في الميزان الجديد

محمد مندور

مقدمة

المقدمة: منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومنهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج وأفعلها في النفس. وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "تفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها، وفي أثناء ذلك يتناول الأساتذة النظريات العامة والمبادئ الأدبية واللغوية بالعرض عرضا تطبيقيا تؤيده النصوص التي يشرحونها. والجامعات الفرنسية لا تلقى بها محاضرات ولا دروس عن العلوم النظرية التي تتصل بالأدب، فلا نحو ولا بلاغة ولا نقد؛ بل ولا تاريخ أدب فرنسي، وإنما يعالج كل ذلك أثناء شرح النصوص، ومن هنا قلما نجد في اللغة الفرنسية كتابا في النقد الأدبي النظري على نحو ما نجد في اللغة الإنجليزية مثلا. هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي، وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة، فحرصت على بسط النظريات العامة خلال التطبيق، كما اعتمدت على الموازنات لإيضاح الفروق التي لا تزال قائمة بين أدبنا وأدب الغرب. وهذا ما أرجو أن يجده القارئ في الجزء الخاص بالأدب المصري المعاصر من هذا الكتاب؛ حيث لم أكتفِ بنقد روايات أو دواوين الحكيم وبشر فارس وعلي محمود طه ومحمود تيمور وطه حسين؛ بل عالجت في كل حديث مسألة عامة كالأساطير واتخاذها مادة للشعر أو القصص، وفن الأسلوب، والأدب الواقعي، ومشاكلة الواقع في القصة، وما إلى ذلك. وفي كل حديث قدرت ما نفعله وما يفعله الأوربيون في غير مجاملة ولا تحامل. ولقد أثارت تلك المقالات ردودًا وأحاديث، وأحسست أننا سننزلق إلى المناقشات العامة التي يصعب تحديدها في مجال الأدب، فلم أرَ بُدًّا من أن أوضح اتجاهي العام بنقد بعض النصوص نقدا موضوعيا أحاول أن أضع فيه يد القارئ

على ما أحس من مواضع الجمال والقبح، ووقع اختياري على بعض من قصائد وكتابات لأدباء المهجر، وأحسست في أدبهم من الصدق والألفة ما وقع في نفسي موقع الأسرار التي يتهامس بها الناس، وأكبر الظن أن الكذب في التهامس أقل بكثير منه في الجهر، ولربما كانت هذه الحقيقة النفسية هي السبب الأول في تسميتي لهذا الأدب بالمهموس. ولقد تساءل نفر من الأدباء عن سر إعجابي بهذا الأدب وافترضوا الفروض التي قد يقبل الذوق الأخلاقي السليم بعضها، بينما يأبى البعض الآخر. ولقد سجلت بعضا من أصداء هذه المناقشات في ذلك الجزء من الكتاب؛ وذلك لما نفثت فيها من حرارة الإيمان، ثم لأنها تتمم آرائي وتوضحها بما تعالج من مسائل عامة. وفي أثناء دراستي لتلك النصوص التي تحدثت عنها وعن غيرها مما تناولت -بحكم عملي في الجامعة كمدرس للآداب- أخذ يتكون في نفسي منهج عام للنقد، ولقد ركزت هذا المنهج في جزأين من هذا الكتاب يجدهما القارئ في الفهرست تحت عنواني: مناهج النقد -تطبيقها على أبي العلاء المعرفة والنقد- المنهج الفقهي، وباستطاعة القارئ أن يلاحظ أنه منهج ذوقي تأثري وذلك على تحديد لمعاني تلك الألفاظ. فالذوق ليس معناه النزوات التحكمية، وجانب كبير منه -كما وضحت في مقالي عن الأدب ومناهج النقد- ما هو إلا رواسب عقلية وشعورية نستطيع إبرازها إلى الضوء وتعليلها، وبذلك يصبح الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة التي تصح لدى الغير، وإن كنت لا أنكر أنه سبقني إلى تقرير ذلك كبار نقاد العرب أنفسهم كالآمدي والجرجاني على نحو ما يرى القارئ في مقالاتي عن المعرفة والنقد، ثم إنني وإن كنت أومن بأنه ليست هناك معرفة تغني عن الذوق التأثري إلا أنني مع ذلك أحرص على أن يكون الذوق مستنيرا وفي هذا المجال -مجال الاستنارة- أميز بين نوعين من المعرفة. فهناك المعرفة الأدبية اللغوية وهذه هي الأساس، فقراءة مؤلفات كبار الشعراء والكُتَّاب هي السبيل إلى تكوين ملكة الأدب في النفوس، وليست هناك سبيل غيرها، وذلك على أن تكون قراءة درس وفهم وتذوق، وأما ما دون ذلك من أنواع المعرفة كالدراسات النفسية والاجتماعية والأخلاقية والتاريخية وما إليها، فهي وإن كانت عظيمة الفائدة في تثقيف الأديب ثقافة عامة وتوسيع آفاقه، إلا أنني لا أريد أن تطغى على دراستنا للأدب كفن لغوي، وأنا مؤمن بأنه من الواجب أن يستقل الأدب بمنهجه عن غيره من العلوم، وأنه

من الخطر أن يطبق عليه منهج أي علم آخر أو أن يأخذ بالنظريات الشكلية التي يقول بها العلماء في الميادين الأخرى. ولقد حرصت على أن أورد في الجزأين الآخرين من الكتاب أمثلة لنوعين دقيقين من المعرفة التي تسبق النقد وهما: "أصول النشر" و"أوزان الشعر"، فمن واجب المشتغل بالآداب أن يحيط علما بأمثال هذه المسائل؛ وذلك لأنه إذا كانت دراسة الأدب في نهاية الأمر هي تذوق النصوص فإنه لا غنى لمن يريد ذلك التذوق من أن يتأكد أولا من صحة النص الذي أمامه ومن استقامة وزنه وكيفية تلك الاستقامة إن كان شعرًا. ولقد نظرت في هذا الكتاب عندما انتهيت منه فأحسست أن فيه ما يكفي القارئ الذي يمعن النظر ليخرج منه بالأصول العامة للأدب ودراسته، ولقد كان في هذا ما شجعني على أن أعود إلى هذه المقالات أعيد قراءتها وتنقيحها والإضافة إليها، وفقا لما تمخضت عنه تجاربي أثناء السنوات الخمس التي قضيتها بمصر، ولقد كانت تلك التغيرات أكثر ما تكون في أقدم المقالات. ثم إن هناك مسألة نفسية دفعتني أيضا إلى نشر هذا الكتاب، وهي أن قارئ المجلة غير قارئ الكتاب. ولقد كنت مضطرًّا عندما نشرت معظم هذه الأحاديث بـ"الثقافة" و"الرسالة" إلى أن أركز ما أريد قوله حتى أفرغ منه في حدود المقال. ولهذا سيرى القارئ مشاكل كثيرة عرضت لها جامعا أطرافها في جملة أو بعض جمل، ولي كبير الأمل في أن يقف عندها. محمد مندور

الأدب المصري المعاصر

الأدب المصري المعاصر: النقد ووظائفه: الآن وقد نهض جيلنا يحق لنا -بل يجب علينا- أن نحصي التراث لنرى ماذا عمل من يكبرنا سنا، وماذا بقي علينا أن نعمل؛ لنسير على بينة كما ساروا، واثقين من أن مراجعة القيم ورسم النهج وتخطيط الأفق هو دائما من عمل الشباب عند نضجه؛ إذ سرعان ما تسلمنا الحياة بطول معاشرتنا لها إلى المحافظة، اللهم إلا أن نستثني العبقريات الفذة التي تظل شابة أبد السنين. ومن البين أنه لا بد في كل نزعة ثائرة محددة من شيء من السذاجة أو ما يسميه الناس سذاجة، نستطيع معها أن نستخف بالصعوبات، وأن نعمى ولو مؤقتا عما نستهدف له من أخطار، عندما نجاهد في سبيل الحق من بأيديهم القوة والبطش. والناظر في أدبنا الحديث يلحظ أن الجيل السابق قد نجح في شيء وأخفق في أشياء. وأكبر ظواهر الإخفاق فيما يبدو هو خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية، نعم إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيرا ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضا وتفاؤلا من الشبان الساخطين المتشائمين، كما أعلم أن طول التجارب كثيرا ما يبصرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، بل إن كل تجربة عبء يثقل خطانا. وأضيف إلى ذلك أنه قد يكون من الخير لحياتنا الاجتماعية أن ترتد هجماتنا عن بعض المقومات التي في نهوضها ضرورة لاستقامة الأمور واطرادها على نحو يشفع فيه الثبات لما عداه، وبالنفس من اليقظة ما يبصرنا بأن للحياة المادية قسوة كثيرا ما تلين أصلب العزم، وثمة الطموح وإغراء الشهرة وسحر الجاه وشهوة السلطة الزمنية وما إلى ذلك من نزعات، ولكني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن "محمد"؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه. ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت. ولكن هالني يوما أن أرى أحد كتابنا المعروفين باتساع الأفق يدعوني إلى أن أسقط من حديث لي بالراديو كلمة "حوريات" ترجمة لعرائس الغابات المعروفة في الأساطير

