في سبيل الإصلاح

علي الطنطاوي

في سبيل الإصلاح تأليف علي الطنطاوي دار المنارة للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم اجعل عملي هذا خالصاً لك، اللهم إني أسألك أن تنفع به، وأن تثيبني عليه، وصل اللهم على سيّدنا محمد معلّم الخير وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة بسم الله أقدم الطبعة الثالثة من كتاب (في سبيل الإصلاح) سائلا الله أن يجعل كل الكتب في سبيل الإصلاح، وفي طاعة الله وابتغاء ثوابه، لي وللناشر وللقراء أن ينفعهم به ويلهمهم دعوة صالحة يدعونها لي بظهر الغيب. مكة المكرمة: غرة رمضان 1410 علي الطنطاوي

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية السطور الأولى من هذه المقدمة كتبت في (مكتبة القدسي) في سوق الحميدية في دمشق، ووضعت في صدر الطبعة الأولى من رسائل (في سبيل الإصلاح) التي صدرت سنة 1348هـ، وتتمتها أكتبها الآن في دار صهري -زوج بنتي- الأستاذ زياد الطباع في جدة سنة 1407هـ، لأضعها في أول هذه الطبعة من كتابي (في سبيل الِإصلاح). وبينهما مدى واسع في المكان هو بُعد ما بين دمشق وتهامة الحجاز، وبينهما مدى في الزمان مقداره تسع وخمسون سنة. زمان طويل طويل، تبدل فيه كل شيء يقبل التبديل: غاب العالم الذي عرف صباي وتبدلت معالمه ومضى أكثر أهله، الناس الذين كانوا هم ناسي، وكانوا أهلي وصحبتي، لم يبق في كل ألف منهم بضعة آحاد يعدون على الأصابع. فلا البلد اليوم هو البلد، ولا أهله هم الأهل، ولا العادات والأوضاع هي العادات والأوضاع، حتى لو أنَّ الله بعث جدي الشيخ أحمد الذي مات سنة 1332هـ، لما عرف من دمشق إلا جامع التوبة والجامع الأموي وجبل قاسيون، حتى الجبل الذي خلَّفه عارياً أجرد، لن يميزه اليوم وقد لَبِس الشوارع والبيوت فسترت شعابه وغطت ترابه، بل لن يعرف في هذا الشيخ الذي جاوز الثمانين حفيده الذي تركه ولم يتعد الخمس السنين (¬1) ولوطنه بعث ووصف ما رآه وما أحسَّ به في كتاب، لجاء أطرف من (حديث عيسى بن هشام)، وقصة (حاجي بابا في انكلترا) التي نشر الزيات ترجمتها في مجلة (الرواية) من قديم. ¬

_ (¬1) كذا يقال وأفصح منه أن نقول: خمس السنين.

لأن هذا التبدل الذي تمَّ في ثلاثة أرباع القرن التي عشتها لا يقع مثله في ثلاثة قرون. والمجتمعات (تتطور) دائماً، ولكن (تطورها) إن أسرع يمشي مشية الخيل التي بالغ الشاعر مبالغة جاوزت حد المعقول حين وصفها فقال: وأجل علم البرق عنها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون فصارت هذه المبالغة حقيقة، وغير المعقول معقولاً واقعاً، وصرنا ونحن في مكة نسمع الخطيب يخطب في أميركا قبل أن يسمعه من هو قاعد أمامه في النادي، لا مجازاً بل حقيقة لأن الصوت يصل إلى من في النادي من طريق الهواء، ويبلغنا بالموجات الكهرطيسية (أي الكهربائية المغناطيسية)، ولو صرخ النذير من فوق الجبل يحذرنا طيارة معادية قادمة علينا لوصلت الطيارة قبل أن نسمع الصوت، لأنَّ من الطيارات ما هو أسرع من الصوت، وإذا كان الشاعر قد مدح بطلاً بأنه (ينظم فارسين بطعنة) أو أنه يقتل من الأعداء مئة في غارة، فلقد رأينا غارة من المتمدنين أهل الحضارة، تقتل مئة ألف في هيروشيما في لحظة واحدة، جلهم من غير المحاربين وإنما هم من الأطفال والنساء والشيوخ العاجزين. جدّ جديد في العلم لو خُبِّر به أعلم علماء الطبيعة من مئة وخمسين سنة لجنّ أو لحسب المُخبِر مجنوناً: صرنا نسمع المغنّي يغني لنا، وقد مات واستحال جسدُه إلا رفات. كان الشعراء يصفون القمر، ويشبهون به الغيد الحسان فوصلنا إلى القمر ووطئناه بنعالنا، وإذا هو كالأرض: صخر ورمل وتراب. ... وهذه كلها آيات لمن كان له قلب، ومن كان يفكر فيما يرى وما يسمع، آيات وشواهد تقوي الإيمان في القلب المؤمن، أما من كان كالأنعام همُّه الطعام والشراب والزواج فيمر عليها وهو غافل عنها، يقف عند الصنعة وينسى

الصانع، يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وينسى قول الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. ملء كوب من ماء البحر فما الكوب من البحر. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: علمنا قوانين الله التي وضعها للجاذبية، ولكن هل عرفنا ما الجاذبية؟ ما حقيقتها؟ وعرفنا الكهرباء، وكثيراً من سنن الله فيها وجعلنا لها علماً، وألّفنا فيها كتباً، وفتحنا لها في الجامعة أقساماً، وأقمنا لهذه الأقسام أساتذةً، ولكن هل عرفنا ما هي حقيقة الكهرباء؟ ودرسنا المخَّ وخلاياه وأقسامه، ولكن هل عرفنا ما علاقة المخ بالفكر؟ لقد نبذنا المقالة الحمقاء التي قالها بعض الماديين في القرن التاسع عشر (هيكل أو استرنر): أن المخ (يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء) منذ قضى (هنري بركسون) وصحبه على هذا المذهب، ولكنا بقينا على جهلنا بعلاقة المخ بالتفكير، وأكثر منه جهلنا بعلاقة القلب بالإيمان والعواطف، وهل المراد بالقلوب (التي في الصدور) هذا العضو الذي لم نعرف عنه إلا أنه مضخة للدم، ولا نتساءل لم تسرع ضرباته عند الغضب، وتبطيء عند الحزن، فيحمر الوجه أو يصفر، وتظهر عليه تلك الأعراض إن لم يكن إلا مضخة تضخُّ الدم؟ أم المراد بالقلب شيء آخر، لم نعرفه بعد، وأننا حين نقول (القلب) نريد به اللب. كما نميز في الفاكهة قشرتها من لبها ولونها وشكلها، اللذين لا يدلان على العناصر التي تتألف منها، ولا على ما أودع من النفع والضر فيها. إن اختلت خلايا المخ اضطرب التفكير، كما ينقطع تيار الكهرباء إن انقطعت الأسلاك، ويبطل عمل الرائي (التلفزيون) إن نقص شيء من أجزاء الجهاز. ولكن هل الأسلاك والمصابيح هي الكهرباء؟ إنَّ الذي يعرفه الأطباء عن الدماغ كالذي يعرفه (مصلح التلفزيون) عن جهازه، يكمل نقصه، أو يقوم اعوجاجه ولكن ما أثر ذلك فيما يعرض فيه من ندوات ومسلسلات، وما فيها من الخير أو من الشر؟ إن هذه الكشوف العلمية، وهذه المخترعات الحضارية تقوي الإيمان عند

من في قلبه إيمان، كما تشحن الذاخرة (أي البطارية) بالكهرباء إن كان لا يزال فيها بقية من كهرباء. لقد كان في قريش عقلاء، وكان فيهم أولو فهي، ولكن لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى القدس ورجع من ليلته لم يستطع أكثرهم أن يصدق، وكاد يتزعزع إيمان بعض من قد آمن، ولو أنت قلت اليوم لأقل الناس علماً وأكثرهم جهلاً: لقد ذهبت أمس من جدة إلى عمان ورجعت، لما عجب، ولما رأى في ذلك شيئاً يتعجب منه. إني حين أفكر فيما كانت عليه الدنيا وأنا في صدر حياتي ومطلع صباي، وما هي عليه الآن أحسُّ كأني صعدت إلى رأس المئذنة ووقفت عند الهلال، لا أستند إلى شيء، أنظر من تحتي إلى ما حولي فأحسُّ أنَّ الدنيا تدور بي، حتى أكاد أسقط على رأسي. لقد كان تبدلاً يكبر عن التصديق، ولكن هل كان خيراً كله؟ الجواب: لا. هل كان شراً كله؟ الجواب: لا. إن فيه خيراً من الواجب علينا أن نتمسك به، وفساداً علينا أن نصلحه، ومن هنا حاولت، وأنا أكتب وأؤلف وأخطب وأحاضر (من ستين سنة) أن أجعل حظاً من عملي هذا في سبيل الله ثم (في سبيل الإصلاح). فكيف نسلك هذا السبيل؟ إن ما وصلنا إليه فيه الطيب وفيه الخبيث، فكيف نميز الخبيث من الطيب؟ وإن ذلك كله يتبدل ويتغير، فأين الثابت الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل لنتخذه مقياساً يكون به هذا التميز؟ أين الطيب الذي لا خبيث فيه، والحق الذي لا باطل معه؟ الجواب واضح بين لمن أعمل فيه فكره، وكان فكره مجرداً عن الهوى. هو أن البشر يخطئون ويصيبون، فلنرجع إلى من لا يخطىء أبداً، والذي

يقول الحق وهو يهدي السبيل، لندع ما اختلف فيه البشر إلى ما شرعه خالق البشر، وأنزله علينا، ولم يكل حفظه إلينا كما وكل ذلك إلى أهل الكتب من قبلنا، فبدلوا فيها وغيَّروا، بل تولى هو حفظه جل جلاله، وتقدست أسماؤه. فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فالمقياس هو شرع الله، هو الكتاب الذي لم يستطع أعدى عدو لنا، وأعتى ظالم مخاكم أن يثبت (بل لم يجرؤ أن يدعي مجرد دعوى) أنه قد بدَّل أو غيَّر، أو أنه قد صحَّف أو حرَّف، أو أنَّ القرآن الذي هو في المصاحف بين أيدينا غير الذي أنزله الله. الذي بلَّغه جبريل سيد الملائكة محمداً سيد المرسلين، وإن كان بعض الفرق التي تنتسب زوراً إلى الإسلام تدَّعي كذباً وجهلاً، مالم يدعه هؤلاء الأعداء من أن المصاحف التي نقرأ فيها كلها قرآن ولكن ليست كل القرآن، وهي دعوى لا أدري أيُّهما أظهر: سخافتها أم وقاحتها. ولكن الشيطان حين عجز عن تحريف تنزيله، دخل علينا من باب تأويله، حتى صار من الناس من يصرف الكلام عن معناه ويوجهه إلى غير الوجه الذي أراده الله، وحتى أنه كان عندي كتاب اسمه (حجج القرآن) لرجل اسمه الرازي (نسبة إلى مدينة الري قرب طهران الآن) جمع فيه ما احتجت به الطوائف كلها المسلمة والمرتدة عن الإسلام التي تُدعَى في الاصطلاح (الفرق الإسلامية) باعتبار ما كانت في الأصل عليه، هذا الكتاب فيه العجب العجاب، من صرف الآيات عن مدلولها في لسان العرب الذي نزل به القرآن، وعمَّا صحَّ في تفسيرها عن رسول الله الذي هو المبينِّ للقرآن. ودخل علينا من باب صرفنا عن تدبر آياته، وتفهِّم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه إلى تصريف الصوت في تلاوته بالأنغام، وطرب الناس لسماع الصوت بدل الخشوع عند فهم المعاني وكان معنى كلمة (القرَّاء) حين نقرؤها في حروب الردة مثلاً وذكر من استشهد منهم في معركة -اليمامة- كان معناها الذي يقرأ القرآن متدبراً واعياً، عاملاً بما قرأ معلماً إياه من لا يعلم. فصار معناها البصير بالألحان والمقامات، الخبير بالمحطات والتصرف بالنغمات، وصار

السامعون يتصايحون من الطرب كأنهم يسمعون مغنياً في ملهى، لا يزيد إيمانهم بتلاوة القرآن، كما خبَّر الله عن أهل الإيمان، وصرنا نفتح به ونختم به الإذاعات والحفلات، ويكون بين تلاوة الافتتاح وتلاوة الختام ما لا يرضي الله من المخالفات والذنوب والآثام. ... من هنا، ومن الأحاديث الموضوعة التي كشفها العلماء وما زال يرددها بعض الجهلة من الوعاظ والخطباء، وممن يبتدع في الدين مالم يأذن به الله ولا أرشد إليه رسول الله، ومن سوء فهم بعض الفقهاء لكلام الله وسنة رسول الله، ومما دخل علينا من شبه وضلالات على أيدي المنضِّرين المكفّرين الذين يتسمَّون كذباً بالمبشرين، وأيدي المستشرقين الذين يتكلمون في العربية وفي الدين، وقليل منهم من المخلصين، الذين يؤتون من ضعف العلم بالدين، وفقد مَلَكةِ العربية التي لا تحصل بالتعليم والتلقين، وأكثرهم بين عدو للإسلام يدسُّ ويفتري ويلبّس دسَّه وافتراءه ثوب التحقيق العلمي، كما كان يفعل كجولد زيهير ولامنس وشاخت وأمثالهم وتلاميذهم الذين قرؤوا عليهم، ونشؤوا على أيديهم كـ (فيليب حتي) الذي جعلناه المرجع في التاريخ. ... إن سبيل الإصلاح بيِّن ظاهر، إن شئنا سلوكه فليتفق الدعاة إليه على منهج واحد، نرتب فيه المقاصد التي ندعو إليها، نقدِّم الأهم منها على المهم، لا ندع الأصول ونتنازع في الفروع، وقد وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج لمعاذ لما بعثه إلى اليمن داعياً إلى الله، ومبشراً بالإسلام ومعلماً ومرشداً للراغبين فيه فقال له: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، إلى تصحيحٍ العقيدة لأن العقيدة هي الأصل، هي الأساس فإن ارتفع البناء عشرين طبقةً في الهواء بغير أساس لم ينفعه الارتفاع، ومن قام الليل كله وصام الدهر كله، وفي إيمانه شرك، كان كالتلميذ الذي أخذ أسئلة الامتحان وقعد في داره فأجاب عليها كلها، ولكنه سحب أوراقه من المدرسة، ومحي اسمه من سجلاتها. درسٌ واحد أمره أن يعلمه الناس هو صدق التوحيد، وصحة العقيدة،

فإن هم وعوه واستقرَّ في قلوبهم، انتقل إلى الدرس الثاني وهو الصلاة ثم الزكاة. منهج مرتب، فما بالنا في غفلة عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بال كل داع يخترع منهجاً غيره يبدأ الطريق من وسطه أو من آخره، ويأخذ المسألة من ذنبها، حتى صارت الدعوة فوضى، والطرق فيها متداخلة ومتقاطعة. وإذا كان شياطين اليهود قد وضعوا مخططات لإفساد بني الإنسان، تستمر على زعمهم أكثر من مئة عام، فلم لا يجتمع حكماء المسلمين من أهل الإصلاح، فيضعون مخططات للدعوة يدعونها: (مخططات حكماء حراء)، ليقوم لأهل الحق مقام (مخططات حكماء صهيون) لأهل الباطل. إن الدعاة منا كثر، والمسلمون حاضرون ليستجيبوا لهؤلاء الدعاة، فإن لبثوا على خلافهم وتنازعهم، وتضارب مناهجهم، كان عليهم إثم أنفسهم، وإثم هذه الأمة التي تمشي وراءهم، وتقتدي بهم. وبعد فهل كنت أنا في عملي كله، في هذه السنين الستين، أعمل لوجه الله وحده، لا أبتغي غير ذلك شيئاً، ولا أخلط به دنيا؟ ألم يكن يسرُّني أن يقول لي الصالحون: أحسنت، ويسؤوني أن يقال: أسأت؟ ألم أكن أفرح إن جاءتني كتاباتي وأحاديثي بالمال الحلال؟. إني اللآن وأنا في آخر العمر وعلى مقربة من القبر، أسال نفسي، أقول: يا نفس أليس بالواقع؟ فتقول: بلى. فيقول: لما يا نفس خلطت قصداً صالحاً بقصدٍ شيء؟ فتقول: إنها طبيعتي التي طبعني الله عليها، والتي لا تقوى على التخلص منها إلا النادر من عباد الله المخلصين. فأقول: فما جوابك عند سؤال ربِّ العالمين: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فتقول، أجيب: غرَّني يا رب ما وصفت به هنا نفسك، لتذكّرنا به بعفوك، غَرَّني بك أنك الكريم، فإن عاملتني بعدلك خسرت وضعت، لأني ظلمت نفسي وأسرفت عليها، فأنا أخاف عقوبتك، ولكني لا أقنط من مغفرتك، فاغفر لي وارحمني، وارحم من يقرأ هذا الكلام فيقول: آمين.

اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، واغفر لي، فإنَّ الصلاة على رسولك تقبلها لا تردها، وقد قرنتها بطلبِ المغفرة لي فلا تفرق اللهم بينهما. رب اغفر لي ولوالدي ولذريتي، واغفر اللهم لكل من مات مؤمناً بك وبملائكتك وكتبك كلها ورسلك جميعاً. اللهم إنَّ رحمتك لا تضيق بالمسلمين وقد وسعت كل شيء. علي الطّنطاوي

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى (في غرة رجب سنة 1348) نشرت أول كتاب لي وهو «رسائل في سبيل الإصلاح»، وقد قلت في مقدمته إننا «إن لم نجد في عصرنا من المصلحين، كالذين كانوا في الصدر الأول، فلا أقل من أن نتشبَّه بهم، ونسلك سبيلهم، فنصيح بالناس بقدر ما في حناجرنا من قوة، ندعوهم إلى الإصلاح، وندلّهم على طريقه، وإذا جاءت أصواتنا خافتة فضاعت في جَلَبة المجتمع فلم تُسمع، فإن حسبنا أن فعلنا ما استطعنا. وهذه الفصول صيحتي، وإنها لضعيفة، بل هي أشبه بالهمس، ولكنها غاية جهدي، ولم أرد أن أدلّ بها على علم عندي فإن كل ما قلته يعرفه القراء، ولكن أردت أن أذكّر بها من نسي، وأُنبِّه من غفل». واليوم (في غرة رجب 1378)، أنشر كتابي هذا «في سبيل الإصلاح»، فلا أجد ما أقدم له به، إلا هذا الكلام الذي قلته قبل ثلاثين سنة كوامل. هذه هي كلمتي أقدمها (بين يدي الكتاب)، وهذا هو الكتاب أضعه (بين أيدي القراء). علي الطّنطاوي

أين الأقلام؟

أين الأقلام؟ نشرت في مصر سنة 1946 نحن اليوم في معركة مع الاستعمار، قد اندلعت نارها، وطار في كل أرض من أرض الإسلام شرارها، فهل رأيت جيشاً في معركة يدع مدافعه فلا يطلقها، وينسى دباباته فلا يسيّرها، ويلقي بنادقه فلا يحملها؟ وهذا ما نفعله نحن حين نهمل أقلامنا فلا نسخرها في هذا النضال، وإن من أمضى أسلحتنا وأنفذها وأبقاها على الزمان وأثبتها للغِيَر، لَهذه الأقلام؛ فما لِهذه الأقلام نائمة لا تفيق، جامدة لا تتحرك؟ وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب، كانه مدفع العيد يتفجر بالبارود الكاذب وسط المعمعة المدلهمّة التي جُنّ فيها الموت؟! ... إنها معركة الاستعمار: استعمار البلاد بالجيوش، والأسواق بالشركات، والرؤوس بالمذاهب، والقلوب بالشهوات، فجنود العدو تخطر على أرضنا (¬1)، وشركاته تتحكم في أسواقنا، ومذاهبه الخبيثة تملأ رؤوسنا، وتقليده في إباحته وشهوته وسفوره وحسوره، وتكشفه في نسائه وفي أدبه، يفسد قلوبنا؛ فأين تلك الأقلام تنبه القوم النيام، وتطهر الرؤوس والقلوب، وتحمل نور الحق لتبدد به ظلمة الباطل؟! أين تلك الأقلام تعرّف هذا الشعب بنفسه، وتتلو عليه أمجاد أمسه، وتذكره أنه لم يخلق ليذل ويخنع، وإنما خلق ليعز ويحكم، وأن الله ما برأه من طينة العبيد، بل سوّاه من جِذْم الصيد الأماجيد، وأنه أثبت من هؤلاء المستعمرين أصلاً في الأرض، وأعلى فرعاً في السماء، وأكرم نفساً، وأشرف ¬

_ (¬1) هذا ما كان.

عنصراً، وأنقى جوهراً، وأنها إذا أفقرت الأيام الغني، وأذلت العزيز، فإن الفلك دوار، والدهر دولاب، فلا يغتر الفقير بالغنى الحادث، ولا يأسَ الغنيّ على اليسار الذاهب، فإن كل شيء يعود إلى أصله، وإن كل حال إلى زوال. أين الفوهرر الذي نطح النجم كبرياء؟ وأين الدوتشي؟ فاعتبروا يا فهاررة اليوم ... فما أنتم بأمنع من الموت، وما أنتم بأعصى على القدر، وإن لهذا الكون دياناً جباراً ما شاركه أحد كبرياءه إلا قصمه ... وما أنتم حتى تشاركوا الجبار كبرياءه؟! ... وأين تلك الأقلام تفهم الشعب أن المستعمرين ما زهدوه في قرآنه، وصرفوه عن دينه، وشغلوه عن تاريخه، إلا ليسلبوه أحدَّ أسلحته، ويجردوه من أمتن أدراعه، حتى إذا قابلوه أعزل عارياً، هان عليهم اصطياده، وسهل استعباده، فكان إليهم قياده؛ وأنه آن لنا أن ننتبه لمكرهم بنا، وأن نفيق من غفلتنا، ولا نمشي إلى الهوان بأرجلنا، ونمكن عدونا منا بِملْكنا. وأين تلك الأقلام تعلن للناس أن هذه القوانين الأجنبية في محاكمنا، أثر من آثار الاستعمار الذي نحاربه، وأن لنا شرعاً هو أفضل من قانونهم، وديناً هو أحسن من نُظمهم، وأننا نستطيع أن نأخذ القانون المدني والجزائي من ديننا وفقهنا، وأن نحكم في محاكمنا بما أنزل ربنا، وأن من العار علينا أن نفتقر إلى قوانين عدونا. وما قوانينه؟ إن كانت من فكره فلنا أفكار، وإن كانت من تجاربه فلنا تجارب، وإن كانت من دينه ... وأنّى؟ وما في الوجود دين تستمد منه القوانين كلها إلا الإسلام؟ فهل رأيت غنياً موسراً، أورثه أبوه صناديق الذهب، ثم يتكاسل عن القيام إليها، ومعالجة قفلها، ثم يذهب فـ (يشحد) ذليلاً الملاليم والقروش من أكف أعدائه ليتبلغ بها؟ هذا مثالنا حين نترك ديننا ونأخذ قوانين المستعمرين! ***

أين تلك الأقلام تقول للناس: إن الإسلام جاء يكسر الأصنام وأنتم رجعتم تعبدون أصناماً من لحم ودم، تأكل الخبز والحلوى والذهب وورق النقد (البنكنوت)، وتأكل كل شيء وتهضمه معدها، أصناماً تسمونها زعماء الأحزاب تجدّون وتتعبون ليستريحوا هم، وتَشْقَون. لينعموا، وتنخفضون. ليرتفعوا، وتدفعون إليهم ما كسبتموه بأيديكم الخشنة من العمل، وأنتم تقبّلون أيديهم الناعمة من الكسل، وتمنحونهم كل نعمة، ولا يمنحونكم شيئاً. وإن من بقايا الاستعمار هذه الأحزاب التي لا تتقاتل إلا على أكل لحمكم، وامتصاص دمكم وحكمكم ... وهذا الأسلوب الأحمق الذي يشترط في معلم المدرسة الابتدائية وكاتب المحكمة الجزئية، شروطاً في نفسه ودرسه، وامتحاناً وتجربة، ولا يشترط في الوزير شرطاً، فكل من أراد الوزارة وسلك سبيلها نالها، ومن نالها يوماً لصقت به (معاليها) إلى آخر أيامه. ستقولون: وماذا نعمل وهذه سنة المتمدينين في كل بلاد الله؟ نعم هذه سنة المستعمرين، ولكن في بلادهم علماء فلا تلقى وزيراً جاهلاً، وإن فيها شعباً يقظاً وصحافة ساهرة وانتخابات صحيحة وإدراكاً شعبياً، أما الأحزاب، ففي بلد واحد من بلادنا (كمصر مثلاً) أكل مما فيها كلها، وهل في أميركة إلا حزبان: الجمهوريون والديمقراطيون؟ وهل في إنكلترا إلا ثلاثة: الأحرار والعمال والمحافظون؟ فكم حزباً في مصر يا أيها المصريون؟ فإذا كرهتم الاجتهاد، وأبيتم إلا أن تكونوا مقلدين، فقلدوا في المذهب كله، ودعوا التلفيق! ... وأين هذه الأقلام، تقول للناس: إن ثكنات قصر النيل في القاهرة، ومطار المزة في دمشق، ومعسكر الربانية في العراق، حصون العدو وقلاع المستعمر ما في ذلك خلاف (¬1)، ولكن للاستعمار قلاعاً أخرى، إن تكن أخفى ¬

_ (¬1) كان ذلك يوم نشر هذا الفصل لسنة (1946).

فقد تكون أخطر، وهذه القلاع هي بيوتنا التي انتشر فيها (التحرر) في الشباب والشابات، و (التجدد) في الصلات بينهما، فقلل الزواج وزهد فيه الشبان، وكسد البنات، ونشر الأمراض، وشغل بالهزل عن الجد، وبالسعي للشهوة عن العمل للوطن. ولقد قلت إنها أخطر، لأن ثكنات قصر النيل قتلت عشرين مصرياً في عشرين سنة، وهذه تقتل كل سنة مليوناً من أهل مصر، كان يكون منهم العبقري النابغ، والقائد البارع، والأديب الملهم، والعامل النافع، ويكون منهم حماة الحمى، ودرع الوطن، خسرناهم لانصراف الشبان عن الزواج وزهدهم فيه، ولولا هذا التحرر، وهذا التجدد، ولو عادت بنا الأيام كما كنا من خمسين سنة، إذ لا تلقى شاباً في العشرين إلا متزوجاً، ولا فتاة في الثامنة عشرة إلا ذات بعل، لزادت مصر مليون إنسان في كل سنة، أفرأيتم كيف قتل استعمار البيوت هذا المليون؟ ... أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير لنا أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوروبة فهو خير ورشاد، وكل ما بقي لدينا من الشرق فهو شر وفساد! وهذا من أقبح ما خلَّفه فينا الاستعمار. فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، وتقيم لهم الميزان العادل، وتحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون! ... وبعد، فهذه هي المعركة، وها هم أولاء المسلمون في كل بقاع الأرض يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل. ها هم أولاء يردون بأيديهم وبإيمانهم وبحقهم الجيوش التي لم يستطع ردها هتلر بحديده وناره. لا يرونها أكبر من أن تُغلب، ولا يرون نفوسهم أصغر من أن تَغلب. ها هي ذي المعجزات تظهر كل يوم على أيدي أتباع محمد: في ميدان الإسماعيلية، وفي شوارع الإسكندرية، وفي بلاد الشام، وفي مدن

فلسطين، وفي الهند، وفي جاوة، وفي إيران، فأين تلك الأقلام تدوّن خبرها وتخلد ذكرها؟ أين الشعراء وأين ملاحمهم فيها، وهناك شيء ينطق الجماد بالشعر؟ أين القصصيون وأين ما وضعوا فيها من القصص، وقد جلس الزمان يقص من أفعال هذا الشعب أعجب الأقاصيص؟ أين من في نفوسهم قرائح، أفلا تفيض اليوم بالبينات هذا القرائح؟ أين من بين أصابعهم أقلام، ألا تلتهب اليوم بالحماسة هذه الأقلام؟ أين كتاب العربية وشعراؤها وبلغاؤها؟ يا خجلتاه غداً من كتاب التاريخ إذا جاؤوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجل الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفاً. لقد شغلته عنها شواغل الأيام، ومباهج الأحلام، وملذات الغرام! ***

إن هذا العلم دين

إن هذا العلم دين نشرت في مصر سنة 1947 أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي رحمه الله كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يوماً من مراجعات أو مناقشات، ونظر في الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرؤون وعلماء يبحثون فلما توفي والدي (¬1) لزمت عالماً أزهرياً متفنناً، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالباً، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضاً، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه ... فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا عليه السلام، لا نقوم له لأنه أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرَة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمي الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد ¬

_ (¬1) في شعبان سنة 1343هـ.

ليوضح عليه القاعدة الجديدة ويذكر بالقواعد القديمة، وكان أحب شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضح ويجيب باسم الثغر، طلق المحيا، مشرق الشيبة محبوباً مهيباً، فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة، فنرى السكينة قد حفّت المجلس، والرحمة قد نزلت عليه، ونحس بالملائكة قد حضرته، ويؤمنا الشيخ فيقرأ قراءة إخال من روعتها كأن القرآن قد هبط به الوحي آنفاً، ولقد سمعت قراءة أحلى صوتاً، وأصح نغماً، فما سمعت مثلها أبداً. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقي يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثها أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلاناً لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلاناً في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه أو أنبَّه على زيّ (لا يليق بطالب العلم) اتَّخَذَه، أو محل (لا يحسن به) حَلَّه، أو صاحب (لا يدلّه على الله) صاحَبَه، فيبلغه منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعاً إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولاً والبلاغة ثانياً في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، يتخللها وعظُةُ العامةَ (¬1)، وتوجيهُهُ الناسَ، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع ¬

_ (¬1) العامة هنا منصوبة على المفعولية للمصدر (وعظه) ومثلها الناس.

من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق، وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعاً متواضعاً كانه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يرزؤه شيئاً من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين من الدعاة إلى الجهاد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغَّبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرؤوا عليه ودونه أهل البلد يفدّونه بأنفسهم وأهليهم. أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالاً أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهديّة من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس، ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كدّ يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصاً عليها، وخوفاً من زوالها. وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهناً، وأطيبهم نفساً، وأشدهم نشاطاً. ... ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريباً منها، وكانت حياتهم علماً وعملاً، ومنطقاً وخلقاً، وكانوا كلهم يحدثوننا عن الأزهر

وما فيه، حتى حبّب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرف من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة 1928 رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا (¬1). ثم لما عدت سنة 1945، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجداً خالياً، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقى وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنَيسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إليَّ من عهود الحب، وليالي الوصال، لأن فيه حلاوة الإيمان وما فيها إلا لذة الهوى، ولأن ذكراه فخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومَعين اليقين لي في بوادي الشكوك. ... رحمة الله على أولئك المشايخ الذين كانوا ينابيع العلم، ومنارات الهدى، وأئمة الخير. وما كل المشايخ الأولين كانت لهم هذه الخلال، وما كل علماء اليوم تجردوا عنها، ولكن الأعمال بالنيات، والأمور بالمقاصد، وأولئك كانوا يقصدون العلم والدين، فكان الأصل أن يكونوا أهل علم ودين إلا من شذ منهم، والكمال لله وحده، وهؤلاء الطلاب يقصدون الشهادة والمنصب فكان الأصل أن يكونوا أصحاب منصب وشهادة إلا من شذ منهم والخير لا ينقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة. وما أنا بالمحامي عن عهد بذاته، ولا عن أشخاص بأعيانهم، لكنما أدافع عن تقوى العالم وأمانة العلم، والعلم إذا لم يكن معه أمانة كان الجهل خيراً ¬

_ (¬1) ولم أكمل الدراسة فيها وكنت أول طالب من سورية دخل مدارس مصر العالية.

منه، كالطبيب الفاجر، يغشّ المريض ويماطل في العلاج، ابتغاء دوام الحاجة إليه، وتدفق المال عليه، بل ربما بالغ في الفجور فلم يمنعه علمه (إن لم يكن أميناً) أن يقتل المريض بالسم، بدلاً من شفائه بالدواء. ... إن هذا العلم دين فعلينا أن ننظر عمّن نأخذ ديننا، وألّا نأخذ العلم إلا عن رجل نثق بدينه كما نثق بعلمه، ونطمئن إلى إيمانه كما نطمئن إلى منطقه، فإن لم يكن إلا العلم والمنطق، لم ينفعاه عند الله شيئاً. وأنا لا أقيس الأزهر على الجامعات، فالجامعات فيها العلم والفن، وفيها الكفر والإلحاد، لا يمنع منه عندهم أنه كفر ما دام يسمى باسم الفلسفة أو العلم، ذلك لأن أسلوب الجامعات أسلوب عقلي لا يبالي بالدين، ولا يتقيد بالوحي؛ وديننا لا يعارض قضايا العقل المسلَّمة وأحكامه الثابتة، ولا ينافيها، ولكن أين هذه القضايا؟ وهل يكون منها كل حكم يوصل الباحث إليه عقله؟ ففيم إذن تختلف العقول، ويتناظر الفحول؟ أفنبني ديننا على آراء الرجال فكلما جاء واحد منهم ببدعة في الدين قلدناه فيها، وأقمناه بيننا وبين ربنا، وجعلنا ما جاء به من شرعنا؟ ومن يكون إمامنا في ديننا إذا لم يبق في الأزهر أئمة دين؟ ألا يكون ذلك تحقيقاً للحديث، ومعجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس أئمة جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا؟ نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والكفر بعد الإيمان ... ألا إن ديننا يقوم على أدلة معروفة هي الكتاب والسنة الثابتة، والإجماع الصحيح والقياس الجلي، لا عمل للعقل فيها، إلا الاستنباط والاجتهاد، على (الأصول) المعروفة، والسبيل المسلوكة، واتباع البيضاء النقية، والاقتداء بالسلف الصالح، فإن جاوز هذا الحد، لم يجز لمسلم أن يعوّل في دينه عليه، أو يرجع في الحكم إليه.

ونحن نريد علماء من أمثال هذا الشيخة رحمه الله، يعلمون ويعملون، ويتبعون ولا يبتدعون، ويتقون الله سراً وعلناً، ويحكمون الشرع في خاصة نفوسهم وعامة أمورهم، لا تذلهم الدنيا، ولا يفسدهم الفقر، ولا يطغيهم الغنى، فإن كانوا كذلك كان سواء لديّ أن يخرّجهم أساتذة الجامعات، أو وعاظ الجوامع، وليكونوا بعدُ فلاسفة فالإسلام لا يعادي الفلسفة ما لم تكن كفراً، وليكونوا باحثين فالإسلام يحب البحث، وليكونوا مجددين بالاجتهاد في الفروع ما داموا متبعين في أصول الدين. وليجلسوا على البساط أو على الطنافس، وليقرؤوا على السراج أو على الكهرباء، وليسكنوا الأكواخ أو القصور، ولينقطعوا إلى العلم أو ليكونوا أصحاب المناصب وأعضاء المجالس وأولياء الأمر. ... لكن هل ينتظر أن تخرج هذه الجامعة الأزهرية أمثال أولئك العلماء؟ هذه هي المسألة! وأنا لا أحب أن أجيب عنها، لأني إن أجبت قلت مرّة ثانية: «ردُّوا علينا الجامع الأزهر، لا نريد هذه الجامعة الأزهرية!». ***

بطون جائعة وأموال ضائعة

بطون جائعة وأموال ضائعة نشرت سنة 1946 ولد لي في هذا الأسبوع مولود جديد (¬1)، فأهدي إلى أمّه أكثر من عشرين علبة (شكلاطة)، من هذه العلب التي جدّت في دمشق، وصارت (موضة) الوقت، كل علبة منها لعبة كبيرة بأشكال وألوان، ما عرفناها قبل الآن، منها ما هو على صورة طيارة بأجنحتها وذنبها ومحركاتها ودواليبها، ومنها ما هو على شكل عربة بخيولها ولجمها وسائقها، كل ذلك مصوّر مشكّل دقيق الصنعة؛ ومنها ما هو على هيئة سرير فيه فراش ووسادة من الحرير، وفي كل منها قبضة من السكر والشكلاطة وهي ملفوفة بالورق الصقيل الشفاف، معقود عليها شريط من خالص القزّ، لا نقلّ ثمن إحداها عن عشرين ليرة سورية. فلما ذهبنا نفتحها تقطع الشريط وتمزّق الورق. ثم تسلمها منا أولاد الدار، وأبناء الضيوف، لأنها لعب خلقت لهم لا للكبار، فلم تكن إلا أيام حتى تكسرت في أيديهم، وكيف لا تتكسر وهي مصنوعة من قطع الخشب الملون، لا تحتمل صدمة ولا نقرة، وعادت حطباً انتهى به الطريق إلى المدفأة، فاحترقت أربعمائة ليرة كان يمكن أن يشترى بها من (خبز البلدية) عشرون ألف رغيف (¬2)، ومن الثياب النسائية المستعملة (التي توزعها وزارة التموين) أربعمائة ثوب، ويمكن أن يتزوج بها من الفقراء أربعة رجال. هذا وأنا رجل معتزل الناس لا أديم مواصلتهم، ولا أؤدي حقوقهم، خارج على مواضعاتهم، ثائر على عاداتهم، ¬

_ (¬1) أعني به بنتي «بيان» التي تدرس في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة. درست النحو والأصول والبلاغة والأدب العباسي والأندلسي وكانت بحمد الله من أحسن المدرسات. (¬2) ذلك لأن البلدية في دمشق كانت تبيع الخبز للفقراء في تلك الأيام كل كيلو بعشرة قروش، فالطن منه بمائة ليرة فقط.

لا أصنع إلا ما أجده نافعاً معقولاً، ولي من جرأة جناني، ومضاء لساني عاصم من لومهم وتعنيفهم، وهذا هو المولود الثالث لا الأول، فكيف تكون الحال لو كنت من الأثرياء الذين يخالطون الناس، ويقومون بحقوقهم؟ وكيف لو كان المولود صبياً بكراً؟ ففكروا كم ننفق من الأموال في أشياء لا يأتي منها خير، وما في تركها ضرر، ونحن نشكو الفقر والمرض والجهل؟ أعرف رجلاً تزوج فأهدي إليه يوم زفافه، من أصدقائه وصديقاته وأقربائه وقريباته، مائة وست عشرة باقة زهر، ثمن أدناها خمس ليرات، وقد يبلغ ثمن أعلاها العشرين، فحار أولاً أين يضعها، ومن أين يأتي لها بالكؤوس والأواني، ثم بدا له فجعلها حول سرير العروسين، فكان لها منظر رائع خلاب، ثم مرت الأيام ففسدت وجفت فاستأجر رجلاً يحملها ليلقيها في إحدى المزابل! ألف ليرة تلقى على مزبلة، ونصف الأمة يتضوّر جوعاً! وأعرف آخر من التجار أبى له سفهه وتبذيره وكفره بنعم الله إلا أن يوزع السكر على نحو خمسمائة مدعوّ لحضور عقد ولده في علب من الفضة في كل منها صحن من البلور، لا أدري من أين جاء بها فما في بلدنا منها، قالوا، إن ثمن الواحدة منها خمس عشرة ليرة، فهذه سبعة آلاف وخمسمائة ليرة، دون باقي المصروفات، في الفرش والزينة والثياب. وإن من نساء هؤلاء النفر من التجار الفجار الأشرار (¬1) من تشتري المعطف الواحد بألف ليرة، وإذا لم تصدقوا فاسألوا تجار الفرو! والتبذير في أتراح هؤلاء الأغنياء لا يقل عنه في أفراحهم، فلا تخرج جنازة أحدهم حتى يمشي معها رجال المولوية بقلانسهم التي تشبه علب اللبن، وثيابهم التي تحكي إذا داروا المخاليط الناقصة التي وصفوها لنا في درس الهندسة أيام المدرسة (¬2)، ولا يمشون حتى يقبض شيخهم الرسم المقرر، خمسمائة ليرة. وأمام ¬

_ (¬1) وهم بحمد الله قلة، وجمهرة التجار في الشام من المزكين المحسنين. (¬2) انقرضت الطريقة المولوية الآن من دمشق، وقد كانت بدعة من شر البدع.

الجنازة الآس والحناء، وبعدها حفلة (التنزيلة)، ثم (الصباحية) و (العصرية) وللنساء فيها كسوة خاصية تشترى من أجلها، فلا يصك الميت إلى القبر حتى ينفق عليه إن كان من الموسرين خمسة آلاف ليرة، ما أنفق قرش واحد منها في طاعة الله! وإن حول كل دار من هذه الدور التي تهدر فيها الأموال لمَساكن فيها ناس مثلنا، من بني آدم، من إخواننا في الدين وفي الوطن وفي اللسان، يشتهون عشر معشارها، أو أقلّ منه، ليشتروا به طعاماً يملأ بطون أولادهم، وثياباً تستر أجسادهم، وإن لهؤلاء الناس (لو عرف الأغنياء!) عيوناً تنظر كعيوننا، وقلوباً تتألم كقلوبنا، ولهم بنون وبنات هم قطع أكبادهم، وهم (على هلهلة ثيابهم ووساخة أبدانهم) أحبّةٌ إليهم أعزة عليهم كعزة أولادنا علينا، وربما كانوا أزكى من أولادنا نفوساً وأطهر، وأذكى عقولاً وأمهر، وكانوا أرضى لله وأنفع للوطن منا، ولكن الفقر عطل قرائحهم، وكفَّ أيديهم، وكبل أرجلهم. إن هؤلاء وإن لم يكن في أعراسهم طاقات الزهر، ولم يكن في جنائزهم مولوية ولا آس، ولم يعرفوا طريق المدارس والملاهي، ولم يزهوا بغالي الثياب، ولم يتمددوا على أرائك السيارات، ولم يعرفوا المشيخة التي يأكلون بها الدنيا بالدين، ولا الزعامة التي يجمعون بها المال بالوطنية، إنهم هم عماد هذا الوطن، وهم جمهرة أهله، هم يزرعون القمح ويقدمونه إلينا ثم يعيشون على الذرة والشعير، وهم يبنون لنا القصور ثم يقيمون في الأكواخ مع البقر والحمير، وهم يصنعون بأيديهم (الشكلاطة) التي لا يذوقونها، ويحيكون الثياب التي لا يلبسونها، وهم يسهرون في الطرقات ليحرسونا ونحن نيام، وهم يمشون إلى الميادين ليدافعوا عن أوطاننا ونحن آمنون، وهم قد دفعوا ثمن الاستقلال مهجهم وأرواحهم، ثم لم يتخذوا من خيراته شيئاً. إن هؤلاء هم ركن الوطن وعماده، وهم أهله وقطانه، فحرام علينا أن ننساهم ونهملهم! حرام أن تبقى هذه الأموال ضائعة، وهذه البطون جائعة! حرام في دين الله، وفي شرعة الإنسانية، وفي قانون الشرف! فأين المصلحون؟ أين المصلحون؟ أين رجال الجمعيات؟ أين أرباب الأقلام؟

لقد كنت أصْفَح (أعداداً) عتيقة من مجلة الهلال، فوجدت في (عدد) منها أن في بلاد السويد جمعية اسمها (جمعية أمناء الأزهار) عملها جمعُ الأموال التي يشتري بها أهل الميت وأصدقاؤه طاقات الزهور التي تحمل مع الجنازة ثم توضع على القبر، وإنفاقها في بناء مساكن صحية للعمال والفقراء، يسكنون فيها بأجر يسير، وأنها أنشأت (إلى تاريخ ذلك الخبر) نحواً من ألف مسكن. فلماذا لا يكون فينا رجال مثل رجال هذه الجمعية، يأخذون المال من هنا، فيضعونه هناك، فيصلحون به أخلاق الأمة بإنقاذها من داء التبذير والأثرة والمفاخرة بالباطل، ويدفعون عن أغنيائها حسد فقرائها وبغضاءهم، ويعودون عليها بالخير لها في أجسادها وعقولها وصناعاتها وحضارتها إذ ينفقون هذا المال فيما هو أولى به من وجوه الإصلاح؟ لماذا نأخذ عن الأوروبيين السم وندع الترياق؟ كم ينفق في الشام ومصر والعراق وسائر بلدان هذا الشرق الإسلامي في الزفاف وحفلاته، والمأتم وملحقاته، والأعياد والمواسم وأيام الولادة والختان، فيما لا ينفع أحداً البتة، ولا يعود عليه بعائدة، ولا تناله منه فائدة؟ حتام تهدر الأموال ويراق الذهب، اتباعاً لعادات قبيحة وتقليداً كتقليد القردة، وجمهور هذا الشعب يشكو الفقر والمرض والجهل؟ هل تذهب بشاشة العيد ويمحَّى رواؤه، لو اصطلح الناس فيه على تقديم السكر الملبَّس الوطني بدلاً من الشكولاتة وصرفوا فرق الأثمان في بناء مدرسة أو مستشفى في كل بلد؟ هل يبطل أنس العرس، وتضيع بهجته إذا لم يكن فيه إلا طاقتان من الزهر؟ هل يكتب على العروسين الشقاء الدائم إذا وزعت الحلوى على المدعوّين في قراطيس بدلاً من العلب؟ هل يحرم الميت التقي من نعيم الجنة، ويضاعف على الشقي العذاب إذا

لم يمش في جنازته رجال الطريقة المولوية التي لا يقول بها عقل ولا نقل، ولا يقرّها شرع ولا طبع؟ فإلى متى نضيع أموالاً نحن اليوم أحوج إليها من كل يوم مضى لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال؟ فيا أيها الأغنياء لا تغتروا فإن النعم لا تدور، وإن مع اليوم غداً، وإن بعد الحياة موتاً، وإن بعد الموت لحساباً عسيراً، أمام رب الأرباب الذي خلقكم وخلق الفقراء من طينة واحدة، لم يخلقهم من التراب ويخلقكم من الاسمنت المسلح، ولم يميزكم عنهم إلا بمال أعاركموه ليكون محنة لكم وليطول عليه حسابكم. ويا أيها المصلحون هذا باب من أوسع أبواب الإصلاح فلجوه بارك الله فيكم إن فعلتم، وأيّدكم. ويا رب منك أنت التوفيق، فأعط المخلصين مقدرة، وأعط القادرين إخلاصاً، فإننا نشكو إليك شكاة عمر: ضعف التقي وفجور القويّ! ***

مستقبل الأدب

مستقبل الأدب نشرت سنة 1947 تزدحم المساجد قبيل الامتحان بجماعات الطلاب، يتحلقون فيها حلقاً، يطالعون ويقرؤون، وقد مررت مرة بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب، في المدارس العالية، فقعدت قريباً منهم أستمع إليهم، وكان واحد منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلمتْ له خمسةُ أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلا رفع فيها منخفضاً، وخفض مرتفعاً وحرف الكلم عن مواضعها، وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغوياً ولا نحوياً ولا عالماً بالعربية من لَدُنْ أبي عمرو إلى الأشموني، إلا نبش قبره وبعثر عظمه، ولعن بجهله أباه وأمه، أما الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبه لِلحنة الظاهرة، فيردّه عنها، ويغفل عن الخفية، وسائرهم (¬1) في عمى عن ظاهرها وخفيها، ودقيقها وجليلها، فضاق صدري، حتى خفت أن يتفجر بغضبة للعربية، لا أدري ما عاقبتها فحملت نعلي وخرجت هارباً أسعى. وذهبت فسألت المدرسين فعلمت أن هذا القارىء ليس بدعاً في الطلاب وليس المتفرد في هذه (العبقرية) في الجهل، وهذا (التبريز ...) فيه، وإنما هو النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في هذه الأيام، واجتمعت بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية، لا أقول هذا فخراً بأصحابنا، ولكن تذكرة لهؤلاء، وحثاً لهم على الجد في طلب العلم، وبياناً لما هبطوا إليه، وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتماداً على شهادات ينالونها، أو كراسي يركبونها، ¬

_ (¬1) سائرهم أي باقيهم.

أو وظائف (¬1) يقبضونها، حتى صارت الشكوى من الضعف في العربية عامة في مصر والشام والعراق، وحتى صار من أبواب التسلية للأدباء، أن يفكروا في (تيسير) تعلم العربية، بقلب قواعدها وتنكيس أوضاعها، وابتداع البدع في نحوها وصرفها، أو بهدم بنيانها، وصرم نظامها، بـ (تسكين أواخر كلماتها)، و (ترك إعرابها)، أو بنسفها من أساسها، وقلعها من جذورها، باستعمال الحروف اللاتينية أولاً، والكلمات العامية ثانياً، وما لا يعرفه إلا الله ثالثاً. وما إلى شيء من ذلك حاجة، ولا له فائدة، وما باللغة تعسير حتى نبتغي لها أوجه التيسير، ولكنْ في العزائم خور، وفي الهمم ضعف، وفي الشباب انصراف عن العلم! هذه هي الحقيقة، وإلا فهل صلحت اللغة برسمها (¬2) وعلومها هذه القرون الأربعة عشر، وصبرت على حكم الأتراك أولاً ثم الفرس، ثم المغول، ثم المماليك العبيد، ثم الأتراك أخيراً، ورأت عصور الانحطاط، وعهود التخلف وكانت في كل ذلك طاهرة ظافرة، حتى لم يخل عصر من مؤلفين في النحو والصرف والبلاغة والأدب، وحتى وضع القاموس أشهر معاجمنا في عهد العثمانيين، وألف شرحه الجليل بعد الألف للهجرة، وحتى كان طلبة العلم في الدهور كلها عاكفين على النحو والصرف والبلاغة، إن لم ينالوا ثمرتها فقد حفظوا قواعدها، وإن لم يحصلوا سليقة العرب، فقد أحاطوا بعلوم الأدب. هل صلحت اللغة في هذه القرون وبدا الآن فسادها؟ وهل استسهلها الفرس والروم والأتراك والهنود حتى ظهر منهم علماء أجلاء فيها، ولم تصعب إلا على أبناء العرب الأقحاح، بعد ما طلع فجر النهضة، وبدا النور؟ وما لشبابنا وحدهم دون شباب العرب في كل العصور، هم الذين عجزوا عن تعلمها والتمكن منها؟ أهم أقلّ ذكاء، وأضعف عقلاً، منهم جميعاً ومنا لما كنا في مثل أسنانهم قبل عشرين سنة؟ لا، بل هم أذكى منا، ووسائل التعلم في هذه الأيام أكثر، ¬

_ (¬1) الوظائف الرواتب. (¬2) أي خطها وكتابتها.

