تاريخية قديمة بقدم الزمان والرسالات، لا تتغير، وهذا مبني على أن ذوي العقائد الصحيحة المبنية على الإيمان الصحيح تلفيهم لا يترفعون عن الحق حيث يعرفون أنه حق، ويذعنون إليه بدون مكابرة ولا عناد، لأن نفوسهم مستعدة إلى تصديقه واتباعه والعمل به، وبما جاء به والانقياد إلى ما يأمرهم به، وبهم انتصر الحق على الباطل في كل زمان ومكان، ويصعب عليهم التحول عما آمنوا به، وما سبق من مواقف ضعفاء الصحابة شاهد على هذا، فهم بالرغم من العذاب الشديد والأهوال المضنية ومحاولات كفار قريش لهم على تركهم عقيدتهم ودينهم،

كل ذلك لم يزحزحهم عنها، وبهم انتشر الإسلام وعم نوره الآفاق، فكل الوسائل التي اتخذها كفار قريش ضدهم رجعوا بها خاسرين، فلم يغرهم مال، ولم يصدهم عن دينهم وعقيدتهم تهديد، ولم تشرئب أعناقهم إلى بريق المناصب والوظائف، ولا إلى غرض آخر من الأغراض، ولا إلى أي حظ من حظوظ النفس الرخيصة، بل همهم الوحيد نشر الدين وحماية العقيدة عن أعدائها الكثيرين، رحمهم الله ورضي عنهم ورزقنا القدوة بهم، لنكون مؤمنين حقا كما يجب علينا أن نكون. إلى هنا أقف عن السير في خط هذه الفصول التي حررتها لتكون لنا ولإخواننا - وبالأخص - ولشبابنا ذلك الشباب الناهض الواعي لواجباته الدينية والوطنية مثالا صالحا للسير على نهجه القويم لا لذلك الشباب المذبذب الذي لم يعرف في سلوكه واجباته فراح يتحول من مبدأ إلى مبدأ، كالكورة بين أرجل اللاعبين بها أقدمها للشباب الصالح لحمل المسؤولية ولتكون له مثالا يصلح للسير على هداه، فتنبههم إلى مواقف ثابتة صلبة، وقفها سلفهم في وجه المشركين والظالمين والطغاة، فلم يلينوا فيها ولم يهنوا في مقاومة الشرك ولم يضعفوا فأعلنوها كلمة صريحة مدوية، إنهم أتباع الحق وأنصار التوحيد، وإن كانوا تألموا في أبشارهم من عذاب المشركين وهمجيتهم، فإنهم لم يتألموا في ضمائرهم ونفوسهم وقد قال لهم خالقهم: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان

الله عليما حكيما). الآية 104 من سورة النساء، تلك الضمائر والنفوس التي سقاها الخالق العليم من ينبوع الإيمان الصافي من كل الأكدار، فأحياها بعد ما أماتها قحط الشرك والضلال، فنقلها من عالم الموتى وأصناف الجمادات، إلى عالم الكائنات الحية والمفكرة في مصيرها المنتظر، فنزل غيث الإيمان عليها فطهرها من أوساخ وأقذار طال بها الأمد عليها، وهي تعلو أجسام البشرية، فنسيت، بها هذه البشرية المصدر الحقيقي لوجودها وحياتها ودوامها، وتشبثت بخيوط الأوهام التي هي أو هي من نسيج العنكبوت، لا تغنيها عن حبل الله المتين شيئا، فذلك الذي لاح لها من قبل سراب خادع، وأمل ضائع، غير الكثيرين ممن لم يعتصموا بحبل الله المتين، إذ لابد للإنسان من البحث عن الحقيقة ليتبعها، تلك الحقيقة التي فيها نجاة الإنسان المفكر، مخافة أن يتعثر في سلوكه للدروب الجبلية الصعبة وكثيرة التعاريج المملوءة بالأشواك التي تعطل السائر فيها عن بلوغ المرام، فإن تلك الدروب كثيرا ما أضلت سالكيها وألقت بهم في الهاوية وما أدراك ما الهاوية، فقد أدرك الله بالإيمان والهداية إليه نفوسا سبق في علمه أنها مهيأة للإيمان به وبوجوده، وبأنه المصدر الوحيد لكل موجود، تجلت فيه عظمة الخالق وقدرته وإرادته فصدقت به إلها واحدا لا شريك له، فهو رب كل شيء، سبحانه ما أبدع صنعه، وما أجل وأعظم قدرته وما أوسع علمه، وحلمه وعفوه، لم يعجل بعقاب

الجاحدين له والمنكرين لربوبيته، فأرسل رسله لخلقه لينبهوهم إلى أنه: لا إله إلا هو، فمن صدق به فله الرضا والجزاء الأوفى، ومن أنكر وكفر فعليه الغضب والعقاب والبوار، وسوء المنقلب والمصير، فكان منقلبه إلى نار السعير، ((ولا يظلم ربك أحدا)) وأنزل على خاتم رسله وأمره بأن يقول لعباده: ((وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) وقال: ((ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه وم عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ)). سورة الأنعام، الآيات 102 - 103 - 104. وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك، تباركت وتعاليت). ومما ورد في دعائه عليه الصلاة والسلام قوله (اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر، عيناه ترياني، وقلبه يرعاني، إن رآى حسنة دفنها، وإن رآى سيئة أذاعها). اللهم عفوك نرجو ورحمتك نبتغي، فلا تخيب رجاءنا فيك، ومبتغانا إليك، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم ارحم آباءنا ومن سبقنا

بالإيمان، وارحم جميع المؤمنين والمؤمنات، وتب على العصاة من هذه الأمة، اللهم واهد برحمتك وعفوك الضالين، وصل اللهم وسلم وبارك على روح سيدنا محمد رسولنا وإمامنا من أنقذتنا به من نار الجحيم - إن شام الله - اللهم واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا رب العالمين، وسلام على المرسلين، ورضاك عن أنصارهم إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من تحريره ضحوة يوم الأحد ثاني أولى الجمادين، من عام واحد وأربعمائة وألف من هجرة خير المهاجرين، وأفضل الخلق أجمعين، الموافق للثامن من شهر مارس - آذار - سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1