اليونانية، خوفا من أن يتهمني أحد بالمروق عن الدين لاستعمال لفظة وردت في القرآن، وأنا بصدد الحديث عن خرافات الوثنية اليونانية!! إذن بقي لنا أن نعود إلى التقاط الأسلحة التي ألقاها سابقونا، وأنا نناضل دون حرية الرأي وكرامة الفكر البشري وتقديس حقوقه غير باغين ولا معتدين. وكان نجاحهم أوضح ما يكون في المجال الفني؛ إذ استطاعوا أن ينتقلوا بالنثر العربي الحديث -بل بالشعر- في السنوات العشر الأخيرة من اللفظ العقيم إلى التعبير المباشر ومن الصنعة إلى الحياة: "من حديث عيسى بن هشام" إلى "دعاء الكروان". وكان "للديوان" وأمثاله من كتب سابقينا في هذا التطور فضل كبير، ولقد استطاعوا أن ينقلوا معنى الأدب وفن الكتابة، كما يفهمه الأوربيون إلى المتخلفين منا؛ بحيث لم يعد اليوم لأنصار المذهب اللفظي السقيم في بلادنا نفوذ يذكر. وسار الزمن سيرته فلم نعد نرى "موازين" حتى أصبح النقد، إما سبابا أو إعلانا، فهذا يريد أن يحطم "الأصنام"، والجمهرة العظمى لا هَمَّ لها إلا أن تُرضي هذا أو ذاك بالإعلان عن كتبه إعلانا متنكرا في صيغة النقد الأدبي، وأكبر ظني أن معظم هؤلاء النقاد المحترفين لا يقرءون ما يكتبون عنه فيما عدا العنوان وبعض صفحات. وليس هذا بالنقد الذي يستطيع الجمهور أن يثق به فيعمد إلى قراءة ما يستحق أن يقرأ أو رؤية ما يجب أن يرى من مسرحيات وأفلام، على نحو ما نرى في المجلات الأوربية التي تحرص -في الباب العام الذي تخصصه للنقد- على الأمانة في هداية الجمهور أمانة مستنيرة صادقة الذوق. وليس هذا بالنقد الذي يدرس عن قريب ما يريد أن ينقد، فيولد ما فيه من معانٍ يضعها تحت بصر القارئ الذي لا يملك عادة من الوقت ولا من الخبرة ما يستطيع معه أن يستخرج من النص كل ما فيه، بل إن الناقد الحقيقي ليضيف إلى النص الشيء الكثير، يخلقه خلقا بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه بل من واجبه ما دام لا يتعسف فيخرج المعاني غير مخرجها أو يحملها ما لا تطيق. وفي الحق أن النقد الجيد خلق جديد؛ إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير. وليس هذا بالنقد الذي يستطيع أن يساهم في توجيه الأدب وجهة الأمانة العقلية والصدق في العبارة، وما أحوجنا إلى الأمانة والصدق في كل مظاهر نشاطنا المادية والروحية، وهما في مجال الروح ألزم. والأدب فيما أرى أقوى عامل في مراجعة القيم وتفنيد باطلها من صحيحها، والأدب أسلم مناهج حياتنا، وإنه لمن الإجرام أن ننزله منزلة السلع فنجامل هذا الكاتب أو ذاك بأن

نتحدث عن كتابه، كما نعلن عن "صابون النمر" أو "اسبرو الروماتيزم"، وذلك في غير نفع لأحد، فالكاتب نفسه لا يخدعه هذا النفاق، وإلا كان من الغفلة بحيث لا يستحق أن يسمى كاتبا، والجمهور قد طالت خديعته حتى استيقظ ففقد الثقة في الكثير مما يقرأ عن الكتب والكتاب. وأنا أعلم ما في هذه الصفحات من جهد، ولكني أقدمت لغرضين: أولهما أن أكون هاديا لجمهور القراء، أسبقهم إلى قراءة ما يقع تحت يدي من الكتب. فإن وجدت فيها خيرا أظهرت ذلك الخير، ودعوت غيري إلى مشاطرتي إياه، إن لم أجد حدثت القراء عن تجربتي لعلها تنفع، ولو في تلك الحدود الضيقة التي يفيد الناس من تجارب غيرهم، وثانيهما أن أكون عونا للكاتب الجيد على أن يؤدي رسالته لدى الجمهور، سواء أكان هذا الكاتب ناشئا ينبعث عنه الأمل أم منتهيا قد وفق إلى أن يخلف على رمال الزمن وقع أقدامه. وإنه ليسرني أن أقود الجمهور خلال ما يكتب أدباؤنا الذين انتهوا إلى أوج المجد، ولكن على شرط ألا يقع هؤلاء الكتاب فريسة لنجاحهم نفسه، فتعقم نفوسهم بالزهو وتفسد أمانة عقولهم، فلا يأخذون أقلامهم بالجهد معتمدين على ما اكتسبوا من مجد أو شهوة، وكم لدينا من كتاب قد أصبحنا نحس أنهم لا يشقون في العناية بما يكتبون، ولا في التفكير فيه؛ لوثوقهم -فيما يظنون- من إقبال الجمهور عليهم، ولو كانت كتابتهم هذرًا وسخافة. وأصحاب المطابع والمجلات يقبلون بلهفة ما يقدمون إليهم؛ إذ يضمنون من ورائه الرواج المادي بفضل حمق الجمهور في تعلقه بالأسماء، أكثر من تعلقه بقيمة ما يقرأ. وفي هذا استخفاف بعقلية القراء اليقظين ذوي النظر السليم، كما أن فيه قضاء مبرما على الكُتَّاب أنفسهم، وخسارة كبيرة تنزل بتراثنا الروحي وثقافتنا الراهنة التي نريد أن نبنيها بناء أصيلا، والتي ما زلنا عند الحجارة الأولى من أساسها. وكتابنا الأفاضل يعلمون حق العلم أن أول واجباتهم إن كانوا حريصين على المجد الحقيقي، المجد الذي يفلت من طوفان الزمن، المجد الباقي لا تهريج الجماهير -هو أن يأخذوا أنفسهم بالجهد المتصل والمراقبة المستمرة والقسوة اليقظة في المقال وفي الكتاب؛ بل في الحديث إلى الناس مجرد حديث يتبدد أنفاسا، فالتفكير أمر شاق والعبارة عنه أشق. فليحذورا إذن أنفسهم وليحذورا النجاح. وثمة مشكلة السينما والراديو والمجلات والجرائد، والذي لا شك فيه أن هذه

الوسائل قد احتلت في حياتنا -بل حياة كل الشعوب- مكانا لا يدانيه مكان الكتاب. والأمر في بلادنا أوضح؛ إذ نرى الإقبال على المشاهدة والاستماع أكبر من الإقبال على القراءة، وذلك بحكم قانون أقل الجهود الذي يسيطر على حياة الكسالى من أمثالنا أشد سيطرة. والقراءة على قلتها لا تكاد تمتد إلى الكتب القوية، بل تقتصر على الجرائد والمجلات التافهة، وهذه حالة محزنة يجب التماس علاج لها، وأنا لا أشك في أن للمسألة الاقتصادية وفقر الناس دخلًا في هذه الظاهرة، ولكني أعتقد أن هناك ما يمكن عمله من الناحية الثقافية أيضا، وذلك بكسب النقد لثقة الجمهور ثم دعوته إلى القراءة، ففيها ما يرفع القلوب ويهذب الإحساسات وينير العقول ويربي الخلق، بل فيها ما يجدد الحياة ويذهب بمللها. وأمر السينما والمسرح والراديو والكثير من المجلات متروك بين أيد أخشى ألا تستطيع أداء رسالتها، بل إنها قد لا تعرف أن لها رسالة، وهذا إجرام في حق الشعب وحق الوطن؛ ولهذا يجب أن يُعْنَى بها النقاد، فهي وإن تكن أشياء فانية عابرة محدودة الأثر في تثقيف الشعوب ثقافة حقيقية، إلا أنها واسعة الانتشار شديدة الضرر، وليس من شك في أنه من الواجب أن نساهم في تجميل حياة مواطنينا وحمايتها والدفاع عنها إلى جانب ما نستطيع أن نكتب لأنفسنا أو للخواص من الناس. وبعد فقد حقق الجيل السابق ما استطاع تحقيقه، وها نحن بدورنا نسعى إلى أن نخطو الخطوة الأخيرة ليدخل الأدب المصري المعاصر والتفكير المصري المعاصر في التيار الإنساني العام. وسبيل ذلك هو بلا ريب الإخلاص لأنفسنا، فلكل نفس فيما أعتقد أصالتها، ولعل في النقد ما يساعد تلك النفوس على إدراك ما تمتاز به من عناصر تنميها فتُؤتي ثمارها. وأكبر نقص في أدبنا -على ما أعتقد- وهو بعده عن الألفة Intimacy فهو قلما يهمس. وهل لذلك من سبب غير ضعف الإخلاص فيه وغلبة المهارة عليه، سواء في الصياغة أم في التفكير. كثير من كتابنا في حاجة إلى التواضع بل إلى السذاجة؛ ليأتي أدبهم مهموسا على نحو ما أتت معظم الآداب الخالدة. هذا، وكثير من كتابنا على الدولة أن تنجو بهم من ضرورات الحياة؛ لكي يحسوا لأنفسهم ويفكروا لأنفسهم في هدوء واستجمام، وعندئذ سنجد أنفسنا فيما يكتبون.

بجاليون والأساطير في الأدب

بجاليون والأساطير في الأدب ... بجماليون والأساطير في الأدب: وأخيرًا أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا حتى رأينا كاتبا كالدكتور طه حسين يكتب في روايته "أديب": "لقد ماتت قناتنا أيها الصديق! مات ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحا هادئا وادعا مستبشرا، يرسل البشر من حوله، جميلا ينثر الجمال عن جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه، أو طرد هذا الإله ورد عن مجراه، وفني في الإبراهيمية فأصبح ماء من الماء، وجرى لا يتميز عن غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحد، لا يثير في نفوس الناس حزنا ولا فرحا، ولا تجري ألسنتهم بالحديث عنه، نسيه الناس ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضا، إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردا. فقد هدم معبد هذا الإله الشاب وماتت القناة، فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث". ولو أنك بحثت عما خلف هذه الفقرة الطويلة من معنى لم تجد غير خبر يلقي به مواطن إلى مواطنه، فالأديب الذي نشأ في نفس القرية التي نشأ فيها طه حسين قد عاد إلى بلدته فوجد أن ترعتهم قد ردمت بعد أن كانت تنساب من الإبراهيمية إلى القرية، وحزن الأديب لزوالها أو قل حزن طه حسين الذي دل في موضع مما كتب على إلفه للأمكنة وإحساسه بها إحساسا مرهفا، واحتال الكاتب على شفاء نفسه مما تجد، فلجأ إلى الأساطير اليونانية التي خلعت على الأشياء صفات الإنسان أو صفات الآلهة. والأمر بعد سيان؛ إذ إن آلهة اليونان قد خلقهم هذا الشعب على شاكلة البشر. وعلى نحو ما جعل هوميروس من نهر الاسكامندر في الإلياذة إلها يصارع البطل "أخيل"، ترى طه حسين يجعل من قناة بلدتهم إلها شابا سرعان ما ينسى وينسينا أنه أسطورة أو إله خرافة، وإذا بالإله شاب إنسي يموت ويدفن في القناة أو على الأصح يفنى بفنائها، وإذا بالكاتب يمزج بين حياة هذا الشاب وحياة من حوله، وينفث فيه فيضا من العاطفة قد بلغ من