وطريقته أسهل، وربَّ بحث كنا نتصيد مسائله من متفرقات الكتب يرى الآن مجموعاً في كتاب واحد، ينادي: من يقرأ فيَّ؟ فما لهم يستصعبون العربية؟ وهل العربية أصعب عليهم من الكيمياء والجبر والهندسة، وهذه الألسن التي يزحم بعضها في رأس الطالب بعضاً من تعددها وما لأكثرها من فائدة تلمس، أو عائدة تحس: اللاتينية (¬1) التي أخذناها تقليداً بلا علم، والسريانية والعبرية والفارسية والتركية، ثم الفرنسية والإنكليزية وما لست أدري ماذا أيضاً؟ أهذه العلوم وهذه الألسن كلها سهلة جميلة، كأنها قصة من قصص الغرام، يشربها الطالب مع الماء، ويأكلها مع الحلوى، والصعوبة كلها في العربية؟ وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونرهق الأمة بنفقاتها، ونحمل خريجيها على أعناق الناس حملاً، بما حصلوا من العلم، وما نالوا من الشهادة؟ لا، ليس في العربية صعوبة، ولا في كتابتها وعلومها تعسير، هذه ضلالة يجب أن ينتهي حديثها، وأن لا نعود إلى إضاعة الوقت، وإفساد النشء، في الكلام فيها. ويجب أن نحببها إلى الطلاب، ونرغبهم في مطالعة كتبها، حتى يألفوها، ويسهل عليهم فهمها، ولقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب العلمية الكبيرة حتى إني قرأت (حياة الحيوان للدميري) -وقد وقع في يدي اتفاقاً- قبل أن آخذ شهادتها، وقرأت (الأغاني) كله -متخطياً إسناده، وما لا أفهم منه- في صيف السنة الثانوية الأولى، وكنا يومئذ نحسن المراجعة في الخضري وفي المغنى، وكان فينا من ينظم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام، قد لا ترضيني أفكارها ولكن أسلوبها يرضيني اليوم. وكنا نختلف إلى بعض العلماء، نسمع دروسهم العامة في المساجد، ودروسهم الخاصة في البيوت فما أكملنا الدراسة الثانوية حتى قرأنا مع علومها، ¬

_ (¬1) كتبت هذه المقالة في مصر.

النحو على المشايخ والبلاغة والفقه والأصول والحديث، وحضرنا كتباً في التفسير والكلام والتصوف، وعرفنا عشرات من أمّات (¬1) كتب العلم، قرأنا فيها أو تصفحناها أو رجعنا إليها، وحفظنا أسماء مئات من أعلام الإسلام من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين والمفسرين والفلاسفة والقواد والأدباء والشعراء، حتى صارت أسناد الحديث والأدب مألوفة لنا، لكثرة من عرفنا من رجالها، ومن لا نعرفه نرجع إلى ترجمته، وكنا في الثانوي نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات وابن خلكان والفوات ومعجم الأدباء، وطبقات السبكي وتاريخ الخطيب، وابن عساكر، والديباج المذهب، وطبقات الحنفية والبغية، وتاريخ الخلفاء والقفطي وابن أبي أصيبعة، وكانت هذه الكتب كلها -وأخرى نسيتها- في مكتبة أبي وكانت تحت يدي من تلك الأيام. وقد نبغ في صفنا (فصلنا) جماعة من الأعلام، كسعيد الأفغاني، وجمال الفرا، ووجيه السمان، وأنور الشلاح، ومحمود البحري، وقد نبغ في الصف الذي أمامنا طائفة أخرى من الأعلام كأسعد الكوراني، وأنور العطار، وجميل سلطان، وزكي المحاسبي، وعبدالكريم الكرمي. وفي الصف الذي بعدنا محمود مهدي الاسطنبولي، وظافر القاسمي، وأحمد مظهر العظمة، ومحمد كمال الخطيب. وما كانت تمر سنة لا ينبغ فيها نابغون في الأدب والعلم، وممن نبغ في صفنا في كلية الحقوق، مصطفى الزرقا ويونس السبعاوي وصديق شنشل وبدرالدين الكاتب وعادل العدواني. ثم شح الينبوع، ثم جفَّ أو كاد، حتى ما نجد في السنين الطوال كاتباً ينبغ في الشام، أو شاعراً يظهر، أو محققاً يرى، وما زال الأمر إلى تخلّف ولقد اشتغلت بالتعليم دهراً في الشام والعراق ولبنان فما فارقت فوجاً من الطلاب إلا استقبلت أضعف منه، حتى انتهى بي الأمر، أن دعيت (من سنتين) إلى تدريس الأدب لطلاب السنة الأخيرة من مدرسة ثانوية، فدخلت فوجدت ¬

_ (¬1) قالوا: الأمهات للناس والأمان للأشياء.

رجالاً كباراً، لهم طول وعرض، وأناقة في الثياب، ولباقة في الخطاب، وسمت ووقار، فهبتهم وأعددت العدة لتعليمهم، وحشدت كل ما أعطيت من قوة وعلم، على ضعف قوتي وقلة علمي، ومضيت على سنني حتى جاء موعد سؤالهم، فإذا هم من أئمة الجاهلين، وإذا هم لا يحسنون قراءة بيت ولا فهمه ولا إعرابه، ففررت منهم لما عرفتهم، ووجدت أني إن كلمت ثيابهم وهيئاتهم منعتني جهالتهم، وإن خاطبت جهالتهم منعتني هيئاتهم. فالحكاية ليست حكاية كتابة تسهل، ولا قواعد تيسَّر، ولا أغراض خبيثة تحقق من وراء هذه السُتُر اللماعة، ولا سموم تقدم في هذه الكأس البراقة، ولكنها مشكلة المعلم أولاً، والتلميذ ثانياً. وما دام في معلمي العربية من هم أصحاب شهادات لا أصحاب علم، خطفوا مسائله في المدارس خطفاً، وحفظوها حفظاً، ومنهم من تعلمها في ديار الغرب، وجاء منها بدكتورات حرب (¬1) وما دامت دروس العربية تلقى بالعامية، وما دام مدرس الأدب يتكلم ساعة عن أبي تمام وأدبه وما قيل فيه، ولكنه لا يفهم بيتين من شعره، ولا يحسن شرحهما، ويعلم الأدب وما هو بأديب، وما دام يتصدر للامامة في (فن القول) (¬2) من لا يدري ما يقول - فمن أين يتلقى الطالب العربية؟ فهاتوا المعلم القوي في علوم اللغة، صاحب الاطلاع فيها، والذوق في فهمها، يصلح هو فساد المناهج، ويقوم اعوجاج الكتب، وييسر عسر اللغة، (إن كان فيها من عسر!) وهذا المعلم لا يوزن بميزان الشهادات وحدها، إلا إذا جاء وقت لا تعطى فيه الشهادات إلا لأربابها، وتكون شهادة حق لا شهادة زور، ففتشوا أنتم الآن عن ميزان آخر! أما التلميذ فيجب أن نحبب إليه المطالعة، ونعرفه قيمة العلم ونذيقه ¬

_ (¬1) دكتور حرب على وزن «غني حرب». (¬2) إشارة إلى كتاب (فن القول) للشيخ أمين الخولي الذي أراد أن يجدِّد به علم البلاغة!.

لذته، ولا يكون ذلك ما دامت المجلات والمطابع مفتحة أبوابها، لكل هذيان وعبث صبيان. وبيان ذلك أن في نفس كل ناشىء في الأدب حباً للظهور، وهوى للنشر، فلا يجدّ إن جدّ إلا ليلقى اسمه على رأس مقالة في مجلة، أو على غلاف كتاب، ولقد كان الواحد من أصحابنا يتمنى أن ينشر ما يكتبه بعد طول الكد، ومتابعة السهر، في جريدة محلية، ثم يرتقي إلى المجلة الصغيرة، ثم يتدرج حتى يصل إلى مثل الرسالة أو الثقافة. هكذا كنا، وهكذا كانت لهذه المجلات هيبة في نفوسنا، فلا نقدم عليها إلا بعد الاستعداد، ولا نقدم لها إلا ما نعتقد أنه جيِّد، فتبدلت الحال؟ وعلا الشباب (بالغرور)، وهبطت هذه المجلات، حتى صرنا نرى الغلام المبتدئ، يكتب مقالته الأولى فلا يراها أقل من أن تنشر في الرسالة مثلاً، مع مقالة العقاد والزيات، ولا يعدم بعد إدمان القرع للأبواب من يفتح له باب مجلة من هذه المجلات. هذا الشاب الذي يرى أنه وصل إلى الغاية بلا تعب، ونال ما يطلب بلا مشقة، لا يجد بعد ذلك ما يدفعه إلى سهر الليالي، وتقريح الجفون، في مسامرة الكتب، والازدياد من العلم. فليس الخطب في ضعف الطلاب وعجز المعلمين ولكنه خطب الأدب. إنها إن استمرت هذا الحال، ومات هؤلاء الكتاب البلغاء، وكل حي إلى ممات ولو طال به الأجل، فإنكم ستتلفتون تفتشون عن كاتب بليغ، أو شاعر مفلق، فلا تجدون. فأعدُّوا من الآن شباباً تدخرونهم لذلك اليوم العصيب، وإلا فعلى اللغة والأدب والبيان السلام! ***

رجل في ملابس النساء

رجل في ملابس النساء نُشرت في مصر سنة 1947 قرأت في (أخبار اليوم) آن الشرطة عثرت على (فلان) قتيلاً في داره. وقالت عن هذا القتيل أنه كان يلبس ملابس النساء، ويفضلها على ملابس الرجال، لأن أمه لما ولدته كانت ترجو أن يكون بنتاً لذلك دعته (فلانة) وألبسته ملابس البنات ونشأته على ذلك، وقالت الجريدة أنه كان غنياً واسع الثروة فأراد يوماً أن يؤلف لجنة في (حزب سياسي) للسيدات يكون هو رئيسها فأوفدت إليه الشرطة من يهدده بالاعتقال والنفي إلى الطور إن هو فعل. ... قرأت هذا فوقفت عنده وفكرت فيه، فوجدت الجريدة قد ساقت هذا الخبر لتعجّب الناس من أمرين هما: لبس الرجل لباس المرأة، ودخوله في لجنة السيدات - وما في واحد منهما عجب، ولا أدري ماذا وجدت فيه الجريدة حتى عجّبت منه الناس! وما دمنا لا ننكر على المرأة أن تلبس لباس الرجل وتستعير سراويلاته (بنطالونه)، وتجزّ شعرها تشبهاً به، وتتخذ مثل قميصه وردائه؛ فلماذا ننكر على الرجل أن يلبس ثيابها مرة واحدة؟. ولماذا ننكر عليه دخوله مرة واحدة في لجنة السيدات، ولا ننكر على السيدات دخولهن في لجان الرجال ومشاركتهم في أعمالهم، من سوق السيارة إلى تدريس الجامعة؟ وأيهما أعجب وأغرب، وأبعد عن سنن الله ومألوف الناس أأن يرأس رجل لجنة السيدات في حزب من الأحزاب، أم أن تقعد آنسة جميلة على منبر التدريس مثلاً؛ تعلم شباباً كباراً، علماً لم تختص هي به، ولم تنفرد بحمله، ولم ينقرض الرجال حتى لم يبق لتدريسه إلا هي، وليست أصلح له ولا أقدر عليه من رجال هم مستعدون للقيام به، راغبون في أدائه؟.

فلماذا نستضعف الرجل فنحمل عليه، ونظلمه هذا الظلم البينّ، ونهاب الجنس (المخيف) أن نقول لأهله كلمة أو نشير إشارة؟. وأين المساواة بين الجنسين التي ندعو إليها دائماً، ونتجمل بترديدها، ونتباهى بها، ونحن لا نفهم معناها، ولا ندري علام تدل وإلام توصل؟. ... وهل أنفرد هذا الرجل وحده بلبسه غير لباسه، وتزيّيه بغير زيّه؟ ألسنا نرى كل يوم أناساً يتزيّون بزيّ الصالحين، ويحملون سبحات المسبحين، ويقومون في المساجد مع المصلين، ثم لا تعاملهم إلا غشّوك، ولا تَخْبُرهم إلا وجدتهم طلاب مراتب ورواتب، أو باغي (¬1) منافع، ولا تراهم إلا متزلفّين لكل صاحب سلطان، خاضعين له، يؤثرون رضاه على رضا الله، ويخافون غضبه أكثر من غضب الله. إذا رأوا الحرام منه خرسوا عنه، وإن رأوا المكروه من غيره أقاموا الدنيا عليه. ومشايخ طرق ظاهرهم مع مريديهم ظاهر الفقراء الزاهدين، وحقائقهم مع أهليهم وإخوانهم، حقائق الفساق الذين ينتهكون كل حرمة، ويبتغون كل لذة، ويعيشون حياة ليس فيها شيء لله ولا للشرف. أولسنا نرى كل يوم عملاء للأجانب، يدرسون على حساب الأجنبي في مدارسه، ويتربون على يديه، ويسبِّحون بحمده، يتوجهون أنّى وجههم، ويعملون له فيما استعملهم، ويعرفهم الناس صنائعه وعبيده، يلبسون فجأة ثياب الوطنيين المخلصين، أو دعاة الدين الصالحين، ثم يدخلون (بأمر الأجنبي) الحزب أو الجمعية، فلا يلبثون أن يكونوا هم أربابها، وأن يقصوا عنها أصحابها ثم يصرِّفوها لمصلحة الأجنبي، يخدمونه وهم يسبّونه، قلوبهم وأيديهم معه وألسنتهم عليه، وعملهم لمصلحته وإن كانت ظواهرهم لمحاربته؟. ¬

_ (¬1) أي قاصدي.

أولسنا نرى أغبياء جهلاء يلبسون ثياب العلماء الأذكياء، وأدنياء يزهون بحلل الأعلياء، وأعداء يرتدون أردية الأصدقاء؟. فلماذا نفرد هذا القتيل المسكين بالملامة، ونخصه بالنقد؟ ... وهل كل من حمل شارب الرجل، ولبس لباسه، كان رجلاً؟ لو كان هؤلاء كلهم رجالاً فهل كان يمكن أن تبقى بلاد العرب إلى اليوم مجزأة مقطعة، تفصل بينها حدود، يطؤها الأجنبي ويتحكم فيها، ويستغلها ويستعبد أبناءها؟ إن الرجال حقاً هم الأربعون الذين كانوا مستخفين في دار الأرقم في أصل الصفا، فلم تمر عليهم ثلاثون سنة حتى فتحوا نصف الدنيا، لا هؤلاء (الخمسمائة مليون) (¬1) الذين ناموا منذ ثلاثمائة سنة حتى تجرأت عليهم نصف شعوب الدنيا؟ لسكان هؤلاء رجالاً حقاً واجتمعوا على الأسطول الإنكليزي لحملوه حملاً على أكتافهم، ولو نفخوا كلهم نفخة واحدة لطيّروا الجيش الإنكليزي المرابط عند القناة (¬2). ولكنه أشباه الرجال؛ ولبسهم لباس الرجال لا يقل عجباً وغرابة، عن لبس هذا القتيل لباس النساء ... ولماذا ننكر عليه أن يكون رئيس لجنة السيدات الـ (حزبيات) ولا ننكر على السيدات أن يؤلفن هذه اللجنة؟ وما للسيدات وأعمال الأحزاب؟ إنه إن دخل فيها فهذا عمله، وهذا مكانه، ليس هو الطارئ عليه الواغل فيه، ولكن السيدات المحترمات! فهن أولى بالإنكار، وأحق بالمنع، لا احتقاراً لهن وزراية عليهن بل إكراماً لهن، وترفعاً بهن أن ينزلن إلى هذه المنزلة، وينحططن إلى هذه الدركة، وهل جنى الرجال من الحزبيات في بلادنا خيراً حتى يجنيه منها للنساء؟ هل رأينا فيها إلا التفرقة والانقسام، واستغلال نفر منا إخلاص المخلصين، واندفاع المندفعين، وطمع الطامعين، للوصول إلى كراسي الحكم، والتمتع ¬

_ (¬1) صاروا اليوم الف مليون. (¬2) وقد أخرجهم الله الآن و {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ}.

بأموال الدولة؟ وماذا يرى المراقب البعيد، من تبدل الحكومات في هذا الشرق العربي، وتعاقب الأحزاب عليها، إلا تبدل الوجوه، وتغيّر الأشخاص، أما الأسلوب فهو واحد، والسياسة واحدة، يتبدل الوزَّان ويبقى الميزان؟ والميزان مختل، والقبّ مائل، والصنجات ضائعات ... أولسنا جميعاً مثل هذا القتيل نلبس لباساً لم يفصّل لنا، ولم يقس علينا، ولكنه خيط لغيرنا، فأخذناه كما هو بلا إصلاح، ومشينا فيه كما يمشي الطفل بحلة أبيه يتعز بها فيسقط، فيُضحك أهلَه عليه، ويسليّهم بفعله. لقد أخذنا هذه المدنية كما هي، لم نحكم فيها عقولنا وشرائعنا وطبائع بلادنا ولوازم معيشتنا كما تفعل كل أمة في الدنيا، إذ تستوي الأمم في أصول الحضارات، وأسس المدنيات، ولكنها تختلف في التفاصيل، فلا تبني البيوت وتخاط الثياب في البلاد الباردة كما تبني وتخاط في البلاد الحارة، ولا تخطط المدن في شعاب الجبال كما تخطط في السهول أو على سواحل البحار، ولا تكون الأطعمة في حدود القطب كما تكون في خط الاستواء، وما يسوغ ويقبل في بلد قد ينكر ويردّ في بلد، وما يحسن في لسان من أساليب البيان يقبح في لسان، وما يجمل في أذن من ألحان الغناء يبشع في أذن، ليس في الدنيا بَلَدان متحضران تستوي فيهما هذه الدقائق كلها، وإلا لما كان معنى لاختلاف الحضارات، وتعدد الثقافات، وتكلف مشاق الرحلات، ولكان السائح الذي يرى فرنسا كأنه رأى ألمانيا، والذي يبصر أميركا كأنه أبصر روسيا، وليس في الدنيا حضارة أصلية إلا ولها طابع خاص بها، فما هو طابعنا نحن في حضارتنا الجديدة؟ ما هو الثوب الذي نلبسه؟ ادخل أي دار من الدور، وسر في أي شارع من الشوارع، في مصر أو الشام أو العراق، نجد الجواب، تجد في الدار الواحدة غرفة مفروشة بالبساط والوسادة وفيها فراش على الأرض، وغرفة فيها أحدث ما صنع من الأرائك والكراسي والمناضد، ودقق في هذه الغرفة تجد فيها خليطاً من الذوق الفرنسي والإنكليزي، وفي صدرها مرآة من أسلوب عهد لويس الرابع عشر، وأمامها نضد على الطريقة الأميركية، وتجد بين الأم وبنتها في اللباس والعادات والأفكار

قرناً كاملاً، وتجد بين الدار وأختها فرقاً هائلاً، في العمارة والفرش والذوق والترتيب، مع أنك تدخل بيوت عمارة يسكنها إنكليز أو فرنسيون فتحسّ على اختلاف الغنى والذوق، أن لها طابعاً عاماً يبدو على كل منها، وإن تفاوتت درجات ظهوره وخفائه؛ وتجد في الشارع ألواناً من الألبسة والأزياء، يحسبها الغريب أزياء عيد المساخر (الكرنفال). وادخل المدارس تجد في المناهج، وفي المبادئ العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض على التلميذ، وفي آراء المدرسين ومذاهبهم (كرنفالاً) آخر؟ ولكنه أغرب وأشد اختلافاً، وأكبر ضرراً. وفي المبادئ الحقوقية في التشريع، وفي المذاهب البيانية في الأدب، وفي الصحافة وفي السينما وفي كل شيء (كرنفال) ضخم، ليس له يوم واحد ينقضي بانقضائه، ولكنه دائم باق ما له انقضاء. وأنا لا أدعو لنبذ الحضارة الغربية، بل أدعو إلى أخذ ما ينفعنا منها، وأن لا نأخذها أخذ العامي للرادّ (الراديو)، لا يفهم منه إلا أنه يأتيه بالأصوات فيفتحه على مصراعيه، ويزعج به الجيران، ويكرّه إليهم الحياة بجواره، بل أخذ العالم الذي يعرف وجوه استعماله، ويدرك تركيبه، فيصلحه إذا فسد، ويكمله إذا وجده ناقصاً، ويصنع مثله أو يخترع أحسن منه، أي أن نتعلم علومهم، ونتقن فنونهم، وندرس أخلاقهم، ثم نرى ما يزيدنا منها قوة وسعادة، للفرد منا والجماعة، وسهولة في العمل، ولذة في المعيشة، فنأخذه كما هو أو نعدله حتى يصلح لنا، وأن ننقله إلينا، ونجعله ملكاً لنا، لا أن ننتقل به إلى أمة غير أمتنا، وطبيعة غير طبيعتنا، وأن ننظر ما فعله أجدادنا في أول العهد العباسي، مع الحضارة الفارسية مثلاً فنصنع مثله، إنهم أخذوا كل نافع في الطعام والشراب واللباس والمسكن وفنون القول وطرائق الفكر، ولكنهم لم يصيروا به فرساً، بل جعلوا به الفرس عرباً، أما أن نأخذ النافع والضار، والجليل والحقير، بلا فهم ولا علم، فهذا تقليد كتقليد القردة. ... وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس لمرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها

بنفسها، وكبرياءها القومية، وشعورها أنها أمة هي أعظم الأمم في الجاهلية وفي الإسلام، وأنها إن قدر عليها أن تذل حيناً، فما من أمة إلا وقد ذلت مرة، ولكنها لن تذل مرة أخرى، ولن تعود إلى الغفلة والمنام. إن رأس أدوائنا هو هذا اللطف، والحرص على أن نكون مؤدبين، لا نؤذي محدثنا أو جليسنا. هذا اللطف، وهذا الإكرام للضيف، هو الذي جرّأ علينا الأجانب، جنوداً وتجاراً، حتى ملكونا بجيوشهم ومعاملهم وشركاتهم ومتاجرهم، ولا خلاص لنا، أعني لا خلاص لمصر من هذا كله إلا بأربع خلائق يجب على كتابها وصحفييها ومدرسيها وصانعي أفلامها أن يعلموها الناس وأن يخلقّوهم بها، هي حب المال أولاً، وحب المال إن زاد كان مذمة للفرد ونقيصة، ولكنه لا يكون للشعب إلا خيراً، وما أفلح شعب لا يحب في مجموعه المال. وحب الأسفار ثانياً؛ كونو كإخوانكم الشاميين (¬1)، هل طلع كوكب إلا على نفر منهم؟ اقتحَموا البحر والصحراء، إلى أميركا شماليها وجنوبيها، وأفريقية أدناها وأقصاها، والهند واليابان وأوروبة، وما نزلوا بلداً إلا كانوا من كبار تجاره، ومن وجوه سراته، عاشوا تحت كل نجم، وجابوا كل أرض، وخالطوا كل أمة. وترك هذا اللطف ثالثاً، وتعوّد الشدة في الحق، والثقل على العدو، والمزاحمة على العيش، وأن يحس كل مصري بعد هذا كله، بل قبل هذا كله إن البلد بلده وأنه أحق به من كل خواجة وكل دخيل، وأن له هو طيباته وخيراته، وأنه أكرم في هذا الدخيل (كائناً من كان هذا الدخيل) أصلاً، وأعز نسباً، وأبين لساناً، وأقوم ديناً، وأجل أثراً في الدنيا، فلا يطأطئ رأسه لأحد، ولا يحني هامته لإنسان، ولا يرضي بالدنيّة من مخلوق في الدنيا. بهذه الأخلاق ننقلب أمة أخرى، ويرى هؤلاء الأجانب ماذا يصنع الأسد الجريح (إذا برئ) بالثعالب التي كانت تلعق من دمه. والويل يومئذ للثعالب!!. ... ¬

_ (¬1) قلت هذا الكلام سنة 1947 وقد صاروا الآن سنة 1987 مثلهم بل لقد أربوا عليهم وسبقوهم.

وكم في مصر من بنات أمبان

وكم في مصر من بنات أمبان (¬*) نشرت في مصر سنة 1947 إجلاء هذه البنت عما تسميّه ملك أبيها، أعظم عندي من إجلاء الإنكليز عن مدن مصر. لأنها تحتل بحق (التملك) وأولئك يحتلون بسيف الغصب. ولأنها توشك أن تصير (كما صار غيرها) مصرية، في سجلات الإحصاء، على حين أنها لا تزال أجنبية الدم والهوى واللسان، وأولئك يبقون إنكليز غرباء، غاصبين أعداء، ويبقون قذى في عين كل مصري، وغصّة في حلقه، وثقلاً على قلبه، حتى يخرجوا، وما من خروجهم بدّ، لأن الباطل إلى اضمحلال وإن كانت له جولة، والحق إلى ظفر وإن كانت له كبوة، وقد (طالما) بغي باغون، وظلم ظالمون، ولكن لم يدم باغٍ ولا خلد ظالم!. هذه البنت وأمثالها شر من الإنكليز، وسند التمليك في يدها أقطع في رقابنا من السيوف في أيديهم، وفندقها في مصر الجديدة أخطر على استقلال مصر من ثكنات قصر النيل، لأن المصيبة في هؤلاء أنهم يعدون (في جنسيتهم الرسمية) منا، وهم في حقيقتهم من غيرنا، فيدخلون في الأمة دخول السم في الجسم، وصندوق الديناميت بين أحجار البناء، ويكونون منا كالشيطان من ¬

_ (¬*) جلست بنت البارون أمبان صاحب شركة «مصر الجديدة» في فندف «هيلوبوليس بالاس» مع شابين إنجليزين، وكان على مقربة منهم الضابط الطيار صدقي فجرت بينهم مناقشة في الجلاء، فقالت الفتاة: «إن المصريين من غير الإنجليز صفر». فلما أنكر عليها الضابط وألزمها بالاعتذار أصرت على قولها وأوعدته بالطرد من فندقها ومدينتها. فبلغت الواقعة حكومة مصر فطردتها منها.

الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه. ثم أن أصحاب كل بلدٍ هم ملّاك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاؤوا عطلوا هذه الأرض وتركوها مواتاً فجعلوا البلد مقفراً، وردّوه فقيراً، وإن شاؤوا أخلوا عماراتهم لليوم والعناكب أو هدموها، وإن شاؤوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاؤوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحساناً، فتزورّ عنهم وتنال بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها (الجميل). من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى في مصر للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى أن شارعاً عظيماً هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بقيت مصرية لأنها موقوفة، وسائره للخواجات. فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقى إلا بإذنه سقفاً يكنك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوباً يسترك، وأن يسيرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟. ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيء؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفّى من خير مصر؟ وأنت تمشي حافياً وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخَلِق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحبَ البلد، وابن مصر يصير غريباً في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد!. لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم،

أنتم آتون (لتقشْمِرونا) (¬1)، ويبغضون السوري الذي يزاحمهم على مورد الكسب في التجارة، ومنبع الربح في العمل، فكنت أتألم من ذلك وأقول، ليتهم تعلموا اللطف ومحبة الغريب. فلما جئت مصر، ورأيت هذا اللطف وما جر إليه من الضعف، وحب الغريب وما أوصل إليه من الخراب عرفت أن الخير فيما يفعل العراق. وأنا لا أدعو العرب ليكره بعضهم بعضاً، ولكن أدعو إلى شيء معقول: هو أن العرب اليوم في أقطار العربية كلها، كجيش في مصافّه، على كل فرقة أن تدفع العدو عن حماها، ولا تدع الجيش يؤتى من قبلها، ونحن نحارب (فيما نحارب) الفقر والإفلاس، فعلى كل قطر ألا يدع في أبنائه فقيراً، وألّا يترك فيه رجلاً بلا عمل، وأن يمنع الغرباء عنه من مزاحمة أهله في زراعته وتجارته وصناعته، حتى إذا اشتغلوا جميعاً، وبذلوا قواهم كلها، وبقي فيه بعد ذلك فراغ لأيد غير أيديهم، وأموال غير أموالهم، استعانوا بأبناء الأقطار العربية الأخرى، ولم يفتحوا لهم الباب إلا بمقدار الحاجة، أما أن يجيء السوري ليعمل في مصر، ويجيء المصري ليشتغل في الشام، ويترك أهل البلد بلا مال ولا عمل، فتفسد البطالة أخلاقهم، ويذلّ الفقر نفوسهم، ويعلّمهم هذا وذاك كره أخيهم العربي، فليس من مصلحة العرب أن يكون. هذا رأيي أعلنه بلا جمجمة ولا مداراة. وهذا للعرب. أما (الخواجات) فأجلوهم عن بلادكم إجلاءً تاماً فلا يأتوها إلا سياحاً أو زوَّار آثار. وارفعوا أيديهم عن مرافقها فلا يملكوا منها إلا ما يملك مثله الأجنبي في بلادهم. وكل بلاد الدنيا، تمنع الأجنبي أن يملك فيها أرضاً أو عقاراً إلا بمرسوم فما بال مصر مائدة ممدودة لكل طاعم، وكنزاً مفتوحاً لكل آخذ؟ وما بال الخواجة يجيء مصر فقيراً مفلساً، لا يبتغي إلا القوت يمسك رمقه أن يموت، ولا يتمنى إلا قرشين يعود بهما إلى بلاده، فلا تمر السنون حتى يصير الفقير غنياً، والواغل على البلد مالكاً له، ويغدو (الشحاد) صاحب ¬

_ (¬1) كلمة عامية عراقية معناها (لتسخروا بنا).

المنزل؟ ويجيء معه بالغانية راقصة أو بغياً، فيقدمها للمصري بيد ويأخذ منه الإسناد على موسم القطن بيد، ثم تتجمع الأسناد فتأكل الموسم، ثم تعجز المواسم عن سداد الدين، فيملك الأرض، ثم تتبدل الدنيا غير الدنيا، وينقلب الفلك، فيصير السيد عبداً، والعبد سيداً. هذا احتلال شر من احتلال الجيوش الإنكليزية، لأنه احتلال المومسات: راقصات وأرتيستات، واللصوص: أصحاب متاجر وأعضاء شركات والخلاص منه أصعب وأشق، لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان (النفير العام) في الكتاب أولاً، وتجنيد القوى الأدبية كلها، للعمل على إعلاء همة هذا الشعب، وأن نعيد إليه ثقته بنفسه، وأن نردّ عليه عزّته وكبرياءه، حتى ترتفع هامته، وتشتد عضلاته، ويشمخ أنفه، ويعلم أنه لا يكون حقيقاً بملك مصر، ولا أهلاً للاستقلال، ولا سليل من ملكوا بالإسلام الدنيا، إن لم يكن عزيزاً في نفسه سيّداً في بلده. ثم نعمل على أن نصب فيه روح المغامرة، وندفعه إلى اقتحام المخاطر، وركوب الأسفار، ونعلمه حب المال، فما يفلح شعب لا يحب المال، ولا يعرف قيمته، ولا يفلح شعب لا يريد فراق وطنه، ولا النأي عن عشه. ثم نعلمه بغض الأجنبي، حتى يكون له ديناً، ويغدو له طبعاً، نعم! البغض؛ لماذا تنفرون من سماع هذه الكلمة؟ ألأنها منافية للّطف والمجاملة والكرم؟ يا ناس لقد قتلنا اللطف، لقد ضيعتنا المجاملة، لقد أودى بنا الكرم. الكرم صيّرنا شحادين، والتواضع جعلنا عبيداً، فلنتعلم الاقتصاد، والعزة، أو فلنعلمهما أولادنا إذا لم يمكن أن نأخذ بهما نفوسنا. ثم لنفهم هذا الشعب أن الأوروبي يضحك علينا بالأرتستات والخمور والأزياء، كما يضحك على زنوج أفريقية بالخرز والأجراس، فلنره أننا عقلنا وشببنا عن الطوق، وأننا لم نعد نرضى أن يضحك أحد علينا، وما لنا ولأرتستاته وعندنا نساؤنا أزكى وأطهر وأجمل وأكمل؟ وما لنا ولأزيائه ولنا أزياؤنا؟ وما لنا ولخموره ولنا ... شرائعنا التي تحرم علينا الخمرة، وأخلاقنا؟.

فإذا استكملنا عدة الهجوم، شرعنا الرماح وهجمنا، وخضنا المعركة نحاربه بمثل سلاحه، بالعلم والجد والدأب والتعاون حتى نلقي عنا هذه القيود التي كبلنا بها، حلقة بعد حلقة، كما شدها من حولنا حلقة بعد حلقة، على أن المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى، ومصانع الطرابيس والزجاج (¬1) إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها، ولنؤلف لكل ميدان فرقة: شركة اقتصادية، فيكون لكل مرفق من المرافق شركة، حتى إدارة الفنادق، وتسيير الترام وبناء المنازل. لقد أعلنتم المعركة، بإجلائكم هذه البنت عن أرض مصر، وعقد لكم اللواء، ورفع العلم فامشوا تحته أدباء واقتصاديين وعلماء، فإن الميدان يتسع لكم جميعاً، ويحتاج إليكم جميعاً، واعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت المصري فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجراً لأجنبي، ولا عقاراً يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات مصر لأبناء مصر!. هذا هو الاستقلال، فعلى كل مصري أن يعمل له ما يستطيع!. ... ¬

_ (¬1) ذلك في مصر وفي الشام معامل الشركة الخماسية والشمنتو والزجاج والسكر وأمثالها.

تاجر حرب

تاجر حرب نشرت سنة 1945 أكتب هذه الكلمة والمطر يهطل منذ ثلاث ليال، ما انقطع خيطه، ولا سكت صوته، أقبل بعد سنة مضت، شحت فيها السماء، وضنّت السحب، ففرح به الناس واستبشروا، وارتقبوا عاماً خيّراً مباركاً، يغاث فيه الناس، ويأتيهم بالفرج بعد الشدة؛ غير أن الخير إن زاد عن حده، كاد ينقلب إلى ضده، وكذلك المطر لما استمر صار الناس يسألون الله الجفاف، ويتمنون لو تطلع الشمس، والشمس ما تطلع، والمطر ما ينقطع. ووكفت السقوف، ونزّت الجدران، واسَّاقطت غرف، وسالت طرق الجبل أودية، فامتلأت بالحصى والحجارة، وغدت أباطح، ووقف (¬1) سيلها الدفّاعُ السيارات وحافلات الترام، واختبأ الناس في البيوت، وما تكاد البيوت تمنع برداً ولا بللاً، ونال حي المهاجرين (على سفح جبل قاسيون) ما لم ينل مثلهُ حياً في دمشق، وحي المهاجرين نصفه قصور من الصخر شامخات، ذات طبقات كُثْر وشرفات، ونصفه دور لمساكين، هي أكواخ من اللبن والطين، وما في بلدنا مكان يلتقي فيه الفقر المدقع المتجمل الصابر، والغنى السفيه الوقح المبذر، كما يلتقيان وجهاً لوجه في المهاجرين. أما بيوت الأغنياء فما أحسّت المطر ولا درت به، ونام من فيها على فخم الأسِرَّة ووثير الفراش، لايعنيهم من خبر السماء وخبر الأرض إلا أن تشبع بطونهم، وتمتلئ صناديقهم ويسلم لهم أولادهم وأهلوهم، وأما أكواخ الفقراء، فقد صبرت على المطر صبر الكريم، واحتملت ليلة وليلتين، فلما جاوز الحمل الطاقة، خرت في المعركة كما يخر البطل الشهيد، وخرج ¬

_ (¬1) «وقف» يتعدى بنفسه ولم يسمع عن العرب «أوقف».

من بقي من ساكنيها فراراً منها حين لم تعد دوراً وإنما صارت بركاً ومستنقعات. سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها ... وحيطان داري ركّع وسجود وسمعت في الليل رجّة، اهتزت لها الدور، ورجفت منها القلوب، فقمت أستقرئ الخبر، فإذا دار جيراننا قد هوت. ومضت ساعة، وأهل الحمية من الناس يعملون في الوحل والمطر والبرد، ليواسوا أسرة نزل بها القضاء، وينقذوا ما يستطيعون إنقاذه، من فرشها، ومواعينها، وذلك القصر ينظر إلينا ثم يعرض عنا، قد شغلته حفلة أقامها تلك الليلة لا أدري فيم أقامها، ولا تزال أنواره ساطعة في عيوننا، ونساؤه الكاشفات يتراءين لنا من وراء الزجاج في الحرير والذهب، وأصوات الغناء والمرح في آذاننا، يهزأ بالفقر وأهله، وتضحك وقحة في مآتمهم، وترقص فاجرة في مقابرهم، والسيارات تقف في بابه تنزل منها طاقات الزهر، وثمن كل طاقة يحيي الأسرة من هذه الأسر أياماً، والهدايا التي تذهب بالمال ولا تأتي بالنفع لوحات مصورة، وكؤوس منقوشة مذهبة، وتماثيل للناس وللبهائم، ولو وزعت أثمانها على فقراء الحي لم تدع فيه فقراء، والفضيلة قد توارت خجلاً في زاوية الطريق، وإبليس واقف يضحك مسروراً بأن سلب نفراً من أمة محمد فضائل دينها، ومروءتها، وأنْ ثأَر من آدم فجرد بعض بنيه من بشريتهم، وأحالهم شياطين في أجسام بشر، أو ذئاباً قد استخفت في الثياب، ولم أقل كلاباً لئلا أشتم الكلاب!. ونعجب بعد هذا من إبراهيم بن أدهم لما أخرجوه ليستسقي لهم، وقالوا له قد استبطأنا المطر، فادع الله لنا، فقال: تستبطئون المطر؟ أنا والله أستبطئ الحجارة. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. ***

وما هذا القصر لملك ولا أمير، ولكنه لتاجر من هؤلاء التجار الذين يحيون في أيام الحروب التي يموت فيها الناس، ويغنون حين يفتقرون، وينسون أن لهذا الكون إلهاً قادراً عادلاً جباراً، ما استقال ولا أحيل على المعاش، ولا يزال لهم بالمرصاد، وينسون أن الموت آت لامفر لهم منه، وأن قبل الموت المصائب والرزايا؛ الفقر والثكل والمرض؛ وأن بعد الموت الحساب، وبعد الحساب جهنم أو الجنة، أفبلغ بالتجار أن يعلنوا الحرب على الله؟. إننا نعيش بحمد الله في منجاة من القتال وأهواله، والحرب وبلاياها، وما لنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا هؤلاء المحتكرون أعداء الله وأعداء البشر الذين حبسوا أقواتنا وأخفوا أرزاقنا، وارتضوا لنا أن نجوع وأن نعرى ليكنزوا الذهب والفضة ويطيفوا بها إضافة الوثني بصنمه، وليريقوا فيض ما لهم على أرجل بنات إبليس: (الأرتستات) الراقصات، وفي معابد الشهوة (المَلْهَيَات) ونوادي القمار، وفي كؤوس الحميم التي اسمها الشمبانيا والويسكي يحارون ماذا يشترون بمالهم من اللذاذات المحرمة، وفي أي يطرح من مطارح التبذير يلقونه، والموظفون والعمال لا يكادون يجدون ثمن الغذاء والكساء إلا موظفاً خان أو عاملاً سرق، فما حال الأرملة المفردة واليتيم الضائع، والشيخ الذي لا سناد له من مال أو ولد، وعندنا في دمشق من الأرزاق والبضائع ما لو أخرج لكفانا الحاجة سنين أخرى، بل إن عندنا كما أكد لي من يوثق به، بضائع لا تزال مخازنها منذ الحرب الماضية، والناس يحتاجون إليها والتجار يخفونها يرتقبون بها يوماً أشد، وضائقة أحكم، لا يدرون أن كل من أخفى بضاعة أو حبسها ينتظر بها ارتفاع الأسعار، وحرمها من هو في حاجة إليها فهو محتكر قَلَّ ما حبسه أو كثر، وهو عدو مؤذ، ولص سارق، وليس بتاجر، لأن التجارة كما يفهمها عقلي القاصر إنما تكون بنقل البضاعة من بلد تكثر فيه إلى بلد هي فيه قليلة، أو بجمعها في موسمها لبيعها في غير موسمها أو بشرائها جملة وبيعها تفاريق، ويأخذ التاجر الربح المعقول على ما بذل في ذلك من ماله ومن عمله، أما ما نراه اليوم من اجتماع النفر من التجار حول مائدة من الرخام في (قهوة الكمال) مثلاً، وفي أيديهم أقلامهم وفي أفواههم دخائنهم أو أنابيب نراجيلهم، يبيع أحدهم (بالة الخام) أو (كيس

السكر) عشرين مرة بأسعار مختلفة، ويشتريها، وما باع على التحقيق ولا اشترى، ولا قام من مكانه، ولا أخذ ولا أعطى. ثم ينفض الاجتماع ويلقي الستار على من ربح منهم عشرة آلاف ليرة، أو من خسر مثلها. أما هذا وأشباهه -وما أكد أشباهه- فما هو لعمر الحق إلا القمار بعينه وأنفه وذنبه. وإذا كان حقاً (¬1) ما اعتمده (رينان)، من أن الدولة تقوم على (الإرادة المشتركة)، لا على الأرض وحدها ولا اللغة منفردة، إلى آخر ما في «نظريته» المعروفة، فليس التجار منا ولا نحن من التجار، لأنهم يريدون غير ما نريد ولا إرادة مشتركة بيننا وبينهم، فنحن نرجو الرخص وهم يتمنون الغلاء، ونحن نحب أن تنتهي الحرب، وهم يحبون أن تدوم، ونحن نطلب من الحكومة أن تسعِّر وتراقب، وهم يطلبون لأنفسهم حرية إذاعتنا وتعريتنا، ونحن لا نجد مالاً نشتري به لوازمنا، وهم لا يجدون لذة جديدة يصرفون فيها أموالهم، فأي جامعة بيننا وبينهم؟. ... وإذا كانت الرسالة جردت قبل الحرب (¬2) قلمها البليغ، لنصرة أكرم مبدأ، مبدأ الإحسان، والدفاع عن الفقراء والمحتاجين، وإثارة الحمية في نفوس الأغنياء القادرين، ذلك والدنيا في رخاء والحياة سهلة، والسلام قائم، فأولى أن تستل هذا القلم العضب اليوم، حين اشتد الخطب، واتسعت بين الفريقين الشقة، وازداد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ونشأت هذه الطبقة المحدثة النعمة التي شبعت من المال ولا تزال في جوع إلى الرفاهية والبلهنية واللذائذ: طبقة «أغنياء الحرب». ... إن أهل القصر لا يزالون في لهوهم وقصفهم، وأهل الكوخ لا يزالون في كدهم وجدهم، والمطر دائب ما ينقطع، والبرد قارس ما يخف، والليل موحش مخيف، فمن لهؤلاء المساكين، إن لم تجرد لنصرتهم الأقلام من أغمادها وتشرع ¬

_ (¬1) وليس حقاً كله. (¬2) في النصف الأول من سنة 1939.

حتى تصدّع على هؤلاء الأغنياء حجارة القصر الذي اعتصموا فيه، ليروا ما بالناس ويسمعوا ما خَطْب المساكين، من إخوانهم في الوطن واللغة والدين. إنهم في سكرة الذهب، فاصرخوا فيهم حتى يصحوا منها، قبل أن يذهب السكر ويأتي «الأمر»، فيروا أن أمر الله إذا جاء لا يرد. أفهموهم -وكيف السبيل إلى إفهامهم- إننا رأينا رأي العين، ما قرأنا في الكتب، ولا سمعنا من الناس، من غني في الحرب الماضية أكثر مما غنوا، وبذر أضعاف ما بذروا، ثم ذهب المال والأهل، وغدا يسأل الناس على أبواب المساجد ولولا أنه يحرم التصريح بعد التلميح، لصرحت بأسماء أقوام عرفناهم، وإن جهلهم من قصرت سنه عن أسناننا. ... على أنني ما أعمم القول، ولا أطلقه إطلاقاً، وإن في الموسرين لمحسنين، وفي التجار لمنصفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شر، ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومن المستحقين من لا يعرف المحسنين، ومنهم من يعرف ولا يسأل، أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وإن من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن ننشئ جمعيات موثوقاً برجالها، بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حي كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج، تتخذ من الأول وتعطي «بعد التحقّيق من حاجته» الثاني، ومن عرفت أنه اتخذ السؤال حرفة -على مقدرة منه على العمل، أو على مال له قد خبأه، فعلَ أكثر هؤلاء المكدين -رفعت أمره إلى الحكومة لتعاقبه عقاب المتشردين، ويا ليت هذه الجمعيات الإسلامية الكثيرة في مصر والشام والعراق: الإخوان والشبان والهداية والتمدن وأمثالها، تجعل ذلك المطلب من بعض مطالبها. ثم إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوباً يهون به العطاء على المعطي، وتجزل به المنفعة للآخذ. ولقد وجدت أنا واحداً من مائة أسلوب تخطر على البال، حين كنت «من نحو ثلاث سنوات» قاضياً في القلمون، وضاقت الأقوات وقلَّ الخبز، فدعوت إلى ما سميته «مشروع الرغيف»، وأعانني عليه القائم بأمر المنطقة يومئذ ففرضنا على أهل كل بيت من

القادرين رغيفاً واحداً في اليوم ووكّلنا من يجمعه، ووزعنا ما جمعناه على المحتاجين، وتركنا من هم بين ذلك فلم نأخذ منهم ولم نعطهم، وهذا الرغيف الذي لا يصعب إعطاؤه على أحد، ولا تشعر به الأسرة أحيا الله به أهل القلمون -وهم أكثر من سبعين ألفاً- في سنة القحط والضيق، وما ذكرت ذلك لأفخر به، ولا لأنه الأسلوب البديع الذي لا نظير له، بل لأمثِّل به على ما أريد، والعبرة بالأعمال لا بالأقوال. نسأل الله أن يوفقنا حتى نعمل، ويرزقنا الإخلاص في عملنا حتى يقبل، وألا يجعل هذه المقالة كالصرخة في البيداء. ***

إنذار

إنذار نشرت في مصر سنة 1947 ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ نهاد القاسم (¬1)، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) بأجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده (¬2) فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فينجو ونلقى نحن حتفنا، فكففنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان أقل الإحسان، حتى دنا الحديث من أجرته، فسألناه: - كم تأخذ؟. - قال: أربعين قرشاً. - قلنا: في اليوم؟. - فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!. - قلنا: أوليس لك أسرة؟. - قال: أمّ أعولها. - قلنا: أو تكفيك؟. - قال: تكفيني؟! أبداً. ¬

_ (¬1) وزير العدل اليوم. (¬2) أي نساعده.

- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟. - قال: يضربني عمي (¬1) أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة. - قلنا: وكم يحصل هو؟. - قال: هُوْ هُوْ ... كثير ... كثير ... عنده عشرة زوارق تمشي النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً. وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفرّاش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والإمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع هؤلاء؟ هل فكر فيهم أحد ممن ولاهّم الله أمر هذه الأمة، وائتمنهم على مالها، وجعل إليهم المنح والمنع، والرفع والوضع؟. هل ساءل واحدهم نفسه وهو يتخير أطايب الطعام من فوق مائدته ماذا يأكل هؤلاء المفلسون؟. هل فكر وهو ينتقي بَهيَّ الحلل من خزانة ثيابه ماذا يلبسون؟. هل خطر على باله وهو يفسد أخلاق أولاده بالترف، ويتلف صحتهم بالسرف، أن لهؤلاء بنين وبنات لا تكفي رواتبهم لسد جوعهم بالخبز القفار، وستر عوراتهم بالخام (¬2)؟ رواتبهم لا تكفي للطعام والثياب فكيف إذا ولدت المرأة وجاءت نفقات الولادة؟ فكيف إذا مرض الصبي وأقبلت مصروفات العيادة؟ فكيف إذا خطبت البنت وكانت تكاليف الزواج؟ فكيف إذا دخل الأولاد المدرسة وطالبتهم بثمن العلم؟ فكيف إذا اشتهوا أن يتشبهوا بأبناء الناس يوماً، فأرادوا أن يأكلوا الحلوى الحلال أو يطلبوا الملهى المباح؟ أم قد حرمت هذه المتع على الفقراء، وكتب عليهم أن تكون حظوظهم من دنياهم كحظوظ البهائم: ¬

_ (¬1) يريد بقوله «عمي» معلمي وسيدي ولا يقول الخادم لسيده في الحجاز والعراق إلا «عمي». (¬2) الخام أرخص أنواع القماش في الشام.

