في النقد الأدبي

علي علي صبح

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله {الرَّحْمَنَ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ3، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ4،} والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه -رضي الله عنهم. ظل النقد الأدبي العربي يتابع الفنون الأدبية منذ نشأتها، فيهتزُّ الناقد من أعماقه بالقبول قصائد اشتهرت في العصر الجاهلي، وعلقت على أستار الكعبة، وأطلقوا عليها المعلقات أو المذهبات أو المسموطات. كما أطلقوا على بعض الشعراء ألقابًا تدل على الجودة مثل المرقش، والنابغة، والمهلهل، والمتنخل، أو صفات كذلك مثل: الحوليات وعبيد الشعر، ولامية العرب، كما قالوا: هذا بيت القصيد، وأصحاب المراثي، وغير ذلك من الأحكام النقدية العامة، وكان الرواة يتناقلون هذه الأحكام والنظرات العامة مشافهة جيلًا بعد جيل، أو يرددونها على المجالس الأدبية، التي كانت تعقد في عكاظ وذي المجاز، والمربد، والمجالس الأدبية للخلفاء والنقاد والأدباء مثل: مجالس سكينة بنت الحسين -رضي الله عنها، وعمرو بن العلاء، وعبد الملك بن مروان، وخلف الأحمر، وحماد الرواية، والأصمعي، والمفضل الضبي، ثم جاء عصر تدوين النقد الأدبي، فظهرت بعض الرسائل والصحف النقدية، مثل: رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب وصحيفة بشر بن المعتمر المشهورة، ووصية أبي تمام لتلميذه البحتري، وغيرها. كانت هذه الرسائل والصحف والوصايا الرائدة في تدوين الحركة النقدية، سار على هديها ابن سلام في طبقاته، وابن قتيبة في الشعر والشعراء، والمرزوقي في شرح الحماسة، والجاحظ في البيان والتبيين والحيوان، والمبرد في الكامل، وأبو على القالي في الأمالي، وابن طبا طبا في عيار الشعر، وقدامة بن جعفر في نقد الشعر، وجواهر الألفاظ، والآمدي في الموازنة، والقاضي الجرجاني في الوساطة، وأبو هلال العسكري في الصناعتين، وابن رشيق في العمدة، وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وابن الأثير في المثل السائر، وابن شهيد الأندلسي في التوابع والزوابع وابن بسام في الذخيرة، وغيرهم من النقاد والقدماء.

تناول هؤلاء النقاد قضايا النقد الأدبي في فنون الأدب المختلفة، لتوضيح القيم الخلقية والفنية في اللفظ والمعنى، والمضمون والشكل، والأسلوب والنظم والصورة الأدبية، والموسيقى والإيقاع، والعاطفة والخيال، والذوق الأدبي، والدربة، وقضية عمود الشعر، وقضية الجمال والحلاوة والجلال، وقضية السرقات الأدبية، ومن خلال هذه القضايا النقدية تعددت المدارس الأدبية والنقدية، فكانت مدرسة المحافظين على عمود الشعر العربي، ومدارس التجديد، والمولدين، والبديع، والصنعة، والتصنيع وغيرها. واتخذ النثر الفني أيضًا اتجاهات مختلفة، ومدارس أدبية متنوعة، تأسست على يد عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، ومدرسة الترسل على يد الجاحظ، ومدرسة ابن العميد، ومدرسة المقامات، ومدرسة الفاضل، وغير ذلك من الاتجاهات النقدية في النثر الأدبي. أصبح هذا التراث النقدي العربي الأصيل بروافده المتنوعة، واتجاهاته الكثيرة ومدارسه النقدية المختلفة، مصادر النقد الأدبي الحديث، يقوم في تجديده على الأصول النقدية القديمة، والمقومات الفنية، والمدارس النقدية، ينبض بها في جميع اتجاهاته الحديثة، ومدارسه النقدية المعاصرة في المحافظة والتجديد، مثل: مدرسة البعث والإحياء ومدرسة المحافظين المجددين، وجماعة أبولو، وجماعة الديوان، حتى أصبح النقد العربي الحديث مرحلة تاريخية جديدة، تعاقبت بعد مراحله الأصلية والعريقة في العصور القديمة. نسأل الله -عز وجل- أن ينفع به إنه نعم المولى ونعم النصير. 30 رمضان المبارك 1420 هـ 7 من يناير 2000م علي علي صبح

القسم الأول: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي

القسم الأول: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي الباب الأول: الآمدي الناقد الأدبي الفصل الأول: الآمدي الناقد الأدبي ... القسم الأول الباب الأول: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي الفصل الأول الآمدي الناقد الأدبي 1- هو أبو القاسم الحسن بن بشر يحيى الآمدي الأصل، البصري المنشأ، ولد بالبصرة فلما بلغ سنَّ الشباب توجَّه إلى بغداد، واختلف إلى مجالس العلماء. يتلقى عنهم اللغة والنحو والأدب. ثم عاد بعد حين إلى البصرة، كاتبًا للقضاة من بني عبد الواحد، ثم برز في الأدب وصارت له شهرة واسعة فيه، وانتهت إليه رواية الشعر القديم، والأخبار في آخر عمره. وقد ألف كتبًا كثيرة في الفقه والنقد، ذكرها ياقوت في الترجمة التي عقدها له، وكان فوق ذلك شاعرًا مجيدًا، رُويت له مقطعات شعرية كثيرة، وتوفي أخيرًا بالبصرة سنة 370هـ. 2- والآمدي صاحب كتب كثيرة نذكر منها: كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء. كتاب تفضيل امرئ القيس على الجاهليين. كتاب معاني شعر البحتري. كتاب الرّدّ على ابن عمار فيما أخطأ فيه أبو تمام. كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك في معاني الشعر. كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر. كتاب ما في عيار الشعر لابن طبا طبا من الخطأ. وأهم كتبه هو كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري.

ونلاحظ أن الآمدي قد ظهرت شهرته. وارتفع صيته في القرن الرابع والدولة الإسلامية واسعة الرقعة والثقافة العربية بعيدة المدى. قد هضمت شتى الثقافات وأحالتها غذاء عقليًّا سائغًا، على أن الآمدي قد درس وبحث، وثقَّف وهذب نفسه بهذه الثقافة العربية في روحها. المتنوعة في ألوانها. والآمدي كما نلاحظ في الموازنة ذو عقل حصيف، وفكر ناضج، وثقافة واسعة وهو لا يسير وراء العلماء والأدباء وإنما يظل في الطليعة مجددًا لا مقلدًا، ومتبوعًا لا تابعًا، سواء في اللغة أم الأدب أم النقد. ونلاحظ أن الآمدي من الذين يؤثرون في الأدب الروح الشعرية المطبوعة: التي تميل إلى إيثار اللفظ والأسلوب. فهو لا يرى الشعر إلا صحة تأليف وعذوبة لفظ وجمال نظم، وهو لا يرى هذا الرأي في الشعر وحده، بل يجعل البلاغة كذلك مقصورة على جمال اللفظ والأسلوب وحدهما وموافقتهما للنهج العربي في صحة التأليف وجودته. أما المعاني وسموّها. والحكمة الإنسانية وروعتها. والخيال وإغراقه، فذلك الترف الزائد عن الحاجة، والذي إن ألمَّ به الشاعر أو الخطيب، فقد زاد في حسن صنعته وبهائها وإلا فالصنعة باقية قائمة بنفسها ومستغنية عما سواها. ونلاحظ أن الآمدي في هذا الاتجاه الأدبي تابع للجاحظ وأضرابه ممن يؤثرون الروح الشعرية المطبوعة على المعاني الشعرية المبتدعة ويقولون عليك أن تجتذب السوقي والوحشي ولا تجعل همَّك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغ1. على أن الآمدي يخالف النهج الذي يسير عليه قدامة الذي ينصر المعنى على اللفظ، وينادي بضرورة العناية به، ويقول البلاغة في شقَّين: معنى مبتدع، ونظم ساحر، وهو لذلك يجعل مادة الشعر المعاني2. أما صاحبنا الآمدي فقد جعل مادَّته اللفظ، وهذا الاتجاه الأدبي الذي سار عليه الآمدي، كان سببًا في إيثاره البحتري وتفضيله والتسامي بشعره، ووصوله إلى الذروة والقمة على غيره من الشعراء، لذلك نلاحظ

أن نقد الآمدي لشعر الطائيين ليس نقدًا للروح الشعرية، بما فيها من جوانب شتَّى، ومن مظاهر متنوعة، وآراء ذهب إليها الشاعر وشخصية فرضت نفسها على نتاجه، وحياة تلون هذا الإنتاج بلونها. وعقلية نبع ذلك الشعر من ينابيعها، واتجاهات جديدة اتجه إليها فنه، ونغمات جديدة أضافها إلى التراث الشعري، وإنما هو نقد للفكرة المجردة ولأسلوبها الشعري الذي ظهرت فيه. إذا كانت الفكرة والأسلوب بعيدين عن النهج العربي. فهو تحكيم للنهج العربي في أسلوب الشاعرين وألفاظهما ومعانيهما، فيردُّ منهما ما يردُّه الطبع العربي، ويقبل ما يقبله، من عناية باستقصاء سرقاتهما الشعرية الكثيرة. فهو نقد عقلي ولغوي أكثر منه نقدًا أدبيًّا شعريًّا، على أن الآمدي لا يكتفي في النقد بالناحية السلبية فقط، بل كثيرًا ما يتَّجه اتجاهًا ايجابيًّا جميلًا، فيأتي بالأبيات التي وقع فيها الخطأ مصحِّحَة أبدع تصحيح، ويلاحظ أن الآمدي حكم في الموازنة "عمود الشعر العربي تحكيمًا شديدًا". وعمود الشعر هو كل التقاليد الفنية التي كان يتبعها الشاعر الجاهلي في ألفاظ القصيدة ومعانيها وأخيلتها وموسيقاها. إن ثقافة الآمدي الأدبية العربية كانت تجعله يكثر في الموازنة من الاحتكام إلى التقاليد الأدبية للشاعر الجاهلي، وقد رأى الآمدي احتكام قدامة إلى عقله وإلى موازين أخرى، وثورة النقاد عليه فيما اصطنع من من موازين، لذلك رأى أنه من الأسلم الاحتكام إلى الذوق العربي الشعري القديم وحده. فإذا رأى قدامة مثلًا خطأ في الاستعارة عند أبي تمام بأن يأتي بها أبو تمام استعارة بعيدة، أو استعارة نابية عن ذوق العربي في الاستعمال كماء الملام، فإن الآمدي لا ينقد الشاعر في ذ لك على أساس خارج عن الثقافة العربية الأدبية، ولكن يعود إلى طريق الشاعر الجاهلي القديم، فيجعلها الحكم في هذه المسألة. على ذلك نلاحظ أن الموازنة ألفت في فترات منقطعة، يدلنا على ذلك عدم تساوق كل جزء من أجزائها في التأليف مع الذي يليه، وأن روح الآمدي مختلفة في ثناياه، فهو يذكر في آخر كل فصل من كتابه أنه

سيضيف إلى البحث ما سيعثر عليه من أخطاء أو سرقات، وسيلحقه بما كتب وهو حين يقرّر في كتابه الموازنة أنه سيوازن بين شعر الشاعرين فيما يتفقان فيه من الموضوع، والوزن، والقافية، وإعرابها، ويعود فيجعل الموضوع فقط هو أساس الموازنة، وهو يكرر كثيرًا من آرائه ونقده. على أن كتاب الموازنة للآمدي من أجل الكتب التى ظهرت في النقد والموازنة. ولقد وقع هذا الكتاب أساس نقد الشعر والموازنة بين الشعراء. وهو بحق من أمهات الكتب التي ظهرت في النقد الأدبي وأصوله، وهو أيضا مصدر من مصادر البيان العربي، ومرجع من مراجعه، وقد اعتمد عليه البيان، مع أن الموازنة ليس كتاب بيان وبلاغة، وإنما هو نقد أدبي، وموازنة بين شاعرين، وليس بحثًا في البيان العربي وبلاغته. والكتاب مقسم إلى خمسة أقسام وكل قسم يسمِّيه المؤلف جزء: فالجزء الأول يورد فيه الآمدي آراء النقاد في شعر "أبي تمام والبحتري" ويستقصي رأي المتعصبين لهذا أو ذاك، ويطلق لهذا الفريق الحرية في مجادلة ذلك الفريق، والجزء الثاني، ذكر فيه أخطاء أبي تمام من المعاني والألفاظ ... والجزء الثالث: يذكر فيه قبح استعارته ومستهجن جناسه ومستكره طباقه، وما ورد من شعره في سوء النظم وتعقيد التركيب، ووحشي الألفاظ مما خلا من بهاء الرونق وعذوبة السمع. ومما جعل التعسف على ديباجته. وظهرت مجاجة التصنيع في أعطاله. ويذكر ما وقع فيه من كثرة الزحافات، التي ضيعت موسيقى أوزانه الشعرية، حتى قال فيه دعبل: إن كلامه بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر الموزون، ونلاحظ أن الجزء الرابع من الكتاب يحلل فيه الآمدي بإيجاز عيوب شعر البحتري مكتفيًا من ذلك ببيان بعض سرقاته، مع نفي الكثير منها عنه، بدعوى أن الاحتذاء كان في معانٍ لا خاصية، حتى ينسب إليه السرقة فيها. أما الجزء الخامس فيوازن فيه بين الشاعرين في المعاني. التي اتفق موضوعها في شعرهما، ويبدأ تلك الموازنة بكلمة فيها صعوبة نقد الشعر، وأن لهذا الميدان أبطاله ممن عنوا بكثرة النظر في الشعر

والارتياض فيه. وطول الملامسة له. ثم تلاحظ أن الآمدي يبين اتجاهه الأدبي. ... الذي تأثر به في الموازنة. وهو الاتجاه الذي جعله لا يرى بلاغة الشعر إلا في نظمه وأسلوبه وصحة طبعه، ذاكرًا أن الذين قدموا البحتري. إنما قدموه لأن له من ذلك ما ليس لسواه، وإن كانوا لا ينكرون على أبي تمام أجادته في المعاني، وكثرة استنباطه لها، وإغرابه فيها، هذا والآمدي في معظم ما كتب كان ناقدًا، ومحيطًا بكل أسرار اللغة ودقائق البيان، فهو يقف في نقده عند البيت في دقة ملاحظة، وسعة اطلاع. إذا وجد به خطأ في لفظ أو فسادٍ في تركيب، أو إحالة في معنًى. أو بعدًا عن النهج المألوف. ونلاحظ أن لياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء رأيًا في الموازنة ونصّه: "كتاب الموازنة بين الطائيين في عشرة أجزاء، هو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصُّب على أبي تمام فيما ذكره، والناس بعدُ فيه على فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره. وطائفة أسرفت في التقبيح للغضّ به، وأنه جدَّ واجتهد في طمس محاسن أبي تمام، وتزيين مرذول البحتري، ولعمري أن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا. تشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين، ولو أنصف كل واحد يقدر فضائله لكان من محاسن البحتري، كناية عن التعصب بالوضع من أبي تمام 1. ولا شكَّ في تأثر الآمدي بآراء النقاد قبله، فهو يعتمد على آرائهم، ويستدلُّ بحكمتهم في النقد، وهو يروى الكثير عنهم في كل صفحة من صفحات الكتاب، وكل موضوع من موضوعاته، ونقل عن الأصمعي، وعن ابن الأعرابي وأستاذهما أبي عمرو بن العلاء، ونقل عن ابن سلام وابن قتيبة وسواهما من أئمة الأدب وعلماء الشعر، وهل هذه الانتقادات الكثيرة التي شحن بها الكتاب إلا صورة لآراء كثيرين من النقاد، التي جمعها الآمدي في موازنته؟ فأصول كتاب الموازنة ترجع إلى نقاد القرن الثالث "1". ومؤلفيه.

وقد صحَّ الآمدي بما يدلُّ على ذلك على أكثر من موضع من كتابه، وفضل الآمدي إنما هو في تدوينها وتنسيقها وإضافة آراء معاصريه إليها وتدبيجها بكثير من آرائه هو، وتعليل ما لم يعلِّل، فقد هضمت عقلية الرجل كل ذلك، فرتبته وأحسنت جمعه والاستدلال به، والزيادة عليه في التحليل والتعليل. وذلك قيمة كبيرة لا سيما أن كتب النقد في القرن الثالث قد فقد أكثرها، ولا شكَّ أيضًا في أن الآمدي فيما سار عليه من مناهج في النقد والموازنة قد تأثر باتجاهات النقاد قبله ومناهجهم فيما ينقدون، وهل كان النقد قبل الآمدي إلا تحكيمًا للمنهج العربي في نثر الأديب ونظم الشاعر؟ وهل كان ابن العلاء وخلف وحماد والأصمعي وابن الأعرابي وسواهم من الأدباء والنقاد يميِّزون جيد الشعر من رديئه إلا بعرضه على ميزان الطبع العربي، وتحكيم الأسلوب العربي فيما ينقدون؟ وكذلك فعل الآمدي فقد أرجع إلى اللغة العربية بأصالة كل شيء في النقد، فهو ينقد شعر أبي تمام، وينقد البحتري، بتحكيم النهج العربي في شعر الشاعرين، وتحكيم الذوق العربي في كليهما، والأسلوب العربي في أساليبهما الشعرية فيردّ ما تردّه. ويقبل ما تقبَّله. فللعرب طريق خاصّ فيما ينطقون به من أساليب وتركيب ونظم، وفيما يتكلَّمون به من أفكار ومعانٍ وخيالات، وفيما ينظمون فيه شعرهم من أوزان، ولهم نهج خاص في مجازاتهم وتشبيهاتهم واستعاراتهم وتمثيلاتهم، وفيما يتقننون فيه من مقابلة أو طباق أو جناس أو سجع إلى غير ذلك، وذلك النهج العربي الخاص هو ما يجب على الشاعر أن يلتفت إليه، ويسترشد به، ويحتذى حذوه، وينظم شعره على مثاله، ثم هو ميزان النقد وأساسه، والناقد يحكم ذلك النهج الخاص فيما ينقد من شعر، فيقطن لها فيه من جمال وما فيه من قبح، ثم هو يدرك ذلك بطبعه وذوقه، وقد لا يجد إلى تصوير ما في نفسه من شعور بالقبح أو الجمال سبيلًا. كذلك كان رآي الآمدي في النقد، وعلى هذا الضوء سار في نقد الطائيين، فقد عرض شعرهما هذا العرض، وفلَّاه هذه التفلية، وأخذ يظهر ما فيه من عيوب وأخطاء، ثم وازن بينهما. فيما لهما من روائع وحسنات حريصًا على وحدة الموضوع، إذا تعسَّر عليه مع ذلك مراعاة وحدة الوزن. والقافية وإعرابها. وقد سار نقاد الشعر العربي بعد عهد الآمدي في النقد على هذه الطريقة وذلك المذهب، وصار ذلك الاتجاه خطة علمية مقررة، وأصبح هو النهج الفني لنقاد العرب جميعًا، ومن الواضح، أن هذا النهج

بعيد الصلة عن منهج قدامة بن جعفر الذي فصله في كتابه "نقد الشعر"، والذي بناه على أساس عقلي مع عناية بجميع أصول قدامة من قواعد العقل والمنطق فصدر عن حكمها في النقد، أما الآمدي فقد حكم الذوق الأدبي وحده والروح العربية والاتجاهات الخاصة بالعرب وبلغتهم العربية". أما تأثر الأمدي بقدامة في بحوث البيان ونظرياته فقليل؛ لاختلاف ثقافة الرجلين واتجاههما. فالآمدي أديب لغوي وقدامة أديب فيلسوف. والآمدي غلطه في كتابه "نقد الشعر1 وهو ينقد رأي قدامه في الطباق وحقيقته ونقده نقدًا لاذعًا تبعه فيه ابن الأثير2. ونلاحظ أن الآمدي يذهب إلى أن البلاغة للفظ، وقدامة يجعلها للفظ والمعنى. ويجعل الآمدي مادة الشعر هي الألفاظ ويجعلها قدامه هي المعنى. ولكن الآمدي على كل حال آفاد من نقد الشعر لقدامة واقتبس منه. منهجه في النقد: يقول الآمدي عندما يصل في كتابه إلى الموازنة التفصيلية بين الشاعرين "أنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتَّفق عليها الطائيان فأوزان بين معنى ومعنى وأقول أيُّهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدَّى هذا إلى أن أفصح لك بأيهماّ أشعر عندك على الإطلاق فإني غير فاعل ذلك3. وهذه بلا شك نغمات جديدة في تاريخ النقد العربي، فالذي ألفناه هو ألا يقف ذَوُو البصر بالتحديد عند تفضيل طبقات من الشعراء على طبقات أخرى على نحو ما رايناهم يجعلون من امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير الطبقة الأولى من الجاهليين، ومن جرير والفرزدق والأخطل الطبقة الأولى من الأمويين، وهكذا بل يعدون ذلك إلى المفاضلة بين أفراد كل طبقة، وفي مقدمة جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب

القرشي، وغيرها من كتب الأدب كثير من المفاضلات التي أقاموها على تعميمات لا استقصاء فيها ولا تجديد. وأما الآمدي فوجهته وجهة أخرى فهو يبدأ الموازنة بين البحتري وأبي تمام بأن يُورد حجج أنصار كل شاعر وأسباب تفضيلهم له، ثم يأخذ في دراسة سرقات أبي تمام وأخطائه وعيوبه، وأخيرًا ينتهي إلى الموازنة التفصيلية بين ما قال كل منهما في معنى من معاني الشعر يقول: "وأنا ابتدئ2 بما سمعته من احتجاج كل فريق من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر، وما ينعاه بعضهم على بعض لتتأمَّل ذلك، وتزداد بصيرة وقوة في حكمك، وأن شئت أن تحكم، واعتقادك فيما لعلك تعتقد احتجاج الخصمين به، ونلاحظ أنه يُورد فعلًا حجج كل فريق ورد الفريق الآخر عليه. لذلك نجد أن الآمدي قد أورد تلك الحجج كما انتهت إليه، وأنها لم تكن من وضعه هو، وأن كل فضيلة فيها هو فضل الجمع والعرض والربط. وعندما انتهى من هذا الفصل قال: "تمَّ احتجاج الخصمين بحمد الله، وإنما ابتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين، لأختم بذكر محاسنهما وأذكر طرفا من سرقات أبي تمام وإحالته وغلطه وساقط شعره، ومساوئ البحتري في أخذ ما أخذه من معاني أبي تمام وغير ذلك من غلط في بعض معانيه. ثم بين معنى هذا وذاك فإن محاسنهما تظهر في في تضاعيف ذلك وتتكشف، ثم أذكر ما انفرد كل واحد منهما من معانٍ "ملكها ولم يسلكها صاحبه، وأفرد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال. ثم أختم الرسالة فأضع عند ذلك بابًا لاختيار المجرد من شعريهما. وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم ليقرب متناوله بالاختيار المجرد ويسهل حفظه وتقع الإحاطة به1. وعلى ذلك نستطيع أن نستخلص من أقواله هذه روحه في الدراسة، فهي روح ناضجة، وروح منهجية حذرة ويقظة، وهو يتناول الخصومة كرجل بعيد عنهما يريد أن يحدد عناصرها ويعرضها ويدرسها. فإن قصر حكمه على الجزئيات التي ينظر فيها، فقد يكون البحتري أشعر في باب من أبواب الشعر أو معنى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر في ناحية

أخرى، أما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة، فهذا ما يرفضه الآمدي ولا يجب أن يطلق على أيهما أشعر للتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في العشر ولا يرى لأحد أن يفعل ذلك، فيستهدف أحد الفريقين، لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر: امرئ القيس، والنابغة وزهير، والأعشى، ولا على جرير، والفرزدق، والأخطل، ولا بشار ومروان. ولا على أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم، لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه. فإن كنت أدام الله سلامتك ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة.... وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة، التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك، فأبو تمام عندك أشعر، دون أن أفضل أحدهما على الآخر، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى، فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي تلك، ثم أحكم آلت حينئذٍ على جملة ما لكل فيهما، إذا أحطت علمًا بالجيد والرديء". إذن فالآمدي لا يريد أن يتحيز لأحدهما على غير بينة أو عن هوى، إنما يلاحظ أن من ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لميله إلى اتجاه خاص في الشعر، وأما هو فلا يريد أن يفصح بتفضيل أحدهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يقارن بينهما مقارنات موضوعية. ويترك الحكم الكلي للقارئ. وهذا بلا شك منهج علمي سليم. ومذهب رجل يرى المذاهب المختلفة، ويقبلها. ويسجلها، ثم منهج ناقد دقيق يرفض كل تعميم مخلّ ويقصر أحكامه على ما يعرض من تفاصيل. ونستطيع أن نقرر أن الآمدي لم يقصد إلى التحيز لأحد الشاعرين ضد الآخر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بتلك الأقوال فقد تكون روح الناقد الفعلية مخالفة للخطة التي يعلنها، وقد يكون في نقده ما يتعارض مع تلك الخطة. يجب أن نفرض فرضًا كهذا، وذلك لأن كل تلك الأقوال لم تمنع النقاد اللاحقين بأن يتهموا الآمدي بالتعصب على أبي تمام، حتى بلغ الآمر أن رأى فيه الباحثون المحدثون مقابلًا للصولي في تعصبه لذلك الشاعر، فمن أين أتت هذه التهمة؟ !!

ذوقه الأدبي وتعصبه للفصل في هذه المشكلة الهامة يجب أن نقرّر: أولا: أن التعصب معناه الفنِّي هو الانحياز كلية إلى ما تتعصب له، فلا ترى منه إلا الخير، وتقلب سيئاته حسنات مسوقًا بالهوى متحملًا الأسباب لتجميل القبيح والمبالغة في قيمة الحسن، وهذه حالة نفسية لا وجود لها في كتاب الآمدي لا صراحة ولا من وراء حجاب. فهو رجل يتبع في النقد منهجًا محكمًا. فيدرس ما أمامه، معللًا أحكامه، قاصرًا لها على التفاصيل التي ينظر فيها، رافضًا إطلاق التفصيل. ثانيا: لما أن لم يفضل الشعر الطبيعي السهل على الشعر المتكلف المتصنع. فهذا ليس سيئًا وهو من حق كل ناقد، والذوق هو المرجع النهائي في كل نقد. وإنما يأتي خطر تحكيم الذوق عندما نتخذه ستارًا لعمل الأهواء التحكيمية، التي لا تصدر في أحكامها عن نظر في العناصر الفنية. وإحساس صادق بما فيها من جمال أو قبح، أو عندما يكون ذوقًا غفلًا لم تجتمع فيه" الدربة إلى الطبع، كما يقول الآمدي نفسه. "فالذوق الذي يعقد به هو ذوق ذوي البصر بالشعر، وهؤلاء لا يستطيعون عادة أن يعلِّلوا الكثير من أحكامهم، وفي التعليل ما يجعل الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة، وإن كنا لا نذكر أن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤدِّيها الصفة، على حدِّ قول إسحق الموصلي، كما نؤمن بأنه ليس في وسع كل أحد أن يجعلك في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك من نفسك ولا في نفس ولده ومن هو أخص الناس به سبيلًا، ولا أن يأتيك بعلة قاطعة ولا حجة باهرة، وإن كان ما اعترضت فيه اعتراضًا صحيحًا، وما سألت عنه سؤالًا مستقيمًا. لأن ما لا يدرك إلا على طوال الزمان ومرور النهار والأيام لا يجوز أن يحيط به أحد في ساعة من النهار". وأخيرًا: فإننا نؤمن بأنه "لن ينتفع بالنظر إلا من يحسن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل علم ومن إذا علم أنصف1".

إلى كل تلك الحقائق فطن الآمدي على نحو يدعو إلى الإعجاب، وهو في ذاك يعود بنا إلى التقاليد الأدبية الجميلة، الصادقة النظر كتقاليد ابن سلام، الذي تحدث عن الفروق بين المثقف وغير المثقف أصدق الحديث. وبالرجوع إلى كتاب الموازنة نفسه نجد أن المؤلف لم يتعصب للبحتري، كما لم يتعصب ضد أبي تمام، وإنما هذه تهمة اتهمه بها النقاء واللاحقون عندما فسد الذوق، وغلبت الصنعة والتكلف على الأدب العربي، ونظر هؤلاء المتأخرون في بعض انتقادات الآمدي لسخافات أبي تمام ووساوسه. ولم يوافقوا على تلك الانتقادات لفساد أذواقهم فقالوا: إن الرجل متعصّب ضدّ أبي تمام أو تعصب ضد البحتري. الذي لا شكّ فيه أن الآمدي لم يكتب كتابه أيام عنف الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري، وذلك لأن أبا تمام توفي سنة 231هـ والبحتري 284 هـ والمعركة قد احتدمت فيما يظهر بعد موتهما مباشرة، حتى بلغت أقصاها في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، ونحن وإن كنا لا نملك من الكتب التي أُلفت في تلك الفترة غير أخبار أبي تمام للصولي إلى أننا نجد في هذا الكتاب ما يكفي للدلالة على مبلغ الإسراف والعنف، اللذين صحبا تلك المنازعات حول الشاعرين، فالصولي كما رأينا هو الذي يجب أن يتّهم بالتعصب لأبي تمام، وهو الذي يجب أن يرفض الكثير من أحكامه، بل ومن أخباره، لوضوح هواه وفساد ذوقه، وكثرة ادّعائه. وأما الآمدي فقد جاء بعد أن كان الزمن قد هدأ من حدة الخصومة، وكان الأدباء قد أخذوا في الالتفاف حول رجل آخر هو المتنبي.

جاء الآمدي إذن بعد تراخي الزمن فوجد عدَّة رسائل في التعصب لهذا الشاعر أو ذاك كما وجد ديوانهما قد جمعا. وتعدَّدت منهما النسخ قديمة وحديثة، ونظر في كل تلك الكتب فوجد فيهما إسرافًا في الأحكام، وعدم دراسة تحقيقية. وضعًا في التعليل أو قصورًا، فتناول الخصومة بمنهج علمي أشبه ما يكون بمناهجنا اليوم. بحيث نعتقد أن هذا الكتاب خير ما نستطيع أن نضعه بين أيد الدارسين كمثل يُحتذى للمنهج الصحيح.

الآمدي وتحقيقه للنصوص الأدبية نلاحظ أن المؤلف يرجع إلى النسخ القديمة حين يحقق الأبيات، وإلى هذا يشير غير مرة في كتابه فيقول "ص 89" "حتى رجعت إلى النسخة العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه، وذلك عند نظره في قول أبي تمام. دار أحل الهوى عن ألمَّ بها ... في الركب إلا وعيني من منائحها وفي ص: 165 يقول: "وما رأيت شيئًا مما عيب به أبو تمام إلا وُجد في شعر البحتري مثله ألا أنه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل، ومن ذلك اضطراب الأوزان في شعر أبي تمام، وقد جاء البحتري ببيت هو عنده أقبح من كل ما عيب به أبو تمام، ومن هذا الباب قوله: ولماذا تتبع النفس شيئًا ... جعل الله الفردوس منه براء ثم يضيف: وكذلك وجدته في أكثر النسخ جعل الله الخلد منه براء فإن لم يكن هذا فقد تخلص من العيب. وهكذا نراه رجع إلى النسخ الأخرى لتحقيق النص قبل الحكم عليه، وذلك سواء أكان الشعر من شعر أبي تمام كما رأينا في البيت الثاني أو من شعر البحتري، وهذه أولى مراحل النقد المنهجي السليم المستقيم. والآمدي كذلك يملك روح النقد العلمي الذي ينظر في صحة نسبة الشعر، وهو في ذلك تلميذ لابن سلام، ومن ثمَّ نراه لا يقبل ما ينسب إلى الأعراب انتحالا، ولدينا في الجزء الذي لا يزال مخطوطًا من الموازنة مثل دالّ في هذا. يتحدث المؤلف بمناسبة أبيات يدرسها عن التقسيم، فيقول: "كان بعض شيوخ الأدب تعجبه التقسيمات في الشعر، وكان مما يُعجبه قول عباس بن الأحنف: وصالكم هجر وحبّكم قلى ... وعطفكم صد وسلمكم حرب

ويقول: هذا أحسن من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعت سيد العلماء يستحسنه يعني ابن الأعربي، وليس هو عندي من كلام العرب وهو بكلام المولدين أشبه: وأدنو فتعصيني وأبعد طالبًا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي وشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتخرج من بعدي تتمر من قربي والآمدي في هذا لا يكتفي بملكاته الخاصة في دراسة هذين الشاعرين والموازنة بينهما، كما لا يكتفي بنسخ السابقين على نحو ما فعل غيره فيمن يروُون أحكام الخبر، أو ينقلون عن السابقين مع إغفال ذكر أسمائهم -لم يفعل الآمدي شيئًا من هذا، وإنما فعل كما نفعل نحن اليوم عندما نريد دراسة مسألة من المسائل، فنجمع الكتب التي وضعت في تلك المسألة، وننظر فيها بنفس ما نقل منها، ونعتمد ما نعتبره كسبًا نهائيًّا ثم نراجع ما نراه خطأ، ونكشف عما ترك من الظلال. ولقد جاء الآمدي كما قلنا بعد أن كانت الخصومة حول البحتري الذي يمثل عمود الشعر وبين أبي تمام كرأس لمذهب البديع. قد أسالت مدادًا كبيرًا، وكانت الكتب العديدة قد ألفت في كل ناحية من نواحيها، فكان من مقتضيات المنهج الصحيح أن يجمع كل تلك الكتب ويدرسها قبل أن يأخذ هو في الموازنة بينها، وهذا ما فعله. نظر فوجد "أكثر من شاهد وراوٍ من رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد مثله، ورديئه مطروح ومرذول - فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شعر الوليد بن عبيد الله البحتري صحيح السبك حسن الديباجة ليس فيه سفاسف ولا رديء ولا مطروح، ولهذا صار مستويًا يشبه بعضه بعضًا، فوجدهم قد اختلفوا بينهما لغزارة شعريهما، وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحد مما وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري ونسبه إلى طلاوة النفس، وحسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتي، وانكشاف المعنى، وهم الكتاب والإعراب.

والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة. ومنهم من فضل أبا تمام، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يُورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام، وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة وذهب قوم إلى المساواة بينهما وإنهما لمختلفان؛ لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع على مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ، ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور، وأبي يعقوب وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، مستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا هو على حد طريقهم لما به من الاستعارات البعيدة. والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه وعلى أني لا أجد من أقرنه به؛ لأنه ينحط عن درجة مسلم لسلامة شعر مسلم، وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب، ولك هذا الأسلوب لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته، ولست أحب أن أطلق الحكم بأيهما أشعر1. وعدا كلام ناقد مؤرّخ يرى الخصائص، ويفسّر الظواهر، ويحاول أن يقيم التسلسل بين المذاهب المختلفة، فهو يُخبرنا عمن يفضلون أبا تمام، أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصفة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام. وهو يحدثنا عن مذهب كل منهما "عمو الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام". وهو يربط بين الشعراء المعارضين للبحتري من مذهب أشجع السلمي ومنصور وأبي يعقوب، وأبو تمام يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه. وهذا ليس تعصبًا، وهو وإن فضل شعر مسلم على شعر أبي تمام فإنه لم ينكر على هذا الأخير أكثر محاسنه وبدائعه واختراعاته، كما يرفض أن يطلق الحكم بأيهما أفضل.

النقد الموضوعي عند الآمدي: بعد أن تحدث الآمدي عن السرقات التي تسببت إلى كل منهما، أخذ في دراسة النقد الموضوعي فتحدث عن: 1- أخطاء أبي تمام وعيوبه وأخطاء البحتري وعيوبه. 2 محاسن أبي تمام ومحاسن البحتري. 2 - الموازنة التفضيلية بين الشاعرين اللذين يتتبع معانيهما معنًى معنًى. وهذه الأبواب ليست متساوية في القيمة ولا في الكعبة، فباب الأخطاء والعيوب يشمل جانبًا كبيرًا من الكتاب "أخطاء أبي تمام" وعيوبه من ص 54 - إلى 124، وأخطاء البحتري وعيوبه من ص 150 إلى 166"، وأما باب محاسنهما فلا يعدو عدة صفحات "من ص 165 إلى 174". وعلى العكس من ذلك بألب الموازنة التفصيلية واستقصاء المعاني فهذا هو الجزء الأساسي من الكتاب. ولقد نشر بعضه "من ص 174 - إلى 197 من الكتاب المطبوع" وأما الباقي فلا يزال مخطوطًا وقد قارنَّاه بصورة فوتوغرافية لهذا الجزء الموجود بدار الكتب المصرية ضمن صورة كاملة للكتاب من أربعة مجلدات المجلدان الأخيران يبدأن من ص 174، 187. الجزء المشهور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول للجزء المنشور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول ما أبدأ به من مدائحهما ذكر السؤدد والمجد وعلو القدر، ثم ما يخصّ من تلك دون غيرهم من الخلافة وما يتصرف عليه القول من معانيهما مثل ذكر الملك والدولة وذكر ما يختص أهل بيت النبوة من المدح دون سواهم، ومن ذلك ذكر طاعتهم والمحبة لهم والمعرفة لحقهم. وذكر الآلة التي كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- فصارت إليهم، وذكر علو القدر وعظم الفضل، وذكر تأييد الدين وتقوية أمره، وذكر الرأفة والرحمة، وذكر إفاضة العدل، وإقامة الحق، وذكر سداد الرأي وحسن السياسة والتدبير والاطلاع بالأمور والحلم والعقل، وذكر الجلال والجمال وما إليها والجهارة والهيبة، وذكر كرم الأخلاق، وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة واليأس ... وبالفعل يستعرض الآمدي كل هذه المعاني بشأن

الخلفاء إلى أن ينتهي المخطوط عند الجلال والجمال وما إليهما، والجهارة والهيبة وذكر الأخلاق ولينها. وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة والبأس، وهذه هي المعاني التي أكثر منها الشاعران، بل كل شعراء العرب، كما لا نجد مدحًا من دون الخلفاء من ولاة وأمراء ووزراء وغيرهم. ممن مدح الشاعر كما ترى في ديوانيهما، وأنها حقا لخسارة كبيرة حين لا نستطيع أن نعثر على بقية الكتاب، خصوصًا وأن الباقي منه يمثل جزءًا كبيرًا جدًّا، وفي الجزء الذي لدينا أدلة وإشارة واضحة للجزء المفقود. منها قول المؤلف في اللوحة 24، وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد الشبياني. وقد كان مدحًا يضني السرير ... والبهو يملؤه بالبهاء مضى خالد بن يزيد بن مزيد ... قمر الليالي وشمس الضحاء ويضيف "وهذا يمر في المراثي". إذن فهناك باب في المراثي التي قالاها والموازنة بينهما لم يصلنا، وهناك هو أكثر من ذلك ... فالمؤلف يقول "ص 33" وأفراد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال، وأختم بهما الرسالة، وأضع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما، وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم. ليقرب من متناوله ويسهل حفظه، وتقع الإحاطة به إن شاء الله. وليس لدينا في الجزء المنشور ولا في المخطوط هذان البابان عن التشبيه والأمثال فهما لا شك ضمن الجزء المفقود وهذه كلها مسائل شاملة.

الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف

الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف: أبواب الكتاب: وكتاب الموازنة عند أبي الحسن الآسدي مقسم إلى اثنى عشر قسمًا. وكل قسم ادَّعاه المؤلف باب. 1- فالباب الأول "من ص 1 - ص 46" وفيه أورد المؤلف محاجة مفندة ومدعمة بالأدلة والبراهين، ويبيّن كلًّا من أصحاب أبي تمام المتعصبين له وأصحاب البحتري المفضلين إياه. ومنهم المؤلف الذي ينتحل الأعذار للبحتري بلسان مرهف حاد. 2- والباب الثاني من "46 - 120" وفيه أحصى الآمدي سرقات أبي تمام الشعرية، وذلك بعين الباحث المنقب. 3- والباب الثالث من "120- 226" وهنا عدَّد الآمدي وندَّد في شيء من التحامل والتعصب على الرجل من أخطاء أبي تمام في الألفاظ والأساليب والمعاني. 4- والباب الرابع من "228، 272"، وذكر فيه أخطاء أبي تمام من قبيح الاستعارات ومستكره الجناس، ومرذول الألفاظ، ومستهجن الطباق وسوء النظم وفساده، والحق يقال أن مثل أبي تمام في شعره كمثل القاضي الفاضل في نثره فلقد أولع كلاهما بفن البديع حتى خرجا إلى التكلف الممجوح. 5- والباب الخامس من 272 - 275" وفيه أخطاء أبي تمام من الزحاف واضطراب الوزن، وكأني بثلاثة أرباع الموازنة قدحًا في الطائي. 6- الباب السادس من 227- 347" وفيه أحصى سرقات البحتري من أبي تمام وغيره. 7- الباب السابع من "348- 379" وذكر فيه أخطاء البحتري في المعاني التي دافع عن الكثير منها.

8- الباب الثامن من "380 - 382" يومئ فيه إلى اضطراب البحتري في الوزن واختلاف فيه. 9- الباب التاسع من "382 - 389" أورد فيه رأيه في النقد وطريقه وكيف يكون الناقد؟ واستدلَّ فيه بآراء النقاد. 10- الباب العاشر من 389 - 391" وفيه فضل البحتري على أبي تمام كشاعر. 11- الباب الحادي عشر من "391 - 395" وفيه ذكر فضل البحتري، وأن الشاعر القائم بعمود الشعر. 12- الباب الثاني عشر من "396 - 455" وهنا الموازنة الوحيدة بين الشاعرين وذلك في الوقوف على الأطلال، والبكاء على الآثار وهي مطالع القدماء من الشعراء، والكتاب من الحجم المتوسط بتعليق محمد محيى الدين عبد الحميد.