التأثير في نفس القارئ مبلغا، ما كانت الألفاظ -مهما رقت- بمستطيعة أن تصل إليه بغير هذا التشخيص. وها نحن نرى اليوم الأستاذ توفيق الحكيم يتناول أسطورة "بجماليون" اليونانية الأصل ليتخذ منها وسيلة لعلاج مشكلة نحس أنها تعني الكاتب، مشكلة الحياة التي لا يجد الفنان سبيلا إلى الصدوف عنها، مهما أصاب من نجاح، هي أبدا تلاحقه وتقتضيه حقوقها؛ وإلى هذا فطن اليونان فجرت أحدى أساطيرهم بأنه قد كان في جزيرة كريت فنان بارع عقد عزمه على ألا يتزوج ليوفر حياته على الفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما رآهن بأعياد فينوس إله الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة "أماتونتوس" على الساحل الجنوبي للجزيرة؛ حيث كان معبد تلك الآلهة. وغضبت فينوس من كبريائه فألقت بقلبه حب تمثال عاجي من صنعه، اسمه "جالاتيه" واشتعلت بحواس الفنان المسكين رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة أن تنفث الروح بالتمثال. ورق قلب الآلهة لضراعته فاستجابت. وتزوج بجماليون من جالاتيه وكان له منها ولد هو "بافوس" مؤسس مدينة "بافوس" مدينة الحب الشهيرة بجزيرة كريت. وشاء شيطان "الحكيم" أن يجسم جانبي النزاع في نفسه. فلجأ إلى أسطورة يونانية أخرى هي أسطورة "نرسيس" أي النرجس. وذلك أن خيال اليونان رأى النجرس ينمو دائما على شواطئ الغدران فاخترع له أسطورة. قالوا: إن النرجس كان في الأصل شابا جميلا يعرف أنه جميل، وكان يطيل النظر في مرآة المياه ليتمتع بجماله. فنسخته الآلهة زهرة لا تزال إلى اليوم تنبت على حافة المياه لتطل في صفحتها. وجاء علماء النفس المحدثون فاتخذوا من معنى هذه الأسطورة اسما لمرض نفسي هو غرام الشخص بنفسه على نحو ما يغرم بفتاة. حتى أصبحت تلك "النرجسية" Narcissisme من أبحاث المشتغلين بذلك العلم. ورأي الحكيم أن نرسيس يستطيع أن يرمز إلى تلك النزعة القوية التي تدعوه إلى الحياة وتصرفه عن الفن، فحزم أمره واتخذ من نرسيس حارسا لتمثاله، اتخذ من حياته حارسا لفنه وترك الكاتب لنرسيس الحرية في أن يلهو مع فتاة يونانية عرفت منذ عهد سوفوكليس بالحكمة هي "إيسمين". وكأني بالكاتب لا يخشى على نرسيس منها شيئا، وإنما هي ملهاة، عرضت نفسها على نرسيس فقبلها، وهي لن تؤدي به إلى الطغيان على بجماليون، لن تنصر الحياة على الفن، وفي هذا ما يحزن فلإيسمين في النفس قداسة.

وكم كنت أود لو التمس الحكيم لنرسيسه فتاة أخرى. إيسمن في ذكرياتي هي إيسمين سوفوكليس..إيسمين العزيزة النبيلة. وما أخالها إلا منتقمة لذكراها الخالدة، وقد زجت إلى حيث لا تدرك لوجودها معنى. ومزج الحكيم بين بجماليون ونرسيس، فالشخصيتان هما الفنان نفسه بجانبيه: جانب الحياة التي يجب أن يأخذ منها بنصيب، كما يأخذ جميع البشر، وجانب الفن الذي يريد الكاتب أن يوفر عليه كل نشاطه، ومن ثم نرى نرسيس يهرب ذات مرة مع جالاتيه نفسها، ولا تجد إيسمين في ذلك غضاضة قوية، ولا يجد بجماليون للغيرة ألما؛ وذلك لأن إيسمين متعة عابرة، ولأن نرسيس هو بجماليون نفسه، فالأمر إذن لا يعدو انتصار الحياة في برهة من أيام الكاتب أو الفنان، وهو بعد انتصار لا يضير الفن، إذا سار الفن مع الحياة سارت جالاتيه مع نرسيس. وهكذا تعقدت حياة بجماليون بين يدي الحكيم، حتى طال تردده بين الحياة والفن، فآنًا يفرح ويطمئن إلى جالاتيه المرأة، وآنًا يعود فيحن إلى جالاتيه التمثال. وأما القارئ فيشهد كل ذلك بعقله، وكأن تلك الشخوص أفكار مجردة، هامدة تتحرك لمجرد علاج مشكلة تدور بالعقل.. العقل البارد الذي لا يهز. وبدأ يتضح اتجاهان في استخدام الأساطير عندنا: فهذا طه حسين يجعل من قناتهم شابا، كان يملأ الدنيا بهجة، ثم يموت الشاب فنحزن لموته؛ وهذا توفيق الحكيم يتخذ من بجماليون ونرسيس وإيسمين رموزا لعلاج إحدى مشاكل حياة الفنان، مشاكله الجسيمة يعالجها على نحو عقلي معقد مبسط. ولنتمهل قليلا لنرى ماذا فعل كُتَّابنا بالأساطير؟ وماذا فعل كُتاب غيرنا من الشعوب؟ لنرى بوضوح كل ما يمكن كسبه لو أننا استطعنا أن نحسن استخدام ذلك الجانب الإنساني الرائع من خرافات الأولين: يونانيين كانوا أو عربا أو هنودا، ففيها كلها ما يغذي العقل والقلب، ويفتح أمام النشاط ميادين لا حد لغناها. ونحن اليوم على أبواب تطور خطير في حياتنا الروحية والفكرية؛ إذ من كان يظن في أوائل هذا القرن أن كتابنا سيرون في إحدى ترع الصعيد إلها شابا، أو يشقون شاعرا أو كاتبا من شعرائنا أو كتابنا كالأخطل مثلا أو ابن قتبية إلى بجماليون ونرسيس، إلى فن وحياة يرواغان ويتداخلان، وهذا اتجاه يبشر بالخير، خليق بأن يجدد حياتنا، ولكن على شرط أن يكون التجديد إنسانيا عميقا جميلا، وأما

إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد عندئذ أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى، وإنا لندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم ليغذي نفوسا تعلم وتحس في قرارة الإنسان وفي آيات الطبيعة أو في الصلة بينهما حقائق جميلة، لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة، أو ضائعة في خلال الألفاظ التي طالما أصبحت في أدبنا عبثا يقصد لذاته، وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نرى مضاضة في أن نأخذ عن كبار مفكري الإنسانية وأدبائها دورسا، نشد بها من قدرتنا حتى نستطيع النهوض على أقدامنا والسير مع هؤلاء الرجال جنبا إلى جنب. وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم، الفهم العميق، وكل فهم صحيح تملك للمفهوم، ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق، على ما في تلك الاصطلاحات من تحكم غير صادق في أغلب الأحيان. فكم من أساطير يصح أن تسمى حقائق! وكم من حقائق تكشف عن أساطير! والأمر بعد سيان، فما نريده هو أن نملك كل ما تصل إليه عقولنا، وسنرى عندئذ كيف ننمي هذه الثروة الروحية، بل إنها ستنمو نموا ذاتيا بما فيها من قوى كامنة، كالمال يولد بعضه بعضا ما خلصت لنا ملكيته. هذا التملك هو سر ما وصل إليه الكُتَّاب الأوربيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم، فاليونان اتخذوا من الأساطير الشعبية التي كانت شائعة في القبائل الأندوأوربية الأولى - مادة لأَجَلِّ وأعمق ما خلف البشر من أدب وتفكير. وخلفهم في ذلك اللاتين ثم الفرنسيون في أدبهم الكلاسيكي. والأمر لا يقف عند الأدب بل يمتد إلى كل الفنون. وفي متاحف العالم أجمع لوحات لا عداد لها وتماثيل نحتت في كل الأزمنة وفي مختلف البلاد بوحي من تلك الأساطير. وموضع العبرة فيما فعل الكتاب الأوربيون هو نفث الحياة في أساطير الأولين وتقريبها من حياتنا وتسخيرها لفهم الإنسان، فها هو برناردشو يكتب "بجماليون"، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالا من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من دم ولحم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئا قبل أن يعثر بها بجماليون، كانت بائسة لا تعرف من الحياة إلا القليل، ولم يكن لها غير تلك النبرة المؤثرة، نبرة كوكني لندن، لهجة الشعب المتواضع، لهجة باعة الأسواق المشردين المنبوذين، عثر بجماليون بالفتاة، ولم يزل يلقنها نغمة الطبقة

الممتازة، ويبصرها بطرق حياتهم، حتى أصبحت متعة للأبصار وبهجة للنفوس. وكان بجماليون لا يحب فيها أول الأمر غير كبرياء الخالق، كبرياء الفنان الذي يحب نفسه فيما يخلق، ولكن نجاح الفتاة وإقبال الرجال عليها لم يلبث أن نفذ إلى غرائز بجماليون كرجل، فأخذ يحب الفتاة لنفسها، يحبها على غير وعي منه حتى كان يوم أدرك فيه مدى هذا الحب، أية حياة تملأ المسرحية؟ وأية إنسانية تجري في نواحيها؟ أي تميز للشخصيات؟ وأية حركة متدفقة في المواقف والأوضاع؟ ثم أية وحدة في البناء؟! أين كل هذا من الأفكار المجردة؟ وأين كل هذا من مشكلة حياة الفنان المبسطة التي لا نكاد نراها إلا في خطوط هندسية ومقابلات بين الحياة والفن، بين المرأة والتمثال، ومن حولها شخصيات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج أو بعرائس الخشب التي تحركها على مسارح الأطفال خيوط تجتمع كلها إلى يد واحدة، هي فكرة الفن والحياة وما بينهما من تعارض لا أكاد أفهمه في فن يسعى إلى خلق الحياة؟! وكيف يخلقها وهو يجهلها؟! يقول ديمهاميل لفتاه: "لا تنسَ أن تعيش. عش أولا. عش بكل قواك ثلاثة أشهر لتكتب ثلاثة أيام، واكتب ثلاثة أيام لتملأ ثلاث صفحات". وإلى هذا النوع من الأدب الذي تشيع فيه الحياة يتجه إيماني بحيث لا أطمئن إلى الأدب المجرد، أدب الفكرة الذي يصدر عنه الأستاذ الحكيم، فهو أدب سهل. نعم من السهل أن تتخذ من أشخاص الأساطير رموزا نحركها للتدليل على فكرة ما، وما هذا النوع رواية شيللي عن "بروميثيوس الطليق" ورواية أندريه جيد عن "بروميثيوس غير المحكم الوثاق"، ففي كل منهما علاج لأفكار. عند شيللي صراع بين الخير والشر، بين الآلهة والإنسان. وعند جيد بين الضمير والجسد، بين الهيئة الاجتماعية والإنسان. ولكن ثمة أشياء تشفع لشيللي وجيد. فشيللي شاعر، كتب مسرحيته شعرا وفيها من جلال الصور وندرتها وقوتها وجمالها ما يثير الخيال ويلهب النفس. وجيد مفكر عميق نافذ، رمزيته إشارات دالة وإيحاء بعيد، نلهث في متابعته. والذي لا شك فيه أن إيجاد الشخصيات ونفث الحياة فيها وتركيز طبائع البشريين بين حناياها بما تحمل تلك الطبائع من مصائر وآلام -أمر أشق وأروع وأجمل وأضمن للخلود من العبث بالأفكار، وبخاصة إذا كانت أفكارًا مطروقة قريبة المنال. وإذا كانت الأديب لا ينجح في أن يثيرني ولا في أن يرسم أمام خيالي نماذج لي ولك، أتعرف فيها على ناحية من حياتي أو اتجاهات نفسي أو موضع من