ملء المعدة بأرخص الطعام، وستر الجسم بأيسر الثياب، والاستكنان بشر المساكن؟ وأن تكون معيشتهم أقل من معيشة كلاب الأغنياء؟. قرأت العدد 673 من مجلة الإثنين أن (روى) كلب الوجيه الأمثل، فلان بك، يفطر كل يوم بكيلو من الحليب ورغيفين من خبز (الفينو) و (باكيت) من (الشكلاطة) ثمنه بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشاً ويتغذى برطل ونصف رطل من اللحم المسلوق مع طبق مترع بالثريد، وأن له طبيباً خاصاً؟ وخادماً أجرته عشرة جنيهات في الشهر عمله أن يصحبه في سيارته الخاصة به؟ في نزهتيه اليوميتين وأشياء أخرى من هذه البابة، يمتع بها هذا الوجيه الأمثل، كلبه المدلل، لا يصل إلى مثلها واحد في كل عشرة آلاف ممن يقطن هذا الوادي من بني آدم؛ فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول اشتغالي بها، كلمة تليق بهذا السفيه المبذر الكافر بالنعمة وبالإنسانية وبالوطن، لأقولها له؛ ولم أدرِ كيف أخاطب هذا المجتمع الذي بلغ الفساد فيه، والانتكاس في أوضاعه إن صارت الكلاب تأكل (العيش الفينو) وكثير من الناس يتمنون الخبز الأسود؛ وتركب السيارات وهم يمشون حفاة؛ وتنام على الحرير وهم يهجعون على التراب؛ ويقوم عليها طبيب خاص وهم غرقى في الأمراض؛ لا يجدون الطبيب. هذه حال لا يرضى بها الله، ولا العقل، ولا الشرف، وأنا أخاف والله أن تفتح علينا باباً من الشر لا يسد وتأتينا إن لم ننتبه لعلاجها بالداهية الدهياء، بالشيوعية المدمرة، التي تأكل أخضرنا ويابسنا، وتمحق غنينا وفقيرنا، فتكون لنا الراحة التي لا ألم بعدها: راحة الموت. هذه حال لا يمكن أن يحتملها بشر، فإن كان من بيدهم الأمر لا يمشون في الطرقات، ولا يخاطبون الناس، ولا يعرفون من الدنيا إلا القصر والسيارة والملاهي والرحلات، فليسألوا: ما بال الفقراء؟ ماذا يصنعون؟ وما شأن صغار العمال والموظفين وكيف يعيشون؟ وليعلموا أن عمر بن الخطاب كان يخاف أن تضيع شاة على شاطئ الفرات فيحاسبه الله عليها، أفلا يخافون أن يسألهم الله عن أمة بقضها وقضيضها ستضيع على شاطئ النيل؛ سيقتلها الجوع في

أخصب أرض، والمرض تحت أصفى سماء، والجهل في أول دار للعلم والحضارة؟. لقد كانت مصر طبقات يستعبد بعضها بعضاً، فسوى بينها عمرو بن العاص باسم الإسلام وقطع هذا النظام الذي وصلته يد الدهر من عهد الفراعنة الأولين، إلى عهد الاسكندر، إلى أيام البطالسة والرومانيين، وأفاض على الناس الهدى والعدل والنور، فأحبوا لفعله هذا الدين ودخلوا فيه وتركوا له ديناً كان لهم، وأقبلوا عليه علماً وعملاً، حتى كانت مصر مثابة الإسلام، ومشرق أنواره، ومورد علومه أفقدر عليها أن تعود القهقري إلى عهد الجاهلية الأولى؟ أترجع نظامَ الطبقات الذىِ مات؟ أيكون فيها سادة وعبيد؟ ويعلو بعض أهلها على بعض كأنما لم يفتح مصر عمرو، ولم يركز فيها راية محمد، ولم تكن مصر أم دنيا الإسلام؟. أنا لا أدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس فذلك ما لا يكون ولا يزال في الناس غني وفقير ما دام فيهم عامل وخامل، وذكي وبليد، لن يكونوا أبداً سواء في أرزاقهم ومعايشهم إلا إذا استوى الجنسان وتحقق حلم المدافعين عن (حقوق) المرأة فانقلبت رجلاً، ونبت لها شاربان و ... لحية!. ولكن أدعو إلى تقريب المسافة بين طبقات الناس، عاليها ودانيها، وأن تضمن الحكومة لكل إنسان حقه الطبيعي في الطعام واللباس والمسكن، وألا تقر في موازنتها راتباً لموظف مهما نزلت درجته، لا يكفل هذا الحق له ولأسرته، ولو كان كناس الطريق، أو ناطور المراحيض، وأن تسوي بين الناس (المساواة الممكنة) إليَ حققها الإسلام في أول الدهر في عهد الشيخين، والشيوعية في ذَنَب الزمان في أيام ستالين، وإن اختلف نوعهما، فكانت تلك مساواة في السعادة، وهذه المساواة في الشقاء!. لقد نشأتُ في الشام، وسِحْتُ في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر أبداً مثل الذي رأيت في مصر!. فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من

الناس واحداً يملك مليوناً ومليوناً لا يملكون الواحد؟ وألفاً يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملاً؟ وإنساناً يظن نفسه من الغنى والكبر إلهاً، وأناسيَّ تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟. متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟. يا ناس. راقبوا الله، فإن هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم ولا يقرهم عليه، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه، فاتقوا إخذة الله. يا ناس. اعقلوا، فإن هذا باب الشيوعية فإن لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم. يا ناس. ارحموا، فإن هؤلاء ناس مثلكم، لا تحسبوهم بهائم لئلا يصنعوا فيكم صنيع البهائم، فيثوروا عليكم رفساً ونطحاً وعضاً ولدغاً، فلا تملكوا دفعهم، ولا النجاة منهم. لا، لا تحقروهم، فإن الدجاجة إذا هبت تحمي فراخها استماتت فانقلبت صقراً، والقطة إذا ضويقت وغضبت صارت نمراً، والماء إذا اندفع كان سيلاً مدمراً، والهواء إذا انفجر كان إعصاراً مخرباً، ولولا الضغط ما ثقب المسمار الخشب، ولا أطلق المدفع القنبلة، ولا زلزلت الأرض، ولا انفتحت البراكين، ولا ثارت الشعوب. فارحموهم ترحموا أنفسكم! واعدلوا فيهم تدفعوا عنكم يوماً أسود لا تعلمون إذا حلَّ (¬1) عَمَّ ينجلي سواده! وقوا مصر إن كنتم تحبون مصر، جائحة مهلكة وداهية مكفهرة، أولها الشيوعية وآخرها ما لا يعلمه إلا الله! وهذا إنذار! ... ¬

_ (¬1) وقد حلَّ بعد هذه المقالة ببضع سنين جاءها به جمال عبدالناصر.

إلى القرية يا شباب

إلى القرية يا شباب نشرت في بغداد سنة 1937 أنا أجلس كل عشية على سطح منزلنا في (الأعظمية) أشرف على الحقول التي تمتد إلى غير ما حدّ، أرقب الشمس وهي ترجع إلى خدرها، والفلاحين وهم يؤوبون إلى منازلهم في خط طويل متسلسل كأنه نهر جار، نهر يجري منذ عصور مديدة لا يقف ولا ينقطع ولا يبلغ مصبَّه، يسوقون دوابهم التي أنهكها العمل، وأضناها الكد، كما أضنى أصحابها الشغل المتواصل في الحقول، الشغل السرمديّ الذي يبدأ مع الفلاح حين تبدأ حياته، ولا ينتهي حتى تنتهي، يشتغلون وهم أطفال، ويشتغلون وهم شباب، ويشتغلون وهم شيوخ، لا يستريحون ولا ينالون على تعبهم إلا لقمة من خبز الشعير. فيا لروعة الواقع! هؤلاء الذين يشتغلون هم ونساؤهم وأطفالهم ودوابهم ليقدموا للناس القمح لا يأكلون خبز القمح! هؤلاء الذين يرفعون عماد الدولة لا تدري بهم الدولة، ولا تهتم بهم! هؤلاء الذين يملؤون بالذهب صناديق السادة الكسالى يحتقرهم السادة، ولا يدعون في جيوبهم قرشاً يشترون به ثوباً نظيفاً لطفلهم الذي يتبع طفل السيد، كأنه الكلب الجائع يسأله قطعة من (العيش) الأبيض الذي يزرعه أبوه هو، فلا يعطيه إلا الحجر الذي يرجمه به، إنه يستنكف عن أن يمسه بيده الناعمة الرَّخْصة البنان. كنت أرى ذلك فيذهب بي الفكر إلى عشرات من المشاهد رأيتها في قرى الشام وفيما زرت من قرى مصر. يذهب بي الفكر إلى حوران يوم زرت رفيقاً لي كان معلماً في إحدى

قراها، فرأيته يسكن عند الفلاح في داره المبنيَّة من الأحجار السود المكدسات، بعضها فوق بعض، لا يمسكها أسمنت ولا طين، ولا يدري الساكن تحتها متى تهبط عليه فترديه قتيلاً. وفي هذه الدار غرف متعددات، في الأولى البقر، وفي الثانية الحمير، وفي الثالثة الخرفان، وفي الرابعة الفلاح وأسرته، يعيشون كما تعيش تلك البهائم. ولقد أمسكت بأنفي لما دخلت الغرفة ... لأن الرائحة كادت تقتلني: رائحة الدواب التي تأتي من هناك، ورائحة (الجلّة (¬1) ...) التي يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلاً على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إليَّ الخبز الذي أعيش به، والمال الذي آخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم. إن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب ... ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني أعفي القارئ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي ... أخشى أن يصيبه الغثيان!. ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في الحصاد، يوم حق لهذا الفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجدّ يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقي عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة ... ¬

_ (¬1) روث البقر الجاف.

يا للقانون! يا لحق الخزينة ... يا أيها الجابي شدّ ركابك! يا أيها الجندي أعدّ سوطك وسلاحك! يا أيها الناس أقيموا القيامة على هذا اللص الذي أكل أموال الدولة ... حلّ البلاء بساحة الفلاح المسكين، ونزل عليه جنود الدرك يقيمون حتى يؤدي المال، يتشهون عليه المآكل، ولا يرضون بغير الدجاج والخرفان، وهم في بيوتهم لا يأكلون إلا الزيتون والجبن، ويأخذون شعيره ليطعموه دوابهم ويضربون وجهه وظهره ... إنهم يطلبون بقية الضريبة ... ولكن لم يبق عنده شيء. إذن فلتبع أمتعته. ولم يجدوا عنده إلا الفراش القذر، واللحاف الخلق، والبساط المخرق، والقدر الأسود، فباعوها بالمزاد العلني وتركوه على الأرض. ولما رجع الجباة كلهم إلى العاصمة؛ وجمعوا ما ملأ الخزانة تبسم ولي الأمر، وقال لأعوانه: - لقد اجتمع مال يكفي السنة كلها، وإننا لا نستطيع أن نرد هاتيك الوسائط كلها والشفاعات، فأعدوا مرسوماً بإعفاء فلان بك من الضرائب المتراكمة عليه من سبع سنين، وهي تسعة وعشرون ألف ليرة وسبعة وخمسون قرشاً. أعفوه، ولكن تسعة عشر ألف فلاخ صاروا ينامون على الأرض، لم يبق لهم فراش! ... كنت أذكر ذلك وأنا أنظر إلى خط الفلاحين الذين يعودون إلى دورهم، وقد غاب أوله خلال الظلام، فأفكر في هؤلاء الفلاحين إلى متى يمشون؟ أما لممشاهم نهاية؟ أما لطريقهم آخر؟ أكتب عليهم أن يشاركوا البقر والحمير في عملهم وطعامهم وسكناهم؟ أكان لزاماً عليهم أن يعملوا أبداً ليستريح الـ (بك) أو (الباشا)؟ ويجوعوا ليأكل؟ ويفنوا جسومهم ونفوسهم ليأخذ هو الذهب فينفقه على موائد الخمور؟

أيبقى هؤلاء الناس جاهلين، يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم والسلام عليهم، وإذا بعثوه ليكونوا معلماً لهم، أو موظفاً فيهم، أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها؟ إن الفلاحين في بلاد العرب، هم جمهرة السكان، هم حياة البلاد، هم الشعب فإلى متى يبقون محرومين من العلم والصحة والنظافة والإنصاف والمدنية؟ فكروا في هذا أيها الشباب. يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها. يا أيها الشباب الذين يحبون بلادهم، ويريدون صلاحها. إن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً صالحاً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً، إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب، وذكائهم، ومعرفتهم ونشاطهم، لا أريد أن يترك الطلاب مدارسهم ليزرعوا الأرض، ويعيشوا في الحقل، ولكن أريد أن يفكروا بمثل (مشروع إنعاش القرى) الذي قام به في صيف سنة 1933 نفر من طلاب الكلية الأميركية في بيروت، فانتخبوا من المتطوعين للعمل في القرية فريقاً بحثوا أسبوعاً في (مؤتمر) عقدوه، ودرسوا أحوال القرية اللبنانية، وعرفوا داءها، وفتشوا عن دوائها، وكان يعاونهم بعض الأساتذة والخبراء الفنيين، ثم ألفوا أربع بعثات وأرسلوها إلى القرى، فدرست الحال عن كثب، ورأت أن العمل في قرية واحدة يقيمون فيها الصيف كله أسهل وأنفع، وأنه يجب على أعضاء البعثة أن يحملوا خياماً يبيتون فيها، وطعاماً لهم وشراباً، ليخففوا عن الفلاح ولا يرزؤوه شيئاً، وليروه لوناً من الحياة جديداً ويحببوه إليه، وكان من أهم أغراض أصحاب ذلك المشروع: 1 - الصحة، فيكون في البعثة الصحية قسم للدرس والإحصاء والتعليم، وقسم للتطبيب.

2 - النظافة، بتعليم الناس ومحاضرتهم، وبالعمل على إصلاح مجاري الماء الطيب والخبيث وتنظيف الطرق وتجفيف البرك. 3 - الزراعة، بإرشاد الفلاح إلى طرقها الجديدة، وآلاتها الحديثة، وأصول مكافحة الحشرات والأمراض. 4 - تعليم الأميين من الفلاحين، والعمل على إنشاء المدارس لأولادهم (¬1). ... إننا اليوم على أبواب العطلة الصيفية، وسيبقى أكد الطلاب في المدن، يرتادون القهوات، ويؤمون السينمات، ولا ينفعون خلالها ولا ينتفعون. فهل يعمل فريق من الطلاب في كل بلد على (إنعاش القرى) على نحو ما ذكرنا، فيكون لهم من ذلك صحة في أجسامهم، وقوة في نفوسهم، وخبرة ببلادهم، وخدمة لإخوانهم، ومأثرة باقية عند الناس وعند الله، ونجاة من ملل الصيف وحرّة، ويكون لهم من هذه الإقامة في القرية تحت الخيام، وهذا التعاون مع إخوانهم على هذا العمل الصالح سعادة تمر الأيام ويذهب الشباب، ولا تمحي من النفس ذكراها، ويكون ذلك هو الدواء الشافي لهذا الداء المثلث الذي استعصى على الأساة، داء الفقر والجهل والضعف؟ وهل يعمل هؤلاء الشباب على إنشاء (أدب القرية)؟ ذلك بأن يدعوا الكتاب والشعراء إلى وصف حياة القرية، وأن يكتبوا فيها القصص، والمباحث ويختلطوا بالفلاحين، ويترجموا لنا آمالهم وآلامهم. وهذا اللون من ألوان الأدب موجود في كل الألسنة واللغات إلا اللسان العربي، فإنه قليل فيه أو هو نادر، وعلة ذلك احتقارنا الفلاح، وإهمالنا شأنه، ونسياننا أن الفلاحين ناس مثلنا، يبذلون في سبيلنا كل شيء دون أن تصل إليهم مكافأة، أو ينالوا ربحاً، أو يسمعوا شكراً؛ بل إنهم ليتمنون أن ينظر إليهم الـ (بك) كما ينظر إلى كلبه العزيز عليه، الأثير لديه. فيا لهؤلاء المساكين! ¬

_ (¬1) من أقوال الصحف يومئذ.

إن المروءة والشرف والواجب الوطني، والدين والإنسانية، وكل مبدأ مقدس يدعوكم إلى مساعدة الفلاح، يا أيها الشباب. فيا أيها الشباب: إلى القرية ... إلى القرية! ... لا. لست شيوعياً، ولا اشتراكياً، ولكني إنسان، وإني مسلم! ***

في منظار الخفيف

في منظار الخفيف نشرت في مصر سنة 1947 لم يعلم أحد لِمَ لَمْ يكتب الصديق النبيل الأستاذ محمود الخفيف في العدد الماضي من «الرسالة»، ولم يعلم هو من الأمر إلا أنه فقد منظاره فجأة، ثم وجده كما فقده فجأة، لم يدر أين ذهب ولا كيف أتى، ولم يعرف سرّ المسألة إلا أنا، لأني سرقت «المنظار» من جيبه لما زارني في «الرسالة» في الأسبوع الماضي، ورددته إلى جيبه لما مرّ بي أمس، وقد كان عرض عليّ أن يعيرنيه لما رأى رغبتي فيه، ولكني خشيت (وسوء الظن عصمة) أن يفسده أو يصنع به شيئا يمنعني من الاستمتاع به، كيلا أعود إلى طلبه منه، فآثرت أن آخذه على حين غفلة منه لأستعمله صحيحاً غير فاسد، ثم إن السرقة أخت الاغتصاب؛ وقد نص (الشاعر) على أن: من أطاق التماس شيء غلابا ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا والشعراء أئمة الأدب، ولا يستطيع «مقلد» مثلي مخالفة نصوص «الأئمة»؛ لذلك سرقت «المنظار»، ولكني لم أرَ به مثل تلك الصور الفنية الكاملة التي كان يراها الأستاذ محمود، وإنما رأيت ... إسمعوا ماذا رأيت. ... وضعت «المنظار» على عيني، وخرجت به من الدار، وكنت على موعد مع صديق أزور معه جامع محمد علي، وسرت أنظر إلى بعيد، فلم أخط خطوات حتى أحسست برجّة في جسدي، وألم في ركبتي وقدمي، وإذا أنا قد سقطت في حفرة لم أنتبه لها في هذا الطريق الملئ بالحفر عند جسر الملك الصالح. وأقبل المارة يخرجونني ويسألونني كيف وقعت؟!

قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقّق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلّق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء. وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون؛ وسرت حذراً؛ أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شرّاً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ خلاف (¬1)) يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها. ونظرت في «المنظار» فلم أرَ؛ إلا سوءات مكشوفة و «أوساخاً» ظاهرة، وبلايا من هذه البلايا؛ فكدت من غضبي أكسر هذا «المنظار» المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى كل جميل وعظيم؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر؛ فإذا الذي أراه حقيقةٌ كنت أمر بها فلا أتنبه إليها، لتعودي عليها، وتنبهت الآن لما ركبت على عيني «المنظار»، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري في آخر الروضة إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهة جميلة، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً؛ (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و «يقضون حاجاتهم» على طول «الشطّ» أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أوله، يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، يفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها أغراضهم، و «يقضوا حاجاتهم» ويجعلوها عشّاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشطَّ ¬

_ (¬1) صاحب كتاب «أؤمن بالإنسان».

من أقذاره الكناسُ، فلن يطهر البلد من أقذار هذه المدارس، إلا أن تكنسها الحكومة من أرض مصر وتلقيها وأهلها في البحر. وركبت الترام وأنا مغيظ مما رأيت محنق، فرأيت و «المنظار» على عيني ما سلاني وسرَّى عني، رأيت أمامي وجهاً حلواً، دقيق القسمات، نظيفاً لم تنزل ساحته الأصباغ، ولامسته يد التجميل، ولكن جمَّله ربه، وصبغه بصبغته ومن أحسن من الله صبغة؟ فيه عينان زرقاوان، وفم متجمع مستدير ناضج الشفتين، فوقه شعر أشقر، لا هو بالطويل المسترسل، ولا هو بالقصير المحلوق وسوالف ليست مقطوعة كسوالف الرجال، ولا مطلقة كسوالف النساء، على جسم قد غطته سراويل سابغة، ورداء له أكمام طويلة، تبرز منها يد بضَّة ملفوفة، ما تعرف أهي يد بنت مدلَّلة، أم يد غلام مترف، والعمر في نحو الخامسة عشرة، فجعلت أتساءل حائراً: هل هذا شاب أم فتاة؟ وحاولت أن أجد علامة دالَّة، أو أمارة ظاهرة، فعدمتُ العلامات، وخفيت عني الأمارات وطالت حيرتي حتى لقد هممت أن أمدّ يدي فأتلمَّس؛ ومنعني أن أفعل أني استحييت وخفت العواقب، وأن الشاب قام، أو أن الفتاة قامت، فنزل، أو نزلت، وكل راكب في الترام يتساءل مثل تساؤلي، ويحار مثل حيرتي! وركب مكانها (أو مكانه)، امرأة إفرنجية كأنها من لطافتها؛ (سيد قشطة) (¬1) تجر وراءها ثلاثة: (ولدين) كالخنزيرين السمينين، لا يعرف طولهما من عرضهما إلا بالقياس، (وعجيزة) مثل كيس التبن؟ ثم جلست بين الرجلين على طرف المقعد، وهي تلهث كأنها قاطرة حلوان؛ ثم اندفعت في المقعد فضغطت الرجلين، فأدخلت واحداً في الزاوية من هنا، وواحداً من هناك، وأقعدت الخنزيرين (أي الولدين) على الركبتين، وتنفست الصعداء بعد هذا الجهد، فكانت نفخة مفاجئة أطارت جريدة كانت في يد الراكب أمامها. ¬

_ (¬1) هو فرس البحر، بعامية مصر، وهو أغلظ حيوان في الدنيا. وكان في مصر رجل موسيقي خفيف الدم جداً، ثقيل الجسم جداً، فلما قدم فرس البحر شبهوه به لثقل جسمه وإن لم تكن خفة دمه، وسمّوه باسمه فصار لا يعرف إلا بهذا الاسم. أروي هذا الخبر عن الشيخ عبدالعزيز البشري وأسأل الله له الرحمة.

وأقبل الجابي (الكمساري) وهو رجل أسمر طويل، عبوس الوجه، متين البناء، له شاربان كساريتي مركب، فقال لها: - فلوس! فمدت إليه يدها بثمانية مليمات، كأنها تمدها إلى سائل، فقال لها: - هنا بريمو، خمسة عشر مليماً. فرفعت إليه هذه الكرة المفلطحة التي تسمى في جغرافية جسمها (رأساً)، وصعَّرت خدها، ومدت شفتها، حتى صار وجهها مثل القرعة اليابسة، وقالت: - أنا ما بْياطي، أنا مش آهِد كوشي. - خمسة عشر مليماً يا مدام. فغضبت، وصاحت: - انتي مِسْريينْ ما بِسِيرلَتِيف أبداً، بِيتَمْ متْوَهش!. فأسرعت أنزع «المنظار» لألعن أباها، ومن جاء بها إلى مصر، ولكني وجدت (الكمساري) قد سبقني إلى هذه المكرمة، ورأيته قد انقلبت عيناه في أمّ رأسه، واصفر وجهه حتى صار كقشرة الليمونة، وارتجفت شواربه، ولكنه تماسك وتثبت، وصفّر فوقف (¬1) الترامَ وقال لها: - لو كنت رجلاً لرأيت، ولكنك امرأة، ونحن لا نمد أيدينا إلى النساء فقومي انزلي. وأكبرت فعله، وقمت أهنئه وأصافحه، ولولا خشونة خدّه، وأنها لا تطيب قبلته، لوثبت عليه فقبلته، وتمنيت أن يكون كل مصريّ مثله، وحمدت للمنظار ما أرانيه، ولكن الفرصة لم تطل، فقد فتح الباب ودخل منه سائل (¬2) كأنه في جسمه وفي عينيه بشار بن برد، عليه ثياب لو أن للقذارة (جائزة) عالمية، ¬

_ (¬1) وقفه ولا يقال أوقفه. (¬2) ولا يخلو الترام في مصر لحظة من سائل.

لنال بها الجائزة، يغني بصوت تخاله -والعياذ بالله- صوت ثلاثة حمير تنهق معاً، على نغمة (الجازبند) نهيقاً مقلوباً، كأنه صواخ الجن في الأودية المسحورة، أو نواح المَرَدة في قعر الجحيم، أو هو شيء أفظع من ذلك كله: هو الغناء الإفرنجي! وهو ينشد شعراً لا تفهم له وزناً ولا قافية ولا معنى ولا تجد فيه طرباً ولا متعة ولا لذة، فكأنه شعر بشر فارس (¬1). فلما اقترب مني لم أجد أحسن من الفرار، فنزلت من الترام عند الشارع الذي كان اسمه أيام الاحتلال «شارع مستشفى اللادي كرومر»، وكنت أنا المصري الأصل، الدمشقي المولد والبلد، أتكلم وأقول ماذا يكون لهذه التسمية من ألم في نفوس المصريين أصلاً ومولداً وبلداً، وهي تذكرهم بأعدى عدو لهم، وتمنّ عليهم بمستشفى أنشأته زوجته ببعض ما سرقت من مال مصر، مع ما أصيبت به مصر على يد زوجها وقومه، من ذهاب الأنفس والأموال، ومن ضياع الحرية وهي أعز على الأبيِّ من النفس والمال، وأنا أوثر أن أموت في العراء (إن لم يكن إلا هذا المستشفى)، على أن أشفى فيه، لأن شفاء أجسامنا فيه، يمرض وطنيتنا، بمحبة هذه (اللادي) وذكرها بالخير، وعرفان الجميل لها. فلما تنبهت مصر، وذهبت تخطب أهل الأرض من فوق منبر مجلس الأمن، تعرفهم ظلم الإنكليز إياها، وعدوانهم عليها، رفع الشباب هذه اللوحة ووضعوا مكانها لوحة سمَّوه فيها «شارع دنشواي»، وأشهد لقد كانت تسمية عبقرية، وكان ردّاً بارعاً، وكان جواباً لا يصدر إلا عن إلهام. ووجهت «المنظار» إلى هذه اللوحة الجديدة، أمتع بها روحي، وأنعش نفسي، فلم أجدها، ووجدت اللوحة القديمة قد جددت، فمسحت «المنظار» ونظرت فلم أر غيرها، فرفعته عن عيني ونظرت، فإذا أنا أجد اللوحة القديمة قد جددت حقاً. ¬

_ (¬1) لو أني كتبت هذه المقالة الآن لا قبل أربعين سنة، لقلت: إنه مثل شعر (الحداثة) الذي يشبه (الحدث) الأكبر ولكن لا يطهره شيء، ولا الغسل سبعاً إحداهن بتراب المقبرة الذي يتمنون أن يدفنوا فيها (الشعر).

لماذا؟ هل عادت أيام الاحتلال؟!. ورفعت «المنظار» عن عيني لئلا أسقط في حفرة، أو أصدم أحداً، حتى دخلنا المسجد، فقلت أضعه لحظة، علِّي أرى في المسجد ما يسر ويفرح بعد تلك المحزنات، وكانت الصلاة قد اقتربت، والمسجد لبعده، ولازدحام المساجد من حوله، كأنه خالٍ فما فيه إلا أربعة صفوف، ونظرت فرأيت ثلاث فتيات سوافر كسائر نساء مصر، شعرهن يموج على أكتافهن، وأذرعهن بارزات كلها من الكم الياباني (الجابونيز) الذي يبدي ما تحت الإبط لكل ذي عينين، والسيقان مكشوفات للجوارب تصعد لسترها، ولا ثوب ينزل لتغطيتها، ومعهن أمهن ترتدي هذه الملاءة ذات البرقع الذي لا يستر على الوجه إلا مداخل النفس من الأنف فقط، ويظهر الباقي كله؛ وأسرعت الأم وبناتها إلى حوض الماء يتوضآن، ويمددن أرجلهن لغسلها، فلا يبقى مستوراً إلا ... الذي لم يكشف (¬1) ... ثم يقفن هكذا للصلاة ... وفي المسجد مشايخ، رأوهن فلم يكلمهن أحد منهم، والخطيب رآهن فلم يعرض لهن، فنزعت «المنظار» وأغمضت عينيَّ، وحاولت أن أنساهن وأتوجه إلى الصلاة، فلم أستطع، لأن صورتهن لا تزال (أقول الحق) أمام عيني، فإذا كن يلحقننا حتى إلى المسجد فكيف نفرُّ يا قوم منهن؟ وكيف يصنع الشاب العزَب ليتقي إغراءهنّ؟. ألم يخطر على بال أحد من العلماء والآباء، هذا السؤال؟!. ورجعنا و «المنظار» على عيني، ولكنه أخذ يكذب ويشوِّه الحقائق، فيريني خياماً من القماش في أول شارع الخديوي إسماعيل، وعليها لوحة تقول: إن هذه الخيام (إدارة تنظيم عمارة المدن). فأقول: ينظمون عمارة المدن، ولا يستطيعون عمارة حجرتين من اللبن والخشب؟ هذا لا يمكن؛ وأهمُّ بطرح المنظار، ثم أذكر أن هذا ممكن جداً في الشرق!. ¬

_ (¬1) أقسم أني رأيت ذلك بعيني لم أتخيله تخيلاً!.

أليس يأمر الناس بالتقوى من ليس تقياً، ويدرِّس البلاغة من ليس بليغاً، ويقود الأمة من يحتاج إلى من يقوده، يعطي الأشياء فاقدها، ويولى الأمور غير أهلها؟!. وتابع «المنظار» الكذب، حتى إذا وصل إلى دار المفوضية السورية، وهي أفخم من زميلتيها الأمريكية والروسية! زاغ «المنظار» عن كل ما في الدار واستقر على «عقد الإيجار» فأراني فيه رقم (300) جنيه في الشهر، ثم ذهب بي إلى دمشق؛ فبصًرني بآلاف التلاميذ يزدحمون كل سنة على أبواب المدارس؛ ثم يرتدون عنها لأنها لا تتسع لهم، وليس عند الوزارة ما تستأجر به دوراً جديدة، لأن أجرة الدار (150) جنيهاً في السنة! ثم دار بي على المفوضيات السورية في آفاق الأرض ليريني ... ولكني أغمضت عيني فلم أنظر، لأن هذا كذب ظاهر، ونحن أعقل من أن نؤثر المظاهر على الجواهر، والتزاويق على الحقائق، والخارجية على المعارف وثوب العرس على العروس! ونحن أعقل من أن نشتري (كرافتة) بخمسة جنيهات، ونمشي بلا سراويل!. ... وصحت بالأستاذ محمود الخفيف، أن تعال خذ «منظارك» يا أستاذ محمود حسبي ما رأيت!. ***

دفاع عن الأدب

دفاع عن الأدب نشرت في سنة 1945 لقد كانت معركة (عين جالوت) أجل خطراً، وأعظم أثراً، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر العبقريّ الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبداً، أمة بعد أمة، وجيلاً عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحاً لم يفتح مثله (سيف الدولة) في بلاد الروم، وبنى لها في الأدب قلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة التي بناها سيف الدولة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازاً) أن خلدت هذه الموقعة، وجلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود. ولقد كان فتح عمورية عظيماً في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بِهم جهْله ولا نكرانُه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواؤه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الدواء. وربما جاء زمان نسي الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا القهر البشري الذي يجري أبداً من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد لا يذكرهم إنسان ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر. هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوو السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته

والاستفادة منه، والأحداث تدعوهم إلى ذلك ولكنهم لا يجيبون. وها هو ذا حادث العدوان (¬1)، أحبوا أن يدونوا تاريخه، ويعرضوا صوره، ويعرفوا به البعيد النائي، ويذكروا به القريب الرائي، فأجمعوا أمرهم على إخراج (الكتاب الأسود) في وصف هذا الحادث، وسموا له رجالاً، طيبين ممتازين، غير أنهم ليسوا من ذوي الأقلام، ولا من الأدباء، وإن في دمشق (لو كانوا يعلمون) أقلاماً حداداً، إذا اقتضتها الحكومة قطّت بها وقدّت وفَرَت، فإلام تدخر هذه الأقلام إن لم تستلَّ في هذا اليوم الأسود؟ ومن يعرض على الدنيا كلها حديث (الحادث) إذا أهملت هذه الأقلام، ونسيت وتركت تصدأ في أغمادها؟ سيعرضه صحفي بمقالة تعيش ما عاش (العدد) الذي تنتشر فيه، أم موظف بتقرير أسلوبه لعنة للبلاغة في عليائها؟. ثم استلمنا الجيش وعرضه رئيسنا فكان يوماً أغرّ محجلاً في عمر الشام، فمن يمسك هذا اليوم ألَّا يهوى في وادي النسيان؟ من يحفظ له جلاله وجماله وعظمته غير الأدباء؟ فما لأولي الأمر دعوا له كل قاص ودان إلا أهل الأدب الحق؟ أهل البلاغة، ما دعوهم ولا سألوا عن مكانهم ولا ذكروهم، ولو دعوا أديباً لصنع لهم بمقالة واحدة شيئاً يبقى إذا ذهب كل هذا الذي أعدوه. وفي كل يوم تنبت أقلام غضة فلا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية فتجف وتموت. وتحطم عواصف الأيام وأرزاؤها أقلاماً متينة كأشجار السنديان طالما أظلت وبسقت فلا يبكي عليها أحد. وتزهر أقلام ثم تؤتي أكلها ثمراً ناضجاً حلواً نافعاً فلا يستبشر بها أحد، ويقولون بعد ذلك: لماذا لا ينتج الأدباء؟ لماذا لا يخلدون أيام الوطن؟ يا ويحكم! إننا والله لا نعرف أيام الوطن إلا على السماع والفضل لنا إذا استطعنا أن نكتب عنها سطراً واحداً. لقد أردت أن أدخل القلعة غداة يوم الحادث، وأن أجول خلال الحرائق وألج البرلمان، فمنعني جنود لا يعرفونني ولا يفهمون عني بلساني، ولو تركت ألج ورأيت بعيني ما وصفته على السماع لكتبت لكم شيئاً يبكي ¬

_ (¬1) العدوان الفرنسي المعروف.

المحب ساعة الوصال، والعروس ليلة الزفاف، ويرقق قلب الموتور يوم الانتقام ولو أشهدت هذا العرض لكتبت لكم سطور مجد تكون للأعصاب ناراً تشعلها حماسة، وللقلوب خمراً تميلها طرباً، ولهذا الجيش جيشاً آخر. ولو أحضرت حفلة رفع العلم على الثكنة الحميدية لكتبت غير ما كان نشر في الرسالة (¬1)، لأن الذي يتخيل ويكتب بارد الدم هادئ الأعصاب، غير الذي تمشي الكهرباء في أعصابه فتهزها هزاً، فيمسك قلمه ويدع روحه تملي عليه. ولست -علم الله- أريد مالاً من أولي الأمر أو عطاء، ولا أبتغي من مجالستهم شرفاً، فعندي من المال ما يسد حاجتي، ومن الشرف ما يكفيني، وإنما آسف على قوة فيّ، وفي أمثالي من حملة الأقلام، تذهب هدراً، وتضمحل والوطن يحتاج إليها، وهي تستطيع أن تكسبه مجداً لا ينال بغيرها. ... فيا أيها الحاكمون! اذكروا أنكم تحتاجون إلى الأدباء ليكسبوكم الخلود وليفيضوا على أمجادكم الحياة، أما هم فلا يحتاجون إليكم، لأنهم يستطيعون أن يخلقوا بأدبهم ملوكاً وأبطالاً، وينشئوا عالماً، ويقيموا لأنفسهم وللناس دنيا، إن تكن من الوهم، فرب وهم أفعل في نفس صاحبه من الحقيقة، وأثبت من الواقع. ورب شخص (روائي) خرج من خيال أديب، أحيا حياة، وأظهر وجوداً من أشخاص اللحم والدم، أسمعتم بعطيل ودون جوان وآرباجون؟ والحارث بن همام وعيسى بن هشام؟. وبعد فهذا دفاع عن الأدب، لا عن الأدباء، فأقبلوه أو لاتقبلوه إنما علينا أن نقول، وقد قلنا. ... ¬

_ (¬1) بعنوان «دموع ودموع» العدد 634.

إلى علماء الأزهر

إلى علماء الأزهر نشرت في مصر سنة 1947 ما عرفنا من عرفنا من علماء الأزهر إلا ملوكاً، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبّت الأمة، وإذا دعا هبّ الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكراً أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذي حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899 لرغبة الإنكليز في إضعاف القضاء الشرعي، فتضع مشروعها المشهور، لتعديل اللائحة الشرعية، وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا، ويبلغ من ثقتها بقوتها، وتأييد مجلس الشورى لها أن لا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع، وتعرضه على المجلس، وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي (الذي جمعت له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية) فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع، وينسحب من المجلس ويتبعه القاضي التركي، فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع، فيردّه المجلس كله، وتحاول الحكومة إنفاذه على رغمه فلا تجد عضواً استئنافياً واحداً يقبل الانضمام إلى المحكمة العليا، عرضت ذلك على الشيخ محمد عبده وكان من أعضاء الاستئناف الأهلي وسعد زغلول وأحمد عفيفي ويوسف شوقي ويحيى إبراهيم. فأبوا جميعاً. وتمشي كل من الشيخ في الناس مشي النار في يابس الحطب، فتهبّ الأمة كلها وتؤيده حتى ترضى الحكومة بالهزيمة وتسترد مشروعها (¬1). ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يخافون غضبة ملك جبار: هذا ¬

_ (¬1) عن كتاب الصديق الأستاذ عمد فرج السنهوري.

حسين باشا الجزائري، يصل مصر فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطو على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعماً أنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعاً، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا وهم يرون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: «أنت أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان لإقامة العدل ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟»، فقال: «هؤلاء أرقاء لبيت المال». قال: «هذا لا يجوز ولم يقل به أحد» فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال: «اكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره» فقال له الشيخ محمود البنوفري: «اكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا» (¬1)، وكانت النصرة لهم عليه، فأحقوا الحق وأبطلوا الباطل، ووضع الله في قلبه هيبتهم، لأن من خاف الله خافه كل شيء. فكانوا بذلك (أجل من الملوك جلالة) (¬2)، وكانت إشارتهم للحكام أمراً، وطاعتهم عليهم فرضاً، حيث الشيخ محمد سليمان (¬3) أن أباه قدم لطلب العلم في الأزهر، أواخر أيام الشيخ إبراهيم البيجوري، فشكا إليه ظلم تلك الأيام، وما كان فيها من السخرة والمعونة فكتب له ورقة بمساحة إصبعين هذا نص ما كان فيها: «ولدنا مدير الدقهلية. رافعه من طلبة العلم يجب إكرامه، خادم العلم والفقراء. الخاتم (إبراهيم البيجوري)» فدفعها إلى المدير، فقبلها ووضعها على رأسه، ودفعت عنه هذه الورقة كل مظلمة، وأنالته كل مكرمة، ورفعت قدره عند المدير وعند الناس. وكان الشيخ الأزهري موقراً في الجامع وفي البيت وفي السوق، ومبجلاً عند الطلبة والعامة والحكام، وكان أقصى أمل الطالب أن يخدم الشيخ وأن ¬

_ (¬1) القصة في الجبرتي 3 - 201. (¬2) شوقي. (¬3) في كتابه الجليل «من أخلاق العلماء».

يحمل له نعله، وإذا سبَّه عدّ سبه إكراماً، وتحمله مسروراً، ورآه من أسباب الفتوح. وكان الطالب الأزهري المجاور، يذهب إلى بلده في العيد أو في الإجازة، فيقبل البلد كله عليه يقبل يده، ويتبرك به، ويشم فيه عبق الأزهر، ويكون المرجع لأهله في الجليل من شؤونهم والحقير، ويكون فقيههم والحاكم بينهم، لا مردَّ لحكمه ولا اعتراض عليه، لأنه يحكم بشرع الله، ويبين حكمه في فتواه. هذا ما عرفناه. فما الذي جرى حتى تبدلت الحال، ووقع حادث الشيخ أبي العيون؟ (¬1). ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب وأنزلهم من مكانتهم عند الحكام؟ أأقول؟ أنتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله! أنتم تنكبتم سبيل أسلافكم، فما الشيخ اليوم شيخ مسلِّك ولكنه موظف محاضر، وما التلميذ مريد طيّع ولكنه مشاكس مشاغب، وما يطلب علماً ولكن يبتغي شهادة. أنتم ثرتم على مشايخكم وعلمتم الناس الثورة عليهم. أنتم أيها الطلاب. أنتم مددتم أيديكم إلى مدرسيكم، فجرأتم هؤلاء أن يمدوا أيديهم إلى أبي العيون. أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية إلى الكلام على شيخ الأزهر. أنتم أيها الأزهريون جميعاً جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعاً لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغدا للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، وتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد صلاة خشوع وتبتل، أو للأكل فيه أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس ¬

_ (¬1) وهو حادث مشهور كان هو سبب كتابة هذا الفصل في الرسالة.

أو الخرنوب. هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض، للاستجمام والاستحمام، لا يأملون من العلم مالاً وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا. هذا المرصفي يحدّث عنه الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان في دار بالية في حي قديم وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب مرشوش على البلاط يدرأ عنه هجوم البق () لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذه الدار البالية من أن يشرح عليه الكامل. وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحداً من أبناء الدنيا، لأنهم لم يتذوقوا لذتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها. كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها. هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الأنبابي شيخ الأزهر، ويسلم عليه، فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده ويقعد إلى جنبه فيقول له مغضباً: «يا سيدنا الشيخ ألست تقوم للخديو؟»، قال: «نعم». قال: «فلم لم تقم لي؟»، قال: «إن الخديو ولي الأمر وأما أنت فلست منا». فيزيد ذلك اللورد إجلالاً له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته (¬1). وهذا هو رياض باشا وكان رئيس الحكومة وناظر المالية (¬2) يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرساً فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له: «يا باشا أما آن لكم أن تجعلوني معكم ناظراً؟». فيدهش الباشا ويقول: «ما هذا يا شيخ حسن؟»، فيقول: «ما تسمع يا باشا»، قال: «فأي نظارة تريد؟»، قال: «المالية»، قال: «لماذا؟»، قال: «لأستبيح أموالها!» (¬3) فذعر الباشا وخرج يرتجف، وقال لعلي مبارك باشا ناظر ¬

_ (¬1) من أخلاق العلماء. (¬2) أي وزير. (¬3) تعريضاً برياض باشا.

المعارف: «لا بد أن تخرج هذا الرجل من خدمة الحكومة» قال: «كيف؟ وماذا أصنع مع علماء الأرض، وهو عالم عالمي؟» (). كذلك كانوا. زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، وأعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهابهم الناس، فكيف حالكم اليوم يا إخواننا الأزهريين؟ ... يا إخواننا، إن هذا الأزهر المعمور، لبث خمسمائة سنة من عمره، وهو منار العلم المفرد في الدنيا لولاه لتاهت في ظلمات الجهل، وهو حارس الدين واللغة، فأدركوه لا ينطفئ المنار، ويهجع الحارس، وتترك الدنيا للظلام وللّصوص. يا إخواننا، ما عاش الأزهر ولا عزَّ بالعلم وحده، وما العلم بلا عمل؟ ولكن عزَّ بالتقوى وبالعمل وبالخلق المتين. لقد كانت لعلماء الأزهر أخلاق لا أقول ضاعت ولكن اختفت عن الناس تلك الأخلاق، كانوا يجلُّون مشايخهم فيجلهم الناس كلهم. هذا هو الشيخ الباجوري شيخ الجامع كان يجلس بعد المغرب في الصحن فيقبل عليه العلماء والطلبة يقبلون يده، وكان الشيخ مصطفى المبلط وهو أكبر منه، ناظره في طلب المشيخة ولم ينلها، يندس فيهم ويقبل يد الشيخ، فانتبه إليه مرة فأمسك به وبكى وقال: «حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا. لا»، فقال الشيخ مصطفى: «نعم. وأنا! لقد خصَّك الله بفضل وجب أن نقره. وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك» (¬1)، وكانوا يقدمون العلم على المنصب، ويعرفون لأهله حقهم. هذا هو الشيخ الشربيني شيخ الجامع الأزهر يدخل مع الطلبة على الشيخ الأشموني حتى يلثم يده. وكان الأشموني ربما قال له: «إزّيك يا عبدالرحمن؟» فيكون الشيخ كأنما حيّته من فرحته بذلك الملائكة (1)، ولم يكونوا يدعون للعدو ثغرة يدخل منها إليهم، ويجعلون خلافهم إذا اختلفوا، بينهم. هذا هو الشيخ الأمير كانت بينه وبين الشيخ القويسني جفوة بلغت الحاكم، وزاره الأمير فسأله عنها، وأوهمه أن القويسني أخبره بها وكان ¬

_ (¬1) من أخلاق العلماء.

يريد معرفة حقيقتها ليزيلها. فقال الشيخ الأمير: «ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا» وأثنى عليه ومدحه ونزل من عند الحاكم فمر به على ما كان بينهما وأنبأه بما كان، فقال القويسني: «صدقت في ظنك ما قلت للحاكم شيئاً» قال الشيخ الأمير: «هكذا أهل العلم يسوون أمورهم بينهم، أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التآلف إمساكاً على عروة الِإسلام، وحفظاً لكرامة العلم وزال بذلك ما كان بينهما" (¬1). ... فيا إخواننا الأزهريين، سألتكم بالغة، إرجعوا بالأزهر إلى سبيله التي درج عليها. أعيدوه سنته الأولى. أفيضوا عليه الدين والتقوى. والتقوى روح العلم، فإن فارقته كان جسماً بلا روح. أحيوا فيه أخلاق الأسلاف ليكن لكم تقاهم وزهدهم، فتكون لكم عزتهم ومكانتهم. يا إخواننا، لم نجد والله خيراً في الجامعة الأزهرية، فردوا علينا الجامع الأزهر (¬2)! ... ¬

_ (¬1) من أخلاق العلماء. (¬2) إقرأ مقالة (ماذا يراد بالأزهر) في آخر كتابي (فصول إسلامية).

الأمانة

الأمانة نشرت سنة 1946 جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آية يعرف بها بين الناس، ومن آياته أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. وهذه الثلاث (الصدق والوفاء والأمانة) أركان الحياة الخلقية الاجتماعية، وقد تضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله، وبيان خطر الأمانة وأنها عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها (¬1)، وهنّ كنّ أقوى عليها، وحملها على ضعفه الإنسان؛ وأن المسلم ربما ألمّ ببعض الذنوب ولكنه لا يكذب أبداً كما جاء في الحديث. ثم إنك مع ذلك كله تجد المنتسبين إلى الإسلام اليوم، من أرباب الصناعات وأهل السوق، أكذب لهجة، وأخلف وعداً، وأضيع لأمانة من كثير ممن ليسوا مسلمين، حتى صار المثل يضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه، وصار من يريد أن يؤكد وعداً يصفه بأنه (وعد أوروبي)! اللهم إن هذا لمن العجب العجاب!! ... إن الله بيّن خطر الأمانة، وأنزلها هذه المنزلة، وخوّف من حملها لأنها جماع الأخلاق، وسلْكة (¬2) عقد الفضائل، وعمادها، فما من شعبة من شعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلا إليها مردّها، وما خصلة من خصال الشر إلا والخيانة ¬

_ (¬1) تلك هي حرية الاختيار التي خصّ بها الإنس والجن دون سائر المخلوقات، وتفصيل هذا الإجمال في كتاب (فتاوى علي الطنطاوي)، نشرته (دار المنارة في جدة). (¬2) السلكة الخيط وجمعها سلك وأسلاك.

أساسها وحقيقتها، وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة حتى تؤديها إلى أصحابها (فقط)، فإن هذه صورة من صورها، وشكل من أشكالها، وإن السلطان في يد الموظف أمانة، فإن وضعه في غير وضعه، أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته، والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان، فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقيها أو منع واحدة من يستحقها أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضاً أو موجدة فقد خان أمانته، والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان، والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع، فإن قصَّر في تجويده أو أفسد فيه شيئاً ولو كان الفساد خفياً لا يظهر فقد خان، واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سبباً إلى جمع المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا، أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة أو الزلفى إلى الحاكم فهي خيانة، إلى غير ذلك من الصور والأشكال. بل إنك إذا دققت وتلطفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك، فإذا نظرت بعينيك إلى حرام أو حركت به لسانك أو خطوت إليه برجلك، أو مددت إليه يدك، فقد خنت أمانتك، بل إن عمرك كله أمانة لديك، فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضى (صاحب الأمانة)! فأين المسلمون اليوم من هذا؟ لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت (¬1) ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوفني الناس أن أعاملهم، حتى جعلني أحمل هماً كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور عليّ الجدار ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن مني أكلني بغير ملح وتعرَّق عظامي! ¬

_ (¬1) حكاية القطب والأوتاد لا أصل لها في نقل ولا عقل، ولم يرو في ذلك إلا حديث ضعيف في «الأبدال» لا يثبت بمثله حكم، وهي من بقايا الوثنية الأولى.

تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدنية لا يستغنى اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله، وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبق لك منجى أن تؤم الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين، وتسأله أن يضرب موعداً لا يخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر، ولكل واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يؤجل، فيعدك ويؤكد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك، فإذا زجرته أو أنبته أخذك باللين وراغ منك وحلف لك مائة يمين غموس أنه نسي أو مرض، أو أنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان (سوء تفاهم)، وأنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك معداً، وتعود ويعود إلى كذبه، حتى يمضي العيد أو الزفاف ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو (معتلاً) أو (مضاعفاً) أو (مجوفاً) ... أو على خلاف ما استصنعته عليه ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد، فتلبسه مكرهاً أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرَضة. وهذه الحال من إخلاء المواعيد، واختلاق الأكاذيب، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك. ولقد وقع لي أني كنت على جناح سفر إلى العراق، وقد أعددت له كل شيء، واتخذت له مكاناً في السيارة ولم يبق إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكواء (¬1) بحلتي الجديدة لكيّها حتى إذا نزلت بغداد لبستها صالحة، وبيَّنت له استعجالي ونفضت إليه قصة حالي، ونهيته أشد النهي عن غسلها، لأنه يفسدها ويؤخرني عن غايتي فما كان منه إلا أن غسلها، طمعاً بفضل أجرة ينالها، فأفسدها وجعلني أسافر وأدعها. وآخر من الكوائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الوحشية؛ فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن ¬

_ (¬1) أي المكوجي.

يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشم من مسافة فرسخ)، وقلت: شمّها أليس لك أنف؟ فشمها بمثل خرطوم فيل. وقال: ما بها شيء! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده: شموا بالله عليكم. فمدوا أنوفهم إليها وعيونهم إليه، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته؛ فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله! واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به وكان كهلاً مشقوق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فاجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات للتعذيب، ومقاعد للأذى، إن لم يشق ثوب القاعد عليها مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة. ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين. ... وكيف أصنع إذا كان هؤلاء (المسلمون) لا يوثق بهم، ولا يطمأن إليهم أأعامل الفرنسي والرومي والصهيوني وأقاطع بني ديني ووطني؟ أما إنه لخطب جسيم؛ فماذا تصنع المدارس ومعلموها والمساجد وواعظوها والصحف وكاتبوها، إذا لم يعلنوا على الخيانة حرباً لا هوادة فيها

ولا مسالمة حتى يكون النصر عليها؟ وكيف لعمر الحق يكمل لنا استقلال، أو تتم سيادة أو نجاري شعوب المدنية ونسابقها، إذا لم تسد الأمانة فينا، وإذا كان الواحد منا لا يستطيع أن يطمئن إلى أخيه ولا يعتمد على أمانته؟ وإذا كنا نقلد الغربيين في الشرور فلماذا لا نقلدهم في الصدق في المعاملة والوفاء بالوعد والاستقامة في العمل؟ أما إن من أشكال الأمانة وصورها، أن القلم المتين، واللسان البليغ، أمانة في يد الكاتب والخطيب، فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الإصلاح، كانا ممن خان أمانته، وأضاعها، وفرَّط فيها؛ فلينظر لنفسه كل كاتب وشاعر وصحفي وخطيب! ***

دفاع عن الفضيلة

دفاع عن الفضيلة نشرت في مصر سنة 1946 هال بعض المصلحين منذ سنتين ما رأوا من فشوّ التبرج والاختلاط في دمشق البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويردّون الرذيلة الغالبة، وانقاد إليهم الناس، لأن الكثرة الكاثرة من أهل دمشق لا تزال متمسكة بدينها، ولا تزال نساؤها في الحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحرقون ... لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها وترويعهنّ، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرّجة ووعظها وزجرها ... وقد أنكر العلماء وعقلاء البلد ذلك عليهم فكفوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط، فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره وكّبروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا ويبرقون البرقيات ويُرعدون بالخطب، وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب، باسم (الحرية الشخصية) التي تمتع عيونهم بما وراء الحجاب من جمال، وتُنيلهم ما بعد حدود الفضيلة من لذائذ! أيخرجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور! أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كل امرئ حراً ولو نقب مكانه في السفينة (¬1) فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها؟! ¬

_ (¬1) إشارة إلى الحديث المشهور.

كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون ... أو كذلك أراد لهم هواهم، وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن (الحرية ...)، وهاجوا (¬1) بعض النواب، فجرب كل واحد منهم أن يتعلم الخطابة في تقديسها، ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حاموا عن الفضيلة، فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين، وأدخلوهم السجون، وجرعوهم كؤوس المهانة، حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى، وصار النساء إذا رأين شيخاً في الطريق شتَمْنَه وسخرن منه، وتوارى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء، وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم، وحسب أولئك أن الظفر قد تم لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون ... وكانت النتيجة أن انْحَطَم السدّ فطغى سيل الرذيلة وعم، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما امتد أيام حكم الفرنسيين الذين هم أفسق الناس، وهذه حقيقة نثبتها بأسف وخجل ... وكانت النتيجة أن ازدادت جرائم التعدي على العفاف واستفحلت حتى رأيت المحاكم من يتعدى على عفاف بنته وأخته، ومن يفجرُ بطفل رضيع، وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت (الحرية الشخصية) غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟ وكانت النتيجة أن دمشق التي تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت في يوم عيد من أعياد الوطن، بنات في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، ترتج نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل، وألبست لباس عروس، وركبت السيارة وسط الشباب -قالوا إنها رمز الوحدة العربية-. ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها، ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحي ولا يخجل، وأخرى قالوا إنها رمز سورية الأسيرة قد فكت قيودها ... وأمثال ¬

_ (¬1) أي هيجوا.

هذا الهذيان الذي لا معنى له إلا استغلال العيد الوطني في هدم أركان الفضيلة وتمزيق حجابها ... وأخذت صور هذا كله فنشرت في الجرائد وعرضت في السينمات، ثم ازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق حتى رأينا صور رجال منا مع نسائهم على (بلاج) الإسكندرية منشورة في مجلة من المجلات التي لا تدع فرصة فيها تشهير بنا وفضح لنقائصنا إلا استغلتها، ثم ازدادت الجرأة حتى صارت مجلات دمشق تنشر صور العرايا فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما تُشترى له. ثم ... ثم ماذا؟ الله وحده الذي يعلم ماذا يكون أيضاً، وإلى أين يبلغ بنا المسير ... وقد نزلت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة لا تصحو من واحدة حتى تحس بالأخرى، وهم يريدون منا مع ذلك أن نسكت وألا نقول شيئاً، لئلا نشوّه (زعموا) جمال العهد الوطني. كلا. إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة ويسود الحق ويحفظ العفاف ... كلا، ولا كرامة، إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرْض!. إنها حياة هذه الأمة: لا تحيا أمة بلا أخلاق، أفئن قامت فئة من العامة بما لا نرضى عنه، وانتهكت حرمة هذا الحرم الأقدس: السينما، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات: النساء المتبرجات ... نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟. إن الأمور ما يتفق عليه أبناء الملل كلها، وما يلتقي فيه أتباع الأديان جميعاً كما يلتقي سالكو شوارع مختلفة في ساحة من الساحات، ومن ذلك الدعوة إلى العفاف، إنها دعوة لا بد منها، فإذا لم يريدوها عن طريق الجمعية الغراء والمشايخ، فلتكن عن طريق غيرهم، المهم أن يجهر بها جاهر ونحن معه مؤيدون له ومحاربون لمن يحاربه، ونحن نريد الجوهر لا المظهر.

ثم ما هذه الحرية التي طبّلتم لها وزورتم، وهوّلتم وعظمتم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة والديمقراطية، أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة في أن يحوّل مدرسته إلى مرقص؟ أهي حرية الفسوق والعصيان؟. أهذه هي الحرية المقدسة؟. إنكم -أيها السادة- بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون، وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسادكم؟ وإلا فخبروني أي أمة في الدنيا تصنع هذا الصنيع: العرب؟ إن العرب أغير الناس على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في ألسنة الأمم تترجم بها!. المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر وستر العروة، ولعن الناظر إليها والمنظور! الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب فعلام تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء، وفيه الرجال والنساء وهو كالموسكي في مصر والشورجة في بغداد، ما كان قط ملعباً ولا ميدان كرة، وإن الفرنسيين ينشؤون بيوتاً للهو واللذة، وبيوتاً للعلم، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو، وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند، فلما استلمتم أنتم أمرهم كشفتم عن أفخاذهم (¬1). الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس. العفاريت؟ الجن؟ فمن إذن؟ أنكون نحن بدعاً في الأمم نأخذ من كل واحدة شر ما عندها، ونريد أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليط من الشرور ¬

_ (¬1) وما استحسن عمل الفرنسيين، ولكن أقيم الحجة على المخالفين.

مركباً تركيباً مزجياً، كحضرموت ... إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة!. لا. لم أرد أن أنحو في هذا الحديث نحو الخطابيات، ولم أنشئه لأخاطب به العواطف وحدها، ولكن نحوت فيه نحو التدليل والتعليل، وقررت حقائق بأدلتها، وأنا أدعو إلى مناظرتي فيه كل مخالف في رأسه عقل، وفي يده قلم، وفي فمه لسان ... ولم أوجه للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لا أخص مسلماً ولا مسيحياً، لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأعراض، ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيرة، ولم يغضب لحرمة فهو كذاب دعي ليس بعربي. وسيقول ناس من القراء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم. وهذا كلام لا يناقش ولا يرد عليه، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة، إنما يدفع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل؟. إنهم حفظوا كلمات فهم يرددونها لا يحاولون فهم معناها، يقولون: رجعية. وما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعاداته، فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مصلحاً أو مفسداً؟. هذه هي الرجعية!. هي رجوع إلى الدين، أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها، ويظفر الحزب الديني فيها بارز مقاعد المجلس النيابي، فلا ينكر عليها أحد، ولا يتهمها بالتأخر، ولا يصمها بالجمود. ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحق، فيقول السفهاء أنا متأخرون جامدون؟.

لا. هذا كثير! هذا كفر بالمنطق، وتعطيل للفكر، وإلحاد في المدينة. هذا شيء نستحي من الأمم أن يكون فينا من يقوله!. ونحن إذ ننتقد شيئاً نبين أضراره، فبينوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به، ولو حملنا معه شيئاً من الضرر، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض، وإن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حرما. فتعالوا نتناظر!. إنه لا بد في كل مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان ليعودا إليها، ويرتكزا عليها، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول، فإذا كان المتناظران مختلفين في كل شيء، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضار، ويدعي هذا أن اتباع الدين واجب فينكر الآخر هذه الدعوى، ويرى هذا العمل على منع الفجور، ويرى ذاك العمل على نشره ... فلا يمكن أن يكون بينهما كلام؟. فلنتفق أولاً على الأصول: هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم شر؟. هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم شر؟. هل مراقبة الله وخوفه وتمسك كل امراء بفضائل دينه خير أم شر؟ هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها. وإنه ليكون غروراً مني وازدراء للخصوم وللقراء، إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، وحاولت إقامة البراهين على أنها خير وأتعبت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً، وإني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.

فتفضلوا قولوا، هل هذا الذي نحن فيه يحفظ علينا عفافنا أم هو مضيعه علينا؟ هل يعمر بيوتنا أم يقوضها على رؤوسنا؟ هل يرضي ربنا أم يسخطه علينا؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا؟. وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركة الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء، فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن ينتخب لها الجميلات منهن لا النابغات ولا المجدات ولو كن قبيحات. وإذا لبسن الجوارب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء العيد وتذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء؟. وإذا حسُن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات، فهل يشترط في هذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟. لا والله، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي ... إنكم لا تريدون الصحة ولا الرياضة ولا المشاركة بالعيد إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة، إنكم لصوص أعراض ... ولكن ليس الحق عليكم، الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب، فنحن عميان لا نبصر، خرسان لا ننطق، حمير لا نغار، وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم. اللهم لقد بلغت، اللهم لقد أنكرت المنكر. اللهم لا تنزل علينا لعنتك، ولا تحلل بنا غضبك. ***

من أخلاقنا

من أخلاقنا نشرت سنة 1947 أعرف رجلاً أنعم الله عليه بسعة المال، وفطره على صدق الود وبسط اليد فأباح إخوانه ماله، يغترقون منه اغتراقاً، ويأخذون منه علاً ونهلاً، قرضاً حسناً لا يطالبون برده، وهدية لا يسألون المقابلة بمثلها، وهبة لا يُرتقب منهم عوض عنها، ولا يسمعون كلمة منّ أو تذكير بها. وفَتَح لهؤلاء (الإخوان) -وما كان أكثرهم- داره، وأفرد لهم جناحاً فيها لا يدخله أحد من حرمه وأهله، وأقام عليهم خادماً وطاهياً، وانقطع فيه لاستقبالهم قادمين بالبشاشة والترحيب، وإيناسهم مقيمين وخدمتهم، وتوديعهم راحلين مشيعاً إياهم بالكرامة، شاكرهم على (تفضلهم) بالزيارة، سائلهم (التكرم) بالعودة. ولبث هذا الرجل على ذلك حتى أضاع ماله كله، فباع الدار وأثاثها، وغدا فقيراً يحتاج إلى (الورقة السورية)، فلا يجد في كل أولئك (الإخوان) من يدفعها إليه، لا وفاء دين، ولا مقابل هدية، ولا عوضاً من هبة، ولا قرضاً حسناً إلى أيام السعة، اللهم إلا قرضاً بربا، ولا يرضى المرابون أن يقرضوا مفلساً. ... ولعلّ الرجل أخطأ حين عمد إلى هذا (الكرم الجاهلي) فأخذ به، وترك التأدب بأدب القرآن الذي يقول: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}؛ والذي جعل المبذرين إخوان الشياطين. ولعله لقي جزاءه ... فما سقت القصة للحكم عليه، وإنما قصصتها لأنها ذكرتني بطائفة «من أخلاقنا»، هي كالداء في جسم الأمة، لا يجمل بالكتَّاب وحملة الأقلام السكوت عنها والرضا بها، وهم أطباؤها وأساتها، وعندهم دواؤها.

ذكرتني بما نكاد نراه كل يوم من الحوادث وما يكاد يعرف له كل قارئ شبيهاً ومثيلاً، حين يأتيك الرجل من أصدقائك أو جيرانك متذللاً متواضعاً، مظهراً للتقى والأمانة، يسألك أن تقرضه مالاً قد تكون أنت في حاجة إليه في يومك أوغدك ويذكرك الكرم والثواب؛ وربما استعان عليك بمن لا يرد طلبه عندك فتعطيه ما يريد، تضعه في كفه خالياً به، تستحيي أن تشهد عليه شاهداً، أو تأخذ به كتاباً، مع أن الله أمر بكتابة الدين إلى الأجل المسمى أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب وافتراض، فيأخذه منك ويذهب شاكراً فضلك، مثنياً عليك ثناء يخجلك ويضايقك؛ ثم لا تراه بعد ذلك ولا تبصر له وجهاً فتفتش عنه لتسأله رد المال وقد انقضت مدة الدين، وتجددت حاجتك إليه، فيروغ منك، وينأى عنك ... فتطرق بابه، فيقال لك هو غائب عن الدار، فتعود إليه في الصباح فيقال هو نائم، فترجع بعد ساعة فيقال خرج ... فتبتغي إليه الوسائل وتتشفع إليه بالأصدقاء ... فيلقاك شامخ الأنف مصعّراً خده، يقول: (يا أخي، أزعجتنا بهذا الدين ... ما هذا الإلحاح الغريب؟ أتخاف أن آكله ... !) وينتهرك وأنت تداريه ... ثم إن كان (رجلاً طيباً) دفع إليك الدين، ولكن قرشاً بعد قرش، و (ورقة) (¬1) بعد (ورقة) فتريق في استيفاء دينك ماء وجهك، وتنفق فيه الثمين من وقتك، ثم لا تنتفع منه بشيء. وإن لم يكن (صاحب ذمة) أكل الدين كله، وصرخ فيك حيثما لقيك: (ما لك عندي شيء. اشتك للمحاكم!)، وهو يعلم أنه لا سند في يدك، ولا بينة لك عليه ... وهبك أخذت منه كتاباً بدينك، أفتصبر على طول المحاكمة ومتابعتها وتأجيلها وتسويفها، و (رسومها ومصارفها) .. إن ضياع المال أهون من إقامة الدعوى به (¬2). ومثل هؤلاء المقترضين (الأفاضل) مستعيرو الكتب، أولئك الذين تركوا في قلبي غصصاً حلفت بعدها بموثقات الأيمان أني لا أعير أحداً كتاباً. ولم أنج ¬

_ (¬1) نحن في الشام نسمي الليرة السورية ورقة سورية. (¬2) ولو سألتني دليلاً لنبأتك أنها كانت لأسرتنا قضية بقيت في المحاكم ثلاثاً وثمانين سنة.

مع ذلك منهم، ولم يردّ لي إلى الآن كتاب «كشف الظنون» الذي نسيت من استعاره مني منذ إحدى عشرة سنة ... ولهؤلاء المستعيرين نوادر شهدت منها العجب، منها أن أستاذاً محترماً في قومه جاءني مرة يلتمس إعارته جزءاً من تفسير الخازن من خزانة كتبي، ليراجع فيه مسألة ويرده إليّ عاجلاً، ففعلت؛ وانتظرت أربع ... أربع سنوات والله ثم ذكرته به؛ فغضب وقال: «لإيش العجلة يا أستاذ، لم أراجع المسألة بعد ...»! والذي يذكر منهم صاحب الكتاب ويتنازل فيرده إليه، يرده مخلوع الجلد ممزق الأوصال. وأنكى منه المستعير المحقق المدقق الذي يرى في الكتاب موطناً يحتاج إلى تعليق، فيكتب التعليقة التي يفتح الله بها عليه، على هامش كتابك بالحبر الصيني الذي لا يمحى ولا يكشط، ويذيّلها باسمه الكريم!! وشر من هؤلاء جميعاً الثقيل الذي يتظرف ويتخفف، فيرى أن من الظرف سرقة الكتب، فإذا زارك وتركته في المكتبة وخرجت لتأتيه بالقهوة أو الشاي أخذ كتاباً فدسّه تحت إبطه، أو وضعه في جيبه ثم ذهب به وأنت لا تدري (¬1) .. ... وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى وبدلوا معناه، فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام، والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه. ولم يكن الرجل ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفر، أو عامله في ¬

_ (¬1) وآخر ما وقع لي هنا انه كان عندي دفتر كبير مكتوب كله بخطي فيه ما سمعته من الدروس في (علم النفس) لما كنت في شعبة الفلسفة سنة 1929، فقدته من غرفتي في داري في مكة التي لا أدخلها إلا خاصة أصدقائي، وكان ذلك نحو سنة 1401 أو 1402.

مال؛ فصار التقي اليوم من يكبّر عمامته، ويطّول لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد. وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أحبولة يصطاد بها الدنيا، كذلك الذي كان وصياً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلَّة والجُوع، ونشأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة ... وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن فيشرب بشماله أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده. فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقى كيلا يعظموا اللص ويجعلوه ولياً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً، بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس (هؤلاء) المشايخ (لست أعني المشايخ كلهم) شهوة المال، وأنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة ببذله المال ... ... لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خضم الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة، يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة يناله جزاء تمسكه بما علّموه من الأخلاق. حدثني صديق لي أنه انتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو أوفى من ذلك، وكان مقره في (مخفر) في ظاهر البلد، فمر عليه رتل من

السيارات فيه حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك (الإذن) فوقفهم ومنعهم من المرور إلا به. (قال) فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيدياً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول ... وهذه الصرة ثمن (فنجان قهوة) رجاء السماح لهم ... إلخ. قال: فلما سمعت ذلك قفَّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به بأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال ليجري التحقيق. (قال صديقي) وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل. ولو أني بقيت لطرحت عن عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إلي خير. وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر والأسرة عنه غافلون. وأين أسرته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهي الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاء ونحيباً لأن صاحبته أسهرته بعدّ النجوم ولم تأته ... أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه أو أفسق فأعطته إياها. وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا همَّ له إلا مرتبه يقبضه من (دائرة الأوقاف) في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو (حاشية) يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع ولا ينتقد ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر مشكلة من مشاكل العصر ليرى حكمها. ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر. والشباب الناشئون لجهلهم حقائق الإسلام، وبعد ما بينهم وبين المشايخ، وقصر أيديهم وأفهامهم عن نيل الكتب (ذات الشروح والحواشي) قد زهدوا في كل ما هو شرقي واستهانوا به،

وعظموا ما يقابله من كل حماقة دعيت مذهباً اجتماعياً، وكل سفسطة سميت فلسفة، وكل كفر بالدين والعرض دعي أدباً، وأعانهم على ذلك أن أكثر المدرسين من الذين لم يقدر لهم فهم علوم الإسلام والغوص على كنوز كتبه، ولست أطلق القول وأجنح إلى التعميم، فإن في كل فئة من هؤلاء الطيبين والمصلحين، ولكن الكثرة على نحو ما ذكرت. فمن أين يرجى إصلاح أخلاقنا وأوضاعنا؟ ومن أين يرجى لأخلاقنا صلاح، ولم نتفق بعد على (الأخلاق) التي ينبغي أن نتخلق بها، فمنا من يرى المثل الأعلى في أخلاق الجاهلية: كرم إلى حد التبذير، وشجاعة إلى حد التهور، كصاحبنا الذي استهللت بحديثه هذا المقال، وعامة طائفة (الزكرت) في الشام، (وهي أشبه بالفتوة في مصر) وأكثر البدو، ومنا من يميل إلى التخلق بأخلاق أجدادنا في القرن الماضي على ما كانت عليه بلا زيادة عليها ولا نقصان منها، ومن يخالفهم مخالفة الضد للضد فيرى أن نقتبس الأخلاق الغربية برمتها. ويتشعب بهؤلاء الرأي فيميل كل إلى الأمة التي تعلم في مدارسها أو رحل إلى أرضها؛ ومن يرى اقتباس الجيد النافع من كل أمة من غير أن يحدد أو يعين. ولا دواء لهذه الفوضى في رأيي، ولا صلاح لأخلاقنا، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به سيدنا وسيد العالم محمد صلى الله عليه وسلم، لا الإسلام الذي يفهمه الحشويون والمتاجرون بالدين، ولا الذي نفهمه العامة. فإذا فعلنا فثمة كل خير، ولا يكون ذلك إلا إذا شمر العلماء وحققوا المسائل، ودرسوا المشكلات، وألقوا عن المصنفين الأولين رداء التقديس، واستمدوا الأحكام من موردها ثم ترجموا هذه الكتب القديمة إلى لغة العصر. ***

داء الشباب

داء الشباب نشرت سنة 1938 وهل داء الشباب إلا الميل الجنسي الذي يملأ نفوسهم، ويسيطر على أرواحهم، ويتراءى لهم في كل جميل في الكون، شيطاناً لعيناً يقود إلى الهاوية وإبليساً (¬1) من أبالسة الرذيلة، يدعو إلى دين الهوى، وشرع الشهوات، ويحدر عقل من يستجيب له فينزل به من مكانه في الرأس إلى غير مكانه، ويجعل صاحبه عبداً للجسم، مؤتماً بالشيطان؟ وهل يأتي ممن كان إمامه إبليس، وشرعه هواه، إلا قطّ في شهر شباط؟ بل ما يبلغ والله أن يكونه، فإن القط تشغله الشهوة شهراً في العام وسائر أيامه للصيد والوثب والسعي للرزق وما خلق الله له القطط، وعبد الشهوة من الناس تتعبده الشهوة في كل حين ... وللقط طريق واحد إلى بلوغ شهوته هو (الطريق) الذي (شقه) الله لبقاء الجنس، تبعاً للسنة التي سنها، أما عبيد الشهوة من البشر فلهم مائة طريق، تسعة وتسعون منها تخالف سنة الله، وقوانين الحياة، وتأباها العجماوات، ويترفع عنها الحمير، ولا يرتضيها لنفسه (صاحب اللعنات) إبليس ... والقط في شهر الشهوة، لا ينسى قِطّيته (¬2) ولا يدع صيد الفار، ولا السعي للعيش، والرجل إذا تعبدته الشهوة ينسى إنسانيته، ويهمل الواجب عليه، ويقعد عن المشي في مناكب الأرض في طلب الرزق، بل لقد تبلغ به السفاهة والجهالة أن يفرَّ من الحياة منتحراً جباناً ذليلاً لأن ... لأن امرأة لم تعطه من نفسها الذي يريد، ولو عقلَ عقل القط لتركها إلى غيرها، وليس ¬

_ (¬1) نونت الكلمة تنوين التنكير. (¬2) القطية للقط (مصدر صناعي) على وزن الإنسانية للإنسان ..

يبالي القط ما دام قد قام بقسطه من حفظ النسل، أكانت صاحبته بيضاء مبرقشة أو سوداء حالكة، ولم نعهد قطاً قطع نفسه بأسنانه، أو ألقى بها في البركة، حزناً على حبيبته (القطة) ... والقط (بعد ذلك) يبقى عزيزاً يطارد القطة مرفوع الرأس، مشدود العضل، بادي القوة، والرجل إذا استعبدته الشهوة يصبح ذليلاً حقيراً، كافراً بالرجولة، فيهمل درسه إذا كان طالباً لأن صاحبته (أو شيطانته) لم تدع له وقتاً ولا عقلاً للدرس؛ وإذا كان موظفاً أنسته عيناها أمانة العمل، وحرمة المصلحة، وواجب الشرف، وقدسية العدل؛ وإذا كانت صاحبة سره (سكرتيرته) في تجارته، نسي التجارة، وأضاع الأمانة والربح، وأهمل السعي والعمل ... فلا يكون من وراء الشهوة إلا ذل النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل: المعلم سيد تلميذته، والمدير أمير سكرتيرته، والطالب عزيز حيال رفيقته، فإذا جاءت الشهوة، ذل المعلم فكان هو التلميذ وهي السيدة، وذل المدير فكان هو الأجير وهي الآمرة، وذل الطالب فكان من رفيقته بمثابة كلبها ... يتبعها ويبصبص لها! أو ليس من الذل أن تكون حياتك معلقة بغيرك، وسعادتك بيد سواك، فأنت مضطر إليه، وأنت لعبة في يديه، إن أقبل عليك سعدت، وإن أعرض شقيت، وإن مال إلى غيرك اسودت أيامك، وتمنيت الموت؟ هذا والله الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض، ولا ... «ملك إنكلترا وتوابعها ...» (¬1)، وهذه هي حقيقة الحب، الحب الذي ألهه الشعراء!. ... على أن الحب في الأصل جميل، وعلى الحب قام الوجود كله وائتلف وسار إلى غايته، والشهوة نافعة لازمة لم تخلق عبثاً، ولا أداة للشر، بل خلقت حياة للجنس وعصمة من أن يمحي أو ينقرض، ولسنا نحقر الحب ولا نذم الشهوة، ¬

_ (¬1) الذي لم يمنع إدوار الثامن من تركه كله ليلحق أرملة اسمها سمبسون - والقصة مشهورة.

وإنما نذم الغلو فيهما، وولوجهما من غير بابهما، وأخذهما على غير الوجه الذي خلقه الله لهما ... نذم منطق الشهوة، وللشهوة منطقها الذي يسلب الدّين دينه والحكيم لبَّه، ويريه أن له الحق في كل النساء، وأنه لم تخلق امرأة إلا للذته (هو) ومتعته، ويصنع له إبليس أدلة هذه الدعوى فيقبلها بعقله الذي انحدر من رأسه، ويتلقاها بأعصابه الهائجة المجنونة، ثم يدله إبليس على سبل تحقيقها، فيسلكها لا يبالي الدين ولا العرف ولا المروءة ولا شيئاً مما تواضع على إجلاله الناس ويتم إبليس عمله، فيدخل في رؤوس نفر من الأدباء، ثم ينطق بلسانهم، ويخط بأقلامهم، هذا الأدب الوقح البذيء، أدب أبي نواس من الأولين، وآباء نواس من العصريين، الأدب الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار صناديق البارود في أصول البيوت، فلا يلبث أن يتفجر عند الشرارة الأولى، تخرج من عين امرأة، فينسف عقل صاحبه ودينه، وأخلاق الأمة وصيانتها، ولا نعدم مع ذلك من الناس من يعجب بهذا الأدب ويكبره ويسمي صاحبه بأسماء الجهابذة الأعلام من أرباب البيان وحملة الأقلام ... وهل في الأدب المكشوف، إلا كشف سوأة من سوءات الفكر، وعورة من عورات الضمائر، يحرص العقلاء على سترها كما يسترون عورات الجسم؟ أستغفر الله ماذا أقول؟ إن الناس قد كشفوا عورات الجسم على السواحل وفي المصايف، وأبدوا كل سوأة، وافتخروا بها؛ وسموها جمالاً وكمالاً، وصوروها وملأوا بها جرائدهم ومجلاتهم، أفيلام الشباب إن جن جنونه، واشتعلت في أعصابه النيران؟ أخطبوا أيها المدرسون ما وسعكم الجهد، واهْرَؤوا ما انفسح لكم سبيل الهراء؛ وقولوا للشباب كن صيناً عفيفاً. إنها لن تجدي عليه خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم؛ إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب بلغة الطبيعة الثائرة في السوق على لسان (حال) المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية المغرية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجرائد المصورة والروايات الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه

الفساق المستهترين ... ولسان المدرسين حين يدرسون شعر أبي نواس المقرر رسمياً في المنهِج! إن الشاب تتعبده الشهوة فيخضع لها، لأن سهامها تنصب عليه من كل جانب، فلا يطيق أن يتقيها، فيصورها له خياله عالماً مسحوراً عجيباً، وجنة فينانة غريبة، فيتمنى دخولها، فلا يجد من دونها حجاباً، بل يجد من يسوقه إليها ويحفزه عليها، فلا يخرج منها أبداً، ولا عليه إن ماتت الأمة أو عاشت، فهل فكر أحد من أطباء الأخلاق في هذا الداء؟ بناء الأخلاق ينهار، وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، والقادة والمصلحون وأرباب الأمر يرون ذلك كله، فلا يبالونه ولا يفكرون فيه، ولا يفتشون له عن علاج ... مع أن العلاج هين ميسور والعقاقير دانية قريبة، لا ينقصها إلا يد تمتد إليها فتأخذها لتجرعها المريض؛ وأين تلك اليد؟ ... إن الله الذي وضع الشهوة في النفوس جعل دواءها الزواج، فإذا تعذر الزواج فهناك طرق للوقاية من الفاحشة، وهنالك السدود من دونها والحجب: هنالك الدين، فإذا علمتم الشاب دينه، وعرفتموه بربه، ونشأتموه على التوحيد الخالص، والإيمان الصحيح حتى يعلم أن الله مطلع عليه، لاستحيا من الله أن يأتي الفاحشة بسمعه وبصره، كما يستحي أن يأتيها على مشهد من أبيه الذي يجله، أو أستاذه الذي يحترمه، ويعلم أن من حق الله عليه، وقد أعطاه هذه الأعضاء وأنعم بها عليه ألا يستعملها إلا في طاعته ... هذا أول سلاح تدرأ به المعصية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، أي لا يستطيع أن يزني وهو مؤمن أن الله مطلع عليه، ناظر إليه، ولمنعه الحياء من الله إن لم يمنعه الخوف من العقاب. وهنالك الشرف، فإذا ربيتم الشاب عليه، وجعلتموه يحس به ويقدره قدره، وأفهمتموه معنى المروءة وقيمة العرض، لمنعه من الفاحشة ما كان يمنع الجاهلي الشريف، من أن ينظر إلى جارته حتى يواري جارته مأواها.

وهنالك الصحة، فلو عودتموه الرياضة، وعرفتموه قيمتها، وأنبأتموه أن الله جعل مع العفاف الصحة والسلامة، ومع الفاحشة الضعف والمرض والمصائب السود لاقتصد في اتباع الشهوة، إن لم يكف عنها، ولم ينظر إليها إلا من سبيلها، وسبيلها الزواج. وهنالك طيب السمعة، وحسن الذكر في الناس، وهنالك الكثير من الأسلحة والحجب. ... والعلاج كله في يد وزارة المعارف وآباء الفتيات. أما وزارة المعارف، فتستطيع أن تعنى بالأخلاق العامة، فتبذل جهدها في مراقبة الجرائد والمجلات والروايات، وتبث الوعاظ ينشرون في الناس الفضيلة ويرغبونهم عن التهتك والعري. وتستطيع قبل ذلك كله أن تهتم بأخلاق التلاميذ، فتوكل بهم من يفهمهم (قبل سن البلوغ) حقائق الحياة الجنسية بأسلوب علمي يضرب فيه المدرس المثل بتلاقح الأزهار، واجتماع الحشرات والطيور، ويبين لهم بشاعة الفاحشة على مقدار ما يتسع له القول وإضرار (العادات السرية السيئة) (¬1) ويكون حكيماً في بيانه، فلرب مثل هذا، يخلو من الحكمة، فيقود إلى الرذيلة بدلاً من أن يصرف عنها. وتستطيع وزارة المعارف أن تعلي من شأن درس الدين، وتختار له من المدرسين من يكون قدوة في سمته وخلقه وسيرته، فإن المدرس يفعل بسيرته في نفسية الطلاب ما لا يفعل بمحاضراته، وتدخل هذا الدرس في الفحوص والامتحانات العامة، وتجعل الطلاب (يرسبون) إذا قصروا فيه، لأن الطلاب ¬

_ (¬1) من الناس من ينفر الشباب من العادة السرية (أي الاستمناء) بتهوين أمر الزنا، وأنه لا يضر ضررها، مع أن ذلك كذب والحكم الشرعي فيها أنها مكروهة كراهة تحريم إلا إذا كانت عن اضطرار أو للخلاص من الوقوع في الزنا ولم يكن فيها ضرر جسدي محقق [راجع حكمها في حاشية ابن عابدين في باب الصيام].

لا يمكن أن يعنوا بدرس لا (يرسبون) إن قصروا فيه. وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم الدرسين بأن يكونوا مثالاً كاملاً للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فإنا قد رأينا من ليس كذلك، رأينا من يصحب طلابه إلى دور اللهو والفسوق!. وتستطيع وزارة المعارف أن تضع القوانين الصارمة لحماية عفاف الطلاب والطالبات من أنفسهم ومن غيرهم. أما آباء الفتيات الذين لا يزوجوها إلا بيعاً، فهم رأس البلاء، ولكنه لا ينفع معهم الكلام. ... أما أنتم يا إخوتي الذين يقرؤون هذا الفصل من الشباب، فإني أنصح لكم (وأنا شاب مثلكم) (¬1)، بأن تصرفوا ميولكم إلى جهة علوية، فإن الميل كالبخار المتصعّد من القدر قد يجد سبيله فيدير الآلة، ويسيّر القاطرة، وقد يحتبس فينفجر به القدر، وقد يسيل على الأرض هدراً، فأنا لا أحب أن تسيل ميولكم هدراً، ولا أن تضيق بها نفوسكم حتى تنفجر، بل أحب أن (تتساموا) بها فتسوقوها في طريق الفن والإبداع. إن من يفكر في المرأة، ويزداد به الشوق إليها، ولا يجدها زوجة لأن الآباء يضنون ببناتهم حليلات ويبذلونهن للناس خليلات، يستطيع أن يصب شوقه في القطعة من الشعر أو القصة من القصص، أو أن يصور شوقه نغمة جديدة، أو صورة بارعة يشعر إذا صنعها بمثل ما يشعر به من بلغ ما كان يريد، ويجد الاطمئنان، ويمشي في طريق النبوغ. وإن الشاب إذا دأب على المطالعة والبحث، ورغب في التفوق على رفاقه في المدرسة، أو الفوز على خصومه في الجري أو الملاكمة، أو استغرق في تجارة فشغلته، أو صناعة فملأت حياته لا يحد في نفسه بقية للشهوة، إنما تستعبد ¬

_ (¬1) كذلك كنت عند نشر هذا المقال.

الشهوة من كان فارغ الرأس واليد والوقت. إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة! ... وبعد فهذا داء عضال فتاك، فأين أطباؤه، وأين من يتنبه إليه؟ أين الكتاب الباحثون فيه؟ أين أولو الأمر المَعْنيون به؟ أين الغُيُر على الدين والأخلاق؟ ألم يبق منهم أحد؟!. ***

أخلاقنا

أخلاقنا نشرت سنة 1938 نحن اليوم (في أكثر بلدان الشرق الإسلامي) في دور يقظة، ومطلع نهضة، ولكل نهضة جسم وروح؛ أما الجسم فهذه السياسة وما يتصل بها، وهذه الدواوين الحكومية وما يكون فيها، وهذه القوانين والأنظمة وما ينشأ عنها؛ وأما الروح فهو الأخلاق والعقائد والمثل العليا. فروح الحكم الإخلاص والقناعة والعدل بين الناس، وروح الوظيفة الاستقامة ومعرفة الواجب، وروح الديمقراطية الإرادة المشركة وضمان المصلحة العامة، وروح المدرسة تنشئة جيل المستقبل على المثل العليا، وروح الصحافة نشر الحق والفضيلة والخير ... فهل امتدت نهضتنا إلى الروح، أم هي قد اقتصرت على الجسم وحده، لم نُعن إلا به، شأننا في كل أمر من أمورنا حين نهتم بالقشور ونقف عند الظواهر؟. الجواب عند القراء، لا حاجة إلى إثباته في هذا المقال. ولكن الحاجة ماسة إلى كتَّاب ومربين وعلماء، يَسْتَقْرون أخلاقنا التي نحن عليها، ويصنّفونها ويقوّمونها، ويرون ما يجب أن يبقى فيعملون على تثبيته ونشره، وينظرون ما ينبغي أن يبدّل أو يعدّل، فيسخّرون المدرسة والصحافة والقوانين لتبديله وتعديله، لتنشأ أمة المستقبل على الأخلاق الصالحة التي تستطيع أن تبلغ بها ما تريد من مجد وعلاء، وتتبوّأ المكان اللائق بها بين الأمم، وتلقي هذه الأخلاق التي ورثناها من الحكم التركي الطويل، وبلغت بنا قعر الهاوية التي نحاول اليوم النجاة منها، ونعود إلى أخلاقنا الإسلامية التي قبسها منا الغربيون فأفلحوا بها ونجحوا ... ***

من هذه الأخلاق التي يجب أن نتخلص منها أننا لا نعرف التعاون ولا نقدر أن نعمل مجتمعين. فالفرد منا عامل منتج، ولكن الجماعة عاجزة عقيمة، ومن نظر إلى انتشار الشركات في الغرب على اختلاف أنواعها، والجمعيات على تنوع غاياتها، والأحزاب والنوادي، ورأى ما عندنا من ذلك رأى أنه ليس إلى المفاضلة من سبيل ... وعلة ذلك (الأنانية) المفرطة، والأثرة الجامحة، وحب الذات الطاغي، فالرجل منا يريد أن يكون هو كل شيء في الجمعية أو الشركة، رئيسها إن كان لها رئيس، أو ناموسها (سكرتيرها) إن لم يكن رئيس، وعضو الإدارة إن كان مجلس إدارة، وأن يكون له الرأي إن أخذت الآراء ... بل إنا نرى كلاما يعطل أعمال الآخرين ويبطلها، ويعمل على هدمها، بينما نراه مؤمناً بلزومها، معتقداً بالحاجة إليها، ساعياً إلى القيام بمثلها، فهو يعرف الحاجة إلى ناد أدبي ولكنه يحارب النادي لأنك أنشأته أنت؛ وهو يعلم الحاجة إلى مدرسة دينية ويدعو إليها، ولكنه إذا رآها قد فتحت ونالت قسطاً من النجاح أصلاها حرباً حامية، وجعل أكبر همه هدمها وتخريبها. ذلك إن دعوته الأولى لم تكن عن إخلاص ولم يكن يريد بها وجه الله والمصلحة، ولكنه يريد الفخر والشهرة والنفع واللذة، فلما رآك أنت السابق إليها والذاهب بفخرها، خان المصلحة وعصى الله ليرضي أثرته ويستجيب لأنانيته ... وهو شاعر بالحاجة إلى جمعية خيرية يسعى إلى تأليفها بحماسة وجد ودأب قد ملأت فكرتها نفسه وحياته فهو لا يتحدث إلا بحديثها، ولا يشتغل إلا لتأسيسها، فإذا تم له الفلاح بعد التعب والكفاح وقامت الجمعية ولم يكن هو الرئيس أو هو الناموس انفصل عنها وحاربها حرباً لا هوادة فيها وسعى إلى هدم ما بناه بيده ... هذا داء من أشد أدوائنا الخلقية، إن لم نعالجه فشت جرثومته في جسم الأمة، فشلّت أعضاءها وعطلت أعمالها: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ وأين هو الإخلاص، وأين هو الصدق، فيمن يدعو إلى الخير أو الدين

أو الفضيلة، وغايته استغلال الدين والخير والفضيلة لمصلحة نفسه وإطاعة هواه؟. ... ومن هذه الأخلاق أننا لا نعرف قيمة الوقت، وأنا نضيع أوقاتنا سدى، ونذهب أعمارنا عبثاً لا نعرف لها قيمة وهي أثمن ما نملك. وإذا كان فينا من يحسن الاستفادة من وقته، وينفقه في علم أو أدب أو شيء مما ينفع الناس، لم يعدم من الثقلاء من يضيع عليه وقته، ويسرق عمره ولا يتوهم أنه أساء، وما أظن أن في القراء من لا يذكر حادثة في هذا الباب ... كنت ذاهباً إلى المدرسة ذات مرة، وكان عليّ محاضرة لم يبق دون موعدها إلا مسافة الطريق، وكنت مسرعاً لا أكاد أبصر طريقي فاعترضني رجل كبير كان ناظر المدرسة الثانوية التي كنت فيها وله في البلد حرمة ومقام، فأقبلت عليه أحييه وأفهمته برفق أن عليّ محاضرة قد حان موعدها فقال: طيب ... لحظة. وانطلق يتكلم، فلا والله ما سكت إلا بعد ما مضت نصف ساعة ألقى هو فيها المحاضرة عليّ، وأنا أتململ وأتحرك ويربدّ وجهي وأحس النار تشتعل في عروقي. فلما انتهى قال: - أظن أننا وقفناك ... عدم المؤاخذة!. ... هذه علة أخرى من عللنا الأخلاقية ... لا شك في أنها من أشدها وأدواها لأن حفظ الوقت آكد وسيلة إلى النجاح، وخير طريقة لرفعة الفرد والمجموع. أذكر أن الدكتور نمر تحدث إلى قراء المقتطف في العدد الخاص بعيد المقتطف بين لهم أن أثمن ما استفاده من الأمريكان في كليتهم هو تقدير الوقت، وأن ذلك هو الذي أعانه وزميله الدكتور صروف على النجاح وأتاح لهما تحقيق هذا المشروع العظيم، والأمريكان خاصة والغربيون على التعميم يعرفون كيف يستفيدون من أوقاتهم، فيقوم أحدهم في اليوم بأعمال لا تقوم بمثلها الجماعة منا في أسبوع. وكذلك كان أجدادنا الذين تركوا هذه الآثار العلمية الضخمة، وكان فيهم من بلغت تصانيفه الثلاثمئة فما فوقها .. كانوا يحسنون الاستفادة من

أوقاتهم، ولا يدعون دقيقة واحدة تمرّ إلا في عمل مفيد، أو راحة واجبة، أو قضاء حق لله أو للجسم أو للعيال .. والوقت لا يضيق بعمل إذا عرفنا طريق استغلاله والانتفاع به. ولو أحصى الواحد منا ما يذهب من عمره هدراً في (المقاهي) أو دور اللهو، وفي الأحاديث الفارغة، ومطالعة الصحف الجوفاء، والمجلات المؤذية، وقدر ما يمكن أن يعمل في مثل هذا الوقت من جليل الأعمال ونافعها لهاله الأمر ورأى شيئاً عظيماً. وانظر إلى التلميذ إذا دهمه الامتحان كيف يقرأ الكتاب في ليال ويحفظه كله، والموظف إذا اضطر إلى العمل، أو الصحفي إذا كان موسم من مواسم الصحافة، والمؤلف إذا طمع في الجائزة الكبرى؛ انظر إلى هؤلاء كلهم، وانظر إلى هؤلاء الأفراد الممتازين الذين يشتغلون بالسياسة ويبرزون فيها، ويؤلفون في الأدب وينبغون فيه، ويطالعون كثيراً من الكتب، ولا يقصرون في حقوق أنفسهم وأهليهم، وحقوق الناس، تعلم أن الوقت واسع جداً، ولكن الجاهل المهمل يضيقه على نفسه. ... ومن الأخلاق التي يجب أن نتعلمها تقدير المصلحة العامة وإهمالنا هذه المصلحة باب آخر من أبواب الأثرة (الأنانية) منشؤه أن أكثر الحكومات التي تتالت على بلدان الشرق الإسلامي في هذه القرون الأخيرة لم تكن من الشعب ولا إلى الشعب، ولم تكن تحرص على مصلحته، فزالت ثقته بها، ونظر إليها نظره إلى عدو مقاتل، وغدا يرى كل أذى يلحقه بها، أو مال يستلبها إياه، أو حق لها يضيعه، يرى كل ذلك بطولة وفخراً، وغدا كل واحد منا يسعى جهده ليفرَّ من الخدمة العسكرية أو يحتال بحيلة تنجيه من دفع الضرائب، أو يتوسل بوسيلة إلى اختلاس مال الخزينة. ولعل له في ذلك عذراً، هو أن الخدمة العسكرية كانت لحماية الحكومة دون الشعب، والضرائب لحياتها هي؛ وكان مال الخزينة مالها ينفق على أفرادها. ولا تزال الموازنة عندنا إلى الآن مصروفاً ثلثاها على الموظفين رواتب لهم وأجوراً، والثلث أو ما دونه على المصلحة التي أنشئت من أجلها الحكومة.

ونحن في حاجة إلى التخلص من هذا المرض. نحن في حاجة إلى الإيمان بأن مصلحة الفرد في مصلحة المجموع وأن رفعته في رفعة الأمة ... يجب أن تسأل الأم ابنها كل ليلة: ماذا عملت لأمتك؟ بماذا خدمت اليوم دينك؟ هل راقبت ربك في عملك؟ هل أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر؟ هل أحسنت إلى سائل؟ هل تبرعت بقرش لجمعية خيرية؟ هل تعلمت مسألة نافعة؟ هل كنت مهذباً مع رفاقك؟ ويجب أن يسأل كل منا نفسه هذا السؤال عندما يضع رأسه على الوسادة قبل أن يستسلم إلى النوم. ... ومن هذا الباب إطاعة القوانين واحترام النظام، ذلك الذي لم نتعلمه بعد ولا نعرفه أبداً لأن زماناً غبر (ولم يتبدل بعد) كانت القوانين والأنظمة توضع فيه لغير مصلحتنا وتفرض علينا فرضاً فتعودنا ألا نطيعها وألا نحترمها، ولكنا دخلنا اليوم في طريق الاستقلال (أو كأن قد) وصرنا نضع قوانيننا (إلى حد ما) بأنفسنا فيجب أن يتبدل ذلك كله وأن يرسخ في نفوسنا احترام القوانين وإطاعتها ما دام فيها طاعة الله ومصلحة الناس. ... ومن هذا الباب أو ما هو شبيه به احترام الراحة العامة. نمت ليلة في فندق كبير في بيروت، فنزل في الغرفة اللاصقة بغرفتي جماعة من أكابر حلب حلّوا بعد نصف الليل فبعثوا أحدهم بحاجة لهم إلى السوق، فلما بلغ الشارع ذكروا حاجة أخرى يأمرونه بقضائها فأطل أحدهم من شرفة الطبقة الخامسة وناداه وكلمه بصوت يوقظ الموتى، فلم يبق حيّ في الفندق إلا قام. ولما عاتبوه ولاموه لم يستطع أبداً أن يفهم أو يتصوّر أنه أتى أمراً نكراً. وانحدرت مرة من الأعظمية إلى بغداد في سيارة عامة من هذه السيارات التي يسمونها هناك (الباص) فركب معنا جزار معه خروف مسلوخ وضعه على ركبته وألقى برقبته على ثيابي، ورأيت الناس ينظرون إليه نظر المقرّ الموافق فاضطررت إلى النزول من غير أن أشتبك معه بقتال. وكثيراً ما نسمع رجلاً أو جماعة يمرون في الشارع قبيل الصبح فيأخذهم

الطرب فيغنون بمثل الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب، ولا يقدّرون أو يتصورون أنهم يسيئون إلى أحد. ولا يمضي على الواحد منا يوم لا يرى فيه ما يسوء ويزعج من بصاق في الترام أو المقهى، أو حديث في المكتبة العامة، أو خصومة في المسجد، أو غير ذلك من المزعجات المنغصات التي لا يزيلها إلا عناية المدرسة بتعليم الطلاب احترام الراحة العامة، وحث الصحف الشعب على ذلك. ... ومن الأخلاق التي يجب أن نسرع إلى تعلمها احترام الواجب والاستقامة والإصغاء إلى صوت الضمير. إن المعلم لا يتورع إذا أمره رئيس أو رجاه صديق أو نالته منفعة، أن ينجح التلميذ الذي يستحق السقوط في الامتحان وأن يزيد في الدرجات وأن يفعل كل شيء؛ والقاضي لا يمتنع محن تبرئة الظالم وعقاب المظلوم؛ والوزير لا يتقاعس عن إيثار الشفاعات والوساطات على الكفايات والشهادات؛ والطبيب لا يبالي بأن يجهض أو يأتي كل أمر يستطيعه ما دام في ذلك لذة له أو فائدة؛ والموظفون يقبلون الرشوة والناس يعطونها ولا تكاد تجد من عرف الواجب عليه وأكبره إكباراً، وضحى في سبيل القيام به بكل شيء ولا أعني أن كل المعلمين أو القضاة أو الوزراء أو الأطباء متنكبون سبيل الشرف مضيعون للواجب، ولكن الذي أعنيه أن فيهم من هذا شأنه، وأن احترام الواجب لم يذع فينا ولم يصبح شعاراً دائماً لنا، وأن المدرسة والصحافة والقانون وواضعه، كل أولئك مقصّرون لا يولون هذا الأمر ما يستحق من العناية والاهتمام في حين أنه من الأسس الثابتة والدعائم الكبرى في بناء الأمم. ونحن في حاجة إلى تعلم الصدق، لأن الكذب قد فشا فينا وعم وأصبح أسهل شيء علينا، فنحن نكذب في الأمور الهينة ونكذب في الجليلة، ونعلم أولادنا الكذب. من منا لا يقرع بابه فيقول لابنه: قل له إن أبى ليس هنا! ومن منا يلقى رفيقاً له أو رجلاً يعرفه فيقول له: كيف حالك أو زيك؟ فلا يقول له: بغاية الشوق، وهو لا يشتاقه ولا يفكر فيه، وقد يكون مبغضاً له يرى البعد عنه غنيمة ... فمجاملاتنا وحياتنا الاجتماعية كلها قائمة على الكذب. ومن

جرب أن يصدق يوماً كاملاً رأى العجائب، وقد أدرك ذلك العامة فجاء في أمثالهم (الصادقة): الكذب ملح الرجال، والعيب على الذي يصدق. ... هذا وشبهه (وما أكثر أشباهه) روح النهضة وقوامها، فإذا لم تعتن به الحكومات والأحزاب والجمعيات والمدارس، ومن يشتغل بالوطنية، ويبث في نفس الأطفال، ويوضع في نظم التربية والتعليم، كانت نهضتنا جسماً لا روح فيه! إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا ***

يا أيها الأغنياء

يا أيها الأغنياء نشرت سنة 1939 ألم يأنِ لكم أن تخشع قلوبكم، وتلين أفئدتكم أفَقُدّت من حجر؟ ألا تكلفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا صرعى البؤس، وضحايا الفاقة، ماثلين لكم في كل سبيل. فتأخذكم بهم رحمة الإنسان، وتعرو قلوبكم لهم رقّة المؤمن؟ إني لأحاول أن أفهم كيف تزينون لأنفسكم حالكم، وتبررون إهمالكم، فلا أستطيع .... لا أستطيع أن أتخيَّل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صبيته، ويضاحك عياله وعلى عتبة قصره وتحت شبابيكه صبية مثلهم برءاء ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم إثماً، يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين، يتمنون ويتمنى آباؤهم قرشاً من الجنيه الذي يرميه الغني في الهاوية الخضراء التي يسمونها (مائدة القمار) أو يذيبه في كأس السمّ التي يدعونها (الشمبانيا) ثم يخرج جنيهاً غيره بعد لحظة ليتبعه الأول، ويتبع به عشرات ... يتمنون هذا القرش الواحد ليعيشوا به يوماً، ويملؤوا به بطونهم خبزاً، فكيف تضنون على الإنسان المسكين بالقرش، وتنفقون الألوف على الشيطان، وعلى خراب الأبدان والأوطان والأديان؟. إننا نقرأ في الصحف من أنباء أوروبة وأميركة أدت أغنياء القوم لهم مآثر وعطايا ولهم في كل مكرمة السهم الراجح والقِدْح الأعلى، ونسمع فيهم من يعطي العطيّة وهو مستتر مستحٍ لا يحب أن يدعى باسمه، وإنما يتسمى من التواضع والحياء بـ (تفاعل الخير) ... فما لأغنيائنا الذين يقلدونهم في عيونهم ومثالبهم، لا يتشبهون بهم في مزاياهم وفَعالهم؟ وما لأغنيائنا (¬1) دون أهل ¬

_ (¬1) لا أعنيهم جميعاً. وأني لأقر أن في الأغنياء كرماء، وفي المثرين محسنين.