الموازنة: والآمدي -رحمه الله- يُسمِّي كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" ولنا أن نسأل: ما معنى هذه التسمية الموازنة؟ وخاصة بين كتب الأدب، ونقول: إن لكلٍّ أسلوبه كما أن لكل أديب نسجه وبيانه، كذلك لكل شاعر وصفة وإيقاعه ويختلف هذا عن ذاك بعدد تفاوت الوجوه، وهذا التفاوت في الأسلوب والعرض والتحليل والتناول والتصوير يفرض بطبيعته على التذوق النفاذ، خاصة الموازنة بين نص ونص، والمقارنة بين بيت وآخر والمراجحة بين أدب وأدب 1. وترتبط الموازنة بالمنطق الشخصي الصرف أحيانًا. وأخرى تعتمد على التحليل والتعليل وإقامة الحجج، وثالثة دون تعليل أو تفنيد. ويتطرق الآمدي في الموازنة إلى أشياء كثيرة: منها البراعة والمهارة في تجويد الأسلوب، ومنها التفنّن في اقتناص المعاني الشاردة، ومنها ما يرجع إلى الحذق في التصوير والتحليق. ومنها ما يستند إلى الموضوعات الأدبية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو غير ذلك. وعلى الجملة فالموازنة هي: اتجاه من اتجاهات النقد يشغل أذهان النقاد بسبب ما يجدون من معانٍ عامة وخاصّة: يشترك الأدباء والشعراء في التعبير عنها. ولكن لكلٍّ وصفه وأسلوبه. والموازنة تنقسم إلى قسمين: 1- قسم يذكر دون تفسير كافٍ يوضح بسبب امتياز أحد النصين على الآخر ويسمى مواجهة. ومن ذلك: أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها ... أكسب عليها جاذر متعرق وقال جميل بثينة في الغرض نفسه: أضرَّ بها التجهيز حتى كأنها ... بقايا سلال لم يدعها لسلالها

وقال جرير الخطفي في المعنى ذاته: إذا بلغوا المنازل لم تقيد ... وفي طول الكلام لها قيود وهنا قال نصيب: ما أشعر ابن الخطفي؟ إنه يفضلني وجميلا. 2- فإذا ذكرت الموازنة معتمدة على إقامة العلل، وتفنيد الحجج والتفسير الموضح لسبب امتياز أحد النصين على الآخر. دعيت مقارنة ومنها: اجتمع عند كثير عزة عمر بن أبي ربيعة، والأحوص، ونصيب وجلس كثير ينتقد ثلاثتهم، فلما فرغ من انتقادهم. أقبل عليه عمر بن أبي ربيعة يقول: قد أنصتنا إليك فاسمع: أخبرنا عن تخيرك لنفسك ولحن تحب حيث نقول: ألا ليتنا يا عز من غير ريبة ... بعيران نرعى في الخلاء ونعزب كلانا به عل فمن يرنا يقل ... على حسنها جرياء تعدصي وأجرب تكون لذي مال كثير مغفل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب فقد تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمى والطرد والمسخ. فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقل خير من مودَّة أحمق وكأني بعمر بن أبي ربيعة يزهو على كثير في خيلاء عندما يصاوله في فن الغزل والتشبيب بالنساء ولا ريب فهو صاحب قصيدته الرائية والتي مطلعها. أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... البيت؟ وهي من عيون الأدب العربي. فهذا هو التفسير والتعليل للمقارنة. ولقد روى أن ثلاثتهم قاموا بعدها ما يتضاحكون، وجلس كثير ينتفض جسده غضبا.

الشاعر: أبو تمام شاعر والبحتري شاعر.... وكذلك الآمدي شاعر أيضًا. وقد يتسنَّى لنا أن نسأل: من الشاعر؟ هو ذلك الإنسان المرهف الحس/ المعبر عما في النفس.... من خواطر وهواجس وما يجيش في صدره من خوالج، فهو كإنسان يحبّ ويبغض. ويحزن ويفرح، ويأمل ويتألم، وفوق هذا فالشاعر رقيق الشعور، تضطرم في صدره كل هذه الأغراض أو بعضها فتفيض جيشاشة هادرة منحدرة على لسانه، وينطق ذلك الإنسان مصورًا ما يحسّ ويشعر، ولذا قيل في تعريفه: هو الإنسان الذي يشعر بما لا يشعر به سواه. ولشفافية الروح عند الشاعر تراه يصور في قالبه الشعري ما تنفعَّل به عواطفه، وما تهتزُّ به نفسه في أسلوب أدبي منظوم ومؤثر، وتصوير رفيع ومعبّر. يُوقظ مشاعر السامع، ويحرك غافي الإحساس في نفس القارئ، في نسج ذاتي متفرّد فيسدي خيوط قصيدته ويضع لحمتها على طابعه المتميز، بتظليل ألوانها واهية وقائمة من خلف مناظره للحياة، ظلامًا ويأسًا كالمعري حين يقول: تأملنا الزمان فما وجدنا ... إلى طيب الحياة به سبيلا أو مجونًا وفسقًا كأبي نواس المتعهر: يا بدعة في مثال ... تجوز حد الصفات فالبدر وجه تمام ... بعين ظبي فلاة ومطرن حواشيها بوشى من نضج ثقافة أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود أو حكمة انضجتها التجارب كالمتنبي حين يقول: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفَّة فلعلة لا يظلم وهكذا نجد تعريف ذلك للإنسان الذي حبّته السماء بملكة أدبية فذَّة، وموهبة شعرية متفرّجة على لسانه، فلما أتيحت للكثيرين من أمثاله وأقرانه. ولذا فليس ببعيد أن تقوم القبيلة العربية في احتفال صاخب وتتقبل التهاني من باقي القبائل لا شيء إلا لأنه نبغ فيها وليد شاعر، يحمي أعراضها ويدافع عن أحسابها.

النقد عند الآمدي: النقد عند الآمدي فن موهوب أكثر منه مكتسبًا. فالناقد هو من له موهبة فطرية. وذكاء متوقّد يقدِّر الأمور ويحسن تقديره. والناقد ذواقة يدرك ما في الشعر بذوقه هو. وحاسته الأدبية من جمال وقبيح. والناقد ذو ثقافة أدبية واسعة ترتكز على الرواية والمدارسة، ومطالعة النصوص الأدبية. وفي طول الدرية والمران يقول الآمدي: "وأنا ذاكر المعاني التي يتفق فيها الطائيان، فأوزان بين معنًى ومعنًى. وأقول أيّهما أشعر في ذلك المعنى نفسه، فلا تطلبني أن أتعدّى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق". فالآمدي قد وازن بين الطائيين في غرض من الشعر بذاته ثم إنه سوف يعلن أيهما حاز قصب السبق فيه، ويطلب من القارئ في أكثر من مرة أن يعقبه من مسئولية إعلان أيهما أشعر عنده على الإطلاق، فلكل ناقد ذوقه ولكل دلوه. وعقل الناقد هو الذوق، ولذلك لن تجد ناقدًا يستطيع أن يذكر عللًا وأسبابًا لرجحان شاعر على آخر في الكثير الغالب، بالآمدي يبرز مزايا الجيد ويعدّدها، وكذلك مساوئ الرديء ويدمغها. ويقول: "وسوف أنبه على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرزله وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، ويحفظ به العناية، ويبقى ما لم يكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علَّة ما لا يعرفه إلا بالدرية، ودائم التجربة. وطول الملامسة. وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته". والأفضل عند الآمدي أن يترك النتيجة ليعلنها القارئ بنفسه، ويحكم فيها بذوقه، فهو يقول: "وأوكلك بعد ذلك إلى اختيارك وما تقضي عليه فطنتك وتمييزك" والآمدي يضرب مثلًا للنقد وفنّه. وأن الفيصل فيه للذوق وحدّه. وهذا لا يتأتَّى إلا لمن كانت له درية ودراية، وعنده موهبة

وعناية. يقول: "فالبيتان من الشعر للشاعرين كالفرسين السليمين من كل عيب، ولكن النخاس لهما قد يجعل الفرق ما بينهما في الثمن كبيرًا. وقد يتقارب البيتان من الشعر وهما جيدان نادران. فيعلم أهل الصناعة بالشعر أيهما أجود. وإن كان معناهما واحدًا. أو أيهما أجود في معناه. وإن كان معناهما مختلفًا". ولقد امتحن الآمدي في فن النقد فلما طلب منه تعليل الترجيح عنده أرجع العلة في النقد إلى الذوق. "سألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين وقال: اختر أحدهما؟ فاخترت فقال: من أين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين. ولكنهما تقاربا. وفضل هذا بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبّر عنه اللسان". ويستدلّ الآمدي على صحة دعواه بكلمة "خلف الأحمر" المشهورة في النقد "وقد قيل لخلف الأحمر: إنك لا تزال تردّ الشيء من الشعر وتقول: هو رديء والناس يستحسنونه؟ فقال: إذا قال لك الصيرفي إن هذا الدرهم زائف. فأجهد جهدك أن تنفعه فلا ينفعك قول غيره أنه جيد". والآمدي يطلب من غير أصحاب الصنعة أن يسلموا له ولأمثاله الحكم في الشعر، وأن يقبلوا منهم عن رضى تلك الأحكام: "إذا كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم ولا يخاصمهم فيها ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم، نظرًا في الخبرة، وطول الدربة والملابسة". وليست الصناعة عند الآمدي بامتلاك خزينة من الكتب. أو حفظ جملة من القصائد، وإنما هي الموهبة، والطبع، والملكة المصقولة على التمييز بين الأبيات، وعلى تذوق الأساليب والوصف الفني لقصيد من الشعر أو رسالة من النثر واسمعه يقول: "لا تصدق نفسك أيها المدعى. وتعرفنا من أين طرأ لك الشعر. أمن أجل أن عندك خزانة. من الكتب تشتمل على عدة دواوين الشعراء.

وأنت ربما قبلت ذلك أو صفحته. إلى أن في يقول: لقد ظننت باطلًا ورمت عسيرًا؛ لأن الصم أيًّا كان نوعه لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه والانكباب عليه، ثم قد يتأتَّى جنس من العلوم طالبه ويسهل ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذَّر. فينبغي أن تقف حيث وقف بك وتقنع بما قسم لك 1. وهذه وسائل النقد عند الآمدي وتعريف الفاقد عنده. بين الجمال والجلال: من القضايا النقدية، التي سبق بها الآمدي زمانه وعصره، قضية الجمال والجلال، أو الجمال والحلاوة. والفرق بينهما، وحينما ميَّز بينهما النقد الغربي حديثًا. ظن النقاد الأجانب أن هذا من بدع عصرهم وابتكاره. وهذا خطأ، فمنذ أحد عشر قرنًا شهد النقد العربي القديم هذه القضية، وحدَّدها وفصَّل القول فيها. وخاصة الآمدي في "الموازنة"، والقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة". وفرق الآمدي بين الجمال في النقد، فجعله محددًا، يقوم على التعليل ومعرفة الأسباب، فقواعده مقرَّرة. يحدِّدها الذوق الأدبي، وبين الحلاوة، "الجلال" التي تأخذ بمجامع القلوب، وتهزُّ المشاعر والوجدان، إذا ما فتشت عن أسباب الانبهار والتأثير لا تقف على سبب معين أو قاعدة مقرَّرة2. ودفعًا للتكرار فقد تناولت هذه القضية الخطيرة بالتفصيل في نقدنا العربي القديم والأصيل، وذلك في كتابي "الصورة الأدبية: تاريخ ونقد3، وشرحت مفهوم كل منهما والمعالم المميزة لهما، وغير ذلك مما يوضح أصالة النقد الأدبي العربي.

الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد

الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد الفصل الأول: مفهوم عمود الشعر العربي ... الباب الثاني: عمود الشعر عند النقاد: الفصل الأول: مفهومه ومعناه: ذلك التعبير الشائع عند النقاد من العرب وهو ما يقصدون به في ذ لك الفن؟ وهو الاشتغال بالأدب. يقصدون به تلك التقاليد المتوارثة، التي سبق إليها الشعراء الأوائل وأقتفاها من جاء بعدهم حتى صارت سنَّة متبعة، وعرفًا متوارثًا، وهو اصطلاح جديد ظهر في العصر العباسي، وتردَّد منذ القرن الثالث الهجري، ثم ذاع وتداوله النقاد في القرن الرابع، ذلك القرن الذي حفلت فيه مختلف التيارات الأدبية والنقدية. واشتهر هذا الاصطلاح عند من جاء من النقاد بعد ذلك وحتى اليوم. يقول الدكتور "محمد عبد المنعم خفاجي": وهو من نقاد العصر الذين تحدثوا عن هذا الفن. معرفًا عمود الشعر1. هو كل التقاليد الفنية التي التزامها القصاد في قصائدهم من الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور وغيرها، فهذه التقاليد جميعها هي عمود الشعر، والذي حتَّم الكثير من النقاد التزامه، والسير على منواله وسموا ما جاء على نمطه من قصائد شعرية للقدماء. ومن جاء بعدهم قصائد عمودية أو قصائد تلتزم عمود الشعر. وكثرة قضايا اختلاف النقاد كانت في عمود الشعر والتزامه عند بعض الشعراء، وما طرأ عقد الآخرين والأحكام المنصفة في النقد كانت تحتكم إليه، أي إلى هذه التقاليد الفنية الموروثة عن الشعراء الجاهليين والإسلاميين في القصيدة العربية التي هي عمودية الشعر. وقد يكون لنا أن نسأل. لم دعيت هذه التقاليد الفنية بعمود الشعر؟ ونسب هذا العمود إلى الشعر العربي؟ والإجابة عن السؤال الأول، وهي أن هذه التقاليد الفنية وهي: الأفكار والمعاني والأخيلة والأوزان والقوافي والألفاظ والأساليب والصور شبهت بالعمود الفقري في هيكل الإنسان ... كما أن مجموعها يمثل الأعمدة.

والأسس التي تبنى عليها القصيدة العربية. ذلك أن هذه التقاليد الفنية في مواد البناء للقصيدة الشعرية وبدونها لا تقوم للقصيدة قائمة. وتقوم على تشويه وخلط في صورتها. أما نسبة "أ" العمود إلى الشعر العربي. وبم ينسب إلى الشعر اليوناني أو الفارسي أو اللاتيني أو غير هؤلاء. فذلك ليس لأن شعر هؤلاء شعر فصحى، فذلك موجود في شعر العرب، وهو ما يقصد منه جمع التاريخ وحفظ الأخبار، ولكنهم لم يطلبوا فيه إطالة الإلياذة وغيرها. فالفرس يفضلون العرب في الإطالة كما فعل الفردوسي في نظم الشاهنامة" وهي ستون ألف بيت من الشعر، تشتمل على تاريخ الفرس. ولكن السبب هو أن شعر العرب كلي وجداني ينزع عن العاطفة ويمنح عن الوجدان فهو شعر غنائي بالصبغة الأولى. فعندما تهيج عاطفة الشاعر ويلذع الشوق قلبه. ويضطرم وجدانه ينسكب الشعر على لسانه أرسالًا. وكان شاعر الجاهلية أول ما يبدأ من قصيدته، التي إياها يشيد ويبني فهو معتمد على الغزل والتشبيب بمحبوبته، وهذا كعب بن زهير يقول في بردته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم أثرها لم يفد مكبول واصفًا ارتحالها ونزوحها عن المنازل. التي كان فيها درجة. والبكاء على بعدها وما خلفه لدى الشاعر من الجوى والحنين، واستبكاء الأصحاب أمام أطلال المنازل النازحة البعيدة. وذاك امرئ القيس رائد الشعر يشدو بحنينه: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ثم يأخذ الشاعر الصف الأول في وصف ما يشاهده من الآثار، التي خلفها قوم المحبوبة عند الارتحال، والصحراء وما قاسى من جوها

وعاصف ريحها وظلام ليلها، وما صادف من وحشها. وفجائعها. ثم يتخلص من ذلك في لفط وتسلسل مقبول إلى غرض قصيدته مدحًا كان أو وصفًا، أو للفخر أو حكاية حال، وهذا يتفق تمامًا مع حركة وجدان الشاعر العربي وفطرته. التي جبل عليها والتي تجيش بالغلبان طفرة ثم يعبّر مصورًا في تلك الآونة يعتلج في فؤاده، ويضطرم بنفسه. وعلى ذلك المنهج ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول 1: "أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا. وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الطاعنين عنها، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد، ولم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب. ويصرف إليه الوجوه. وليستدعي به أصفاء الأسماع إليه؛ لأن النسيب قريب من النفوس، لاثط بالقلوب، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستمتاع له عقب بإيجاب الحقوق. فرحل في شعره. وشكا النصب والسهر وسرى الليل. وحرَّ الهجير وأنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل. وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المديح: فبعثه على المكافأة وهزّه للسماح. وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل". وتقدَّم الزمن وجاء العصر العباسي، وأينعت فيه الحضارة الإسلامية بما أخرجت العقول. وما عصرته القرائح بعد ذلك التبادل الثقافي وحركات الترجمة. وتشجيع الخلفاء العباسيين وعكوف الكتاب. يقطفون من ثمار هذا العصر. وإذا بحركة الوجدان تتغيَّر ويتبدل شكلها، وإذا بأبي نواس يطالعنا ناعيًا هذه المطالع مهجنًا ذلك الطريق البالي العتيق. ألا وهو الوقوف على الديار والبكار على الأطلال، ووصف الآثار الباقية، والتسليم عليها، وسؤالها عن الأحبة النازحين عنها، فليرفع عقيرته منددًا بمطالع القصائد الجاهلية، مستبدلًا بها ذكر الخمر ووصف الصهباء. والتغنّي بنعوتها، ومن الطرب والنشوة ما تصنعه الخمر بالعقل الكثير فيقول:

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد ويقول: أيا باكي الأطلال غيرها البلى ... بكيت بعين لا يجف لها غرب أشنعت دارا قد عفت وتغيرت ... فإني لما سألت من نهتها حرب ويقول: صفة الطول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لأيمنة الكرم ويقول: دع الوقوف على ريم وأطلال ... ودمنه كسحيق اليمن البالي وعج بنا نصطبح صفراء واقدة ... في حمرة النار أو في رقة الآل وكانت هذه دعوة جديدة للخروج على مطالع الجاهليين وعمود الشعر، كان هذا الماجن الخليع "أبو نواس شعوبيًّا في مذهبه كما يقول هو:1 عاج الشقي على رسم يسائله ... وعجت أسأل عن خمارة البلد تبكي على طلل الماضين من ابن ... ثكلت أمك قل لي من بنو أسد ومن تميم ومن قيس ومن يمن ... ليس الأعارب عند الله من أحد

ودعا أبو فارس إلى أن تفتح القصائد الشعرية بأوصاف الراح ونعوتها وتابعة في ذلك "ابن المعتز" الشاعر الناقد، والذي كان يبحث في الصلة بين الأدب والحياة. ويحاول الملاءمة بينهما. وينادي بتحضر الشعوب ورقيّه وترك روح البداوة فيه وصبغة الجاهلية عليه يقول ابن المعتز: أحسن من وقفة على طلل ... ومن بكاء في أثر محتمل كأس مدام أعطتك فضلتها ... كفّ حبيب والنقل من قبل وليم الشاعر الماجن "أبو نواس" على دعوته الجديدة إلى تعاطي الخمر وتزيين رجسه. فعاد إلى السخرية ثانية من ذكر الأطلال، والتنادر بالوقوف على الآثار فقال مكرهًا ساخرًا. أعز شعرك الأطلال والمنزل القفرا ... فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا دعاني إلى نعت الطول مسلط ... تضيق ذراعي أن أردّ له أمرا سمعًا أمير المؤمنين وطاعة ... وإن كنت قد جشمتني مركبًا وعرا وهل تحرّر أبو نواس من القيود الفنية للقصيدة العربية ومن عمود الشعر ونهج طريقة غير طريقة أسلافه من الشعراء؟ وها هو ذا يصف من يقف على الديار ويبكي الآثار ويصف الزمن، ويسائل الأطلال والأحجار بالعي والفهامة وتفاهة الخيال، وركود الذهن، ذلك لأنه يرى أن التشبيب إنما يكون بالخمر الصهباء. ووصف محاسنها وتعديد فضائلها وجمال حمرتها الزاهية، ورقتها الصاقية.

والجواب1: إنما كانت هذه الدعوة زيا من أزياء العصر العباسي الأول، الذي يعيشه أبو نواس، والذي تفشي فيه شرب الخمر. والعكوف على الخمارات والعب منها، والحقيقة أن أبا نواس استبدل قيدًا بقيد، فلما مضى الزمن وجاء العصر العباسي الثاني وجدنا شاعره "المتنبي". يتحرَّر بالفعل، وفي أحيان كثيرة من مطالع الغزل لقصائد الشعرية. فيمدح سيف الدولة الحمداني، ويقول في مطلع قصيدته2: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم فقد بدأها بالحكمة، ينتزعها من الجو الذي يسايره. وإذا ما أراد المتنبي أن ينشئ قصيدة في العتاب ابتدأ بقوله: أما لسيف الدولة اليوم عاتبا ... فداه الورى السيوف ضاربا وهكذا نجد أن الذي تحرَّر من مطالع الجاهليين للقصيدة الشعرية حقًّا هو المتنبي في العصر العباسي الثاني. وليس أبا نواس الذي استبدل قيدًا بقيد.

الفصل الثاني: الخصائص الفنية لعمود الشعر العربي

الفصل الثاني: الخصائص الفنية لعمود الشعر العربي: خصائص اللفظ: نجد العرب يتطلبون فيه الجزالة، والاستقامة، والمشاكلة للمعنى، وشدَّة اقتضائه للقافية. وما تطلَّبوه في مفهوم المعنى الجزئي هو شرف المعنى وصحته، والإصابة في الوصف، وأما ما يخصّ تصوير المعاني الجزئية في البنية العامة للقصيدة فهو المقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه، للمستعار له، ثم التحام أجزاء النظم والتئامها 1. وعلى ذلك نلاحظ أن جزالة اللفظ تتوافر له إذا لم يكن غريبًا، ولا سوقيًّا مبتذلًا2، ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته ولا تستعمله في محاربتها3 والأمثلة كثيرة نقتصر منها على قول الحطيئة: يرسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضيوا جاءوا الحفيظة والجد أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدّ المكان الذي سدُّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا وبهذه القاعدة عابوا كثيرًا من شعر المحدثين، وفي هذه القاعدة تكتسب الألفاظ نبلًا يشبه النبل الطبقي، وفيها إغفال لموقع اللفظ من الجملة مما انتبه إليه - أمثال "عبد القاهر" على أن استقراء الشعر العربي استقراءً سليمًا يكذب هذه القاعدة. واستقامة اللفظ تكون من ناحية الجرس حيث يكون اللفظ مستقيمًا بسلامته من تنافر الحروف، وذلك مقياس نسبي، يجب أن يُراعى في اللهجات والأذواق المختلفة، على أن الخطأ هنا أن اللفظة الثقيلة قد تصلح في موضعها إذا أوحت بمعناها المراد في ذلك الموضع.

ومن ناحية الدلالة يكون اللفظ مستقيمًا إذا لم يجاف الشاعر في استعمال أصله ووضعه اللغوي، ولهذا السبب عابوا أقوال البحتري: تشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم فالأيم التي لا زوج لها سواء سبق لها الزواج أم لا1 فالمقابلة بينها وبين البكر غير مستقيمة، وهذه قاعدة مستقيمة لا غبار عليها. وكذلك يكون اللفظ مستقيمًا إذا تجانس بين قرائنه من الألفاظ، لذا أخذوا على مسلم بن الوليد قوله: فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... يثني عليها السهل والأوعار فكان الأولى أن يقول السهل والوعر، أو السهول والأوعار، ليكون البناء اللفظي واحدًا بالتثنية أو الجمع، على أن مجال التأويل هنا واسع فالسهل في مستوى واحد، على حين الأوعار مختلفة، ثم إن إطلاق القول بذلك يكذبه الاستقراء الصحيح للشعر العربي القديم، والنثر كذلك. استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى العلامة الرجلا لأن الملامه تتجه للإنسان أمرأة كان أم رجلًا، ولا تخصّ الرجل وحده، ويتبع الاعتبار الأخير أن تقع الكلمة موقعها في القافية، كأنها الشيء الموعود المنتظر، وبهذا يمدح بيتًا للحطيئة: هم الذين إذا ألَّمت ... من الأيام مظلمة أضاءوا فالإضاءة تتطلب ظلام الأيام، وما استجد فيها من أحداث مدلهمة1، وكذلك يحمدون في المعنى أن يكون شريفًا.

خصائص المعنى: وهي أن يقصد الشاعر فيه إلى الإغراب، واختيار الصفات المثلى إذا وصف أو مدح، لا يبالي في ذلك بالواقع، فإذا وصف فرسًا يجب أن يكون الفرس كريمًا، وإذا تغزَّل ذكر من أحوال محبوبه ما يمتدحه ذو الوجه، الذي برح له الحبّ. وإذا مدح فعليه أن يذكر ما يدلُّ على شرف المقام إبداعًا وإغرابًا لا مراعاة لصدق ولصفات ممدوحه كما يراه1. وعلى ذلك فنجد العلماء والنقاد يعنون بصحة المعنى، وألا يقع فيه خطأ تاريخي كقول زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم تنتج فتتئم أو خطأ على حساب العرف السائد ولذلك يعيب الآمدي على البحتري قوله: نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع ... تلاحقن في أعقاب وصف تصرما2 وذلك لآن الآمدي يرى أن الشوق يشقيه البكاء، ولا يزيد منه، أو مخالفة العرب المعنوي. كقول أبي تمام: إذا ما رحى دارتْ أدرتْ سماحة ... رحى كل إنجاز على كل موعد إذ جعل إنجاز الوعد بمثابة صحَّته بالرحى، وهو قضاء عليه، وذلك في العرف اللغوي لا يرون إلا خلاف2. والإصابة في الوصف يذكر المعاني العامة، التي هي ألصق بمثال الموصوف من حيث هو مثال، فيتجنَّب المجهول والخاص من المعاني والصفات، فزهير مثلًا كأن مصيبًا، لا لأنه مدح عرم بن سنان بصفاته الخاصة، بل لأنه مدحه بالصفات العامة للرجل الكريم من حيث إنه مثال

كريم، ولذلك يروون من عمر -رضي الله عنه- أنه قال -رضي الله عنه- "كان لا يمدح الرجل إلا ما كان في الرجال 1. والأمور الخاصة بتصوير المعاني الجزئية، منها المقارنة في التشبيه وأصدقه "ما لا ينتقض عند العكس". كتشبيه الورد بالخد، والخد بالورد، وأحسنه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في ال صفات أكثر من انفرادهما، كي يبين وجه التشبيه بلا كلفة، لأنه حينئذ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس2. ثم مناسبة المستعار منه للمستعار له على حسب عرف اللغة في مجازها ولذلك عيب على أبي نواس قوله: بح صوت المال معا ... منه يشكو ويبوح يريد أن المال يتظلم من إهانته وتمزيقه بالإعطاء لكرم صاحبه. والاستعارة قبيحة لأنه لا صلة بين المال والإنسان3.

خصائص النظم والتراكيب: ويقصدون بذلك إلى الانتقال من كل جزء من أجزاء القصيدة التقليدية إلى الجزء الآخر على نحو جيد على حسب ما جرت به تقاليد القصيدة العربية منذ الجاهلية، على الرغم من أن هذه الأجزاء بما تشتمل عليه من وقوف على الأطلال، وذكر الديار والحبيب، والرحلة إلى المحب، ثم المدح، لا صلة في الواقع بينهما، ولا يمكن أن تتكون منها وحدة عضوية، إنما يريدون وصل هذه الأجزاء وكفى، على أن إجادة هذا الوصل، وهو ما يسمونه حسن التخلص من غرض إلى غرض في القصيدة هي ما عنى به المتأخرون دون الجاهلية والمخضرمين -إذا كانت العرب تقول عند فراغها من وصف الإبل وذكر القفار يقولون: دع ذا، أو عد من ذا1. ليأخذوا فيما يقصدون إليه من غرض القصيدة الأصلي، ولهذا لم يؤثر حديث نقاد العرب عن التحام الأجزاء في بنية القصيدة، بل اتخذوا القصيدة الجاهلية نموذجًا على ما بين أجزائها من تفاوت. يتناقص مع ما نعرفه اليوم من معنى الوحدة. وحول عمود الشعر وما تفرغ عنه من أمور النقد ثارت عند نقاد العرب كل مسائل الخصومة بين القدماء والمحدثين. إذ أن هؤلاء المحدثين قد انحرفوا قليلًا في صناعتهم عما يقتضيه عمود الشعر من أصول. وقد اعترف نقاد العرب في أمر هذه الخصومة، فمنهم من تعصَّب للقديم لقدمه، وبخاصة الرواة واللغويون كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وكان أبو عمرو لا يحتج ببيت من الشعر الإسلامي وكان يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته 1. ولا وزن لمثل هذه الأراء والقول الفصل في هذا ما قاله ابن قتيبة: ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين العدل للفريقين، وأعطيت كلا حقَّه ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم1. ولقد فطن نقاد العرب في موازنتهم بين الشعراء، وفي الخصومة بين المحدثين والقدماء إلى أثر البيئة الطبيعية والثقافية. وأرجعوا إليها

الاختلاف بين جزالة أدب البدو والأعراب، ورقة أهل الحضر، وسهولة ألفاظها ومعانيها، وبخاصة بعد الإسلام حين "اتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزحت البوادي إلى القرى، ونشأ التأدّب والتظرف فاختار الناس من الكلام ألينه وأسهله 2. ونلاحظ أن أول من نبَّه إلى أثر البيئة في الشعر هو ابن سلام الجمحي في طبقاته، فقد علَّل لين الشعر عند عدي بن زيد، بأنه كان يسكن الحيرة ومراكز الريف وفي قلَّة الشعر في الطائف ومكة لقلة الحروب؛ لأن الشعر إنما يكثر بالحروب كحرب الأوس والخزرج. ولذا قلَّ الشعر بين قريش إذ لم يكن بينهم ثأرة ولم يحاربوا2. ومبدأ تأثير البيئة في ذاته صحيح، ولكن ابن سلام لم يستطع أن يفيد منه كمبدأ من مبادئ النقد الأدبي، وأن يكن قد حاول به أن يعلل تعليلًا موضوعيًّا للظواهر الأدبية. وبعد هذه الاتجاهات النظرية العامة علينا أن نفضّل القول في مختلف الاتجاهات في النقد العربي مع تقويمها تقويمًا حديثًا. ويمكن تقسيمها إلى اتجاهين كبيرين: ما يخصُّ وحدة العمل الأدبي من حيث أجناس الأدب من شعر ونثر، ثم من حيث ترتيب أجزاء القول والأهداف الإنسانية للأدب. والاتجاه الكبير الآن الذي يتحدث النقاد فيه عن القيم الجمالية للوحدة البلاغية وأزمة التجديد فيها. ثم فيما سموه اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون.

الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد

الفصل الثالث: عمود الشعر بين النقاد: رأي النقاد القدامى في عمود الشعر: 1- ابن قتيبة 1 226 هـ". يرى أن نهج الشعر الجاهلي في القصيدة ومسلكه القديم من الوقوف على الديار واستبكاء الأصحاب ونعت الآثار، والتخلص من ذلك في حذق ولطف إلى الغرض الذي أنشأ الشاعر من أجله قصيدته. بعد أن امتلك الإصغاء. ومهد النفوس لما يعد هو مقبل عليهم. انتقل إلى غرضه وما بنى بسببه القول. يعتبر ابن قتيبة هذا المسلك في منتهى الإجادة شعرًا وشاعرية وهو القائل: "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب. وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد ثم يقول ابن قتيبة: "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، فإن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير". وأضاف ابن قتيبة في نهجه الوحدة الفنية في القصيدة. واقتران المعنى بين الأبيات، وأن تكون الأبيات الشعرية كلًّا واحدًا. وكأنما صبت في قالب واحد، فلا تباين بينها في الألفاظ أو المعاني واعتبر من التكلفة والصناعة في الشعر أن ترى البيت مقرونًا بغيره ومضمونًا إلى غير لفقه. وليدلل على صحة قوله يورد قصة "عمر بن لجأ" الذي قال لأحد الشعراء أنا أشعر منك. قال: وبم فضلتني؟ فأجابه: لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه. وجعل ابن قتيبة ذلك هو مناط المفاضلة بين الشعراء.

2- قدامة بن جعفر "328 هـ":1 يوجب تألف اللفظ والمعنى، وكذلك الوزن والقافية، ولكنه مع ذلك يخصص بالدرجة الأولى وحدة البيت، ويشترط أن يكون لكل بيت معنى تام مستقل. وعقده أن الشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريد في بيت واحد، كأن ذلك أشعر من الذي أتى بذلك في بيتين كقول الشاعر: إذا أنت لم تستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب مع قول الآخر: إذا أنت في كل الأمور معا ... تبا صديقك لم تلق الذي لا تعانيه فعش واحدًا أو صل أخاك ... فإنه مقارف ذنبًا تراه ومجانبه ومن العيب الواضح عند قدامة الناقد احتياج البيت إلى آخر ليتم معناه، فالمعنى يطول عن أن تحتمل العروض تمامه في بيت واحد فيقطعه الشاعر بالقافية ويتمَّه في البيت الذي يليه. وقد سئل حماد الراوية: بم تقدم النابغة؟ فأجابه باكتفائك بالبيت الواحد من شعره. لا بل بنصف بيت. لا: بل بربع بيت مثل قولي: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب وقوله كل نصف بيت يغنيك عن صاحبه. وقوله: أي الرجال المهذب. وقوله: وربع بيت يغنيك عن غيره.

3 - "أبو هلال العسكري1 "395 هـ": وأبو هلال يكتفي من المعنى أن يكون صوابًا. ويشترط جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهاءه وصحة السبك والتركيب. والخلو من إعوجاج النظم والتأليف إذ يقول: "وليس الشأن في إيراد المعنى، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبادي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، من صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف". "وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا. ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت. وذهب أبو هلال إلى أن الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا، وسلسًا سهلًا، ومعناه وسطًا دخل في جملة الشعر الجيد، وجرى في صفته مع النادر، واستشهد الناقد البلاغي على صحة مذهبه هذا بقول الشاعر: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على حدب المهاري رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح يقول العسكري: "وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى وهي رايقة معجبة". 4- ابن طباطبا2 "332". أما ابن طباطبا فذكر في كتابه عيار الشعر أن الشعر صناعة وأن الصناعة تقتضي الفصل بين اللفظ والمعنى مما قال في ذلك:

تألَّت الحكماء: "إن للكلام الواحد جسدًا وروحًا. فجسده النطق وروحه المعنى. فالواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة. بمعنى أن يتقنه لفظًا ويبدعه معنًى". ثم يجرى ابن طباطبا الألفاظ والمعاني في لفق واحد فيقول: "وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها، وتقبح في غيرها". "فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنًا في بعض المعارض دون بعض". وفضل القول فيما أسماه الأشعار المحكمة وأضدادها: "والأشعار المحكمة عنده هي المحكمة الوصف، المستوفاة المعنى، السلسلة الألفاظ، الحسنة الديباجة، فهو يهتم باستيفاء المعاني. إلى جانب ثلاثة أمور تحكم الشعر في نظره وهي: الوصف المحكم -اللفظ السلس- الديباجة الحسنة. وثلاثتها تحتوي على عمود الشعر، ثم مثل ابن طباطبا لهذه الأمور الثلاثة يقول أبو ذؤيب الهذلي في هذه الأبيات: من المنون وريها تتوجع ... أوالدهر ليس بمعقب من يجزع وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألغيت كل تميمة لا تنفع والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع المرزوقي1 "321 هـ": على أننا لا ندري أحدًا فصل في عمود الشعر، ورتبه وشرح عليه، وهمشه وأفاض في ذلك. وقارب الغاية، وأضفى على النهاية، وأجاد مثل المرزوقي الناقد، يقول المرزوقي: "الواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب. ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث".

ويتحدَّث المرزوقي عن عمود الشعر، مبينًا ليناته الفنية، التي يبنى منها فيقول: "إنهم كانوا يحاولون شرف فالمعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف. والمقاربة في التشبيه. والتحام أجزاء النظم والتثامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية، حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها عياره. فعيار "1" المعنى أن يكون شريفًا صحيحًا مصيبًا، فإذا عرض على العقل الصحيح والقيم الثاقب واقتنع به كأن مقبولًا. وإلا نقص بمقدار ما فيه من باطل وخطأ. والعقل الصحيح يحكم على المعنى بعد أن يعرضه على واقع الحياة حينًا وعلى معارف العلم حينًا آخر. ومن ذلك: ذهب جرير يمدح عبد الملك بن مروان فأنشأ يقول: أتصحوا أم فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح فحينما سمع منه الخليفة الشطر الأول من البيت تطير منه ولامه بقوله: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح فجعل الخليفة يهتز طربًا ويقول: نحن كذلك. ردَّها على. فأعادها عليه والخليفة يزداد زهوًا ويقول: من مدحنًا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت. ولقد استجاد الخليفة بيت الشاعر وجعله نموذجًا للمديح، ولم يكن طربه للفظ أو للنظم فالقصيدة على نمط واحد منهما، ولكن الذي شدا به وآثر هو معنى البيت، فقد يكون الركوب للحرب والنزال أو للصيد والطرد، أو للسبق والمباراة. أو للهلك والحكم، أو لغير ذلك مما يجري على هذا النمط، ومن أجل هذه المعاني جميعًا انتخب البيت، وطرق كوامن الفخار والعزة في نفس الخليفة1. ب- وعيار اللفظ الذوق المرهف الذي هذبته الرواية، وصقلته الثقافة وكان جزلًا مشاكلًا للمعنى المراد منه.

عندما أنشد المتنبي سيف الدولة قصيدته. التي يهنئه فيها بالانتصار على الروم في موقعة الحدث2 وانتهى إلى قوله فيها: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم قالوا: عاب سيف الدولة البيتين بأن شطريهما لا يلتئمن وكان حقهما عنده: وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم وحجة سيف الدولة أن طريقته هذه والموت لا شك فيه مع الإشراق والابتسام أدلّ على تناهي الشجاعة وبلوغ الجرأة الغاية، فالألفاظ لم تقع مواقعها في نظر سيف الدولة ودافع المتنبي عن وجهة نظره. بأنه لم ذكر الموت في أول البيتين أتبعه بذكر الردى ليجانسه. ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا. وعينه من أن تكون باكية. اتبعه بذكر وجه الممدوح الوضاح الباسم، وذلك ليوجد أساسًا للمقابلة بين الشطرين. ج وعيار الإصابة في الوصف ما أوتيه الأديب من ذكاء وحسن تمييز، وبها يدرك ما هو أشد لصوقًا بالشيء فيكون من صفاته الأساسية، ولذلك عدوا من نوادر الشعر هذا البيت: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب للقبر دل على القبر وكذلك البيت الذي وصفه المفضل: بأن أوله أكثم بن صيفي في إصابة الرأي وآخره بقراط الطبيب في معرفته بالداء والدواء:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء د وعيار المقاربة في التشبيه هو التفطن لما بين الأشياء من صلات، وحسن تقدير هذه الصلات، حتى يوقع التشبيه بين أبرزها وأشدها وضوحًا. ومنه: سمع جرير عدي بن الرقاع وهو ينشد عبد الملك بن مروان قصيدته: عرف الديار توهمًا فاعتداها ... من بعد ما شمل البلى بلادها فلما قال: تترجى أغن كأن إبرة روقة قال جرير: إنني رحمته من هذا التشبيه. وقلت بأي شيء يشبه يا ترى؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها. فقد رحمته من نفسي. هـ وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن عن الطبع واللسان، فما لم يستثقله الذوق من الأبنية، ولم ينحبس اللسان في النطق به يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة، لأن أجزاءه سليمة متقاربة. ولقد كان النقاد دائمًا يسألون أنفسهم هنا السؤال: أي بيت تقوله العرب أشعر1. وكانوا يجيبون على هذا السؤال في كل عصر وزمان. ومن ذلك ما رواه ابن عبد ربه. "قال عمرو بن العلاء: هو البيت الذي إذا سمعه سامع سولت له نفسه أن يقول مثله. ولأن يخدش أنفه يظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله. وقال الأصمعي: هو البيت الذي يسابق لفظه معناه. وقال زهير: وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا

"و" وعيار الاستعارة كعيار التشبيه السابق وحسن الشبه. ربما أنها مبنية على التشبيه ينبغي أن يكون التشبيه في الأصل قريبًا حتى يتناسب الشبه والمشبه به ومن ذلك قول الطائي: وكيف احتمالي للسحاب صنيعة ... باسقائها قبرًا وفي جوفه البحر "ز" وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية هو الدرية الطويلة والمدارسة الدائمة، فإذا حكم بأن اللفظ يؤدي المعنى تمام الأداء. ليس فيه جفوة ولا زيادة ولا قصور، وكان اللفظ مقصورًا على مقادير المعاني، فهو البريء من العيب، وأما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر. يتم بها المعنى، ويستوفي بها كماله، وإلا كانت قلقة في مقرها.

عمود الشعر عند الآمدي: وفي كتاب1 الموازنة بين أبي تمام والبحتري نجد أبا القاسم للحسين بن بشر الآمدي ينحاز إلى جانب اللفظ كثيرًا، وذلك عندما يقف بين اللفظ والمعنى أو يطبق نظرية في عمود الشعر على الشاعرين السالفين. وتراه ينوّه بشعر البحتري ويشيد به فيقول: ودقيق المعاني موجود في كل أمة. وكل لغة. وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه. المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة. وغير منافرة لمعناه. فإن الكلام لا يكتسى البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري. قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر. لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى. وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهزر الزائد، على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصانًا يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري: والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه وقال أيضًا: ومعانٍ لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركن اللفظ الغريب فأدركه ... به غاية المرام البعيد

فإن اتفق -مع هذا- معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن. فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه. واستغنى عما سواه". ثم يطبق الآمدي الناقد نظرية عمود الشعر على الشاعر الآخر أبي تمام، فيذري بطبقته لاعتنائه بالمعنى والمحسنات اللفظية كثيرًا، ويضع منه فيقول: "قالوا: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يعتمد دقيق المعاني من ناصفة اليونان، أو حكمة الهند، أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورد منها بألفاظ متعسّفة، ونسج مضطرب. وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليمه قلنا. قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سميناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا. ولا ندعوك بليغًا؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب. ولا على مذهبهم. فإن سميناك بذلك "حكيمًا أو فيلسوفًا" ثم نلحقك بدرجة البلغاء، ولا المحسنين الفصحاء. وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورداءه اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق، ويفسده ويعميه، حتى يحتاج مستمعه إلى طول التأمل، وهذا مذهب أبي تمام في عظم شعره. وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري. ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام. ونحن نسلم للآمدي بأنه من أتى من الشعراء بالمعنى الدقيق في لفظ رديء، مع سوء في التأليف فقد ذهب بطلاوة المعنى، وأفسدها وعماها، وأحوج المتذوق إلى طول التأمل، وتحير الفهم، وهذا يبعد عن الفطرة والبلاغة العربية. ولكننا لم نسلم له أن يوازن بين الشاعرين في عمودية الشعر، ومدى التزام شاعرية كلا منهما به، معرفًا مذهب كليهما في الشعر، وهو ينظر إليهما بنظرة الأعور للأشياء المحسوسة.

فهو يركز على اختيار الشاعر لألفاظه ورصفه لحروفه وانتقائه في بنائه. وهذا الاختيار والرصف والانتقاء ووضع الألفاظ مواضعها على اللسان المطبوع في قول الشعر. والذوق المرهف المصقول والملكة الشاعرية. ثم بعد الألفاظ عن التكلف والتصنع والتعقيد. ثم وفائها بالمعاني. فذلك الشاعر عند الأمدي. والآخذ بعمود الشعر، وذلك أيضًا مذهب البحتري. أما المعاني وهي التي أغرم بها أبو تمام في مذهبه. والدقيق منها بخاصة كما يقول الآمدي فموجودة في كل أمة وكل لغة. ولأجل اختيار الألفاظ ووفائها بمعانيها بعيدة عن التكلف والتعقيد في سلاسة وسهولة، انفردت اللغة العربية من بين سائر اللغات بالبيان المعجز. وصاحب المعاني الدقيقة البعيدة الغور. والتي تحتاج إلى طول تأمل وأعمال فكر وكد ذهن. هو في نظر الآمدي حكيم أو فيلسوف. ولا يليق أن ندعوه شاعرًا أو بليغًا. والحقيقة أن لكل شاعر منحاه الذي ينهج، فهذا شاعر فيلسوف مثل المعري وذلك شاعر حكيم كالمتنبي، وشاعر ثالث ولُوع بالغوص على المعاني كأبي تمام، ولكل شاعر أن يبتعد عن عمود الشعر أو يمتلكه، ولكل نغمه وشدوه، ورخيم صداه وعذوبة لحنه، ولكن ليست الحقيقة أن يوصف الشاعر بالعندليب الصداح وآخر يذكر بالبوم النعاب.