مواضع قوتها أو ضعفها، فماذا إذن يستطيع حين يتناول إحدى تلك الفكر الملقاة كأعراض بمفترق الطرقات؟ ألا ليت للحكيم قدرة على الانفعال والتأثير؟! ألا ليت له قدرة شاعر كشيللي على اقتناص الصور وإيقاع الشعر، أو قدرة "شو" على نفث الحياة والإمعان في الواقع؟! ألا ليت له قلبا وخيالا يعدلان عقله؟! ولقد كان الحكيم يستطيع -وقد عز الانفعال وعز الخيال- أن يخفف من طغيان التفكير بشيء من "الهيومر" على نحو ما رأينا أحد كتابنا الموهوبين يسمى عصارة قلبه الساخر "حصاد الهشيم" و"قبض الريح". وأما الحرص على الخلود والجهر بالرغبة فيه والتصبب عرقا في الجري وراءه، فأشبه ما يكون "ببراميل الدناييد" التي لا قاع لها. والخلود كالمرأة الجملية، الخلود كالحياة لا بد من التحفظ معه والبعد عنه وعدم التكالب عليه لنظفر به، وبهذا وحده نستطيع أن نسيطر على ما بأيدينا وأن نقوى على مواجهته في غير ما ضعف ولا تهافت. والسيطرة قوام الخلود. السيطرة على المادة التي نصوغها. وبعد، فقد كنت أخشى أن تظل مرامي الكاتب مختفية في ضباب الأسطورة وخلف رموزها؛ ولذلك حاولت أن أودي ما أراه واجبا على كل ناقد، فاتجه جهدي إلى تقريبها من القراء وربط الشخصيات بعضها ببعض، وإيضاح المعاني التي قد تفلت من القارئ البادئ. ولقد تفضل الأستاذ الحكيم فأهداني كتابه، فلم أجد ردا للتحية خيرا من أن أقربه لقرائه الكثيرين المعجبين، وأما ما بسطت من رأي يتجه إلى نوع من الأدب يخالف منحى بجماليون فقد كان الإيمان رائده.

سوء تفاهم وفن الأسلوب

سوء تفاهم وفن الأسلوب: لعل دراسة الأساليب أشد أبواب النقد تخلفا في أدبنا الحديث. ولعل تأثرنا بالأدب الأوربي كان أضعف في هذا الاتجاه من تأثرنا بالتفكير الأوربي، والذي يبدو لي هو أن هذه الظاهرة كانت من أكبر الأسباب التي عمت معنى الأدب عندنا وأنزلت الاضطراب بمنهجه؛ وذلك لأن الأدب كما قال لانسون: "هو المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين، وتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية". فهو إذن غير التفكير الفلسفي، وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية، وإذا كان النقاد يجمعون على أن محاورات أفلاطون مثلا أو كتب برجسون أو تاريخ فرنسا لمشليه تدخل في الأدب؛ فذلك لأن في "صيغاتها ما يثير صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية". وهذه حقيقة هامة يجب أن تستقر في نفوسنا حتى لا يذهب جهد أدبائنا فيما لا أدب فيه ولا ضمان معه للخلود. الأدب صياغة. والناظر في أدبنا الحديث يجد عدة أنواع من الأساليب؛ فثمة أسلوب طه حسين الذي يعرفه الجميع، أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره، أسلوب واضح الموسيقى، يكشف في سهولة عن أصالته، فيقلده الكثيرون بوعي منهم أو بغير وعي، ولكنه مع ذلك موسيقى نفس. أسلوب عذب. "إن السعادة لخير ما يحقق مذهب "أنشتين" في النسبية. فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي.. وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافا كبيرا باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها؛ بل إن صح أن يكون الترمومتر مقياسا لحرارة الجو فلا يصح أن يكون مقياسا لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه

الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص؛ ولذلك ترى من يموت من الحر ومن يموت من الضحك من الحر" "فيض الخاطر ج1 ص342، 343". تقرأ هذا الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة "أن الألم واللذة أمران نسبيان، وأنهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها". ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق، ويحتال على نقلها إليك بكافة أوجهها فتهم بأن تصيح: وما عملي أنا إذن؟ ولم لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته؟ لم لا يترك فكرته مركزة فتحتفظ بقدرتها على الإيحاء؟ إننا لا نريد "الفكة" بل نريد "جنيهات صحيحة". وفي هذه التشبيه على ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب، فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك والتداخل ما يجري في التفكير، وفي العبارة ذلك "السيل الموسيقي" الذي يميز بين الأساليب تبعا لطبيعته، أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي؛ لأن الكاتب لم يترك له شيئا، أسلوب جزئيات لا موج فيه، أسلوب واضح، ونحن في حاجة إلى ظلال وأسرار ولو من حين إلى حين، أسلوب تجاور لا بناء، أسلوب تعليمي. ثم أسلوب الزيات: "نشأ بين لداتة من أطفال القرية، كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام، فكان لا ينفك ضاربا هذا بعصا أو قاذفا ذاك بحجر، أو خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والمجان. فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم" "الرسالة 464". شيء أشبه ما يكون بأسلوب "المقامات"، وأنا لا أكره المقامات بل أعدها كنزا ثمينا في ترثانا الأدبي لم نعرف بعد كيف نتذوقه، ولكن الزيات لم يقصد إلى كتابة "مقامة" بل مقالة يصور فيها رجلا لقيه فعلا في الحياة، فما هذه الصنعة التي تخرج التصوير من الواقع الحي إلى الأدب المصنوع؟ ومن منا يقرأ جملا كهذه ثم يتصور أو يصل إلى أن يتوهم أن هذا الرجل موجود؟ ولو أن ذلك كان ممكنا لما سأل القراء الزيات عن حقيقة ذلك الرجل، كما رأيناهم يفعلون على صفحات "الرسالة"، وأين هذا من الأسلوب القصصي أو التصويري الذي يجعلك تتوهم الخيال حقيقة أراد المؤلف أم لم يرد؟ ولكم من ورائي قاضاه الناس؛ لأنهم رأوا أنفسهم فيما صور! ولكم من ورائي يصر قراؤه على أنه هو نفسه بطل روايته رغم احتياله عى الواقع وحرصه على تعميته! بل إن من الروائيين الخياليين من يحتال بعدة طرق حتى يعطيك ما

يسمونه بالفرنسية "وهم الحقيقة" L'illusion du reel فما بال الزيات إذن يأبَى إلا أن يفسد بالصنعة نغمات الواقع؟ ثم لم كل هذه "السمترية"؟ وفيمَ اصطناع "البرجل والمسطرة"؟ ومتى كان الأسلوب هندسة من هذا النوع التخطيطي؟ أما من نزوة الشيطان الأدب تكسر هذا الاتساق؟ أما من نفضة قلم تتلف قليلا من هذا الكمال المضني: "زنبور بين النحل أو ثعبان بين الحمام"، "ضاربا هذا بعصا قاذفا ذاك بحجر"، "خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت"، "في خدمة الفجار والمجان، يخدم أولئك بتدبير الجرائم وهؤلاء في إعداد الولائم"، يا لله! ولِمَ لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ ولم لا يسرق من حقل وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولم لا يسرق إلا من بيت؟ أم هو مجرد أدب وصناعة؟ وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لم لا يخدم المجان بإعداد المقاصف؟! وهل الوليمة أشهى من المقصف أم هي ضرورة السجع؟ أسلوب الزيات المصنوع صنعة محكمة، صنعة كاملة؛ ولكن الصنعة تبعدنا عن الحياة. ولكن الكمال يمل. وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسبه البلاغيون والنحويون ضعفا وعيبا، ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع. وإذا كان في جلال أسلوب "شكسبير" أو "فليري" ما يسمونه كسر البناء Rupture de Syntaxe، فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين ويقيس المسافات؟! وبعد فهذه كلها وغيرها أنواع من الأساليب، وأنا وإن كنت أعتقد أن أيا منها لم يبلغ بعدما نرجوه في لغتنا من خلق أساليب تجمع بين الموسيقى والإيحاء والطبيعة، على أن تكون الموسيقى خفيفة دفينة عميقة لا تُحاكى، وأن يكون الإيحاء عن غنى وتركيز لا عن غموض وعجز عن تملك الفكرة، وأن تكون الطبيعية نتيجة لجهد طويل وصناعة مستترة وتثقيف محكم، كالضوء الداخلي يشع دون أن يعشى الأبصار، أو كالرجل اللبق، يعرف كيف يلقي الناس ويحييهم ويحادثهم في يسر، طال إلفه له حتى أصبح كالطبع المفطور -أقول: إنني رغم ذلك مغتبط بوجود هذه الأساليب المختلفة، مؤمن بأن أصحابها قد ساهموا وسيساهمون في تربية أذواق الناشئين ليحققوا ما يمكن أن يكون جيلهم قد عجز عنه، وما قد يعجز عنه جيلنا نحن أيضا؛ لأننا لا نزال حديثي عهد بفن الأساليب، ولا بد لنا من أن نتتلمذ في ذلك زمنا ما لكبار كتاب أوربا الذين لم نأخذ عنهم -كما قلت- سوى التفكير. وأما الأسلوب الذي لا أستطيع أن أقبله والذي أرجو أن نحيد عنه فهو الأسلوب