الأرض قد اختصوا (بفضيلة) الترفع عن الفقراء، والتعالي على أبناء هذه الأمة التي منها انحدروا وبفضلها عاشوا، وإنكارها إنكاراً ظنوا معه أنهم من طينة غير طينتها، وأنهم أبناء ماء السماء والناس بنو (ماء الأرض ... ؟). أكانت علّة ذلك أنهم شرقيون، وكان السبب هذا الشرق المظلوم، المتهم بكل نقيصة؟. قد يقول ذلك المفتونون بالغرب من ضعاف الأحلام ومرضى العقول، في حين أن الكرم والإيثار بضاعة شرقية، من الشرق قد صدرت ... ولقد بلغ بالعرب حبّ الكرم مبلغ الإفراط، وزاد حتى كاد ينقلب مذمة يؤخذون بها، فكيف يستقيم في المنطق (مع هذا) أن يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم وهو القانون الأوحد الذي يحلّ مشكلة الغني والفقير، والذي يردّ عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية و (الرأسمالية) ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟. ... لا. ليست الشرقية علّة هذه المشكلة، ولكن العلّة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحّة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب. ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق (¬1) فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأبناء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون لهم كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون ¬

_ (¬1) في مدرسة طارق بن زياد في حيّ التاجرين سنة 1935.

محسورين. فما زلت (والله) بهم أبينّ لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبدالعزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وأنزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزّة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغني واستبدلوا بها عزّة الكرامة وعظمة التواضع!. فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغني وأوهم نفسي أنه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا ... فيا أيها الأغنياء ليتحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فإنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، وحين تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني؟ قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب ... هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى ... رأيته يضنّ على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغذى به، ويشتري بسبعة عشر قرشاً فرنيّة (كاتو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه، كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء

بجيوب (¬1)، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يظن أن المال ماله فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟. المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ إن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع يحسّن لصاحبها كل أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يُكِن من الحر والقر ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو سِمَن يهد الجسم وخمر تحرق الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس وترضي الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدنيا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغبياء من الأغنياء. ... على أنه ليس أشدّ على الفقراء من منع الغني المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره ... إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيّه لا عمل له إلا تشريف أوراق الدولة بتوقيعه الكريم ينال الثمرة التي يتعب فيها الفلاحون، يجدون ويشتغلون في وقدة الضحى تحت الشمس المتسعرة، وفي زمهرير الليل تحت النجوم التي ترتجف أشعتها من البرد، ليقدموا لهذا الموظف الكبير ثمن سيارته التي يسوقها ابنه خلال الحقول تياهاً مستكبراً وقصره الذي ¬

_ (¬1) الجيب فتحة القميص عند الفتق وكلنا نستعمله فيما يفهم الناس.

يلوح بين بيوت القرية كالجبار العابس الباسر، وثمن كأسه المحرّمة ولذاته المنكرة، ويذهبون فيأكلون خبز الشعير وينامون على الحصير. هذا الموظف الذي لا يكفيه وحده ما يدفعه أربعون من صغار (المكلفين) تباع فرشهم من تحتهم وقدورهم وثيابهم لتؤدي من ثمنها الضريبة. هذا الموظف يستعلي ويستكبر ويقبض يده عن الإحسان ويبسطها في سبل السوء، ويتشبه بأولئك الأغنياء الأغبياء وقد يسبقهم في ذلك أشواطاً، ومن كان في شك مما أقول فليذهب إلى القرى والدساكر. ولسنا والله شيوعيين ولا اشتراكيين ولا يرانا الله ندعو إلى هذه اللعنة (الحمراء) ولا نؤلب الناس بعضهم على بعض، ولكنا ندعو إلى (الشعور) الذي لا يكون الإنسان إلا به إنساناً، والإحسان هو شعبة من شعب دين الإسلام ... فمن اختار من الأغنياء وأرباب المرتبات الضخام ألاّ يكون إنساناً ولا مسلماً فليفعل فإن في جهنم مثوىً ومتسعاً للمتكبرين. ***

حق الضيافة

حقّ الضيافة نشرت سنة 1941 قد أكون على موعد يفوتني بفواته خير عظيم، ولا يبقى بيني وبينه إلا مقدار ما ألبس ثيابي وأمشي إليه، فيجيئني ضيف لا حاجة له عندي، ولا خير له في زيارتي، ولا يبتغي مني إلا أن يدفع الملل عن نفسه بالبقاء ساعتين أو ثلاثاً عندي، فيسقط في يدي، وأحار في أمري (¬1): إن استقبلته ضيعت موعدي، وإن رددته أضعت «حق الضيافة» وتعرضت لسوء الأحدوثة؛ ثم أختار أهون الشرين فأرحب به وأدعوه، وآمل أن أفهمه حقيقة حالي وأعجل له بالقهوة فينصرف ... وأجلس بين يديه متململاً متضايقاً، وأتلطف في إفهامه والاعتذار إليه، فلا يحفل بي ولا بموعدي، ولا ينظر إلا إلى نفسه ورغبته في قطع الوقت بهذه الزيارة، فيقعد آمناً مطمئناً، يحدثني حديث السياسة، ويسألني عن الروس واليابان، والصين وتركستان، ويعرض عليَّ رأيه في الأنظمة التي ستعم العالم بعد الحرب ... ويفيض ويسهب، وأنا أتقلّب على النار، ويبقى على ذلك حتى لا يبقى لي منفعة من الذهاب، ولا يمكن تدارك ما فات، فينصرف ليتحدث عني بأني لقيته بجفاء وخشونة، وكلمته باقتضاب وإيجاز، ولم أوفّه «حقوق الضيافة»! وقد أكون مستغرقاً في مطالعة، أو منصرفاً إلى كتابة قد جمعتُ لها ذهني ... فيجيئني ضيف، فأنزل إليه لأسمع منه لغو الحديث، فيتفرق ما اجتمع من ذهني، وتفسد عليّ مطالعتي، وإن أنا بعثت من يقول له: «ليس هنا» أكون قد كذبت، وإذا اعتذرت إليه بمطالعتي أو كتابتي أكون قد قصّرت في «حقوق الضيافة»!. ¬

_ (¬1) كان ذلك من قديم ثم صرت لا أستقبل أحداً إلا بموعد.

وقد يأتي الضيف ومعه ولده، فيعبث بالكراسي والمناضد ويكسر الكأس، وربما أمره أبوه بأن يتسلى باللعب مع أولاد الدار، فينطلق كالجنّ فيفسد كل ما يمر عليه ويزعج الأهل ويأتي كل كريهة، فإذا زجرته أو كففته أو أفهمت أباه أنه ليس من الذوق ولا من التهذيب أن يحمل ابنه -أعني عفريته- إلى بيوت الناس، أكون قد فرطت في «حقوق الضيافة»!. وإن كانت وليمة أو عقد ودعوت عشرين رجلاً، جاؤوك ومعهم عشرون ولداً فتنقلب الدار إلى مدرسة أو إلى مارستان ويتحول المضيف إلى معلم أو قاضي أولاد، وقديماً قال المثل العامي: «قاضي الأولاد شنق نفسه» ... فإذا وقفت على الباب خادماً يمنع دخول الأولاد، غضب الآباء المدعوون، وانصرفوا ساخطين على هذا الذي لا يعرف «حقوق الضيافة»!. وقد يكون لك عدو تعرَّض لك بأنواع الأذى، وأراك فنون العدوان ثم نشأت له حاجة عندك، فزارك في دارك، وأبى أن يشرب قهوتك حتى تقضي حاجته، وربما كانت حاجته أن تنجح ابنه في الامتحان ... فإذا قضيتها خنت أمانتك .. وإن أبيت عليه وأعرضت عنه، وأفهمته أن الامتحان أمانة، وأن ابنه ضعيف كسلان لا يجوز نجاحه، كنت الملوم المعاتب، لأنك لم تحفل «بحقوق الضيافة»!. ... والضيف يزورك حينما يحلو له لا حين يحلو لك، ويبقى ما طاب له البقاء عندك، ولا شأن له بفراغك ولا بشغلك، ولا بضيق وقتك ولا بتعب أهلك ففي الغداة تجوز الزيارة، وفي الضحى وعند الزوال ساعة الغداء وفي الظل وقد الراحة، وفي الأصيل وفي الليل. وقد يصل الزائر هذه الأوقات كلها بعضها ببعض، فيشرفك بزيارته من الصباح ويلبث (يؤنسك) إلى وقت المنام، وقت منامه هو لا منامك أنت، وربما زارك أقرباؤك، أو أقرباء أقربائك بنسائهم ورجالهم وأطفالهم؛ وأقاموا عندك (صلة للرحم) أياماً وليالي، ونغّصوا عليك عيشك، وأفسدوا نظام دارك، وأنت مضطر إلى السكوت لا تستطيع أن تقول

شيئاً يمسّ (حق الضيافة). وربما زارك الزائرون في محل عملك، فشغلوك عنه وأكسبوك غضب رؤسائك، وسخط زملائك. ... ولقد كان الكرم والشجاعة عماد الأخلاق عند العرب وشعارها وجماع أمرها، لمكان البداوة من حياتهم، فقد كانوا يعيشون في قفار قاحلة وقرى كالقفار، لا فندق فيها ولا مطعم ولا خان، وما للنازح فيها عن داره إلا أن ينزل ضيفاً على كريم يؤويه ويقريه، ولم يكن في بلادهم شرطة ولا نيابة ولا سجن فلم يكن للرجل إلا سيفه يعتصم به، فتعودوا الشجاعة والكرم حتى صار ذلك طبعاً لهم وخلقاً، وبالغوا فيهما وجانبوا القصد، فبلغوا التبذير وقاربوا التهور، وكان عذرهم في ذلك أن الرجل منهم يُطعِم حتى يطعَم، ويقري الطارق الغريب كي يُقرَى هو طارقاً غريباً، واستمر ذلك إلى الإسلام بل لقد بولغ فيه بعده حتى أتى القوم بهذه العجائب التي نقرأ أخبارها في الكتب وانتهى ذلك إلينا فنشأنا على تقديس (حق الضيافة) وتقديمه على سائر الحقوق، ورفعه مكاناً علياً لا يناله النقد ولا التقويم، واتهام من يقول فيه مثل مقالتي باللؤم والبخل. لذلك أقدمت عليها متردداً يدفعني إليها أننا في مطلع حياة جديدة يجب في مثلها تمحيص الأخلاق والعادات وتقويمها والإبقاء على النافع منها وطرح ما لا فائدة منه بعد ما تغير الزمان، ولا يكون ذلك إلا بالخروج من ربقة التقليد الذي لا يفيد. ومنه تقليد أجدادنا الأولين في هذا الكرم القبيح الذي ذمه الله وسماه تبذيراً، وجعل أهله إخوان الشياطين، والقصد في الأمر والتوسط فيه، ووضع الأمور في مطارحها ولو أن حاسباً مستقرياً نظر فيما ينفق عندنا في كل سنة على الولائم والأعراس والمآتم من الأموال لهاله الحساب، ولرأى أن هذه الأموال التي تنفق فيما لا طائل تحته، ولا موجب له إلا التقليد الضار،! يمكن أن ينشأ بها من المدارس والمصانع ما يرفع أمتنا درجات في سلم الارتقاء في آن قريب، فضلاً عما يكون فيه من راحة البال، واضطراد الأعمال، ودفع المكاره التي ذكرت أمثلة عليها في مطلع هذا المقال. وإذا كانت هذه الحاجة هي التي علمت أجدادنا هذا الكرم، فان حاجة

تدفعنا إلى الاستمرار عليه؟ وما هو الضرر الذي ينال الضيف إن قلت له: أنا الآن مشغول فزرني إن شئت في وقت آخر؟ ولم تخاف من ذلك وهو من آداب ديننا، وقد كان من خلائقنا قبل أن يتخلق به الإفرنج؟ وماذا يضمر الأهل والأقربين أن يهنئوا بالمولود فلا يشربوا (الكراوية)، وأن يحضروا (العرس) فلا يأكلوا الرز واللحم والبقلاوة، وما هم في صحراء كصحراء العرب يحتاج فيها إلى القرى، ولا هم جياع قد حضروا للطعام، وليس المقصد إلا الاجتماع وقد حصل؟ لقد خبرني صديق صادق مطلع أن نفقات عشر ولائم فقط من أوسط ما يكون في الأعراس أو المآتم تكفي لفتح مدرسة ابتدائية. تتسع لمائتي تلميذ، فما قولك بنفقات الولائم كلها وسكاكر الأعياد وهدايا الولادة والعرس؟ ... أنا لا أرتقب من الأمة أن تقرأ هذه المقالة وتنام ليلتها فتصبح وقد نبذت هذه العادات وحددت آداب الزيارة، وتنكبت سبيل التبذير، فإن هذا ما لا يكون، وإنما أرتقب أن أجد من القراء من وهبه الله الجرأة في الحق، والرغبة في الإصلاح فيسن للناس سنة (في هذا الباب) حسنة يكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما صنع في دمشق شيخها الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله. وعادات الإفرنج في الزيارات والولائم أصلح في الجملة مما نحن عليه اليوم، وتقديرهم للوقت أشد، وهذا كله من آداب الإسلام، والسلف كلهم كانوا على مثله، فلنقتبسه عن الإفرنج إذا كنا لا نتبع فيه سلفنا الصالح، ولنجعل للزيارة آداباً وأوقاتاً، ولنعلم أن (حق الضيافة) لا يقدم على حق المواعيد، ولا حق العمل، ولا حق الأهل؛ وإن ردَّ الضيف أهون من احتمال الأذى، وإخلاص الوعد، وترك العلم، وإضاعة الأشغال ولنجعل إمامنا قول الله جل وعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} صدق الله العظيم. ***

العربية والإسلامية

العربية والإسلاميّة نشرت سنة 1946 سيقول القراء من المصريين: ما العربية وما الإسلامية، وهما شيء واحد؟ ومن قال بالعربية قال بالإسلام؛ لأن العربية لم تكن شيئاً مذكوراً لولا الإسلام. ومن قال بالإسلام قال بالعربية؛ لأن الإسلام دين، نبيُّه عربي، وقرآنه عربي، وقبلته في بلاد العرب. والنداء إلى التوجه إليها بلسان العرب؟! لا يدري القراء من المصريين أن هذا حديث المجالس في الشام والأندية والمدارس، لا يمر يوم دون مناظرة فيه بين الشباب المسلمين الذين يحسبون أن من الإسلام محاربة الفكرة العربية وترك قيادها لغيرهم، والشباب القوميين الذين يظنون أنهم يستطيعون تجريد العربية من الإسلام والدعوة إليها على أنها قومية من القوميات. وكذلك كانت الحال لما كنا ندرّس في مدارس العراق حين اشتدت الدعوة القومية على عهد سامي شوكت (في وكالة وزارة المعارف) واستجاب لها المدرسون خوفاً وطمعاً. ومنهم من استجاب لها عن إيمان بها، ولم يبق ثابتاً على إسلاميته إلا ثلاثة: عبدالمنعم خلاف، ومظهر العظمة، وعلي الطنطاوي، نقلوا جميعاً إلى شمال العراق، إلى مناطق الأكراد. فاستقال الأول وعاد إلى مصر؛ وعاد الثالث إلى الشام بعد شهور؛ وثبت الثاني إلى نهاية حركة رشيد عالي الكيلاني. غير أن الفرق بيننا وبين العراق، أن الدعوة القومية هي الغالبة على شبابه والقوميون الملحدون قلة في الشام. وأكثر أهل الشام يقولون بالإسلام وبالعربية. والكلمتان على لساني أنا وكتاباتي من أكثر من ربع قرن، كالمترادفين؛ أقول الإسلام وأريد العربية، وأكتب العربية وأقصد الإسلام.

لذلك أجهدت ذهني، وكددت فكري، حتى استطعت إدراك جوهر الخلاف بين الفريقين. وما ذاك عن جهل مني بحجج الطرفين وأقوالهما، فلقد حفظتها من كثرة ما سمعتها وناظرت فيها، بل لغموض صورة الدعوة العربية حتى في أذهان أصحابها، وأنهم حين يكتبون فيها، أو يجادلون عنها، يأتون بشيء هو إلى الفلسفة الغامضة، والخطابيات الفارغة، أدنى منه إلى التعريف العلمي الواضح. حتى عند فيلسوفهم ومفكرهم الأول ساطع الحصري. جوهر الخلاف: وجوهر الخلاف إنما كان على بناء الدولة. هل تكون إسلامية، ويكون الإسلام هو الرابطة بين أفرادها فيدخل فيها المسلمون جميعاً ويكونون أمة واحدة، أم تكون عربية، وتكون الرابطة رابطة الجنس، فكل عربي هو منا ولو لم يكن مسلماً، وكل أعجمي ليس منا ولو كان مسلماً؟ أي أن ثمرة الخلاف كما يقول الفقهاء، في العربي غير المسلم، والمسلم غير العربي، أيهما الذي يجب أن نتولاه نحن العرب المسلمين؟ الرابطة الإسلامية أقوى من القومية: والحقيقة، أنه ليس بين الإسلام والعربية تناف ولا تباين، وأن المسلمين أمة واحدة وأنها أشد تماسكاً، وأدنى إلى الوحدة من مجموع العرب، وأن هذا الخلاف ليس له ثمرة، لأن العرب غير المسلمين، عاشوا معنا، وسيعيشون معنا، ما ضقنا بهم ولا ضاقوا بنا، وما ظلمناهم ولا شكوا من ظلمنا، وإن هم ظلمونا وكانوا مع كل عدوّ لنا معه علينا، وأن الشباب المسلمين هم أحق الناس بحمل لواء العربية المسلمة، والدفاع عنها، والعمل على تمجيدها، وفيما يلي تفصيل هذا الإجمال: من الوجهة النظرية: إن في (نظرية الدولة) آراء كثيرة يدرسها طلاب كليات الحقوق أشهرها رأي رينان. ونحن نطبقه على هذا البحث، لا لأننا نجد لزاماً علينا أن نتبع

الغربيين حتماً في مذاهبهم، ونفكر برؤوسهم، بل مجاراة لمن يقول بذلك من الشباب وقلباً لدليلهم عليهم، وإلا فنحن نعلم أن لدينا من رأي الإسلام في إقامة الدولة ما هو أصح من رأي رينان صحة، وأكثر نفعاً لنا، وتحقيقاً لمصلحتنا، وإن كان رأي رينان هذا لا يبعد كثيراً، ولعله أخذه من رأي الإسلام الذي كان على إلمام بأحكامه. الدولة عند رينان لا يبنى على الأرض وحدها، فرب دولة معترف بها تكون أرضها محتلة فيها أعداؤها. ولقد شاهدناها في الحرب الأخيرة دولاً كثيرة بلا أرض، وكان في مصر طائفة منها، كل دولة في جناح من فندق شبرد. ونشاهد الآن دولة عموم فلسطين. ولا تبنى على اللسان فإن أمامنا دولاً فيها أكثر من لسان كسويسرة، ودولاً لها لسان واحد كإنكلترا أو أمريكا؛ ولا على الدين (كما يفهم الغربيون: من حيث هو صلة بين العبد وربه)، فقد تتعدد الأديان في الدولة وتتعدد الدول في الدين، بل على ما سماه (الإرادة المشتركة) فكل كتلة جمع بين أفرادها تاريخ واحد وأمل واحد، وكانت موحيات تاريخها، وكانت مطامحها في مستقبلها، متشابهة في نفوس أفرادها، كانت هذه الكتلة أمة وحق لها أن تنشئ دولة. وشرح هذا المتن الموجز معروف مشهور. فلنبحث عن هذه الإدارة المشتركة في الكتلة العربية وفي الكتلة الإسلامية؟ هل للعرب إرادة مشتركة؟ هل تتحد موحيات الماضي ومطامح المستقبل في نفوس العرب جميعاً؟ إذا قرأت أنا وعربي من جبل لبنان الماروني تاريخ الغزوات الصليبية. فهل يكون أثر هذا التاريخ في نفسي مثل أثره في نفسه؟ هل يطمح مثلي إلى الوحدة، ويشاركني في المثل الأعلى الذي أتمثل المستقبل عليه؟ من الوجهة الواقعية: بل تعالوا ننظر إلى الواقع، هل استطاعت جامعة الدول العربية بعد هذه السنين الطويلة والمحاولات الكثيرة، أن تجد لها هذه (الإرادة المشتركة)؟ الجواب: لا.

من وجهة المصلحة: وقد مضى عهد القوميات وأصبح تاريخاً يدرس في المدارس، وانقسم العالم اليوم إلى قسمين كبيرين مختلفين: قسم في شرق الأرض وقسم في غربها. وما اختلفا في الحقيقة على عقيدة ولا مبدأ! وما اختلفا إلا علينا نحن الأمم الضعيفة. وما استعدا إلا للحرب في سبيلنا أيهما يفوز غنيمة باردة أوسخنة بنا. فهل من المصلحة أن نبقى متفرقين منقسمين أو أن نتحد ونتقارب ونقيم من أنفسنا قسماً ثالثاً محايداً، لا يقاتل على غنيمة ولا يدع أحداً يجعل منه غنيمة؟ وإذا ثبت أن المصلحة في الاتحاد (وذلك ثابت قطعاً) فهل تؤلف كتلة من ثمانين مليوناً مشكوكاً في اتحاد أبنائها في الذكريات والآمال والإرادة العامة؟ أم كتلة من خمسمئة مليون (¬1)؟ هذا ومن المفهوم المعلوم من الدين ومن العقل ومن الماضي بالضرورة أننا لا نتخلى عن هؤلاء العرب غير المسلمين ولا نعدهم غرباء عنا، بل هم إخواننا في العيش ما أحبوا إخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وهذه نصوص ديننا وهذي وقائع تاريخنا، شاهدة على دعوانا. فلا مجال لإثارة العصبيات، والإفساد من الإخوان من هذه الناحية، فلا يطمع في ذلك المفرقون المفسدون .. وبعد فما هي حدود الاتصال بين العربية والإسلامية؟ من الوجهة المبدئية: أما الإسلامية فمعروفة واضحة، وللمسلم تعريف شامل وحدٌّ منطقي، فما هو حد العربي الذي يشمل الأفراد ويخرج الأضداد؟ إني لم أجد لدعاة العربية إلى اليوم هذا التعريف الجامع المانع للعربي. من هو العربي؟ أما من عرفنا من قوميي العراق، فإن العربي عندهم وعند عرب نجد والحجاز هو عربي النسب، أي أنهم على مذهب ¬

_ (¬1) يبلغ المسلمون اليوم ألف مليون.

العنصرية (Racisme) ومقتضى ذلك أن يكون بشار مثلاً شاعراً فارسياً، وابن الرومي شاعراً يونانياً، بل إننا لو ذهبنا هذا المذهب لكان ملك الإنكليز غير إنكليزي. ولكان من الواجب الحجر عليه خلال الحرب الماضية لأنه من رعايا الألمان؟ ومن منا اليوم يستطيع أن يرتفع بنسبه إلى ربيعة أو إلى مضر، أو إلى أي فرع من فروع الشجرة العربية بدليل ثابت لا بمجرد القول والتسامح. وإذا أمكن ذلك فكل من العرب يثبت نسبه على هذا الشكل؟ وأما من عرفنا من قوميي الشام فإن لهم أقوالاً أشهرها أن العربي هو من يتكلم العربية لغة أصلية له، ويعيش في بلاد العرب، ويشارك العرب آمالهم وآلامهم. وهذا التعريف كالنحاس المطلي بالذهب، إن مسسته برفق كان ذهباً له وميضه ولمعانه، ولكنك إن وضعته على المحك خرج نحاساً! لأن من غير العرب الذين عاشوا في بلاد العرب، كالأرمن في الشام والأروام في مصر من ينشئ أولاده على الكلام بالعربية كأهل البلاد من العرب، ثم إنه يعيش بينهم! أما المشاركة في الآمال والآلام فشيء خفي لا يعلمه إلا الله، ولا تظهره إلا التجربة، ولا يصح أن يكون مقياساً منطقياً. وإذا أردنا أن نحصي سكان بلدة ما من العرب، فكيف نقيم الامتحان العام لمعرفة آمالهم وآلامهم وما يشاركون فيه وما يخالفون؟ ثم إن من العرب من يتكلم في بيته تطرفاً أو تقليداً بالفرنسية، ويقيم في غير بلاد العرب، وليس في نفسه أمل لأمته، ولا ألم عليها. لا يهتم إلا بخاصة أمره وجوالب لذته وراحته. فهل نعد هذا من غير العرب؟ وماذا يكون: فرنسياً أو إنكليزياً أو ماذا؟ أما الإسلام فعقيدة يعبر عنها قول معين، وعبادة وخلق، فمن نطق بالكلمة المعبرة عن العقيدة، وأدى فروض هذه العبادة، وتخلق بهذه الأخلاق، فهو واحد من المسلمين، مهما كان لونه وجنسه ولسانه.

من الوجهة الإسلامية: والإسلام لم يكتف بإسقاط الجنسية من حسابه، بل لقد حاربها، ومنع كل دعوة إلى عصبية جنسية أو قبلية، وسماها دعوة الجاهلية. وجاء منذ أربعة عشر قرناً بما انتهى إليه العالم اليوم، حين أسقط حواجز القوميات وأقام كلاً من كتلتيه على عقيدة ومبدأ، فقسم الإسلام الناس إلى قسمين: الذين آمنوا، والذين كفروا. ووجه الخطاب إليهم، بهذا العنوان؛ فكان من الذين آمنوا -وهم أفراد الدولة الإسلامية- رجل رومي (¬1) هو صهيب، ورجل حبشي هو بلال، ورجل فارسي هو سلمان، ثلاثة رموز للدول الكبرى يومئذ. وكان من الذين كفروا العربي القرشي الهاشمي عم محمد وأخو أبيه وابن جده أبو لهب. وكان لهؤلاء الثلاثة منزلة رفيعة في الدولة الإسلامية، فكان بلال وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام (بالأذان) خمس مرات كل يوم. وكان سلمان معدوداً على لسان النبي من أهل بيت النبوة. ونزل في شتم أبي لهب قرآن فنحن نقرأ في صلاتنا ذم أبي لهب. ولكن الإسلام لم يطمس الوقائع التي تجعل للعروبة مكاناً ظاهراً في دولته فالنبي عربي، والعرب قومه ومنهم أصحابه الأولون الذين نشروا الدين، وأبلغوه أهل المشرق والمغرب. والقرآن كتاب عربي، والحج إلى بلد عربي، فكل مسلم مضطر بذلك إلى حب العرب وتقديرهم، وتعلم لسانهم، وزيارة أرضهم. ولولا الإسلام ما انتشرت لغة العرب، ولا أقبل الناس عليها، حتى أن مسلمي الصين اليوم يتكلمون العربية. وعرّب الإسلام آلاف المدن، فهل يستطيع شباب الدعوة العربية اليوم أن يعربوا قرية واحدة تركية أو كردية باسم العربية؟ ولما نقلت إلى شمال العراق: إلى كركوك، كان الطلاب كارهين لدرس العربية ومدرسها لما كان يسوؤهم به من الدعوة إلى القومية العربية وهم أكراد وأتراك. فلما دخلت أحسست هذه الكراهية في نفوسهم، فخطبتهم خطبة قلت ¬

_ (¬1) اشتهر بأنه رومي.

لهم فيها إن العرب كانوا أضل أمة فهداهم الله بهذا الدين الذي نتشرف جميعاً بالانتساب إليه، والذي منع دعوة الجاهلية، وحرم العصبية ... إلى أن قلت لهم: فتعلموا العربية لا من أجل هؤلاء القوميين من العرب، بل من أجل محمد الذي تحبونه، والقرآن الذي تقرؤونه، واللُه الذي تعبدونه. ففاضت العيون بالدمع، وخشعت القلوب، وامحت الكراهية من الوجوه وصار درس العربية أحب الدروس إليهم. وذهبت مرة إلى السليمانية سنة 1938 وهي قصبة الأكراد، فمررت في آخر السهرة على مسجد فيه عين ماء لنشرب منها، وكانت ليلة صيف، وكان معي شباب يجادلونني في العربية والإسلامية، فوجدنا على بساط في أرض الجامع شابين كرديين من طلبة العلم الديني منبطحين على وجهيهما وأمام عيونهما مصباح وكتاب في أصول الفقه، فيه عبارة معقدة، فهما يحاولان فهمها وتفسيرها، ويستعينان بإعرابها ورد ضمائرها إلى مكانها ... فقلت: ألا ترون؟ إن هذين يشتغلان بلغتكم العربية أكثر من اشتغالكم أنتم بها، لأنها عندهما دين، فهل تستطيعون أن تجعلوا فتى كردياً غير متدين يقبل باسم قوميتكم هذه على العربية؟ فسكتوا. من الوجهة التاريخية: ثم إني أحب أن أسأل من هم هؤلاء العرب الذي تفخرون بهم، وتعتزون بأمجادهم. هل هم عرب الجاهلية والعهود التي كانت قبلها، والتي لم يدركها نور التاريخ، ولم يصل إليها علم المؤرخين إلا قليلاً؟ أم عرب دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وهاتين المدن والمدارس والمكتبات والمؤلفات، وذلك العلم والأدب؟ أما الجاهلية، فإنا لا نعرف شاعراً واحداً فيها ذكر العرب أمة، وافتخر بالعروبة جنساً. إنما كان فخر كل شاعر بقبيلته، ببكر أو بتغلب أو بعبس أو بكندة، وهذي هي المعلقات، وهذه أشعار الجاهلية، فهل فيها فخر بالعرب؟

إن الذي جعل العرب كتلة واحدة من الكتل التي اندمجت في الوحدة الإسلامية، هو الإسلام. وكل ما كان للعرب بعد من مجد وعظم وعلم وسلطان وحضارة وفخار إنما صنعه الإسلام، فكيف يتفق في منطق هؤلاء القوميين أن نفخر بالفعل وننكر الفاعل، وأن نمجد أثر الإسلام ولا نقر بالإسلام. يقول بعض المتحمسين من شباب القوميين إن في العرب قوة كامنة انتفضت مرة فكانت الإسلام. وستكون لها انتفاضة جديدة تخرج بمظهر آخر، ولكن لا هم ولا نحن ولا أنتم تعرفون ما هو المظهر الآخر! وهم يعظمون محمداً ويكبرونه، ولكنهم لفرط الحماسة (وحماسة الشباب أحياناً تقوى على حساب العقل) يسيئون إلى محمد الذي يعظمونه ويصمونه بأكبر ما يوصم به رجل وهم لا يشعرون. يصمونه بالكذب: هو يقول لهم إنه رسول من الله، وإن هذا القرآن ليس من عند نفسه، وهم يقولون لا بل إنه هو الذي ألف من عبقريته ونبوغه هذا القرآن. أفرأيت إلى أين تصل حماسة الشباب (وكدت أقول حماقة الشباب) بأصحابها؟ ويأتون بكلام له رنة ودوي كدوي الطبل، وإن كان فارغاً من المعنى فراغ الطبل من الشحم واللحم. يقولون (وهذا شعار حزبهم): أمة واحدة ذات رسالة خالدة. وما زالوا يهتفون بذلك ويرددونه حتى اقتنعوا بأنه من كلام النبوة الأولى مع أنه لامعنى له. لأن العرب كما بينا من قبل، ليسوا بحالهم الحاضرة أمة واحدة، بل المسلمون هم الأمة الواحدة. ولأن هذه الرسالة إن لم تكن الإسلام كانت مجرد كلام. من الوجهة التطبيقية: والقومية (كل قومية في الدنيا) إنما تقوم على دعائم ثلاث: اللغة، والعادات، والتاريخ.

أما اللغة فإنها بعلومها وفنونها، كالفلك الذي يدور على قطب واحد، وقطبها القرآن، وما أنشئت هذه العلوم كلها إلا خدمة له، النحو لمنع اللحن فيه، واللغة لتحقيق عربيته، والبلاغة لإثبات إعجازه، والتفسير لشرح معانيه إلى غير ذلك مما هو معروف. ودعاة الإسلامية كانوا ولا يزالون، وسيكونون أبداً هما أئمة اللغة وفرسان بلاغتها، وأرباب البيان فيها. وما عهدنا للآخرين كاتباً بيّناً ولا راوية ولا عالماً معترفاً بإمامته وتقدمه في علوم اللغة (¬1). وأما العادات العربية (على أنه ينبغي الإبقاء على حسنها، والتخلص من سيئها) فما رأينا في دعاة العربية من يتمسك بها! ولقد رأينا أكثرهم يعيش عيش الإفرنج، ويأخذ أوضاعهم في طعامهم وشرابهم ولباسهم، بل ربما تزوج من نسائهم وكَلّم أهله (طبعاً) بلسانهم. وأما التاريخ فواحد. تاريخ العرب هو تاريخ الإسلام. لو حذفنا منه الإسلام وما نشأ عنه لم يبق للعرب شيء، فالعرب ولد مجدهم وتاريخهم يوم مولد محمد. ... الخلاصة أن العربية والإسلامية كدائرتين: صغيرة وكبيرة، إحداهما وسط الأخرى إلا هلالاً دقيقاً، هو موضع الاختلاف بينهما. أي أن بينهما باصطلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً عاماً إلا من وجه واحد، هو مسألة المليونين من العرب غير المسلمين، والخمسمئة مليون من المسلمين غير العرب، أيهما أحق بأن نتولاه؟ وكل ما يقول به دعاة العربية (فيما عدا إنكار الوحي وقطع الأخوة في الإسلام) يقول به دعاة الإسلامية، بل نحن أحق به وأولى، نحن أعلم بالعربية وبتاريخها وأمجادها، ونحن نعمل أكثر منهم على تمجيدها بالإسلام وإعلاء شأنها، ¬

_ (¬1) إلا أمثال أدونيس وطلطميس وسواهما من تلاميذ إبليس.

ونحن أصدق منهم إن قلنا عن أمة محمد (أمة واحدهم ذات رسالة خالدة). والعجيب أن يظن أحد أننا تخلينا عن القيام بالدعوة إلى العربية، لا ... ما تخلينا عنها ولكن ندعو إليها تحت راية القرآن التي عز بها العرب وشرفوا وصار لهم في التاريخ ذكر، وفي الدنيا مقام. إننا نحب العرب لأنهم قوم محمد، واللسان العربي لأنه لسان القرآن، وموطن العروبة لأن فيه مشاعر الحج والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون من أقطار الأرض، ويدعون إلى الصلاة إليها بلسان العرب الذين نزل بلسانهم القرآن: حي على الصلاة، حي على الفلاح. ولكنا لا ندعو إلى عصبية، ولا نعدل بأخوة الإسلام أخوة. ونحن ندعو إلى الوحدة العربية، لكن على أن تكون طريقاً إلى الوحدة الإسلامية، ولا ننكر إخواننا في الوطن واللسان من النصارى، لكنا نسألهم ألا يطلبوا منا وهم مليونان أن نقطع لأجلهم روابط إخوتنا بخمسمئة مليون مسلم غير عربي، يحبوننا ونحبهم، ويشاركوننا عقائدنا وعبادتنا. ***

عربية إسلامية

عربيّة إسلامية نشرت سنة 1956 دعتني من أشهر جمعية الإصلاح في الكويت إلى إلقاء محاضرات وكانت المحاضرات في بهو صلاح الدين، الذي يتسع لثلاثة آلاف وكان منها محاضرة عنوانها بين العربية والإسلامية، احتشد لها الفريقان: الإسلاميون والقوميون وجمعوا جموعهم، وجاؤوا وعيونهم محمرة، وقد استعدوا للمعركة، والقوميون جميعاً (وتوقعت أنا) الشر، ثم فكرت، وقلت في نفسي -أنا من أكثر من عشرين سنة في معارك متصلة «بين العربية والإسلامية» أجادل القوميين، وأنكر عليهم دعوتهم إلى العربية، وهم يأبون عليَّ دعوتي إلى الإسلام، وكتبت في ذلك ما يجيء إن جمع في كتاب كبير، ولم يخطر لي أن أنظر يوماً في العربية والإسلامية، ما حقيقة أمرهما، وهل بينهما تناقض كالتناقض بين الوجود والعدم، بحيث لا تجتمعان ولا تنعدمان، فلا يكون المرء عربياً مسلماً، ولا يكوسن إلا عربياً أو مسلماً؟. هل بينهما تضاد كالتضاد بين السواد والبياض، بحيث ينعدمان جميعاً، ولكن لا يجتمعان؟ ما حقيقة الصلة بينهما؟. وجعلت هذا موضوع المحاضرة، فلما انتهت نظر كلّ من الفريقين في وجوه الآخرين يفتشون عما كانوا يتوهمونه من العداوة والخلاف فلم يجدوه، وخرجوا كالأخوة المتضامنين. فأحببت أن أعود اليوم إلى هذا الموضوع، رغبة مني في تصحيح رأي الإسلاميين في العربية، والقوميين في الإسلام وفي إحلال السلام بينهما محل هذا الخصام. ***

إنه ليس بن العربية والإسلامية تناقض ولا تضاد، بدليل أني (أنا نفسي) عربي وأني مسلم، وأن الصفتين قد اجتمعتا فيّ، فلو كان بينهما تناقض أو تضاد، لكنت مناقضاً نفسي وهذا محال. وأكثر القراء يجمعون في أنفسهم بين الصفتين فهم عرب، وهم مسلمون. والرسول صلوات الله عليه وصحبه كانوا عرباً وكانوا مسلمين. والقرآن كتاب الإسلام وكتاب العربية، فهو الدين لمن أراد الدين، وهو البيان والبلاغة لمن أراد البلاغة والبيان. وإذا شئت تحديد الرابطة بين العربية والإسلامية، وجدت بينهما باصطلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً من وجه، ولا أحب أن أكون رقيعاً فأخاطب جمهرة القراء باصطلاحات المنطق، بل أحب أن أقرب الأمر إليهم، فأصوره لهم دائرتين كبيرة وصغيرة، والصغيرة وسط الكبيرة، إلا هلال منها خارجاً عنها، فإذا رمزنا بالكبيرة للإسلام، وبالصغيرة للعربية، أن العربية تنطوي في الإسلام إلا جانباً منها، فهناك ما هو عربي إسلامي، وما هو إسلامي غير عربي، وما هو عربي غير إسلامي، وإذا لم يكن بد من الاختلاف والتنازع، فبين المسلم العربي وغير العربي غير المسلم، أما نحن المسلمين العرب، فإننا نناقض أنفسنا حين نفرق بين صفتين قائمتين بنا، ونحن قائمون بها، ونجعل للتناقض سبيلاً إلى الدخول بينهما. والفكرتان من التداخل بحيث لا يكاد يظهر الخلاف بينهما، وبحيث أن أشد الناس بعداً عن الإسلام من غلاة القوميين، أعني من النصارى وممن لا يدين بالإسلام، لا يستطيع أن يجرد العربية من الإسلام، وماذا يبقى له من العربية إذا لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وأتباعه الذين فتحوا الأرض، وشادوا المدائن، وأقاموا هذه الحضارة، وإذا لم يكن فيها القرآن، الذي وضع هذه العلوم كلها. ما الذي يبقى من العربية إن لم يكن فيها محمد والقرآن؟. هل تبقى إلا المعلقات وبطولات حرب البسوس التي لم تزد على (خناقة) في حي، وموقعة ذي قار التي طار العرب فرحاً بها، حين غلبوا فيها فصيلة جند

كسرى؟ وغمدان والخورنق والسرير؟ أين هذا من الحضارة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، والبطولات التي أظهروها، والمجد الذي بنوا، فأرسوا أسسه على الصخر وساموا بشرفاته النجم، وتركوه يزاحم بمنكبه في ميدان الخلود الدهر. إن غير المسلمين من القوميين لا ينكرون، إن الذي أخذ بيد العرب حتى دلهم على طريق المجد، وسلك بهم مسالك الفتح، ووضع في رؤوسهم فكر العالم، وبين أصابعهم قلم الكاتب، وألبسهم تاج السيادة في الدنيا، وأقعدهم مقعد الأستاذية من البشر جميعاً، هو محمد صلى الله عليه وسلم. فلننظر إلى أشد المسلمين بعداً عن العربية، أعني الأعاجم، هل يستطيع أحد منهم أن ينكر أن محمداً عربي، وأن القرآن عربي، وأن الله كان أعلم حيث يجعل رسالته، ولو كان في الأرض أولى بها من العرب لجعلها فيهم، إنه لم يختر لها المتمدينين الذين يعيشون في المدائن في ظلال الإيوان، ولا في القسطنطينية بجوار الأبراج والقباب، ولم يختر لها رجلاً من بلاد الكروم والأعناب، ما اختار إلا هذا الشعب الصحراوي القوي العبقري الذي لم يتعفن برطوبة المدن الموبوءة، ولم يتلوث بأوضار الحضارة المزورة، بل بقي على الفطرة، على خلال الخير وسلائق الطهر، وأنه هو الذي حمل المصباح الذي أوقده محمد عليه الصلاة والسلام، فضوأ به للدنيا كلها طريق الحق والعدل والخير، وأن القرآن الذي يتلونه في صلاتهم عربي، لا يفهم إلا بتعلم العربية، وأن الكعبة التي يتوجهون إليها، ولا يرون أمنية تعدل الحج إليها والتعلق بأستارها، هي بنية عربية في بلدة عربية، وأن الأرض التي انبثق هواءها ووطئ حصاها، ثم ثوي بين أحشائها هي أرض عربية؟. لذلك ترى المسلمين في كل بلد يحبون العربي، ويتبركون به، ولقد رأيت العجائب من ذلك، رأيتها بعيني لما ذهبت إلى باكستان والهند والملايا وأندنوسيا. ولذلك جعل الإسلام كله بلد فتحها، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب بلداً عربياً بلسانه، عربياً بقلبه، وجعل من غير العرب من هم اليوم

أئمتنا وأساتذتنا نحن العرب في لغتنا، في اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وجعل منهم كبار شعرائنا وكتابنا، ولا أحب أن أمثل بأبي عبيدة وسيبويه والزمخشري وبشار وأبي نواس وابن الرومي، فإن المسألة أشهر وأعرف من أن يمثل عليها، وما ثَمّ متعلم إلا وهو يعرفها ويسوق عشرات الأسماء شاهداً عليها. ونحن اليوم لا نرى جماعة من المسلمين إلا وهم يعرفون العربية أو يعرفها علماؤهم على الأقل معرفة فقه بها وفهم لها وتوسع فيها، في الصين وتركستان وبخارى والهند وجاوه. وهذا كله من أثر الإسلام. ... فليس بين العربية والإسلامية ما يدعو إلى هذا الخلاف المستمر بين الدعاة إليهما، إنما الخلاف بيننا وبين من يحاول أن يجعل من القومية ديناً يناوئ به الإسلام، أو يجعل من العربية أخوة يستغني بها عن أخوة الإسلام، يريد أن بفك بأصابعه العقدة التي عقدها الله من فوق سبع سماوات، حين قرر أن المؤمنين أخوة، وأن الأخوّة هي أخوة الإيمان، لا أخوّة اللغة والجنس واللون والبلد. وأن نقطع صلتنا بأربعمائة مليون من إخواننا المسلمين غير العرب لنسترضي بهم مليونين من العرب غير المسلمين، وهؤلاء العرب غير المسلمين عاشوا معنا، راضين عنا، ألفا وثلاثمئة سنة ما قالوا شيئاً، حتى جاءت بدعة القومية، وجاء القوميون منا يقولون عنهم ما لم يقولوا هم أنفسهم. الخلاف بيننا وبين من يخالف أحكام ديننا، وكتاب ربنا. وأذن يكون خلافاً بين كفر وإيمان، لا بين عربية وإسلامية ونحن نأبى الكفر سواء أكان صاحبه أعجمياً أو كان عربياً قرشياً هاشمياً. وكان أول من نبهني إلى هذا الغلو منا في النفور من كل دعوة عربية، خالي الأستاذ محب الدين الخطيب أول دعاة العربية في مطلع هذا القرن، وأول دعاة الإسلام بعد ذلك، وقال لي، إنكم تخليتم عن قيادة الدعوة العربية، وتركتموها لهؤلاء فصبغوها بهذه الصبغة الجاهلية، وأنتم في الحقيقة أهلها وأنتم أحق بها.

وأنا أريد أن نعود إلى حمل لواء العربية، العربية المسلمة، وأن نعيد لها عزها ومجدها، وما عزها ولا مجدها إلا بالإسلام، وأن نكون مسلمين يدعون إلى الإسلام، وأن نكون عرباً نعتز بالعربية، وأن نجمع بينهما في أنفسنا وعلى ألسنتنا وعلى أقلامنا، وأن نعود إلى البيان العربي الذي نزل به القرآن، ونحيي لغة العرب التي جاءت بها الشريعة، وأن نعرف تاريخ العرب لأنه تاريخ الإسلام، وأن نحافظ على علائق العرب وأخلاق العرب التي أقرها وارتضاها الإسلام، وأن نكون مع كل داع إلى هذا قائل به، فإن جاء من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويراه عبقرياً مجرد عبقري، أو يريد أن نقطع حبل الأخوة الذي يربطنا بإخواننا المسلمين، أو أن يحل أخوة الأرض واللغة والجنس والبلد مكان أخوة الإسلام. قلنا له: لا، لا، ولا كرامة، إن الإسلام قبل كل شيء، ولو أعطينا الدنيا بكنوزها وأمجادها ولذاتها، على أن ننزل عن ذرة واحدة من ديننا، لأبيناها وبصقنا عليها احتقاراً لها، لأن الدنيا كلها لا تعدل في نظر المسلم ذرة من الإسلام. ***

في القهوة

في القهوة أذيعت سنة 1958 ليس هذا بالحديث الذي يعلو بسامعيه إلى سماء الفن والعاطفة والفكر ولكنها قصة من قصص البلد، لا ترتفع بهم عن أرض الواقع، إنه مشهد من مشاهد الحياة، وكذلك تكون أحاديث الإذاعة، يوماً من الماضي ويوماً من الحاضر، ومرّة للاستمتاع بجمال الفن، ومرة للعمل على إصلاح المجتمع، ومن لم يجد فيه ما يبتغي، فليرقب آخر فلعلّه الذي كان يريد. وهذه القصة أنه حكم عليّ البارحة بلا ذنب أذنبته، ولا جرم ارتكبته، وأبلغت القرار بنفيي وإبعادي عن الدار، التي أنا (ولا فخر) ربّها وصاحبها، وأنذرت بألا أعود إلا إذا مال ميزان الليل، ودنا السحر، ذلك أن الدار كانت تعجّ بالمدعوّات إلى حفلة نسائية (¬1)، فكأنها الحمام قد انقطع عنه الماء ولو أنه سمح لي لما أطقت البقاء، وكنت امرأ حليف البيت ورفيق الكتاب، أعود إلى بيتي من قبل المغرب، وأن أنا سهرت مرة في الشهر أو الشهرين، فإنما أسهر إلى الساعة العاشرة لا أعدوها، فكيف أمضي أكثر الليل خارج الدار، وإلى أين أذهب؟ حرت في أمري، وضاقت عليّ السبل، ثم أزمعت دخول قهوة من هذه القهوات ... وقصدت قهوة كنت أعرفها، فدخلتها متردداً مستحيياً، أحسب أن عيون الناس كلهم قد توجهت إليّ، وأنظارهم قد انصبت عليّ، أدور بين المجالس أكاد أتعثر بنارجيلة أو سهوة (طربيزة) حتى وجدت صديقاً لي رآني فقام يستقبلني هاشاً باشاً متعجباً، ودعاني فجلست ... ¬

_ (¬1) بمناسبة زواج ابنتي الثانية.