الفصل الرابع: عمود الشعر بين الالتزام والتحرر

الفصل الرابع: عمود الشعر بين الالتزام والتحرر: بين القدماء والمعاصرين: ويتقدم الزمن مع كل جديد. ويجيء الشعراء المحدثون من ذوي الثقافات الجديدة كأبي تمام وابن الرومي وغيرهما. ويخرج شعرهم على عمود الشعر خروجًا واضحًا، ويختلف فيهم النقاد اختلافًا ظاهرًا. كما ترى في أحكام كثيرة على أبي تمام بالخروج على عمود الشعر، وكذلك ابن الرومي الذي قال فيه ابن رشيق: أولى الناس باسم شاعر. لكثرة اختراعه وحسن افتنائه". ومع ذلك: أهمله أبو الفرج، وذمَّه القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة، بينما أعجب به النقاد المعاصرين أمثال طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم. وسلفًا تعصَّب لعمود الشعر في القرن الثاني الهجري فريق من النقاد وأهملوا شعر المحدثين من الشعراء لخروجهم على عمود الشعر 1. وينقسم النقاد القدامى إلى قسمين ولكل رأيه ووجهة نظره: 1- فأبو عمرو بن العلاء "154 هـ" رأس مدرسة المحافظة كان شديد التعصب على المحدثين لخروجهم على عمود الشعر، وهو صاحب الكلمة المأثورة عن تعصّبه، وذلك عندما سُئل عن شعر المولدين فقال: "ما كان من حسن فقد سبقوا إليه. وما كان من قبيح فهو من عندهم". ويتحدث عنه الأصمعي فيقول: "جلست إليه عشر سنين فما سمعته يحتج ببيت إسلامي فضلًا عن أن يحتج، بشعر المحدثين، وهو القائل: "لو أدرك الأخطل يومًا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدًا". فأبو عمرو كان شديد التعصب للشعر الجاهلي، ولا يعدّ الشعر إلا ما كان للمتقدمين ويتابع أبا عمرو بن العلاء في الإزراء لشعر المحدثين، ويشيد بشعر القدماء ابن الأعرابي، الذي كان يقول في شعر أبي تمام، "إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل".

وكذلك: أبو عبيدة الذي يرى أن أشعر الناس امرؤ القيس والنابغة وزهير. وأشعر الإسلاميين جرير والفرزدق والأخطل. كما كان الخليفة المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول: وأيضًا إسحاق بن إبراهيم الموصلي. الذي كان شديد العصبية لشعر الأوائل وينصرهم دائمًا على المحدثين، فطعن على أبي نواس وعلى أبي العتاهية وعلى أبي تمام ولكن لا يعتدّ ببشار. كما كان زعيم مدرسة تعظم الإقدام على الغناء بالقديم. وتنكر تغييره بالحديث ولنضرب لذلك التعصب مثلًا: أنشد إسحق الموصلي يومًا الأصمعي هذين البيتين: هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروي الصدى ويشفي العليل أن ما قل منك يكثر عندي ... وكثيرًا مما تحب القليل فقال: لمن تنشدني؟ قال لبعض الأعراب. فقال: والله هذا هو الديباج الخسرواني. قال إنهما لليلتهما؟؟ فقال: لا جرم والله إن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما. والسؤال: لم كان هذا التعصب من القدماء على المحدثين من الشعراء؟ ولعلَّه في اعتذار الباقلاني عن تعصب هؤلاء حيث قال: إن هذا لميلهم وحبهم للشعر الذي يجمع الغريب والمعاني. وفي اعتذار ابن رشيق الذي قال2: لحاجتهم إلى الشاهد وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ذلك مما يجيب عن سؤال السائل. ويطمئن من النفس بعضًا من تساؤلها وإن كان لا يشفي، وهنا ابن رشيق يعود ثانية ليقول: "إنما مثل القدامى والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه

وأتقنه ثم أتى الآخر فنقشه وزينه فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن". وهذا مثال إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على مقدرة الشعراء القدامى على المحدثين. 2- والقسم الثاني هو مدرسة الإنصاف بين القديم والحديث. والمحدث وعلى رأسها الناقد خلف الأحمر فارس حلبة النقد، وكان يفاضل بين النماذج المحدثة على الشعر الجاهلي، وهو الذي فضل لامية مروان على لامية الأعشى، وكذلك من النقاد الذين يتابعونه ويسيرون خلف لوائه: الجاحظ وابن قتيبة الذي قرَّر في مقدمة كتابه: مبدأ الإنصاف: "ولم أنظر إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه. ولا إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين. وأعطيت كلًّا حظه ووفرت عليه حقَّه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف قائله. ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصَّ به قومًا دون قوم". ولقد كان الجاحظ ينكر غلوَّ المتعصبين على المحدثين. ومن أمثاله. المبرد وابن المعتز وابن قتيبة وغيرهم. وظهر الشعراء المحدثون والمولدون إبان العصر العباسي يأخذون في التجديد في الشعر. ذلك لنشأتهم في هذا العصر وحضارته. والنهل من ثقافته ومن ذلك الامتزاج القوي، الذي حدث بين العرب والأمم الأجنبية في كل شيء، من فكر وحضارة وثقافة وغير ذلك: تجدهم زادوا في معاني المتقدمين من الشعراء, واهتدوا إلى معانٍ جديدة. وأتوا بأخيلة وتشبيهات مبتكرة. وكتبوا في أغراض غير الأغراض القديمة فوق ما صنعوه من تسهيل الأساليب والوزن الشعري، فصبغة الثقافات الجديدة من يونانية وفارسية لعقلية المولدين كانت لها آثارها عليهم

في التفكير والمعاني والتقسيم وطرافة الخيال. وخرجوا في أحيان كثيرة عن عاطفة الشاعر إلى عقل المفكر وحكمة الحكيم، فاشتهر صالح بن عبد القدوس وأبو العتاهية ومحمود الوراق في فن الحكمة والمثل. وكان العتابي يذهب شعره في البديع الذي تكلفه مسلم من المولدين وتبعه أبو تمام. وكانت موجة البديع وتكلفه خروجًا على عمود الشعر في رأي الأكثرية الغالبة من النقاد. وجاء العصر الحديث وقد نظر الشعراء المعاصرون إلى عمودية الشعر نظرة خاصة، وانصرفوا عن الأوزان القديمة والمولدة جملة. وأقبلوا على الشعر الحر والمرسل والمنثور وغيرها من ضروب التجديد. في القصيدة الشعرية، فيمعنون كل الإمعان في الخروج على عمودية الشعر، وعلى رأسهم رائد مدرسة أبولو الشعرية "دكتور أحمد زكي أبو شادي" 1. وكذلك مدرسة الديوان وجميع الثائرين على القصيدة العمودية، ومن وجهة نظرهم. أنهم يرون أن الخروج على الوزن التقليدي يجر الشاعر إلى استخدام أسلوب وإيقاع "وتكنيكات" تضرب جذورها في اعماق عقله الباطن وتملي عليه الإيقاع والأسلوب والإعجام، فتغلبه على إبداعه وعلى شخصيته، وتجعله غير قادر على التعبير في كل الموضوعات والحالات الشعرية. ويحسن بنا أن نسأل: هل ما يزعمه الدكتور أبو شادي على لسان أصحابه الثائرين على القصيدة العمودية صحيحًا أو مجردًا من قيود الفن؟ أو ضريبة الإبداع؟ وثمن الخلود؟ وقد أعجبني ردّ الدكتور خفاجي على هذه التساؤلات فيقول: 1 ونحن لا نتابع مذهب الذين يرمون الصياغة الكلاسيكية بأنها تغلب الشاعر على إبداعه وشخصيته، ففي رأينا أنها لا تقف حائلًا بينه وبين الإبداع وإظهار شخصيته المستقلة، وحريته الفنية الواسعة، إن الشاعر الموهوب لا تعوقه أبدًا قيود الوزن والقافية". وقد يتسنى لنا أن نقول: إن النظم أحسن من النثر الذي هو من جنسه، ومع هذا فالنظم قيد على الشعر ولكنه قيد ضروري لا بد منه.

والذين يتداعون إلى الشعر الحر، ويهتفون بحياة الشعر المرسل والمنشور تحت ستار دعوى الحرية والانطلاق في تصوير مشاعرهم وانفعالاتهم وأخيلتهم وأفكارهم وأحاسيسهم زاعمين أن هذه الحرية، وذلك هو الانطلاق يتيح لهم الصور الجميلة والألفاظ العذبة الرقيقة والجرس السلس المنغم. وإن هذا النظم قيد حديدي. والقافية وثاق يحدّ من انطلاق هؤلاء، وقد يكون من الضروري أن نذكرهم بشعراء خلدهم التاريخ أمثال زهير والنابغة وأبي العلاء والمتنبي والبحتري والبارودي وشوقي وغيرهم. لم يربطهم قيد الأوزان العروضية على العي والتبلد. ولم تكبح القافية انطلاقاتهم الوجدانية، ولم تغل مشاعرهم أو تخبو أفكارهم على صخرة القوانين الإيقاعية، ولم تقف أبحر الخليل بن أحمد حجر عثرة في طريقهم. وإنما كانت في ركابهم ومقياسًا على براعتهم. والحقيقة أن دعوى الشعر الحر هي دعوة للخمود والتبلد والضعف والعجز، ومناصرة للعي واللحن وهي أيقاظ للعامية والابتذال. لأن الحقل اللغوي للشعر الحر جدب وقحط، لا تنوع فيه بين الألفاظ ولا بين الأساليب يكتفي فيه الشاعر المتحرّر بما انتهى إليه من ألفاظ وتراكيب في مرحلة زمنية محددة لا يثريها ولا ينميها، ولا يسمو ذوقه الأدبي فيها. ويكون هذا المستنقع الشعري الراكد مباءة لألفاظ السوقة، وكلمات العامة، وآفات اللغة، وقوارض الإيقاع، واضطراب الوزن، ومنحيات الموسيقى ومطباتها. وفصل القول في عيوب الشعر الحر أنها تدفع بأصحابها إلى بداية المنزلق، الذي يتدحرجون فيه إلى قبر اللغات، فيخبو نورها، ويذهب سحرها، وينطفئ ضوءها وتتخاوص حيويتها، وأنَّى لهم ذلك فلغة القرآن قد هيأ الله تعالى من يدافع عنها قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

بين الالتزام وهدمه لكي يكون الشاعر شاعرًا يجب أن يكون قبل كل شيء ذا موهبة فطرية. ثم يكون ذا ذكاء يميزه وحسن تقدير وذوق مرهف يدرك ما في الأوزان من قبح وجمال، وأن يكون عنده ثقافة أدبية واسعة تعتمد على الدربة والدراية، وطول الممارسة والمران للنصوص الأدبية ودواوين الشعراء في كل عصر. عمود الشعر يتطلب منه معنى صحيحًا وشريفًا ويلبس لفظًا مصيبًا ومختارًا جزلًا منتقى ومشاكلًا للمعنى الذي في النفس، ومطابقًا للأسلوب متفردًا متميزًا. متلائمًا مع نسج التركيب، وموسيقى الوزن ومطابقة الخيال، وقرابة التشبيه. وموافقة الغرض والمقصد، فيكون الشاعر مطبوعًا في كل ذلك. وليس متكلفًا ولا متصنعًا في شيء من ذلك. فإذا أقام عمود الشعر كان شاعرًا مبرزًا، وإلا فبقدر ما تتضح به قريحته وينزع به دلوه من الشعر. أما هؤلاء الذين يغوصون على المعاني وبهم نهم إلى سبرها لتخرج على أي معرض التقطت به، ولا يعينهم الأسلوب أو النسج بقدر عنايتهم للمعنى وتهالكهم عليه. فذلك النائون عن عمود الشعر ولهذا اتهم النقاد أبا تمام بالخروج عن عمود الشعر لكلفه بالمحسنات اللفظية. جُلّ هؤلاء يبعتون بأمر الجناس والمطابقة وفنون البديع أكثر من وضوح المعنى وسهولة اللفظ وسلامة الأسلوب. وهم لا يبالون أن يغمض المعنى ويعمى إذا سلم لهم فنم ن فنون المحسنات البديعية. أولئك البعيدون عن نهج القدماء وعمود الشعر. ومن أجل ذلك أولعوا بالمطابقة والجناس، بينما وصفوا تلميذه البحتري بأنه ملتزم لعمود الشعر لسهولة شعره. وانتقاء لفظه ووضوح معناه وإحكام نسجه، وتوسمه خطى سلفه. التزام أبي تمام والبحتري: قد يكون من الإنصاف أن نقدّم نصين للشاعرين أبي تمام والبحتري تحت باب المواجهة بينهما. وكأنهما في ميدان الشعر فرسا رهان.... ننظر أيهما أطول بابًا. وأعلى كعبًا. ونلمس فيها مدى قدرة كل منهما.

الشاعرية على جمال الوصف وأحكام النضج، وسلامة الأسلوب، وانتقاء الألفاظ، ولقد قالا الاثنان في وصف الربيع: نزلت مقدمة المصيف حميده ... وبين الشتاء جديدة لا تفكر مطر يذوب الصحو منه وبعده ... صحو يكاد من النضارة يمطر غيثان: فالأنواء غيث ظاهر ... لكل وجهه والصحو غيث مضمر يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الروض كيف تصور وقال البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل وردكن بالأمس نوما يفتقها برد الندى فكأنه ... بيت حديثًا كان قبل مكتما ثمن شجر ردّ الربيع رداءه ... عليه كما ذكرت وشيًا منمنما ورق نعيم الروح حتى حسبته ... يجيء بأنفاس الأحبة نعما ولا يخفى على القارئ النصان فيرى ولوع أبي تمام وتكلفه بالمحسنات اللفظية وفن البديع، وولوعه بالطباق والجناس والمقابلة. وانظر: غيثان فالأنواء غيث ظاهر لك والصحو غيث مضمر، كما لا يخفى جمال التعبير وسهولة الألفاظ وقدرة التصوير عند البحتري. وانظر قوله أتاك الربيع الطلق البيت، وهكذا فاق البحتري سلفه وأستاذه.

الباب الثالث: عمود الشعر والموازنات الأدبية

الباب الثالث: عمود الشعر والموازنات الأدبية الفصل الأول: رأي الآمدي في سرقات أبي تمام والبحتري ... الباب الثالث: عمود الشعر والموازنات الأدبية: الفصل الأول: الآمدي في سرقات الشاعرين: أوردنا في الفصل السابق موجزًا من سرقات الشاعرين في نظر الآمدي الناقد. ولنا أن نسأل صاحب الموازنة. أليست القاعدة في نقد السرقات الأدبية أن الشاعر إذا سرق معنى من آخر فأدَّاه بأبلغ من المسروق منه انفرد الأخير بالفضل. ولم يكن ذلك عيبًا عليه. وكان صاحب الزيادة مثله في الفضل إن لم يكن أفضل منه. وإذا سلم لنا الآمدي بتلك وهو الواجب عليه. لأنها قاعدة في ذلك الفن. فأي شرف احتجز أبو تمام به وأقام الدليل عليه فيما أوردناه؟ أهو البيت الذي وصفه الآمدي نفسه بأنه أحسن ابتداءات أبو تمام؟ السيف أصدق أنباء من الكتب ... البيت لم هو بيت الرثاء: توفيت الآمال بعد محمد ... البيت؟ أم هو البيت والذي وصفه المدعى بالسرقة لأنه الأحسن وأن الشاعرقد جاء فيه بالزيادة، قد ينعم الله بالبلوى وأن عظمت؟ البيت أم هو الآخر الذي أحسن الطائي في لفظه وأجاد في معناه: باعتراف الآمدي وفيه يقول الشاعر: نعود بسط الكف حتى لو أنه ... دعاه لقبض لم تجبه أنامله ألم هو البيت الذي لا يجحد فضله إلا مكابر؟ وفيه يقول الطائي: لا تنكري عطل الكريم من الغني ... فالسيل حرب للمكان العالي قد يتوجب الاتصاف علينا أن نقول: إن الآمدي ينظر إلى الشاعرين في مساوتهما ومزاياهما معًا بعين تختلف، وهو بعد ذلك يقول: "وأذكر طرفًا من سرقات أبي تمام -وإحالاته - وغلطه - وساقط شعره" فإذا ما التفت إلى البحتري هشّ له وقال: - أما مساوئ البحتري - من غير السرقات فقد دققت واجتهدت أن أظفر له بشيء يكون بإزاء ما أخرجته من مساوئ أبي تمام في سائر الأنواع التي ذكرتها فلم أجد في شعره، لشدة تحرزه وجودة طبعه. وتهذيب ألفاظه - من ذلك ما أرى إلا أبياتًا يسيرة".

فإذا ما استعرضنا ما أوردناه من سرقات البحتري هذا. وجدنا تعريف السرقة للشاعر. يكاد ينطبق عليه تمامًا وانظر معي: 1- قال أبو تمام: وإذا أراد نثر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود قال البحتري: ولن تسبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد 2- قال أبو تمام: فكاد بأن يرى للمشرق شرقًا ... وكاد بأن يرى للغرب غربًا قال البحتري: فأكون طورًا مشرقًا للمشرق الأقصى ... وطورًا مغربًا للمغرب 3- قال أبو تمام: وكيف احتمالي للسحاب صيغة ... بإسقائها قبرًا وفي جوفي البحر قال البحتري: ملآن من كرم فليس يضرُّه ... مرُّ السحاب عليه وهو جهام 4- قال أبو تمام: وما خبر برق لاح في غير وقته ... وواد نجد ملآن قبل أوانه قال البحتري: وأعلم بأن الغيب ليس بنافع ... للناس ما لم يأت في إبانه وهكذا نجد أن البحتري سرق أبا تمام لفظًا ومعنًى. ثم قصر عنه أسلوبًا وتصويرًا. وكان هو المفضول ولكن الآمدي يرى غير ذلك. ولقد كشف عن هذا التحامل الدكتور خفاجى لائمًا الآمدي بقوله1: "فالآمدي -رضي الله عنه- لا يترك مؤاخذة أبي تمام على سرقاته في المعاني العابية. كما فصل مع البحتري. مع أبا تمام في كثير مما أخذ يستبد بشرف المعنى لجودة نظمه، وحسن تأتيه، وارتفاعه بالزيادة على ما أخذه والتأنق في صوغه".

الموازنة بين الشاعرين عند الآمدي: ينتهي الآمدي في كتابه الموازنة إلى فصل أخير هو الموازنة بين الشاعرين فيقول1: وقد انتهيت الآن إلى الموازنة به وكان الأحسن أن أوزان بين البيتين أو القطعتين إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية. ولكن هذا لا يكاد يتفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد وهي للمرمى والغرض". ثم يقول: وأنا ابتدئ بإذن الله من ذلك بما افتتحا به القول من ذكر الوقوف على الديار وللآثار ووصف الأمن والأطلال إلى أن يقول: ونحو هذا مما يتصل به من أوصافها ونعوتها وأقدم من ذلك ابتداءات قصائدهم في هذه المعاني إن شاء الله". 1- الابتاءات بذكر الوقوف على الديار: قال أبو تمام: ما في وقوفك ساعة من بأس ... تقضي حقوق الأربع الأدراس قال الأمدي "وهذا ابتداء جيد صالح وقوله الأدراس جمع دارس وقليل ما يجمع فاعل على أفعال. قال البحتري: ما على من وقوف الوكاب ... في مغاني الصبا ورسم القصابي وقال أيضًا: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا ... مقصرًا عن ملامة أو مطيلا فقال الآمدي: وهذان ابتداءان في غاية الجودة 2- التسليم على الديار: قال أبو تمام: سلم على الربع من سلمى بذي سلم ... عليه وسم من الأيام والقدم قال الآمدي: وهذا ابتداء وليس بالجيد، لأنه جاء بالتجنيس في ثلاثة ألفاظ وإنما يحسن إذا كان بلفظتين:

وقال البحتري: هذي المعاهد من سعاد فلم ... أسأل وإن وجمت ولم تتكلم قال الآمدي: وهذا ابتداء جيد. 3- البكاء على الديار: قال أبو تمام: قرى دارهم من الدموع السوافك ... وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالك قال الآمدي: وهذا ابتداء جيد. وقال البحتري: أبكاء في الدار بعد الدار ... وسلوا عن زينب بنوار قال الآمدي: وهذا من البحتري وصف في البكاء على الديار حسن. ومعان فيه مختلف عجيبة، كلها جيد نادر، وأبو تمام لزم طريقة واحدة لم يتجاوزها والبحتري في هذا الباب أشعر. وانتهى الحكم وهو أن البحتري أشعر من أبي تمام في باب افتتاح القصائد ولقد قسم الآمدي هذا الباب إلى فصول وهي: 1- الوقوف على الديار. 2- التسليم على الديار. 3 تعفية الديار. 4- إقواء الديار. 5- تعفية الرياح للديار. 6- البكاء على الديار. 7- سوائل الديار. 8 ما يخلفه الظاعنون في الديار. 9- فيما تهيجه الديار. 10- الدعاء للديار بالسقيا.

11- أوصاف الديار: وهكذا يستمر الآمدي في موازنته بين الشاعرين على هذا النحو، ولا يتزيد عقب كل بيت منهما إلا بقوله: وهذا ابتداء جيد، أو حسن أو صالح أو غاية في البراعة أو رديء وما شبه ذلك. ونسأل الناقد. هل الموازنة بين البيتين من الشعر هي كل ما فيها أن يكتب الناقد هذه الكلمة أو تلك عقب البيت: جيد أو رديء؟ ثم إن الكاتب تحت عنوان "الموازنة. وليس فيه بابًا إلا هذا فقط وازن فيه الناقد على قدر باعه بين الشاعرين في افتتاح القصائد. والباقي في سرقات أبي تمام وأغلاطه وإحالاته. ومرذول شعره، وساقط كلامه وهكذا، ولكن الدكتور خفاجي يعتذر عنه في ذلك ويقول1: لقد جاء على ذلك تكرار الآراء عند المؤلف ونقده في غضون الصفحات المتباعدة وهو ما عليه أغلب التأليف العربية، فلا داعي للوم الآمدي وحده والنسخ التي بين أيدينا من كتاب الموازنة، والتي طبعت في مصر ناقصة، فليس فيها من الموازنة بين الشاعرين إلا الموازنة في معنى واحد من معنيهما. وهو بكاء الديار وما يتبعه". وقولنا: ربما كان العذر للآمدي إذا صح القول بأن النسخة ناقصة وقد يكون في الناقص موازنة بين الشاعرين في اتجاهات أخرى الأسلوب، والابتكار والمعاني، والألفاظ والتشبيه وإصابة الأمثال وغير ذلك من احتذاء القدماء في نهج عمود الشعر، وتناول القصيدة العربية، ولذلك قال الدكتور خفاجي في كتابه أصول النقد1. "ونقد الآمدي لشعر الطائيين ليس نقدًا للروح الشعرية. بما فيها من جوانب "شتى ومن مظاهر متنوعة، وآراء ذهب إليها الشاعر، وشخصية فرضت نفسها على إنتاجه، وحياة تلون هذا الإنتاج بلونها".

قال الآمدي بعد أن أتم محاجة خصمي أبي تمام والبحتري في نحو ست وأربعين صفحة اختتمها على هواه وكما أراد، ووقف بين الشاعرين موقف القاضي العابس، والباش، وموقف المحامي للبحتري والحاجب أيضًا يقول: وأنا ابتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين لأختم بذكر محاسنهما وأذكر طرفًا من سرقات أبي تمام وإحالاته وغلطه وساقط شعره. ومساوئ البحتري في آخذه من معاني أبي تمام. إلى أن يقول: وأنا أذكر ما وقع في كتب الناس من سرقاته، "يعني أبا تمام" وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله". وهذا بعض بعضها$$ مما عدد الأمدي على أبي تمام من السرقات1: 1- قال الكميت الأكبر: ولا تكثروا فيه اللجاج فإنه ... فما السيف ما قال ابن دارة أجمعا أخذه الطائي فقال: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب وقال الآمدي في ذلك: وهو أحسن ابتداءات أبي تمام. 2- قال أبو تمام: أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح فيك كما علمت جليل فاذهب فأنت طابق عرضك ... إنه عرض عززت به وأنت ذليل أخذه من قول هشام المعروف بالحلو يهجو بشارا: بذلة والديك كسبت عزا ... وباللؤم اجترأت على الجواب

3- وقال مسلم بن الوليد: يصيب منك من الآمال طالبها ... حلمًا وعلمًا ومعروفًا وإسلاما أخذه أبو تمام فقال وبرز عليه. وإن كان بيت مسلم أجمع للمعنى: ترمي بأشباحنا إلى ملك ... تأخذ من ماله ومن أدبه 4- وقال مسلم بن الوليد يرثي: سلكت بك الحرب السبيل إلى العلا ... حتى إذا سبق الردى بك دارو نفضت بك الآمال إخلاص المنى ... واسترجعت نزاعها الأمصار أخذه أبو تمام فقال: توفيت الآمال بعد محمد ... فأصبح مشغولًا من السفر السفر 5- وقال مسلم بن الوليد وهو معنى سبق إليه: لا يستطيع يزيد من طبيعته ... عن المروءة والمعروف إحجاما أخذه الطائي "أبو تمام" المعنى فكشف وأحسن اللفظ وأجاد فقال: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... معاها لقبض لم تجبه أنامله 6- قال أبو العتاهية: كم نعمة لا يستقل بشكرها ... لله في على المكاره كامنه أخذه الطائي فقال وأحسن. لأنه جاء بالزيادة التي هي عكس الشيء الأول: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

5- وقال حسان بن ثابت الانصاري -رضي الله عنه: والمال يغشي رجالًا لا طباع لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي أخذه الطائي فقال: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي ثم يورد الآمدي فصلًا آخر يعقده لسرقات البحتري من أبي تمام يقرر في بدايته 1. "أن أقبح مساوئ الرجل أن يقصد ديوان واحد من الشعراء فيأخذ من معانيه كما فعل البحتري مع أبي تمام، ولو كان فقط عشرة أبيات فكيف والذي أخذه منه يزيد على مائة بيت؟ " وأما غير السرقات من المساوئ عند البحتري، فقد اجتهد الآمدي أن يظفر له بشيء منها مثل أبي تمام فأعيته الحيلة وعبثًا وجد. وذلك لشدة تحرز البحتري في شعره وجودة طبعه، وتهذيب ألفاظه التهم إلا أبيات لا تذكر، وهذه السرقات للبحتري من الآمدي: وبعض مما استقصاء أبو الضياء بشر بن تميم. ذلك الرجل الذي بالغ في استقصاء سرقات البحتري، حتى يتجاوز في نظر الآمدي ما ليس بمسروق فعدده وأحصاه عليه. وإليك بعض من سرقات البحتري لمعاني أبي تمام خاصة: 1- قال أبو تمام: وكيف احتمالي للسخاب صنيعه ... بأسقائها قبرا وفي جوفه البحر وقال البحتري: ملآن من كرم فليس يضره ... مر السحاب عليه وهو جهام قال أبو تمام: وإذا أرد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

وقال البحتري: ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد 2- قال أبو تمام: رأيت رجائي فيك وحدك همة ... ولكنه في سائر الناس مطمع وقال البحتري: ثني أملى فاحتازه عن معاشر ... يبيتون والآمال فيهم مطامع 3- قال أبو تمام: فكاد بأن يرى للشرق شرقًا ... وكاد بأن يرى للغرب غربًا وقال البحتري: فأكون طورًا مشرق للمشرق الأقصى ... وطورًا للمغرب 4- قال أبو تمام: وما خير برق لاح في غير وقته ... وواد نجد ملآن قبل أوانه وقال البحتري: وأعلم بأن الغيب ليس بنافع ... للناس ما لم يأت في إبانه 1

الفصل الثاني: الشاعران في ميزان النقد الأدبي

الفصل الثاني: الشاعران في ميزان النقد الأدبي: أصحاب البحتري بين الجرح والتعديل: سلفا أوردنا في هذا البحث أن الآمدي -رحمه الله- ذكر في الباب الأول من كتابه الموازنة محاجته مفتدة ومدعمة بالأدلة والبراهين، وذلك بين كل من أصحاب أبي تمام المتعصبين له، وأصحاب البحتري المفضلين إيَّاه. وللأمانة والإنصاف في ذلك الفن، يجب علينا أن نلقي نظرة على عدالة الشهود. ومدى صحة شهادتهم. وتحري الصدق والإنصاف لديهم، وخاصة الذين ذكرت أسماؤهم من أصحاب البحتري، وربما لم يورد لنا الآمدي غير هؤلاء الأربعة وهم: 1- دعبل الخزاعي. 2- ابن الأعرابي. 3 أبو على السجستاني. 4- المبرد. وذلك لنطمئن إلى حكم محكمة الآمدي. وإن حكم الناقد: إنما ينزع عن ضمير منصف ثم إنه رائد في هذا المجال وهو مجال النقد الأدبي، والرائد لا يكذب أهله "أي تلامذته" وهذا ابن قتيبة أستاذ النقد "من الأوائل" يقول: "ولم أنظر إلى المتقدم منهم -شعراء الصف الأول- بعين الجلالة لتقدمه ولا إلى المتأخر منهم "المولدون والمحدثون" بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على طريقين، وأعطيت كلًّا حقَّه، ووفرت عليه حقَّه، ومع هذا يقول فيه أستاذ النقد الأول. أبو عمرو بن العلاء: "لو أدرك الأخطل يومًا واحدًا في الجاهلية ما قدمت أحدًا عليه". وربَّ قائل يقول: إن قوله ابن العلاء لهي دليل على التعصب بين النقاد، وليس دليل إنصاف، لأن القائل معلوم تعصبه على الشعراء المحدثين والمولدين وهو رأي مدرسة المحافظين في النقد العربي القديم. والجواب لقد كان الرجل أولا: شديد التعصب على المحدثين لخروجهم على عمود الشعر. وتلك هي علة التعصب عنده، وثانيًا: فقد اتفقنا نحن وإياك على وصف القدامى والمحدثين كما نعتهم ابن رشيق.

الأديب الناقد بقوله: "أنما مثل القدامى والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه، ثم أتى الآخر بنقشه وزينته. فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن. والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن". ولنتفق الآن على أن الناقد الأدبي كقاضي المحكمة المنصف العادل. فإذا ما أشتم من أحدهما ريح التعصب وقع الحكم باطلًا، وبات مطعونًا في سلامته وصلاحيته. ولنعد إلى أصحاب البحتري أو هؤلاء الشهود. الذي قبل الآمدي الناقد شهادتهم من أحد الخصمين: 1- دعبل بن علي الخزاعي: كان يقول في أبي تمام1: "أن ثلث شعره محال. وثلثه مسروق. وثلثه صالح" وكان يقول فيه أيضًا: "ما جعله الله من الشعراء. بل شعره كالخطب والكلام المنثور وهو أشبه منه بالشعر" ولم يدخله في كتاب المؤلف في الشعر وقال: أهذا شاهد أم خصم. يقول الدكور خفاجي: "ولعمري لقد كان دعبل يضع من شأن أبي تمام". ثم يدلل على صحة ذلك ويقول أيضًا تحت باب التنديد على الآمدي الناقد. وتعديد هفواته "يقبل الآمدي ما وضعه دعبل على أبي تمام مع معرفته بحقيقة موقفه منه، ومع ظهور تحامله عليه" ويدلّل أيضًا على صحة ذلك في كتابه "أصول النقد ص 188، 189". والآمدي نفسه يقول في دعبل هذا: "قال صاحب أبي تمام: "فقد بطل احتجاجكم بالعلماء، لأن دعبلا كان يشنا أبا تمام ويحسده وذلك مشهور معلوم منه، فلا يقبل قول شاعر في شاعر". ونسأل الآمدي: "بعد هذا تضع شهادة دعبل؟ وهو رجل حاسد لأبي تمام متحامل عليه بشهادتك أنت؟ وإذا لم تحكم بشهادته فلم أوردتها؟ وما الفائدة منها؟ 2- ابن الأعرابي: وفي هذا الرجل سوف نفسح المجال للآمدي نفسه ليحدثنا عنه -الآمدي قاضي الموازنة- والحكم في حلبة السباق بين الشاعرين يقول الآمدي1: في صاحب البحتري، وشاهد الوقائع:

"وكان شديد التعصب على أبي تمام، لغرابة مذهبه، ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لا يفهمه ولا يعلمه، فكان إذا سأل عن شيء منها يأنف أن يقول: لا أدري، فيعدل إلى الطعن عليه. والدليل على ذلك "والكلام للآمدي" أنه أنشد يومًا أبياتًا من شعره. وهو لا يعلم قائلها. فاستحسنها وأمر بكتابتها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرقوه: والأبيات من أرجوزته التي أولها: فظن أني جاهل من جهله عجبا للآمدي. وابن الأعرابي معًا، وهل الإنصاف في النقد أن يكون الناقد متحاملًا؟ يحكم على الشاعر لا على النص الأدبي، وبلا دليل ومقدما نؤمن الحكم ونوثقه، أن الذاتية في الناقد أضرّ على الشعر والنقد من الشاعر والناقد، لأنها طريق للهدم والتدمير والأنانية والعجز والشأن في منهج النقد الموضوعي، أن يكون منهجيًّا قاليًا على الذوق الأدبي الأصيل. وهل يثق الآمدي في رجل وصفه هو بشدَّة التعصب على الشاعر ومن رجل اتَّسم بعدم الفهم وعدم الدراية والتحامل على الشاعر ومن رجل يستكبر ويأنف أن يقول قوله الصدق والحق إذا عجز: وهي لا أدري، ومن رجل يعدل الحق إلى الطعن سترًا لقصوره؟ ومن رجل يغمط الحق، ويشوه العدل، وبعد استحسانه وتحيزه يعلن النكرات وينكث على الجحود، ويمزق الأبيات المختارة، لا لشيء إلا لأنها تنسب إلى أبي تمام؟ ولنسأل الآمدي: لم وضعت هذا الرجل في زمرة البحتري؟ واستشهدت بقوله ورويت خصومته لأبي تمام؟ وما الفائدة من حشو الكتاب بمثل هذا إن لم يستمع إليه الآمدي؟ 3- أبو على محمد بن العلاء السجستاني: وكان السجستاني هذا صديقًا للبحتري. باعتراف الآمدي نفسه وأسمعه يقول 1: "والذي نرويه عن أبي علي محمد بن العلاء السجستاني، وكان صديق البحتري" وأستمع إلى ما يرويه الآمدي عن هذا الصديق:

"قال أبو علي محمد بن العلاء كان البحتري إذا شرب وأنس أنشد شعره وقال: ألا تعجبون وكان مع هذا أحسن الناس أدَّب نفسه، لا يذكره شاعر محسن أو غير محسن إلا قرظه ومدحه. وذكر أحسن ما فيه، قال أبو على: ولم لا يفعل ذلك وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم". الصداقة التي توجب أحيانًا على الإنسان أن يجامل صديقه وينافح عنه بمثل هذا أو أكثر تعد هدمًا له لا بناء. وقضاء عليه لا أحياء له. وإجحافًا بالنقد لا إنصافًا له؛ لأن التماس الحق والصواب والإنصاف. لا يعترف بالتحيز، ولا المحاباة، ولا المجاملة، ولا الصداقة، ولا غير ذلك مما يشبهه. ولا أدري لم جعل الآمدي أصحاب البحتري وشهود قضيته من أخلص أصدقاء الشاعر مثل السجستاني هذا. وأشدهم بغضًا وحسدًا لأبي تمام مثل الخزاعي وابن الأعرابي، وأظن أن ثقة الآمدي في أصحاب الشاعر البحتري هي التي جرحت نقده عند الخارجين على الآمدي، حتى رموه بالتحامل على أبي تمام والتعصب للبحتري. على أن رواية السجستاني ذلك الصديق فيها خمس كلمات -على قصرها- ولا أدري أكانت مدحًا في الرجل أو قدحًا، وإليك الكلمات: 1- كان البحتري "إذا شرب" بمعنى تعاطي الخمر، وتماجن. وعليه فهي حطة في عقيدة الرجل. وكان البحتري أبو نواس عصره. 2- أنشد شعره وقال: "ألا تعجبون" وتلك مذمة أخرى في طوية الرجل ومنقصة في طبعه، ودليل مؤكد عما قيل عن حياته وطبعه ولنستمع إليه1: "وكان من أوسخ خلق الله ثوبًا وآلة. وأبغضهم إنشادًا" وأكثرهم افتخارًا بشعره، حتى ليروي عنه أنه كان إذا أنشد شعرًا قال لمستمعيه: لم لا تقولون أحسنت. هذا والله ما لا يقدر أحد أن يقول مثله". وفي يقيني: إنه ليس هناك أسمح ولا أشد وقاحة من شاعر يمدح نفسه ويزكيها. بل ويطلب من مستمعيه. في الحاج وعتاب أن يطروه ويجاروا هواه، ويقولون له: أحسنت.

3- "لا يذكر شاعر محسن أو غير محسن" ولم هذا الاستدراك؟ وماذا يجدي تقريظ ومدح غير المحسن من الشعراء؟ 4- ألا قرظه ومدحه وذكر أحسن ما فيه" ولم أفعل التفضيل هذا ليذكرني أفعل التفضيل هذا بشهادة أخرى وضعها السجستاني في صديقه البحتري رواية على لسان الآمدي. "قال الآمدي: سمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضًا يقول1: كان البحتري عند نفسه أشعر من أبي تمام: وسائر الشعراء المحدثين: حيث قيد شهادته بذلك القيد الذي أكل ألفاظ الشهادة كلها فلم يبق على حرف واحد، وكان لها كالأرضة عند نفسه ويخيّل أن أفعل التفضيل في الشهادة الأولى وهذا القيد في الشهادة الثانية إن هما إلا مذمة في الرجل، ومنهما يشتم رائحة التنقيص والسخرية. 5- وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر وذهب بخيرهم" وعلى الرغم من هذا العدد الجرار أسقطهم البحتري. وفوق هذا ذهب بخيرهم. والذي نعرفه عن البحتري أنه ولد عام مائتان وست من الهجرة. وتُوفي عام مائتان وأربع وثمانون ومدة حياته ثمان وسبعون سنة، وهذا العمر لا يتسع لخمسين شاعرًا على مثاله يسقطهم البحتري ويذهب بخيرهم. ولقد اعترف البحتري نفسه بتلمذته على أستاذه أبي تمام واغتراله من فيضه ونهله من نبعه؟ وقيل للبحتري يومًا2: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام؟ فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخير إلا به ولوجدت أن الأمر كما قالوا: ولكني والله تابع له أخذ منه لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي انخفض عند سمائه". لقد كانت منزلة أبي تمام عند الخلفاء والأمراء والشعراء والنقاد لا تقل عن منزلة البحتري ولا أدلّ على ذلك من أن النقاد تحاملوا على أبي تمام، وتعصبوا للبحتري وفي التحامل دلالة على شأوه وعلوّ منزلته، وفي التعصب للبحتري حماية له من خصمه وأستاذه.

4- أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: كان هذا الإمام يفضل البحتري ويستجيد شعره، ويكثر أنشاده ولا يمليه لأن البحتري كان باقيًا في زمانه "وكان يقول1. "ما رأيت أشعر من هذا الرجل يعني البحتري - لولا أنه ينشدني لملأت كتبي من أمالي شعره". وهذه شهادة كان الواجب قبولها خاصة وأنها من رجل عالم. وإمام فاضل لم يشهر عنه البغض لأبي تمام مثل ابن الأعرابي والخزاعي، ولم يعرف عنه أنه كان خليلًا للبحتري مثل السجستاني. لولا أن البحتري وهو المشهود في حقه طعن المبرد هذا وهو الشاهد طعنة نجلاء، أطاحت بشهادته من بين أيدينا، فلم يبق للبحتري شيئًا. إذ وصفه بأنه لا يعرف الشعر ولا ذوق له فيه: وليس بناقد ولا مميز للألفاظ، وإليك وصف البحتري للمبرد دون أن نحذف منه حرفًا. "في رواية الإمام عبد القاهر الجرجاني "471 هـ" عن بعضهم أنه قال2. وأني البحتري ومعي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنقري قال: وإلى أين تمضي به؟ قلت: إلى أبي العباس المبرد أقرؤه عليه قال: قد رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدًا للشعر ولا مميزًا للألفاظ ورايته يستجيد شيئًا وينشده وما هو بأفضل شاعر. فقلت له: أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى. ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه فما كان ينشد؟ قال: قول الحارث بن وعلة: قومي هم قتلوا -أميم أخي- ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون مجللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي فقال: أين الشعر الذي فيه عروق الذهب؟ فقلت مثل ماذا؟ فقال: مثل أبي ذؤاب.

إن يفتنوك فقد ثلث عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأشدهم كلبًا على أعدائهم ... وأعزهم فقدًا على الأصحاب ونقول: إن أبا العباس محمد بن المبرد هو من علماء النحو. انتهت إليه رياسة النحاة في الكوفة في القرن الثالث الهجري صحيح أنه لم يكن له باع طويل في فن النقد، ولا يسعنا إلا أن نقبل شهادة البحتري فيه؟.

تحامل الآمدي: من خلال سطور الموازنة للآمدي دائمًا تجد وأنت تقرأ طريقة العنف الشديد على الشاعر أبي تمام والعطف على الشاعر البحتري. وهذه الطريقة تكشف عن تحامل الآمدي على أبي تمام وتعصبه الشديد عليه مما جعل الرجل يتلعثم في قولهنّ ويتناقض في موازنته. ولسنا نذهب إلى هذا المذهب وحدنا ولكن هناك من يؤيدني في قضية ظهور التحامل عند الآمدي ومن ذلك: 8- ما كتبه الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد المحقق لأصول الموازنة والمعلق عليها حيث يقول1: واذكر ما تجمع لدي من الملاحظات عليه "كتاب الموازنة للآمدي بعد أن صحبته عمرا ليس بالقصير" وأحدثك. على الأخص - عن تحامله "أي الآمدي" على أبي تمام، وإغضائه البالغ عن البحتري". 2- وأيضا ما كتبه الناقد الدكتور خفاجي حيث يقول: "تحامل الآمدي في كتابه على أبي "تمام" وذلك ظاهر كما أسلفنا من روح الموازنة واتجاهها". 3- وثالثة ما كتبه المؤرخ للأديب ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباب حيث يدلي برأيه في كتابه الموازنة للآمدي فيقول 2: وكتاب الموازنة للآمدي بين الطائيين في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إليه الميل، مع البحتري فيما أورده ... ثم يقول الحموي عن الآمدي: إنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري. ولنأخذ بعضًا من الأمثلة التي تدل على اضطراب الرجل في قوله، ذلك لأنه نصب نفسه مدافعًا منافحًا عن البحتري، وواضعًا من أبي تمام، فتجده يقول على لسان أصحاب البحتري1: 1- أما الصحبة فيما صحبه ولا تلمذ له. ولا روى ذلك أحد عنه ولانقله. ولا أرى قط أنه محتاج إليه". في هذا نفي قاطع لصحبه البحتري لأبي تمام والتلمذة عليه. لأن البحتري ليس محتاجًا لمثل هذا، ثم إنك تجد الآمدي يقول على الفور ثانية وبدون انقطاع.

"ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعها وتعارفهما عند أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وقد دخل إليه البحتري بقصيدته التي أولها: أأقاق صب من هوى فافيقا وأبو تمام حاضر: فما معنى هذا التناقض؟ أيمكن أن يطمئن القارئ إلى خبر اجتماعهما وتعارفهما بهذا الدليل الموجود عند أبي سعيد اللغوي، الذي وصفه الأمدي بأنه خبر مستفيض؟ أم أن القارئ يجعل هذا دبر أذنه ويسير مع هوى الآمدي في أن البحتري لم يصحب أبا تمام ولم يتتلمذ له لأنه ليس محتاجًا له. ولنضرب مثلًا آخر: "عندما أنشد ابن الأعرابي ذات يوم أبياتًا فاستحسنها واختارها وأمر بكتابتها وهو لا يعلم قائلها فلما علم بعد أن استجادها أن هذه الأبيات لأبي تمام أخذه التحامل والتعصب وقال على الفور: خرقوها وهذا ليس بعدل بداهة، لكن الآمدي سامحه الله يعتقد عن ابن الأعرابي، ويجد له مندوحة في تصرفه هذا فيقول: "ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم". لأن الذي يورده ابن الأعرابي وهو محتذ على غير مثال أحلى في النفوس وأشهى إلى الأسماع وأحق بالزيادة والاستجابة مما يورده المحتذي على الأمثلة، وعذر ابن الأعرابي في هذا إذا صح أنه قد سبق الأصمعي: وذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي: هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروي الصدى ويشفي العليل إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير مما تحب القليل فقال: لمن تنشدني؟ قال لبعض الأعراب. فقال الأصمعي: هذا والله هو الديباج الخسرواني.

قال: أنهما لليلتهما؟ فقال: لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بيّن عليهما ويكون الآمدي وابن الأعرابي في أبي تمام أقرب عذرًا من الأصمعي في إسحاق. فانظر بالله هل تجد عذرا أو هي ولا أقبح من هذا؟ وماذا رأى الآمدي فيما لو كانت قصة ابن الأعرابي مع البحتري، أكان يعتذر عن الناقد المتعصب المبين في تحامله كهذا الاعتذار؟ . ويقول عنه ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم؟ وثالثة: يقول الآمدي 1: وبعد فيبتغي أن تتأملوا محاسن البحتري ومختار شعره، والبارع من معانيه والفاخر من كلامه، فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا مما أخذه أبو تمام"، ولا أدري أن ناقدًا مثل الآمدي يحمله التعصب فيتخبط في قوله مثل هذا التخبط ولنسأله. ما معنى كلمة "ما"؟ أليس سياق النقي معه كان عليه أن يقول: فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفًا واحدًا أخذه من أبي تمام "ولكنه وضع "من" للتبعيض وما الموصولة "مما". من بعض الذي أخذه من أبي تمام. وإذا كان كذلك فما معنى كلمتي ومعناهما: "حرفًا واحدًا"؟ التي قبلها؟

الإنصاف في نقد الآمدي: لو كان أبو تمام حيًّا حينما تناوله الآمدي في كتابه لاستغاث من تعصبه عليه وتحامله وتمثل بقول الشاعر: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذو الرأي والجدل والبحتري إن هو إلا تلميذ لأبي تمام أخذ منه. ونأهل من فيضه ومقتفى لأثره. وإذا سألتم البحتري نفسه يقول1: "كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه. واتَّكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة: تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظَّها من الراحة، وقسطها من النوم. فإذا أردت التشبيب فأجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رقيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة وقلق الاشتياق ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أباد، فأشهر مناقبه. وأظهر مناسبه وابن معالمه. وشرف مقامه، ونضد المعاني، وأحذف المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. ولهذا عارضك التضجر فأرح نفسك، ولا تتعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، وأجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال: أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده: وما تركوه فاجتنبه. ترشد إن شاء الله". ولقد وصف الآمدي شعر أبي تمام فقال فيه1:

ولأن أبا تمام شديد التكلف. صاحب صنعة. ومستكره الألفاظ والمعاني. وشعره لا يشبه أشعار الأوائل. ولاعلى طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة. بينما نجد الحسن بن وهب يصف شعر أبي تمام هو الآخر من رسالة كتبها إليه فيقول2: "أنت -حفظ الله - تحتذى من البيان في النظام مثل ما يقصد بحر في الدرر من الأفهام، والفضل لك -أعزك الله- إذ كنت تأتي به في غاية الاقتدار. لىغاية الاقتصار. في منظوم الاشعار. فتحلّ معقده وتربط متشرده. وتنظم أشطاره. وتجلو أنواءه. وتفصله في حدوده وتخرجه من قيوده ثم لا تأتِ به. مهما اقتبسه مشتركًا فيلبس ولا متعقدًا فيطول. ولا متكلفًا فيحول فهو كالمعجزة تضرب فيها الأمثال، ويشرح فيها المقال". فأيها الصادق في قوله: المتحرى لحقيقة الشاعر؟ وفي وصفه؟ ليردّ عظم أبي تمام حكم الأمدي. ويدلي بهذه البراهين على براعته. في الشاعرية وأنه أستاذ البحتري ومن فضله عرف الأخير. فيحدثنا جحظة فيقول2: "تحادثنا يومًا في أبي تمام الطائي والبحتري أيهما أشعر؟ قال بعض من حضر مجلسنا. هل يحسن الطائي أن يقول قول البحتري: تسرع حتى قال من شهد الوغي ... لقاء عدو أم لقاء حبيب فقلت من الطائي سرقه حيث يقول: حن إلى الموت حتى قال جاهله ... بأنه حق مشتاقًا إلى وطن وهذا امتحان لسرعة بديهية أبي تمام. وحضور خاطره في الشعر، وأنه القارض لذلك الفن على الطبع والسليقة، دون قصور منه أو توقف وتجبل وعي. فنجده في نصاعة البيان وسرعة البديهية. وذلك الإلهام المصيب. وعلو الكعب في قرض الشعر فوق الذي كنا نأمل. وذلك عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم مدحته التي مطلعها.

ما في وقوفك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأربع الأدراسي وانتهى إلى قوله: أقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياسي قال له الفيلسوف "أبو يوسف الكندي" وكان حاضرًا: الأمير فوق من وصفت فأطرق أبو تمام قليلًا ثم رفع رأسه وقال: لا تشكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في الندى والباس والله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلًا من المشكاة والنبراس

الهوامش

الهوامش: حرف 15 1 أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 128. 2 انظر كتاب الوساطة بين المعنى وخصومه. 3 الموازنة ص 33، 34. 4 الموازنة ص 204. 1 وصية أبي تمام للبحتري. 2 المرزوقي في شرح ديوان الحماسة. 3 يحيى بن حمزة العلوي ص 241 1 العمدة جـ 1 ص 159 - ابن رشيق. 2 البيان والتبيان للجاحظ جـ 1 ص 221. 1 ابن قتبية الشعر والشعراء ص 2. 2 البيان والتبيان للجاحظ جـ 1 ص 221. 2 طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي. 1 الشعراء والشعراء: لابن قتبية جـ 1 ص 75. 1 نقد الشعراء: القدامة بن جعـ ر ص 130. 1 الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 57، 68 الطبعة الثانية بمطبعة صبيح. 2 عيار الشعر لابن طباطبا 5، 8، 31، 41. 1 شرح ديوان الحماس للمرزوقي ص 8، 9، 11. 1 أسس النقد الأدبي عند العرب للدكتور أحمد بدوي ص 534 وما بعدها. 1 العقد الفريد لابن عبد ربه جـ3 ص 311. 2 يتيمة الدهر جـ 1 ص 21. 1 العقد الفريد جـ ص 173: ابن عبد ربه. 1 الموازنة للآمدي ص 391 وما بع دها. 1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 86، وما بعدها. 1 إعجاز القرآن: الباقلاني. 2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 92. 1 الشعر والشعراء: لابن قتيبة جـ 1 ص 59 وما بعدها. 1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 84 وما بعدها. 1 المرجع السابق د سه ص 84. 1 الموازنة من ص 47 - 88. 1 الموازنة ص 277 وما بعدها. 1 الموازنة ص 291 - 300.

الهوامش حرف 15 1 معجم الأدباء ياقوت الحموي. ص 75. 2 183 الموازنة: الأمدي: تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - الطبعة الأولى 1363 هـ - 1944 م. 2 البيان والتبيين ص 176. 1 نقد الشعر: قداحة بن جعفر. 1 87 جـ معجم الأدباء. 2 تاريخ النقد الأدبي لطه إبراهيم. 1 25 الموازنة: الآمدي. 2 282 المثل الشاعر: ابن الأثير. 1 الموازنة ص 176: الآمدي. 2 الموازنة ص 2: الآمدي. 1 الموازنة ص 21: الآمدي. 1 الموازنة ص 3. الآمدي. 1 الموازنة ص 176 - 180. 1 الموازنة ص 3: الآمدي. 1 الموازنة للآمدي من ص 1 - ص 455 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. الطبعة الأولى 1363 هـ - 144 م. 1 اتجاهات النقد الأدبي. د. محمد السعدي فرهود ص 161 وما بعدها. 1 الموازنة: الآمدي ص 281. 1 الموازنة: المقدمة. 2 طبع ونشر دار الحارثي بالطائف: السعودية. 1 فصول في الأدب والنقد للدكتور خفاجي ص 81 وما بعدها. 1 الأدب المقارن للدكتور خفاجي ص 101. 1 الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 74، 75. 1 الأدب العرية في العصر العباسي الأول للدكتور خفاجي ص 174، 175. 1 اتجاهات النقد الأدبي للدكتور فرهود ص 256 وما بعدها. 2 ديوان المتنبي ص 183. 1 المرزدقي: شرح ديوان الحماسة ص 1. 2 أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 49. 3 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 2 ص 202. 1 ابن سنان الخفاجي: سر الفصاحة ص 73.

الهوامش حرف 15 1 أصول النقد: للدكتور خفاجي ص 188. 1 أصول النقد: ص 188. 1 الموازنة ص 396 وما بعدها. 1 أصول النقد للدكتور خفاجي ص 172. 1 أصول النقد ص 180. 1 الموازنة ص 12، 17. 1 الموازنة ص 9. 1 الموازنة ص 6 مقدمة. 1 الموازنة ص 9. 2 الموازنة ص 17. 1 الموازنة ص 16. 2 دلائل الإعجاز ص 195 الطبعة الرابعة دار المنار سنة 1367 هـ. 1 مقدمة الموازنة ص 3. 2 أصول النقد د. خفاجي ص 185، 189. 1 الموازنة ص 524. 1 العمدة لابن رشيق جـ 2 ص 114. 1 الموازنة ص 4. 2 زهرة الآداب جـ 3 ص 263. 3 الأمالي لأبي علي القالي جـ 3 ص 93. 1 أنظر أخبار أبو تمام ص 246. 1 الموازنة ص 11. 1 أخبار أبي تمام للصولي ص 231. 2 طبقات الأدباء لابن الأنباري ص 213. 1 إعجاز القرآن ص 53. 1 الموازنة ص 6.

القسم الثاني: قضايا المعنى واللفظ والأسلوب والنظم والصورة والموسيقى: الفصل الأول: القضايا النقدية في صحيفة بشر بن المعتمد صحيفة بشر بن المعتمر وأثرها في النقد الأدبي: بشر بن المعتمر: هو أبو سهل بشر بن المعتمر المتوفى عام 210 هـ، من طبقة الكتاب والنقاد والمتكلمين، عاش في القرن الثاني الهجري، وعاصر الشاعر أبا تمام "172 - 231 هـ] وكذلك الأديب الناقد ابن سلام الجمحي [م 231 هـ] . ولد أبو سهل في الكوفة، ثم تحول عنها إلى البصرة، واستقر في بغداد، وطار ذكره فيها، وتوثقت صلته بالرشيد وبالفضل بن يحيى البرمكي، ويعدّ بشر شيخ فرقة البشرية التي سميت باسمه، تسمو بالعقل، وتعتدّ بمقاييسه في جوانب الفكر والكلام، ومن شعره الذي يذم فيه التقليد:1

_ 1 الحيوان: الجاحظ: تحقيق عبد السلام هارون 6، 286.

قد غمر التقليد أحلامهم ... فناصبوا القياس ذا السبر ويذم إباضية الخوارج ورافضة الشيعة، الذين يعتقدون أن كتابهم "الجفر" جمع العلوم كلها إلى يوم القيامة: فيقول: لست إباضيًّا غبيًّا ولا ... كرافضي غره الجفر كما يغر الآل في سبب ... سفرًا فأودى عنده السَّفر لسنا الحشو الجفاة الأولى ... عابوا الذي عابوا ولم يدروا لا تنجح الحكمة فيهم كما ... يبنو عن الجرولة القطر ولئك الداء العضال الذي ... أأعيا لديه الصاب والمقر1

_ 1 الآل: السراب السبب الصحراء. السفر: المسافرون. الجرولة: الصخرة الملاء. الصاب والمقر: نباتان حاران.

ومن شعره هذا وغيره يظهر لنا أنه شاعر، لكنه في شعره تعليمي، ومن ذلك قصيدته التي يعتز فيها بالعقل، ويشيد بمنزلته السامية في الإنسان يقول: لله درُّ العقل من رائد ... وصاحب في العسر واليسر وحالكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر وإن شيئًا بعض أفعاله ... أن يفصل الخير من الشر لذو قوى قد خصه ربه ... بخالص التقديس والطهر وله قصائد كثيرة تصوّر الطبيعة والحياة، يستدل من خلالهما بعقله على قدرة الخالق المبدع لها سبحانه وتعالى2:

_ 1 الحيوان: 292. 6. 2 الحيوان: 229. 4، 62. 6، 284، 299 وغيرها.

وهو بهذا الاتجاه العقلي كان يتصدَّى لأهل الملل والنحل، ويحاورهم بالعقل والبرهان، ليردّ الحجة بالدليل العقلي القاطع1. ذكر المرتضى أن له أرجوزة تحمل مذهبه العقلي بلغت أربعين ألف بيت2، والجاحظ يفضل بشرًا في الشعر التعليمي على إبان بن عبد الحميد، فهو أقوى منه، وخاصة في نظم المخمس والمزدوج3. ومنها أرجوزته في تفضيل علي بن أبي طالب على الخوارج يقول فيها: ما كان في أسلافهم أبو الحسن ... ولا ابن عباس ولا أهل السنن غير مصابيح الدجى مناجب ... أولئك الأعلام لا الأعارب كمثل حرقوص ومَنْ حرقوص؟ ... فقعة قاع حولها قصيص

_ 1 رأي د. شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي 3, 427. 2 آمال المرتضى: 186.1. 3 الحيوان: 239.4.

ليس من الحنظل يشتار العسل ... ولا من البحور يصطاد الورل1 وذكر له الجاحظ قصيدتين طويلتين في موطن آخر بقوله: أول ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشعر بشر بن المعتمر، فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيها كثيرًا من هذه الغرائب والفرائد. ونبَّه بهذا على وجوه كثيرة من الحكمة العجيبة والموعظة البليغة.... وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف على بيوت هذين الشعرين وقع ذكرهما مصنفًا، فيصير حينئذٍ آنق في الأسماع، وأشدّ في الحفظ2. ويذكر فيها طبائع الإنسان وما تأصَّل فيه من الطمع، وكذلك طبائع الحيوان والطير، وما فيهما من غرائب، وعدَّه العلماء والنقاد قديمًا وحديثًا من أشهر بلغاء ونقاد القرن الثاني الهجري، إذ تركت صحيفته المشهورة أثرًا واضحًا وكبيرًا في

_ 1 حرقوص من زعماء الخوارج. القصيص. شجر ينبت فيه الفقع تدوسه الإبل الورل: دابة كالضب. 2 الحيوان: 284.6 وما بعدها.

علماء البلاغة والنقد، ومن ذلك ما ذكره الجاحظ من إشادة إبراهيم السكوني، "مر بشر بإبراهيم بنجيلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو ليكون رجلًا من النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا، واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه ... ثم قال بشر: فلما قرأت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان"1. ثم بعد الجاحظ بشرًا من الطبقة المتميزة عنده، ذات النبع الثرار الصافي، وهي طبقة الكتاب في القرن الثاني الهجري، ومنها أيضًا عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع وسهل بن هارون، والحسن بن سهل، والفضل بن سهل، وابن الزيات وغيرهم، قال الجاحظ: "أما أنا فلم أَرَ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا، ولا ساقطًا سوقيًّا"2.

_ البيان والتبيين "الجاحظ: 134.1 تحقيق عبد السلام هارون. 2 المرجع السابق: 135. 1.

منزلة الصحيفة من الفنون الأدبية: الأدب شعر ونثر، ويتنوع النثر الأدبي إلى فنون من أهمها الخطبة والرسالة والقصة والأقصوصة، والمسرحية النثرية وفن السيرة والمقالة بأقسامها المختلفة، وهي المقالة الأدبية، والمقالة النقدية، والمقالة الفلسفية، والمقالة التاريخية، والمقالة العلمية، والمقالة الاجتماعية، والمقالة السياسية ولكل من هذه الأقسام والفنون بناؤه وتركيبه، وخصائصه الفنية وأغراضه، وطريقته في المعالجة والكتابة1. وتعدُّ هذه الصحيفة لبشر بن المعتمر مقالًا أدبيًّا في النقد والبلاغة، إذا أردنا أن نقيسها بمقياس النقد الحديث، لتطابق الخصائص الفنية فيها، على ما اصطلح عليه النقد الحديث، من خصائص المقالة في هذا الجانب المتعدد، فيشمل المقال في الأدب والنقد والبلاغة، وبذلك تكون صحيفة بشر مقالة أدبية نقدية، جمعت بين خصائصهما

_ 1 انظر: دراسات في الأدب العربي الحديث ومذاهبه د/ خفاجي، فن المقالة د/ محمد يوسف نجم - أدب المقالة الصحفية في مصر د / عبد اللطيف حمزة - فنون الأدب ترجمة د/ زكي نجيب محمود

معًا، أي بين خصائص المقال الأدبي وبين خصائص المقال في النقد. فالمقال الأدبي في النقد لا يحتاج كثيرًا إلى الخيال، لتحلق صورة في كل عبارة فصاحب الصحيفة هنا يحدّد معالم الأسلوب الجيد، وخصائص الأدب الرفيع، ويضع المنهج في الصياغة الجيدة، ويحدّد الأصول والقواعد في التراكيب، ويشخّص معالم البلاغة في باب "مقتضى الحال"، وما يتناسب من مقال مع كل مقام، ومثل هذه الموضوعات لا تحتاج كثيرًا إلى الخيال بصوره المختلفة من التشبيهات والاستعارات والكنايات، ومع استغنائه عن الخيال غالبًا، فقد كانت الصحيفة تتفجر قوة، وتنساب جمالًا، وذلك في التعبير عن هذه الحقائق في أسلوب قوي، وتركيب محكم، ونظم بديع، لا قلق فيه ولا اضطراب، فصارت قطعة أدبية رائعة، تشدّ انتباه السامع، وتأخذ بعقله وقلبه. وليس من الضروري أن يعتمد التصوير الأدبي في كل الحالات على وسائل البيان السابقة، فقد تخلو الصورة عن الألوان البيانية، وتعتمد على دعائم أخرى، تقوم عليها

الصورة، مثل انتقاء الألفاظ، وسلكها في نظم دقيق، يتوخى فيه الأديب معاني النحو، من تقديم وتأخير، وتنكير وتعريف، وغير ذلك مما ورد في علم المعاني وموافقة الصورة لمقتضى الحال، وهذه الدعائم هي التي اعتمد عليها بشر في التصوير الأدبي لهذا المقال النقدي البلاغي. ومع ذلك لم يخل كلام بشر من ألوان الخيال البياني: مثل: خذ من نفسك ساعة نشاطك - واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول - فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد - والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك -ويشين ألفاظك- والمعنى ليس يشرف وكذلك ليس يتصنع - أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة - التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء.... وغيرها من الصورة البيانية التقليدية في الأسلوب الذي اشتمل على المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والتجريد. وإن كنت أرى أن هذه الصور البيانية صور لم يقصد بها الكاتب التصوير الخيالي كعادة الشعراء والأدباء، وإنما كان يقصد الحقيقة، والكشف عنها بأسلوب دقيق يشدُّ انتباه النفس، ويثير كوامن الشعور، ليكون من باب الإيقاظ.

والاندماج مع القارئ، ومن ناحية أخرى أن هذه الصور من لوازم التعبير، بحيث لا يستطيع بشر أن يتخلى عنها، فقد جاءت مساقة مع الفكرة، ومتجاوبة مع التعبير، وضرورية في تصوير الحقيقة، فهي لا بديل لها في إقامة هذا البناء الفني في منهج المقال النقدي والبلاغي، ولهذا المنهج الفني عرض بشر الحقائق عرضًا دقيقًا يقوم على تنظيم الفكرة، وتوزيعها توزيعًا منسقًا مثل قوله: وكن في ثلاث منازل.... ثم يقول: فالمنزلة الأولى.... فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك. فإذا انتهى من المنزلة الثانية قال: فإن تمنع عليك بعد ذلك فالمنزلة الثالثة إلى غير ذلك. ولكي يقع القارئ يدعم رأيه بالدليل، فرأى أن للمتلكملين ألفاظًا واصطلاحات لا بد من رعايتها في الكلام فقال: "إذا كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن...." وغير ذلك كثير في صحيفته. هذه المقومات في صحيفة بشر يجعلها متميزة في اتجاهها الفني، وذلك بالخصائص والسمات التي اصطلح عليها النقد الحديث للمقال الأدبي في النقد والبلاغة، وقد

اتضحت خصائصه وهي: بناؤه على فكرة واضحة، وترابط بين أجزائها، والتدليل عليها، والإقناع بأدلة من ذات الأسلوب مرة، وعقلية ثانية، وتمثيلية تطبيقية ثالثة، وكذلك البناء التركيبي في الصحيفة يعتمد على اختيار اللفظ، الذي يفصح عن معناه بدقة، حتى في الألفاظ البيانية السابقة، التي انسابت مع التعبير، ثم انتقاء الأساليب التي تعبر عن الحقيقة بوضوح سافر، وجلاء كاشف، وكذلك لم تسيطر العاطفة على بشر، ولم تظهر مشاعره فيها، لأن العاطفة والمشاعر الذاتية تطغى على الحقيقة، وتستهلك منهج الإقناع العقلي والواقعي في مجالي علمي النقد والبلاغة، ولذلك ظهرت الصورة البيانية فاترة من الشعور، وخلوا من العاطفة الجياشة، التي تلبد سماء الحقيقة بالغيوم، فيذهب العقل فيها كل مذهب، لكن بشرًا يقصد من وراء الصحيفة مذهبًا واحدًا فقط لا كل مذهب. ومع هذه القيم الفنية للصحيفة، فهو مقال أدبي أيضًا في النقد والبلاغة لأنه خلا من المنهج الفني للمقال العلمي، الذي يقوم على الإحصائيات والأرقام وسوق الفروض والمقدمات صريحة لاستنتاج البرهان، وغيرها مما تجردت عنه الصحيفة، وبذلك دخلت في باب المقال الأدبي، الذي يتضمن النقد والبلاغة.

وإذا تأملنا موضوع الصحيفة وانسجام الأفكار والمعاني فيها، وجدنا أن الفكرة في موضوعها تشدُّ الفكرة، والمعنى يتفجر من المعنى، وجميع الأفكار والمعاني تسير في اتساق وانسجام، وتتقدم في تآلف ومؤاخاة، متآزرة في الكشف عن موضوع الصحيفة، وهو بلاغة الأدب وروعته، ولذلك تحدَّث بشر عن الصدق العاطفي ثم عن المشاعر الحارة والإحساس الدقيق، ثم عرض خصائص الأدب الرفيع، مما اقتضى أن يوضح مراتب الأدب، وهي الأدب الجيد، والرديء، والوسط، وكذلك مراتب الأديب تبعًا لمراتب الأدب، ثم كان ختام حديثه عن مقتضى الحال، ليكون كالحكم على ما سبق بالجودة أو غيرها، فإن تحقق ما يقتضيه الحال فهو الأدب الجيد وإن خلا من ذلك فهو الأدب الوسط أو الرديء.

مجال التأثير والتأثر: في التراث النقدي: يُعدّ بشر في نظرنا أول ناقد كتب في بعض قضايا النقد العربي القديم في صحيفته المشهورة؛ لأنه توفي عام [210 هـ] وكان يعاصر صاحب أول كتاب في تاريخ الأدب والنقد لابن سلام الجمحي المتوفى [231 هـ] وكانت نقداته في كتابه "طبقات الشعراء" نظرات عامة، وكل النقاد الذين دوَّنوا نقداتهم أتوا بعد بشر في عصر التدوين، وظهر إنتاجهم النقدي بعد صحيفته التي أشار فيها أبو سهل إلى قيم نقدية، ونظرات واضحة في بعض قضايا النقد الأساسية، ثم تأثر النقاد الذين جاءوا بعده به تأثرًا كبيرًا وخطيرًا، وترسَّموا خطاه، وإن تميَّز بعضهم في بعض الجوانب دون البعض بالإطناب والتخصص والتفصيل. وأما وصية أبي تمام لتلميذه البحتري الذي عاش ما بين [172 - 231 هـ] فإنني أخرجها عن مجال التأثر والتأثير، لأن بشرًا كان يعاصر أبا تمام، يتجاوبان معًا في

تيارات الحركة الأدبية والنقدية في هذا العصر، وهما إن كانا متفقين معًا في بعض الآراء، فلا نستطيع بحال، أن نجزم بمن سبق الآخر في رأيه، ولم أقف على دليل بعين السابق منهما في هذا الرأي، والأقرب إلى الإنصاف أن نقول: بأن العصر الذي جمعهما يحمل طابعًا في النقد الأدبي، هو من سمات ذلك العصر، وبشر وأبو تمام من الذين كان لهم دور كبير في هذا البناء النقدي لعصرهم. ومن هذا المنطلق نقول: إن وصية أبي تمام لتلميذه لم تخضع لمجال التأثر والتأثيرن الذي يهز كيان بشر في صحيفته، حتى لا نقول بأن بشرًا متأثر بالوصية، ويؤيد رأيي هذا أن شخصية كل منهما متميزة في التعبير عما يقول الآخر، ويظهر ذلك جيدًا حينما أعرض الوصية، ثم ما يتفق معها في الاتجاه من صحيفة بشر. جاء في وصية أبي تمام لتلميذه: "يا أبا عبادة تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو ضبطه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم.... وإذا عارضك الضجر، فأرح

نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب"1. أما قول بشر: "خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة، أكرم جوهرًا، وأشرف نسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش القول، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة"2. والفرق بينهما كبير، وهما في عصر واحد، فأبو تمام في وصيته أديب شاعر وبشر في صحيفته أديب ناقد، وكل منهما يعبر عن رأيه وشخصه في هذا الجانب وليس ببعيد أن يتلقى كل منهما رأي الآخر، ولا يتهمه بالتأثر، لأنهما يعيشان معًا في جو أدبي وفكري وثقافي واحد. وأما ابن سلام الجمحي فله اتجاه في تاريخ الأدب العربي ونظرات في النقد تختلف عن اتجاه بشر في

_ 1 العمدة: ابن رشيق 2/ 114 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. 2 البيان والتبيين: الجاحظ 134.1.

صحيفته، وإن اتفقا في بعض الوجوه، فذلك أيضًا خارج عن مجال التأثر والتأثير، لأنهما يعيشان معًا في جو أدبي وفكري وثقافي واحد أيضًا. لأن مجال التأثر والتأثير الدقيق يكون في عصرين أحدهما سابق والآخر لاحق، ولا مجال للحاضر والمعاصر، وبشر وابن سلام وأبو تمام كانوا جميعًا يعيشون في عصر واحد. فمجال الصحيفة في التأثير والتأثر كان له دور كبير في العصور اللاحقة في البلاغة والنقد، وعند الأدباء والنقاد وعلماء البلاغة، وسنوضح هذا المجال في التأثير عندما نتحدث عن القضايا النقدية التي أثارها بشر في صحيفته. القريحة والاكتساب: يعدّ بشر أول ناقد كتب في النقد عن الموهبة والاكتساب والطبع والصنعة في صحيفته، فقد ميز بين الأدب الذي خرج عن طبع وسليقة وبين الأدب الذي صدر عن تعب وجهد، وتأمل وصنعة، فالأدب المطبوع يكون صاحبه

ملهمًا، فإذا ما أراد موضوعًا تزاحمت عليه المعاني، وتفتحت موهبته عن مخزونها من أفكار وخواطر، وانقادت له الألفاظ، وتلاحقت على لسانه الكلمات، وانصاعت له الأساليب، وكان عليه أن يتجاوب مع طبعه، فيكتب عن طبع بلا جهد ولا معاناة وينساب مع موضوعه بلا تأمل ولا ضجر، وهذا ما أطلق عليه النقاد فيما بعد "أدب الطبع" فمصدره القريحة الصافية، والطبع الأصيل، والاكتساب يأتي بعد ذلك تبعًا لا أصلًا. أما الأدب المصنوع فلا يخلو من الموهبة أولًا، لكن صاحبه يعاني أثناء الكتابة والصياغة جهدًا شاقًّا، ووقتًا مضنيًا، يفتش فيه بين جوانب نفسه ليصطاد الخواطر التي تنسجم مع موضوعه، ويبحث خارج ذاته عن أفكار وأساليب وصور، وربما يترك الكتابة وقتًا، ليستعين عليها بوقت آخر، يعاني فيه من المعاودة والتكرار، والتهذيب والصقل والمتابعة، حتى يكتب في النهاية، ويصدر عن صنعة في أدب مصقول مهذب، كان الاكتساب فيه أظهر وأقوى من الطبع والقريحة. أما من لا طبع له، ولا موهبة قادرة على الاكتساب والتهذيب، فالأولى له أن ينصرف عن الأدب إلى صناعة أخرى، تتجاوب معه، وهذا ما أشار إليه بشر في صحيفته:

"كن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا وفخمًا سهلًا ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا ... فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك ... فإن أنت ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة: إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق ... فإن تمنع عليك.... فالمنزلة الثالثة أن تتحوَّل عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك" 1. ثم يتناول أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ "م 255 هـ] الطبع والصنعة بصورة أوسع وأعمق متأثرًا بما سبق من كلام بشر، فيرى أن المعاني مشتركة لكن تميز الأديب يرجع إلى صحة الطبع في الصياغة والتصوير يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي ... وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ،

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 135.

وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير"1. ويقول الجاحظ في الطبع والإلهام عندما تحدث عن الخطابة عند العرب: فكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إحالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام ... فتأتيه المعاني أرسالًا وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا"2. ثم يتحدث الجاحظ عن الصنعة في الأدب لأنه يعرف أن: "من شعراء العرب من كان يدع العقيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا"، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويقلب فيها رأيه اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله ذمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات، والمنقحات والمحكمات"3.

_ 1 الحيوان 3/ 40. 2 البيان والتبيين: 2/ 15. 3 المرجع السابق: 2/ 21.

وأما ابن قتيبة [م 276 هـ] فيصف الشاعر المطبوع بأنه إذا امتحن لم يتلعثم ... ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر، كزهير والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأمثالهما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين"1 والمقصود بالمتكلف عنده هو المصنوع لأن المتكلف ساقط من باب الأدب الجيد جملة. ويوضح ابن قتيبة الطبع أكثر حين يقول: والشعراء بالطبع مختلفون فمنهم من يسهل عليه المديح ويتعذَّر عليه الهجاء ... فهذا ذو الرمة أحسن الناس تشبيبًا، وأجودهم تشبيهًا، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع وذلك الذي أخره عن الفحول" 2. والذي يدل على أن المتكلف عنده هو أدب الصنعة قوله: "والمتكلف وإن كان جيد الشعر محكمه فليس فيه

_ 1 الشعر والشعراء: 8: 12. 2 المرجع السابق: 14.

الشعراء يتفاوتون في شعرهم بالطبع، ثم يعين الطبع أمورًا أخرى كالرواية والذكاء والدربة يقول: "إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه"1. ويوضح التصنع ليفرق بينه وبين المطبوع فيقول: "إن رام أحدهم الأغراب لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلف، وأتمّ تصنع، ومع التكلف المقت، وللنفس عن التصنع نفرة، وفي مفارقة الطبع قلة حلاوة، وذهاب الرونق، وإخلاق الديباجة، وربما كان ذلك سببًا لطمس المحاسن فصار هذا الجنس إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب، إلا بعد إتعاب الفكر، وكدّ الخاطر، والحمل على القريحة.... وهذه جريرة التكلف"2. ويفصل ابن رشيق بين المطبوع والمصنوع فيقول: [م 463 هـ] "ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولًا، وعليه المدار، والمصنوع وإن وقع

_ 1 الوساطة بين المتنبي وخصومه: 21. 2 المرجع السابق: 24.

عليه هذا الاسم، فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين"1 ثم يقرّر ذلك ابن الأثير [م 627هـ] فيقول: "اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى الآت كثيرة ... وملاك هذه كله الطبع فإنه لا تغنى تلك الآلات شيئًا، ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يقدح بها ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار، لا تفيد تلك الحديدة شيئًا" 2. وغيرهم من النقاد وعلماء البلاغة كثيرون، الذين تأثروا بصحيفة بشر في حديثه عن الطبع والصنعة مثل أبو هلال العسكري [م 395 هـ] وابن طباطبا [م 322 هـ] والآمدي "م 370 هـ] .

_ 1 العمدة: 1/ 82. 2 المثل السائر: ص 3

منزلة العاطفة من الأدب: العاطفة القوية الصادقة هي التي تجعل الأدب قويا والشعر نابضًا بالحياة، فهي من النص الأدبي بمنزلة الروح من الجسد، فيها يسمو الأدب ويخلد الشعر، ولذلك تنبه لها النقاد القدامى، وأشادوا بمنزلتها من الأدب، وتحدثوا عن مصادرها القوية، ومنابعها المندفقة، وأوارها المتأجج، فاختاروا لها أنسب الأوقات وأصفاها، وأجمل الأماكن وأهدأها، ووضح أبو سهل في صحيفته وقت احتدام العاطفة، ومنطلق صدقها، وحرارتها، ومنزلتها من الأدب، حين تبعث فيه القوة والحياة قال بشر: "خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف نسبًا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش القول، وأجلب لكل عين وغرة1، من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة" 2.

_ 1 أجلب: أكثر طلبًا، عين: نفيس، وغرة: حرارة وتوقد، أشرف نسبًا: أحسن اختيارًا للألفاظ. أكرم جوهرًا أكثر معرفة بفصاحة الكرم. 2 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 134.

ينبغي على الاديب أن ينتقي أنسب الأوقات لكتابة الأدب أو إنشاد الشعر أو إلقاء الخطب، ويمتنع عن الكتابة في وقت فتور العقل، وخمود البدن، وتبلد الإحساس وامتلاء المعدة، فكما قالوا: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وإنما يكتب الأديب أثناء النشاط في البدن، واليقظة في العقل، والحركة في الذهن، وانفعال المشاعر، ورقة الأحاسيس، لتكون العاطفة صادقة، والخيال خصبان فتتمكن منه الألفاظ الكريمة، والكلمات الفصيحة، والنظم البليغ، والتراكيب القوية، والمعاني البديعة، والأفكار المبتكرة، فإن مثل هذه الفترة، مهما كانت وجيزة فهي أفضل من أيام خفتت فيها العاطفة الصادقة، حين يعاني منها الأديب أثناء الصياغة من آلام الكد والمطاولة ومتاعب الجهد والمحاولة. فالعاطفة الصادقة هي التي تؤجج في الأدب شعورا متدفقًا، وإحساسًا عميقًا، ونشاطًا فكريًّا وذهنيًّا، فينبض الأدب بالحياة، والحياة فيه هي الصدق العاطفي والفني، فيرتفع إلى سمو الغرض، وشرف الهدف، ووضوح المعنى، وينقاد اللفظ خفيفًا سهلًا على اللسان، ويجري رقيقًا عذبًا، كالماء العذب الرقيق، والينبوع الثر الصافي.

وحرارة العاطفة لا تزج بالأديب في دروب الخطأ، ومنحنيات التيه، لأن العقل يوجهها ويسدّد خطاها، وينظم شراراتها، فلا تهبط في الشعاب المتوعرة، أو تنزل في مخالق التعقيد، الذي يلف المعنى في ضباب كثيف، أو يدرج الغرض في أثواب قائمة، فيكون الأديب في أسلوبه الذي اختفى فيه المعنى، أسوأ حالًا قبل أن يكشف عنه. وأبو تمام الذي عاصر بشرًا تحدَّث عن وقت نشاط العاطفة، وعن مصدر القوة والصدق في الأدب بما وصَّى به تلميذه البحتري: يا أبا عبادة تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، وأعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر.... فإذا عارضك الضجر، فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. وسار ابن قتيبة على نهج بشر، متأثرًا به في حديثه عن العاطفة، ووقتها وصدقها قال: "وللشعر أوقات يسرع أتيه1، ويسمح فيها أبيه، منها أول الليل قبل تغشي

_ 1 أتيه: سبك.

الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في المجلس وفي المسير، ولهذه العلل تختلف أشعار ورسائل المترسل"1. ويسير أبو هلال العسكري [م 395 هـ] في هذا الطريق الذي بدأه بشر، فيذكر الأديب بالكف عن الأدب إذا شعر بفتور أو ملل، ويحثه على العمل يقول فاعمل: "ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخونك الملال، فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع، يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الري، وتنال إربك من المنفعة فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلَّ عنك غناؤها"2. وغيرهم من النقاد الذين تأثروا بالصحيفة مثل الآمدي3، والقاضي الجرجاني 4، وعبد القاهر الجرجاني5.

_ 1 الشعر والشعراء: 9 2 الصناعتين: 128. 3 الموازنة: ص 173 وما بعدها. 4 الوساطة: 360. 5 دلائل الإعجاز: 88.

الوزن والقافية: وتحدث بشر عن قوة الوزن والقافية، وتناسبهما، وحسن موقعهما بين الألفاظ، وتلاحم المعاني في الأبيات، يقول بعد أن تحدث جودة الألفاظ: "والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاطى قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتك، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا.... عابك من أنت أقل عيبًا منك"1. ويتأثر أبو هلال بما ذكره بشر عن الوزن والقافية، فيقول أبو هلال: "وإن أردت أن تعمل شعرًا، فأحضر المعاني التي تريد نظمها فكرك وأخطرها على قلبك وأطلب لها وزنًا، يتأتى فيه إيرادها، وقافية يحتملها، فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية، ولا تتمكن منه في أخرى، أو تكون في هذه أقرب طريقًا، وأيسر كلفة منه في

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ 135.1.

تلك، وإذا عملت قصيدة فهذّبها ونقّحها بإلقاء ما غثَّ من أبياتها، ورثَّ ورذل والاقتصار على ما حسن وفخم، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه، حتى تسوّى أجزاءها، وتتضارع هواديها وأعجازها"1. ويذكر ذلك أيضًا ابن رشيق فيقول: "ومنهم يحكم القافية في انتاجه، فينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر، مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك لا يعدو بها ذلك الموضع، إلا أن انحلَّ عنه نظم أبياته، وذلك عيب في الصنعة شديد ونقص بين، لأنه أعنى الشاعر بصير على شيء واحد بعينه، مضيقًا عليه، وداخلًا تحت حكم القافية، وكانوا يقولون: ليكن الشعر تحت حكمك، ولا تكن تحت حكمه.... ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب عن القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها وشريفها وما سعد معانيه وما وافقها، واطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها، ليكرر فيها نظره، ويعيد عليها تخيره في حين العمل، هذا الذي عليه حذاق القوم.... ومن الشعراء من إذا جاءه البيت عفوًا أثبته ثم

_ 1 الصناعتين: 133.

رجع إليه فنقحه، وصفاه من كدره، وذلك أسرع له، وأخف عليه، وأصح لنظره، وأرخى لباله، وآخر لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدل على القدرة ... والصواب ألا يصنع الشاعر بيتًا لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد في ذلك طبعي جملة، ولا أقدر عليه بل أصنع القسيم الأول على ما أريده، ثم ألتمس في نفس ما يليق به من القوافي بعد ذلك، فأبني عليه القسيم، أفعل ذلك، كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخلٍ عليّ، ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئًا من لفظ القسيم الأول إلا في الندرة، التي لا يعتدّ بها أو على جهة التنقيح المفرط"1. وصاحب الصحيفة أول ناقد تحدث عن القافية والوزن في ميزان النقد الأدبي، ثم جاء النقاد بعده لينظروا فيها نظرة نقدية تقوم على التحليل والتعليل حينًا، وعلى تجربة الناقد نفسه في الشعر حينًا آخر كابن رشيق في عمدته.

_ 1 العمدة: ابن رشيق 140، 141.

منازل الأديب ومراتب الأدب: الأدب موهبة وفن وصنعة ماهرة، لا يستطيع كل من مالت إليه نفسه أن يكون أديبًا فقد أجمع النقاد على أن الأديب يوجد ومعه الموهبة، التي تعينه على إجادة هذا الفن، ومن لم توجد معه هذه الموهبة فعليه أن ينصرف إلى صنعة أخرى، تتناسب مع ميله وطبعه، وهذا ما قرره بشر أول النقاد، حين حدَّد منازل الأديب من الأدب، فجعل في المنزلة الأولى الأديب الموهوب ذا القريحة الملهمة، ليصدر عن أدب رفيع جيد، وفي المنزلة الثانية الأديب، الذي يعاني في أدبه من الكد والمطاولة، فيكون أدبه وسطًا، وفي المنزلة الدانية وهي الثالثة، ينتج صاحبها كلامًا مهلهلًا متكلفًا، وهو الأدب الرديء، يقول بشر: 1. "كن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا،.... فإن كانت المنزلة

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ 1، 134 العمدة: ابن رشيق 142.1.

الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها ... فإن أنت تكلفتها، ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا محكمًا لشأنك، بصيرًا بما عليك ولك، عابك من أنت أقل منه عيبًا، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإذا أنت ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح الطباع فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك، أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك، وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك، فإنك لم تشته ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله"1. ذكر بشر ثلاث منازل للأديب حسب منزلة أدبه، ومكانه من الجودة أو الرداءة أو التوسط بين الجودة والرداءة، ووضح خصائص الأدب الجيد في المنزلة الأولى للأديب،

_ 1 حاذقا: ماهرًا - مطبوعًا: مفطورًا وهي ضد الصنعة - طبيعة: موهبة.