الذي يشبه أسلوب بشر فارس في "سوء تفاهم"، وأنا إذ أقول "الأسلوب" أقصد إلى كل هذا النوع من الأدب، وهو بعد أسلوب له نظائره في كل الآداب، ولقد حاربه دائما خير النقاد والكتاب، هو أسلوب الشويعر "تريسوتان" في كوميديا موليير "النساء العالمات" أسلوب المتحذلقات في كوميدياه الأخرى "المتحذلقات المضحكات". وهو قد يسمو قليلا فيصل إلى أسلوب "ماريفو" المسمى "بالماريفوديه" Marivaudage، ولقد يبلغ بأصحابه الغرور أن يسموه "الأسلوب الفني" كما فعل جونكور وأخوه. انظر إلى هذين الأخيرين يقولان في وصف مدام جوفزيه Gervaisais بطلة رواية لهما وهي في مجلس أصدقاء: "هنالك وقد أحسست في دلال بالجهد من حمل رشاقة قدها: أكتاف مضناة ورقبة فرعاء، أخذت تنصت في رفق وبلبها شرود، حتى لكأنه لا ينصت منها غير ابتسامة وجهها إلى ذلك الحديث المهشم الذي كانت تتبادله تلك الحلقة الضيقة التي جلست على مقاعد كستها طنافس صورت عليها فضائل الدين". لننظر في القصة الأولى من المجموعة، وعنوانها "قصة ستكمل" على نحو ما كتب شوبيرت "سمفونية ناقصة؟؟! " وهي قصة رجل تافه متسكع مغرور، نحس أن الكتاب يسلم له بأنه ملك مسيطر على قلوب النساء! وأنه يستطيع بتصنيع البرود والقسوة والسفسطة أن يسبي الحسان! ثم امرأة يشعرنا بأنها ستخضع لهذا الرجل رغم أنفها؛ لأنه واسع الحيلة خبير بالفتيات! الرجل في عقلية ما يسمونه بالفرنسية "بالجيجولو" والمرأة "عاهرة", والقصة تبتدئ بالمرآة تنظر فيها المرأة، وكم في المجموعة كلها من مرايا! وعند بطل القصة "أن روح الرجل مصباح كهربي، زره تحت ضغط أصبع المرأة". و"المصباح الكهربي" و"الزر" أشياء حديثة رأيناها جميعا، ولكن ماذا نقول في "البطلة" التي أرسلت خادمها إلى صندوق البريد بأسفل السلم لينظر هل جاءها خطاب من صاحبها العزيز أم لا؟ و"هبط الخادم ومعه قلب هبط ثم صعد الخادم واجما فلم يصعب القلب". أين ذهب؟ ذلك ما لم يحدثنا عنه المؤلف! أهذا هو أسلوب القصة التي هي "حنية من صدر الحياة تنتزع" كما يقول الكاتب نفسه في أحد أحاديثه الذي حرص على أن يصدر كتابه ببعض فقراته بعد أن "نشرته مجلة المكشوف البيروتية" العدد 232 - 14/ 11/ 1941، ونقلت صفوته "المقتطف" عدد فبراير سنة 1942، و"الثقافة العدد 162" 3/ 3/ 1942، وفي الفرنسية Journal d.Egypte القاهرة 14/ 2/ 1942. ما هذا القلب الذي يهبط ثم يجرؤ إلا يعود فيصعد؟ والمؤلف

يستطيع بلا ريب أن يحمل بطله على أن يطلب إلى المرأة أن تكون "برقا يلتوي في سماء مغبرة". وأما أن يلعب بالقلب كرة القدم فهذا ليس أدبا ولا أسلوب أدب. والقصة الثانية "طبق فول" تبتدئ أيضا بالمرأة، هكذا "كانت المرآة لا يعوزها سوى الصفاء، وفي الأشياء ما يعوزه الأهم. فيعجب كيف يكون؟ إني أعرف برلمانا يفتقر الحين بعد الحين إلى ثقة الأمة". وأنت تعجب لهذه المهارة المسرفة التي تجمع بين صفاء المرآة وثقة الأمة بغير رابطة إلا أن تكون هذه النقط الدقيقة التي وضعها المؤلف بين جملتيه! والمرآة العاشقة توحي إلى المؤلف "بأن الإحساس السخي ولد في زرقة سماء لم يرد وصفها في كتاب، ثم هبط على جناح التفدية حتى سمرة الأرض، فضاع خيره في الأزقة القاتمة والسهول البائرة بين براثن الجشع وقهقهات الاستخفاف". وهذا لا ريب بؤس بشري يدعو إلى الحزن؛ إذ فيه أكبر "استخفاف" بالمعنويات. فقد كنا نقول "السماء الزرقاء" و"الأرض السمراء" فأصبحنا اليوم نسمع "زرقة سماء" و"سمرة الأرض" ولِمَ لا؟ أليس في ذلك تجديد؟ أليس فيه تجريد للصفة وإضافة للموصوف؟ ألم ترَ له شبيها عند الفحول؟ أليس هو "الأسلوب الفني" العزيز المنال؟ ومع ذلك يمجه كل ذوق سليم! ثم إن بطل القصة "يركز أوتاد نهاره في المطعم وينصب خيمة الليل في القهوة" أي إنه "بلغتنا" ينفق نهاره في المطعم وليله في القهوة، ولقد تكون لليل خيمة وإن كنت أظنها أكبر من أن تحويها قهوة وأرفع من أن تطمئن إلى الصخب، وأما "أوتاد النهار" فذلك ما لا علم لي به وإن كنت أعلم أن الخيمة هي التي تحتاج إلى أوتاد. ومؤلفنا لا يكتفي بالإسراف والتكلف، والجمع بين ما لا صلة بينه، وزج الملاحظات الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية حيث لا محل لها؛ بل يأبَى إلا أن يعقب على معظم فقراته، مستخرجا العبر النادرة. فبطلة "طبق فول" تلبس "معطفا منزعجا على كتفها وحذاء له كعب، طوله طول أنفها.. التناسب مع شرائط الفتنة"! وهكذا ندرك في الكاتب حرصه على التفاصيل وإقامة النسب بين طول كعب الحذاء وطول أنف امرأته المسكينة! ونحس بسخريته اللطيفة الفنانة تطالعنا من ثنايا تعقيبه الرابع "المنزعج": "التناسب من شرائط الفتنة؟! " ونظر لطيف أفندي إلى المرآة "طبعا؟! " "بمؤخرة عينه يلومها على عكس وجهه وقد تنبه أن الماء لم يحيه بعد" ومعنى الجملة الأخيرة فيما أظن "أنه لم يكن قد غسل وجهه"!

وفي القصة الثالثة "السفينة" يصف المؤلف أثاث حجرة فإذا بها "طنافس، لو قصدت بها إلى أمريكا الشمالية فبعتها لرجعت وفي قبضتك ما يجذب فريقا من نواب أمة راقية" فانظر إلى المرور من الوصف إلى هذه الحقائق السياسية الدفينة، ثم تصور قيمة هذه الطنافس، أليست غالية جدا؟! "وأمينة" بطلة القصة تستند إلى "شطء" النيل: أمينة "نيل آخر" وبودي أو لو جعلها "جدولا"، ليستريح الكاتب فلا يعود يدهش عندما يرى سفينة تسير في النيل ويتساءل: "هل تستأذن الماء في الجريان أو تعتذر إليه عن شقه؟ " وهذه أشياء ما أشك في أنها قد فاتت السفينة، وأملي أن تفوت السفن كلها إلى يوم الدين وألا يلاحظ ذلك أحد! وقد يغلب الكاتب شعوره الإنساني فيشرك القارئ معه: "أيها القارئ الجوعان مع رقة حال، أنت أدرى بفضل الخبز الكثير" فأي رقة وأية إنسانية وأي فهم لحقائق النفوس! "والبورش" التي هي شربة خضار روسية "حساء تلتقي فيه ألوان البقول بعد تبعثرها في الحقل -تلتقي هالكة في لحد واحد" واللحد هو "القدر" أو "الصحن" الذي تقدم إليك فيه؛ ولكن الصحن البائس أصبح "لحدا" يشعرك ببؤس صاحبه وينشر في الجو تلك الرومانتيكية النادرة المؤثرة!! والمؤلف يرى رجلا جالسا إلى جواره على مقعد بأحد شوارع باريس أمام مسرح فيخيل إليه "أن يحمله إلى داخل الأوبرا؛ لأن يكون أخف محملا على سمعه وضربانا في قلبه". من أن يثقل على الرجل فيقص عليه مأساته، ثم يرى في الأقصر بائع عقود "في عينيه سلم أضواء من الأبيض حتى الأرجواني، فكأنما طول تحديقه إلى عقوده وهو يزينها للناس ترك في مقلتيه بريق الأحجار، إلا أنه بريق كاذب". فهل رأى أحد بصرا أحَدَّ من هذا البصر الذي يرى سلم أضواء في عيني هذا البائع النصاب؟ وهل نفذ أحد إلى نفسية هؤلاء الباعة نفاذ مؤلفنا الذي ترجم لنا نفاقهم وكذبهم وخداعهم بألوان أعينهم، وفسر وجود كل تلك الألوان بها هذا التفسير الرائع؟! وأخيرًا، كم جلس مؤلفنا مع صديقه زكي في قهوة "تعدت على استقلال الشارع وليس فيها امرأة"؛ وذلك لأنه قد وضعت بعض كراسيها على الرصيف، وهذا طبعا اعتداء على "استقلال الشاعر"! وما نسمع نحن باعتداء على الاستقلال حتى نغضب وتثور عزتنا القومية، خصوصا وأنه ليس لهذه القهوة المعينة ما يشفع لها وقد خلت من النساء. وبعد فقد قال الأديب الصادق الذوق المرحوم طه إبراهيم في كتابه القيم