- قال لي: عجباً، أراك في القهوة؟. - قلت: هذا حكم القدر. وضحكت وقصصت عليه القصة، ثم أخذنا نتحدث، فكان عن أيماننا إثنان يلعبان بالنرد (الطاولة) (¬1)، وكلما نقلا حجراً خبطاه خبطاً منكراً، فأحسّ بصوته (طَخّ) كأنه ضربة على رأسي، وعن شمائلنا آخران، يلعبان الورق وحولهما جماعة من الشباب، وكلما ألقى أحدهما ورقة صرخوا صرخة أشعر كأنها تثقب طبلة أذني، ومن ورائنا حلقة فيها نوادر، فكلما جاءت نادرة قهقهوا قهقهة ترج القهوة رجّاً، وخلال ذلك، ترتفع الصيحات (من عاوز ميّ؟) (واحد قهوة مظبوط)، (شاي خفيف)، (هات بصّة)، (نَفَس عجمي لهون)، (عشّي)، (مين بدو عشّي!) والراديو يزلزل الجوّ بأغنية من أغاني فريد الأخرس - عفواً أقصد الأطرش! وما كان ثمّة إلا من ينفخ من فمه أو من أنفه دخاناً، فكل رجل مدخنة، والهواء فاسد مفسد، فما مرّت عليّ عشر دقائق حتى أحسست كأنْ قد دير بي (دخت)، وأن أعصابي قد تحطمت، فقمت لأذهب. قال صاحبي: إلى أين! قلت: إلى حيث ... إلى حيث أجد الهواء، والهدوء، والراحة ... قال: ألا تشرب شيئاً؟ قلت: قد شربت كأس الأذى حتى الثمالة فدعني أخرج، فما بقي بي طاقة على الاحتمال ... قال: أخرج معك. قلت: تفضل. ¬

_ (¬1) وهي حرام كالورق، وكذلك كل لعبة مدارها على الحظ، بخلاف الشطرنج وأمثاله من اللعب التي يكون مدارها على البراعة والمعرفة.

ولما صرنا في الشارع، ونشقت الهواء، واستراحت أذناي، تشهدت وقلت له: هل تجيء القهوة كل يوم؟ قال: كل يوم! قلت: أعوذ بالله. وما تجدون فيها؟ قال: نأكل ونشرب ونلعب ونتسلى مع الإخوان. قلت: ولم؟ أو ليس في دارك ما تأكله وتشربه، أليس لك زوج وأولاد تلاعبهم، وتتسلى بهم؟ قال: طعام القهوة أشهى. قلت: ولم كان أشهى! قال: إن معه الفجل والبصل والنعنع والمخللات والمقبلات. قلت: هذا كله عند الخضري، فلم لا تأتي به إلى الدار، وتأمرهم أن يقدموه إليك مع الطعام؟ وما هو ذنب امرأتك وأولادك حتى تتركهم كل ليلة؟ تهجر بيتك وأنسه وهناءه، وتأوي إلى هذه القهوات التي تصمّ الآذان وتحطم الأعصاب، لا ترجع إلى دارك حتى يكون الأولاد قد ناموا، وربما تأخرت في الصباح فلم تقم من منامك حتى يكونوا قد ذهبوا إلى مدارسهم، فلا يرونك ولا تراهم إلا مرة في الجمعة، فكأن هذه القهوة قد فجعتهم بك، وحرمتهم منك، وصيرتهم أيتاماً وأبوهم حيّ. وتشكو بعد ذلك أن زاغ الأولاد، أو ساءت أخلاقهم، أو فسدت تربيتهم؟ تترك التعب كله للمرأة المسكينة، فلا يكفيها هم الطبخ والنفخ، والكنس والمسح وهمُّ الأولاد واكتنّ (¬1) واهدأ، طول النهار، حتى تهجرها في الليل؟ إن المسكينة لا تصل إلى المساء حتى يكون قد انهد جسمها، وضاق ¬

_ (¬1) اكتن: من العامي الفصيح.

صدرها وطلعت روحها، وهي تأمل أن تجيء لتنفس عنها، فإذا أنت تركض إلى القهوة ... قال: ما هذا يا أستاذ؟ أنت قاض وتقضي عليّ، قبل أن تسمع مني؟ أو تظن أني أفر من الدار لولا أن الدار صارت عليّ جحيماً؟ أو تحسب أن هؤلاء الذين تمتلئ بهم القهوات يتركون بيوتهم لو كانت بيوتهم جنات، وهل يهرب أحد من الجنة؟ إني أكدح النهار كله، أقاسي هم الكسب، ومعاناة الناس، فلا ينتهي النهار حتى يكون قد نفذ صبري، وضاق صدري، فأمشي إلى الدار أرجو أن أجد فيها الأنس والسلام، فلا أجد إلا الحرب والخصام، إن أبدت المرأة للضيوف لطفها ورقتها كان حظي منها غلظتها وشدتها، وإن أرت الأجانب عندما تخرج جمالها، لم أر منها أنا زوجَها إلا قبحها وابتذالها، كان كل خير فيها لغيري وكل شرّ فيها لي، فمن ذلك أفرّ؟ - قلت: لو فررت إلى أنس وطيب لعذرتك، أما هذا المكان الفظيع الشنيع ... - قال: ثق أني لو اضطررت إلى ما هو أفظع وأشنع، لما ترددت في الإقدام عليه على أن أخلص من البيت ونكد البيت. - قلت: عجيب والله، أما أنا فلو دعيت إلى أبهى السهرات، وأعظم الحفلات، لما آثرت ذلك على بيتي. - قال: لعلك مستريح في بيتك فلا تبغي منه بديلاً. - قلت: اي والله، أنا مستريح، ولله الحمد. - قال: أفتظن أن الناس كلهم أمثالك، أو تحسب أن كل أهل كأهلك توفر لزوجها الراحة والهناء. - قلت: وأنت هل تريح امرأتك وتهنيها؟ ألا تشكو هي منك مثل الذي تشكوه أنت منها؟ وإذا كنت تفتقد الحب والعطف، فإن أقرب طريق يوصلك إلى الحب والعطف، أن تبدأ أنت فتحب وتعطف، فهل جربت هذا مرة؟ - قال: وماذا أصنع سألتك بالله؟

- قلت: أن تعرف أن لزوجك عليك حقاً، وإن لولدك عليك حقاً، وأن تؤدي لكل ذي حق حقه. صحيح أنك تروح العشية إلى دارك تعبان ضجران، وأن لك أن تستريح وتهدأ، ولكن لا تنسَ أن المرأة في تعب كتعبك وضجر كضجرك، وأنها ترقب مجيئك لتأنس بك، وتلجأ إلى كنفك، وتتخلص بك من هم العفاريت فاعطها ما تطلب منك تعطك ما ترجوه منها. لا تعطها المال، ولا الهدايا، بل الوجه الطلق، والثغر الباسم، والتحية الحلوة، إنك مهما كنت في تعب، وجاءك ضيف عزيز فإنك تتلقاه بالسلام والابتسام، فلم يكون هذا الضيف أحق ببرّك وخيرك من امرأتك؟ فإذا انتهيت من طعامك، تخيّر لها من حديث يومك، مما رأيت وسمعت ما تملأ به وقتها وتملأ به بالحب قلبها، وهي تحدثك بطريف الحديث، بما يسرّ ويمتع، لا بما يزعج ويغضب، ويحفظ كلٌّ متاعبه ساعةً لنفسه، لا ينفضها في وجه صاحبه من أول لحظة، ولا تقعدا ساكتين كأنكما صنمان في متحف، فإن من آفات الحياة الزوجية أن الزوجين لا يتحدثان إلا قليلاً، لا لأن الأحاديث تنفد وتنتهي، بل لأنهما لا يحفلان الحديث ولا يردانه، والأحاديث لا تنتهي أبداً، والدليل أن الزوجين يكونان جالسين ساكتين فإذا جاءهما قريب أو قريبة تدفق كلاهما بالحديث، واستبقا إليه وتزاحما عليه. ولقد قرأت مرة أن زوجين عجوزين كانا كلما قعدا تهامسا بشيء ثم انطلقا يضحكان، فسئلا من أين يجدا دائماً هذا الكلام المضحك، فقال الرجل: إننا اتفقنا على شيء نقطع به حبل السكوت بيننا، هو أننا إذا لم نجد ما نقوله، همست في أذنها: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة، فقالت: ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة. فنضحك ونجد ما نقول. لا أطلب من الزوجين أن يلتا ويعجنا (¬1) طول الليل، لا، بل بأن يتحدثا ¬

_ (¬1) اللت والعجن: من العامي الفصيح.

ساعة ثم يقبل هو على كتابه أو جريدته وهي على خياطتها وحياكتها. وخير من ذلك، وأجدى، أن يختار الرجل كتاباً من كتب الحديث كرياض الصالحين للنووي أو كتب السيرة أو الأخلاق أو التاريخ، فيقرأ لزوجته وأولاده كل يوم صفحة ويفسّرها لهم، وكلما مرّ أمر بخير تواصوا بالعمل به، وكلما مر نهي عن شرّ تواصوا بالامتناع عنه، فيجتمع لهم من ذلك العلم والعمل والبيان والألفة والسلام. - قال: يا أستاذ، أنت في واد، ونحن في واد، إنك تتكلم بالخيالات كأنك لا تعرف الواقع، ولا تدري ما حال الناس، وهل تظن أن نساءنا عاقلات عالمات يخاطبن بالمنطق، ويقدرن النكتة واللطف، إني أكلمها من الشرق فتجيبني من الغرب، وأسوق إليها النادرة اللطيفة فأرى منها الهجمة العنيفة، قلت لامرأتي إذا قرب موعد رجوعي فاتركي شغل الدار على حاله، فإن شغل الدار لا ينتهي وأكثر الرجال لا يهمهم نظافة أرض الدار بقدر ما تهمهم نظافة وجه المرأة ونظافة لسانها، ولا يبالون بحسن الطبخ قدر ما يبالون بحسن الخلق، والبسي خير ثيابك وألبسة الأولاد، وأعدي لزوجك ما يريد، هيئي المائدة ورتبي له المكان على النحو الذي يعجبه ويرضاه، واستقبليه بالبشر والعناية، والابتسام والرضا فيلقاك بمثل ذلك، ولو كان الرجل أغلظ الناس، لما استطاع أن يقابل هذا الخير إلا بخير منه أو بمثله. ولتثق المرأة أن الرجل إذا استراح في بيته لم يفكر في قهوة ولا ملهى ولو أن كل رجل وجد في بيته الراحة والأنس لأقفرت القهوات وأغلقت أبوابها فالذنب كله ذنب المرأة، هي التي تكرّه الدار إلى الزوج، وتحبب إليه السهر فتجني عليه وعلى نفسها. - قلت: أما أنا فأرى أن الصلاح من الرجل، والفساد من الرجل، ونساؤنا خاصة من خير نساء الأمم، وأطوعهن وأخلصهن، ولكن الرجال لا يعرفون كيف يستفيدون من طبيعة الخير فيهن، الرجل هو المسؤول، الأب أولاً والزوج ثانياً، وعليه أن يبدأ هو بإصلاح ما أفسد.

- قال: إنك تظلم الرجال، إن البلاء كله من النساء. ... وبعد فلقد دخلت كثيراً من بلاد الله، فلم أجد في بلد ما نراه في بلادنا العربية، من هذه القهوات، التي يجتمعن فيها الآلاف المؤلفة من البشر يقعدون يمضون الساعات الطوال لا يعملون شيئاً، لا يستفيدون ولا يفيدون، يسيئون إلى صحة أجسادهم، وإلى عواطف زوجاتهم، وإلى تربية أولادهم، ويسيئون إلى أمتهم وبلادهم، هذه الأمة التي هبت اليوم تجدد بناء مجدها، وتستعيد في الأرض مكانها، ولها في عنق كل ابن من أبنائها ألّا يضيع ساعة من وقته، ولا ذرة من جهده، إلا في العمل لها. فمن المسؤول عن خراب البيوت، وإضاعة الأوقات، وإفساد الأولاد، النساء كما يقول صاحبي، أم الرجال؟ فكّروا أيها القراء! ***

أسئلة

أسئلة نشرت سنة 1947 كان حديثَ الناس في الأسبوع الذي مضى، وحديثَ الصحف، هذه الـ (أربعون ألف جنيه) التي تبرع بها البدراوي باشا وشهد عليه بها الشهود، وجاءته عليها رسائل الشكر وبرقيات التهاني، حتى إذا شبع من الثناء، وروي من المدح، وانتشى من الفخر، ونال ما كان يريده من تبرعه، ولم يبق من ورائه غنم يناله، ما بقي إلا الغرم بالـ (أربعين ألف جنيه) عاد فجحد قوله، وأنكر هبته، وطعن على الشهود، وكذب الناقلين، فعاد المهنئون له يعزونه، والمادحون إياه يهجونه، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيه، والنيل منه، وأذهب هذا القدح لذة المدح الأول، اشتاق إليه لما فقده، ولكن عزّ عليه أن يشتريه بـ (أربعين ألف جنيه)، وأن يؤديها كاملة فيكذب نفسه، ويثبت قول من شهد عليه، فافتداها بعشرة آلاف رفعها إلى السدة الملكية، فردتها عليه، ولم تقبلها منه. وقالوا، إنه سيدعى الشعب إلى اكتتاب عام يشترك فيه الغني والفقير، يحقق به ما كان التبرع له، وهو إنشاء معمل للّقاح، يقي الناس من هذا الوباء الذي يحصد بمنجله النفوس، ويقطع الأعناق، ويودي بالأسر. ... انتهيت من قراءة هذا الخبر، فنشأت في نفسي أسئلة كثيرة، أحببت إذاعتها لأني أتمنى أن أجد مجيباً عليها: أولها: السؤال عن هذا التفاوت العجيب بين الناس الذي صار شعار الحياة المصرية، وآيتها ... من أين جاء؟ وكيف تركه العلماء والمصلحون وأصحاب الرأي، وذوو السلطان، ينمو ويمتد حتى يصير كالدوحة العظيمة، ولم يقطعوه وهو بعد غصن طري؟

وكيف انتهت الحال إلى أن يكون في مصر نفر من المصريين والأجانب اجتمعت في أيديهم الملايين، وملايين من المصريين دون الأجانب فرغت أيديهم من كل شيء. وكيف امتد هذا التفاوت إلى غير المال؛ فكان في مصر نفر هم أكابر أدباء العربية، ونفر هم أئمة علماء الإسلام، ونفر هم أعلام الفلسفة والحقوق وعلوم الطبيعة، وجماهير لا تحصى، (إلا في دفاتر الإحصاء عند الحكومة)، لا تعرف من العربية ولا من الإسلام ولا من هذه العلوم شيئاً، بل هي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وصارت مصر بحيث لو ذهب منها مئتا رجل فقط، من عشرين مليوناً صارت زعامة مصر الثقافية، بين الأقطار العربية، خبراً بعد عين. وكان في مصر، بل في القاهرة نفسها العمارة التي تشتمل على خمس عشرة طبقة، والأكواخ التي لا شباك لها ولا ماء فيها ولا مرحاض، وفيها أفخم السيارات تسير بجانب عربات الكارو، تحمل أهل القاهرة من حي إلى حي، وفيها شارع فؤاد وشارع سليمان، وفيها الزمالك وجاردن سيتي، وفيها مقابل ذلك زين العابدين والدراسة وبولاق، وفيها فندق شبرد ووراء حديقته أزقة مسدودة لا تراها الشمس، ولا يمر منها الهواء، ولا ينيرها الكهرباء، ولا تعرف الطريق إليها مصلحة التنظيم .. إن الناس يتفاوتون في بلدنا، وفي بلاد الناس كلها، ففيهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، وعندنا العمارات الكبيرة، والدور الحقيرة، ولكن المسافة بين عالينا ونازلنا قصيرة متحملة فليس في دمشق كلها عمارة كالـ (ايموبليا) ولا كنصفها، إن أعلى عمارة فيها في ست طبقات، ولكن ليس في دمشق أيضاً، بيوت كبيوت مصر القديمة أو عشش الترجمان .. وعندنا فقراء، ولكن فقراءنا لهم ثياب نظيفة تسترهم، وأحذية تحملهم، وبيوت تكنهم، وعندنا مالكون للأرض، ولكن الناس يملكون معهم، ليسوا عبيداً لهم، ولا أجراء عندهم، ما عندنا هذه (الإقطاعية ...) إلا في حماة وأمثالها، وهي مناطق محدودة، وسائر الأرض مقسمة بين الناس، يملك الواحد

منهم ربع الفدان فما فوقه، ولا يرى نفسه دون مالك الآلاف، ولا يذر له ولا يرى له عليه فضلاً. لذلك يعجب الشامي عندما يقدم مصر، ويرى هذا التفاوت فيها، ويسأل من أين جاء؟ وثانيها: السؤال عن الكتاب والعلماء، لماذا لا يدعون إلى تخليص البلد من هذا الداء العياء، وتعديل كفتي الميزان وتحقيق طبيعة العرب في المساواة، ومقصد الإسلام في العدالة لا أريد المساواة المطلقة التي لا تبقي غنياً ولا فقيراً، فهذا ما لا يكون ولا ترضاه سنن الكون، ولا طبائع الأشياء. لا يكون إلا في أذهان الفلاسفة والشعراء، وأصحاب الأغراض من الدعاة، يشعبذون به على الناس، ويتخذونه سلماً إلى غاياتهم، ووسيلة إلى أغراضهم، ولكن أريد المساواة المعقولة، التي لا ينزل بها إنسان إلى منزلة البهيمية في طعامه وشرابه ومسكنه، ولا يرتقي إنسان إلى الألوهية، يدعيها كذباً وبهتاناً كما ادعاها فرعون من قبل وأن يكفل لكل مصري (مهما كانت مهنته، وكان عمله) طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه، كما يليق بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، وأن لا يترك في مصر رجل واحد، يعيش كما تعيش السائمة، يأكل قريباً من طعامها، وينام مثل منامها، في الطرقات، والحقول، وعلى الأرصفة، وفي الأكواخ؛ وأناس يطعمون كلابهم الشكولاتة، وينفقون أموالهم في المراقص، ويذيبون ذهبهم في الكؤوس. فماذا يصنع العلماء والكتاب؟ وثالثها: السؤال ... إذا كان يجوز لمثلي السؤال، عن الحكومة ما لها تقر هذه الحال، في كثير من قوانينها وأنظمتها، فتجعل المدارس الأولية متفاوتة الدرجات، ولا تسوق ابن الغني وابن الفقير بعصا واحدة، وتحشرهم في مدرسة واحدة، كما تفعل وزارة معارفنا في الشام؛ وما لها تعنى بالمشروعات الضخمة الكمالية، قبل إتمام الضروري كأن القصد تنويع الحلوى للأغنياء، قبل تقديم الخبز للفقراء؟!

وما لها لا تضع، ثانياً، القوانين التي تؤدي إلى إبطال هذا التفاوت، وإلى رفع المنخفض وخفض المرتفع، حتى تقترب الدرجتان، وتتدانى كفّتا الميزان، فتعمل بالإسلام في أخذ الزكاة من الأغنياء وردها على الفقراء، وحينئذ تأخذ هذه الـ (أربعين ألف جنيه) قسراً بلا رجاء ولا شكر، أو تعمل عمل الأمم الغربية، فتكثر الضرائب على الدخل وعلى المواريث وتشرف على المعامل والشركات والمصارف، ويكون لها الرأي في كل ما يمس المصلحة العامة وهذه (اشتراكية) ليست من مبادئ الإسلام، ولكنه لا يمنعها إن دعت إليها ضرورة، والضرورات لها أحكام، وتعريف الضرورة وأحكامها، مبين في كتب الفقه ليس هذا موضع بيانه. ورابعها: سؤال عقلاء مصر وقادتها، ألا تخافون أن تأتيكم هذه الحال بالشيوعية؟ ألا ترون بوادرها؟ ألا تعرفون أخطارها؟ ألا تقدرون أضرارها؟ فلماذا تلبثون نائمين ولهيب النار يقترب من منازلكم، فلا يلبث أن يشعلها عليكم، فيجعلكم فيها كالمجوس في الجحيم؟ إن الناس لا يقبلون على الشيوعية عن معرفة بها، ولا عن حب لها، ولكن دعاتها رأوا ما هم فيه، وعلموا أنهم يتمنون أن يجدوا الخلاص منه ولو على يد الشيطان فأوهموهم أن الشيوعية هي سبيل الخلاص، وأنها طريق السعادة وأنهم إن كانوا دعاتها ملكوا بها قصور الأغنياء، وحقولهم وسياراتهم، فلذلك تعصبوا لها ولا يدرون ماذا فيها، فهم منا كما قال عبدالله بن عمر، لمن لامه على ترك مؤازرة ابن الزبير في دعوته إلى الإصلاح: أرأيت بغلات معاوية الشهب اللائي يحج عليهن؟ قال: نعم. قال: ذلك ما يريد ابن الزبيري! إنهم يئسوا منكم ومن دينكم، فأروهم أنكم معنيّون بهم، وأن دينكم لا يرضى ما هم فيه. إن الإسلام دين العدالة، دين المساواة، دين الخير، أفنرضى أن يستعبد بعض الناس بعضاً في قرن العشرين الميلادي، وقد أنكر ذلك عمر في القرن الأول الهجري؟

فلماذا لا تأتونهم بحق الإسلام، لتخلصوهم به من باطل الشيوعية؟ أما والله إذا صار هذا البلد (لا سمح الله ولن يسمح) شيوعياً، فأنتم يا أيها العقلاء، ويا قادة الرأي، المذنبون، لا العامة ولا الدهماء ولا الأغرار من الشباب! وخامسها: سؤال المصريين جميعاً، ألم يروا هؤلاء الأجانب، أصحاب المتاجر والمعامل والمصارف لم تمتد يد منهم بقرش لرد هذا الوباء، ومساعدة المنكوبين به، ورفع البيوت التي هدمها، وإطعام الأطفال التي يتمها، والنساء اللاتي أيّمها؟ ألم يئن لهم أن يتنبهوا إلى أنهم أحق بخيرات بلادهم؟ لا بالنهب والسلب والثورة وأخذ المال من أصحابه، لا، ما ذلك أردت، ولا يريد هذا عاقل، بل بأن تطرحوا عنكم ثوب الكسل، وتشمروا عن ساق العمل وتنزلوا للميدان؛ وتتعلموا حب المال، والرغبة في الأسفار، وتتقنوا فن الاقتصاد، وصيد الدراهم، والتعاون على الكسب. بذلك تخلص إخوانكم الشاميون من سيطرة الأجانب، وأنقذوا بلادهم منهم، ثم ذهبوا فغزوهم في بلادهم، وانتزعوا أموالهم من أكفهم، وزاحموهم، في مانشستر ونيويورك وبونس ايرس والكونغو وبومباي وطوكيو، وكل بلد في الدنيا، ما خلت مدينة من تجار الشام. إن بعض العراقيين يقولون مازحين: إن الشاميين يهود العرب يهود العرب .. طيب والله! .. وهل نقاوم اليهود إلا بهذا؟ بارك الله في تجار الشام - وإن كنت (أشهد الله) أكره نفراً منهم، لما رأيت من طمعهم وجشع نفوسهم. وأتمنى أن أشد أصابعي على أعناق أغنياء الحرب منهم، ولكن الحق أحق أن يقال، ولا تنجح أمة إلا بأمثال هؤلاء التجار. هؤلاء الذين يشيدون مجدها، ويثبتون بناءها، ويحفظون مالها. فمتى يكون المصريون مثل هؤلاء؟ ومتى أجيء مصر، فلا أرى فيها إلا لوحة عربية باسم عربي، على مؤسسة عربية؟! يا مصر، هذا هو الطريق! وهذا والله كلام صديق! ***

أسلوب جديد في التعليم

أسلوب جديد في التعليم نشرت سنة 1946 لي أخ (¬1) كان كلما غشي المدرسة الثانوية رق جسمه ونحل، وعراه ذبول، فأعفيته منها وأبقيته في الدار سنوات ثلاثاً لم ألزمه فيها مطالعة شيء من دروس المدرسة وإنما كنت أدله على بعض كتب الأدب والتاريخ مما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، وما تجزل فائدته وتعظم المنفعة به، فقرأ فيما قرأ تاريخ الطبري كله والأغاني ... فلما أزف موعد امتحان الكفاءة منذ سنتين قلت له: لو دخلت هذا الامتحان معه رفاقك فلعل الله يكتب لك النجاح. فأطاعني واستعد للامتحان شهراً واحداً ثم دخله فكان من الناجحين، على رغم أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث، وعاد إلى مثل ما كان عليه، حتى كان امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) هذه السنة، فدخله كما دخل الأول ونجح فيه أيضاً. هذا النجاح الغريب دفعني إلى التفكير في الموضوع الذي أكتبه اليوم، وجعلني أسال نفسي فأطيل سؤالها: ألا يمكن أن نسهل للطلاب هذه الدراسة؟ وإذا كانت هذه الغاية وهي شهادة الكفاءة (والصحيح أن تسمى شهادة الكفاية) تدرك بمسيرة شهر واحد في طريق سهل لاحبٍ، فعلام نمشي إليها ثلاث سنين في طرق صعبة معوجة من ينقطع فيها أكثر ممن يبلغ آخرها؟ أليس لنا بدّ من أن نضيع زهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم ما لا يكاد ينفعهم في حَيَواتهم، إذا هم خرجوا منها، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعده بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد، وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه ونعفيه من علوم يكرهها ولا يعتقد فائدتها له في حياته؟ فقالت النفس: لقد أقمت بناءك على غير أساس، وجعلت من هذه ¬

_ (¬1) هو أخي الأصغر الشيخ محمد سعيد الطنطاوي.

الشاذة قاعدة، وأصّلت عليها أصلاً. إن أخاك هذا وإن أخذ الشهادة فليس له علم من درس يوماً بيوم، وسار على الجادة خطوة فخطوة، ولم يقفز من فوق الأسطحة ولم يتسور الجدران، وهذه العلوم كلها لازمة لا استغناء عنها، وأسلوب التعليم صالح لا داعي لتبديله. فرجعتني والله إلى الشك وكدت أدع الموضوع. ثم فكرت فرأيت أن لكل عمل نتيجة، ولكل مسير غاية، والغاية من المدرسة إما أن تكون الشهادة أو العلم أو الإعداد لخوض لجَّة الحياة والنضال عليها. أما الشهادة فلا بحث فيها لأنها عرض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها لا يصح الوقوف عليها، ولا القناعة بها؛ وهي بعد كاسمها (شهادة) قد كون مزكاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها، وتمنح من ليس من مستحقيها. وما ينفع الفقير المفلس أن يشهد له الناس جميعاً بأنه الغني ذو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟ أما العلم فاسألوا المتعلمين ماذا بقي لهم من دروس الثانوية، بل تعالوا أحدثكم ما جربته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي، ولقد كنت في دراستي الثانوية مجلياً دائماً أو مصلياً، ولم أكن فسكلاً (¬1)، ولقد اشتغلت بالتعليم الأولي والابتدائي والثانوي، الأهلي والرسمي والديني، أربع عشرة سنة، قبل أن أليَ القضاء، في مدارس الشام والعراق ولبنان، وعرفت الآلاف من الطلاب. وأقل ما أستفيده من هذا أني إذا تكلمت أتكلم عن خبرة واطلاع. أقول: إني وجدت بالتجربة أنه لم يبق عندي الآن مما أمضيت في تعلمه السنين الطوال، إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (لا الطَّبَعية كما يقول بعضهم ...) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً. أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها. ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات (مثلاً) لأجَبْت صادقاً أني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتجيب (تمام الجيب) والمماس. لا أعرف ما هو على التحقيق، حتى موضوع العلم على وجه التحديد فقد نسيته، مع أن علامتي في السنة التي قرأنا فيها ¬

_ (¬1) هو آخر خيول السباق.

المثلثات كانت تسعاً من عشر وكنت المجلّى (الأول) في صفِّي (أي فصْلي). أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها إلا أن فيها شيئاً اسمه (الميتان) وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولد الماء، أي الهيدروجين، وقد درست جغرافية بلاد الدنيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، وكنت مع ذلك كلما سمعت باسم مدينة جديدة يأتي في أخبار الحرب أجدني أجهل مكانها، وأذهب فأسأل عنها الكتب والمصورات أستوي في ذلك أنا ومن لم يقرأ الجغرافية قط (¬1). وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم لا يستقرّ في رؤوسهم إلا ما يختصون به أنفسهم، وإلّا خلاصات موجزة، أفما كان خيراً لهم لو أقرأناهم هذه الخلاصات من الأصل؟ ولست أقول، دعوا هذه العلوم لا تقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سرّ ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح، وفقد المخترع والباحث. ولو أنا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين أو ثلاثة فإذا أحسنوها شرعوا بغيرها لكان أجدى علينا. فمدارسنا إذاً لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العملية هل تبلغنا إياها؟ هل تعد مدارسنا التلاميذ إعداداً جيداً للنجاح في الحياة وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان الديني والقومي؟ الجواب مشاهد ملموس هو أن مدارسنا لا (تكاد) تخرج اليوم إلا أطباء أو محامين أو موظفين. أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين ولا ينبغي أن يتسع لهم. أما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلّهم يقتنع بالكسب القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم ... ممن لم تخرجهم المدارس بل خرَّجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى، ولا نستطيع أن نَغْلُوَ فنقول بأن خريجي المدارس يمتازون من الناس بأخلاقهم الشخصية ¬

_ (¬1) والأستاذ أنستاس الكرملي يرى أن تسمى الجغرافية علم (التفريع)، من قولهم فرع الأرض ...

والاجتماعية، أو أن المدارس جعلتهم طبقة مختارة ممتازة من طبقات الشعب، بل إنهم كغيرهم من الناس، منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم من هو بين ذلك! والسبب في هذا كله أن نظام التعليم في بلادنا كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح ولكنهم لا يجرؤون على هدمه من أساسه وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحّي نافع. إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا من دراسة المثلثات والهندسة النظرية و (حفظ) معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء أو في تدريس الأدب أوفي فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟ سيقول قائل، ومن كان يدري أنك ستكون أديباً أو قاضياً، فأما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً؟ بلى، ولكن الدراسة العالية حددت طريقي في الحياة، فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟ هذه هي المسالة، كما يقول شكسبير. إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها ثقافة عامة هي بمكان المقدمة إليها والتمهيد لها، أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق مثلاً، من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ أو لا يجزئه ويكفيه أن يعرف عنها الشيء المجمل المختصر؟ وطالب الطب هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفته بعلل الشعر واختلافات الكوفيين والبصريين؟ لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً من المشتقات ولا تحول التابع ولا صفات البروم، وشاهدنا أطباء كباراً استطاعوا أن يعملوا عمليات في شق البطن وفتح الجمجمة، على جهلهم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وشروط عمل اسم الفاعل. ... فما العمل؟ أنا أرى، إذا كان في الدنيا من يسمع رأيي، أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام

ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه عن الحرام؛ ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغنى عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لا بد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي (¬1) وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل. فإذا تخرج الطالب منها عرضنا عليه فروع الجامعة، فإذا اختار فرعاً منها حضرناه له في سنتين أو ثلاث، علمناه فيها ما يتصل به، فيكون في كل كلية قسم تحضيري فيه من العلوم ما يحتاجه طالبها، فيتلقاها الطالب برغبة فيها وحب لها لأنه هو الذي اختارها، ووافقت هواه، وظهر له النفع منها، وينجو بذلك من خلق شاعراً من حفظ طلاسم الرياضيات، أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو من بعد لا يحتاج إليها أبداً، ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه مع اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطاع الاستفادة منه في تقوية الأجسام بالرياضة، ومعرفة الوطن بالسياحات، والعناية بالتربية الخلقية والوطنية ... ومن شاء بعدُ الاكتفاء بالدراسة الثانوية ودخول معركة الحياة لم نسلبه وقته ¬

_ (¬1) وهنا مسألة مهمة جداً لا أعلم أحداً نبه عليها أو انتبه لها، هي أن تاريخنا السياسي الذي يدرس الآن في مدارسنا سلسلة فضائح من انقسام إلى ثورات إلى قتل إلى استبداد. حاله في ذلك كحال تواريخ الأمم كلها، وإذا استثنيت أمثال العمرين وثالثهما ابن عبدالعزيز ونورالدين وصلاح الدين لم نكد نجد من الملوك من تصلح سيرته لتكون قدوة، والتاريخ العظيم الذي يجب تدريسه هو تاريخنا العلمي الفياض بالمكارم والمفاخر، ولذلك عني علماؤنا بتراجم الأفذاذ أكثر من عنايتهم بالتاريخ العام. ومن العلماء من أثر في عصره أبلغ الأثر حتى وجب أن ننسب العصر إليه لا إلى خليفة الوقت كأحمد بن حنبل والغزالي وابن تيميه. هذا بعد أن يدرس كل تلميذ تاريخ بلده الذي يعيش فيه. وإن من أقبح العيب ألا يعرف الطالب العربي أين تقع سر من رأى وماذا فيها الآن، وإلام صارت الكوفة، وأن يعرف التلميذ الدمشقي تاريخ الثورة الفرنسية قبل أن يعرف من بنى القلعة وكم مرة احترق الأموي وأين أبواب دمشق ومن أنشأ حي الصالحية.

وسلحناه بثقافة عامة يعلو بها مستوى السوقة وأصحاب المهن، ومن أراد التخصص فتحنا له بابه، وعجلنا له دخوله وقويناه فيه. وهذا إيجاز للاقتراح والشرح حاضر إن احتاج إليه القراء. أما التعليم الديني فلنعد فيه إلى مثل الطريقة الأزهرية الأولى مع إصلاح يسير فيها، فقد ثبت أنها أنفع وأجدى، دنيا وأخرى، وأن تلك الثورة عليها حتى تم العدول عنها، والقضاء على الجامعة الأزهرية، كان فيها إغراق أدركناه الآن. وأنا أعرف الأزهر الجديد وأعرف كليات ثلاثاً أنشئت على غراره في دمشق وبغداد وبيروت علَّمت فيها كلها، وأشهد لله شهادة حق أن الأزهر القديم كان في الجملة خيراً منها، إذ كان أهله يطلبون العلم لله وللعلم فصار أهلها يطلبونه للشهادات والوظائف، وكانوا يصبرون على تلك الحواشي المطولات وإن تكن عقيمات، فصار هؤلاء لا يقرؤون إلا خلاصات يجوزون بها الامتحانات. وكانوا علماء عاملين لدينهم أهل تقى وورع في سمتهم وسلوكهم، وسرهم وعلنهم، فصار بعض المدرسين وأكثر التلاميذ ... صاروا على حال من عرفها فقد عرفها ومن جهلها فلا يسأل عن الخبر. وأنا لا أعمم ولا أطلق القول، وإنما أعني الكثرة ممن أعرف، ولعل فيمن لم أتشرف بمعرفته خيراً لم يصل إليّ علمه ولا بلغني خبره - هذا على أن تكون المدارس الدينية بمثابة مدارس الاختصاص لا يدخلها الطالب إلا بعد أن يدرس هذه الدراسة الثانوية ويفهم علومها ويأخذ شهادتها. لأنها ثقافة عامة يحتاج إليها عالم الدين وعالم الدنيا والموظف وصاحب العمل الحرّ. ... ولا بأس بعدُ بارتياد مناهل العلم في غير بلادنا! على أن يطلب فيها العلم المبني على المشاهدة. أما علوم الرواية وما أصوله عندنا، كعلوم العربية فلا، وهذه الحماقة التي كان أتاها الفرنسيون إذ أرسلوا شبابنا يتعلمون العربية في باريس لا يجوز أن تعاد، وحسبنا أن صلينا نحن نارها، وتجرعنا صابها، (ولا نزال نتجرعه ...) وأن أضحكنا الناس علينا، وزدنا طلابنا على ضعفهم

في لغتنا ضعفاً. وعلى أن نختار الطلاب الموفدين من ذوي الدين والخلق المتين، وأن نرسل معهم من الأساتذة الكهول المتزوجين، مراقبين ومرشدين. ... هذه كلمة صغيرة في موضوع كبير، أعرف أنها تثير مناقشات وتحتمل جدالاً، وأنها لم تلم بأطراف الموضوع ولم تستوف البحث فيه وإنما هي تنبيه إلى فساد، ودعوة إلى إصلاح. ***

مناظرة هادئة

مناظرة هادئة نشرت سنة 6419 نحن معشر الرجعيين ... لا نرى قتال المرأة ولا نزالها، ونجد ذلك قادحاً بالرجولة، ونعد ذنب المرأة مغفوراً وجنايتها جُباراً، ولكن آراء الرجعيين الجامدين من أمثالي ... صارت أثراً عتيقاً من آثار القرن الماضي لا تصلح إلا لدار الآثار ... وقد تغيرت الدنيا وأهلها، وأصبح من أشد ما تأباه المرأة (أو السيدة، إذا شئت الأدب في الخطاب) وتنكره وتراه هواناً لها ونزولاً بها عن منزلتها أن تترفق بها لأنها امرأة وغدت تريد أن تكافح الرجل وتنازله لا ترى نفسها أصغر من أن تغلبه، ولا تجده أكبر من أن ينهزم أمامها، فعلى هذا، وإكراماً للسيدة الجديدة، ومجاراة في مذهبها، ووفاء بحق هذه الأمانة، أمانة (القلم) الذي منّ الله به عليّ وجعلني من أهله لأضرب به في كل ميدان إصلاح، وأقرع به كل معالم الفساد، لا تمنعني من ذلك رهبة عدوّ، ولا رغبة في مودة صديق ... لهذا كله أعرض اليوم عرضاً إلى هذه (النهضة النسائية) التي أصبح الكلام فيها واجباً وجوب عين، فعفوَكنٌ -يا سيداتي- فأنتن أردتنٌ هذا، وإنه لا يزعجكن -فيما أظن- الكلام في هذه النهضة، لأنها ليست من الضعف (في رأيكن) ومن الوهن بحيث تنهدم من ضربة، وتطير من نفخة، ثم إني كتبت مجيباً لا مبتدئاً، ومنتصفاً ولا معتدياً ... ولا بدّ لي قبلُ من ذكر مقالتي (دفاع عن الفضيلة) (¬1)، لأن هذا الفصل كالتعليق عليها، ولولا الحياء وخوفي من أن أوصف بالغرور، وبأني ممن يحرص على (صيد) الفرص، لينوّه باسم نفسه ويزكيها، لقلت: إنه قلما تصيب مقالة ¬

_ (¬1) صفحة (88) من هذا الكتاب.

من النجاح الصحفي ما أصابت هذه المقالة (في بلاد الشام)، فقد نفدَتْ نسخ «الرسالة» كلها في ساعات من نهار، حتى صارت النسخة تطلب بأضعاف ثمنها فلا توجد، وقرأ كل نسخة -فيما أقدِّر- أكثر من خمسة، ومن القراء من أخبرني أنه كان يعقد لها المجالس ليتلوها فيها كما تتلى المحاضرات، وسُرَّ بالمقالة جمهور من الناس ودعا لي من أجلها وأثنى عليّ وهنأني، وغضب منها جمهور من الناس ودعا عليّ وشتمني ولعنني، ورأى فيها إخواننا الرجعيون الخيّرون أنصار الفضيلة ترجمة آرائهم ولسان أفكارهم، ورأى فيها المجددون تجديد الباطل، المجردون أنفسهم وأهليهم من ثياب الستر، المبددون تراث الأجداد الماجد الثمين، سدّاً في طريقهم إلى غايتهم التي يدعون إليها، وبلاء صبّه الله عليهم، وخزياً لهم وغيظاً لقلوبهم، فقالوا: رجعي؛ وقالوا: مُشْتَه محروم ينفّس بهذا عن نفسه؛ وقالوا: فاجر يتستر بالدفاع عن الفضيلة، وما باليت كل ما قالوا ... لأني ما كتبت هذا المقال، وما قبله، ولا ألححت هذا الإلحاح على محاربة تلك المفاسد، ابتغاء رضا الناس، فأنا أعلم أن من تغضبه هذه الكتابات أطول يداً، وأشدّ سلطاناً، وأخذ لساناً، وأقدر (ولا يقدر إلا الله) على نفعي وضري، ولكني كتبتها، غضباً لله ولدينه ولمحارمه، وتنبيهاً لهذه الأمة الغافلة، أن يفتك بها ذلك الداء، وتحرقها تلك النار، ووطنت نفسي على حمل ما (قد) تأتيني به من الأذى، لا حمل الضعيف العاجز، بل المحارب المقاتل الذي لا تصيبه الضربة حتى يردها بعون الله عشراً. على أني إذا ذكرت الحكومات ورجالها، فلا أبرئ العلماء ولا الأدباء، فهم أولى باللوم، وأحمل للتبعة، إذ يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يسخرون له ألسنتهم وأقلامهم، ولو أنهم أدّوا زكاة بيانهم دفاعاً عن الفضائل والأعراض وأثاروها داحسيّة بسوسيّة على الإباحية والفجور، لما حقت هذه اللعنة علينا حتى صار يقود ناشئتنا في دورنا وأسواقنا نفر من الفجار عباد إبليس، سموا أنفسهم كتاباً وصحفيين، وصارت لهم كتب تقرأ ومجلات، وما كتبهم ولا مجلاتهم إلا الترجمة الفنية لحديث المراقص والمواخير، وبيوت الخنا والزنا، وما يكون فيها من مشاهد وصور، تحملها كل يد إلى كل دار، فيقرؤها الشاب في المدرسة، والفتاة في الخدر، فتكون هادياً لهم إلى تلك البيوت وإماماً!

ولكن المسؤول قبل الحكومات وأرباب البيان، والمجرم الأول، ومنبع الشر ورأس البلاء، إنما هو الأب، الأب الذي يرضى لبنته أن تتكشف وتتعرى، وتحتك بالشبان في الترام، وتشرب القهوة عند البياع في سوق الحرير، ويرسلها إلى مدارس يعلم فيها أدب بشار وأبي نواس شباب في أعصابهم مثل النار التي في أعصابها، ويبعثها في رحلاتهم التي تمتد أياماً وليالي، تنزل معهم في الفنادق، وتركب معهم في السيارات، وتؤم معهم المتنزهات، وتسمع (وكيف لا تسمع؟) الفاحش من نكاتهم، والبذيء من أغانيهم؟ وما أغانيهم إلا غزل في مثلها وتشوّق إليها، وهي في السن التي تصرخ فيها غريزتها، وتغلي دماؤها، ويتفتح للحب قلبها! ولا يدري هذا الأب المغفل القَرْنان أن لست عاقبة هذا إلا فضيحة تقصم الظهر أو مرضاً يحمل إلى القبر، ثم إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى! أقول: إن هذه المقالة شغلت الناس، واختلفت فيها آراؤهم، وكان من أعجب ما سمعت من التعليق عليها، أني كنت في الترام، وكان الترام في تلك الساعة خالياً، فسمعت حديثاً بين امرأتين في غرفة النساء، لا أراهما ولا تريانني، موضوعه التعليق على هذه المقالة، ولست أروي من هذا الحديث إلا كلمتين اثنين تدلان عليه، قالت الأولى: - يُهْ! ما تردّي عليه؟ ينزل عليه الدم إن شاء الله، وعلى هالمشايخ كلهم! - قالت الثانية: وانت ليش مهتمة فيه، مين رادد عليه؟ يبعث له الحمَّى يعني بدّو نرجع للورا، ونضيع النهضة النسائية ونرجع جاهلات متحجبات يتحكم فينا الرجال؟ فشر! إننا سنكسر راسه! وليصدقني القراء إذا قلت لهم إن هذا كلامهما بالحرف الواحد! وأنا لا أحب أن أردّ هذه الشتائم ولا أحسن مثلها مع الأسف الشديد، إنما أحب أن أبحث في أصل الموضوع، أما رأسي فقد عجزت عن كسره أقلام كتاب فحول

حاولته من قبل، وألسنة خطباء مقاول، وعصيّ حكام جبابرة، فلن تكسره أقلام طرية، في أيدٍ ذات سوار، رخصة البنان، محمرة الأظافر، لا يا سيدتي، إن الله قد صنعه من مواد غير قابلة للكسر، فدَعْنَ رأسي وتعالين نتناظر (مناظرة هادئة) في هذه النهضة النسائية، فذلك أجدى عليكن من كسر رأس لا تستفدن من كسره شيئاً ... لأن رؤوس (الرجعيين) لا تزال كثيرة جداً! ما هي هذه النهضة النسائية؟ بماذا تختلف نساء اليوم عن نساء الأمس؟ أنا ألخص الاختلاف في كلمات: كانت نساؤنا تقيات جاهلات متحجبات مقصورات في البيوت، فرق دينهن وتعلمن وسفرن وخالطن الرجال، ولننظر في كل خصلة من هذه الخصال، أكانت خيراً أم كانت شراً. أما الدين (على إطلاقه) وخوف الله في السر والعلن، وما يكون معه من الاطمئنان والرضا، والإحسان إلى الناس، والبعد عن الفواحش، وترك الكذب والغش والحسد والمكر، وهذه خلائق يوحي بها كل دين من الأديان (¬1) فلا يشك عاقل في أنه خير، وإن تركه شرّ، وأن هذه النهضة بإبعادها النساء عن شرعة الدين، قد أضرّت ولم تنفع، وكان ضررها مضاعفاً مكرراً، لأنه إن جاز أن يمنع الرجلَ من الفاحشة خلقُه وإرادته، فقد ثبت أن المرأة لا يمنعها منها إلا دينها! وأما العلم، فهو خير للمرأة بشرط أن تتعلم ما يصلحها ويصلح لها، وألا يوجب تعلمها اختلاطها بالرجال، لأننا إن قدرنا العلم قدره، وعرفنا له فضله فلا نستطيع أن نفرط من أجله بالشرف ولا نضيع العرض، وهما أكبر قدراً وأكثر فضلاً، وليس معنى هذا أن كل اختلاط يؤدي حتماً إلى إضاعة العرض لا، ولكن الغرائز موجودة، والشهوات مستقرة في النفس، إنْ منعها إذ فقد تطغى فتحطم السدّ أو تعلو عليه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، والعبرة بالشائع الغالب، لا الأقل النادر، وعلى ذلك نزلت الشرائع ووضعت ¬

_ (¬1) وأن الدين عند الله الإسلام.

القوانين، ولو كان احتمال سقوط المرأة في هذا الاختلاط واحداً في الألف لوجب منعه وتحريمه، لأن أمة في كل ألف من نسائها واحدة ساقطة لأمة فاجرة ليست بذات خلق قويم، ولا تستحق أن تعيش ... ونحن لا نكره أن نرى في نسائنا أمثال باحثة البادية، ووردة اليازجي وميّ، وماري عجمي، ووداد سكاكيني، ونهاد العطار، ومريم خشّة، ولكن أين السبيل إلى أن نوجد أمثالهنّ؟ وهل توصل إلى ذلك مدارسنا؟ إننا نبصر فتيات يتجاوز عددهن الآلاف المؤلفة، يقطعن الطرقات كل يوم إلى المدارس، غدوّاً إليها ورواحاً منها وهنّ بأبهى زينة وأبهج منظر، يقرأن كل ما يقرؤه الشبان من هندسة وجبر ومثلثات وكيمياء وفيزياء وأدب غَزلِ ويتعلمن الرسم والرياضة والغناء، ويدخلن مع الشباب في الامتحانات العامة ويحملن مثلهم البكالوريات والدبلومات، ثم يجمعهن مجلس (بعد هذا كله) بالعاميات الجاهليات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رؤوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر إلى الأشياء، فكأن هذه المعلومات الأغاني التي تصب في أسطوانات الحاكي (الفونوغراف) إن أدرتها سمعت لهجة فصيحة، وكلاماً بيناً، ونغماً حلواً فتقول إنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس، ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحّن ... ! وهذا حق، ما أردت بسرده الانتقاص، ولكن بيان الواقع. ثم إن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد، وتركه للخادمات والمراضع والانصراف عن الدار وأعمالها، والترفع عن الزوج، ثم إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقى في زوجها حماراً (ولا مؤاخذة) تركبه إلى غايتها، لا رجلاً تحبه وتطيعه ويحبها ويرفق بها. وإن هي اشتغلت معلمة أو محامية أو طبيبة، لم تكن إلا (دون الوسط) في المعلمين والمحامين والأطباء، فما هذا العلم؟ ولماذا لا تتعلم ما ينفعها امرأةً وزوجةً وأماً وربةَ بيت؟ ولماذا لا تتعلم مع ذلك التحرر من عبادة (الموضات)

والأزياء، ومن حبّ تقليد النساء الغربيات حتى فيما هو ضرر محض، وأن يجعل لها العلم استقلالاً في فكرها، تتبع كل ما تجده صالحاً ولو كان مخالفاً لـ (الموضة)، مبايناً لما عليه أهلها؟ وأما الحجاب، وأعني به ستر الأعضاء التي تثير غرائز الشر في نفوس الرجال، حتى تبقى الفتاة كالجوهرة في صدفتها، لا تصل إليها سارق ولا غاصب، فأنا أفهم سبب ثورة الفساق من الرجال عليه، إنهم يريدون أن يستمتعوا بالجمال المحرّم عليهم، ولكني لا أفهم أبداً لماذا يقلدهم النساء في هذه الثورة، وما وضع الحجاب إلا لصيانتهن وإكرامهن؟ وماذا يضر السيدة الفاضلة المتعلمة إذا لبست اللباس المحتشم الساتر، وهي ترى الرجل الذي تحاول التشبه به لا يكشف إلا وجهه وكفيه، مع أنها هي التي ينبغي ألا يظهر منها إلا وجهها (عند أمن الفتنة) وكفاها؟ أفانعكستْ الحال، وانقلبت الأمور، حتى احتجب الرجال وتكشف النساء؟ وما الذي ربحناه من السفور؟ ليجب من كان عنده جواب مقنع، أما أنا فأدعي أننا لم نربح منه إلا الشرور والفجور، والدلائل حاضرات. أما الاختلاط، واشتغال المرأة بأعمال الرجل، فأنا أعجب من مطالبة المرأة به، ولا أفهم من منا يريد لها الخير، ومن الصديق لها ومن العدو! نحن نريد لها أن تكون سيدة حقاً مخدومة لا خادمة، تأتيها حاجتها من غير أن تسعى إليها، وهم يريدون أن تسعى وتزاحم الرجال حتى تصل إلى خبزها ولو اشتغلت بأخسّ الصناعات وأحطّ المهن، ويدعون مع ذلك أنهم أنصار المساواة. أين المساواة إذا حملت على ظهرها مثل حمل الرجل وهي تحمل في بطنها ولده، وأخذت مثل وظيفته وهو يغذي نفسه وهي تغذي نفسها وتغذي من ثديها ابنه؟ ثم إنكن تقلدن أوروبة، معه أن المرأة تشتغل في أوروبة عن عجز وحاجة وكريمات السيدات لا يشتغلن شيئاً، إنما تعمل البائسات الفقيرات ويتمنين زوجاً

يخلصهن من جهد العمل، وإن عقلاء أوروبة يصيحون شاكين من مزاحمة المرأة الرجل، فقد عطلت بيتها، وشغلت الرجل بـ (غير العمل ...) فقللت إنتاجه، ورضيت بالأجر الخسيس، فنزلت الأجور، فاضطر العامل أن يبعث بامرأته إلى العمل، فجاءت قضية الدور التي زعم المناطقة أنها من المستحيل! أفنبدأ نحن من حيث أراد الغرب أن ينتهي؟ ونلحق ما يريدون هم الفرار منه؟! وهذه هي الصناعات، فأيها تصلح له المرأة العادية وتعدل فيه الرجل؟ إعرضنها كلها، من تكسير الحطب وتنظيف المجاري وكنس الطرق (¬1) إلى المحاماة والقضاء والنيابة والوزارة، وأخبرنني عما تختزن منها ... نعم إن الدهر يجود أحياناً بنساء نابغات يصلحن لبعض أعمال الرجال، ولكن الكلام على سواد الرجال والنساء لا على النادر، فكم نسبة الصالحين لكل من هذه الأعمال من الجنسين؟ وإذا صلح لها النساء فهل يصلح الرجال (بالمقابلة) للطبخ وإدارة المنزل وتربية الطفل؟ إن هذا ينتهي بنا إلى إعلان (مساواة الجنسين)، وأنه لم يبق مجال للتفريق بين رجل وامرأة؛ وإذن يجب على الحكومة أن تسنّ قانوناً يجعل الحبلَ على كل منهما سنة، فهي تحبل مرة وهو مرة، وهي ترضع ولداً وهو يرضع ولداً، وأن ينص هذا القانون على أن من يستعمل (نون النسوة) يعاقب بغرامة قدرها عشرة جنيهات! يا سيداتي، إنكن تعودتن منا التشجيع والتصفيق والهتاف، ولكن المسألة خرجت عن المجاملات وصارت مسألة موت لهذه الأمة أو حياة، فأعدن التفكير في أسس هذه النهضة، واجعلن مصلحة الأمة هي الميزان فيها! يا سيداتي، لقد كنا نرجو منكن أن تدفعن عنكن هؤلاء السفلة من الرجال وأن تَصفعنَهم على وجوههم النجسة، كما تصفع المرأة العفيفة أحد هؤلاء الكلاب إذا حاول الاعتداء على عفافها، وأن تقاطعن هذه المجلات الداعرة ¬

_ (¬1) وقد سمعنا أن المرأة تشتغل بذلك في بعض الدول الأجنبية!