حيث يرتقي إلى الدرجات الرفيعة من البلاغة، وذلك إذا تراشق الأسلوب عنده باللفظ الخفيف على اللسان، وبالكلمة اللطيفة في الصياغة، فتسيل عذوبة، وتختال رشاقة، ويحسبها القارئ فخمة عند النظر إليها، فإذا بها تنساب إلى النفس سهلة عند التعرف عليها. وذلك لأن المعاني ظاهرة للأبصار، والأفكار واضحة للأفهام، قريبة إلى أنفس العلماء والأدباء، فيبلغ بها الأديب أعلى المنازل، فتنحني أمامه طرائق التعبير، وتذوب على لسانه توعر الكلمات، وتسهل لديه بيداء الأساليب، فينسج من الأدب لونًا واحدًا، يقع من نفوس الجميع موقعًا بليغًا، لا يخفى على الدهماء، ولا ينكره البلغاء. فإن حرم الأديب المنزلة الأولى، التي اجتمعت لها خصائص الأدب الرفيع من أول وهلة، وأحس بأن اللفظة قلقة في التعبير، والكلمة ناشزة في الأسلوب، والتراكيب تموج بالقلق والاضطراب، وندت الفقرات عن مواقعها ونفرت العبارات من قرارها، ووقعت القافية من البيت موقعًا قلقًا، وسارت إلى غير مركزها في القصيدة، يكرهها الشاعر على اغتصاب المواقع في التصوير، وتنزل من الأسلوب في غير موطنها الدقيق واللائق بها، وغير ذلك من الصفات

الرديئة التي تنزل بالأدب عن منازل الحذق والمهارة، والطبع والقريحة، فيهوى بها إلى الصنعة والكلفة، وتمجّه الأذواق السليمة. ومثل هذا الرجل الذي لم تأتِ إليه الصياغة طوعًا لأول وهلة، قد لا يحرم من موهبة الأديب، ولا من طبيعة القول البليغ الذي شابه شيء من صنعة المتأدّبين، مثل هذا المتأدّب، قد تتحرك فيه العاطفة الصادقة بعد فترة قصيرة، فيستجيب له اللفظ الذي يتناسب مع المعنى، وتخضع له التراكيب التي تتلاءم مع الغرض، وإن واتته على مهل، وطاوعته بعد عصيان فنزل أدبه إلى درجة التوسط بين الجيد والرديء. فإن استعصى على الرجل هذا اللون الثاني من الأدب أثناء المحاولة بعد فترة قليلة من الزمن، والذي لم يخل من الصنعة المهذبة، فكان اللفظ قلقًا، والكلمة ناشزة، والقافية مضطربة، والتراكيب تستعصى على المعاني، وتتنافر مع الأغراض فيصير أدبه رديئًا، يجرد صاحبه من الأدب، وعليه حينئذٍ أن يترك الأدب، ويتجه إلى صنعة أخرى تتناسب مع ميوله وغريزته، وينزل عند حرفة أخرى.

تتواءم مع طبعه، وتلتقي مع مزاجه، لأن لكل طبيعة بشرية صنعة تجيد العمل فيها، ولكل فطرة إنسانية حرفة تنقاد لها، فنرى الأديب والشاعر، والخطيب والناثر، والتاجر والصانع، والزارع والصائغ إلى غير ذلك من ألوان الصناعات. ثم يتزاحم النقاد بعده متأثرين به في توضيح منازل الأديب ومراتب الأدب ودرجاته، يقول أبو هلال العسكري: "إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطر معانيه ببالك وتنوق له كرائم اللفظ1، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك طلبها، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلقت بذيله.... وإذا أردت أن تعمل شعرًا فحضر المعاني التي تريد نظمها" إلخ ما سبق ذكره. ويرى الناقد ابن رشيق أن معاناة الشاعر في شعره أحيانًا تؤدي إلى كدّ فكره، وانصرافه إلى المعنى حتى يبلغ مراده، ويضرب لذلك مثلًا من شعر الفرزدق قال: فإني أنا الموت الذي هو ذاهب ... بنفسك فانظر كيف أنت محاوله

_ 1 تنوق: تخير وانتق اللفظ.

وحلف الفرزدق أن جريرًا لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء حتى نقضه بقوله: أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئًا يطاوله ثم يأتي محمد بن طباطبا [م 322 هـ] ليفصل القول في هذا تفصيلًا قائمًا على تجربته الشعرية الذاتية، ومعاناة الأدب بنفسه، ليقرر أن الأديب يمرّ بمرحلة التفكير وترتيب المعاني، التي يريد نظمها، ثم مرحلة الإنتاج ليواخي بين المعاني بعضها مع بعض، وبينها وبين ما يتلاءم معها من القوافي والأوزان في اتساق وترتيب، بلا فجوة أو خلل، ثم مرحلة الترتيب والتنسيق بين الأبيات متوخيًا معانيها، ثم المرحلة الرابعة وهي التهذيب والتثقيف كالذكر أو الحذف، والتقديم والتاخير، والصقل والتثقيف، حتى يظهر النص في أجمل صورة، يقول ابن طباطبا: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى1 الذي

_ 1 مخض: قلب وتدبر.

يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت ما بينه وبين ما قبله، فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشتت منها، ثم يتأمَّل ما قد أدَّاه إليه طبعه، ونتحته فكرته، فيستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضادّ للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يقوف وشيه بأحسن التقويف، ويسديه وينيره، ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه1، وكالنقاش الرقيق

_ 1 يقوف: قوف الثوب صنع فيه خطوطًا بيضاء على الطول - والسدي من الثوب خلاف اللحمة وهو ما مدَّ من خيوطه - وينيره: جعل له نيرًا خلاف سداه - هلهل الثوب: نسجه سخيفًا.

الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها" 1. ويذكر ب شر خصائص الأسلوب الجيد فيقول: "ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم عن معدنه وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما، وقضاء حقهما" 2.

_ 1 عيار الشعر: ص 5. 2 البيان والتبيين ك الجاحظ 135.1.

مقتضى الحال: وهذه القضية من أبواب البلاغة التي اشتغل بها من بعده علماء البلاغة، وأدخلوها في علم المعاني، وهي من أهم قضايا نقد الأدب العربي، ووضح بشر أن مقتضى الحال هو أساس علم البلاغة، وبه يسمو الشعر والأدب قال: "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، واقدار المستمعين على اقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، تجنب1 ألفاظ المتكلمين، كما إنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا، أو مجيبًا، أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن، وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك

_ 1 تجنب: التزم

المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسميته ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف وقدوة لكل تابع"1. يتناول بشر في هذه الفقرة أساسًا من أسس الجودة، وبابًا من أبواب البلاغة الذي يهتم به الأديب في أدبه اهتمامًا كبيرًا وهو باب مقتضى الحال، ويعدّ هذا الباب الأساس الأول في علم البلاغة؛ إذ به يصحّ النص الأدبي، وعلى الأديب أن يحدّد المعنى الذي يخاطب به الآخرين، سواء أكان هذا المعنى في اللغة أو الأدب أو البلاغة أو التوحيد أو غير ذلك، ويتعرَّف على أجزائه، ثم يحدّد الطبقة من المستمعين، لأن لكل طبقة طريقة في التعبير يحسنون فهمها، فطريقة علماء الكلام تختلف عن أسلوب النحاة، ثم يتعرف على أحوال المستمعين، فتارة يكونون في حالة ينكرون فيها المعنى، وتارة يجهلونه، وتارة يشكون فيه، ولكل حالة من هذه الحالات الثلاث أسلوب معين يعتمد على التوكيد أحيانًا، أو لا يعتمد، ويضرب أمثلة كثيرة لطرائق التعبير في باب مقتضى الحال، مثل مخاطبة المتكلمين من

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ 1/ 135.

أهل علم الكلام، ومخاطبة العروضيين، ومخاطبة النحويين، ومخاطبة علماء الرياضة والحساب. وعلماء البلاغة ينسبون هذا القول إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، فكلام بشر هذا إن كان أساسًا من أسس علم البلاغة، لكنه مع ذلك قيمة من قيم النقد الأدبي، لأنه وثيق الصلة بالتصوير الأدبي فالغرض من التصوير هو التأثير في النفس، بحيث يسيطر على العقل والعاطفة والمشاعر وهذا التأثير للصورة لا يقوى إلا إذا اتفق مع الحالة التي يعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الأديب ويشخصه الشاعر المصور. ولا يخلو عالم من علماء البلاغة بعد بشر إلا وقد تناول مقتضى الحال كما لا يخلو كتاب من كتب البلاغة إلا اشتمل على هذا الجانب.

النظم والتصوير الأدبي: تنبّه بشر بن المعتمر قبل غيره من النقاد إلى قضية النظم، فهو لا يرتفع باللفظ وحده، ولا بالمعنى وحده، ولكن يقصدهما معًا، ممهدًا لنظرية النظم يقول: "إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا، وهو يفسد الصورة الأدبية، ويخلّ بالتعبير، ويفقد روح التاثير فيها ويقول بعد ذلك: "ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما". فموطن الجمال عند بشر في العمل الأدبي يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى فلا بدّ للمعنى الشريف من لفظ شريف ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليست في اللفظ وحده ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محل الصورة الأدبية، التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء.

عصره. فقد نشأ النقد الأدبي قبل أن يعرف مصطلحاته الحديثة. وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة الأدبية، التي تحددت معالمها فيما بعد، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذكرت من أجله. يقول بشر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما: ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ... إلى قوله: إن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا1. ويأتي الجاحظ بعد بشر ليرد الجمال والبلاغة إلى الألفاظ، لأنها محصورة محدودة، بينما المعاني عنده ممتدة مبسوطة، لكنه بعد ذلك يربط بين اللفظ والمعنى فهو يجعل

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ 135.1.

الشأن للصياغة، والشعر ضرب من التصوير، والصياغة والتصوير يرتبط فيها اللفظ بالمعنى يقول: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير 1. ويتفق أبو هلال العسكري مع الجاحظ في تأثرهما بصحيفة بشر بن المعتمر. ويرى ابن قتيبة أن القصيد يعلو ويهبط حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، فقسمه إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وعلا فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه 2. ويسير ابن طباطبا بما جاء به بشر بن المعتمر فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فأحضر المعاني الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، أو أعدَّ له مما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي تواققه ... فإذا اتفق له

_ 1 الحيوان 40.3. 2 الشعر والشعراء: 7.

بيت يشاكل المعنى الذي يرومه ابتدأ وعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على ما بينه وبين ما قبله " 1. هذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية، يحضر الشاعر المعاني، وينتقي لها من الألفاظ والقالب الموسيقي ما يتناسب معها، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات، فهو يربط بين اللفظ وإيقاعه وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم التي تتبني عليها الصورة الأدبية. ويهتم الآمدي "م 370 هـ " باللفظ والمعنى في النظم والتصوير فيقول: "وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأنِّي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى اللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله ... والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة.... وينبغي

_ 1 عيار الشعر: 23.

أن تعلم أن سوء التأليف ورديء اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل ... وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا، حتى كأنه أحدث فيه غربة لم تكن وزيادة لم تعهد"1. ويكاد يتفق علي بن عبد العزيز الجرجاني مع الآمدي في فهمه للنظم والصورة الأدبية، وتأثرهما بالناقد الأدبي بشر بن المعتمر. ويعقد ابن رشيق باب اللفظ والمعنى، ليربط بينهما كما ربط بشر بن المعتمر، يقول ابن رشيق: أن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحدِّه ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية في العلاقة التي تتم بين الألفاظ وتكشف عن المعنى2. وهذا ما قرَّره عبد القاهر الجرجاني "م 471 هـ" واكتمل على يديه، حيث انتهى إليه الحديث عن النظم والصورة الأدبية، بعد أن بدأه بشر بن المعتمر، ليبلغ عبد

_ 1 الموازنة بين أبي تمام والبحتري 173. 2 العمدة: 124.1.

القاهر فيه الغاية، ويرسي قواعد النظم ومفهومه ويحدّد معالم التصوير الأدبي، يقول عبد القاهر: "أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم"1. ويوضح هذا أكثر فيقول: "وأعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشَّك، ألا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يتعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب تلك.... وإذا كان كذلك فعلينا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله"2 ويقول: واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله.... إنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مزجها لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب،

_ 1 دلائل الإعجاز: 473 تحقيق د/ محمد عبد المنعم خفاجي. 2 دلائل الإعجاز: 97.

وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر والشاعر في توخييهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم.... وسبيل الكلام هو سبيل الصيغة والتصوير، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه، سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصنع، كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا على بيت من أجل معناه لا يكون تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فاعرفه"1. وبهذا يكون عبد القاهر وضح نظرية النظم، والعلاقات التي ينبني عليها التصوير الأدبي، فأعطى للفظ حقَّه، وللمعنى حقه، والصورة تأتي من العلاقة بينهما معًا،

_ 1 المرجع السابق 118، 123، 255.

ويرجع أساس الجمال إلى النظم والصباغة والتصوير، ولا بد لكل كلمة في النظم أو الصورة أن تأخذ مكانها بين أخواتها على أساس توخي معاني النحو حتى تحقق الوحدة الفنية في النص الأدبي. وتحدث بشر أيضًا عن الوحدة الفنية: أو مناسبة الكلمة لموقعها يقول: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تعدّ إلى قرارها، إلى قوله، أوجريت من الصناعة على عرق. فصياغة الشعر ليست سهلة أو ميسورة، لأن تصوير المعنى يحتاج إلى دقة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين والشريفتين، أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة، لتستقر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها وتتوازن مع نظائرها، وتتشاكل مع أخواتها. وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية والوحدة الفنية بين الألفاظ فيها، بحيث لا توافق الكلمة

أختها، فتعبر أحداها عن الصبابة والثانية عن الفخر، فيصير النسج بذلك مهلهلًا، والتماسك ضعيفان وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل يومًا وليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتتواءم كل كلمة مع أختها، ويتم التلاحم بين أجزاء الصورة الأدبية، وتتحقق الوحدة الفنية فيها. وليسمها بشر تناسبًا بين الكلمات، أو توافقًا بين المعاني فلا يضر ذلك في عناصر التصوير حين يسميها النقد الحديث الوحدة الفنية وغيرها مما يدل على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير. وبهذا يكون أبو سهل بشر بن المعتمر أول ناقد أدبي سجل هذه القضايا النقدية، والقيم الجمالية في النقد العربي القديم، وإن لم يفصل القول، كما هو مألوف في التطور التاريخي لنشأة العلوم، حيث يبدأ رويدًا رويدًا، ثم تأخذ في التكامل والنضوج على أيدي النقاد الذين جاءوا من بعده كما وضحت ذلك. وهذه المنزلة الرائدة في النقد لبشر، لا تغض من

مكانة ابن سلام الجمحي لأنهما كانا يعيشان في عصر واحد وفي جو علمي واحد، مع أن النقاد جعلوا الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء" مؤرخًا للأدب وإن كانت له نظرات نقدية عميقة، ولا يغض أيضًا من نظرات أبي تمامة وخاصة في وصيته لتلميذه البحتري، لأنهما أيضًا كانا معًا في عصر واحد.

القسم الثاني: قضايا المعنى واللفظ والأسلوب والنظم والصورة والموسيقى

القسم الثاني: قضايا المعنى واللفظ والأسلوب والنظم والصورة والموسيقى الفصل الأول: القضايا النقدية في صحيفة بشر بن المعتمد ... خفاء على ذوي العلوم، لتبينهم ما نزل بصاحبه فيه: من طول التفكر، وشدة العناء، ... بأن ترى البيت مقرونًا بغير جاره، ومضمومًا إلى غير لفقه ... والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر، واقتدر على القوافي، وأراك في صدر البيت عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع، ووشي الغريزة"1. ويوضح المرزوقي [م 421 هـ] المطبوع والمصنوع أيضًا فيقول: "متى رفض التكلف والتعمل، وخلى الطبع المهذب بالرواية، المدرب في الدراسة لاختياره.... أدَّى من لطافة المعنى وحلاوة اللفظ ما يكون صفوا بلا كدر، عفوًا بلا جهد، وذلك هو الذي يسمى: المطبوع، ومتى جعل زمام الاختيار التعمل والتكلف عاد الطبع مستخدمًا متملكًا، وأقبلت الأفكار تستحمله أثقالها ... مطالبة له بالإغراب في الصنعة.... وذلك هو المصنوع" 2. ويرى أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني [م 392 هـ] أن الشعر يعتمد أول ما يعتمد على الطبع، لأن

_ 1 الشعر والشعراء: 12. 2 شرح ديوان الحماسة: 12.

الفصل الثاني: موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم

الفصل الثاني: موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم: الصورة الأدبية في النقد الأدبي القديم: قبل أن أبدأ الحديث عن موقف القدماء من الصورة الأدبية، أستميح القارئ عذرًا في استعمال لفظ الصورة مع بعض القدماء، لأن البعض ربما كان لا يقصدها في حديثه عن الشعر، وغالبًا ما يقصد اللفظ أو الشكل، والأسلوب أو الصياغة والعبارة أو التركيب والنظم أو التأليف، إلى غير لك مما تسمح له ظروف التعبير والحياة، ومدى قدرته للإصابة فيه. والذي قد يجيز لي التعبير بلفظ الصورة عندهم هو مقام البعث عنها في آرائهم وهل قد أصابوا في الوقوف على معناهما أولًا؟ لأكشف من خلال ذلك عن مفهومهما عند كل منهما غالبًا، هذه ناحية. وناحية أخرى، وهي أن من البدهي ألا أرتقي فجأة إلى مفهوم الصورة الأدبية عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أوشكت أن تبلغ للكمال لديه، أو أغفله هو كذلك وأبدأ بالنقد الحديث فيها، كما قام بذلك بعض الباحثين المحدثين 1 ظنًّا منهم أن مفهومها لم يصل إليها النقاد القدامى من العرب إلا نادرًا، فرأيت من الضروري أن أعرض الصورة في النقد القديم قبل النقد الحديث، وهي أولًا بذرة، ثم أوضح كيف نبتت وترعرعت؟ وشبت واستوت، ونضجت واستقام أمرها.

_ 1 د. مصطفى ناصف في "الصورة الأدبية" والدكتور ماهر حسن فهمي في "المذاهب النقدية" ص 211.

وليس من المعقول أن نفصل الصورة قديمًا عن قضية اللفظ والمعنى وهي جوهرها ولبّها وما اللفظ إلا الشكل؟ وما المعنى إلا المضمون؟ - وهما اللذان أثارهما النقاد المحدثين. وكيف لا يتناول النقد الأساس الأول الذي قامت عليه المذاهب الأدبية في العصر العباسي فوجدنا منه شعرًا مطبوعًا، وآخر مصنوعًا، شعرًا يهتمّ بالمعنى، وآخر يهتم باللفظ. يقول نقادنا عن الشعر: إنما هو عواطف الشاعر وشعوره بركبها خيال وملكات قادرة ومقدرة فنية موهوبة في صور من الألفاظ والأساليب1. ولا مبرر لدعوة الذين يغمضون أعينهم عن هذه القضية، مدَّعين أنها دراسة عميقة لا قيمة لها في الصورة، وتبدأ القيمة عندهم من ابن رشيق وعبد القاهر بل هما أيضًا كانت نظرتهما قاصرة، لم توفِ بالغرض المنشود. وهذا بعدٌ عن الصواب، ونكران للحقيقة، وهم أشبه في ذلك بالذي سقط فجأة على ثمرة ناضجة، فقطفها، وأعمل أضراسه فيها، ولم يوجّه أنتباهًا لكيفية وجودها عندما كانت بذرة، ثم تحولت إلى جذور وجذوع، وسيقان وفروع، وأوراق وأزهار، ثم مضى على ذلك وقت طويل، ونشط إليها من تعهدها ورعاها لقصير ثمرة شهية، تسيل لعاب المتذوق ويتلفظ بها فم الآكل. وهكذا فلندعهم سادرين في غيّهم، مخدوعين بما سمعوا وقرءوا، فهم أناس ألفوا الراحة، واكتفوا بما تحت أيديهم من غير جهد ولا تعب، أو تعقب للمراحل السابقة، قبل الوصول إلى نهاية الطريق، ثم يدعون باطلًا أن المراحل السابقة لا قيمة ولها ولا وزن، ولا أهمية ولا اعتبار إلا للنتيجة النهائية في مفهوم الصورة الأدبية التي انتهى إليها النقاد في العصر الحديث.

_ 1 دراسات في تاريخ الأدب العربي في أزهى عصوره: د. محمد عبد المنعم خفاجي، د. عبد الرحمن عثمان - القسم الأول ص 123 مطبعة المدني 1972.

مفهوم الصورة في العصرين الجاهلي والإسلامي: يكون من الصعب قبل عصر التدوين أن نقف بدقة على مدى الفهم للصورة الأدبية في العصر الجاهلي وفي بداية عصر الإسلام، لأن تعليقاتهم الموجزة على الشركات في الغالب غير مدونة، فأصبحت عرضة للضياع، فإذا كان الشعر قد ضاع معظمه، ولم يبق إلا أقله، وليس هو مظنة الضياع، لتمكنه من النفس والعقل معًا، فكيف بالنثر الذي قيل حوله، ولو انتهى إلينا خبر عن بعض النقاد في العصر الجاهلي يبين مدى اهتمامه بالصياغة والصورة فقد يتسرب الشك فيه وفي نقله، كما حدث فيما ورد عن النابغة الناقد في سوق عكاظ تحت القبة الحمراء، ليصدر حكمه في شعر وقع لمشاهير ثلاثة الأعشى والخنساء وحسان، قد فاضل بينهم على الترتيب السابق، فسأله حسان عن سرّ تفوق الخنساء عليه، وهي في نفس الوقت دون الأعشى في الحكم، فقال النابغة لحسان: "قلت: الجفنات، وهي جمع قلة لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللمعان يختفي ويظهر، ولو قلت يشرفنَ لكان أفضل وقلت بالضحى، وكل شيء يلمع في الضحى، ولو قلت بالدجى لكان أفضل، وقلت يقطرن، ولو قلت يجرين، لكان أفضل. كان مثل هذا يحدث من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المحاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدَّى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة. ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة وللصباغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير بن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر

آنذاك- ومعلوم إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير، لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا- حتى سميت القصائد بالحوليات فيتميز اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسول، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيهه ويستبدل بآخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا تحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى ويقول الجاحظ: "ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردَّد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رآيه اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عبارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها حذيذا وشاعرًا مفلقًا" 1. لذا يقول الدكتور خفاجي: "وكان ارتباط الشعر الجاهلي، بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذه المذهب الفني"3. وقال أيضًا: "كان زهير بن أبي سلمى يسمى كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعى: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عدد كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجردة" 3.

_ 1 البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9. د. محمد عبد المنعم خفاجي 1958. 2 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص 250. 3 المرجع السابق جـ 2 ص 13.

لهذا كله كان النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم وتصويرهم، فيقولون: إن ربيعة بن عيد كان يسمى المهلهل، لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه1، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه3، وكذلك قالوا: الأفوه، والمثقب، والمنخل، وسموا القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات 3. وبدل هذا على اهتمام مدرسة الصنعة بالأسلوب والصياغة، وعنهما كانت الصورة الأدبية بعد ذلك وهكذا استمر مذهب التثقيف وطول التهذيب مذهبًا فيما يسير عليه بعض الشعراء حتى بعد العصر الجاهلي وكان أساسًا لمذهب البديع الذي نشأ على يد مسلم وأبي تمام من المحدثين 4. وقد غالى من رمي الشعر الجاهلي كله ونقده بالشك وعدم صحة الإخبار عنه5 ولست معهم في هذا الشك المطلق، ما دام هناك في الأدب العربي صناعة شعرية، وللصناعة في أي فنّ، مادة وشكل، ومعنى وصورة. لذلك تجد ذا الرمة الشاعر الإسلامي، يعجب بالصورة والشكل في أبيات للكميت ولم يصرح بهذا اللفظ، وإن ذكر خاصة تتصل بالصورة لا المعنى قال: "أحسنت ترقيص هذه القوافي" 6.

_ 1 الأغاني: الأصفهاني ط دار الكتب جـ 5 ص 57. 2 المفضليات للضبي جـ1 ص 410. 3 البيان والتبيين: الجاحظ جـ 2 ص 9. 4 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 244، 247. طبعة ثانية 1958 م. 5 مثل د. طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي وغيره ". 6 المذاهب الأدبية: د. ماهر حسن فهمي ص 27.

كما تعجب الكميت من تصوير ذي الرمة حينما أنشد قوله: دعاني ما دعاني الهوى من بلادها ... إذا ما نأت خرقاء عنى بغافل فقال الكميت: لله بلاء هذا الغلام، ما أحسن قوله وأجود وصفه يقول: الأستاذ الدكتور خفاجي: "وهذا يدل على إنصاف الكميت في النقد وتمييز الجيد من الرديء في الشعر"1. بشر بن المعتمر والصورة الأدبية: أول من تنبَّه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر2 في ضحيفته المشهورة3، فهو لا يرتفع باللفظ وحدّه، ولا بالمعنى وحدّه، ولكن بقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشيد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول: "إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك ممانيك ويشين ألفاظك". فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير ويفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك: "ومن أراد معنى كريمًا فيلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حتهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما".

_ 1 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 100 طبعة أولى. 2 هو أبو سهل بشر بن المتعمر المتوفي عام 210 هـ زعيم فرقة من المعتزلة تدعى "البشرية" تنسب إليه وكان شاعرًا. 3 البيان والتبيينك الجاحظ: تحقيق السندوبي جـ 1 ص 82 وما بعدها، وتحقيق عبد السلام هارون جـ 1 ص 134 وما بعدها.

فموطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محلّ الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية. وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة التي تحدَّدت معالمها فيما بعدُ، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذُكرت من أجله. يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما "ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف.. إلى قوله: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا". أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وقوة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمماودة". أليس هذا حديث العاطفة في الكلام؟ فإنها لا تتولَّد إلا ساعة النشاط والحيوية والحرارة والانفعال، وعند ذلك تعطى الكثير في وقت قليل، كمًّا وكيفًا في النظم والتصوير، وتتوافر لديها المعاني البكر والألفاظ الغرر.

وفي غير هذا الوقت الذي تتوهَّج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلَّف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقّق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة ونثور عاطفة. والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرّر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثنى عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول: "فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقِّها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك للطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أوجرت من الصناعة على عرق". فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى

ما يحتاج إلى دفة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة" لتستمر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها، وتتوازن مع نظائرها وتنشأ كل مع أخواتها، وبذلك يصير كلٌّ من الكملة والقافية غير قلق في مكانه، ولا نافر من موضعه، وغير مكره على اغتصاب ولا مضرب في غير أوطان. وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية الوحدة الفنية بين الألفاظ فيها بحيث لا توافق الكلمة أختها، بأن تعبّر إحداهما عن العشق والصبابة والأخرى عن الحماسة والفخر، مما يهلهل النسج، ويضعف التماسك، وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل الأدبي يومًا أو ليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتقع الكلمة مع أختها، لا مع الغريبة عنها وبذلك يتم التلاؤم بين أجزاء الصورة، ودور الصياغة المنثورة، وتتحقَّق الوحدة الفنية فيها. وليسمها بشر بن المعتمر بين الكلمات، وتوافق في القوافي، حين تأخذ الكلمة موطنها وتتلاءم القافية مع أخواتها فيتحقق من عناصر الصورة دلالة الألفاظ في مدلولها وبموسيقاها على غرض الشاعر، وقد أخذ اللفظ والقافية مكانهما من النظم أو البيت وليسمّها النقاد اليوم الوحدة الفنية أو العضوية، مما يدلّ على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الرابعة للصورة الأدبية، أو عن النظم والتأليف.

بين الكلم وهي تلاؤم الصورة أو التركيب، مع المقام والغرض الذي يهدف إليه الشاعر فيقول: "وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار للمعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين، على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، لم يتجنب ألفاظ للمتكلمين، كما أنه إن عبَّر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسم، وبها أشغف ". وعالم البلاغة عندنا يسمع حديث بشر يحكم عليه هنا بأنه لا يصلح إلا لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، ولا يمت للصورة الأدبية إلا بأدنى ملابسة، والحق أن كلام بشر السابق وما قبله لا يستطيع أحد ألا يلحقه بعلم البلاغة فحديثه وثيق الصلة بها، وينبغي أن يدخل في باب الصورة الأدبية، لأن الغرض من التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتمّ ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر للصور مثل قول ابن الرومي في "النقيل البارد": يا أبا القاسم الذي ليس يدري ... أرصاص كيانه أم خلايد أنت عندي كما يثرك في الصيف ... ثقيل بعلوّه برد شديد وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة ناقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد

اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهرا في الغار واتخذا أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع. فأبو القاسم بارد كهذين المعدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشدّ وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة ليغلانه وليونقه، ثم يرتفع بها إلى معدن غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد. وقد اختار الألفاظ في النظم التي تناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقيل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العنيف الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته ينقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشمور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به. وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتمَّ العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإقناع، ولعل هذه الشبهة هي التى وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية وبالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس، إن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.

موقف الجاحظ من الصورة الأدبية: بعد أن نشط التدوين، وراحت الكتابة، وتسابقت الأقلام، أصبح من السهل أن نقف على آراء النقاد في الصورة والشكل، وكان أول من أثار هذه القضية هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ1، وبعضها كنظرية نقدية، وظاهرة أدبية، وقضى فيها بما يراه لائقًا بالأدب والشعر، وما عدَّه مناطًا للحسن والجودة، ومرتقى للسبق والفضل والتفوق. ووضح موقفه منها، حينما انتهى إلى سمعه أن أبا عمرو الشيباني استحسن بيتين من الشعر لمعناهما، مع سوء العبارة التي تصورهما، فقال الجاحظ وهو يتهجم عليه: "ذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمى والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير3. فهو يرى أن المعاني ممتدة واسعة بعكس الألفاظ، فإنها محصورة محدودة، يقول: المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدَّة إلى غير نهاية 3". وبين أن البلاغة والجمال، إنما يرجعان إلى اللفظ، لأن المعنى الشريف قد يؤدي باللفظ الرديء يقول: "ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط لأن الرديء، من اللفظ، يقوم مقام الجيد منها في الأفهام4".

_ 1 هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني المتوفي سنة 255 هـ. 2 الحيوان: الجاحظ جـ 3 ص 40 تحقيق عبد السلام هارون. 3 البيان والتبيين جـ 1 ص 43 تحقيق محب الدين الخطيب. 4 المرجع السابق ص 253.

والجاحظ في اتجاهه يفصل بين اللفظ والمعنى "وينظر إلى اللفظة والجملة 1 "، وهذا حديث المضمون والشكل، والمحتوى والصورة، وأن المعنى قد يكون واحدًا، ولكنه يعرض في صورة متعدَّدة وصياغات مختلفة، لأن الشأن في الصياغة والشعر ضرب من التصوير، ونطاق الصياغة والتصوير ضيق صعب، لا يلينان إلا لمن وهب القدرة والموهبة. بخلاف المعنى فهو ممتدّ ميسور يقع للغبي والذكي ويقصد الجاحظ بالصورة في حديثه الأسلوب والصياغة، وإحكام النسج في العبارات وتخير الالفاظ والأوزان، لأن الحديث عنده نبع من الهجوم على أبي عمرو الشيباني نصير المعنى، ونعى عليه اتجاهه، وأقرَّ بأن اللفظ هو مقياس الجمال وحدّه. وهذا الرأي ردَّده كثير ممن أتى بعده من أنصار اللفظ، الذين انتصروا له وأيدوا الصورة، بينما كان هناك من اهتمَّ بالمعنى بجوار اللفظ، وانتصر كل على حدّة، حتى جاء بعد ذلك من انتصر لهما معًا بدعوة النظم، ورأى أن الصورة إنما تسكون في النظم، لا في اللفظ المفرد، ولا في المعنى المفرد. موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية: كان ابن قتيبة من أنصار المعنى الذي شايعوه، ولم يعتبروا اللفظ إلا بشرف معناه، ولم يرفعوا الشكل إلا بنبل مغزاه، فلا قيمة للصورة عندهم إلا بشرف مضمونها، ولكنهم تفاوتوا في النظرة إلى درجة الجودة في اللفظ والمعنى، فمنهم من سوَّى بينهما في الشرق والجودة، ومنهم من رجح المعنى على اللفظ.

_ 1 أبو عثمان الجاحظ: د. عبد المنعم خفاجي ص 229 - طبعة أولى -0 المطبعة المحمدية بالقاهرة.

ويرى ابن قتيبة1 أن القصيد يعلو ويهبط، ويسمو ويقبح حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، ولكنه رجح جانب في الشعر على جانب اللفظ حينما قسمه على أربعة أضرب: أولًا: ضرب حسن لفظه وجاد معناه: ثانيًا: ضرب حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى. ثالثًا: ضرب جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه. رابعًا: ضرب تأخر معناه، وتأخر لفظه 2. ويظهر ترجيحه للمعنى حينما يفقد أبيات كثير المشهورة التي يقول فيها: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح وشدَّت على حدب المهاري رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطى الأباطح فهي عنده خالية من كل معنى مفيد، على أنه يجب بمثل قول أبي ذؤيب: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وذلك لتضمنه معنى أخلاقيًّا3، ومن هنا يظهر "باد$$ رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى4" وهذا الاتجاه يوضح عدم اعتداده بالصورة الأدبية إلا إذا صور الشاعر بها معنى لطيفًا ومغزى شريفًا، أما التي تحمل معنًى وسطًا أو ساقطًا - وإن اكتملت عناصرها وتلاءمت أجزاؤها، فلا تعدّ صورة عنده، ولا يقيم لها ورنًا كأبيات كثير السابقة، لأن الأساس عنده في الشعر هو شرف المضمون.

_ 1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة 276 هـ. 2 الشعر والشعراء: ص 7 وما يليها. 3 الشعر والشعراء: ابن قتيبة ص 10، 11. 4 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 130.

ابن طباطبا والصورة الادبية: ويؤيّد ابن طباطبا1 ما جاء به بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا أو أعدّ له ما يلبسه إيَّاه، من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت، يشاكل المعنى الذي يرومه، ابتدأ وعمل فكرة في شغل القوافي، بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت، يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات، وفق بيتها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلسكًا جامعًا لما اتشتت منها، ثم يتأمّل ما قد أدَّاه إليه طبعه، ونتجته فكرته، فيستقصى انتقاده، وبرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظه مستكرهة، لفظ سهلة نقية، وإذا اتفق له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد المعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار، الذي هو أحسن وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالمنساج الحاذق، الذي يفوق وشيه بأحسن التفويف ويسديه ... ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه، وكالنقاش الدقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم تنشئه، ويشبع كل صبغ منها، حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر، الذي يؤلّف بين النفيس منها، والثمين الرايق ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها، وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي والفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها2".

_ 1 هو محمد بن أحمد بن طباطبا المتوفي سنة 322 هـ. 2 عيار الشعر: ابن طباطبا ص 23 في القاهرة 1956 م.

وهذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية وهو ممتزج بالصورة الأدبية امتزاجًا كاملًا في العملية الشعرية، عندما ينقل الشاعر بموضوع ما ويعاقبه، فيعمد إلى نظمه في قصيدة، ويحضر المعاني، ويعيش معها في صراع داخلي، يعمل فيه العقل والوجدان والمشاعر، فإذا استوى لديه الشكل في ألفاظ تتلاءم معها، ثم اختار لها القالب الموسيقي الذي يتناسب معها قافية ووزنًا، شدَّ جزئيات القالب بألفاظ وصور على هذا النمط، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات يختار لكل معنى في أبيات القصيدة صورة أدبية، تتفق معه دلالة وإيقاعًا، فإذا فرغ من القصيدة عاودها مرة مرة، فإذا وجد هناك ثغرات ملأها في المعاودة والمراجعة، فيصل ما انقطع بين المعاني بمعنى مناسب، أو ما قدر بين الصور "الأبيات" بصورة تتآلف مع أخواتها، وكذلك الأمر في لفظة شاردة أو قافية قلقة، فيأخذ بيده هذه ويضع بالأخرى تلك. والشاعر في تصويره وتأليفه كالنساج الحاذق، الذي يحكم نسجه، ويصقل ثوبه وكالنقاش الذي يختار في نقشه أحسن الألوان، ويرتبها، يمزجها بالقدر اللازم، ويركز فيها حتى تخلب العيون، وكناظم الجواهر، الذي يؤلف بين حباته النفسية لتأخذ كل حبة مكانها الأصغر فالصغيرن فالكبير فالأكبر، وهكذا يصنع في نظم العقد وتنسيقه، والناقد الكبير يبين: أولًا: عملية التحضير للقصيدة بما فيها من إعداد المعنى الذي هو هنا أوسع نطاقًا من الفكرة والغرض والتجربة الشعرية، يدل عليه قوله "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه". ثانيًا: المعاني المجردة إنما تكون في الذهن "في فكر الشاعر نثرًا". ثالثًا: أن الشاعر وهو يعاني التجربة، يشكل أثناء ذلك عن المعاني صورًا شعرية متناثرة: "ويعدّ لها ما يلبسها إيَّاه من الألفاظ التي تطابقه".

رابعًا: أن العقل والفكر يتدخل في النهاية، ليؤلف بين الصور، التي تكون بيتًا يتفق مع المعنى" فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى، ابتدأ وأعمل فكرة في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني ... إلخ". خامسًا: أنه يربط بين اللفظ بإيقاعه ودلالته وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم وبه تتحقق الصورة الشعرية. "وأعدَّ له ما يلبسه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه". سادسًا: أن التجربة الشعرية في الذهن، التي تحسمها الصورة في الخارج، غامضة ومزلقة للشاعر، فيحتاج إلى معاودة الصور مرات ليستردّ ماند من الصور أو ما خفي منها، ويبرزها في مكان تتناسب فيه مع أخواتها في الخارج. "فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها ... إلى قوله وطلب لمعناه قافية تشاكله". سابعًا: والفقرة السابقة تؤكد التلاحم بين الصور والأبيات، فتشيع بيتها الوحدة ويسري فيها الترابط، وابن طبا طبا يشير إلى الوحدة في الصورة الأدبية في موطن آخر فيقول: "بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا وفصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معانٍ، وصواب تأليف. ... حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغًا، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نوعها 1" وهذه هي الوحدة الموضوعية بأدقّ معناها، كما يراها النقاد المعاصرون فهو يرى أن تكون الألفاظ في الصورة، والصور في البيت، والبيت في القصيدة، كلمة واحدة في تلاؤم النسج والحسن والفصاحة والجزالة وصواب التأليف، حتى لا يحدث ضعف في مبنى الصورة، ولا ثغرة فيها، ولا تتكلف في نسجها.

_ 1 عيار الشعر: ابن طباطبا ص 126، 127 ط القاهرة 1956.

ويؤكد هذه الوحدة في موطن آخر فيقول: - "وينبغي للشاعر أن يتأمَّل تأليف شعره وتنسيق أبياته ... فلا يباعد كلمة عن أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد مصراع كل يشاكل من قبله "1. على الشاعر أن يتأمل نظمه وتأليفه فيتجنب الحشو فيه، ولا يفصل بين الأخوات من الكلام بأجنبي، ويضع الصراع متلائمًا مع قرينه. ومن الخطأ أن تذهب كما ذهب بعض الدارسين إلى أن ابن طباطبا لا يهتم بالوحدة العامة في القصيدة أو في الصورة الكلية، وإنما يهتم بالوحدة في البيت الواحد، أو في الصورة الجزئية كما يقول د. غنيمي هلال3، لأن ابن طباطا ناقدنًا الجليل قد حدَّد الوحدة الموضوعية تحديدًا كاملًا. والذي أعنيه ويتصل بالبحث، هو موقف ابن طباطبا من الصورة الأدبية في الشعر ومدى إدراكه لها وكيف عالجها، ولا يضر هنا كثيرًا أنه عالجها في صورها الجزئية أو في البيت الواحد أو أنها ترتبط بالنظم والتأليف، أو كانت رافدًا قويًّا من روائد النصوح في النظم والصورة الأدبية كما عند الإمام عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك. ثامنًا: الذي يدل على أنه اهتم بالصياغة والتأليف وسلامة النظم، أنه جعل الشاعر كالتاج الحاذق والنقاش الماهر، وناظم الجواهر الدقيق، هنا يربط ابن طباطبا بين التصوير الأدبي، وبين فنون التصوير الأخرى المحسة من نسج ونقش وصوغ ليوضح أن هذه الصناعة من تلك، إذن بالصورة الأدبية عنده

_ 1 المرجع السابق ص 124. 2 النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ص 216.

كالنسج والنقش والصوغ، وبهذا المفهوم وتلك الموازنة تأثر عبد القاهر فيما بعد "ويكون كالنساج ... إلى قوله وكذلك الشاعر". تاسعًا: التلاؤم الشديد بين اللفظة واللفظة في الجزلة والدقة، وفي غرابة اللفظ وبداوته في الحضرية المولدة يقول: "إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي - الفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها" وكذلك قوله: "في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا، ونصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معانٍ وصواب تأليف". قدامة بن جعفر والصورة الأدبية: وممن أشار إلى الصورة الأدبية قدامة بن جعفر الذي اعترف بها عنصرًا من عناصر الشعر، وربطها بغيرها من العناصر الأخرى فهو يرى "أن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها فيما أحبَّها وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بد ليها من شيء موضوع يقل تأثير الصورة منها، مثل المحب للتجارة، والفضة للصباغة 1". وكلام قدامة أدخل في باب التصوير من رأى الجاحظ فيه، فقد جعل للشعر مادة وهي المعاني، وصورة وهي الصناعة اللفظية، وبالتجويد في الصياغة، يقول: "وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة أو الصنعة.... وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة أن يتوخَّى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة 2".

_ 1 نقد الشعر: قدامة بن جعفر ص 13 المتوفي سنة 337. 2 المرجع السابق.