"تاريخ النقد عند العرب" في معرض الحديث عن مذهب أصحاب البديع كأبي تمام ومن نحا نحوه: "إن صاحب البديع يفكر مرتين: مرة للفكرة ومرة لتحويرها والتطلف بها حتى تسكن للبديع. من المعلوم أن الصياغة حركة ذهنية عند الكاتب والشاعر، فإن تعقدت هذه الحركة لم يكن لنا أن ننتظر إلا عبارات معقدة وإلا نفسا فاترا، كلما هم باطراد وقف به الحرص على الزخرف، وحال بينه وبين الجيشان والاسترسال تلمس المحسنات؛ ولذلك فإن التكلف أول ظاهرة في مثل هذا الشعر". وهذا الحكم دون ما يستحق أسلوب بشر فارس وأدبه؛ وذلك لأنه لا يفكر مرتين فقط بل عشر مرات. والأصالة ليست في الإغراب، ولا في تسمية الأشياء بغير أسمائها، ولا في تضخيم التوافه، ولا في التكلف الثقيل المعيب، وإنما الأصالة في النفس وموسيقاها، الأصلة في الطبع واسترساله، فهل ترانا نؤدي خدمة إلى بشر فارس، عندما نقول له هذه الحقائق التي يجب أن يسمعها من رجل مخلص كان يود أن يستمتع بما في قصصه أمثال "خريف" و"مبروك" من واقعية مؤثرة، وبما في "قيثارة مغترب" من جو شعري نافذ، وأخيرا بما في "رجل" من رمزية موحية. وموضوع هذه القصة جدير بالنظر لما نحسه جميعا من أن التطلع إلا ما لا قبل لنا به خليق بأن يقتل فينا العنصر الإنساني. نعم كنت أود أن أستمتع بكل ذلك وحاولت أن أستمتع، ولكن التكلف أتلف عليَّ متعتي، التكلف البادئ في كل شيء حتى في عناوين القصص وطريقة كتابتها "بخط المؤلف" ووضع "المشتمل" أي الفهرست"، وحتى في استشهاد الكاتب بنفسه وتقفيته عنوان الكتاب بجملة من روايته "مفترق الطرق" وكتابة عنوان المجموعة باللغتين العربية والفرنسية، ثم في الإهداء إلى "من هذبني فشعرت". وأخيرا في شرح مذهبه في القصة نقلا عن حديث له أوردنا أسانيده في أمانة كما أوردها المؤلف نفسه. وهذه توافه يجب أن يسمو فوقها الأدب، وأنا لن أمل تكرار ما سبق أن قلته عن وجوب التواضع والإخلاص وصدور الأديب عن طبعه وترك الطنطنة إلى الهمس الصادق، كما أني على ثقة من أنه ستظر عندئذ في أسلوب بشر فارس تلك الموسيقى التي حطمها التكلف واحتباس النفس والانتقال من المحسوس إلى المعنوي انتقالا مصطنعا، كما ستظهر وحدة النسيج ويختفي ما نراه عنده اليوم من تنافر بين الألفاظ المهجورة الثقيلة النغمة، والألفاظ التافهة المبتذلة التي تشبه العامية.

أرواح وأشباح الشعر والأساطير

أرواح وأشباح الشعر والأساطير: جميل جدا أن نتخذ من الأساطير مادة للشعر، وقد سبقنا إلى ذلك شعراء كبار، ولكن على شرط أن ننجح كما نجحوا، وما يجوز أن نمل تكرار ما قلناه من وجوب تملك موضوعنا، كما تملكوه؛ إذ إننا لن نستطيع أن نخلق من أسطورة معروفة قِيَما فنية جديدة ما لم نتمثلها حتى تصبح جزءا من أصالتنا، ولا أدل على صحة ما نقول من النظر فيما فعل شعراء ثلاثة مختلفون بمناحيهم النفسية اختلاف شنييه وشيلي وكيتس. شنييه شاعر فرنسي ولد لأم إغريقية غذته بالروح اليونانية الخالصة، فإذا به في سذاجة القدماء ورقتهم ولطف حسهم. تناول هذا الشاعر أساطير اليونان يقصها في يسر لا يبغي منها غير التأثير العاطفي الذي تحركه وقائع بسيطة يرويها بأسلوب سهل ونغمات سيالة؛ فهيلاس فتى جميل يذهب إلى النهر يستقي الماء في إناء، وتلمحه عرائس اليم فيقع في قلبهن، وما يزلن به إغراء وسحرا حتى يجتذبنه إلى المياه التي تطويه أمواجها، ويختفي الفتى وصوت صديق له يناديه. وفتاة تارنت جميلة حملتها القلاع إلى زوجها القصي، وفيما هي فرحة تبتسم للمستقبل، وقد نهضت بمقدم السفين، ترسل بصرها المشرف في آفاق السماء؛ إذ هبت عاصفة حملتها إلى اليم، وعصافير السماء تغرد فيزيدنا تغريدها شجوا، وهذا كل ما نجده عند شنييه: موسيقي وإحساس. أما شيلي فعقل يفكر؛ ولذا لم يعنه من الأساطير غير معانيها الرمزية، وهو إلى جانب ذلك شاعر؛ ولذا نراه يعالج الفكر بأسلوب الشعر، وصور الشعر، وموسيقى الشعر، وهذا واضح في روايته عن "بروميثيوس" حيث يتخذ من هذه الشخصية الخرافية رمزا للبشرية التي تثور ضد ظلم الآلهة، وقد أصبحت الإنسانية عنده خيرا صراحا، وأصبحت الآلهة شرا عنيدا. ومن البين أنه لولا عبقرية شيلي الشعرية، لجاءت روايته باردة ميتة ككل شعر يصدر عن الفكر المجرد. وإذن فباستطاعة الشاعر الموهوب أن يجازف بقيثارته في عالم الرموز -على مشقته

وخطره- على أن يلون الإحساس الفكرة، وأن ترفع الصور الشعرية من استوائها البارد. وكيتس يمثل اتجاها ثالثا، فهو شاعر الصيغ والأوضاع المجسمة، يرى بعض الأواني التي كانت توضع على قبور الموتى من الإغريق القدماء، ويتأمل فيما يحلي جوانبها من صور جميلة فيتبع ببصره خطوطها، وكأن بصره الريشة التي خلقتها، ويصف ما يرى فينفث فيه الحياة، إذا به يثير فينا ضروبا من الانفعال الفني فنشاركه إحساسه، بل نشارك الصور حياتها، وهو يسائل تلك الصور فنيطقها بأسرارها. وهنا أنا اليوم في "أرواح وأشباح" للشاعر علي محمود طه، فأرى صورا مغرية وحيلا في الطباعة تهش لها العيون، ثم أفتح الكتاب وآخذ في القراءة فتنطوي النفس وينفر الإحساس. وفيمَ الإغراب وأجمل الشعر أشده سذاجة؟! وفيمَ الزج بسافو وبليتيس وتاييس وتلك أسماء تاريخية أو خرافية، لها دلالتها في كل العقول؟ ومن عجب أن تبحث عن شيء من تلك الدلالة في أقوال كل منهن فلا نجد شيئا، وتلاحقك الصور التاريخية التي تعرف عنهن وأنت تقرأ فتتلف عليك إحساسك وتثير بك الغيظ! ولكم من مرة تتساءل: لِمَ هذه الأسماء الحبيسة في حقائقها التقليدية؟ وبودك لو أخذت قلمك ومحوتها من كل النسخ لتحل محلها أسماء أخرى، بل أرقاما إن عزَّت الأسماء الشعرية، ويبلغ بك الحنق أقصاه عندما تنظر في مقدمة القصيدة، فترى الشاعر قد قدم إليك هذه الشخصيات نثرا كما يعرفها الناس، وتنظر في الشعر علك ترى فيه إيضاحا لهن وتمشيا مع ما عرضه المؤلف عنهن في المقدمة فتحار ويذهب لبك. "فسافو" لم تعد الشاعرة الحسية التي نعرفها، وهي في أقوالها أقرب إلى الهدوء والنظر الفلسفي الذي يلتمس الأعذار ويحاول فهم النفوس، منها إلى الشاعرة الإغريقية المسرفة العنيفة "التي كانت تحس برغبات الحياة، تسيل تحت إهابها رعشة كلما رأت من تحب" وبليتيس عنده لا تمت إلى شاعره بيير لويس بسبب قريب أو بعيد، فأين التي تقبل على الرجال بحواسها الملتهبة من بليتيس شاعرنا التي كثيرا ما تثور فيها كبرياء النساء؟ وأخيرا أين تاييس التي ترقص وتذهب بألباب الرجال؟ وهرميس -أي خاصية من خواصه- نلمحها فيما عرض الشاعر، اللهم إلا أن تكون قيادته للأرواح؟ ونحن بعد لا ندري لم جعل منه المؤلف في مقدمته

"المكلف بقيادة الأرواح الأثيمة إلى الجحيم". والذي يعرفه كافة المثقفين عنه -ومعرفتهم هي الصحيحة- أنه "قائد الأرواح إلى العالم الآخر" وهو البسيكوبومبوس Psychopompos وهذه اللفظة اليونانية تترجمها القواميس الفرنسية عادة بقولها Conducteur des ames aux enfers ومعنى هذه الجملة هو ما ذكرت، فمصدر خطأ الأستاذ محمود طه ترجمته عن الفرنسية فيما أظن ترجمة غير صحيحة؛ إذ إن لفظة enfers في الجمع ليس معناها الجحيم، بل العالم الآخر إطلاقا، وإنما المفرد هو الذي يفيد هذا المعنى، وحيث فهم الأستاذ من كلمة enfers معنى الجحيم كان من السهل أن يضيف كلمة "الآثمة" للأرواح ليستقيم الكلام، ونحن لا نقف عند هذه الغلطة، فهي مهما تكن تافهة، ونحن الآن نتحدث عن محمود طه الشاعر لا محمود طه العالم بالفرنسية، أو الباحث في الأساطير، ومن العدل ألا نحاسبه إلا عن شعره فهو عبقريته وهو ميدانه. ومع ذلك فثمة مسألة أخطر، فشاعرنا يريد أن يتخذ من أساطير اليونان مادة لشعره كما يتخذ لشخصياته أسماء إغريقية، وإذن فمن حقنا أن نناقش طريقة فهمه لليونانيات؛ وذلك لأنه إذا جاز أن نتساهل في شيء فإنه لا يمكن أن يكون هذا التساهل في فهمنا للمادة التي نصدر عنها؛ وفي جملة الشاعر الخاطئة ما يدل على أنه لم يأخذ نفسه بعناء دراسة أساطير اليونان ومعتقداتهم الدينية كما يجب؛ وذلك لأن فكرة الإثم والجحيم بل فكرة المصير بعد الحياة لم تعرفها الديانة الأولمبية، ولم تظهر في بلاد اليونان إلا بتأثر المعتقدات الأجنبية التي أتتها من مصر وسوريا وبلاد الشرق الأخرى، وهي لم تتسلل إلى ديانة زيس التي ينتمي إليها هرميس، وإنما ظهرت في شعائر أنصار أورفيوس وفيثاغورس ثم في أسرار إلزيس Eleusis وهذا تيار ظل بعيدا عن أساطير اليونان وديانتهم التقليدية، وفيه فقط نجد فكرة الإثم، وفكرة الثواب والعقاب ومصير الأرواح، وأما هرميس فكان يقود كل الأرواح إلى العالم الآخر المظلم، الذي نرى الجميع يرهبونه. وهذه الملاحظة تقودنا إلى منهج الشاعر عامة وطرق علاجه لموضوعه، ففي كتابه ما يدل على العجلة وعدم الروية، سواء في وحدته أو في تفصيله، بل في صياغته الشعرية ذاتها، وهذا اتجاه يجب أن نقاومه لما يجره من جنوح إلى الإغراب والغموض والتفكك وما يسببه من إفساد للنغمات وهلهلة في الاطراد وضعف في السبك. وفي الحق ما هي "أرواح وأشباح" وعلامَ يدل هذا العنوان الجميل؟ أهي حقا