الخبيثة التي تؤذي شرفكن باسم الصحافة والفن، وأن تَثُرنَ على هذه الأفلام السينمائية الداعرة، وأن تخرجن معلمات حاذقات وتنادين بمنع كل شاب مهما كان شأنه معلماً أو مفتشاً أو ناظراً، من تجاوز عتبة مدرسة من مدارس الإناث، فهل تحققن هذا الرجاء، هل تقمن هذه النهضة على أساس الدين والخلق والعلم النافع؟! ***

لو أقر المجمع

لو أقر المجمع نشرت سنة 1947 أديت أمس حسابي في المطعم وتهيأت للخروج، فسمعت من ورائي لهجة غريبة ... فتلفت فرأيت على مائدة قريبة مني، عراقياً بسيدارة، ومعه شامي بعمامة مطرّزة، ونادل المطعم قائم أمامهما، والعراقي يقول له: - ماعون باجيلا على تِمَّنْ، وصَمّونَهْ. والنادل مبهوت، يقول: - إيه؟! إيه؟! فيقول الشامي: العمى، شو ما بْتِفهم عربي؟ بدُّو ماعون ما بتعرف الماعون؟ يعني طبق غسيل، وصابونِهْ. - النادل: ليه بَأَه؟ - الشامي: ليش؟! بَرْكي بدّو يتغسل! (ويضحك من نكتته) - النادل: يتغسل! بعيد الشرّ، عاوز تؤول يشَّطَّف. - الشامي (مغرقاً في الضحك): يشَّطَّفْ! يا عيب الشوم، شو ما بتستحي انْتِهْ؟ - العراقي: والله، مادا افْتَهِم، حشّى غريب هْوايَهْ، يابَهْ، ما تِحْشى عربي؟! - النادل: ما تحكي عربي، يا خويا؟!

- الشامي: لكان عَمْ يحكي أرناؤوطي؟! هذا عربي! - النادل: أمّال بؤول إيه؟ - الشامي: بؤول بدُّو كوسا محشي ومهوايه، يعني مروحة. ... ولم أستطع أن أتقاعس أكثر من ذلك، وخفت أن يفضحني الضحك، فخرجت وأنا أسائل نفسي: ماذا يكون لو أقر مجمع اللغة (العربية ...) اقتراح الأستاذ فريد أبو حديد بك، الذي يدرسه الآن أعضاؤه؟ والذي يقول فيه «فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على صلاحها للتعبير الأدبي صار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها. بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه كان أجدر أن يسترق القلوب لأن تلك الأساليب أقرب إلى النفوس والأفهام من الفصحى لشدة اتصالها بحياة الكافة. ولقد كان من أكبر ما عمل على تقويض أركان اللاتينية ظهور كتاب مبدعين في اللغات القومية الأوروبية، وقد كانت تلك اللغات عامية في وقت من الأوقات بالنسبة للّغة اللاتينية، فقد ظهر دانتي في إيطاليا، وكتب روائع قومه بلغته (إلى أن قال) ولكنا لا نخشى على العربية الفصحى أن يكون مآلها هو مآل اللاتينية لعدة أسباب: 1 - إن العامية لم تستطع إلى الآن (تأمل) أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإنها لم تزد بعد (تأمل) على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس الابتدائية، ولم يظهر فيها بعد (تأمل) أمثال النوابغ الذين أنتجوا روائعهم الخالدة، بلغاتهم الأوروبية الحديثة الدارجة. 2 - إن الفارق بين العامية والفصحى لم يبلغ شيئاً يقرب من الفارق بين اللغات الأوروبية الدارجة وبين اللاتينية، فما زال التفاهم ممكناً في سهولة بين المثقف وغير المثقف بلغة سليمة بسيطة فصحى.

غير أننا لا ينبغي أن نتجاهل الخطر الماثل في لباقة اللغة العامية، وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي فهو إن كان اليوم محدوداً فقد يكون غداً أقوى وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت أجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح». اهـ. وأفكر ماذا يكون لو فتن الشباب المثقف هذه الفتنة (نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، وصار في الدنيا لغة شامية ولغة مصرية ولغة عراقية، ونشأ في كل واحدة منها أدباء وشعراء، كما هي الحال في الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وإن بقيت اللغة الفصحى (كما يريد الأستاذ) لغة القرآن والعلماء والمساجد والمعاهد العالية. وماذا يصنع إذن صاحب المطعم الذي كنت آكل فيه أنفاً؟ إنه لا بدّ له من ترجمان، عارف بهذه اللغات، وأقف عليها، متخصص فيها، عالم بدقائقها وسنن أهلها في كلامهم، ليفهم النادل أن الماعون في بغداد هو الطبق في مصر (¬1)، والصحن في الشام، وأن التشطيف في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنه في الشام غسل الـ ... أعني الاستنجاء، وأن الصمّوية في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجي، ويسمى في دمشق الإفرنجوني، ولكنها في تونس اسم لشيء يستحيا من ذكره ولقد حدثني الأستاذ القليبي، رحمه الله، أنه قال لغلام الفندق لما كان في بغداد: هات لي خبزاً طرياً لأني بلا أسنان. فقال له: أجيب لك صمونة؟ فغضب الأستاذ غضبة مغربية وقال: ما تستحي تمزح معي وأنا بقدر جدك. والباجيلّا الفول والتمّن الرز، وأن الـ (هْواية) في العراق، صفة للشيء الكثير، وهي في غوطة دمشق الصفعة على الوجه، وأنك إذا (بسطت) رجلاً في الشام ومصر فقد سررته، وإذا (بسطته) في العراق فقد ضربته، والمبسوط المضروب (عْلقة)، وهي في الشام (فَلَقة)، والتقليع في الشام ¬

_ (¬1) ومن الطرائف أن الماعون في السلط كان يسمى (السفل)، فتقول المرأة لجارتها: أعيرينا سفلك ...

الطرد من الدار ونحوها وفي مصر نزع الثياب وأن التقفيل في مصر إغلاق الباب وله في الشام معنى هو أخبث من أن يشار إليه، و (هُون) في الشام هنا، وفي العراق (هنانا)، والهون في مصر هو الهاوون الذي يدق به واسمه في الشام الهاون، هذا عدا عن الكنايات السائرة والمجازات المشتهرة، وهي كثيرة في كل بلد لا يعرفها إلا أهلها يلحنون بها في أحاديثهم، ويسخرون بها من الغريب؛ وعندك بعدُ اختلاف النطق وما ينشأ عنه من اختلاف المعنى، فمن المصريين من يميل بالسين إلى مخرج الزاي، ومن هنا سارت النكتة في دمشق عن مدرس مصري جيء به إلى مدرسة بنات، فقال لإحداهن مؤنباً: - إيه الأسباب التي منعتك من إعداد الدرس؟ وفي العراق يجعلون القاف جيماً معطشة، وقد سألت حوذياً يوم وصلت بغداد، أن يأخذني إلى ضاحية نزهة. فقال: - تروي باب شرجي؟ فكدت أبطش به، وما يريد إلا (الباب الشرقي) وهو من منتزهات بغداد. ومن ذلك أن أديباً مصرياً زارني في إدارة الرسالة، وكان الحديث عن الفساد في مصر، فقال لي إن في دمشق ما هو أفظع وأشنع، إعلانات على أبواب الدكاكين فيها طلب صريح للخنا، فأنكرت واستوضحت، قال: لقد رأيتها بعيني، لوحات فيها (يلزمنا آنسات للخياطة)، والخياطة في عامية مصر كناية عن الزنا. فتأمل! نعم إنه لا بد من ترجمان؟ وليس يجيء هذا الترجمان إلا من مدرسة، فلا بدَّ لنا إن أقر المجمع اللغوي هذا الاقتراح من أن ندرّس هذه اللغات الشرقية الحية في مدارسنا الثانوية، وننشئ لها قسماً في كلية الآداب، أو أقساماً لأن اللسان الشامي سيكون فيه لغات متعددات، فلغة دمشق ليست لغة حلب، تخالفها في معاني

المفردات، وفي تركيب الجمل، وفي طريقة النطق، ولغة حلب غير لغة حمص، ولغة حمص غير لغة حماة، وكلها تخالف لغة دير الزور، وهذه تخالف لغة البادية، فصار عندنا في الشام لغات في كل منها لهجات، فلهجة أهل دمشق غير لهجة أهل الغوطة، ولهجة هؤلاء ليست لهجة جبل القلمون، وفي القلمون عشرون لهجة تختلف اختلافاً بيناً، وفي كل منها شعر ... وأدب ... إي والله وموسيقى ... وقس على ذلك ألسنة لبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، واجمع هذه الألسنة بما فيها من اللغات واللهجات، تجدها تحتاج إلى عشرة أساتذة لهم كراسي في الجامعة، وتحتمل عشرة دبلومات، يكتب صاحبها على بطاقته (فلان، دبلوم اللغات العراقية) أو (دبلوم اللهجات اللبنانية) ... ودبلوم في أصول هذه اللغات ومصادرها، ودبلوم في نحوها وصرفها المقارن. وعندئذ يكون شكوكو من أمراء الشعر الذين تدرس آثارهم في الجامعة، وإسماعيل ياسين من أمراء النثر، ويكون من تعبيرات النقد الجديد، أن نقول للكاتب المعقد الذي لا يفهم «إنه يكتب بالعربي» كما يقال في أوروبة عن الكاتب الفرنسي المحدث إذا أغرب وعقّد، أنه يكتب باللاتيني. وعندئذ ينشأ في كل لسان، تراجمة يترجمون إليه الآثار العربية لتحفظ في المدارس، ويربى بها النشء على البلاغة كما ترجمت إلى الفرنسية آثار دانتي وفرجيل، فنحفظ الطلاب في دمشق قول المتنبي، مترجماً هكذا: على أدّ أهل العَزْمِ بتجي العزايمْ ... وبِتْجي على أدّ الكرامْ المكارمْ وقول شوقي في الأزهر، يصير: أوم يتمّ الدنْيِه وسلّم عَ الأزهر ... ورشّ على ادْن الزمان الجُوهر (¬1) بدلاً من: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم ¬

_ (¬1) هذا ... فإذا أخذ بالاقتراح الثاني، وكتبناها بالحروف اللاتينية؟

و: قم في فم الدنيا وحيّ الأزهرا ... وانثر على سمع الزمان الجوهرا ولا شك أن هذه الترجمة (أجدر أن تسترق القلوب) - كما قال الأستاذ أبو حديد بك في تقريره. وعندئذ تطبع الرسالة أربعة آلاف فقط، وأخبار اليوم عشرة آلاف، وينشأ في كل بلدة جريدة صغيرة تنطق بلسان أهلها، ولا يبعد أن تشتد الحماسة لهذه اللغات كما اشتدت بتركيا الجديدة الحماسة للسانها، فيؤذن بها على المنائر، ويخطب بها على المنابر، ويترجم القرآن إلى كل واحدة منها. وعندئذ لا تستطيع الدول العربية أن تجتمع في جامعة، ولا أن تتحد في شعور، ولا أن تسوق جيوشها إلى فلسطين موحدة القيادة، لأن الصلة الوحيدة بينها هي هذه العربية، فإن انقطعت لم يصل بينها شيء، ولا الدين، لأنها إن ذهبت العربية ذهب معها القرآن فلم يبق دين. وبعد فلن يكون شيء من هذا. ولو قال به المجمع (ولن يفعل) لما سمع منه أحد، لمكان القرآن من هذه العربية، ولأن الله تكفل بحفظ القرآن، ولكنا أردنا أن نسلّي القراء في أيام العيد التي لا عمل فيها يشغلهم كما أراد الأستاذ أبو حديد أن يسلّي أعضاء المجتمع، الذين جعل الله أيامهم كلها أعياداً ... ***

المشكلة الكبرى (1)

المشكلة الكبرى (1) نشرت سنة 1938 صورة المشكلة: آلاف مؤلفة من الشبان يبيتون مسهدين ينتظرون أزواجهم اللائي خلقهن الله لهم، وآلاف مؤلفة من الشابات يبتن الليل مؤرقات ينتظرن أزواجهن الذين برأهم الله لهن، والذراري تطل من شرفة الغيب ترقب تعارف أبويها، لتأخذ بإذن الله، طريقها إلى عالم الوجود، فيكون منها عباد لله صالحون، وجنود للوطن مخلصون، وأنصار للحق ثابتون. ثم إذا قدر الله وكان زواج، كان الزواج (أكثر ما يكون) همّاً ونكداً وخلافاً مستمراً، وآض البيت من بعده جحيماً محرقاً، وسجناً مظلماً، ونشأ الأولاد على غير تهذيب، ومن غير أخلاق ولا دين ... هذه هي صورة المشكلة: انتظار أليم يسلم إلى الجنون أو إلى الفسوق أو إلى اليأس، ونقص في الأولاد، وضعف في الأمة، وخراب للبيوت، وضياع للأسر، وفقد للسعادة ... سبيل العلاج: هذه هي صورة المشكلة، فما هي أسبابها؟ وما نتائجها؟ وما علاجها؟ بل وما نفع الكتابة فيها؟ لقد كُتب فيها وكُتب (حتى لو أن محصياً أحصى المكتوب فيها لجاء معه كتاب ضخم) فلم يُغن المكتوب شيئاً، ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حل عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يدلي بها الكتاب والأدباء، من أجل

ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل فلم أتعمق ولم أتفلسف! ومن أجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصوراً ... على أنها لا تغني المباحث، ولا تجدي الشواهد ولا الصور، ولا المقترحات ولا الآراء ما لم يحققها عقلاء الآباء، أو من لهم في الأمة أمر أو نهي، من أرباب الحكم وأصحاب السلطان! موانع الزواج: لو سألت أكثر العزّاب من الشبان: «ما منعكم من الزواج؟» لكان جواب الأكثرين إن لم أقل جوابهم أجمعين: «المهر، وما يتصل بالمهر من تكاليف وبلايا»، ولست أذهب بالقارئ إلى بعيد، بل أضرب له المثل من نفسي ... أنا أريد الزواج، وأنا امرؤ في رأسه أشياء وليس في كيسه شيء ... أما الذي في رأسي، فقد أفنيت في تحصيله شبابي، وبيضت في طلبه لياليّ وسوّدت نُهُري، وخدعني عن حقيقته معلّمي فحسبته أثمن شيء في الوجود، وصدقت أن العلم خير من المال ... فرأيت من بعد أن المال خير من كل شيء ... وأما كيسي فما فيه وفر، ولكن فيه مرتباً يكفيني ويكفي بحمد الله أربع زوجات معي، لو أن الزوجة بقيت إلى اليوم شريكة الحياة وربة البيت، تطلب حياة هنيئة وزوجاً صالحاً، بيد أن هذا كله قد ذهب ... وصارت الزوجة (يا أسفي!) متاعاً يشري، ولا بد للمتاع من ثمن، فإذا أخذ الأب الثمن لم يبال بعده شيئاً، ومتى كان يبالي التاجر إذا استوفى الثمن بأخلاق الشاري أو سيرته في أهله؟ وثمن الزوجة (أقل ما يكون) خمسون أو مائة (ليرة) ذهبية، فتصور يا صديقي القارئ متى تجتمع لرجل مثلي مكساب متلاف لا يستطيع أن يمسك شيئاً، أو لا يفضل عن نفقته شيء؟ وليست هذه المصيبة كلها. إن بعدها نفقات العقد (الكتاب) وقبل العقد خاتم الخطبة، وما يكون إلا من الذهب، و (الشبكة) وما يصلح لها إلا حلية لها قيمة ... وبعد العقد الهدايا واللُّطَف يحملها إلى دار (الزوجة العتيدة) كلما زارها، ولا بد له من أن يزورها؛ ثم تأتي بلايا العرس، وما أدراك ما بلايا العرس: كسوة أهله وأقربائه ممن تجب عليه

نفقتهم (وكسوة النساء) أقبح التبذير، لأنهن يشترين قماشاً لا يدفئ ولا يستر، ويدفعن ثمنه غالياً، ثم إذا مرت شهور بطل طرازه (موضته) فأصبح لا يصلح لشيء ... وبعد الكسوة نفقات حفلة الزفاف. ثم إذا دخل على زوجته، وانفرد بها، لا تكلمه حتى يدفع إليها (ثمن شعرها) وهي جملة من المال لا تقل عن (بضع ليرات ذهبية) ولا حد لزيادتها، وما أدري والله كيف تنزل الفتاة للمقص عن شعرها يجزّه ويلقيه على الأرض، ثم تطلب (ثمنه) من زوجها؟ ثم إذا أصبح أعطاها (وجوباً) عطية أكبر من (ثمن الشعر) هي (الضُّبْحة)، فإذا زال النهار أهدى إليها هدية، لا بدّ أن يكون فيها إزار للحمام ثمين وقد يكون منسوجاً بخيوط الفضة، ومناديل (مناشف) ... إلخ، ثم تأتي نفقات (السبعة الأيام) يقيم فيها الأقارب والأهلون في داره، تولم لهم كل يوم الولائم، ويُطرفون بأنواع الطرف، فإذا انتهت دعوا جميعاً إلى الحمام وقد قلّ ذلك في هذه الأيام منذ كثرت الحمامات في الدور، وأهملت الحمامات العامة أو كادت، ثم يدعو أهلها (أي أهل الزوجة) جميعاً وأهله إلى وليمة كبيرة تسمى (التعريفة) يعرَّف فيها بعضهم ببعض - وقد يبلغ المدعوون إليها المئات في بعض الأسر الكبيرة ... فأنى لمثلى الطاقة على هذه المصروفات التي تخرب بيوت الأغنياء؟ وإني لأعرف قاضياً شرعياً زوّج ابنه، فتكاثرت عليه النفقات، فلم يقدر عليها حتى باع بيته لينفق ثمنه في ليالي العرس! هذا أول موانع الزواج وأظهرها ... الحجاب: وهب أني قد وقعت على كنز، أو أصبت إرثاً فأصبحت غنياً وتوفر لي ما أبتغي من المال فكيف أختار زوجتي؟ أما الحاسرات المتبرجات اللائي يعرف الرجال كلهن: صدورهن ونحورهن وأيديهن وسوقهنَّ، فأنا (بحمد الله) أعقل من أن أتخذ زوجة منهن، ولو كانت ابنة ماء السماء، وأعلم العلماء، وما أحسب ذا دين ومروءة، يرضى أن يتزوج بمن رضيت لنفسها إهمال الدين وإسقاط المروءة، بتعرّضها في زينتها وفتنتها للرجال، تستهويهم وتأخذ بأيديهم إلى

النار ... بقي عليَّ المتحجبة من بنات الأسر، وهي التي لا سبيل إلى رؤيتها إلا ليلة الزفاف، بعد أن يكون الغلُّ قد استدار حول عنقي، والقيد قد أحكم إقفاله على يدي ورجلي، ولم يبق لي إلا أن أقبل بها ولو كان لها وجه قرد وأخلاق الشيطان! أفهذا من المعقول؟ يريد المرء سفراً، فيتحرى عن أخلاق رفيقه أياماً، ليعلم أيوافقه أم يخالفه ويبتغي أجيراً فيراه ويبحث عن أصله وفصله، ويجرِّبه أياماً؛ ويعزم على أن يتزوج، فلا يرى رفيقة حياته ومهوى قلبه، وموضع حبه، إلا بعد أن يتمَّ كل شيء؟ مع أن الشرع أباح له أن يراها ويجالسها (¬1) ... ومع أنها تخرج إلى السوق فيراها (على خلاف الشرع) البائع ومن كان عنده، ويقدّم إليها القهوة ويحادثها ويراها عمال السينما، ويراها ... ويراها ... فما الذي حاق بالآباء حتى هان عليهم كل محرّم، وصعب عليهم ما أحلَّ الله؟ هذا هو المانع الثاني من موانع الزواج، بل إن هذا الوضع هو الذي سبب ما نرى من تبرج النساء وحسورهن، وعريهن على السواحل ... ولا علاج له إلا بحجاب شامل (وذلك ما لا يستطاع) أو بسفور شرعي، كالذي سماه صديقي الأستاذ عز الدين التنوخي بسفور الراهبات، وذكر أن الحشويين الجامدين، يقابلون من يفتى به بالسباب والشتائم، وذلك هو الواقع، فإن هؤلاء قائمون بالمرصاد لكل من يعرض رأياً في إصلاح حال المرأة الذي كاد يصل إلى حدّ العري المطلق، بل لقد بلغه فعلاً ... ولكنهم لا يأتون بأي رأي من عند أنفسهم، ولا يهتمون بما يرون، فهم هادمون ولا يبنون، وهم مفسدون لعمل كل مصلح ولا يصلحون ... ولله الحمد على أن ضعفت مُنّتهم، وخفتت أصواتهم، وبادت جماعتهم، ونسأل الله أن يبدلنا بهم علماء يفهمون روح الإسلام ويعرفون حقائقه، ويفهمون روح العصر ويعرفون حاجات أهله. ¬

_ (¬1) أي يراها غير حاسرة ويجالسها غير منفرد بها.

الخلاف العائلي: فإذا يسر الله لامرئ سبيل الزواج، وأنجاه من هذه الموانع، عرضت له مشاكل، ورأى من المتاعب ما يندم معه على ما أتى، ولو ذهبت تتقصى أحوال المتزوجين ودخائلهم في بيوتهم لوجدت أكثرهم متألماً شقياً، ولهذا الألم أسباب يمكن تلافيها لو فكر فيها الزوج، وعزم على التلافي. أول أسباب الخلاف: أعرف أخوين: أما أحدهما فشيخ محافظ توفي، رحمه الله، من سنين طويلة، وأما الثاني فأديب موسيقي على الطراز الجديد. تزوج الأول، ولبث مع زوجه ستة عشر عاماً حتى توفي عنها ولم يكلمها على مسمع أهله كلمة، وإنما كان يوجه الكلام إلى أخته سائلاً حاجته، أو يأمر أخته أن تقول لها ما يريد، وألفت ذلك منه ورضيت به أو صبرت عليه. وكانت تخشاه كخشيتها الله أو هي أشد له خشية .. وأما الثاني .. لا، بل أكثر من عرفنا من الأزواج (المجددين) تتحكم بهم نساؤهم، فيأمرنهم وينهينهم، ويشتمنهم وقد يضربنهم! وهم يخافونهن ولا يجرؤون عليهن .. أي أن الأزواج بين رجلين، رجل أعمل سلطته، وأهمل عاطفته، فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم الحب، ولا عرف السعادة الزوجية، ورجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً، وتفصيل ذلك أن الزوج هو الذي يحكم على نفسه، ويختار طريقه، فإذا دلل زوجه في الأيام الأولى، ومثَّل لها (دور العاشق في الروايات الخيالية)، ومنحها قياده، وأراها أنها حياته، وأنها الآمرة الناهية عليه، وتذلل لها وخضع، (ولذة الحب في التذلل والخضوع) ألفت ذلك منه، وتعودته .. فإذا طارت من رأسه سكرة الحب، وأحب أن يحكم في الدار، كما يحكم رب الدار، وجد الأمر قد أفلت من يده، فيبدأ الخلاف، ثم لا ينتهي أبداً. وإذا هو ضبط نفسه في الأيام الأولى، ولم يعط إلا بمقدار واستعمل عقله وسلطانه، ألِفت منه الزوجة ذلك، فوجدت كل عطف منه بعد ذلك غنماً كبيراً ..

فالزوج العاقل الحازم من لم تلهه حلاوة العسل التي تدوم له شهراً، عن مرارة العلقم التي ستبقى دهراً طويلاً. ومن لم تشغله اللذة الجسمية العاجلة، عن السعادة الروحية الآجلة. فليتنبه لهذا الأزواج، فمن هنا منشأ الخطر .. حقوق الزوجين: ومن أسباب النكد البيتي، والشقاء الدائم، الخلاف على حقوق كل واحد من الزوجين، فمن الرجال من يأخذ أكثر من حقه، ومن النساء من تقيم نفسها مقام الرجل، وتفرض عليه سلطانها، حتى إن الرعناء لتسأله: أين كنت؟ ومن كلمت؟ بل إن من النساء الحمقاوات التحذلقات ممن يحسبن أنهن متعلمات من تحاسب زوجها على زيارته أهله، وصلته رحمه، وتغار عليه إذا كلم عمته أوزارها .. حتى أصبح الأمر فوضى لا ناظم له وظلمة لا نور فيها: مع أن الشرع الإسلامي (الذي أيغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا بين وجه الحق فيها) قد حدد حقوق الزوجين، فجعل «من حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه فيما لا معصية فيه، وأن تصون عفافها، وألا تخرج إلا بإذن منه أو لضرورة، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وألا تكلفه ما لا يطيق ولا تطالبه بالزائد من حاجة نفسها، وأن تبذل جهدها في أداء واجباتها الدينية، وأن تعطيه زمام الرياسة المنزلية. ومن حقها عليه أداء مهرها كاملاً إليها والإنفاق عليها بالمعروف وأن يجتهد في تعليمها واجباتها الدينية وأن يكتم سرها ولا يتحدث به وحسن خلقه معها واحتمال بعض الأذى منها وممازحتها ومداعبتها» (¬1)، أي أن على الجملة رياسة المنزل (حين لم يكن بد لكل شركة أو جماعة من رئيس) وله السيادة فيه، وحفظ كرامته، وإدارة شؤونه الخارجية والإشراف على أموره كلها، وله الحكم وكسوة المرأة وخروجها، وله تأديبها بالعدل، ومن غير أن يخرج على ما أحل الله وذكر في كتابه، وللمرأة حق التصرف بأموالها، وإدارة شؤون المنزل الداخلية، والنفقة عليها وضمان حاجاتها اللازمة؛ ولها عليه أن يحرصن على سعادتها وسرورها، ويعاملها بالخلق الحسن، والقول اللين، ويتغاضى ¬

_ (¬1) حقوق الزوجين للأستاذ الشيخ محمود ياسين.

خطيئاتها ما أمكن التغاضي، ويعلم أنها شريكة حياته، وأدنى الناس إليه فلا يستأثر دونها بطعام أو شراب، ولا يدعها في المنزل وحيدة متألمة ويسهر في المقاهي والملاهي، ولا يقدم نفسه عليها في كسوة أو متعة من متع العيش. المشكلة بين الزوجين: وإن من أظهر الخلاف بين الزوجين، ألا يكون بينهما مشاكلة ومماثلة، كأن يكون فقيراً وتكون هي غنية، فتعيره بفقره، وتترفع عليه بمالها، أو أن يكون من رجال الأعمال، وتكون متعلمة، على أن المتعلمة العالمة حقاً لا ينتظر منها إلا كل خير، ولكن البلاء في هؤلاء اللائي يحسبن أنفسهن متعلمات لأنهن كن قبل الزواج معلمات في مدرسة أو مديرات، وإن كن لا يفتحن في السنة كتاباً، ولا يفهمن شيئاً، ولا يعرفن إلا تنكيد حياة الزوج، وإضاعة ماله في الولائم والاستقبالات، والكسوة والزينة، هؤلاء هن البلاء الأزرق، وخير منهن الأمية الجاهلة. ومن أشنع أشكال الاختلاف بين الزوجين حال من يتزوجون بالأجنبيات، فيرون منهن (على الغالب) ما يتمنون معه الموت الأحمر. وإني لأعرف من الناس رجلاً درس في فرنسا وجاء معه بفتاة زعم أنها من أكرم الأسر الفرنسية وأعرقها، فتزوج بها، فكان من أيسر ما تصنع أنها تذهب إلى السينما فترى الضباط الفرنسيين فتحن إليهم بصلة الدم فتكلمهم وتصادقهم ثم تدعوهم إلى دارها فلا يروع صاحبنا إلا الضباط قد ملأوا بيته. ثم انتهى أمرها بالفرار مع واحد منهم! ومن العجب أن دماغين كبيرين تواردت خواطرهما على مسألة واحدة، وبينهما الدهر الأطول، وبينهما ما بين المشرق والمغرب فوقعا فيها على الصواب الذي نعرفه ولا نريد أن نتبعه: لما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب فلما كثر المسلمات بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بن اليمان بعد ما ولاه المدائن «بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل الكتاب فطلقها»، فكتب

إليه: «لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟». فكتب إليه عمر: «لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، وإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم». فقال حذيفة: الآن! وطلقها. هذا حكم الرجل العظيم، عمر، وقد حكم به في المدينة منذ ألف وثلاثمائة سنة. وأما الثاني فحكم موسوليني، حكم به المؤتمر الفاشي في روما في هذا الأسبوع حين كان من مقرراته منع الإيطاليين من الزواج بالأجنبيات. فمن لم يعظه قول عمر، فليعظه حكم موسوليني! ***

المشكلة الكبرى (2)

المشكلة الكبرى (2) سقت إليك في الفصل الماضي طرفاً من حديث المشكلة، وانتهيت بك إلى الكلام على المشاكلة بين الزوجين، وأنها ركن كبير من أركان السعادة الزوجية، فإذا لم تكن مشاكلة، وكان بينهما اختلاف لا الغنى أو العلم أو الجاه كانت الحياة الزوجية موتاً بطيئاً. على أنه لا بأس أن يكون الزوج هو الأعلى في جاهه أعماله أو علمه، ولكن البأس كل البأس حين يكون الأدنى لأن الغنى والعلم والجاه من وسائل السلطان، فإذا كان ذلك للمرأة زاحمت الرجل على سلطانه، ونازعته رياسته ففسد الأمر، واضطرب حبل الودّ. وأحسب أن مبدأ الكفاءة في الزواج (في الفقه الإسلامي) هو الدواء لهذا الداء. وأنا متحدث إليك ما هذا الفصل عن سائر أسباب الخلاف بين الزوجين، ولست أزعم أني متقصيها كلها أو محيط بها، فذلك ما لا أقدر عليه، ولكني ذاكر منها ما انتهى إليَّ خبره. موقف أهله وأهلها: فمن ذلك موقف أهله وأهلها، فإنه من أظهر أسباب الخلاف بين الزوجين وأكثرها انتشاراً بين ظهرانينا، حتى إنه ليبلغ منا العجب حين نسمع أن داراً تجمع بين الكَنَّة والحماة، ولا تجمع إليهما النكد والشقاق والبلاء تصبّه على الزوج صباً ... فلا يكاد يروح إلى داره ليجد فيها الراحة بعد تعب النهار، والهدوء بعد الكدح المضني، والكدّ المميت، حتى تستقبله المعارك والشكايات والدسائس، وما أكثر القراء به عالمون ... فيحار في أمره: لا يدري أيسوء أمه وهي التي حملته جنيناً، وربّته صغيراً، وأحبّته وجعلته أملها في حياتها، أم يسوء

زوجه وهي التي هجرت أهلها وفارقت عشها لتجعله أهلها من دون أهلها وأمنها ومفزعها، ثم إنها قد تكون بريئة لا ذنب لها ويجد أن أمّه لا ترضي عنه حتى يفارق زوجه، وييتّم أولاده، وزوجه لا ترضى عنه حتى يطرد أمه ويعصي ربّه، وهما خُطّتان أهونهما أصعب الصعاب، وخيرهما من شرّ الأمور وليس إلى إقناع إحداهما من سبيل، لأن للمرأة منطقاً خاصاً، يجعل بينها وبين الرجل هوة لا يلتقيان معها أبداً، ويدع الرجل وإقناع ألف رجل أسهل عليه من إقناع امرأة واحدة ... والخلاف بينهما باق لا يزول، معروف لا يتبدل. فالأم تري أنها هي سيدة الدار لأنها الكبرى، ولأنها الأصل، وأن على الكنة التي أحضرتها بيدها واختارتها برأيها، أن تطيعها، وتعمل بإشارتها؛ والزوجة ترى أن الأم عجوز قد مضى زمانها، وذهبت أيامها، وأصبحت كالموظف التقاعد، له مرتب وليس له أمر ولا نهي، وأنها هي السيدة في الدار، وأن لها الرأي في إدارتها .. ثم إنهما تختلفان على قلب الرجل، فالأم التي عرفته وليداً، وربته طفلاً ويافعاً، وكان في وحدها، لا تطيق أن تراه وقد صار لغيرها، ولا تقدر أن تبصر نفسها فريدة في غرف الدار، كأنما أيكن لها ولد لأن ولدها خال بزوجته ... والزوجة التي أعطت زوجها قلبها كله وحبها وحياتها، ولم تجعل له شريكاً فيها، لا تستطيع احتمال هذه الشركة بينها وبين هذه العجوز، ولا يقنعها إلا أن يكون الزوج خالصاً لها ... وما يقال في الأم يقال مثله مع الأخت، بل إن الأخت إذا كانت عانساً لم تتزوج، وإذا كانت على بقية من شباب، تكون أشد على الرجل من أمه، لأنها أقل منها حباً له وحناناً عليه، وأكثر منها غيرة لمكان الصبوة من نفسها، والأنها ترى امرأة غريبة تستمتع بالزواج الذي حرمت هي منه، ويكون هذا الزوج أخاها، غلبتها هذه الغريبة عليه، وحرمتها عطفه وحبه، فيكون حرمانها مضاعفاً ... هذا وليس ينفرد أهل الزوج بإدخال الأب عليه، وتنغيص حياته الزوجية، بل يشارك في ذلك أهل الزوجة، يكرهون فتاتهم على الزواج بمن لا تريده، لعلو سنه عن سنها، أو قبحه وجمالها، فلا يحفلون إرادتها ولا يبالونها لأنهم يرونه غنياً،

فهم يبيعونها منه بيعاً، أو صاحب جاه فهم يجعلونها وسيلة إلى الانتفاع بجاهه، بل ربما زوجوا الفتاة بنت خمس عشرة، بالشيخ أبي الستين، ولم يستأمروها ولم يروا رأيها، وربما زوجوها من الرجل القبيح. ولقد قال عمر (الرجل الملهم) فيما أحفظ من قوله: (لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح فإنهن يحببن ما تحبون) ... فتدخل الزوجة دار زوجها وهي له كارهة، فلا يأتي منها إلا مساءته وإتعابه، إن لم يسقها صباها وعجزه إلى أن تتصل بغيره من الفتيان. هذا طريق، ولأهل الزوجة طريق آخر إلى إفساد الحياة الزوجية، هو التقصير في تربية فتاتهم أولاً، وعجزهم عن ضبطها وتأديبها ثانياً. فإذا كانت الزوجة سيئة الخلق رعناء، فإنها تدع دار زوجها لأتفه الأسباب، وتذهب مغاضبة تشكو إلى أهلها وتستعديهم، فإذا كان أهلها عقلاء ردوها إليه، وأصلحوا ذات بينهما، ولاموها على خلوة بها، كما يلومونه على خلوة به، فيؤلف الله بهم بين القلبين، وتعلم الزوجة أنه لا ملجأ لها إلا دار زوجها، ولا منجى لها إلا حسن خلقها فترضى وتستقيم، وأما إذا كان أهلها جاهلين يغضبون لها غضبة الجاهلية فيعينونها على طلاقها ويزيدون في عنادها فيخربون بيوتهم بأيديهم، ويسوقون الشقاء إلى فتاتهم، ويكونون شراً عليها وعلى زوجها ووبالاً ... ودواء هذا الداء أن يبحث الرجل عن أخلاق الأسرة، وأسلوبها في تربية بناتها، وحال أمها مع زوجها ومبلغ طاعتها له ورضاه عنها، قبل الإقدام على الزواج، فإذا اطمأن إلى ذلك وصاهر عاقلاً حازماً، وكان الزواج برأي الفتاة ورضاها، من غير احتيال عليها ولا إكراه لها، فقد أمن جانب أهلها، وبقي عليه جانب أهله ... والمصيبة بهم أشد ... والعلاج أن يتفرد عنهم بزوجته. فإذا لم يستطع ذلك، فعليه بالحزم في الأيام الأولى، وأن يعرف لأمه حقها، فإن زوجه تطيعه وتتخرج به وتتربى على ما يربّيها عليه، أما أمه فلا سلطان له عليها ... وعليه بعد ذلك أن يرضي زوجته فيما بينه وبينها، ويعوضها بما فقدت من السيطرة في الدار، بما يدخل السرور على قلبها ويملؤه رضى وأملاً والسبل إلى ذلك شتى.

المشاكل المالية: أولها هذا (الجهاز) فكم ثار من أجله من خلاف، وكم هد من أسر، وكم أصاب من بلايا ... يتنافس القوم من أجله في إغلاء المهور حتى تبلغ المئات من الجنيهات، فتبور سوق الزواج، وتكسد البنات، ثم إذا كتب الله على الزوج أن يدفع هذا المهر الفاحش، لم يكن دفعه غنماً للأب ولا لفتاته، لأن عليه أن يدفع مثل ما دفع الزوج أو قريباً منه، ثم يشتري بذلك كله أثاثاً ومتاعاً وما شئت من الخُرْثي (¬1) الذي لا ينفع في دنيا ولا آخرة، فمن خزانة محفورة منزّل فيها أدق الأصداف ثمنها سبعون جنيهاً، ومن مقاعد وأرائك على نحوها ثمنها مائتان لكنها لا تقيم على الاستعمال عاماً واحداً، ومن ستائر للنوافذ ثمن إحداهنَّ عشرة جنيهات؛ ومن أوان فضية وقوارير (كولونية) تصف على المناضد صفاً، كصف الجند ثم لا تفتح أبداً، والمناضد (نسيت المناضد) وثمن إحداهنَّ عشرات الجنيهات، وغير ذلك مما لا أعرفه ولا أذكر اسمه وإن كنت قد رأيته في دور الحمقى والمغفلين ... ولقد عرفت شاباً مستور الحال أراد الزواج فطلبوا منه أربعمائة دينار ذهبي، فباع داراً كانت لأبيه، وأعدَّ لمهر، فسلمه إلى أم الزوجة، وضمت إليه أمها ثلاثمائة من عندها لتشتري بها جميعاً (جهازاً) لابنتها، فلما بلغه ذلك طار عقله وذهب يقنع أم الفتاة أن تشتري لها بذلك داراً (عمارة) يكون لها ملكها وريعها وتبقى على الدهر، فقبلت ومرت أيام فبلغه أنها قد عدلت عن ذلك وأنفقت المال كله في الجهاز ... فسألها عن السبب فإذا السبب أن البنت بكت وقالت: هل أنا دون ابنة فلان، وقد جهزوها بكذا .. ؟؟ قالت الأم: «فقطع قلبي بكاؤها، فلم يسعني إلا أن أفعل ما تريد ...». وتم العقد واستأجر الزوج داراً فخمة (على نسبة الجهاز) فلم تمض إلا شهور حتى ركبه الدين، فاضطر إلى استئجار دار تليق به، ويحتملها مرتبه، ¬

_ (¬1) الخرثي: المتاع الذي لا فائدة فيه.

فلم يلق فيها مكاناً لهذا (الجهاز) فذهبوا يبيعونه؛ فلم يأتهم بأكثر من مائة وعشرين، وقد كان ثمنه سبعمائة ... ومن مشاكل الجهاز أن الزوجة تجده رأس مالها، وقنيتها في حياتها، فتحافظ عليه محافظتها على روحها، وتكره أن يدعى إلى الجلوس على مقاعده ضيوف زوجها، أو أن يدخل غرفته زوار أهله، وقد لا يكون ما الدار غرفة للاستقبال سواها، لأن الناس يجعلونها أبداً للاستقبال. فتبدأ المشاكل ... وقد تنتهي بالطلاق ... رأينا ذلك مراراً. وعندي أن الدواء إبطال الجهاز بالمرة، وأن يفرش الرجل داره كما يريد ويستطيع (¬1)، ويُشترى بالمهر القليل الذي يدفعه الزوج عقار تملكه الزوجة ويسجل باسمها، أو حلية ذهب تبقى لها محتفظة بثمنها. ... والمشكلة المالية الأخرى نفقات المرأة وكسوتها. أقص عليك قصة امرأة واحدة. فيها وصف لنساء كثيرات، تلك هي امرأة موظف كبير مرتبه ثلاثمائة ليرة سورية، وهو مبلغ في دمشق ضخم (¬2)، تخرج من دارها كل يوم ما عربة أو سيارة لا تستطيع لثقلها أن تمشي، فتطوف على بيوت الناس، فأصبحت تعرف عشرات من الأسر الغنية المبذرة. فلا يمر أسبوع لا تدعى فيه إلى عرس أو حفلة إلا كلفت زوجها كسوة جديدة. لأن من العار عليها أن ترى بثياب قد سبق فرئيت فيها من قبل. فتشتري الإزار والرداء (أو ما يقابله ما الاصطلاح النسائي فما أعرف ماذا أقول ...) والحذاء والجوارب، ويتراوح ثمن ذلك (كما حدثني المسكين وحلف لي) ما بين ستين وتسعين ليرة سورية فلا يقوم مرتبه كله بكسوتها، فيستدين ليتم لها ما تريد وينفق على نفسه وأولاده حتى هدّه الدين وأصبح مضطراً إلى بيع أملاكه المرهونة ... ¬

_ (¬1) قلت هذا وأنا شاب عزب وأنا معلم وهأنذا بعد عشرين سنة في القضاء وبعد أن صرت زوجاً وأباً وجداً لا أزال أقول به. (¬2) نشرت هذه المقالة من أكثر من عشرين سنة.

ومن النساء من لا تبلغ في الإسراف هذا المبلغ، فتكتفي بنصفه أو ثلثه ولكن مرتب الموظف المتوسط نصف مرتب صاحبنا أو ثلثه، وتبقى النسبة على حالها؛ أما الموظفون الصغار كالمدرسين الذين يأخذون خمسين ورقة في الشهر وأربعين وثلاثين والصناع وصغار التجار، فتصور أنت موقفهم من نسائهم، فما يبلغ القول تقرير الحقيقة ووصف الواقع. ولست أزعم أن النساء كلهن عمياوات لا يبصرن حالة أزواجهن، وأن قلوبهن قد قدت من حجر فلا تشفق ولا تحزن، بل إن في النساء عاطفة وحسّاً ولكنهن يألفن حالة، فلا يطقن أن يراهن أحد على حالة دونها، ويستحيين من صاحباتهن ورفيقاتهن ... ووراء هذه المشكلة الحزم في الأيام الأولى من الزواج (وهو رأس الأدوية كلها) وتقليل الاختلاط، والاقتصاد في زيارة الناس ومصاحبتهم، وليس من بأس بعد ذلك أن يخصص الزوج لزوجته مبلغاً من المال لكسوتها يدفعها إليها مشاهرة، ويدعها تفعل فيه ما تشاء، على أن تقنع به، ولا تسأله من بعده درهماً واحداً لكسوة أو ثياب. ولقد جرب هذه الطريقة كثير من الرجال فوجدها صالحة مؤدية إلى الراحة والاطمئنان. مشاكل أخرى: إن من طبيعة المرحلة التي تجتازها اليوم أمم هذا الشرق الإسلامي: مرحلة الانتقال، أنه يلتقي فيها عصران، ولكنهما لا يأتلفان فيتحدان، ولا يختلفان فيتباينان، فينشأ عن ذلك هذا الازدواج في الحياة، فيعيش قوم في عصر مضى وقوم في عصر لم يأت، فكيف يلتقي الزوجان وبينهما عصر مديد ... هو يعيش محافظاً، وهي تريد التجرد مما يحافظ عليه، وهو متدين وهي رقيقة الدين! إن كل شيء يحتمل: ضياع المال والتعب والشقاء، ويجد الإنسان عزاءه عنه في انتظار ثواب الله، في الآخرة، يجد عزاءه في الدين، فإذا ضاع الدين فأين يجد العوض منه والعزاء فيه؟ لذلك كان أول ما يجب محلى الزوج أن يفكر فيه، هو أن يختار زوجه من طبقته ورأيه، محافظة أو تجديداً، وإلا كان الزواج شراً كله.

هذا أصل يتفرع عنه فروع كثيرة، أولها: تأدية حق الله في العبادة، والمحافظة على الصلوات، والرجوع إلى أحكام الدين فيما يختلف فيه من أمور الحياة، إلى غير ذلك مما يراه المسلم رأس الأمر وملاكه ويسميه المجددون (المتجردون) رجعية وجموداً. وثانيهما: خروج المرأة من دارها، وحالها عند الخروج وزيها وزينتها، وتبرجها في الأسواق وتيممها السينمات ودور اللهو، وعرض مفاتنها على الرجال وما إلى ذلك مما يسميه المسلم وقاحة ورذيلة وقلة حياء ... ويدعوه المتجردون مدنية وتقدماً ... وثالثها: الاتصال بالناس، وتخصيص الأيام الكثيرة لاستقبالهم، وإضاعة الأموال في إكرامهم وتعطيل أعمال الدار وتربية الأولاد في سبيلهم وما يجره هذا الاختلاط الشديد الذي ينفر منه العقلاء، ويرونه فساداً لا خير فيه، وباباً لا يلج منه إلا كل ضرر، لأن النساء لا يقبسن من النساء إلا السيئ المكروه، ويراه أهل التجديد واجباً لا بد منه، وفرضاً لا تكون المرأة متمدنة محترمة ... إلا به! ورابعها: اتباع (الموضة) والإيمان بها إيماناً لا شك فيه، والخضوع لها خضوعاً أعمى، والتعامي عما تجر على الأسرة والأمة من ضرر. وهذه ثمرة من ثمرات الاختلاط المرة، يراها العقلاء سخافة وحماقة، ويعدها أهل التجرد والتجدد من فروض العين! ... ومن هذه المشاكل الفرعية الخلاف على تربية الأولاد حين تحكم المرأة عاطفتها فتأبى على الأب أن يؤدب ابنه أو يأخذه بالحزم، وهذا فضول من المرأة لامعنى له. على أنها قد تثور الثائرة بين الزوجين لغير ما سبب واضح، كأن يكون الزوج متألماً في نهاره أو مصاباً بمصيبة لا يحب أن يسوء بها أهله، فيدخل مقطباً من حيث لا يشعر فتحسب الزوجة أن ذلك موجه إليها، فتغضب وتعرض، فيألم الزوج في نفسه، ويظن أنها رأته في مصيبة فأعرضت عنه بدلاً من أن

تعطف عليه وتواسيه، وينأى كل واحد منهما عن الآخر، ويوسوس له الشيطان حتى يصبحا متنافرين حقاً، وهذا مشهور يتكرر تمثيله دائماً، وداء يعتاد الأزواج في كل حين ودواؤه الناجع كلمة يقولها أحدهما يشرح بها حاله، وقهر لهذه الكبرياء الخبيثة التي تمنعه من هذه الكلمة. كلمة الختام: وبعد، فهذا كله سهل يُتداوى منه بشيء من الحكمة والحزم فما دواء حماقة الآباء في إغلائهم المهور، وتمسكهم بهذه العادات الباطلة، حتى أدى ذلك إلى «أزمة الزواج» التي اشتدت وعمّت؟ ومتى نجد الأب الذي يملك في نفسه من الجرأة، وفي رأسه من العقل، وفي صدره من الدّين، ما يكسر به هذا السدّ الذي يمنع عن الأمة كل خير وسعادة؟ ***

إلى علماء مصر

إلى علماء مصر نشرت سنة 1944 كنت أصفح (¬1) الرسالة فوقع بصري على المقالة البارعة التي كتبها الأستاذ الزيات عن شواطئ مصر وما فيها، فقرأتها حتى بلغت قوله فيها (... جرجر البحر إحدى موجاته الضخام إلى أعلى الساحل، فجريت إلى فوق، أتقي هذا المد الفاجئ، فإذا بي واقف إزاء مظلة جميلة منعزلة، قد انبطحت تحتها فتاة ناهد، لم تقع العين منذ الصباح على أكمل منها صورة، وكان ذعر السائرين من هجمة البحر قد لفتها لتنظر، فلما وقع بصرها عليّ، نهضت نهضة الظبي الفزع تحيي بالعربية أستاذها القديم. - أوه ... فلانة؟! نعم، ويسرني أن أراك بعد خمس سنين. - هل أنت وحدك هنا؟ - كلا، بل معي أخي ... وقد أتعبه صراع الأمواج الثائرة، فذهب إلى «الكابين». - وكيف حال البك؟ - الحمد لله خير حال، وما أكثر سؤاله عنك، وأشد شوقه إليك، لقد كان جالساً في الكازينو، ثم انصرف إلى البيت منذ قليل. قالت ذلك تلميذتي الأرستوقراطية المسلمة، وهي تنصب كرسياً طويلاً من ¬

_ (¬1) أصفح: أتصفح.