ويضيف قدامة عنصرًا جديدًا في بيان مفهوم الصورة الشعرية، حيث يشبه صناعة الشعر بغيره من سائر الصناعات كالتجارة للخشب، والصياغة للفضة، فالجميع يعتمد على مادة وشكل، فالفضة مثلًا يتخذ منها أشكالًا مختلفة، وكل شكل يسمى صورة كالخاتم مثلًا، وكذلك الأمر في الشعر لأنه كسائر الصناعات يقول ابن سلام الجمحي عن الشعر "صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات"1. ويبيّن أيضًا فضل الصورة في العمل الأدبي، إذ بها تقاس قدرة الشاعر ومهارته في صناعة الشعر، فالقطعة من الخشب أو الفضة في ذاتها لا تفصل قطعة أخرى إلا بالصورة التي ظهرت فيها، وقد يتناولها الصانع في صورتين، فتظهر إحداهما ذميمة، والأخرى جميلة، مع أن المادة من الخشب أو الفضة واحدة فيها. وكذلك الشعر عند ابن جعفر، قد يتناول الشاعر موضوعًا واحدًا، يصوره تصويرًا حسنًا في مواطن، ويعرض إيَّاه في معرض قبيح في موطن آخر، ويدل هذا -مع اتحاد المادة- على قدرة الشاعر ونبوغه، التي ترجع إلى التصوير يقول في ذلك. "إن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا، ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا بينًا غير منكر عليه، ولا معيب من نعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها2". وفي مكان آخر ينتصر اللفظ والصورة، ويقدمها على المعنى والمادة، فيرى أن

_ 1 طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي المتوفي عام 332 هـ ص 3. 2 نقد الشعر: قدامة ابن جعفر ص 13، 14.

معيار الجمال يرجع إلى الشكل أكثر مما يرجع إلى المعنى، مما لا يستغنى عنه شاعر ولا خطيب ويذكر الخصائص التي تتصل به وتنبني عليه، وهي موسيقى الصورة التي ترجع إلى الشكل لا إلى المعنى كالترصيع والسجع. واعتدال الوزن وغيرها مما يتصل بالشكل ويرجع إلى بنائه يقول: "وأحسن البلاغة الترصيع والسجع، واتساق البناء، واعتدال الوزن، واشتقاق لفظ من لفظ، وعكس ما نظم من بناء وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة، وإيرادها موقورة بالتمام، وتصحيح المقابلة بمعانٍ متبادلة. وصحة التقسيم بإنفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفي الخلاف، والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف، وتكافؤ المعاني في المقابلة والتوازي، وإرداف اللواحق، وتمثيل المعاني ... فهذه المعاني مما يحتاج إليه في بلاغة المنطق، ولا يستغنى عن معرفتها شاعر ولا خطيب 1". والحديث هنا حديث الألفاظ والصياغة، والإيقاع والوزن وغيرها مما تعتمد عليه الصورة الأدبية من ترصيع وسجع، وتلاؤم وزن، وطباق واستعارة، وتقسيم ومقابلة وتكافؤ ومبالغة في الوصف، وتوازن وكناية، وغير ذلك مما يتصل بالشكل واللفظ اتصالًا مباشرًا لا بالمادة والمعنى. ومن هذا نعلم أن قدامة قد اعترف بالصورة الأدبية وعرف لها مكانها في العمل الأدبي ولم يجحد العناصر الأخرى المكونة مع الصورة للعمل الأدبي". ابن بشر الآمدي والصورة الأدبية: والآمدي2 في تحديده للنظم، والاهتمام به، وعنايته بالصورة الجزئية كمعاصرة القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني، ويتفق معه في جميع الوجوه التي ستأتي ولكن

_ 1 جواهر الألفاظ: قدامة بن جعفر ص 3: 8 ط القاهرة "1350 هـ - 1932 م". 2 هو الحسن بن بشر الآمدي المتوفي سنة 390 هـ.

معالم الصورة عنده زادت وضوحًا أكثر من القاضي، كما سيظهر من خلال اهتمامه باللفظ والمعنى "أي النظم" والصورة التي تقوم عليها معًا، وسنعرض اتجاهه على النحو التالي: أولًا: رجع الآمدي البحتري على أبي تمام في شعره، وذكر أدلة قوية تؤيّد اتجاهه حيث فرق فيها بين العلم والشعر، فلكل منهما طابعه وخصائصه فالشعر عنده غير العلم، والعلم حكمة وفلسفة، والشاعر مصور، وليس حكيمًا أو فيلسوفًا، والصورة الأدبية تكون من اللفظ والمعنى، في حسن تأنٍ، وقرب مأخذ، واختيار الوضع المناسب لكل لفظ، الذي يطابق المعنى في الاستعمال المعتاد، من غير كلفة ولا صنعة، مع اللياقة في الاستعارة والتمثيل للمعنى، حتى لا يقع بينهما تأثر، وبذلك يكتسي النظم رونقًا وبهاء، وهذا هو الأصل في بلاغة الصورة، من إصابة المعنى بألفاظ سهلة بعيدة عن التكلف، لا تزيد عن الغرض، فإن اتفق للنظم معنى لطيف، زاد من روعته، وإلا - فالصورة غنية في نفسها ودلالاتها يقول وليس الشعر عند أهل العلم به، إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يُورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير مغافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسى بالبهاء والرونق، إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة للبحتري.... والبلاغة إنما هي إصابة المبنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف لا تبلغ الهذر الزائد، على قدر الحاجة ... فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك رائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه.... قالوا:

وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يستمدّ دقيق المعاني من فلسفة اليونان، وحكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر مما يُورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة، ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سمعناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا"1. ويلتقي الآمدي مع القاضي في النص السابق، في أن جلال الصورة وجمالها لا يرتبط بفخامة اللفظ، ومهارة الصنعة، وكثرة ألوان البيان والبديع. ثانيًا: يدرك الآمدي الجمال في اللغة، وسحره في الصورة، فيجعل اللغة غاية في ذاتها ولو مجردة عن حكمة أو فلسفة، فهي كفيلة في ذاتها بالروعة والجمال، لأن الغرض منها إصابة المعنى، وإدراك الهدف، لا أن يحمل الشاعر لغته ما لا تطيق، وهو متأثر في هذا يقول البحتري: والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه يقول الآمدي: "وإن اتفق له معنى لطيف، زاد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق قد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه" 2. ويرى د. مندور أن الآمدي اهتدى بهذا إلى أن اللغة ليست وسيلة، ولكنها غاية لأنها تتضمن عناصر التصوير والموسيقى: "ويكون من حسن الذوق، وسلامة الحس بحيث يقيم للنسب الدقيق بين اللغة كوسيلة، واللغة كغاية في

_ 1 الموازنة: للآمدي، ص 173 وما بعدها. 2 المرجع السابق: الآمدي.

الأدب فلا يسرف في اعتبارها وسيلة لأنه يحرم نفسه بذلك من عناصر هامة في التأثير، عناصر التصوير، وعناصر الموسيقى" 1. "الجلال الحق في حسن التأليف، وبراعة اللفظ، ومهما يرتفع المعنى حتى يبدو غريبًا، وذلك مثل شعر البحتري، الذي هو عكس أبي تمام في شعره يقول: "وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورديء اللفظ، يذهب طلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميهنّ حتى يحتاج مستمعه إلى تأمّل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره، وحسن التأليف وبراعة اللفظ، يزيد المعنى المشكوف بهاء وحسنًا ورونقًا حتى كأنه أحدث فيه غرابة لم تكن وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري، ولذلك قال الناس لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام" 2: رابعًا: ويرفع من جانب التصوير في الشعر، ويفضله على المعنى اللطيف، فلا جمال للصياغة الرديئة، وإن تضمنت معنًى نادرًا، أو مغزى لطيفًا، بل لا بد أن يكون المعنى اللطيف نتاج الصورة نفسها جاء من غير قصد ابتداء، وعلى ذلك فالشعر للشعر لا للعلم، وللعلم مجال آخر. ويشبه الآمدي المعنى اللطيف في نسج رديء بالطراز الجيد على الثوب المتهتك، أو كرائحة الطيب على وجه جارية قبيح. يقول: "وإذا كان لطيف المعاني في غير غرابة، ولا سبك جيد، ولا لفظ حسن، كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق، أو نفث العبير على خدّ الجارية القبيحة الوجه" ويقول: "فقيمة التأليف في الشعر وكل صناعة هي أقوى دعائمه، بعد

_ 1 النقد المنهجي عند العرب. د. محمد مندور ص 120. 2 الموازنة: الآمدي.

صحة المعنى، وكلما كان أصبح تأليفًا كان أقوم بتلك الصناعة مما اضطرب تأليفه". ويؤكد النص الأخير عنايته التامة بالتأليف والنظم، كالشأن في كل صناعة تتألف من مادة وصورة، فقيمة التأليف له المنزلة الأولى ما دام المعنى صحيحًا، وأما اضطراب التأليف فلا مدخل له في الشعر، كالشأن في سوء التشكيل لمادة من المواد المعدنية وغيرها. خامسًا: ويكاد الآمدي يبلغ الغاية في توضيح الصورة التي فضل بها البحتري أستاذه أبا تمام وهو يتحدث في باب العلاقة بين اللفظ والمعنى، فقد فسَّر التأليف وهو النظم في الصورة، حينما عقد موازنة بين صناعة الشعر وبين غيرها من الأشياء في سائر للصناعات الأخرى، فيبنى الشعر الجيد المحكم وكذا الصناعات الأخرى، على دعائم أربع: أولًا: جودة الآلة. ثانيًا: إصابة الغرض. ثالثًا: صحة التأليف. رابعًا: بلوغ الغاية في التأليف بدون نقصان لولا زيادة. وكذلك الأمر في كل محدث مصنوع في الخلق والإيجاد، يحتاج إلى أربعة أشياء: أولًا: علة هيولانية، وهي الأصل. ثانيًا: علة تصويرية.

ثالثًا: علة فاعلة. رابعًا: علة تمامية1. وعلى هذا تقابل الآلة الأصل "الهيولانية"، وإصابة الغرض: وهو التأليف والنظم يساوي العلة الصورية، وصحة التأليف، وهي استقامة الفكر الناتجة من التأليف تساوي العلة الفاعلة. ووفاء الجودة وتمام الصنعة: يقابل العلة التمامية والمقابلة الأخيرة هي التي أراد بها الآمدي البلاغة في الصورة في قوله السابق: "فالبلاغة: إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة.... إلخ ". يقول الآمدي في الموازنة التي عقدها بين صناعة الشعر وغيره من الصناعات الأخرى "زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء: جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة، من غير نقص فيها، ولا زيادة عليها، وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات. ذكرت الأوائل أن كل محدث مصنوع محتاج إلى أربعة اشياء، علة هيولانية وهي الأصل وعلة صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية. وأما الهيولي فإنهم يمنون الطينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى، ويخترعها ليصور ما يشار تصويره من رجل أو فرس أو غيرهما من الحيوان، أو برة أو كريمة من أنواع النبات. والعلة الفاعلة. هي تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة، والعلة التمامية هي أن ينميها تعالى ذكره، ويفرغ من تصويرها

_ 1 يرى الدكتور محمد مندور آن الأمدي ذكر العلة التمامية بدل الغائية، ليستقيم له المعنى في الشعر، وتفيد كمال الصنعة والجودة فيه، لا الغائية، وقال الدكتور أن الآمدي، لم يستطع فهم هذه العلة "النقد المنهجي عند العرب د. مندور ص 130 ".

من غير انتقاص منها وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علمه الله -عز وجل- إيَّاها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة. وهي آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار ... وألفاظ الشاعر والخطيب وهي العلة الهيولانية، التي قدموا ذكرها وجعلوها الأصل، ثم إصابة للغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته، من غير نقص منها ولا زيادة عليها، وهي العلة التمامية فهذا قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنًى لطيفًا مستنريًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض فذلك رائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها". وهكذا يوضح الآمدي، ما يعتمد عليه الشعر وغيره من سائر الصناعات والصور التي يسببها الشعر في التركيب والبناء، وينص أيضًا على الصورة الشعرية نصًّا واضحًا، ولا يكتفي بالنظم والتأليف والصياغة كالسابقين، الذين اكتفوا بمجرَّد الذكر أو بإشارات مهمة وهم يقصدون الصورة، ولكنه قطع شوطًا في توضيح الصورة وذكر معالمها لمرحلة نامية دافعة في أطوار مفهومها. فاقترن الشعر عنده -كصناعة- بسائر الفنون والصناعات، وتناول الصورة -باستقامة ذوقه ودقة فهمه، وحددها بحدود ينبغي مراعاتها في التصوير، ومن أخلَّ بشيء منها اختلت هي كذلك، وهذه الحدود هي: 1 حسن التأتي وقرب المأخذ في اللفظ والمعنى. 2 انتقاء الألفاظ، واختيار الكلام الجيد الحسن.

3- وضع الألفاظ في مكانها، وهذا ما يسمى حديثًا، بالوحدة في الصورة والملاءمة بين أجزائها. 4- ألا يحمل اللفظ أكثر من معناه بالتكلف والتصنع، وهو ما يسمى حديثًا بالخروج عن التصوير الدقيق الواقعي. 5- الترابط التام بين الصور الجزئية بعضها مع بعض، وبينها وبين المعنى المصور من غير تنافر "وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة ... إلخ " وكما سيأتي في بيت أبي تمام "ملطومة بالورد.... إلخ". 6- قوة العاطفة في الصورة لتعلق في القلوب وتتداخل في النفس من غير تريث، وهذه هي البلاغة في الصورة التي يقصدها الآمدي من قوله: "والبلاغة إنما هي إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة". 7- الشعر غير العلم فالأول عماده العاطفة والشعور، والثاني عماده العقل والفكر وهو نفسه الفرق بين الشاعر والعالم. 8- حسن التأليف، وتنسيق النظم، وتلاؤم الصياغة، يكشف عن المعنى في وضوح وروعة، وكذلك الأمر بالعكس فاضطراب النظم وفساد الصورة، يعقد المعنى، ويزداد به غموضًا. 9- العبرة في الشعر بالصورة، لأنها هي التي تنقل ما في النفس، من خواطر ومشاعر بصدق ودقة، وتبرزه للغير، فلو كانت رديئة التأليف، مضطربة التنسيق، ولو اشتملت على نادرة أو حكمة فإنها تسقط في الاستعمال وتقبح في مرأى العين وتضعف في تأثيرها على النفس. "كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق. 10- الشعر صناعة وتصوير كسائر الحرف والصناعات، والجميع تشكيل وتجسيد للعواد وتصوير لها.

سادسًا: وفي مجال التطبيق لفهمه الواعي للصورة نذكر شاهدًا ومثلًا واحدًا، لبيان مدى إدراكه لمفهومهما أولًا. وذوقه الأدبي في فهمه للصور الشعرية ثانيًا. فيقول في نقد صورة أبي تمام، القائل فيها: بيضاء تسري في الظلام فيكتسى ... تورًا وتبدو في الضياء فيظلم ملطومة بالورد أطلق طرفها ... في الخلق فهي مع المنون محكم وقوله ملطومة بالخدّ يريد حمرة خدّها، فلو لم يقل مصفوعة بالقار؟ يريد سواد شعرها، ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها، ومضروبة بالقطن يريد بياضها، إن هذا الأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه وأوسخه، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، ولكن بوجه حسن، قال النابغة "مقذوفة بدخيس اللحم" يريد أنها قذفت بالشحم، أي كأنه رمي على جسمها رميًا، وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نواس: "وتلطم الورد بعضاب" وهذه كانت تلطم في الحقيقة في ماتم، على ميت بأنامل مخضوبة الأطراف، فجعلها عنابًا تلطم به وردًا، فأتى بالظرف كله، والحسن أجمعه والتشبيه على حقيقته، وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه والحمق بأضره، والخطأ بعينه" 1. وفي نقده لصورة أبي تمام، يتجلَّى فهمه للصورة الأدبية، لأنه يكشف بذوقه الأدبي الرفيع عن وجه الخطأ فيها، وأن على الشاعر تجنّب مثل هذه الأخطاء حتى تصح له الصورة، وتعلم جودتها، وأن لكل لفظ له معنى، وكل فكرة تخضع لصورة تتناسب معها، فالمقام في بيتي الشاعر هو مقام المدح، والمعنى الذي كسته

_ 1 الموازنة: الآمدي ص 173.

الصورة في الأبيات هو سحر جمال المرأة، الذي يصعق المقيم كالموت. وعلى ذلك فلا محلّ في صورة المدح للنظم، الذي يتأدَّى به السمع، فهو يفسد التلاؤم فيها ويذهب انسجام أجزائها. فالشاعر لم يضع الألفاظ في مواضعها، ولم يورد للمعنى باللفظ المعتاد فيه ووقع تنافر في المعنى بين طرفي الاستعارة، وغير ذلك مما سبق ذكره، مما جعل الآمدي بتهكم بالشاعر، ويرميه بالحمق والجهل والخطأ، كما هو واضح من النص السابق ويرى ايضًا أن التقليد الأعمى في الصورة ذهب برونقها وصحتها، ويطمس معالم الأصالة فيها، وقد يجعل المقلد الغرض الذي كسته الصورة. فأبو تمام لم يستعمل اللطم في مكانه المناسب في نظم الصورة، مقلدًا النابغة الذي أحسن أداءه في التصوير، حيث قال: "مقدومة بدخيس الشحم" وهي على نصيب موفور من الجودة والحسن، لأن القذف بالشحم معناه: أنه رمى على جسمها رميًا وهو مصيب في حكمها هذا الذي يدلّ على سلامة ذوقه في فهم الصور، وإصابته في الحكم عليها. فصورة النابغة بلغت غاية الجمال على عكس صورة أبي تمام، فقد أحسن الشاعر الجاهلي التعبير بالقذف لغزارة الشحم المتزايد في تتابع كسرعة القذف والرمي واختيار لفظ "القذف" هنا لا بديل عنه، لأن كثرة الشحم وغزارته، كما هو مفهوم من لفظ "دخيس" ينقص من جمال المرأة، ويودي برشاقتها ويسوي النتوء في جسدها، فلا يكون لها ردف وخاصرة، ولا ثدي ظاهر، وتقاطيع بارزة، مما يزيد من جمال المرأة وفتنة جسدها، ولكن التي طغى عليها الشحم، تستحق، لإهمالها نفسها - ألفاظ السباب والشتم، وهو ما اختاره النابغة في

صورته، حيث قال: "مقذوفة" و"دخيس" أظن أن ليس هناك صورة أروع من هذه الصورة، وخاصة وقد وقعت لشاعر جاهلي. ولكن أبا تمام على الرغم من إيغاله في حضارة الدولة الإسلامية وفي عصورها الذهبية أساء التقليد والفهم معًا لموطن الكلمة السابقة في صورته، وقد نقده الآمدي نقدًا لاذعًا. وتعقب الناقد صورة أبي تمام ليكشف عن عيبها، ويفضح عجزه فيها، ويبين فهمه الخاطئ لصورة أبي نواس، وهي "وتلطلم الورد بعناب" فلم يفهم الفرق بين المقامين، فمقام صورة أبي نواس يقتضي هذا، لأن المرأة التي صورها كانت في الحقيقة كذلك، تلطم في مأتم خدها الأحمر بأصابعها المخضبة كالخضاب. وصحيح أن أبا تمام أساء الفهم والتقليد لصورة ابي نواس، التي تطابق واقع المرأة اللاطمة، وهو ما ذهب إليه الآمدي. ولكن الذي قصر فيه الناقد أن الغرض في صورة أبي نواس هو الحزن والبكاء، ولا يتلاءم معه ذكر الورد والعناب بجوار اللطم فيها، ولذلك نرى أن صورتي أبي تمام وأبي نواس دون صورة النابغة بكثير. وبهذا يكون الناقد قد حقق كثيرًا في مفهوم الصورة الأدبية وفي إيضاح بعض معالمها ليمثل مرحلة هامة من مراحل نضوجها وتمامها في النقد القديم، وذلك في جانبيها النظري والعملي التطبيقي.

القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني: ويقفز القاضي 1 خطوات إلى الأمام بالصورة الأدبية فتزداد وضوحًا وعمقًا وتشيع في مفهومها ألوان جديدة فوق ما سبق. أولًا: يرى أن ليس من الضروري في كل نظم أو تأليف أن يكون فيه تصوير أدبي، يشير النفوس بسحره، ويهز الأعطاف بجماله، يقول في فصل "ما عيب على أبي الطيب من معانيه وألفاظه3". وأنا أعدل إلى ذكر ما رأيتك تفكر من معانيه وألفاظه، وتعيب من مذاهبه وأغراضه، وتحيل في ذلك الإنكار على حجة أو شبهة، وتعتمد فيما تعيبه على بينة أو تهمة، إذ كان ما قدمت حكاية عنك، وما عددته من مطاعنك، وأثبته من الأبيات التي أسقطتها وملَّت على هذا الرجل لأجلها من باب ما يمتحن بالطبع لا بالفكرة". ثانيًا: يوضح النظم الساقط الذي لا يرقى إلى مستوى التصوير الأدبي، والجمال الفني، من التأليف الذي به جهامة تعافها النفس، وكزازة تنفر منه، ويصبح خاليًا من بهاء ورنقه وحلاوة ومنظره، وعذوبة وقعه، وجمال نثره ورشاقة عرضه، متعسف الديباجة متعمل الطلاوة أفسده التصنع، وأخفى التعقيد معناه، فالنظم الذي يكون بهذه الطريقة يصير قلقًا متكلفًا، والصورة التي تتسم بهذه الصفات تكون متعسفة منحوتة، لا حياة فيها ولا روح، وقد حشيت بالتزويق والتجنيس، والترصيع والمطابقة، والبديع والغموض واختلاف الترتيب واضطراب

_ 1 صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه المتوفي سنة 392 هـ. 2 الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني ص 310 وما بعدها - ط صبيح.

النظم، وقد وصف مندور، هذا اللون الذي لا يستقيم من النظم عند القاضي بقوله: "ظاهر شكلي تخطيطي سقيم وهو يصدر عن البديع 1". يقول القاضي في بيان ذلك: "والقسم الذي لاحظ فيه للمحاجة، ولا طريق له إلى المحاكمة، وإنما أقصي ما عند عائبه، وأكثر ما يمكن معارضه أن يقول: فيه جهامة سلبته القبول، وكزازة نفرت عنه النفوس، وهو خال من بهاء الرونق وحلاوة المنظر وعذوبة المسمع، ودمائه النثر، ورشاقة العرض، وقد حمل التعسف على ديباجته واحتكم التعمل في طلاوته، وخالف التكلف بين أطرافه، وظهرت فحاجة التصنع في أعطافه، واستهلك التعقيد معناه، وقيد التنوص مراده ... ثم كان همه وبغيته أن يجد لفظًا مزوقًا، قد حشي تجنيسًا وترصيعًا وشحن مطابقة وبديعًا، أو معنى غامضًا ... ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف، وهلهلة النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها 3". ثالثًا: ويقرّر القاضي الجرجاني من معالم الكمال في الصورة، أن تكون مهمة اللفظ فيها ليست للكشف عن المعنى فحسب بل لا بد أن يصير حلوًا رشيقًا، أحظى في القلب، وأوقع في النفس "ولا يرى اللفظ إلا ما أدَّى إليه المعنى" ولكنه "أحلى وأرشق، وأحظى وأوقع2 " والكلام فيها لا يصور الغرض فقط، ولكن ينبغي أن يكون ذا وقع قوي، يشتقّ الآذان ويستولى على القلوب، كما تشدّ مناظر الطبيعة الفاتقة إليها النواظر، فلا ترى غير الجمال فيها، يقول: "ولا الكلام إلا ما صور له الغرض" إنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار 4".

_ 1 الفقد المنهجي عند العرب: د. محمد مندور ص 285. 2 الوساطة للقاضي الجرجاني ص 310 وما بعدها. 3 المرجع السابق. 4 المرجع السابق.

وليس الحسن مقصورًا على البديع، ولا الرونق للتصنيع فحسب ولكن لا بد من التهذيب فيهما، والتثقيف لهما، والترشيح لمنطقها يقول: "ولا الحسن إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع" ولكن لا بد أن "نجد منه الحكم الوثيق، والجزل القوي، والمصنع المحكك، والمنطق الموشح، قد ذهب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف 1". هذه هي الصورة الحقة عند القاضي، وذلك هو النظم القوي الموحي، والتأليف الرائق الخلاب، وبه يفوق بين الشعر المطبوع والمصنوع، ثم يقول: إن هذا الحسن في النظم والجمال في تصويره والمعنى لا نهاية له "ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاءه، واتسع حجمها، للاستيفاء له، لاسترسلت فيه ولأشرفت بك على معظمه 2 ". رابعًا: ليس من الضروري في كل نظم أن تكون ألفاظه رصيفة جزلة، ولا أجزاء الصورة قوية تخمة تشتمل على استقصاء ألوان البديع، واستقطاب جموع التصنيع لتستكمل شروط الإحسان، وتستوفي كل كمال، ليس من اللازم هذا كله في الصورة الأدبية، فقد يلج الشاعر المصور، والعبقري البارع صورة لا تستوفي أسباب الكمال للمسابقة، فألفاظها سهلة التناول، مألوفة الأخذ، لا تشتمل على حشد من الاستعارات، وقلما تجد فيها بديعًا، أو اتفاقا في الصنعة، ولكن الشاعر يبثها سره، وينفث فيها من سحره، ويبعث فيها الجلال الذي هو أسمى من الجمال، وهنا يعجز الإنسان عن إدراك كل أسبابه، وإن أدرك البعض فقد لا يعرف له سببًا، لا يستطيع أن يستوفي موارد السحر الحلال، ولا يتمكن من نفسه إلا شيء واحد، وهو أثر الصورة فيها، وعلوقها بقلبه كالنور الذي يبهر

_ 1 المرجع السابق. 2 المرجع السابق.

البصر. ويهدي البشر، ولا يعرف الإنسان أسراره وتركيبه، مع وضوحه وشيوعه وألفته. وما أشبه الصورتين السابقتين بصورة رجلين، أحدهما اكتملت فيه الأعضاء وأوفت أجزاؤها على الغاية في التمام، واتسقت مقاطعة، وأصبح كل عضو فيه على حدة غاية الجمال، وثانيهما صورة رجل دون السابقة في كمال الأعضاء وتمام الأجزاء ولكنها في حسن موقع كل عضو منها وانسجام الأجزاء فيها، قد تكون أقوى من الأولى وأحظى بالحلاوة، ولا يدري المأخوذ بفتنتها لذلك سببًا، ثم يشير أخيرًا إلى صدق العاطفة في الصورة وقوتها حيث تلقي موقعها من القلب وتسرع إلى النفس، وهو عنصر هام في نجاح الصورة الشعرية. يقول القاضي الجرجاني: "وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال وتقف بالتمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها، وفي انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناسب الأجزاء وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلبن ثم لا تسلم، - وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سببًا، ولما خصَّت به مقتضيًا، ولو قيل لك كيف صارت هذه الصورة، وهي مقصرة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصبغة، وفيما يجتمع أوصاف الكمال، وينتظم أسباب الاختيار أحلى وأرشق وأحظى وأوقع، لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورددت ردّ المستهجم الجاهل، ولكن أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك، أن تقول موقعة في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق ... كذلك الكلام منثورة ومنظومة، ومجمله ومفصله تحد منه المحكم الوثيق، والجزل القوي والمصنع المحكك،

والمنطق المرشح قد هذب كل التهذيب وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى أضحى ببراءته عن المعايب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك نجوة"1. ثم يضرب صورة للمصنوع المثقل بالألفاظ، والبدائع، من البيان، بشتى ألوانها، ويضرب صورة أخرى لما هو دون ذلك في الاهتمام، من لفظ سهل قريب المأخذ، ونظم خالٍ من الصنعة، يكاد يخلو من البيان والبديع، ومع ذلك لا تجد الصورة الأولى طريقها إلى القلب، وتجد الثانية في سحر وبراعة، وتستريح إليها النفس، وتغتريها من الغنوة والطرب، ما يجعلها للثانية، وتقتر من الأولى وتضعف، يقول القاضيك "وقد تنزل أبو تمام فقال: دعنى وشرب الهوى يا شارب الكاسي ... فإنني للذي حسيته حاسي لا يوحشنك استسجت من سقمي ... فإن منزله من أحسن الناس من قطع أوصاله توصيل مهلكتي ... وصل ألحاظه تقطيع أنفاسي متى أعيش بتأمل الرجاء إذا ... ما كان قطع رجائي في يدي باسي فلم يخل بيت منها، من معنى بديع، وصفة لطيفة، طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة من المختار من غزله -وحق لها- فقد جمعت على قصرها فنونًا في الحسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة، والقوة ما تراه ولكن ما أظنك، تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب: أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار تمتَّع من شميم عرار نجد ... فما بعد العنية من عرار

_ 1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص 37.

ألا حبذا نفحات نجد ... وريا روضة غب القطار وعيثك إذ يحل القوم نجدا ... وأنت على زمانك غير زاد شهور يقتضين وما شعرنا ... بإنصاف لهن ولا سرار فأما ليلهن فخير ليل ... واقصر ما يكون من النهار فهو كما تراه بعيد عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التنايل 1. خامسًا: وبهذا الفهم الواعي للصورة الأدبية يسبق القاضي الزمن، ويفرق بين الجمال والجلال فيها2، فالجمال موضوعي، يستطيع للفنون بروعته أن يقف على أسبابه، ويحدّد بعض عناصره، ويدرك خصائصه فيها، ويتعرّف على مصادره في انتقاء الألفاظ، وسحر الكلمات، وإحكام التراكيب، وانسجام أجزاء النظم ومناسبة الوزن والقافية للمعنى، وسمو الخيال، وروعة التشبيهات، وحيوية الاستعارات، ووحى الكنايات، إلى غير ذلك من زهرات الرياض المتفتحة، ولا يحتاج في التعرف عليه من الناقد إلا ذوقه المستقيم، وإحساسه الصادق، ونفاذ البصيرة وحذق اللغة والإيمان بالفن الجميل. وأما الجلال وهو فوق الجمال وغايته التي يسمو بها إلى مرحلة الإعجاز، ولم يكن ذلك ولن يكون إلا في "القرآن الكريم" المتفرد بالإعجاز، وسمو البيان.

_ 1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص 37: 39 ط صبيح. 2 يرى الدكتور محمد نايل أن القاضي الجرجاني سبق النقاد المحدثين في التفرقة بين الجمال والحلاوة في كتابه اتجاهات وآراء في النقد الحديث ص 23 مطبعة العاصمة.

والجلال لا يعرف الناقد البصر كل وسائله، وجميع مصادره، وليس في طاقته القدرة على كشف دلائل ومعامله، وإن انتهى إلى البعض فيمظل حائرًا إلى الأبد، عن البعض الآخرن وينتهى في حيرة إلى القول، بأن الجلال في الصورة الأدبية، أو في نفسه، أو فيها معًا، وهنا يعجز العقل الذي يبرهن ويدلّل، ويترك للإحساس، والوجدان مملكته وسلطانه، فالقفل لوضوحه وتحديه له مجاله وله غاية ونهاية غالبًا، أما الإحساس والشعور لغموضه، فلا غاية له ولا نهاية فهو يدرك ما وراء الظاهر، ويحس وحده بالجمال المطلق، الذي هو في ذاته مصدر الجمال، وهو ما يقصده القاضي بالجلال في قول الأعرابي السابق: "لا نعلم - وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت بهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا..... إلى قوله: وهو بالطبع أليق". سادسًا: ويتعرض للصورة الأدبية في دفاعه عن المتنبي حين يقول: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه ويردّ القاضي العيب الذي وجَّهه النقاد إلى هذه الصورة، حيث إن المشبه به وهو "وقوف الشحيح" الذي ضاع في الترب خاتمه، لا يوفي بالغرض في المشبه لأن الاستمرار في الوقوف على أطلال الحبيب، وترديد ذكريات الصبابة والعشق، فهذا يحتاج إلى وقت طويل يغيب فيه المحب عن الوجود، بينما البخيل لحرصه وشراهته فهو يجيد البحث عن خاتمة، ليحصل عليه بسرعة ولكن القاضي يصحح هذا الخطأ الذي ظنه النقاد عيبًا. في صورة المتنبي السابقة فيقول: "إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة فإذا كان الشاعر وهو يريد إطالة وقوه قد قال: إني أقف وقوف شحيح صناع.

خاتمه فإنه لم يرد للتسوية بين الوقولين في القدر والزمان والصورة، وإنما يريد: لأقفن وقوفًا زائدًا على القدر المعتاد، خارجًا عن حدِّ الاعتدال، كما أن وقوف الشحيح يزيد على ما سعرف في أمثالهن وما جرت به العادة في أضرابه". والقاضي يرى أن الصورة لا عيب فيها، لأن الشاعر يقصد في تصوره وقوف المحب وغيبوبته في ذكريات الحبيب، واقفًا في جنبات الأطلال، إنه وقوفه خارج عن المألوف، وكذلك الشأن في وقوف الشحيح في هذه الصورة، فهو يخرج عن عادة الناس، وإن أشار إلى الصورة بسرعة، ولم يقف عندها كثيرًا على عادة النقادة في عصره. وأنا مع القاضي في هذا، بل إن المتنبي أحكم صوره الصبّ، وأتقنها غاية الإتقان لأن البخيل يفني كله في سبيل جمع الأموال، وتراه في حرصه يبحث عنه كالمجنون ويقوم بحركات غريبة وتصرفات، متتابعة، ويقلب اليدين ويحرك الرجلين ويتابع النظرات ويستقصى كل جزئية حوله، ويعاود ويطاول ويجاهد من غير ملل ولا سأم ويصرعلى ذلك حتى يجد بغيته، وينال طلبته. وكذلك الشأن في المحب المقيم، حيثما يقف بطلل حبيبه، ومنازل ذكرياته الخوالي مشدوها مأخوذًا، غائبًا عن نفسه وعن الوجود كله، إلا في هذه الذكريات ومع تلك المنازل والأطلال. أبو هلال العسكري والصورة الأدبية: يتعصَّب أبو هلال للفظ، ويتعقَّب خطوات الجاحظ فيه، فينقل عباراته. كاملة في تفضيل الصياغة، وإنها موطن الجمال وحده فيقول:

_ 1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص 324.

وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته: وحسنه، وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف" 1. تحديثه عن اللفظ وطلاوته، والسبك والتركيب، والنظم والتأليف، إنما يرجع غالبًا إلى التصوير، الذي لا يتمّ إلا بهذه الأمور، وبه يتحقَّق الجمال في العمل الأدبي فلولا الشكل لما تميَّز شاعر عن آخر، واتَّصف بالحذق والمهارة، حتى لو كان المعنى الذي يصوره وسطًا، فإنه يدخل في جملة الرائع من القول، لحسن عرضه، وحذق صناعته، وحلاوة لفظه وعذوبته وسلاسته. وهذا كله يدفع الخطيب والشاعر إلى المبالغة في التجويد والتصوير، ولو كان الأمر يرجع إلى المعنى لوفرا على أنفسهما تعبًا طويلًا 2. وعدَّ أبو هلال قول الشاعر كثير عزة من الرائع النادر، مع بساطة معناه ودنوّ مادته، وإنما حظى بالجمال، بجودة صوغة، وروعة تصويره، قال كثير: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح إلى آخر الأبيات الثلاثة المشهورة، يقول أبو هلال معقبًا عليها: "وليس في هذه الألفاظ كثير معنى، وهي رائقة معجبة" 3. وإن كان اهتمامه بالشكل واللفظ لا ينسيه المضمون والمعنى، فالشاعر يحتاج إلى شرف المعنى والإصابة نيَّة، كاحتياجه إلى الحسن في الصياغة، ونسج الألفاظ.

_ 1 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص 57، 58 "المتوفى عام 395". 2 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص 57، 58. 3 المرجع السابق ص 59.

والمعاني كالأبدان والصورة كالثوب الذي يلف البدن، ويكسوه وقارًا ونبلًا، يقول أبو هلال: "الكلام ألفاظ تشتمل على معانٍ تدل عليها، ويعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى، ولأن المعاني تحلّ من الكلام محلّ الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة" 1. وهكذا ترى أبا هلال العسكري يعوق للعمل الأدبي عناصره المكونة له كما فعل قدامة ويرفع مع ذلك من شأن اللفظ والصياغة كما فعل الجاحظ. واتجاه أبي هلال يجعله دون الجاحظ وقدامة في فهمه لصورة المعنى، فقد عدَّ الصورة كالكسوة، التي هي منفصلة عن البدن، ومستقلة عنه، فأصبح اللفظ عنده أجوف مجردًا من كل معنى وروح، ويجرّد اللفظ من القوة والحيوية. وهذا يدل على عدم أصالته، على عكس الجاحظ وقدامة، اللذين أعطيا الصياغة والتصوير نوعًا من الحيوية، من غير فصل يفقد الروح في اللفظ، فصورة الخشب ليست منفصلة عن مادته انفصال الثوب عن البدن، كما هو واضح في اتجاه العسكري الذي أوقفه في التقليد والخطأ، لأن العقل لا يتصور مطلقًا لفظًا من غير معنًى يرتبط به، وصنيع ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة هو صنيع أبي هلال نفسه 2.

_ 1 المرجع السابق ص 29. 2 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 259 وما بعدها. وسر الفصاحة: ابن سنان الخفاجي "466 هـ" ص 72، 82.

الباقلاني والصورة الأدبية: يربط الباقلاني 1 بين اللفظ والمعنى في الظاهر ولكنه في الحقيقة يفضل المعنى على اللفظ، لأن مقياس الجمال عنده: أن المعنى البارع، إذا جاء في لفظ بارع فهو أفضل من وقوع المعنى المألوف في لفظ بارع. ومثل هذا يلحقه بأنصار المعنى، وإن كان يرجع الفضل في إشارته إلى علاقة اللفظ بالمعنى، وإن لم يوضحها، ويعمق جوانبها، ويبين مدى الترابط التام بينهما لكن عبد القاهر الجرجاني أفاد منه كما أفاد من غيره. وعلى ذلك فمجال الصورة الأدبية لا يتحقق إلا في اللفظ البارع، الذي يحمل معنًى لطيفًا، يقول الباقلاني: "إن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتكرة، ولكن إذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب، من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر" 3. والعبارة الأخيرة تدل على عدم الدقة في فهمه لقضية النظم، لأن الألفاظ البارعة في المعنى تجعله شريفًا لطيفًا. ابن رشيق: والحسن بن رشيق 3 يذكر في باب "اللفظ والمعنى" آراء السابقين عليه بعد ذكر رأيه فيهما فيقول:

_ 1 صاحب إعجاز القرآن المتوفى 403 هـ. 2 إعجاز القرآن: الباقلاني ص 63. 3 هو أبو على الحسن بن رشيق القيرواني المتوفي عام 456 هـ - 1064 م.

"للناس فيما بعد آراء ومذاهب، منهم من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ووكده، وهم فرق: "أ" قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب، من غير تصنيع كقول بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضربة ... هتكنا حجاب الشمس أو قطوت دما إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذُرى منبر صلى علينا وسلما وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار ... ب وفوقه هي أصحاب جلبة وقمقمة بلا طائل إلا القليل النادر كأبي القاسم ابن هانئ، ومن جرى مجراه، فإنه يقول: أصاخت فقال وقع أجرد شيظم ... وشامت فقالت لمع أبيض مخذم وما ذعرت إلا لجرس حليها ... ولا رمقت إلا يرى في مخدم1 وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد. جـ- ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ، فعنى بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط، وهم يرون الغاية في قول أبي العتاهية: يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسروا الأكفان من عاجل ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل إلخ الأبيات. ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ، فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته. وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى" 2.

_ 1 أجرد شيظم: فرس قصير الشعر طويل الجسم، سيف قاطع، محل الخلخال. 2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 124 - 127 تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.

وليست هذه الآراء هنا محل مناقشة فقد توقشت قل ذلك، والذي يعنينا منذ هو اتجاه ابن رشيق: والآراء السابقة في النص تحدَّد اتجاهه عن طريق النفي والسلب، فهو يستعرض مذاهب العرب في اللفظ والمعنى، لينفيها عن "جهته"، ويبني رأيه على نقائضها، فيكون من أنصار اللفظ والمعنى معًا: "النظم". ويرى أن الصورة في الشعر أو للنظم، تقوم على العلاقة بين اللفظ والمعنى، فلا اللفظ ينهض بالصورة والجمال، ولا المعنى كذلك، كالإنسان الحي، فكلاهما يسقط بسقوط الآخرن ويسمو بسموه يقول: "اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته"1. ولو اختلَّ التركيب في الشعر بعض الخلل، واستقام المعنى، هوى ركن من أركانه لا يقوى إلا به، كالعرج والشلل الذي يغض من تمام الخلقة وكمال الجسم، ويظل صاحبه حيًّا يتحرك هنا وهناك، وكذلك الأمر في ضعف المعنى، ينال من جمال اللفظ، ويكون النظم أشبه بالجسم الأجوف الفارغ الذي لا روح فيه، يقول ابن رشيق: فإذا سلم المعنى واختلَّ بعض اللفظ، كان نقصًا للشعر، وهجنه علية، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح - وكذلك إن ضعف المعنى، واختلَّ بعضه، كان اللفظ من ذلك أوفر حظًّا، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح" 2. ويقرد ابن شيق أساسًا قويًّا، لم يسبق إليه، في فهمه للنظم، وتقديره للصورة

_ 1 المرجع السابق جـ 1 ص 124. 2 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 124.

الأدبية، وهو ما وضحه الإمام عبد القاهر، وانتهى إليه النقد الحديث في أحدث نظرياته مع أن الأول في المغرب والثاني في المشرق. حيث نرى أن الخلل في المعنى يحدث من خلل في النظم، ورهن في العلاقات بين الألفاظ، فالمفعول الأول على صحة المعنى يرجع إلى النظم، ووضع الألفاظ في مواضعها، والصورة الأدبية لا تبدو إلا في هذه العلاقات، وذلك الالتحام بين الشكل والمضمون، وهو ما سبق به ابن رشيق غيره، وإن كان في إيجاز. فالفساد في المعنى أو الضعف فيه، يرجع إلى اختلال اللفظ، والمقصود باللفظ عنده هنا هو النظم والتركيب، وإلا كيف يختل اللفظ الواحد؟ كما يقال ألقى الخطيب كلمة، والمعنى كلام، وإلا لما شبه اللفظ بالجسد، وليس هو عضوًا واحدًا، بل أعضاء اشتركت جميعًا في بناء هيكله العام، وهو ما يقصد ابن رشيق من اللفظ، بدليل أنه عبر عنه بعد ذلك بقوله: "وإن اختلَّ اللفظ جملة"، يقول في ذلك: ولا تجد معنى يختلّ إلا من جهة اللفظ، وجربه على غير الواجب، قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. ووضح نظريًّا ما وصل إليه فيرى أن اختلال المعنى يرجع إلى تفكّك عرى الألفاظ واختلال مواضعها، التي من شأنها أن تكون فيها، كانغلاق الدائرة الكهربائية، ينتج عنها النور والحياة، وانفصال جزئية واحدة منها يقطع التيار فيعم الظلام، وكذلك لو اختلفت قطعة صغيرة، عن مكانها في آلة "اتوماتيكية" فإنها تتوقف عن عملها، الذي بمنزلة الروح في الجسد، ولا يعلم الإنسان أين مكانها، فربما تكون الروح في الجسد نتيجة لتمام أجزائه، واتخاذ كل جزئية في مكانها، وبذلك تسري في الجسد، واختيار الأعضاء المناسبة.

وتنسيقها وترتيبها وانتظامها وعلاقة بعضها ببعض، سر من أسرار الله وأمر لا يعلمه إلا هو {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . وكذلك الأمر بالكس حين اختلاق الألفاظ يضعف المعنى ويسقط لأنه لا يعقل أن يكون في الحياة النافعة جسدًا بدون روح، ولا روحًا بدون جسد ألبته، يقول "فإن اختلَّ المعنى كله وفسد بقي اللفظ، مواتًا لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأس العين إلا أنه لا ينتفع به، ولا يقيد فائدة، وكذلك إن اختلّ اللفظ جملة، وتلاشى لم يصح له معنى لأنا لا نجد روحًا في غير جسم البتة 1. ولهذا يرى الناقد الأدبي، أن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية، في العلاقة التي تتم بين الألفاظ، وتكشف عن المعنى والمضمون المستقيم الصحيح. ويزداد تمسكًا بهذه الحقيقة النقدية الخالدة، وما انتهى إليه من جديد في فهم طبيعة اللغة والشعر حينما لم يقتنع بآراء السابقين من أنصار اللفظ مستقلًّا، وهم كثيرون وأنصار المعنى كذلك وإن كانوا قلة، وذكر رأيه أولًا، وطرح أقوالهم بقوله: "وللناس فيما بعدُ آراء ومذاهب". ثم يعقب على اتجاه ابن هاني، في عنايته بالجلبة والصخب في اللفظ، بدون كبير معنى، وينفي عنه الجودة وبرميه بالفساد يقول معقبًا: "وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد" وإن حكم له وبجودة هذا البيت حين يصف شجاعًا فيقول: لا يأكل السرجان شلو عقيرهم ... مما عليه من القنا المتكسر

_ 1 العمدة: ابن رشيق جـ 1 ص 125.

ليرى أن تنسيق الألفاظ فيه، واختيار الكلمات، ووضع كل كلمة في موضعها، جعل البيت جيدًا، وحقَّق ما يصبو إليه الشاعر، من المدح بالشجاعة، وذلك كله راجع إلى اختيار الألفاظ، وعلاقة بعضها ببعض، حتى انتهت الصورة الشعرية إلى الغاية في الجودة. ولو يدل الشاعر في النظم بتغيير بعض الألفاظ أو التقديم أو التأخير فيها، بأن كان الأعداء، هم كثير من قتل ممدوحه باليد؛ لكانت الصورة هجوًا له، وأنه ما ثبت في ساحة النضال لحظة، حتى قتل، ولكن الشاعر انتقى الكلمات، وأحكم النظم، ليحقق الغرض ويسمو بالمعنى، فأراد رياحًا لا رمحًا واحدًا - تتساقط عليه من كل جانب حتى كست جسده، وتعذر على الذئب أن ينهشه، فهو مصون في حياته ومماته، يقول ابن رشيق مع الإيجاز، الذي يوحي بما سبق: "والعقير ههنا منهم، أي: لم يمت لشجاعته، حتى تحطم عليه من الرماح -ما لا يصل معه الذئب إليه كثيرة، ولو كان العقير هو الذي مقرّره هم، لكان ليت هجوًا لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحدًا1. ولا يعتمد أيضًا برأي ابن وكيع الذي مثل المعنى بالصورة، واللفظ مثل، واللفظ حذو، والحذو يتبع المنال، فيتغير بتغيره، ويثبت بشانه"2. ولا يرضى عن قول العباس بن حسن العلوي في صفة البليع: "معاقبة قوالب ألفاظه" وغير ذلك من الآراء التي خالفها ليتميز رأيه ويتحدَّد اتجاهه وينفرد هو به.

_ 1 المرجع السابق جـ 1 ص 127. 2 المرجع السابق جـ 1 ص 127، 128.

ابن شرف القيرواني والصورة الأدبية: يفضل ابن شرف المعنى على اللفظ، ويقدَّمه عليه، فمرجع الجمال في العبارة، ومجال الروعة في الصياغة، يكون في المعنى، ثم يأتي بعد ذلك اللفظ، فهو دونه في المرتبة والدرجة، فإن كان المتفي رائقًا، فلا عليه أن يقع في لفظ رائق بارع. ولا يعتمد إلا بالمعنى الذي يسكن اللفظ، أي: لفظ يقول: فإن كان "أي المعنى" في البيت ساكنًا، فتلك المحاسن، وإن كان خاليًا فاعدده جسمًا باليًا"1 الإمام عبد القاهر الجرجاني 2: وبعد الشوط الطويل يأتي فارس الميدان، وأستاذ النقد العربي القديم الإمام القاهر، ويصلنا وهو في القرن الخامس الهجري بما انتهى إليه النقد الحديث في القرن الخامس عشر، في توضيح معالم الصورة الأدبية. ولا يظن القارئ الكريم أن من ذكرتهم قبل الإمام من النقاد العرب ليسوا هم وحدهم الذين تكلموا في اللفظ والمعنى، وما تفرع عن ذلك من النظم والصورة. بل هناك غيرهم كثيرون منهم الصاحب بن عباد، والمرزوقي وغيرهما، وكذلك فعل جار الله الزمخشري بعده، وغيره مما سار على نهج ما ذكرت من فهمهم للصورة وتحليلها ونقدها. مما جعلني أستقصي في نمو وتحليل، وتفصيل وموازنة واستنتاج كل المراحل التي مر بها مفهوم الصورة الأدبية، وذلك ما دعاني إلى الاكتفاء بأشهر الأعلام في النقد القديم. على أن الإمام عبد القاهر، يكفي عمن ذكرتهم، ومن لم أذكرهم، لسعة ثقافته، وفرط ذكائه، فقد أفاد من هؤلاء جميعًا حتى انتهى إليه القول في النظم والتصوير الأدبي قديمًا.

_ 1 أعلام الكلام: ابن شرف القيرواني ص 27. 2 المتوفى 471.

فإذا حدَّد الإمام معنى النظم، ليصل عن طريقه إلى الصورة، فإنما يحدِّده بناء على مشاركة منه مع النقاد الذي سبقوه، فهم جميعًا قد شاركوا كلٌّ بقدر، واستقطبت عبقرية الإمام كل المنابع الثرة، وتجمعت في نفس واحدة، لتخرج قضية النظم والصورة، ممتزجة بروح ذلك الناقد القديم، وفاضت عن ذوقه الأدبي وأصالته المتميزة، مما يخيل للدارس أنها من صنعته، ومن ابتكار شخصه. وتلك عظمة العباقرة في قدراتهم، فإنها توهم الغير بأن أصحابها وحدهم هم أهل الفضل فيها وصلوا إليها، ولا فضل للعصور السابقة عليهم، ولا لمن سبقه ومهد له الطريق ولا لعصره عليه. والحق أننا في الحكم عليه بشخصيته الفذة وعقليته الخارقة، وعبقريته المجددة المتنكرة، لا يصح أن نغمط حق من قبله، وحق العصور السالفة عليه، وفضل عصره عليه، الذي هام الناس فيه باللفظ، وقد ثبت أركانه الجاحظ، حتى كاد الشكل في الصورة يقضي على الأدب، ووقف بجانب أنصار اللفظ وهم كثير، وجمع قليل بناصر المعنى، ثم تلك العامية التي انتشرت في عصره، وأوشكت أن تقضي على جمال اللغة. وفي وسط هذا الصراع بتياراته المختلفة تمكن أهل المجال والطاعنون في إعجاز القرآن وبلاغته من المساس بأعظم مقدساتنا لرأي باللفظ جعل الطاعنين يذهبون إلى دعاوى باطلة كمثل قولهم: إن اللفظ عربي، والعرب أقدر على الناس على مجاراته، ولذا فهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك لتظل هيبة القرآن في النفوس متفردًا بالجلال والإعجاز، والرأي بالمعنى جعل طائفة تنفي الإعجاز أيضًا لأن الأمر يتصل بالمعنى وليس هذا في طاقة العرب وفي قدرة البشر. وفي كلا الأمرين تسقط المعارضة، ولا تصح المجارة فالتفوق والتفاوت لا يتم

في أحدهما، إلا إذا أمكن التحدى حتى يتحقق العجز من المعترض من ناحية، ويسمو القرآن بإعجازه في ميدان المعارضة من ناحية أخرى، يقول الإمام عبد القاهر في خط نصرة المعنى: "واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه، إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يقضي بصاحبه، إلى أن ينكر الإعجاز، ويبطل التحدِّي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أنه لا يجب فضل ولا رمزية إلا من جانب المعنى 1". وهذا الصراع هذا الذي اضطر الإمام إلى حسم القضية في عمق، وإلى أن يقيم الأدلة والبراهين - في تحليل أدبي وإطالة وتفصيل- ليقف على مصادر العظمة، وموارد البلاغة في كتاب الله، وأساس التفرد والإعجاز في معجزته الخالدة. ويضيف في حديثه عن القرآن الكريم نماذج رائقة من الأدب العربي، لأن اللغة واحدة وهي اللغة العربية، وردَّ الأساس والمصدر في ذلك إلى ما نحن بصدده الآن وهو النظم، وما يتبع ذلك من التصوير الفني الأدبي، في لغتنا الحية الثرية. والإمام عبد القاهر يتناول الصورة الأدبية في موطنين: أحدهما حينما يتحدث عن قضية النظم، وثانيها حينما يتكلم عن مشكلة السرقات الأدبية في الشعر العربي، وسنتناول ذلك بإيجاز، نقصد من ذلك بيان مفهوم للصورة الأدبية ومعالمها في نقدنا العربي الأصيل القديم، ومدى الصلة بينها وبين مفهومها في النقد الحديث.

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القادر الجرجاني ص 257 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

أولا النظم: وقف الإمام قبل أن يرسي قواعد النظم ويحدّد معالم الصورة موقف الباحث الدقيق، والناقد الذواقة الأديب، من أنصار اللفظ، وأنصار المعنى، ليضع الأساس الثالث وهو النظم ويفنّد ما انتهى إليه السابقون حيث قالوا: "إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث 1 نبيّن موقفه من المعنى على حدّة، ثم اللفظ على حدّة، ليسلم له الأساس الفني الدقيق في الصورة وهو النظم. وما تلجلج الإمام في موقفه من كل من اللفظ والمعنى، قبل أن يستقر في النهاية إلى قضيته كما زعم بعض المعاصرين 2. ولكن الرجل على عادته، كان يهدم جزءا جزءا وقيل أن يهدم يحدّد الخصائص اللازمة للفظ على انفراد، وكذلك المعنى، فيحدد صفات اللفظ البليغ، ويتخير منه ويعلي من قدره منفردًا على المعنى ثم في موطن آخر يبرز سمات المعنى ويعلي من شأنه منفردًا فإذا انتهى إلى النظم، لم يعط الميزة للفظ وحده حتى يفضل المعنى، ولا يمنح الدرجة للمعنى حتى يسمو على اللفظ، فلا هذا ولا ذاك، وإنما الفضل الحق أن يكون للثالث وهو النظم وكفى3 فالإمام أعطى لكل حقه على انفراد، ولا قيمة لكل منهما وحده في الصورة وإنا يستحقان هذه القيمة، بل أكثر منها، إذا ارتبطا بالنظم وهو وحده له القيمة الكبرى في الصورة الأدبية. فأما سمات اللفظ عنده، والخصائص التي ينبغي أن تكون فيه هي كما يقول: "أن اللفظة مما يتعارفه الناس واستعمالهم، ويتدا$$ ولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا، أو عاميًّا سخيفًا

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي. 2 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ض 113، وعز الدين إسماعيل في الاسس الجمالية في النقد العربي. 3 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة 1 ويقول: "أن يكون حروف الكلمة أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد2 ولكن الإمام يخشى على نفسه أن يكون متهمًا بأنه من أنصار اللفظ وحده، والجمال مقصور عليه فبعثور عليهم وينكر عليهم ذلك بشدة فيقول: "لا جمل في اللفظ من حيث صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما تكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب3. ويقول: "هل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمته معناها لمعاني جارتها، وفضل مواستها أخواتها 4 ". ويضربهم بأنصار المعنى فيقول: "إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها حدم للمعاني وتابعه لها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ والدالة عليها في النطق5 ". ويطمئن أنصار المعنى لمذهبهم لوقت ما، بعد أن انتقض مذهب منافسيهم فيقرّر الخصائص التي يشرف بها المعنى، بأن تكون غريبة نادرة، أو تشتمل على حكمة أو أدب " يقول: "واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه، من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا، أو حكمة، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف مما ليس كذلك بل عابوه.

_ " 1، 2، 3 " دلائل الإعجاز عبد القاهر 425، 37، 88. 4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي. 5 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ص 113، وعز الدين إسماعيل في الأسس الجمالية في النقد العربي.

لأجل الاعتداد بهذا الشرف وحده، وعدم النظر إلى ما سواه، وإن كان من الأول بسبيل أم متصلًا به اتصال ما لا ينفكّ عنه1". ثم ينور عليهم ليحطم مذهبهم في المعنى مع اعتماده خصائص في ذاته فيقول: "واعلم أن الداء الدري والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللافظ، وجعل لا يعطيه من المزية، إن هو أعطى إلا ما فضل من المعنى يقول: ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه2". وبعد أن هوى بالمذهبين أخذ يترفق بأصحابهما، لعلهما يجدان الصواب معه كما وقع له فيقول: "أتراك استصغت تجنيس أبي تمام": ذهبت بمذهبه السماحة فالقوت ... فيه الظنون مذهب أو مذهب أو استحسنت تجنيس القائل: حتى تحيا من خوفه وما يحب وقول المحدث: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفًا مكررة، تروم لها فائدة، فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة

_ 1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص 3. تحقيق السيد محمد رشيد رضا. 2 دلائل الإعجاز. عبد القاهر ص 425. 3 المرجع السابق ص 37. وهو أسرار البلاغة: عبد القاهر.

ووفاها ... إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة لم يتم إلا بنصرة المعنى، ولو كان فيه مستحسن ولما وجد فيه معيب مستهجن". إذن فلا بد عند الإمام من الانتصار لهما معًا، ولن يتم الفضل للكلام إلا بالنظم وبعد أن أقنع الفريقين، أخذ يقرّر مبدأه الهام ونظريته في اللغة، وليست هي حشدًا من الألفاظ، ولا اهتمامًا بالمعاني الغريبة النادرة، بل اللغة علاقات بين ألفاظها لا تعرف إلا بارتباط بعضها ببعض لتوضح ما في الذهن من علائق على جهة الرمز لا النقل يقول الإمام: "إن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسهان ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف معانيها في أنفسها، لأدَّى ذلك إلى ما لا يشكّ عاقل في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها.... حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنها تجهل معانيها، فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا نتصور إلا على معلوم؟ فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة، لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أننا لم نعرف الرجل والفرض والضرب والقتل إلا من أساعها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا.

الاسم، من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفته ... وإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا نتصور إلا فيما بين شيئين الأصل والأول هو الخبر، إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول، والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبريه ومخبر عنه، ومن ذلك استمتع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت أضرب لم تستطيع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخير به عن شيء مظهر أو مقدر، وكأن لفظك به إذا أتت لم ترد ذلك، وصوت تصوته سواء 1". والإمام هنا يقرر أن ألفاظ اللغة لا أهمية لها مفردة، لنتعرف على معانيها في ذاتها، ولكنها وضعت لأن يضم بعضها إلى بعض، ويتعلق بعضها ببعض حتى تعرف معانيها، وتبلغ الغرض منها، فلو أردنا أن نعرف ما يدل عليه كلمة "فرس" محددًا محصورًا، لما استطعنا ذلك، لأنه اسم جنس عام لا وجود له، إلا في أفراده فإذا وقع بين ألفاظ أخرى في عبارة كما تقول: "فرس في الحديقة" فقد دلَّت الكلمة في التركيب على منظور، ورمزت إلى شيء معين، ولم يكن المسمى في الحديقة هو كل المعنى للكملة السابقة. ولذلك استطاع عبد القاهر عن طريق الكشف لرمزيه اللغة، أن يعتبر اللفظ الذي يرمز إلى معنى لا وزن له مفردًا، ولا ينهض وحده بتصوير معناه، إلا إذا اشترك مع غيره، وارتبط بألفاظ أخرى، في نظم محكم، عند ذلك يكون لكل لفظ قيمة يقدر اشتراكه في تحديد الصورة العامة للمعنى المراد، ويكون حينئذ للنظم

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني ص 473، 474 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

وحدُّه الميزة في الكشف عن المعاني المبهمة واضحة ومحددة، بينما يعجز اللفظ عن النهوض بالمعنى وحده، ولا يتصور حدوث ذلك بالمعنى الذهني المجرد، لأن السامع لا يعرف عنه شيئًا إلا إذا أشار المتكلم إليه بكلمة ترمز إليه، فيحرك الرمز الصورة الذهنية المترسبة في الباطن، ازدحام الصور الأخرى في الذهن لألفاظ اللغة التي اكتسبها الإنسان في حياته". وقد فسر ذلك د. مندور بالرمزية في اللغة، التي وصل إليها النقد حديثًا في القرب وألحق عبد القاهر يواضع هذه النظرية "فقت"1. وألا مع الدكتور نايل 2 في أن الإمام قد سبق النقد الحديث إلى هذه النظرية وبرع فيها واتخذها وسيلة للكشف عن أهمية النظم، وقدرته على تصوير المعنى والغرض بدقة وإحكام. ولم يبق للإمام عبد القاهر بعد هذا الصراع إلا أن يحدّد معنى النظم، لترتقي منه في النهاية إلى توضيح معالم الصورة الأدبية عنده. وفي تحديد معنى النظم يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه للشك، أنه لا نظم في الكلم، ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك ... وإذا كان كذلك تعاقبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبقاء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله 3؟..

_ 1 الميزان الجديد. د. محمد مندور ص 186. 2 نظرية العلاقات للدكتور محمد نايل أحمد ص 100. 3 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 97 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

فيصبح الاسم فاعلًا لفعل أو مفعولًا أو خبرًا أو مجرورًا أو استفهامًا أو شرطًا إلى غير ذلك من ألوان العلاقات في علم النحو، الي يربط بين النظم فيقول عبد القاهر: واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيع عنها ... وذلك أن لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في وجوه الحال، وفي الحروف والفرق بينها بعضها عن بعض وفي حروف العطف والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإضمار والإظهار والجمع والتقيم، والتشبيه التمثيلي 1. وحينما نتخذ الكلمة بخصائصها السابقة مكانها من النظم المبني على معاني النحو، تتألف الصور الأدبية عند الإمام، لأن في الصيغة كلمات مرتبطة، وجملًا مشدودة بعضها ببعض في اتساق وإحكام ليتم عن التصوير الدقيق للغرض من الصياغة والنظم يقول عبد القاهر عن الصورة الناتجة من النظم: "إنك ترى الرجل فلا يهتدى في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم 2".

_ 1 المرجع السابق راجع ص 117، 118 التحقيق السابق. 2 المرجع السابق ص 123.

لذلك أصبح النظم عنده وسبيل الكلام لديه هو "سبيل الصياغة والتصوير وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، في جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصفعة كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود، أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتًا على بيت من أجل معناه ألا يكون تفضيلًا له، من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فأعرفه 1". هذا إذا كانت الكلمة التي اتخذت مكانها من النظم قامت على الحقيقة، لا تمت إلى الخيال بصلة، فكيف يراها الإمام إذا نبعت الكلمة من منابع الخيال الثرة، والخيال كما نعلم حديثًا عنصر حيّ من أهم عناصر الصورة الأدبية في النقد الحديث، وعبد القاهر يرى أنه رافد من روافدها الكثيرة، وأعظمها هو النظم، وهو الأساس الذي بدونه لا يقبل الخيال ولا تحسن وسائله، فلو وقعت استعارة في نظم، فالجمال في الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فقط، ولكنه يرجع أولًا إلى جمال النظم، وإنما الاستعارة التي وقعت موقعها من الجملة، أو التركيب قد زادت النظم جمالًا على جمال. فالكلمة المستعارة مثلًا هنا حققت غايتين: إحداهما الجمال الذي نبع من موقع الكلمة في النظم، واتخاذها الوضع اللائق بها، وثانيهما الجمال الذي أضافه الخيال على الكلمة، ولكن الجمال الثاني لا اعتبار له إلا بالنظم الذي تتألف منه الصورة،

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد المقاهر ص 255 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.

ولذلك لو اختلَّ النظم - مهما حوى من وسائل الخيال - سقطت الصورة وتجرَّدت من كل عناصر الجمال. وهذه نظرية دقيقة من الغمام في الصورة، أغفلها النقد الحديث إلا نادرًا كما سنرى ويذكر اتجاهه في مواطن كثيرة منها قوله بشأن الاستعارة: "واعلم أن هذا - أعنى الفرق ب ين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون المزية في النظم - باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنًا قد أخطأ بالاستحسان موضعه فينحل اللفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظنت أن حسنه ذلك كله للفظ دون النظم، مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز: وإني على إشفاق عيني من العدا ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق فترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النظر يجمح، وليس هو لذلك، لأن قال في أول البيت "وإني" حتى أدخل اللام في قوله "لتجمع" ثم قوله: "مني" ثم لأن قال: "نظرة" ولم النظر مثلًا؟ ثم لمكان "ثم" في قوله "ثم" أطرق" وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني من العدى"، وغير ذلك كثير من ألوان الخيال التي وفد إليها الجمال عن طريق النظم. وبهذا العمق في التناول والاستقصاء، اعتدّ عبد القاهر بالنظم وحده في تأليف الصورة وتكون أركانها، كما هو واضح في نقده لأبيات كثيرة عزة، التي استحسنها بعض النقاد قبله لتفرد ألفاظها بالجمال، مع أنها لا تحمل كبير معنى،

وخالفهم الإمام وبين لهم أن الجمال فيما يرجع إلى حسن النظم، وبه يرتفع حيث يقول عقب قول كثير السابق: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح .... إلخ الأبيات. قال الإمام لائمًا عليهم صفيفهم "ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم متصرفًا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، أصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن.... إلى قوله الذي بين فيه وجه الصواب، فقل الآن هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها، حتى إن فضل الحسنة يبقى لتلك اللفظة، ولو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وتوصيفه، ثم يقول بعد أن يشبه النظم فيه اللآلي، في العقد بل حق هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكيمة والتشبيهية بعضًا، وازدياد الحسن منها بأن تجامع شكل منها شكلًا، وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها". ولاهتمام عبد القادر بالنظم وعنايته به جعل بعض النقاد يزعم أنه شكلي لا يهتم بشرف المعنى وندرته، لذلك استحسن الصورة الأدبية السابقة للشاعر كثير، مع أنها لم تحفل بمعنى شريف. والذي أراه أن نظرية عبد القاهر في النظم والصورة بريئة من الشكلية الصرفة التي اتهم بها، ونستطيع دفعها بالتالي:

أولًا: أنه اهتم أولًا بالمعنى المفرد، وأعطى له سمات النبل والشرف وسبق ذلك في موضعه. ثانيًا: النظم ينبني على اختيار معاني الألفاظ، وانتقائها، ثم تآلف هذه المعاني والتوخي بينها، ولا شك أن هذا يثبت المعنى في النظم شرفًا ونبلًا1. ثالثًا: الصورة الأدبية التي تألفت من خيوط النظم إنما يرجع جمالها وسحرها إلى ما تحققه من شرف الغرض وسمو المغزى. رابعًا: وعلى ذلك فاهتمام عبد القاهر بالنظم والصورة إنما هو من أجل المعاني والأغراض، التي تكون الصورة خير سفارة عنها، وأقواها توصيلًا إلى النفس وتأثيرًا فيها. خامسًا: وأدَّى اهتمامه بالمعنى والغرض، إلى أن يرتقي بالصورة إلى ما وراء الحس الظاهر عن طريق الوحي في الصورة، وهو ما يسميه عبد القاهر "بمعنى المعنى" "الذي يزيد المضمون شرفًا. ويرى أنه ليس من المراد من الألفاظ في التراكيب ظواهر معناها فقط، ولكن يراد فوق هذا أن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى "حتى يكون هناك متجاز واتساع، وحتى لا يراد من ألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أخرى" 2 ويجلي "معنى المعنى" وضوحًا، لعنايته التامة به. ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية إلى الغرض3 ويضرب لذلك أمثلة عدَّة منها قولهم: "كثير

_ 1 دلائل الإعجاز: راجع منهج عبد القاهر في الكتاب للدكتور خفاجي ص 27. 2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 264. 3 المرجع السابق ص 262.

رماد القدر" وينتقل اللفظ فيه إلى المفهوم الذي هو المعنى الوضعي للغة إلى معنى الكرم، وهذا المعنى هو معنى المعنى، والمعنى الأول، هو الوضعي بمثابة الوشي والمعارض للمعنى الثاني، الذي قصد إليه عن طريق معنى المعنى، والمعنى الثاني، هو الذي كسى ذلك الوشي وزينه وحلى به 1. ويضيف إلى مفهوم الصورة فوق ما تقدم إيضاحًا لمعالمها، وكشفًا لجوانبها، مشاركة الألفاظ، بموسيقاها، ودلالتها الصوتية مما يزيد حسن النظم وجمال التأليف فتثري الصورة بعناصر عديدة تمنحها القوة والتأثير. ولذلك ينبغي ألا تكون الكلمة غريبة وحشية، بل مألوفة للسمع، مستعملة غير مهجورة، وحروفها خفيفة، منسجمة بعضها مع بعضن متلائمة مع معناها، وأن تتواءم بسماتها الساقة مع جاراتها في النظم، إذ لا اعتداد بها مفردة، إلا حينما يتسق مغانيها بعضها مع بعض يقول "أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها " 2. ويقول: "فلا جمال إذن في اللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما يكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب. فالملاءمة بين حروف الكلمات، وخفة المنطق بها، وتناسبها مع معناها شدة أو لينًا وخفة وثقلًا، كل ذلك حسن للألفاظ لا شكّ فيه، راجع إلى ذاتها ولكنه يزيد النظم فضلًا، إذا وقعت منه في مكانها، كالشأن في ألوان الخيال. وينتقي أقوى أنواع الإيقاع في النظم، وأعمق موسيقى في التأليف،

_ 1 المرجع السابق ص 262، 263. 2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 88.

كالمزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء، والتعليق والتقسيم مع الجمع، والتنبه المتمدد والمركب حيث تتجاوب أصداء النظم مع أنغام الموسيقى، التابعة من زوايا متعدّدة لتشارك في جمال النظم الذي تتألف منه الصورة الأدبية ويذكر تحت عنوان "فصل في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" فيقول: "واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثانٍ منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تصعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن تكون حالت فيها حال الباني، يضع بيمينه ها هنا في حال ما يضع بيساره هناك نعم وفي حال ما يبصر مكانًا ثالثًا، ورابعًا بعضهما بعد الأولين، وليس لما يجيء في هذا الوصف حدّ يحصره أو قانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتَّى، وأنحاء مختلفة فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط، والجزاء معًا كقول البحتري: إذا ما نهى الناهي فلج به الهوى ... أصاخت إلى فلج بها الهجر ويضرب الأمثلة لأنواع مختلفة من موسيقى النظم إلى أن يقول: ونوع ثالث هو ما كان كقول كثير: وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للعقيل اضمحلت ثم ذكر منه التنسيم مع الجمع والتشبيه المتعدد والمركب1. وملاءمة وضع الكلمة مع أختها في الشطرة، ثم ملاءمتها مع الشطرة الأخرى،

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 127 وما بعدها بتصرف.

ثم ملاءمة البيت مع البيت، ومع أبيات القصيدة، وهكذا حتى يتم النظام الهندسي الموسيقي للقصيدة، لأن الرجل مغرم في الاهتمام بالأجزاء إلا نادرًا، لاعتقاده أن استقامة الجزء، وملاءمته مع الآخر سيؤدي في النهاية إلى سلامة الإيقاع في القطع أو القصيدة 1. واهتمام الإمام بالجزئيات في النظم دعا بعض النقاد 2 أن يقصر عنايته التامة بالجزئية فحسب، ولم يهتم بالصورة الكلية في الأدب العربي ونقده. والحق أنه وجه اهتمامه للصورة الجزئية إلا نادرًا، وكان الدكتور نايل موفقًا حينما أثبت أن الإمام تناول الصورة الكلية في نقده قليلًا، نظريًّا وتطبيقيًّا، ومن أراد تفصيلًا فليرجع مشكورًا إلى كتابه دفعًا للإطالة 3. والذي أحب أن أذكره هنا ما أشار إليه الإمام من العناية بالصورة الكلية في قوله: "واعلم أن من الكلام، ما أنت ترى المزية في نظمه الحسن، الأجزاء من الصيغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لم تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق، والاستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة، حتى تستوفي القطعة وذلك ما كانت من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري 4: بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا إلخ الأبيات 5.

_ 1 نظرية العلاقات: د. محمد نايل أحمد ص 48. 2 د. محمد غنيمي هلال في النقد الأدبي الحديث. 3 نظرية العلاقات: د. محمد نايل ص 44 وما بعدها. 4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 124. 5 المرجع السابق ص 120.

ومن الصور الكلية التى تناولها أيضًا قول ابن الرومي: خجلت خدود الورد من تفضيله ... خجلًا توردها عليه شاهد لم يخجل الورد المورد لونه ... إلا وناحله الفضيلة عاند للنرجس الفضل المبين وإن أبي ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد وفضل القضية أن هذا قائد ... زهر الرياض وأن هذا طارد شتان ما بين اثنين هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعد ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المدامة والسماع مساعد اطلب بعقلك في السماع سميه ... أبدًا فإنك لا محالة واحد والورد إن فكرت في اسمه ... ما في الملاح له سمى واحد هذي النجوم هي التي ربيتها ... بحيا السحاب كما يربى الوالد فانظر إلى الأخوين من أدناهما ... شبهًا بوالده فذاك الماجد أين الخدود من العيون نفاسة ... ورياسة لولا القياس الفاسد وترتيب الصفة في القطعة أنه عمل أولًا على قلب التشبيه فشبَّه حمرة الورد بحمرة الخجل، ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خجل على الحقيقة، ثم لما اطمأن ذلك في قلبه، واستحكمت صورته طلب لذلك الخجل علة، فجعل علته أن فضل على النرجس، ووضع في منزلة ليس يرى نفسه أهلًا لها، فصار يصوب من ذلك ويتخوف عقيب الغائب وغميرة المستهزي وتجد ما يجد من مدح مدحه يظهر الكذب فيها، ويفرط حتى تصير كالهزء بمن قصد بها، ثم زادته القطنة الثاقبة الطبع المثمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع وحجاج في شأن النرجس، وجهة استحقاقه على الورد فجاء يحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له1.

_ 1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص 229، 330 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

أشار الإمام إلى للصورة الكلية في القطعة السابقة لابن الرومي وإن لم يصرح بها وقد ذكرها في معرض التنبيه؛ حيث شبه حمزة الورد بحمرة الخجل تشبيهًا مقلوبًا، ولو كان حديثه عن الصورة الجزئية لوقف عند هذا الحد، ولكنه استمرّ في تحليل الصورة كلها ليقف على مواطن الحسن فيها غير مكتفٍ بالتشبيه فقط، الذي يدل على ذلك الفقرة الأخيرة حيث قام النرجس بقطنته الثاقبة لتقديم الحجج والأدلة ليستحق الفضل على الورد وينال الشرف وحده ثم ختم حديثه بقوله فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له. وصحيح أن الإمام لم يصرح بلفظ الصورة الكلية إلا أن تحليله يدل عليها، وتناول غيرها في الدلائل في قطع صغيرة تشبه السابقة، وفي بعض آيات القرآن الكريم. ثانيًا: للصورة الشعرية في باب السرقات: ولن يكون حديثنا هنا عن السرقات الأدبية فذلك له مجال آخر، ولكن الحديث سيكون عن الصورة الأدبية التي كشف عنها الإمام أثناء حديثه عن السرقات. ولذلك تراه يتصدَّى للقوم، ويصف رأيهم بالخطأ المحض، لأنهم اعتبروا الصورتين المختلفتين لمعنًى واحد يعدان شيئًا واحدًا، ولا تفاوت بينهما؛ لأن المعنى في الصورة الأولى هو نفسه في الصورة الثانية، إنما الاختلاف في هئة النظم وتركيب الصورة وهذا لا يفيد شيئًا. ويوضح لهم بأن التفاوت بين الصورتين على هذه الصفة السابقة أمر محتم ولازم، وأن التغاير في المعنى بعد التصوير جاء نتيجة الاختلاف في هيئة الصورة،

مع أن المعنى كان واحدًا في البداية، فتباين الصورتين عليه أعطى لهما معنًى جديدًا. ولا يعقل أن يتم الاتفاق بينهما إلا في حالة واحدة، حينما يغيّر الشاعر المتأثر كل لفظة عند الشاعر الأول بلفظة تشبهها في المعنى، وهكذا حتى آخر الصورة فيكون بين الصورتين اتفاق تام ولا تفاوت بينهما؛ لأن الشاعر الثاني لم يعرض للمعنى في نظم أو صورة جديدة يقول الإمام عن القوم: "وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا للكلامين على الكلمتينن فلما رأوا إذا قيل في الكلمتين أن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في أحدهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل، وقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبنيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر الفاخر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنك أنت الآكل اللابس وما كان هذا سبيله كان بمنزل من أن يكون به اعتداد.... ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى، ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعًا شيئًا يستحق أن يدّعى من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر 1....".

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر. تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص 429، 430.

لأن اللفظ للفرد، لا يمكن أن يخفى المعنى، إنما الذي يخفيه النظم والصورة ولو كان المعنى معادًا على صورته وهيئته وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئًا غير أن يبدل لفظًا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالًا؛ لأن اللفظ لا يخفى المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها1". وكذلك ليست العبرة بمعنى اللفظ في نفسه وذاته، بل في نظمه وصورته كما لا يكون الذهب بنفسه وإنما بصورته خاتمًا كان أو سوارًا يقول الإمام: "وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتمًا، أو الذهب سوادًا أو غيرهما من أصناف الحليّ بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلامًا وشعرًا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخّي معاني النحو وأحكامه 2". وتأسيسًا على ذلك يضع الإمام عبد القاهر الأساس في التفاوت والمفاضلة بين شاعرين في صورتهما، إذا تناولا معنى متحدًا، فيقسمه قسمين: قسم يكون فيه أحد الشاعرين قد أخفق في تصويره، والآخر جاء بصورة فائقة، قسم جاء فيه كل من الشاعرين في المعنى الواحد بصورة غريبة جديدة. يقول الإمام في الشاعرين اللذين صورا معنًى واحدًا: "وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين قيمة قد أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب. وقسم أنت ترى واحد من الشاعر قد صنع في المعنى وصور. ويعلل سر التفاوت في القسم الأول بقوله: "إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم،

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 427. 2 المرجع السابق ص 430.

وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي: بئس الليالي سهرت من طربي ... شوقًا إلى من ببيت يرقدها مع قول البحتري: ليل يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدين أسهره لها وتنامه1. والقسم الثاني: ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة، ويُورد أمثلة كثيرة منها قول النابغة: إذا ما غدا بالجيش حلق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوائح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الصفان أول غالب مع قول أبي نواس: يتأبَّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره قال عمرو الوراق لأبي نواس: "أما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش: البيتين فقال "أي أبي نواس": اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع. يقول عبد القاهر: وهذا الكلام من أبي نواس من دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة ذلك؛ لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئًا لكان قوله فما أسأت الاتباع محالًا، لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ. ويبين عبد القاهر بعد ذلك الفرق بين الصورتين البارعتين فيقول: "ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها، في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن هاهنا معنيين أحدهما أصل، وهو علم الطير بأن الممدوح

_ 1 المرجع السابق ص 431.

إذا غزا عدوا كان الظفر له، وكان هو الغالب، والآخر نوع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، قد عمد النابغة إلى الأصل، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب نذكره وصريحًا وكشف عن وجهه، واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى، وعكس أبو نواس القصة نذكر الفرع الذي هو طعمها في لحوم القتلى صريحًا فقال كما ترى "ثقة بالشبع من جزره" وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون الممدوح على الفحوى، ودلالة على علمها أن الظفر للممدوح هي في أن قال: "من جزره" وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، فيكون شيء أظهر من هذه في النقل من صورة إلى صورة1"؟ ولعل القارئ الكريم معي في نقل النص كله كاملًا هنا؛ لأنني أقصد ذلك وأعنيه فالمقام هنا يستدعي ذكر هذا النص الذي يكشف عن وجهة نظر الناقد ورأيه في الصورة الأدبية، لأنني في مجال بيان مفهوم الصورة عند النقاد القدامى المفترى عليهم حديثًا في أنهم لم يفهموا معنى الصورة الأدبية، ولم يتذوَّقوها ولعلَّ النص الأخير للإمام يعطي لنا صورة صادقة عن وعيه التام بالصورة الأدبية فهمًا وتذوقًا وتحليلًا أدبيًّا وتطبيقًا في الشعر العربي على اختلاف صوره، وقد أثبت الفرق الكبير بين اختلاف الصورتين مع أن الغرض واحد وهو الظفر الممدوح وهما في نفس الوقت صورتان بارعتان ورائعتان، ثم ذلك الاعتداد القوي بالصورة الأدبية في الموازنة والتقدير، والحكم على صاحبها بالسرقة أو بالإنكار فيها، مع إهمال اللفظ منفردًا؛ إذ لا قيمة له وحده في الشعر والتصوير، وإنما تكون له إذا ظهر دوره مع غيره في النظم والصورة،

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 440، 442.

وبعدُ فهذا ما وصل إليه النقد العربي القديم في شخص الإمام عبد القاهر -لتوضيح مفهوم الصورة الأدبية التي نبعت في النهاية من النظم المحكم الجيد، وبيان أراكانها ومعالمها وخصائصها عن طريق التحليل للنصوص الأدبية وإيراد النماذج القوية من الصور، والتعرف على خصائص الجمال والجلال فيها من غير قصد إلى التبويب أو العنونة لها والنص الصريح، أو التقعيد لخصائصها وأركانها، هذا هو ما ينقص النقد القديم في تناوله لمفهوم للصورة وليس عيبًا، لأنه كان يمثل مرحلة من المراحل التاريخية في التعرف عليها وبيانها وتوضيحها. وفي نهاية المطاف مع الإمام عبد القاهر، نُجمل ما وصل إليه في توضيح الصورة الأدبية والتعرف على خصائصها وذلك في إيجاز: أولًا: أنه أعطى للفظ حقَّه، كما أعطى للمعنى حقه كذلك. ثانيًا: أنكر الإمام إتيان الصورة من اللفظ وحده، كما أنه ينبغي ألا يكون جمل الصورة راجعًا إلى المعنى فقط. ثالثًا: اللفظ عنده تابع للمعنى وعند ابن خلدون وغيره أن المعنى تابع للفظ والأصح ما ذهب إليه الإمام لأنه مجال لظهور العبقريات في التصوير، والواقع أن بينهما فوارق كبيرة أهمها: أ- الصورة الأدبية عند الإمام تشكل في الذهن أولًا، ثم تبرز إلى الخارج بعد انتظامها، بعكس رأي ابن خلدون، فهي عنده تشكل خارج الذهن، لأن الأديب يجمع ألفاظًا قد تفرّقت هنا وهناك، وأحيانًا يخطئ الغرض بذلك الجمع الخارجي. ب- الصورة عند الإمام ما دامت داخلية أولًا، فيكون للعقل والعاطفة والمشاعر أثر في حيويتها وقوتها، بينما نجدها على رأي ابن خلدون ربما لا يعمل فيها غير العقل، في عملية جمع الألفاظ لتحقيق غرض ما.

جـ- الصورة عند الإمام يكون لها معنى مقصود، وغرض يهدف إليه الشاعر، وعلى ذلك ينظمها في ذهنه حسب الغرض، بينما في رأي ابن خلدون قد يخطئ الشاعر الغرض، لأن عملية الجمع التي يقوم بها الشاعر ابتداء، ربما تكون على غير اتفاق مع الغرض الذي يهدف إليه. د- الصورة عند الإمام فيها احتمال للإيحاء بمعنى ثانٍ خلاف المعنى الأول - الذي بنيت عليه الصورة في الذهن، بخلافها عند أمثال ابن خلدون، فإن لها معنًى واحدًا ناتجًا عن نظم الألفاظ، بعد اختيار موقع كل كلمة فيها. هـ - اتجاه عبد القاهر فيه مجال لظهور العبقريات في الفن، أما اتجاه ابن خلدون فالمجال فيه ضعيف يأتي عن طريق المصادفة غالبًا، كالطفل الذي يلعب بالمكعبات، حتى يقع على تشكيل فريد بالمصادفة، وهذا نادر بينما في الأول تكون له الإرادة، والتحكم في التشكيل، وذلك أقرب إلى العبقرية من الثاني. وعلى ذلك فإذا حضر المعنى للصورة عند الإمام أتت إليه الألفاظ ميسورة سهلة وأما عند أمثال ابن خلدون فسنجد صعوبة في تحضيرها، وحتى إذا تيسر ذلك فلن نصل إلى المعنى إلا بعد محاولات عديدة. رابعًا: أساس الجمال عنده يرجع إلى النظم والصياغة والتصوير. خامسًا: الصورة الادبية الحقة تتكون من العلاقات بين الألفاظ، وتتألف من خيوط النظم الجيد. سادسًا: كل كلمة في النظم أو الصورة لا بد أن تاخذ مكانها بين أخواتها، يرتبط معناها بمعاني الكلم تيهما على أساس التوخي لمعاني النحو 1.

_ 1 ويرى الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي أن عبد القاهر متأثر في النظم بأستاذه الروحي ابن جني في كتابه الخصائص قبل أن يستفيد من أي إنسان آخر: منهج عبد القاهر في كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر: تحقيق الدكتور خفاجي صاحب الرأي الفريد في هذا.

سابعًا: لهذا تحقَّقت الوحدة الفنية والترابط الوثيق بين أجزاء النظم والصورة والتلاؤم بين عناصرها. ثامنًا: الصورة عنده لا تتعلق بالشكل وحده، ولكنها تتعانق مع المضمون، من حيث التبع والنتيجة، وإنما جاءت الصورة لتوضيح المعنى وتعميقه، والكشف عن الغرض من القصيد، الذي يترابط فيه التصور لتأدية المراد. تاسعًا: ولصلة الصورة بالمضمون صلة وثيقة، توحي بمعان جديدة لتأكيد المعنى الأول فيزداد جلاء ووضوحًا، وهو ما سمَّاه الإمام "معنى المعنى". عاشرًا: قيمة الخيال في الصورة لا يعدو أن يكون رافدًا واحدًا من الروافد العديدة فيها، وإن وقع في نظم زاد الصورة جمالًا على جمال النظم المحكم. الحادي عشر: أهم روافد الصورة هو النظم، أما ما عدا ذلك من روافد اللفظ الحسن والخيال والموسيقى والمزاوجة وغيرها، فهي روافد إضافية تزيد من جمال النظم. الثاني عشر: الإمام عبد القاهر صرَّح بوسائل الموسيقى الداخلية التي يتدفق بها النظم، وجعلها من أدق أنواع الصنع، وأشرف ألوان النظم، كالمزاوجة والتقسيم وغير ذلك مما سبق، ولم يهتم بالموسيقى لشيوعها.