القماش دعتني إلى الجلوس عليه، ثم جلست هي على كرسي آخر، وكانت كأمها حواء لا يستر جسمها العاري إلا «ورقتان» خصفتهما عليه من أمام ومن خلف، فسرعان ما ذكرت ذلك المكتب الفخم الذي كانت تجلس قبالتي عليه لتستعد لامتحان البكالوريا، وهي ملففة بثوبها الأزرق الأنيق المسبل، وعيناها الساجيتان لا تفارقان الصحيفة حياء وخفراً، وثغرها الحيي الدقيق، لا يرسل سهل الكلام إلا في تلعثم وبطء ...). ... لما بلغت في المقالة هذه الصورة، كنت متمدداً في فراشي أهم بإدارة مفتاح النور والاستسلام للنوم، فطار النوم من مقلتي، وتوقدت في أعصابي نيران الغضب للفضيلة المجنيّ عليها والعرض المُزدرَى، ودار في نفسي كلام، لو أنا أطعت النفس وبعثت به للنشر لبعثت عاصفاً يعصف بهذا البك الذي ارتضى لفتاته ما لا ترتضيه البهائم لإناثها من غيرتها عليها، وهذا الشاب الذي صارع الأمواج ليثبت رجولته المزورة، ثم انصرف إلى هذا «الكابين» الذي لا أعرف أي شيء هو، وقد صُرع شرفه وسلم عرضه، ولأرسلت شواظاً من نار على هذه (المجلات) المستهترة التي سخرها إبليس لهدم الأخلاف ونسف الفضائل والدعوة إلى شرع الشهوات بما تنشر من الصور العارية، وما تحبذ من السفور والحسور والاختلاط، وما تنال من أصحاب الشرف والفضيلة كالشيخ الجليل أبي العيون ... ثم رددت القلم إلى قرابه، وأطفأت بكأس اليأس وقدة الغضب، ورجعت على نفسي باللوم فقلت: يا نفس ويحك! هل تظنين أنك وحدك المحقة، وهؤلاء الناس كلهم من المبطلين، وكلهم يخطئ وأنت تصيبين؟ أو لا ترين للناس عيوناً يبصرون بها هذا كله كما يبصره (أبو العيون) ثم يسكتون؟ فلو كان محرماً أو ممنوعاً أكانت مصر تقرّه؟ أو كان علماؤها يكفون عن إنكاره؟ أوَ كان كبراؤها وعظماؤها يرضونه لبناتهم وأخواتهم؟ كُفِّي يا نفس فقد مضى زمنك وغبرت أيامك، وصرت في آرائك وأفكارك من آثار الأولين. وهل تريدين أن يعود الناس إلى عصر الجهالة والظلام يوم كان الأب ربَّ بيته،

والزوج قوّاماً على امرأته، والمرأة لا تعرف الفسيولوجيا والجيولوجيا، وإنما تعرف الطبْخـ ... لوجيا والكنْسَـ ... لوجيا، وكان جمال المرأة لزوجها وحده قد حُرمت من عَرضه على الناس، ومُلْكها البيت وحده لا الشارع ولا الساحل. هل تريدين أن يعود الناس إلى تلك العهود حيث القيود أنواع: فمن قيد الدين، إلى قيد الخلق، إلى قيد الآداب؟ ... لا، إن العصر عصر الحرية، حرية المجنون الذي يفعل كل ما يشاء، فيخلع اليوم ثوبه، وغداً دينه وعقله، ولا يستطيع أحد أن يقول له: دَعْ! حرية راكب السفينة الذي يخرق مكانه ليدخل عليه الماء فيستنقع فيه، يقول: هو مكاني أفعل به ما أشاء، فما لكم ولمكاني، يقول: هي امرأتي ألبسها ما أشاء فما لكم ولامرأتي، هي ابنتي أجردها كما أشاء فما لكم ولابنتي، «فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا»؛ لأن السفينة إن ملأها الماء لا يغرق من خرقها وحده وإنما يغرق الجميع، والنار إن شبت في البيت لا تحرق من أضرمها وحده وإنما تحرق الجميع، والفجور إن انتشر لا يهلك الفاجر وحده وإنما يهلك الجميع. فيا أيها المصريون، بل أيها المسلمون انتبهوا، إنها النار شبّت في ستانلي باي، وأقبلت تضربها الرياح الأربع وتهيجها تحرق كل ما تمسه، واندفعت مندلعاً لسانها تمتد شرقاً وغرباً وإلى الجنوب، إنها النار ... النار وهاتيكم المجلات تنفخ فيها وتضرمها، وتحمل إليها الوقود لحوماً بشرية وأعراضاً وأمجاداً؟ ... يا قوم إن الله خلق الشهوة، وأمر بكفّ شِرّتها وكسر حِدّتها. وشرع لها طريقاً مرسوماً كيلا تطغى كما يطغى النهر إذا خرج عن سبيله، وجاوز مجراه، وهذا الطريق هو الزواج. وأقام لها الحواجز والسدود، فخوف المرض سدّ، فعطلتم حدود الله فلا تقام على زانٍ، ووضعتم قوانين تكاد تبيح ثلاثة أرباع الزنا، ولا تعاقب إلّا على الربع الباقي، ومنعتم الفضيحة حين جعلتم هذا المنكر معروفاً، وأعلنتموه وقد كان شراً مستتراً، وجعلتموه تمدناً وقد كان وحشية وخزياً وعاراً، وأنسيتم أولادكم خوف الله حين أقللتم من دروس الدين في

المدارس، ولم تدخلوها في الامتحانات العامة، واستعنتم بالطبّ على تجنب المرض، فأدخلتم الذئب على غنمكم ... إن الشهوة ذئب كاسر فلا تطلقوه عليكم، فلا تدرون ماذا يفعل ببناتكم وأولادكم. إنه يفسدهم ويفسدهن، وما للعرض الذاهب من رجعة، إن الشهوة إن أطيعت في الحرام بطل الزواج، وهذا ما حلّ بنا أوكاد، وإن بطل النكاح حلَّ السفاح، وإن حلَّ السفاح صار البشر كالخنازير والعياذ بالله! فما لكم كيف تحكمون؟ ... إنكم تشكون تقصير الطلاب، وخَوَر العزائم، وضياع الأمانة، وسبب ذلك كله السفور (¬1) والاختلاط والحسور والتكشف، وكيف ينصرف تلميذ إلى درس، ويقبل معلم على علم، وتاجر على تجارة، وموظف على عمل إن شغلته شهوته، وسيّرته أعصابه، وركبه إبليس وألجمه بلجام. خبروني هل في الدنيا دين من الأديان أو خلق من الأخلاق يبيح هذا الذي في ستانلي باي وسيدي بشر؟ فماذا لا يُحارب المنكر؟ لماذا لا يقوم عليه القائمون على الأخلاق؟ لماذا لا ينفر منه الأدباء؟ لماذا لا تحمل عليه جمعيات الهداية والشبان والإخوان والأنصار، وخطباء الجمعة؟ هل تريدون كلمة الحق: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}؟ إنّكم منذ خالفتم فطرة الله فقلتم المرأة مثل الرجل سواء بسواء، ونسيتم أنها لاتتم المساواة حتى تسنوا قانوناً يجبر الزوج أن يحبل سنة والمرأة سنة، ويرضع شهراً وترضع شهراً، ويحلق لحيته مرة وتركّب لها لحية مرة أخرى ... ومنذ عكستم حكمة الخالق فجعلتم المرأة قوامة على الرجل وجعلتم طاعتها تمدناً ورقيّاً وإن كانت تطيع الشيطان، ومذ علمتموها ما لا ينفعها من العلوم، وما لم تخلق له ولا يصلح لها فتحتم الطريق التي تذهب إلى جهنم مارة بستانلي باي! وطارت شرارة منها فأضرمت هذه النار ... ¬

_ (¬1) أعني غير الشرعي منه.

إنها النار ... وإني نذير لكم! فهل تطفئوها قبل أن تستفحل؟ يا كتاب مصر! يا علماء مصر! يا رجال مصر! إنها النار ... وإنها لن تحرقكم وحدكم، ولكن تحرقنا معكم لأنا اتخذنا مصر إماماً وائتَمَمْنا بها. إنا جعلناكم قادتنا وتبعناكم، فاللَّهَ اللَّهَ أن تقودونا إلى الدمار والعار وإضاعة الذمار ... وأن نصلى في الدنيا ناراً وفي الآخرة (النار)! ... ***

الأدباء الرسميون

الأدباء الرسميّون نشرت سنة 1939 ما كان لي أن أعرض إلى هذا الموضوع بعد ما تكلم فيه الأستاذان العقاد والزيات، لولا أن في النفس منه أشياء، وأن آراء العامة فيه يعمها الضلال البين، ويعوزها التقويم، وأن من الناس من يدعي الأدب ثم يزن أهله بميزان الحكومة، فيضع قيمتهم الأدبية في كفة، ويضع في الكفة الأخرى درجتهم في (الوظيفة) ومبلغ ما يقبضون من مرتب. فالشاعر الذي يعلم في مدرسة ابتدائية، لا يساوَى بالشاعر المدرس في الثانوية؛ والأديب الذي يعمل في تفتيش اللغة العربية أكبر من الأديب الذي يشتغل بالتدريس. أما الشاعر الذي جعلته الوزارة أو أصارته الأيام أول المفتشين، فواجب وجوباً أن يكون شاعر الشرق كله، أو شاعر العرب على الأقل الأدنى .. ويدللون على هذا المنطق السقيم بأن الحكومة لو لم تجده أعلم العلماء وأبرع الأدباء ما أحلته هذه المنزلة؛ فالطعن في تقدمه طعن في الحكومة ونفي لحسن التقدير عنها ... وامتد هذا الجهل إلى الصحف، فصارت تقدم من الأدباء من قدمته الحكومة وتكتب في رأس المقالة كما يكتب صاحبها في ذنبها، مرتبته ودرجة الوظيفة الحكومية التي يقوم بها، كأنها هي الشهادة له بتمكنه في الأدب وعلو كعبه فيه، وغدا من المستحيل أن يقدم شاعر مجوّد محسن ولكنه مدرس عادي، على شاعر مفتش أو رئيس ديوان ولو كان دونه إحساناً وتجويداً، كأن شعر الوزير في الشعر كشخص الوزير في الناس، يتقدمهم ويعلوهم ولا يوزنون به ولا يتقدمون عليه. ومشى هذا المنطق السقيم وهذا الجهل البين في الناس، حتى صار هو القاعدة المقررة والأصل الثابت، وصار غيره هو الفرع الذي يحتاج إلى دليل ... وما من أحد يدرك هذه العلة إدراك الأديب الموهوب الذي اضطرته

الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبة بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته .. وإذا كتب ينقده في صحيفة أو يسمّع به في مجلس، قامت عليه القيامة ونفي إلى أقصى الأرض، أو أخرج من الوظيفة إخراجاً، ثم لا ينصره عليه أحد لأن الناس قد استقر في أفهامهم أن المفتش أعلم وأبرع من المدرس، ولا سيما إن كان دكتوراً أو كان أستاذاً في جامعة، فإن مثله لا يأتيه الخطأ من بين يديه الامن خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا من فوقه ولا من تحته ... والمدرس يركبه الخطأ من جهاته الست لا لشيء إلا لأن مرتبه أقل، ووظيفته أصغر ... ثم إن عندك الموظفين الجاهلين المتزلفين الذين يتقربون إلى المفتش الشاعر أو الرئيس الأديب بإذاعة فضله، والثناء عليه، ومنحه الألقاب جزافاً، ويستمرون على ذلك ما استمر قاعداً على كرسيه لأنهم عباد صاحب الكرسي ... فتؤثر هذه (الدعاية) -على بطلانها- في نفوس الأخلياء، وينال هذا المفتش الشاعر شهرة ومنزلة لم تقم على أدبه وإنتاجه، وإنما قامت على أرجل كرسيه الأربع وألسنة أتباعه التي تشبه أرجل الكرسي ... وربما خدع التاريخ بهذه الشهرة -والتاريخ يخدع أحياناً- فانطمس الحق وعمت البلية ... فما هو سبيل الخلاص من هؤلاء (الأدباء الرسميين) الذين يستغلّون هذه الشهرة الزائفة وهذه المنزلة الكاذبة فيقيمون أنفسهم أو تقيمهم الحكومة مقام الأئمة من أهل الأدب، فيرسمون للناشئين خططه ويضعون مناهجه ويملكون تحويله من وجهة إلى وجهة، ويستطيعون أن يؤثروا في مستقبل الأدب بما أوتوا من السلطان، وأن المدارس في أيديهم، وأموال الدولة تحت إمرتهم، تأثيراً لا يقدر على بعضه الأدباء غير الرسميين الذين لا يملكون إلا أقلامهم وعقولهم، بل إن الأدباء الرسميين قد يستطيعون والحكومة من ورائهم أن يسخروا بعض الصحف لغاياتهم ومقاصدهم. ولو كان هؤلاء (الأدباء الرسميون) الذين

تعتمدهم الحكومة وتثق بهم يُختارون دائماً من ذوي المنزلة الرفيعة في الأدب وممن لهم فيه تمكن ورسوخ لهان الخطب؛ ولكنهم قد يكونون على الضدّ ممّا قلت؛ بل قد يسيّر الأدب في وزارات المعارف من ليس بينه وبين الأدب رحم ولا قرابة ... فإلى أين يسير الأدب في حالة مثل هذه الحال؟ وكيف ندفع عن الأدب ذلك المصير المحزن؟ ... لقد أشار الأستاذ الزيات إلى هذه المشكلة وإلى دوائها؛ فرأى أن دواءها العدول عن (السياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس) وتطهير التعليم (من المفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهة الاسم). وأنا أزيد أنه لا بد بعد ذلك من تصحيح مقاييس الناس وإفهامهم أن قيمة الأديب بإنتاجه ومواهبه، لا بوظيفته ومرتبه، وأن الأدب لا يقاس بهذه المقاييس الجامدة، ولا بد من التفريق بين شخصية المفتش والوزير الرسمية وبين شخصيته الأدبية؛ فأنا أرعى للوزير حق مكانته، وأعطيه كل ما ينص القانون على أنه حق له من الطاعة والاحترام. أما الوزير الأديب، والمفتش الشاعر، فإنهما عاطلان من هذه الحصانة، معرضان للنقد، أستطيع أن أدرس أدبهما وشعرهما كما أدرس أدب أي أديب وشعر أي شاعر، وأستطيع أن أحكم لهما أو عليهما، ولا يدخل في حساب النقد وظيفة عالية ولا مرتب ضخم. وإذا اقترح الوزير اقتراحاً في تعديل خطط التعليم، أو رأى رأياً يتبعه أذى للأدب أو خوف على مستقبله، فإنني أستطيع أن أناقشه وأرد عليه. وبغير ذلك لا تنمو المواهب ولا تثمر ثمرها، ولا يزدهر الأدب ولا يعطي أكله. بقي أمر واحد وهو حماية هذا الموظف الأديب الذي ينقد ويبحث، ويقوم بحق الأدب من غير أن يقعد عن حق الوظيفة، حمايته من انتقام الرئيس وتشفي المفتش، ولا يكون ذلك إلا بقانون ينظم علاقة الرئيس بالمرؤوس ويوضح لكل منهما ماله (بالضبط) وما عليه، أما إذا بقي أمر المدرس بيد المفتش والرئيس، وترفيعه وتنزيله تابع لرأيهما و (تقريرهما)، فلا حرية في البحث، ولا ازدهار في الأدب، ولا استثمار

للمواهب، لأن المدرس لا يستطيع أن يضحي بوظيفة هي سبيل حياته ومورد رزقه من أجل بحث أو فصل أدبي فيسكت على مضض، ويتوالى سكوته، فتموت قريحته، وتذهب ملكته، ولا يبقى فيه بقية لإنتاج. وإذا ذكرنا أن وضعنا الاجتماعي الشاذ ساق أكثر الشباب طوعاً أوكرهاً إلى وظائف الحكومة قدرنا مبلغ الخسارة الأدبية التي يُمنى بها الأدب، ومبلغ الأذى الذي يصيبه به (الأدباء الرسميون) الذين يعملون عمداً وبغير قصد على تقييد حرية الأدباء، وقتل المواهب، وسد الطريق على الناشئين المتأدبين ... هذا وإن الأديب لا ينتج ولا يعمل إلا معتداً بنفسه واثقاً بها، وهذه العزة وهذه الكبرياء الأدبية هما عدة الأديب، فإذا خسرهما لم يصلح بعدهما لشيء. ومن نظر في حياة الموظف الصغير نظر مدقق ناقد، رأى أنه لا يستطيع أن يجمع بين إرضاء رؤسائه وبين الشعور بهذه العزة الأدبية، وما له من فقد إحداهما بدّ، وهو يؤثر (على الغالب) أن يفقد عزته الأدبية على أن يخسر وظيفته. وكم من موظف أديب نابغ معتد بنفسه، رأى ألوان الإيذاء، واتهم بالشذوذ والعناد، وعاداه صحبه ورؤساؤه، لأنه لم يبع كرامة نفسه وعزتها بهذا المرتب القليل؛ وربما كان هذا الموظف المغضوب عليه، المنسى المهمل، من خير الموظفين علماً وكفاية وقياماً بعمله، وحرصاً على الواجب عليه ... ولكنهم الرؤساء، أولئكم (الأدباء الرسميون) ... ***

بين الزوجين

بين الزوجين أذيعت سنة 1948 (¬1) يا سادتي ويا سيداتي. قعدت لأكتب هذا الحديث، فما بدأت به حتى هبت العاصفة في بيت الجيران، وعلت الأصوات، وزمجر الرجل وصخب، وولولت المرأة وعيّطت (¬2)، وقام الشيطان يهيج للشر ويضحك، ثم هدأت العاصفة فجأة كما هبت فجأة، وأعقبها سكون ثقيل، سمعت له دوياً في أذنيّ شغلني عن الكتابة، فقمت أنظر من شباكي الذي يكشف مكانهم ويبدي كلّ ما فيه (¬3). انظر ماذا جرى. فإذا الزوج قاعد في ركن المنزل ينظر في جريدته عابساً، ولا أظنه يفقه منها حرفاً، والمرأة في الركن الآخر تطرز ولا أحسبها تلقي لتطريزها بالاً، وهو يندب حظه يحسب أنه وحده الخائب في زواجه، وهي تبكي جدّها تحسب أنها وحدها التي فقدت سعادتها، ورأيت الولد قد ملّ هذا السكون ... فمشى إلى أبيه خائفاً يترقب، فقال له: - بابا. أعطني شُكلاطة. فصرخ به زاجراً: قل لأمك. أتريد أن أخدمكم في السوق وفي البيت، وأن أعمل عمل الرجل والمرأة؟! فابتعد عنه الولد، ونظر إلى أمه، فصاحت به من غير أن ترفع رأسها عن شغلها: - ابتعد عني وإلا كسرت رأسك، أنت أصل السبب، يا ضيعة تعبي، ¬

_ (¬1) أنا أذيع من يوم أنشئت الإذاعة العربية من أكثر من خمسين سنة، وكنت أكتب أحاديثي، ثُم صرت أرتجلها، ولو أني جمعتها لجاءت في أكثر من عشرين مجلداً. (¬2) «عيط» في الشام: صاح، وفي العربية كذلك «تقريباً»، وفي مصر: بكى. (¬3) وهذه بلية من بلايا هذه المساكن الجديدة ...

أشقى من الصباح إلى المساء فلا أجد من يقول لي: الله يعطيك العافية! فهمّ الرجل بالانفجار، ثم تماسك وتجلد، وسكت على غيظ ومضض، ومشى الولد إلى الأريكة فتكوّم عليها، ودس وجهه في وسادتها، وراح يبكي بكاء خافتاً متصلاً موجعاً! وعاد البيت ساكناً كما كان، ومرت دقائق، لمحت فيها على وجه المرأة ظلال نزاع عنيف في نفسها، بين شفقتها على ولدها، وغيظها من زوجها، ثم رأيتها تثب فُجاءة؟ فتمضي إلى غرفتها فتنبطح على سريرها وتنشج ... ويرفع الرجل رأسه، متعجباً منها، ويضيق صبره على هذه المسرحيات (تمثل) في بيته وهو يريده بيتاً فيه الهدوء والمحبة ولا يفهم سر بكائها وهي -عنده- الظالمة، فيمضي إليها بعد تردد، حتى يقوم أمام السرير منتصباً مربد الوجه، كأنه القائد العسكري في جنده، أو النائب العام في مقعده، ويقول لها بصوت بارد كالثلج متماسك كالجليد: - وما آخرة هذه المساخر؟ وكانت تظنه قد جاء يواسيها في كربتها، ويعطف عليها، ويحاول أن يفهم ألمها، ويزيح همها، فلما سمعت ذلك منه، فقدت عقلها، فصاحت: - مساخر؟ أنتم الرجال ليس عندكم وفاء، ليس لكم قلوب، إنكم ... فنسي أنه أمام امرأة، وأنه أمام زوجة، وحسب أن الذي يقول له هذا الكلام قرن له أو خصم، فأجابها جواب الأقران، وكلمها كلام الخصوم، ولم يبق بينها وبين الطلاق إلا شعرة واحدة. فذهبت إليهما فصحت بهما: بسّ، انتظروا، قولوا ما هي الحكاية؟ فنظرا إليّ، وحسباني (وأنا قريبهما) عفريتاً قد نبع من الأب ففزعا منه، ثم اطمأنا إليّ وعرفاني، وانطلقا يتكلمان بصوت واحد كلاماً متواصلاً متداخلاً، تتلاحق كلماته، كأنه السيل انهدم سدّه فاندفع، أو لسان النار غفلت عنه فاندلع، وما فهمت الحكاية حتى كادت نفسي تزهق ... و (الحكاية) التي سببت هذه النكبة، وكادت تهدّ بيت الزوجية، وتطلق

الزوجة وتشرد الولد، أنه جاء من عمله فوجد الصبي على الباب، والباب مفتوحاً، وليس عنده أحد يمنعه أن يمشي فيضل في الحارة، أو تدعسه (¬1) سيارة أو تلفحه الشمس، أو يصيبه المرض، وتخيل ألف مصيبة قد حاقت بالصبي ونزلت به فاستحال حبه له حنقاً على أمه التي أهملته، وتركته على شفا الهلاك، ودخل مغضباً محققاً، وبدأها باللوم قبل السلام، وكانت قد نظفت الدار وأعدت الطعام، و (لبست ...) تنتظر وصوله، لتسعد بقربه، وتجد مكافأتها في شكره إياها ومسرته منها، فلما رأته مخاصماً تبدد أملها، وخاب ظنها، وسيطر عليها الغضب، حتى أعماها عن حادثة (الباب المفتوح) والخطر المرتقب، فلم تر فيها إلا حادثة تافهة، لم ينشأ عنها شيء ولم يأت منها ضرر. وبدأ من هنا الخلاف، وتطاير الشرر. يا سادتي ويا سيداتي: هذه صورة ترون كل يوم أمثالها، فاسمحوا لي أن أجعل حديثي هذه العشية تعليقاً عليها، وبياناً لها، وليست صورة غريبة عنكم ولا نادرة، بل الغريب النادر أن تخلو دار منها؛ وأنا قاض شرعي عملي أن أرى دائماً دخائل البيوت، وأن أطلع على أسرار الأسر، فصدقوني إذا قلت لكم، إني لا أعرف زوجين لا يختلفان، ولكن خلاف الأزواج كحريق في كومة من القش ملقاة في رحبة الدار، إذا أطفأته أو تركته وينطفئ همد بعد لحظة، وحمل الريح رماده، فلم يرزأك رزءاً، ولم يعقبك أذى، وإن هجته أو أدنيت منه ثوبك، أو قربته من بيتك، أحرق الثوب وخرب البيت، ولقد كان بيني وبين زوجتي اليوم خلاف كهذا، فقلت لها: - تعاليْ أعينيني على كتابة مقالة؟ وكانت هذه المقالات ضرَّتها، فحسبتني أسخر منها، واندفعت تريد أن (تقول) ... فما زلت بها أكلمها بجد، حتى بدا عليها الاهتمام وقالت: - وكيف أعينك؟ ¬

_ (¬1) دعسته السيارة: وطئته، أما قولهم دهسته، فهو من الغلط.

قلت: لقولين لي كيف يختلف الأزواج؟ ومضينا نستعرض حوادث الاختلاف بيننا ونحلِّل أسبابها فانتهينا إلى الضحك منها. يا سادة ويا سيدات: إنه قد يكون بين الزوجين اختلاف مفهوم على مال أو عقار، ولكنه نادر وأكثر الخلاف تافه مضحك، ليس له إلا عندهما قيمة أو خطر، وأنا أفهم أن تهتم المرأة بهذا، وما دامت تريد أن تشغل عقلها كما تشغل يدها، وما دامت لا تجد مشكلة علمية أو أدبية تبحث فيها وليس لها إلا مشاكل البيت -ولكن ما بال الرجل يهتم بها ويبالغ في تقديرها؟ تقولون: كيف نصنع ليسود البيت السلام ويشمله الهدوء؟ أنا أقول لكم؛ مقالة مجرب حكيم، فاستفيدوا إن شئتم من حكمتي وتجربتي. هذه (أقراص) سهلة البلع، عظيمة النفع، فيها شفاؤكم من هذا الداء: أولها: أن الزواج يبدأ بالحب والعاطفة، والحب أوله حلاوة وآخره مرارة، فهو يعمي البصر، ويصمّ الأذن، ويغطي العيوب، فإذا زال الغطاء، ولا بد يوماً أن يزول الغطاء، وبدا المحجوب من العيوب، وظهر المستور من الأمور وافتقد الزوجان لذة الحب فلم يجداها، انتهى شهر العسل، وبدأت سنوات العلقم، فتجرعا العمر كله مرها، وقاسيا ضرّها. والدواء ألا يرقب الزوجان المحبة والعشق، فالحب عمره كعمر الورد، لا يعيش إلا أمداً قصيراً، ومن طلبه بعد عشر سنين من الزواج كان كمن يطلب من وسط القبر من العظام والرمم الغادة الحسناء والفاتنة الهيفاء. لا، ولكن مودة وإخلاص وحب كحب الأصدقاء والإخوان. وثانيها: أن الرجل يغتفر لصديقه ما لا يغتفر لزوجته، ويحمل منه ما لا يحمل منها، ويتسامح معه فيما لا يتسامح فيه معها، وما ذلك إلا لأنه يصدق هذه الخرافة التي تقول إن الرجل والمرأة كليهما مخلوق واحد، فهو يريد منها أن تفكر

برأسه، وهي تريد منه أن يحبس بقلبها، مع أن الناس كخطوط مستطيلة وفيها اعوجاج يسير، فإذا كانت متباعدة بدت للعين متوازية متوافقة تضيع من البعد هذه الفوارق الصغيرة بينها، فإذا تدانت وتقاربت، بانت الفجوات، فأنت تصحب الصديق عشرين سنة، فلا ترى بينك وبينه اختلافاً ثم ترافقه أسبوعاً في سفر، تنام معه وتأكل وتشرب فترى في هذا الأسبوع مالم تره في السنين العشرين، فتشنؤه وتبغضه وقد كنت تحبه وتؤثره. والله لم يخلق اثنين بطباع واحدة، لا الصديقين ولا الزوجين، فليكن الزوجان متباعدين قليلاً، حتى لا يظهر الاختلاف بينهما وليكن بينهما شيء من الكلفة والرسميات ... كما يكون في عهد الخطبة وأوائل الزواج، ولتكتم عنه بعض ما في نفسها، فإنه ما تكاشف اثنان إلا اختلفا. وما زالت الكلفة إلا زالت معها الألفة، لأن المرء يتظرف ليظرف، ويتلطف ليلطف، ويساير الناس ليحبه الناس، فإن لم يفعل ثقل عليهم، وأنا أعرف رجالاً من أهل النكتة والظرف، يحرص الناس عليهم في مجالسهم لخفة أرواحهم، وحلاوة أحاديثهم إذا دخلوا بيوتهم كانوا أجهل الناس وجهاً، وأيبسهم لساناً، وأثقلهم نفساً وما ذاك إلا لإسقاط الكلفة، وإذهاب المجاملة. وثالثها: أن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساء في أحسن حالاتهن قد طلين وجوههن، وجمَّلن ثيابهن، ثم يدخل داره، فيرى زوجه على شرّ هيئة، وأقبح صورة: مصفرة الوجه، قذرة الثوب، منغمسة في أوضاع المطبخ أو غارقة في غبار الكنس، فيظن أن نساء الطريق من طينة غير طينتها، وأن عندهن ما ليس عندها، فيميل إليهن وينصرف عنها، والدواء أن تكون المرأة عاقلة، فلا تجعله يراها إلا في الهيئة التي تخرج فيها من بيتها، وتستقبل عليها ضيفها، ولا تدعه يبصرها نائمة (¬1) ولا يراها بغير زينة، ولا يطلع عليها في مباذلها وأعمالها. ورابعها: أنه لا بد لكل شركة أو جماعة من رئيس، فإن كان في المركب ¬

_ (¬1) وجدت هنا لما جئت المملكة ودرست في جامعاتها وجدته في بعض كتب الفقه الحنبلي ولعله كتاب (الانصاف) فعجبت من بعد نظر مؤلفه، ومعرفة بأسرار النفوس.

رئيسان غرق المركب، ولو كان في السماء والأرض إلهان فسدت السماء والأرض فلا بد من ترئيس أحد الزوجين والرجوع عند الاختلاف إلى رأيه، واعتراف الثاني برياسته وعلى الرئيس بعد أن يكون حاكماً بعدل ورفق، وعلى المرؤوس أن يكون طيّعاً بفهم واحترام. وخامسها: أنه لا بد لدوام المودة من اغتنام الفرصة لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه: هدية ولو صغرت، وطرفة ولو قلّت، واهتمام منها بصحته وراحة نفسه ومطعمه وملبسه وكتبه، وأن يصبر كل منهما على غضب الآخر وتعتبه. يا سادة: إن مشكلات البيت هيّنة سخيفة، ولكنها إن استفحلت نغّصت العيش وسودت وجه الدنيا، ولم ينفع معها ملك ولا مال، فلقد كان الإمبراطور نابليون الثالث يجد من مكارهها مالم ينجه منه ملكه، وكان الرئيس لنكولن يلقى من متاعبها ما لم يخلصه منه سلطانه، وإني لأستأذن السيدات المستمعات بأن أختم هذا الحديث بكلمة لامرأة مثلهن هي (آن شرر). قالت: «إن بين كل عشر نساء تسعاً يحرصن على مضايقة الرجل، وتنكيد عيشه ولهن إلى ذلك وسائل لا تحصى، وهن يعتقدن أنه لا عمل للرجل إلا الثناء على جمالهن يومه كله، وامتثال أوامرهن، وإجابة رغباتهن، وإذا رأينه مقبلاً على قراءة أو كتابة أو عمل له، اقتحمن عليه مكتبه، ونفضن في وجهه من المنغصات ما يحيل عزلته سجناً، وحياته جحيماً». فيا سيداتي المستمعات: أرجو أن لا تكون فيكن واحدة من هؤلاء! ***

صديقي رمضان

صديقي رمضان نشرت سنة 1939 صديق عزيز، لقيته، وأنا طفل في دمشق، ثم افتقدته وأنا شاب أذرع الأرض وأضرب في بلاد الله، وفرحت بلقائه وأحببته، وألمت لفقده وازداد حنيني إليه، فأين أنت يا صديقي رمضان؟ كنت أرقب قدومه، وأحسب له الأيام والليالي على مقدار ما يحسن طفل من الحساب، فإذا جاء فرحت به وضحكت له روحي لأني كنت أرى الدنيا تضحك له وتفرح بقدومه. كنت أبصره في المدرسة، فالمدرسة في رمضان مسجد، ودرسها تلاوة وذكر، وأهلوها أحبة، ما فيهم مدرّس يقسو على طلاب، وطلاب يكرهون المدرس، لأن رمضان وصل النفوس بالله فأشرق عليها من لدنه النور فذاقت حلاوة الإيمان، ومن ذاق حلاوة الإيمان، لم يعرف البغض ولا الشرّ ولا العُدوان. كنت أراه في الأسواق، فالأسواق تعرض بضاعة رمضان وتفيض عليها روح رمضان فتمحو الغش من نفوس أهلها محواً ويملؤها خوف الله ورجاؤه، وتقف ألسنتهم عن الكذب لأنها جرت بذكر الله واستغفاره، وهانت عليهم الدنيا حين أرادوا الله والدار الآخرة، فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر، أو يخدعهم في مال أو متاع، ويمضي النهار كله على ذلك، فإذا كان الأصيل ودنا الغروب تجلى رمضان على الأسواق بوجهه فهشت له وجوه الناس، وهتفت باسمه ألسنة الباعة، فلا تسمع إلا أمثال قولهم: «الصايم في البيت بركة» - «الله وليك يا صايم» - «الله وليك ومحمد نبيك»، ثم لا ترى إلا مسرعاً إلى داره حاملاً

طبق «الفول المدمس (¬1)» أو «المسبحة» أو سلال الفاكهة أو قطع «الجرادق» (¬2)، ثم لا تبصر إلا مراقباً المنارة في دمشق ذات الثمانين منارة كبيرة، أو منتظراً المدفع، فإذا سمع صيحة المؤذن أو طلقة المدفع دخل داره، والأطفال يجتمعون في كل رحبة في دمشق ليسمعوها فيصيحوا: أذن ... أذن ... أذن ... ثم يطيروا إلى منازلهم كالظباء النافرة. وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة، ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة (المسلم أخو المسلم) فتبدو في أكمل صورها، فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه، تمرات أو حبات من زبيب، هينة في ذاتها، تافهة في ثمنها، ولكنها تنشئ صداقة وتدل على عاطفة، وتشير إلى معنى كبير. وكنت أنظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضم الرجل إلى أهله، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة. فواشوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب المنفرد (¬3) في مطعم أجنبي لا أجد فيه صائماً ولا أسمع فيه أذاناً ولا أرى فيه ظلاً لرمضان. فإذا انتهت ساعة الإفطار، بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها، حاشا الحرمين وثالثهما، وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل فأراه عامراً بالناس ممتلئاً بحلق العلم كما كان عامراً بهم ممتلئاً بها النهار بطوله، فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ، وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعاته ¬

_ (¬1) الديماس في اللغة: الحمام. (¬2) أطباق جافة رقيقة وكبيرة تصنع من مواد خاصة يرش عليها الدبس، ولا تصنع إلا في رمضان. الواحدة جردقة، وهي كلمة فصيحة. (¬3) كتبت هذه المقالة وأنا موظف في كركوك «في شمالي العراق».

ومن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقي ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في النفوس وفساد الزمان (¬1) .. وإن أنسى لا أنسى تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدّ إليها الكهرباء، فكانت توقد مصابيحها (وهي أكثر من ألف) بالزيت واحداً بعد واحد يشعلها الحسكيون (¬2) وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب فيكون لذلك المشهد أثر في النفس واضح، ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجلّ منه ولا أعظم إلا الصلاة حول الكعبة في مسجد الله الحرام فإن ذلك يفوق الوصف، ولا يعرف قدره إلا بالعيان. وليس يقلّ من يصلي التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفاً (¬3)، وهو عدد يكاد يشكّ فيه من لم يكن عارفاً بحقيقته ولكنه الواقع، يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم. وحدّث عن الليالي الأواخر (في دمشق) ولا حرج، وبالغ ولا تخشى كذباً، فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة، تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفاً حول السدّة بعد التراويح، ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردّد الناس كلهم: يا شهرنا ودعتنا عليك السلام! يا شهرنا هذا عليك السلام، ويتزلزل المسجد من البكاء حزناً على رمضان (¬4). ... وسَحَر رمضان! إنه السِّحر الحلال. إنه جنة النفس ونعيمها في هذه ¬

_ (¬1) على أن تكرار الجماعة في مثل الأموي يخالف السنّة. (¬2) الحسكة خادم الأموي، كلمة شامية ولعل أصلها من الحسكة، ومعناها بلغة المغرب: المشعدان، وزخرفة المساجد واتخاذ أمثال هذه الثريا من البدع. (¬3) هذا ما كان عند نشر هذا الفصل سنة 1939، فيا أسفي كم تبدلت الحال الآن! أما الذين يصلُّون في الحرم في مكة فقد زادوا هذه السنة (1407) على ثلاثمئة ألف، في الصحن وفي الطبقة الأولى وعلى السطح المضاد المفروش. (¬4) وذلك كله من البدع.

الدنيا، وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سَحر رمضان، فأين ذهب رمضان؟ وأنّى لي بأن تعود أيامي التي وصفت لأعود إليه؟ ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام إني لا أشتهي شيئاً إلا أن أعود طفلاً صغيراً لأستمتع بجوّ المسجد في رمضان وأنشق هواءه وأتذوق نعيمه. لم أعد أجد هذا النعيم، وما تغيَّرت أنا أفتغيرت الدنيا؟ إني لأتلفت أفتش في غربتي عن رمضان فلا ألقاه لا في المسجد ولا في السوق ولا في المدرسة، فهل مات رمضان (¬1)؟ إذن فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمّي، وأضعت راحة روحي يوم افتقدت رمضان، فعلى قلبي وأمي ورمضان وروحي رحمة الله وسلامه! ... ¬

_ (¬1) لا. ولا يموت، وأحمد الله على أن أحياني حتى عشت في مكة -ورأيت في الحرم- ما يعدُّ معه رمضان الشام يوماً من عام.

النشيد السوري

النشيد السوري (¬1) نشرت سنة 1946 كانت نشأتنا الأولى في عهد العثمانيين، وكانت لهم أناشيد يلقونها علينا باللسان التركي، إذ لم نكن نفهم معانيها الضخمة إلا بالترجمة، والترجمة لا تحمل دائماً لمعنى كله، فلقد كانت تهزنا ألحانها القوية المثيرة التي وضعت لتكون لمشاة الجيش قوة وعوناً. وكنا إذا أنشدناها سائرين لا نستطيع أن نقف، وإذا تلوناها واقفين سرنا، وإن قرأناها قاعدين حركنا، من غير قصد منا، أيدينا وأرجلنا - وأنها لتحرك الحجر! ثم جاء عهد فيصل، وكان عهد ازدهار وحياة ونشاط بدا في كل شيء، فنشطت فيه الأناشيد العربية من عقالها. فترجمت أكثر الأناشيد التركية. فكان منها نشيد: أنا أمي لم تلدني ... إلا للحرب العوان بنغمته القوية، ولحنه العاصف - وكان أسْيَرَ أناشيد ذلك الزمان وأشهرها نشيد: (أيها المولى العظيم)، الذي اعتبر النشيد الوطني السوري بل العربي، على هلهلة أسلوبه، وضعف معانيه، يليه في الشهرة والذيوع نشيد: أنت سوريا بلادي ... أنت عنوان الفخامه كل من يأتيك يوماً ... طامعاً يلقى حمامه ¬

_ (¬1) ناظم هذا النشيد أديب كبير، وصديق كريم، وهو يعلم أن ليس له عندي إلا الإجلال والتوقير، وأن الشاعر «وإن نبغ» يسبق تارة ويقصر، وإن النقد «وإن قسا» لا يصدر عن حقد، ولا يرمي إلى تحقير، وإن مصلحة الوطن بإصلاح نشيده تسوغ مفاجأة الصديق الكبير بنقد هذا النشيد.

لفخري بك البارودي، وهو نشيد ضعيف النسج، متهافت البناء، لكن معانيه في الذروة، واشتهرت أناشيد أخرى منها نشيد: (سيروا للمجد طراً سيروا للحرب، واستعيدوا بالمواضي دولة العرب)؛ ونشيد طلاب المدرسة الحربية: (نحن جند الله شبان البلاد)، وهو من خيرها لفظاً ومعنى، وقد جمعها (الفلاح العربي) في رسالتيه المعروفتين في تلك الأيام. ثم لما قضى الله قضاءه فينا في (ميسلون)، ووقعت الواقعة، ودخل العدو ديارنا، منعت هذه الأناشيد كلها، إلا أن تردد همساً، واشتهر يومئذ نشيد الأستاذ أديب التقى، رحمه الله: (في كل صوب حشدت عساكر مدججون)، الذي يصور فيه موقعة ميسلون، فكان ينشد وراء الأبواب، وحيث لا يسمعه الغاصبون، وهو نشيد جيّد، لحنه حزين مؤثر. وانقطع بعد ذلك سيل الأناشيد الوطنية، حتى قدم علينا من العراق الكشافين في العهد الوطني الأول (سنة 1936)، فأخذنا منهم نشيدين اشتهرا فينا وسارا بيننا، حتى كان الطفل الذي لم يتعلم بعد الكلام يدير في حلقه كلمات منهما، وهما (هذا الوطن حق له أن يفتدى بالدما والمهج) و (نحن كشاف العراق)، والشعر فيهما ليس بذاك، واللحن فظيع هو أشبه بصراخ لا دلالة له، منه باللحن الذي يؤثر في الأعصاب ويحرك القلب، ولكنهما مع ذلك نشيدان قويان. ووضعت على أثر ذلك أناشيد جيدة منها (نحن الشباب لنا الغد)، ولكن يعيب لحنه هذه الصيحة المؤنثة في آخر البيت، عند تكرار (نحن الشباب)، فهي صيحة عجوز ثاكل كان لها الأمس، لا صيحة شباب لهم الغد، والنشيد العظيم حقاً في نظمه ولحنه، ولفظه ومعناه، نشيد: (موطني) لفقيد الشعر إبراهيم طوقان -رحمه الله- ومن أجودها لحناً نشيد الأستاذ حسني كنعان: (أيها الكشاف بادر وارتق أوج العلا)؛ ولحنه نموذج للألحان الحماسية - نسجل هذا للتاريخ! وصحت النية على وضع نشيد للجمهورية السورية، وكانت مسابقة،

ولجنة، وجاهزة، ثم عدل عن ذلك واختير النشيد الذي قدمه هذا الأديب الكبير، فلما قرأناه علمنا أنه لوحظ باختياره اسم الشاعر ومنزلته، وأنه لهما لا لبراعة الشعر فرض علينا هذا النشيد، واحتملناه سنين، غير أنه لا يصح أن نحتمله الآن، وقد تم استقلالنا، أو هو قد أشرف على التمام، واستقبلنا عهداً من حياتنا جديداً، ولا بد من بيان عيب هذا النشيد لنستبدل به. ... الأصل في النشيد الوطني أن يكون على لسان المتكلم، لأن الأمة هي التي تردده وتنطق به، وهذا النشيد موجه إلى حماة الديار، مطلعه: حماة الديار ... عليكم سلام أبت أن تذل ... النفوس الكرام فمن الذي يقول هذا الكلام، ومن المخاطب به؟ إن كان ينطق به الشباب وهم حماة الديار، لم يعقل أن ينادوا أنفسهم، ويسلموا عليها، وليس هذا من (التجريد) الذي كان يألفه شعراء العرب؛ وإن كان يقوله غير الشعب لم يكن مقبولاً لأن النشيد يوضع ليقوله الشعب ويترجم به عن آماله ومطامحه. وهذا السلام أليس أشبه بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام، منه بأسلوب الشعراء الأبيناء (¬1)؟ ثم يقول بعد هذا: عرين العروبة ... بيت حرام وعرش الشموس ... حمى لا يضام فلا يعرف السامع ما عرين العروبة هذا، أهو الجزيرة أم مصر أم الشام أم العراق؟ ولا يعرف المسلم (بيتاً حراماً) إنما يعرف البيت الحرام، لا ثاني له، فهذا التنكير أولاً، وابتذال اسم البيت الحرام في كل مكان ثانياً، كلاهما قبيح. وما هو هذا العرش، والنشيد نشيد جمهورية؟ أفنظمه ليكون النشيد الرسمي ¬

_ (¬1) الأبيناء: جمع بين.

لبني أميّة، وأي شموس هذه؟ وما هذا الإبهام حيث لا يحسن إلا التصريح والتوضيح؟ يأتي بعد ذلك هذا المقطع العجيب: ربوع الشام ... بروج العلاء تحاكي السماء ... بعالي السناء وأرض زهت ... بالشموس الوضاء سماء لعمرك ... أو كالسماء أما (بروج العلاء) هذه فتصح في كل أرض يريد أن يبالغ في مدحها القائل، ولا تدل على ميزة للشام ولا تصفها بصفة فيها ولا تعرّف بها الغريب عنها، ولا تحببها إلى أبنائها، فهي كمراثي الأستاذ علي الجارم التي تصلح لغازي وللإسكندر المكدوني وللشيخ المراغي، لأنها تهد الجبال وتبكي السماء، وتقيم القيامة، أو ترسل على الدنيا قنبلة ذرية، لا بحجم البيضة، بل بحجم الفيل، ثم لا تذكر المرثيّ بشيء مما كان عليه. وهذا استطراد نعتذر إلى الشاعر الكبير علي الجارم بك منه، فقد جرته المناسبة. وما دامت الشام بروج العلاء، وكان ذلك قد تقرر لدى السامع فما معنى كونها تحاكي السماء، وبروج العلاء هي السماء في أفهام الناس كلهم، وهل السماء أسنى سناً من البروج؟ المسألة تحتاج إلى خبير فلكي. ثم إن الضياء هو السنا بالقصر، أما السناء بالمد فهو الارتفاع، ومن هنا أطلق على المجد مجازاً، فصار معنى قوله: (بعالي السناء) برفيع الارتفاع، وهو الحشو نفسه وهو إذا قبل في القصيدة لا يقبل في النشيد، لأن النشيد كلمات معدودة وألفاظ محدودة، لا يجوز أن يذهب لفظ واحد منها من غير أن يدل على شيء. وهو بعد أن جعلها بروج العلاء التي تحاكي السماء، عاد فهبط بها فجعلها (أرضاً زهت) ولكن بالشموس الوضاء! وما فهمت إلى اليوم ما يريد بهذه الشموس التي يرددها ولا يشبع من ذكرها، إن كان يريد الحقيقة فهي شمس

واحدة ما خلق الله سواها؛ وإن كان يقصد المجاز؛ فليذكر ما يدل عليه ويصرف الفكر إليه، وما كل سامع للنشيد أو تالٍ يستطيع أن يجد له التأويل، هذا إذا كان لهذا الكلام العجيب تخريج أو تأويل. وأعجب العجب، وأقبح القبح، أن يعود بعد كل ما مر، فيجعلها سماء لم ينزل بها فيجعلها كالسماء، وهذا ضدّ ما عليه البلغاء في كل عصر، وفي كل أمة، ولا أحسب ذوقاً في الدنيا يسيغه، عدِّ عن هذا الحشو في كلمة (لعمرك) وعمر من هذا الذي يحلف به؟ ولمن هذا الخطاب؟ والمفروض في النشيد كما بينت أن ينطق به الشعب كله؟! وما هو مغزى هذا كله، وما دلالته، وأي مجد للشام يذكر، وأي عاطفة تثير؟ لا شيء، إلا هذه المناقشة المزعجة في الشام: هل هي بروج العلاء تشابه السماء برفيع الارتفاع؟ أم هي أرض ولكن زهت بالشموس!؟ أم هي سماء (وحياة عمرك ...) أم هي كالسماء؟ هذه هي المشكلة الوطنية الكبرى، ملأ النشيد بذكرها، وهذه هي آمال الوطن ومطامحه، والله المستعان! ... وباقي النشيد لا يختلف كثيراً عما ذكرت منه، على حين أن النشيد يجب أن يكون موضوعاً على لسان الشعب، وأن يكون قويّ العبارة، خالياً من الحشو، واضحاً كل الوضوح، صالحاً لكل زمان، معبراً عن آمال الشعب وآلامه ومطامحه، مثيراً نخوته وحماسته، مشيراً إلى ماضيه، وجمال أرضه ودياره، إلى غير ذلك مما يوصل إلى الغاية من وضع النشيد، وهي إثارة العزة الوطنية في النفوس، وأن يختار له النغم القويّ من غير خشونة، العاطفي بلا ضعف. وحياة النشيد بلحنه وما يهز هذا اللحن من أوتار القلوب، ويحرك من أعصاب السامعين، فإذا كان لنا نشيد يشتمل على هذا كله ... وإلا فلا تقولوا: لنا نشيد (¬1)!! ... ¬

_ (¬1) ناظم النشيد هو أستاذنا خليل مردم بك رحمه الله، وهو شاعر بليغ، رفيع المقام، فاضل الأخلاق. وابنه الأستاذ عدنان شاعر كبير. وملحن النشيد أستاذنا مصطفى الصوَّاف.

§1/1