الثالث عشر: أنه ركَّز اهتمامه على نقد الصور الجزئية والتعرف على خصائصها، والتحليل لها، إلا القليل من الصور الكلية. الرابع عشر: أدى كشفه لنظرية الرمز في ألفاظ اللغة لتوحي معانيها إلى توفيقه في توضيح معاني النظم، وتثبيت دعائمه، واعتماد الصورة الأدبية عليه وحدة أولًا وقبل كل شيء. الخامس عشر: أفاد الإمام من سابقيه فيما انتهى إليه، فأصبح اتجاهه في الصورة الأدبية واضحًا لا غموض فيه. السادس عشر: المرجع في التفاضل عنده بين الصور في الشعر والأدب إلى الصورة الأدبية في ذاتها، وما أوحت إليه من معانٍ، لا إلى ذات المعنى والمضمون وحدهما. السابع عشر: اختلاف النظم عنده، وتباين التعبير لمعنى واحد لا يمكن بحال أن تتفق فيه صورتان لشاعرين مختلفين يستقلّ كل منهما بنظم يخالف الآخر مع اتحاد المعنى، مثل ما سبق بين النابغة وأبي نواس بل لا بد من الاختلاف في التأليف والإيحاء ودرجة التأثير في النفس. الثامن عشر: استطاع عبد القاهر بذوقه الأدبي أن يربط بين النظم وصورته في الشعر وبين الفنون الأخرى، مما يصح فيه التصوير، كالنقش والصياغة للمعادن وأصباغها،

وأن الصورة تلائم النظم كتلاؤم الهيئة والشكل للمعادن في صورها المختلفة من خاتم وأسورة مثلًا، أو ملازمة الألوان والأصباغ وتوزيعها ومقاديرها على قرعة الصورة، في تشابه تام بين الصناعتين، صناعة الشعر وغيرها من الصناعات الأخرى. التاسع عشر: عرض الإمام وسائل الخيال من تشبيه واستعارة وغيرها، وأنها أحد الروافد في النظم، والنظم فوقها، لأنه لم يعتد بألوان الخيال إلا بعد اعتداده بالنظم في تأليف الصورة، وأما تحديد معالم الخيال في ذاته، فقد تردَّد عبد القاهر في مفهومه وسماه التخييل أو الإبهام، وذكر د. غشيمي هلال أن النقاد العرب القدامى لم يصلوا إلى مفهوم دقيق للخيال وأثره في الصورة 1. ويعبر الإمام عن الخيال بالتخيلات، فيذكر بعد قول الشاعر: إن السحاب لتستحي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها وعلق عليه بقوله: وكذلك بوهمك بقوله: "إن السحاب لتستحتي" إن السحاب حيّ يعرف ويعقل، وأن يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح، فيخزى ويخجل. فالاحتفال والصنعة في التصورات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهزّ الممدوحين وتحركهم شبيه بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش والنقر، فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه

_ 1 ورد هذا بالتفصيل: "النقد الأدبي الحديث " د. محمد غنيمي هلال صفحات 167، 169، 232، 240.

كذلك حكم الشعر، فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني، التي يتوهم بها الجامد الصامت في صورة الحي الناطق ... والمعدوم المفقود في حكم الموجود الشاهد، كما قدمت القول في باب التمثيل حتى يكسب الدني رفعة والغامض القدر نباهة1. والإمام يعبّر عن الخيال في الصورة الشعرية التي تشبه الصناعات الخلابة الرائقة بالتخيلات، فترى الصورة التي قامت عليها تحيل الجامد حيًّا ناطقًا، والمعدوم منظورًا مشاهدًا أمام الحسن والعين، وبذلك يكتسب المعنى الغامض قدرًا ونبلًا. ومع اعترافه بأن التخييل له قدرة وقيمته، إلا أنه يخلط بينه وبين الوهم، وهو غير الخيال كما في قوله: "من المعاني التي يتوهم بها الجامد الصامد ... الخ ". وهو مع ذلك يفضله في الشعر عن الحقيقة، فيقول معقبًا على بيت البحتري: كلفتمونا حدود منطقكم ... في الشعر يكفي عن صدقه كذبه أراد كلفتمونا أن تجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجأ إلى موجبه مع أن الشعر يكفي فيه التخييل، والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إليه من التعليل، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد وإياه عمد 2. وما ذهب إليه الإمام هنا يفسره النقد الحديث بالخيال، لأن الشعر يعتمد أساسًا على هذا الركن، وأنه لا يهتم بالحقيقة، بقدر ما يصور إحساس الشاعر بصدق ودقة، ما دام هذا تطمئن إليه النفس، وتستريح إلى سماعه لقيامه لا على القياس والحقيقة بل على حسن التعليل.

_ 1 أسرار البلاغة: عبد القاهر ص 275، 276 تحقيق السيد محمد رشيد رضا. 2 أسرار البلاغة: عبد القاهرة ص 217، 218، تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

ومع تقديره لقيمه الخيال في الشعر إلا أنه في تحديد مفهومه. يخلط بينه وبين الوهم، فكلاهما له أثره في الصورة الأدبية الحديثة. ويزداد الأمر وضوحًا عند الإمام حينما يفرق بين التخييل1 والاستعارة، وكلاهما من ألوان الخيال في الصورة "وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ها هنا ما يثبت فيه الشاعر أمرًا هو غير ثابت أصلًا، ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولًا يخدع فيه نفسه، ويريها ما لا ترى. أما الاستعارة فسبيلها سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله ووجدت قائله، وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا، ويدّعي دعوى لها شبح في العقل، وستمرّ بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن الحقيقة تكشف وجهه في أنه خداع العقل وضرب من التزويق"2. فهو يرى أن التخييل في قولهم: فلان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى للإنسان المتردد أمر غير ثابت، لأنه دعوى باطلة، يمكن تحصيلها وتحقيقها، وأنه خادع للنفس لأنها ترى غير الحقيقة فيها، كما يرى أن الاستعارة دعوى لها شبح في العقل. وفي هذا يربط الإمام ألوان الخيال بالعقل، ويقيه بالحقيقة، ويرى أنه وهم وخداع للنفس، ودعوى باطلة وشبح وغير ذلك من الأوصاف المبتورة، التي إن كشف عن جانب من مفهوم الخيال في الصورة، فلا تكشف عن الجوانب الحية فيه بل الخيال كالعقل، لكن لغته الصور المحسة من تخيل واستعارة وتشبيه وكناية وغيرها والإمام جعله أشباحًا وصورًا لا صلة لها بالإحساس، تخدع.

_ 1 التخييل عند عبد القاهر وهو التمثيل. 2 اسرار البلاغة: عبد القاهر ص 221 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.

النفس لأنها لا تعرف طريقًا إلا طريق العقل، والعقل وحده هو الذي يربط بين الصورة المحسة في المثال السابق وبين المعنى الذهني، ويرى الصلة بينهما في الجامع، فيأنس للصورة لأنها تتفق مع المتردّد حين يأخذ ويعطي في أمرها، كالرجل المتردّد حين يقدم رجلًا ويؤخّر أخرى، وحينئذ يرى العقل أيضًا أن هذا المعنى أصبح حيًّا متحركًا ولذلك يكون تأثيره في النفس أعظم من الحقيقة المكشوفة التي يتلقفها العقل من غير روية ولطف نظر، وموازنة تجرى، وصلات تعقد، ومن غير تقارب واتفاق. هذا هو ما يفهم من الخيال عند الإمام وهو إن كان تفسيرًا غير دقيق وشامل للخيال فهو قريب نوعًا من مفهوم الخيال حديثًا لأسباب هي: أ- أنه يخالف الحقيق بغض النظر عن التشبيه الذي قالوا عنه: إنه فرع الحقيقة لا المجاز، فيكفي فيه حسن التعليل لا المنطق. ب- الخيال الركن الركين للشعر. جـ- الخيال يهز العواطف ويحرك النفس. د- أنه يتخذ مادته من المشاهدات المحسة. هـ- أنه يبعث الحياة والحركة والمعاينة في الجامد والمعدوم والمفقود. و أنه يجتاج في الوقوف عليه إلى دقة ولطف ونظر وروية. ز- أنه يعقد الصلات بين الأشتات حتى تظل مقبولة في النفس. وهذه الخصائص تمثل شوطًا لا بأس به، في تحديد مفهوم الخيال وتوضيحه وبيان أثره في النفس، وهو في نفس الوقت يمثل طورًا من أطوار مفهومة التي مر بها في الأدب العربي، حتى اكتملت معالمه في العصر الحديث.

والنقاد العرب قطعوا شوطًا كبيرًا في توضيح مفهوم الصورة الأدبية، بعد أن مرت هي كذلك بمراحل النمو والتدرج الطبيعي للأشياء، وإن اتجهت عنايتهم التامة بالصورة الجزئية، مغفلين أمر الصورة الكلية إلا نادرًا، وهذا لا يضر بمفهومها في ذاته. ولا يصح أن نفرض مفهومًا حديثًا، ونطبقه على المفهوم القديم، لنتهمهم بالتنصير لعدم المطابقة بين المفهومين، ليس هذا بمعقول، لأن النقد القديم كان يمثل مرحلة تاريخية في بناء الفهم للصورة الأدبية، ولذلك كان النقاد غالبًا ما يستعملون الشعر والكلام مكان الصورة كالآمدي، أو النظم والتأليف - والصياغة كما هو الشأن عند معظمهم، حتى من فطن منهم إلى التعبير بالصورة كان يمر بها خاطفًا كالبرق، ولعل فن التصوير والرسم لم يبلغوا فيه درجة ما بلغناه في عصرنا، حتى أصبح هذا اللفظ على كل لسان حديثًا، فاستخدموه في التجارب العملية، وفي معامل العلوم الحديثة. وكذلك يرجع الإقلال من التعامل بالصورة قديمًا، وإحلال النظم أو الصياغة إلى غير ذلك محلها، إلى حداثة الامتزاج بالأعاجم وشيوع اللحن في اللغة العربية توجد النقاد والأدباء أن الأنسب في مواجهة هذا التيار المشوب باللكنة والعجرمة، والتعبير باللفظ والمعنى والنظم والتأليف للصياغة والكلام مما يدل بالنص والتصريح على اللغة وخصائصها، لأن الصورة تعبير غير مباشر، لبيان المراد في اللغة، وإن تردَّدت على ألسنتهم متأثرين بما ترجموه من الاعاجم، فما زالت الصورة غير مختمرة بعقولهم ولا ممتزجة بعواطفهم، لذلك تجنبوا التعبير بها إلا قليلًا، حتى يتخمّر وتمتزج بنفوسهم ليعبروا بها عن أصالة وإحساس صادق وقد نبعت من حياتهم ولغتهم وأدبهم.

بين التأثر والتأثير وقضية السرقات الأدبية: أريد أن أوضح في إيجاز محددًا المفاهيم لبعض المصطلحات، التي تلاحقت في نمو" المعنى الفيَّاض وهو التاثر والتأثير، فتشرق الأسس التي ينبني عليها هذا الفصل، وتتضح معالمه، وتسير على قاعدة مقرَّرة، وأرض صلبة، واتجاه واضح، فقضية التأثر، لازمت الفكر الإنساني من زمن مبكر، واختلفت نظرة النقادة لها مفهومًا ودرجة وعمقًا، في شتَّى العصور حسب المستوى الفكري والثقافي لكل عنصر. ويرجع التأثر بمعناه الواسع إلى عوامل فرضت على المجتمع وهي في إيجاز: أ- الرواية. ب- الحفظ. جـ- الإحياء. و المعارضة. هـ عمود الشعر. "و" البيئة الثقافية التي تعاقبت عليها ثقافة الأجيال السابقة، من التذكر التلقائي أو المتعمد كما يدّعي بعض الباحثين1 وإن كان يرجع رأيي إلى العوامل السابقة على اتساعها. واخذت هذه المشكلة من اهتمام الباحثين قديمًا وحديثًا، قدرًا لم يغفل في أي عصر وأفردوها في كتب مستقلّة مثل سرقات أبي نواس لمهلهل بن يموت، والمنصف في الدلالات

_ 1 السرقات في النقد العربي: محمد مصطفى هدارة ط أولى 1958 ص 251.

على سرقات المتنبي لابن وكيع التنيسي: والإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنًى، لأبي سعيد محمد بن أحمد العميدي. والموازنة للآمدي. والوساطة للقاضي الجرجاني وغيرها كثير. وأما البحوث الحديثة مثل السرقات الأدبية لبدوي طبانة، ومشكلة السرقات في النقد الأدبي لمحمد مصطفى هدارة وغيرهما. وأما الكتب المشتركة بين هذه المشكلة وبين قضايا أخرى، فكثيرة أهمّها طبقات الشعراء لابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني. والصناعتين لأبي هلال العسكري والعمدة لابن رشيق وغير ذلك. واستطاع ابن رشيق أن يجمع أنواع السرقات المتفرقة في كتب السابقين وهي كثيرة 1. أولًا: الاصطراف: أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر: فيصرفه إلى نفسه. ثانيًا: الاختلاب أو الاستلحاق: البيت من الشعر عند الشاعر إن صرفه إليه على جهة المثل فهو اختلاب واستلحاق. ثالثًا: الانتحال حين يدعي الشاعر جملة البيت ويكون لغيره. رابعًا: الادعاء هو أن يدّعي البيت من الشعر من ليس شاعرًا. خامسًا: الإغارة أن يصنع الشاعر بيتًا، ويخترع معنًى مليحًا، فيتناوله من هو أعظم منه ذكرًا وأبعد صوتًا فيروي له دون قائله. سادسًا: الغصب. هو الاستيلاء على بيت من الشعر الآخر عنوة، فليس له بعد التهديد ويسير في الناس باسمه. سابعًا: المرادفة والاسترقاد: أن يأخذ الشاعر بيتًا من غيره على سبيل الهبة. ثامنًا: الاهتدام. وهو السرقة فيما دون البيت ويسمى أيضًا نسخًا. تاسعًا: النظر والملاحظ: وهي التساوي في المعنيين دون اللفظ مع خفاء الأخذ، أو تضاد المعنيين، ودلالة أحدهما على الآخر وقيل أن الأخير يُسمّى "إلمامًا". عاشرًا: الاختلاس: وهو تحويل المعنى من نسب إلى مديح أو من غرض إلى آخر عامة ويسمى النقل. الحادي عشر: الموازنة: وهي أخذ بنية الكلام فقط.

الثاني عشر: العكس: هو جعل مكان لكل لفظة ضدها. الثالث عشر: المواردة: اتفاق الشاعرين في المعنى، وتواردهما في اللفظ، مع عدم لقاء أحدهما بالآخر وسماع شعره. الرابع عشر: الالتقاط والتلفيق: تأليف البيت من أبيات، قد ركب بعضها من بعض وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب. الخامس عشر: كشف المعنى من الشعر وتوضيحه بعد إبهامه. السادس عشر: المجدود من الشعر: وهو ما رزق جدًّا واشتهارًا مع تأخر قائله. السابع عشر: سوء الاتباع: أن يعمل الشاعر معنى رديئًا ولفظًا رديئًا مستهجنًا، ثم يأتي من بعده فيتبعه على رداءته. الثامن عشر: تقصير الأخذ عن المأخوذ، فينزل الآخذ عن المأخوذ منه في معناه، درجة أو درجتين، مع بقاء روح الاتصال بينهما. وأما الأخذ الحسن فذكره ابن رشيق في أمور: المخترع معروف له فضله متروك له من درجته غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاده بأن: أ- يختصره إن كان طويلًا. ب- أو يبسطه إن كان كزًا. جـ- أو يبينه إن كان غامضًا. د- أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافًا. هـ- أو رشيق الوزن إن كان جافيًا، فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك إن قلبه، أو عرفه عن وجهه إلى وجه آخر. فأما إن ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها. فإن قصر كان ذلك دليلًا على سوء طبعه، وسقوط همته، وضعف قدرته 1. ويرى أنه لو التقى شاعران معاصران كابن الرومي وابن المعتز مثلًا، على معنى واحد، التحق المعنى بأقدمهما سنًّا، أو موتًا، أو أجودهما، وإن تساوى المعنيان في الجودة روى لهما على السواء 2.

_ 1 المرجع السابق ابن رشيق جـ 2، 290. 2 المرجع السابق جـ 2 292.

وأنواع التأثر البديعة عنده هي: أ- البديع النادر في العبارات. ب- الخارج عن المألوف في الألفاظ. يقول: السرقة إنما تقع في البديع النادر والخارج عن العادة، وذلك في العبارات التي هي الألفاظ 1 ثم في موطن آخر. جـ الإيغال. د- التتبع. هـ- المبالغة. و التتميم. س- الالتفات 2. واستطاع الإمام عبد القاهر أن يفرق بين أنواع التأثر، ويحدد مصطلحاتها ويميز الجيد منها والرديء بصورة أوشكت عن الكمال، ولا نقول: إنه ابتكرها ابتداء، ولكنه اعتمد على ما وصل إليه المتقدمون وأخذ يلم الشتات بنظرته الشاملة، وبعمق في قدرة عجيبة على التطبيق، وبإسلوب متنوع يدلّ على أصالته. وشخصيته الفذة، ولذلك جاء من بعده وسار على طريقه من غير تجديد ولا ابتكار. ونراه يقسم المعنى إلى قسمين. أ- معنى عقلي: وهو المعنى الذي يقرّه العقلاء، ويجري في كل أمة وعلى أي لسان، وهو يقابل المعنى المشترك عند من سبقه من النقاد، وهذا لا يصح الحكم فيه بالسرقة وإنما المفاضلة فيه بالتصوير والإجادة في التعبير، وإحكام الصناعة، يقول الإمام: واعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره، وسرق واقتدى بمن تقدم وسبق ... لا يخلو أن يكون في المعنى صريحًا أو في صيغة تتعلق بالعبارة ... فقوله: وما الحسب الموروث لا درّ درّه ... بمحتسب إلا بآخر متكسب ونظائره كقوله.

_ 1 المرجع السابق 292. 2 قراضة الذهب في نقد شعار العرب: الحسن ابن رشيق القيرواني: نشرة الخانجي بمطبعة النهضة بمصر. ط عام 1926.

إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب معنى صريح محض، ويشهد له العقل بالصحة ويعطيه من نفسه أكرم النسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجبه في كل جيل وأمة، ويوجد لها أصل في كل لسان ولغة" 1: ويوضح التفاضل في المعنى المشترك فيرجعه إلى اللفظ، الذي يلبس المعنى، والعبارة التي تكسوه وتوضحه أو تؤدّيه بطريق الاختصار أو التفصيل، أو يكون المعنى على نقيضه". يقول الإمام معقبًا على قول الشاعر. "وكل امرئ يؤتي الجميل محبب" صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضده، وأصله قول النبي -صلى الله عليه وسلم:"جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، بل قول الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . ب- معنى تخييلي: وهو ما يمتّ إلى العقل بسبب، بل يرجع إلى الإحساس والشعور وغالبًا ما يختلفا من شخص إلى آخر، وهو ما يسمى عند النقاد المتقدمين بالمعنى الخاص، ويغلب في هذا المعنى السرقة والأخذ إلا من استطاع أن يُولد منه معنى آخر، أو يستوحى منه معنًى تخيليًّا جديدًا، وذلك لا يدخل في باب السرقة المحضة، وهذا ما ذكره الإمام: "وأما القسم التخييلي فهو الذي لا يمكن أن يقال: إنه صدق، وأن ما أثبته ثابت، وما نفاه منفي، وهو مفتن المذاهب كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريبًا، ولا يحاط به تقسيمًا وتبويبًا، ثم أنه يجيء طبقات، ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعًا قد تلطف فيه، وأستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطي شيئًا من الحق، وغثي رونقًا من الصدق، باحتجاج يخيل وقياس يصنع فيه ويعمل، ومثاله قول أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للكان العالي

_ 1 أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني ص 211، 212 تحقيق السيد محمد رشيد رضا ط السادسة القاهرة 1959. 2 المرجع السابق ص 213.

فهذا قد خَيّل إلى السامع أن الكريم، إذا كان موصوفًا بالعلو والرفعة في قدره، وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه، وعظم نفسه وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم، ومعلوم أنه قياس تخييلي، وإبهام لا تحصيل وإحكام، فالعلة في أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية، وإن المال سيال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الإنصاب، وتمنعه من الانسياب، وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال:" 1. ويعقب بقوله: "مع أن الشعر يكفي فيه التخييل والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إلى من التعليل 1: ويفسر الإمام المعنى المشترك والخاص بتفسير أوضح. من التفسير السابق ويرى أن الشاعرين لا يعدو اتفاقهما في أحد أمرين. أولهما: أن يتفقا في الغرض العام والمعنى المشترك كالشجاعة والسخاء، وهذا لا يقع فيه الأخذ والسرقة والاستعداد والاستعانة يقول: "والاشتراك في الغرض على العموم أن يقصد كل واحد منهما، وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسرعة وما جرى هذا المجرى ... فأما الإنفاق في عموم الغرض فما لا يكون الاشتراك فيه داخلًا في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة، لا ترى من به حس يدعى ذلك، ويأبى الحكم بأنه لا يدخل في باب الأخذ 2. وهذا ما يسميه الإمام بالمشترك العامي، والظاهر الجلي، ولا يدخله التفاضل ولا يقوم به التفاوت، ما دام صريحًا ظاهرًا ساذجًا، لا حذق فيه، ولا تعمل وإفراغ بحث. أما إن تعمل في المعنى العامي المشترك، أو عرضه إليه معنًى آخر، أو استولد لطيفه، أو أدخله في باب الكناية والتعريض. أو عرضه في صورة الزمن والتلويح فقد لبس طريقة جديدة وصورة لطيفة، ومعرضًا حديثًا، ودخل في دائرة الخاص، لأنه كثيرًا ما تدبّر فيه وتأمَّل يقول الإمام: واعلم أن ذلك الأول هو المشترك العامي والظاهر، والجلي، والذي قلت: إن التفاضل لا يدخله والتفاوت لا يصح فيه، إنما يكون كذلك منه، ما كان صريحًا ظاهرًا، لم تلحقه صنعه، وساذجًا لم يعمل فيه نقش فأما إذا ركب

_ 1 المرجع السابق ص 214. 2 المرجع السابق 217. 3 المرجع السابق 272، 271.

عليه معنى ووصل به لطبقة، ودخل إليه من باب الكناية والتعريض والرمز والتلويح، فقد صار بما غير من طريقته. واستؤنف من صورته واستجد من المعرض1، وكسى من ذلك التعرض داخلًا في قبيل الخاص الذي يملك الفكرة، والعمل، ويتوصل إليه بالتدبير والتأمل، وذلك كقولهم وهم يريدون التشبيه "سلين الظباء العيون" كقول بعض العرب: سلين ظباء ذي قفر طلاها ... ونجل الأعين البقر الصوارا2 فقد أوهم أن ثمّ سرقة وأن العيون منقولة إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرت أنه يريد أن يقول: أن عيونا كعيون الظباء في الحسن والهيئة، وفترة النظر3. ثانيهما: أن يتفق الشاعران في الإتجاه الخاص وجهة الدلالة التي يهدف إليها كل منهما، والانفراد بحسن التعليل، كإثبات دلائل الشجاعة وعلامات السخاء، وهذا الأمر على ضربين: أحدهما إن كان الإتفاق في هذا مما يشترط فيه الناس وتألفه العقول، وتجاري العادات، فيدخل في القسم الأول وهو المشترك العامي. وثانيهما: هو ما ينتهي إليه الشاعر عن تدبر واجتهاد وبعد منال ومعاناه، وغوص وعرق فيختص صاحبه به، ويجوز فضل السبق والتقدم ويكون مجال المفاضلة والتفاوت، وهذا ما يسميه الإمام بالمعنى الخاص. يقول: وأم وجه الدلالة على الغرض، فهو أن يذكر ما يستدل به على إثباته له بالشجاعة والسخاء مثلًا ... كالتشبيه بالأسد وبالبحر في الناس والجود، وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة بالإشراق ... وأما الاتفاق في وجه الدلالة على الغرض، فيجب أن ينظر: فإن كان مما اشترك الناس في معرفته وكان مستقرًّا في العقول والعادات، فإن حكم ذلك وإن كان خصوصًا

_ 1المعرض هو ثوب العروس التي تتزين به. 2 الطلا بالضم جمع طلبة وهي الاعناق، نجل الأعين العيون النجلاء، أي الجميلة والصور بالضم وبالكسر التطبيع من بقر الوحش: 3 أسرار البلاغة: الإمام عبد القاهر الجرجاني 273 - 275.

في المعنى حكم العموم الذي تقدم ذكره من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء. .. وإن كان ما ينتهى إليه المتكلم بنظر وتدبر، ويناله بطلب واجتهاد ولم يكن الأول في حضوره إياه، وكونه في حكم ما يقابله، الذي لا معاناة عليه فيه، ولا حاجة به إلى المجادلة والمزاولة والقياس والمباحثة والاستنباط والإستنارة، بل كان من دونه حجاب إلى خرقه بالنظر، وعليه كم1 يفتقر إلى شقة بالتفكر ... نعم إذا كان هذا شأنه وههنا مكانه وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية، أن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد، وأن يقضي بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين، وأن أحدهما فيه أكمل من الآخر وأن الثاني زاد عن الأول أو نقص عنه وترقى إلى غاية أبعد من غايته، أو انحط إلى منزلة هي دون منزلته 2". ثم يبين هذا التدبر والإهمال والمعاناة في قوله: "فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم، وتقول فعلُا شبيهُا بما يقع في نفس الناظر، إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق والتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر، فكما أن تلك تعجب وتخلب وتروق وتونق ... كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني، التي يتوهم بها الجامد الصامت، في صورة الحي الناطق ... حتى يكسب الدنيء رفعة والغامض القدر نباهة 2". وبه أبو هلال العسكري قبل عبد القاهر إلى هذا الاتجاه في التأثير، وأن العبرة عنده مكسورة المعنى من الصياغة والألفاظ وعنهما تكون السرقة والتأثر. ويرد أبو هلال الأخذ الحسن إلى أن يكسي التابع معنى المتبوع تعبيرات من عنده، أو يصوغه صياغة جديدة أو يضفي عليه زيادة في حسن تأليف وجودة تركيب وتمام حلية 1، إلا أن عبد القاهر جعل الصورة الأدبية هي عماد التأثر بأنواعه المختلفة، وموطن

_ 1 الكم بكسر الكاف الغلاف الذي يحيط بالثمر والزهر. 2، 3 اسرار البلاغة الإمام عبد القادر 272 - 276. 4 الصناعتين أبو هلال العسكري ص 196 تحقيق البيجاوي أبو الفضل بدار إحياء الكتب المصرية 6952.

الإبداع الفني للشاعر، الذي به يستحق المعنى وينفرد بالصورة ولو كان المعنى قد ملت منه الأسماع، وتلاقت عنده العقول. والاطمئنان الإمام لما وصل إليه، وهو غاية ما وصل إليه النقاد العرب، أخذ بعض قضية التأثر في كتابه دلائل الإعجاز بصورة أوسع وأبعد عمقًا، وقد بناها على فكرة النظم وعلاقات الألفاظ التي اعتمد عليه الكتاب كل الاعتماد. ويربط التأثر بمشكلة النظم، وضحت أنواع التأثر وانكشفت معالمه وظهر الفرق بين السرقة والأخذ وبين الاحتذاء والتوليد والتأثر. وأساس الاختلاف في مفاهيم أنواع التأثر، يرجع عند المتقدمين على الإمام إلى قضية اللفظ والمعنى، فمن نصر اللفظ منهم جعل السرقة في التصوير والتعبير، ما لم يولد الشاعر في المعنى أو يستوحي أو يتأثر بالاتجاه العام فقط، فإن فعل واحدة منها، لا يتهم بالسرقة، ويحكم على تصويره بقدر درجة جودته، ومدى التباعد بين السابق واللاحق، والمعنى عندهم يستوي فيه كل الناس فالمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ فالشعر صياغة وضرب من التصوير كما قال الجاحظ في ردِّه على أبي عمرو الشيباني نصر المعنى1. ومن نصر المعنى جعله بحال السرقة والتأثر فيه وإن فرق أنصاره بين المعنى المشترك العام والمعنى الخاص إلا أن المعنى عنده هو أساس الشاعرين أو اختلافهما فيه وانفراد أحدهما به عن الآخر وإن اختلف التصوير، وتباينت التراكيب وتغاير النظم، ومن أنصار المعنى أبو عمرو الشيباني وابن قتيبة 2. وبانتصار عبد القاهر لفكرة النظم، وصل إلى الغاية في تحديد أنواع التأثر والسرقات وقرب فيها إلى الكمال، وردّ على أنصار المعنى وكشف عن أخطائهم في انتصارهم للمعنى وحده، الذي اختنق بسببه النقد لفترة طويلة وانحطّ شأن التصوير والنظم والجمال والتأليف ولهذا فهو يؤيّد الجاحظ الذي انتصر للفظ والصياغة، لأن المعاني في الطريقة تعرفها الناس جميعًا، لا فرق بين حضري وبدوي، وعربي وعجمي.

_ 1 الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون جـ 1 ص 40. 2 الشعر والشعراء أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ص7 وما بعدها.

ولكنه ردَّ على أنصار اللفظ من حيث هو لفظ مفرد لا يشترك مع غيره في النظم المتلاحم والتركيب المتسق، وبيَّن الإمام أن كلًّا من الفريقين: نصير المعنى وحده، ونصير اللفظ وحده كان سببًا في اختناق النقد لفترة طويلة، وإنهما أخطأ من شأن التصوير والنظم وجمال التأليف. وأنصار اللفظ مستقلًّا يرون أن الشاعر إذا تأثر بآخر في ألفاظه -الألفاظ المفردة- يعدّ آخذًا ومحتذيًا لا مبتدئًا، ولو أتت ألفاظه المأخوذة من غيره على نظم يختلف عما تأثر به، لأن خيال الشيء عندهم هو الشيء نفسه وهم في ذلك لا يفرقون بين السرقة والاحتذاء، وإن كان كلاهما أخذ، فهم كما يراهم الإمام: "مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء، وذلك أنهم قد اعتدوا في كل أمرهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعلوا ألا يحتفلون بغيره، ولا يعولون في القصاحة على شيء سواء حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصبح فقرأه ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليهم، كان قد أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته، إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به، محتذيًا لا مبتدئًا1. ويوضح لهم الإمام خطأهم في اهتمامهم باللفظ كلفظ، فيذكر الاعتبار الصحيح في استعمال الألفاظ وهو النظم، فمن تأثر بنظم آخر وعلى مثاله يعد أخذًا، ومن لم يتاثر بالنظم وإن تأثر بالألفاظ لا يعد آخذًا بل محتذيًا، فالمتأثر بالألفاظ من غير ارتباطها بالنسق النفسي والمعنوى غلط وإفحاش. يقول الإمام عبد القاهر: "ونحن إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء فيها على شيء إنما يقع في النفس، أنه نسق إذا اعتبرنا ما توخى من معاني النحو في معانيها فأما مع ترك ذلك فلا يقع ولا يتصور مجال 2". وعلى ذلك لا تصح المفاضلة بين العبارتين التي وقع فيها التأثر والتأثير في الألفاظ مفردة، ولكنها تقع المفاضلة بين نظم وآخر يختلف عنه وإن اتفق في الألفاظ، فلكل منها صورة تخالف صورة الآخر ألبتة، ويسمى ذلك عند الإمام عبد القاهر تأثرًا.

_ 1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر 417 تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي طأولي 1969 2 المرجع السابق 417.

واحتذاه، لا سرقة وإنما السرقة تقع في التماثل التام بين النظم الأول والثاني يقول: ولقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورته في الآخر، ألبتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت، فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنك أنت الآكل اللابس ذلك لأن بيت الخطيئة لم يكن كلّا ما وشعرًا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجردة معراة عن معاني النظم والتأليف، بل منها متوخي فيها إلخ 1. ثم يرجع الإمام باللائمة على أنصار المعنى، الذين لا يحفلون إلا بالمعنى، وأن الأخذ بالسرقة إنما تقع فيه، فمن أخذ معنى من آخر من غير أن يولد منه معنًى جديدًا، أو يستوحي منه لطيفة طريقة، يعدّ سارقًا وآخذًا، فإن من ولد فيه أو استوحى منه معنًى آخر، لم يكن سارقًا، ويقولون بأن من أخذ معنًى عاريًا كان أحق به، ولذلك كتب المرزباني "فصل في هذا المعنى حسن" وبيَّن لهم الإمام أن ليس الاعتبار في التأثر بالمعنى وحده، لأنه لا يتصور أن يكون هناك معنًى عاريًا من غير لفظ يدل عليه، ولا يتصور أن يأتي واحد منا بمعنى يلفظ من عنده ابتداء به، ولو صح له ذلك فهو أولى به من غيره وينسب إليه. يقول الإمام: ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس، ومن شدّة غفلتهم حيث ذكروا الأخذ والسرقة أن من أخذ معنًى عاريًا فكساه لفظًا من عنده، كان أحق به.... وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب عبد الرحمن2 ثم لا ترى أحدًا من هؤلاء الذين لهجوا، بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول: من أين يتصور أن يكون هنا معنى عار، من لفظ يدل عليه، ثم من أن يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعانى بلفط من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك فمن أين يجب إذا وضع لفظًا على معنى، أن يصير أحق به، من صاحبه الذي أخذ منه إن كان هو لا يمنع بالمعنى شيئًا، ولا يحدث فيه صفة ولا يكسبه فضيلة.... وفي كتاب "الشعر والشعراء" 3، للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن قال: وعن الأمثال.

_ 1 المرجع السابق 492، 430. 2 هو عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني صاحب كتاب "الألفاظ الكتابية". 3 لعله كتاب "معجم الشعراء" المطبوع للمرزباني أو كتاب آخر له مفقود.

القديمة قولهم ... "حرًّا أخاف على جانبي كمأة لأقرأ 1 ويضرب مثلًا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره ما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال 2: وحُذِّرتُ من أمر فمرَّ بجانبي ... لم ينكني3 ولقيت ما لم أحذر4 وسرّ الخلط عند الفريقين كما يراه الإمام أنهم بنوا قاعدتهم على أساس اللفظ أو المعنى ولا ثالث عندهما، وليس الأمر مجرد لفظ أو مجرد معنى، إنما هو أمر ثالث جهلوه وهو الصباغة والتصوير والنظم والتأليف، فمن شأن المعاني أن تختلف عليها الصورة، ومن شأن الألفاظ أن تنتظم بمعاني النحو وأحكامه. مثل ذلك الحاذق في الصناعة حينما يصنع خاتما أو سوارا من ذهب، فالذهب في ذاته وحجمه لا ميزة فيه ولا تفاضل بين قطعة، وإنما الميزة والتفاضل يكون في صناعتها وصقلها، وتنسيق أجزائها، ووضع كل جزء في مكانه المناسب، فتروق النظر وتستهوي اللهب، وتأخذ من النفس مأخذا كبيرا. يقول الإمام: وقد علنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم من أن شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد ألا تكون، فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذقن إذا هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي، فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيها تورطوا فيها من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة، فقالوا ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث5 ". وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتما، أو الذهب أسوارا أوغيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن يحدث فيهما من الصورة، وكذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذي هو حقيقة توخي معاني النحو وأحكامه " 6.

_ 1 كمأة: نبات يمطر في فصل الربيع وهو ما يسميه العامة بعش الغراب. 2 يقول الدكتور خفاجي في تحقيقه الدلائل هو عبد الله بن يزيد الهلالي. 3 نكي: بكسر الكاف ينكي: أضر يضر. 4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر 426: 428. 5 المرجع السابق 425 6 المرجع السابق 430.

ثم يقرّر الإمام عبد القاهر المصطلح الدقيق في التأثر، للاحتذاء ويفرق بينه وبين السرقة والأخذ فالاحتذاء عنده أن ينظم شاعر معنى في أسلوب، ثم يتناول شاعر آخر هذا النظم في نظم من عنده لذلك أنكر ابن الرومي ادّعاء البحتري بالسرقة والأخذ في بيت أبي نواس: ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ... بشرقي ساباط الديار البسابس فقد أخذه الشاعر من قول أبي خراش الهذلي: لم أدر من ألقي عليه رداءه ... سوى أنه قد سل من ماجد محصي وقال ابن الرومي لأبي نواس، فقد اختلف المعنى فيهما، قال أبو هلال العسكري الذي حكى الخبر، فهذا من حلى الأخذ والحذو مع أن حذوا الكلام حذوًا واحدًا، وأما الأخذ والسرقة عنده، فهو ألا يكون في المعنى جديدًا، حينما ينظم شاعرًا على مثال آخر، ويتفق معه في النظم والمعنى ويكون الفضل للسابق. يقول الإمام: واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه، أن يبدأ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبًا -والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره فيشبه بمن يقطع من أديمة فعلًا على مثال فعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله ... وحكى العسكري في صنعه الشعر أن ابن الرومي قال: قال لي البحتري: قول أبي نواس، ثم ذكر البيتين السابقين. قال فقلت: قد اختلف المعنى فقال أما ترى حذوًا واحدًا، وهذا الذي كتبت من حلي الأخذ في الحذو 1". ثم يفصل الإمام المعنى بين الأخذ والمأخوذ فيجعله قسمين: أ- قسم أنت ترى فيه أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب. وهو القسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلًا، وفي الآخر مصورًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي: إذا اعتلّ سيف الدولة اعتلّت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض

_ 1 المرجع السابق 418، 419.

مع قول البحتري: ظللنا نعود الجود من وعكك الذي ... وجدت وقلنا اعتلّ عضو من المجد1 ب- وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى، وصور من الأمثلة لهذا القسم قول لبيد: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل مع قول نافع بن لقيط: وإذا صدقت النفس لم تترك لها ... أملًا، ويأمل ما اشتهى المكذوب2 وبهذا كله يحسم الإمام القضية، ويبين في غير خفاء الأخذ القبيح والأخذ الحسن ويميز بين السرقة والأخذ وبين الاحتذاء. والاحتذاء هو المحمود عنده، وهو الذي ينبغي أن يرعاه الشعراء لا الأخذ والسرقة، وهما مذمومان عنده، والاحتذاء وإن كان فيه أخذ إلا أن الشاعر قد جدد في المأخوذ، وابتكر في بعض أجزائه، بينما الأخذ في السرقة تجديد فيه ولا ابتكار. وفي الاحتذاء نوعان: - أحدهما: التأثر وقد ذكره الآمدي حينما مدح البحتري في معانيه التي أخذها من أستاذه أبي تمام وصاغها من طبعه، ولم ينكر عليه ذلك فقال: غير منكر لشاعرين متناسبين من أهل بالدين متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني3". والنوع الثاني: وهو التوليد: وضحه ابن رشيق بقوله "والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه، أو يزيد فيه زيادة، فلذلك يسمى التوليد، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة، إذ كان ليس آخذًا على وجه4". إذن فالسرقة والأخذ هما أحسن أنواع التأثر لما فيهما من التقليد وانعدام شخصية الشاعر، والتكرار الذي يبعث الملل في النفس، ويأخذها بالضيق والسأم. وإما الاحتذاء فهو أشرف أنواع التأثر لأن فيه خلقًا وابتكارًا في جانب، وتقليدًا واتباعًا في جانب آخر، وتبعًا لذلك ربما يسمو متأخر في تصويره عن متقدم حذا حذوه.

_ 1 المرجع السابق 431، 432. 2 المرجع السابق 432، 440. 3 الموازنة للامدي 45 نشره محمود توفيق الكتبي ص حجازي بالقاهرة 1944 م. 4 العمدة: ابن رشيق التحقيق السابق جـ 1 ص 263.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب الموضوع الصفحة المقدمة 3 القسم الأول عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي 5 الباب الأول الآمدي الناقد الأدبي الفصل الأول الآمدي الناقد الأدبي 7 منهج الآمدي في نقده الأدبي 13 ذوقه الأدبي 16 الآمدي وتحقيقه للنصوص الأدبية 19 النقد الموضوعي عند الآمدي 22 الفصل الثاني تبويب كتاب الموازنة الآمدي أبواب الكتاب 25 الموازنة 27 الشاعر 29 النقد عند الآمدي 31 الباب الثاني عمود الشعر العربي عند النقاد الفصل الأول مفهوم عمود الشعر العربي 35 الفصل الثاني الخصائص الفنية لعمود الشعر العربي

الموضوع الصفحة خصائص اللفظ 43 خصائص المعاني 45 خصائص النظم والتراكيب 47 الفصل الثالث عمود الشعر بين النقاد رأي النقاد القدماء في عمود الشعر 49 عمود الشعر عند الآمدي 57 الفصل الرابع عمود الشعر بين الالتزام والتحرر القدماء والمعاصرون 61 الالتزام والتحرر 67 الباب الثالث عمود الشعر والموازنات الأدبية الفصل الأول رأي الآمدي في سرقات أبي تمام والبحتري 67 الفصل الثاني أبو تمام والبحتري في ميزان النقد الأدبي أصحاب البحتري بين الجرح والتعديل 77 تحامل الآمدي 84 الإنصاف في نقد الآمدي 87. القسم الثاني قضايا المعنى واللفظ والأسلوب 94 والصورة والخيال والموسيقي الفصل الأول صحيفة بشر بن المعتمر في هذه القضايا 95

الموضوع الصفحة بشر بن المعتمر 96 منزلة الصحيفة من الفنون الأدبية 103 مجال التأثر والتأثير في التراث النقدي 107 القريحة والاكتساب 110 منزلة العاطفة في الأدب 118 الوزن والقافية 121 منازل الأديب ومراتب الأدب 125 مقتضى الحال والصدق الفني 133 النظم والتصوير الأدبي 136 الفصل الثاني موقف النقاد من هذه القضايا في النقد القديم 146 الصورة الأدبية في النقد الأدبي القديم 147 الصورة الأدبية في العصرين الجاهلي والإسلامي 150 بشر بن المعتمر والصورة الأدبية 152 موقف الجاحظ من الصورة الأدبية 159 موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية 160 ابن طبا طبا والصورة الأدبية 161. قدامة بن جعفر والصورة الأدبية 165 الآمدي والصورة الأدبية وموقفه من الجمال والجلال 168 القاضي الجرجاني والصورة الأدبية وموقفه من الجمال والجلال 178. أبو هلال العسكري والصورة الأدبية 186. الباقلاني والصورة الأدبية 189. ابن رشيق والصورة الأدبية 189. ابن شرق القيرواني 194. الإمام عبد القاهر الجرجاني وموقفه من هذه القضايا 194.

الموضوع الصفحة موقف عبد القاهر من اللفظ والمعنى والنظم والخيال والصورة الأدبية ... 195 موقفه من النظم 198 موقفه من السرقات الأدبية والصورة الأدبية 213 مظاهر التجديد في موقفه من النظم الصورة الأدبية 218 بين التأثر والتأثير وقضية السرقات الأدبية 227. محتويات الكتاب 241. خاتمة الكتاب 244. ثم بحمد الله تعالى وتوفيقه

§1/1