أرواح وأشباح؟ وإذا كانت فكيف نظمها خالقها؟ أهي ملحمة؟ أهي قصيدة فلسفية؟ أهي قصة؟ أهي ديوان؟ ونحن بعد لا نحرص على أية لفظة مما ذكرت، فللشاعر أو الكاتب أن يقدم لنا ما يريد، وعلينا أن ننظر فيه كما هو، وما يجوز أن يدفعنا كسلنا العقلي إلى التماس "خانة" نضع الكتاب فيها لنستريح، ولكني أظن أنه من حقنا أن نناقش وَحْدَة الكتاب. وأنا أنظر في أوله فأراه أفلاطوني النزعة، وهذه بلا ريب أنبل النزعات، ولقد أوحت إلى أفلاطون بنثر، فيه من الشعر ما لم يتوافر للكثير من القصائد، فالشاعر يحدثنا عن صعود النفس إلى مستقرها الأول، حيث عالم الخير والحق والجمال، وينبئنا بأنها ستعود إلى الأرض فيما يشبه البعث، وهنا ستحدثنا عن: مشاهد شتى وعتها العقول ... وغابت صواها1 عن الناظر وجود حوى الروح قبل الوجود ... وماض تمثل في حاضر2 وهذا موضوع رائع يبشر بملحمة فلسفية كتلك التي كتبها لوكريس الشاعر اللاتيني مثلا عن "طبائع الأشياء" ومع ذلك من منا لا يحس بالتنافر الواضح بين الوزن والموضوع؟ ومتى كان "المتقارب" من الغنى والجلال والضخامة بل طول النفس بحيث يتسع فكرة أفلاطونية؟ وهلا يذكر الأستاذ محمود طه كما نذكر جميعا كيف أن شعراء خالدين قد فشلوا في شعر الملاحم، وكان فساد إحساسهم بالموسيقى من أكبر أسباب هذا الفشل، وهلا يذكر بنوع خاص "فرنسياد" الشاعر الفرنسي المبدع "رونسار" وكيف هوت؟ وقد أجمع النقاد على أن استعمال الشاعر للبحر المكون من عشرة مقاطع بدلا من البحر الإسكندري "12 مقطعا" الذي يلائم الملاحم كان من أسباب هذا الفشل! بل ألم يفطن ابن العميد إلى وجوب اختيار الوزن والقافية اللذين يلائمان موضوع الشعر؟ "المتقارب" أهزل وأنحف وأخف من أن يحتوي فكرة فلسفية، إن فيه ما يترك في النفس فراغا ويشعرها بأن الموضوع قد ضمر وضاع جلاله. ولقد رأيت لتلك الظاهرة شبيها عند العقاد في قصيدته "ترجمة شيطان": صاغة الرحمن ذو الفضل العميم ... غسق الظلماء في قاع صفر وهي قصيدة طويلة يقص فيها الشاعر حكاية ضافية عن الشيطان وسقوطه فيما يشبه "الملحمة"، وأنا لا أدري كيف اختار "الرمل" لموضوع كهذا؟!

_ 1 الصوى: أحجار توضع كعلامات في الطريق. 2 أنا أذكر دائما خير الأبيات في نظري.

ولكني أسارع فأقرر أن محمود طه شاعر رغم كل شيء، وما عليك إلا أن تنظر في أسلوبه فترى أن الصيغ النثرية في شعره كقوله: "وتنطق بالمثل الثائر"، "سيسلكه الفن فيمن سلك"، "يبقى صداها إذا ما هلك"، "فلا كان بعثا ولا قدرا" و"آخرة العاشق المنتحر". "وأضحيت شيئا ككل الرجال وأضحيت شيئا ككل النساء"، وأمثال ذلك قليل بالنسبة لأسلوب العقاد الذي لا أرى فيه إلا القليل من الشعر. ومن غريب الأمر أن يقع محمود طه، في نفس السخف الذي وقع فيه العقاد! فالعقاد يدعونا في أول قصيدته إلى أن نخف مهرولين "لنسمع أعاجيب العبر"، وكذلك يفعل محمود طه، فيختم مقدمته بقوله: هو البعث فلاستمعوا واقرءوا ... حديث السماء عن الشاعر فيا للعجب! متى اهتم الشعراء إلى هذه الدرجة بأن يستمع إليهم أحد أو لا يستمع؟ أليس في ذلك ما يضحك؟ وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة! فالذي عرفناه ورأيناه عند الشعراء القدماء، لا المحدثين، هو أن يتجه الشاعر أو الروائي إلى القراء، بل على الأصح إلى المشاهدين في المسرح؛ ليكسب انتباههم وعطفهم عليه، وهذا عندما كانت تقام مسابقات بين الشعراء. وأضيف إلى ذلك أن هذه العادة لم تكن معروفة إلا في الكوميديا، فأنت تجد بلوتس Plautus اللاتيني مثلا يتجه في البرولوج إلى الحاضرين يخاطبهم ويدعوهم إلى الحكم له، كما يمهد لسماع مسرحيته التي يلخص لهم وقائعها. وكذلك كان يفعل شعراء الإغريق القدماء، فتجد أرستوقانيس يخاطب الجمهور في الجزء من الكوميديا المسمى "البراباز" Parabasis وفي حديثه عادة ما يضحك ويؤدي إلى الأغراض التي ذكرتها. والآن ماذا يقصد العقاد ومحمود طه بهذين البيتين؟ إن كانا قد قصدا إلى الإضحاك فقد نجحا، وذلك عن نفسي، فقد خيل إلي أني في سامر أو عند "حاوى". وهذا يؤدي بنا إلى مسألة خطيرة، هي ما يجب أن نعلمه جميعا من حاجاتنا إلى التواضع الاختفاء قليلا، فالقارئ لا يعنيه -فيما أظن- أن يعرف الكثير عن عبقريتنا وتمدحنا بها، وإعلائنا لشأنها، وتقديرنا لما يصدر عنها من شعر، ويا ويل عبقرية لا تعرف إلا مدح نفسها. وبعد، فنحن في حاجة ماسة إلى أن نحارب عدة عادات سخيفة عندنا، منها أن ينفق الشاعر نصف قصيدته اعتذارا عن تأبي الشعر عليه، ألا فليسكت إن لم يكن لديه ما يقول، أو شكواه من ضيق الألفاظ عن إحساسه، أو الإشادة بملكته وتخليده للناس ولنفسه. وكذلك يفعل الكثير من خطبائنا، وهذه أخطاء في الذوق أضخم من أن نحتاج إلى الوقوف عندها.

ولكن ثمة ما هو أخبث من ذلك؛ لأنه أرق وأرهف، فلقد رأينا الأستاذ الحكيم يعالج في "بجماليون" مشكلة حياة الفنان، وهنا نحن اليوم نرى محمود طه يتحدث أيضا عن الفنان وعلاقته بالمرأة؛ إذ إن هذا هو جماع "ملحمته". وتلك ظاهرة مخيفة، فهي تدل على أن أدباءنا أكثر وعيا بفنهم مما ينبغي، مع أن مشكلة الفن ليست مشكلة إنسانية عامة. ثم إني وإن كانت لا أنكر على الأستاذ محمود طه أن يجمع في نظرته إلى الفن والحياة، بين النظرة الرومانتيكية التي تجعل من الفنان "صدى عابرا وروحا مجنحة الخاطر" وبين النظرة الحسية التي ترى في فمي الحبيبين "شقين من قبس مستعر" وتجعل الشاعر يشم في أنفاس فتاته "رغبة يهتف بها جفنها المنكسر"، "وتضح به الشهوة الجائعة" "فيشم رائحة الجسد المحترق" على نحو ما كان يفعل بودلير الذي تتلمذ له محمود طه على ما يظهر في هذا الاتجاه. أقول برغم أنني لا أنكر عليه شيئا من هذا فإنني كنت أرجو أن ينجو بنا من الابتذال، فمعظم معانيه مطروقة، والجمل الجميلة التي ذكرتها هي كل ما استطعت التقاطه من أقواله الكثيرة في هذه الأغراض. ونحن بعد نستطيع أن نغتفر لمحمود طه ولغيره من الشعراء ابتذال معانيهم، فالمعاني أشياء تافهة في الشعر، ولكن على شرط أن تخلق الصياغة من هذه التوافه قيما فنية، على نحو ما فعل أبو تمام مثلا من المعنى القريب "معنى نيل الصحراء من جسم البعير" قوة شعرية دافقة رائعة بقوله: رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه وأمثال ذلك مما يحتاج إلى صبر على الصياغة وقدرة عليها لم يتوافرا دائما لشاعرنا. انظر إلى قوله مثلا عن حدق إحدى الحوريات: "تؤجان بالنظرة الرائعة"، ثم تساءل: أين تقع "الروعة" من "الأجيج"؟ وهل لهذا التنافر من سر غير العجلة، أو قوله عن الشاعر "ألم يبعد الحسن في زهرها؟ " وما في ورد الحبيبة من ابتذال ذهب بجمال صدر البيت؟ "ألم ينسم الخلد من عطرها؟ " ما هذا الحشو الذي يحرص على ذكر الزهر بعد العطر؟ ولقد نحس من حين إلى حين أن الشاعر يصدر عن مذهب أدبي بعينه، وهذا جميل ولكن على أن يصدقنا الذوق؛ فبودلير مثلا يكثر من الجمع بين المتناقضات كقوله: "النور القاتم"، وما شاكل ذلك، ويأتي شاعرنا فيقول:

وأحفر بعد الردى قبره ... هناك على قمة الهاوية وأغرس في قبله زهرة ... من الشر رواية نامية ونحن نترك "زهرة من الشر" فقد قالها بودلير، بل هي عنوان ديوانه، ولكن ما "قمة الهاوية"؟ وهل لها صورة واضحة في خيال الشاعر أم هي صنعة المذهب؟ ولقد يحدثنا فرلين حديثا سهلا ساذجا مؤثرا صادقا عن بؤسه، وقد أخذت تتقاذفه بقاع الأرض "كورقة ميتة"، ولقد يخبرنا "بانتحاب قيثارة الخريف" في أذيته فيأتي شاعرنا يقول: إذا ما هوت ورقات الخريف ... أحس لها وخزات السنان وقيثارة الريح ما لحنها ... سوى الريح في جفوة أو حنان يالله! ولِمَ هذا التهويل والجري وراء المعاني المقتسرة البعيدة الخالية من كل صدى إنساني؟ إن في ورقة فرلين الميتة ما يجز في نفسي حزا لا يستطيعه سنان محمود طه، وفي انتحاب قيثارة الخريف من الأسى ما يعز على جفوة رياح محمود طه وحنانها. وبعد، فنحن في حاجة إلى أن نهمس، نحن في حاجة إلى التواضع، التواضع الإنساني الأليف القريب إلى النفوس، نحن في حاجة إلى أدب إنساني صادق مخلص؛ لأن نفوسنا في ظمأ إليه. ألا فلنعد إلى قلوبنا ولنحملها على أن تقول في بساطة ما تجد وسوف نرى جمال حديثها. ولنتخذ الأساطير مادة لإحساسنا وهياكل لصورنا الفنية، ولكن في أمانة وفهم ونزول على معانيها، وأما الطنطنة، وأما إقحام أنفسنا وعرضها في كل حين على القارئ حتى يمل وينفر، وأما الحديث عما لا نجيده فلا. وبعد فعند محمود طه أشياء جميلة حقا ولكنها قليلة، وأنا على تمام الثقة من أنه شاعر موهوب، وأنه يستطيع خيرا من هذا، ولكن على شرط أن يتخلى عن الإغراب وأن ينسى نفسه قليلا، ثم لا بد له من القسوة على نفسه وعدم التساهل في الصياغة؛ فثمة حشو في بعض الأبيات وثمة هلهلة، وثمة محاولات لتضخيم العبارة عن أشياء تافهة، والذي لا شك فيه أن شاعرا يقول: وهامت على ظمأ روحها ... وكم ملئوا الكأس من خمرها قادر على الشعر الجيد، فهل تراه فاعلا؟ ذلك ما نرجوه ليكون شعره حجرا في أدب مصري يستطيع حقا أن يثبت للأدب الأوربي الذي لا بد لنا من مثله.

نداء المجهول والأدب الواقعي

نداء المجهول والأدب الواقعي: لا أريد أن أتعجل القول عن تيارات أدبنا الحديث؛ لأني شديد الحذر من كل تعميم لا يصدر عن استقصاء. وهأنا أقصر القول على كتاب واحد كل مؤلف، ومع ذلك فإنني كلما عاودت النظر في الكتب الأخرى لأدبائنا الذين أتحدث عنهم وجدت أننا لا نبعد كثيرا عن الصواب عندما نحاول استخلاص اتجاه كل منهم من الكتاب الذي ننقده، بل أظن أنه باستطاعتنا أن نرسم منذ اليوم تخطيطا عاما لمذاهب أدبائنا. وللنظرة الأولى يبدو أن لدينا في القصة الاتجاه التاريخي الذي ابتدأه جرجي زيدان، وجاء فريد أبو حديد فجدد من معناه وحدد من وسائله وأوشك أن يخلقه خلقا جديدا في "الملك الضليل" و"زنوبيا"، وتبعه في ذلك شاب ينبعث عنه الأمل هو على أحمد باكثير كاتب "أخناتون" و"سلامة القس" و"جهاد" التي نالت إحدى جوائز وزارة المعارف، والقصة التحليلية تمثلها "سارة" للعقاد، ثم أدب الفكرة الذي يصدر عنه توفيق الحكيم، ومنحى طه حسين الذي يتميز بموسيقاه وتدفق عواطفه، وأخيرا لدينا الأدب الواقعي الذي برع فيه محمود تيمور. وهذه بعد اتجاهات عامة لا نزعم أن بينها فواصل قاطعة، فقد يكون في القصة التاريخية تحليل دقيق، وقد يكون في أدب الفكرة شخصيات واقعية، وقد يجتمع النفاذ النفسي إلى انهمار الإحساس، بل قد لا يخلو واقع تيمور من نغمات الشعر، ولكنني رغم ذلك مطمئن إلى التقسيم إن لم يكن بد من التحديد العام. وأنا أرى بعد فيه نفعا؛ إذ قد يساعد الكتاب والقراء على التحمس لهذا المذهب أو ذاك والدفاع عنه والاقتتال في سبيله، مما يجدد أدبنا ويوضح سبله. وهأنا اليوم أعرض "نداء المجهول" كنموذج دقيق للأدب الواقعي، وأنا أقدر أن القارئ قد يصيح به: رويدك! لقد ضللت الطريق، "فنداء المجهول" لست قصة واقعية، وكتابها وإن يكن قد عُرف بقصص الواقع فقد تجدد فنه وكتب هذه القصة من نوع جديد. هذه قصة أسرار، قصة مغامرات، نداء المجهول، فأين هذا من الواقع؟ ومتى كان المجهول واقعا؟

وأنا أعرف هذا الاعتراض وقد سبق أن قرأت قصص تيمور الأخرى، إن لم يكن كلها فمعظمها, ومع ذلك أصر على أن "نداء المجهول" قصة واقعية، وأن محمود تيمور لم يتغير ولم يتجدد ولا تنكر لماضيه ففنه هو هو، وأسلوب الرجل هو الرجل نفسه، ولننظر في ذلك. وأول ما يطالعنا من تلك القصة هو أنك لا تستطيع أن تلخصها في جملة، فهي غير "بجماليون" المبنية على فكرة التعارض بين الفن والحياة وتحريك الشخصيات كرموز لعلاج تلك الفكرة، وهي غير "دعاء الكروان" التي تجد فيها كل شيء: الشعر في صوت الطائر، ووصف أخلاق الريف المصري في ليالي العمدة، والدراما في قتل هنادي، والقصص التحليلي فلي غرام آمنة بالمهندس، وأما وحدة القصة فأوضح ما تكون في موسيقى المؤلف وسحر أسلوبه. "نداء المجهول" بهو شجبت به عدة صور؛ ولكنها صور ليست ساكنة فهي تتحرك ملائمة بين حقائقها النفسية وما سيقت إليه من مغامرات. أتريد أن تعرف تلك الصور، بل أن تعرف أصحابها وتميزهم من بين الناس كافة؟ دعنا من الراوي فهو المؤلف نفسه، وما لنا أن نقسوَ على الكاتب فنطالبه بأن يخرج عن حياته فيرسم لنفسه صورة؛ لأن مصادفات الحياة قد ساقته إلى أن يكون أحد أبطال الرواية، وانظر إلى زملائه: فالشيخ "عاد" صاحب فندق في لبنان قد "تعود أن يظهر أمامنا بملابسه الشرقية البديعة، القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، دائم الابتسام يروح فيها ويغدو بمشيئته المتزنة الهادئة ووجهه الصبيح المشرق فتخاله سلطانا من سلاطين ألف ليلة ... ". وأنا أعترف مع القارئ أن لو اتفق لي أن ذهبت إلى لبنان وبحثت عن الشيخ "عاد" بين أصحاب الفنادق ما استطعت أن أميزه في يسر؛ لأن الكثيرين منهم يلبسون القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، كما يبتسمون بوجوه صبيحة فيشبهون سلاطين ألف ليلة، ومع ذلك فلنغتفر للكاتب إهماله في عدم تدقيق البصر وتمييزه للشيخ "عاد" بشيء يفرق بينه وبين غيره، ولعل للراوي عذره، فهو معجب بالشيخ "عاد"؛ لأن الرجل "حلو الحديث، غاية في السماحة وكرم الضيافة"، وهو بعد قد دل في القصة على شجاعة نادرة وروح كامن للتضحية بل المجازفة النبيلة، وفي هذا ما يدعو الكاتب بلا ريب إلى ألا يرى فيه غير كل جميل، في روحه وفي ملابسه، وألفاظ الجمال عامة لا تحديد فيها وهي ليست من الواقعية في شيء كثير.

ولنترك إذن الشيخ "عاد" فصورته ممحوة المعالم وقسماته الروحية لا تجد لها في نفوسنا مستقرا من اللحم والدم، ولكن للنظر إلى نزلاء الفندق الذين اشتركوا في "الحكاية". فثمة "رجل سوري مترهل الجسم، له رقبة مجعدة ناحلة كرقبة النسر الهرم اسمه "كنعان" يدعي أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون باستانبول.. نراه دائما في الحديقة حيث يفترش العشب الأخضر ويتوسد حزمة من الهشيم ويمضي يدخن النارجيلة في اطمئنان". وهذه الصورة بل لوحة لا يمكن أن يخطئها أحد. وهبنا لاقينا الرجل بحديقة الفندق أتحسب أننا لا نعرفه للحظتنا؟ وهل بعد "رقبته المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم" من أمارة مميزة؟ هذه قسمة من الواقع. طوبى لمن يقع على مثلها. ما أحدها ملاحظة وما أقواها عبارة! وكنعان "يدعي" أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون بـ"استانبول" ولقد يكون هذا صحيحا؛ لأن الراوي لم يجزم بشيء، ونحن أيضا لا نستطيع أن نجزم بشيء، ولكن كنعان على أي حال أستاذ "فريد" "أصيل" "متفيقه" شخصية تدعو إلى الابتسام، وقد عالجها المؤلف في عبث Humour نافذ. ألا تراه يقص علينا كيف أن "حبيبا" الخادم لا يجد حرجا في أن يأخذ من الأستاذ كنعان صحفه خلسه، ولم لا و"حبيب" يلاحظ أن تلك الصحف تظل في لفائفها أبد الدهر، وأن الأستاذ عندما يضيق بها ذرعا يرصها تحت السرير لتكون طعمة للفيران.. لا شك في أن "حبيبا" مصيب عندما يرى أنه أولى بها من الفيران. ولقد يتحدث الراوي مع الشيخ عاد و"مس إيفانس" السيدة الإنجليزية -التي سيأتي ذكرها عما قريب- عن قصر حديث منحوت في الجبل، فينحي الأستاذ كنعان فمه عن مبسم النارجيلة ويقول: "كان يجدر بكم أن تسألوني في هذا الأثر العظيم. إنه من بقايا الرومان، وعمارته بيزنطية بحتة، والذي شيده الإمبراطور يونان.." فتبتسم لهذا العلم الغزير الذي يجمع بين الرومان والطراز البيزنطي وإمبراطور يونان! ولا عجب، فالأستاذ كنعان مثال خالد للعالم المتفيقه المغرور الكسول المضحك، الأستاذ كنعان هو ما يسمونه بالفرنسية Cuistre لوصف مثل هذا الأستاذ الجليل. وابتسامنا من الأستاذ كنعان لا يلبث أن ينقلب ضحكا صراحا عندما نراه يحدث الراوي عن تلك المنطقة الجبلية: "إنك لو سألت حصباء هذا الوادي، واستجوبت صخور ذلك الجبل، لروت لك ما عانيت من مشقة في بحثي واستقصائي، أنت تجهل بلا ريب أني أعد محاضرة في طبقات أرض هذه المنطقة وأطوارها في التاريخ..". - بحث ممتع بلا ريب!

- ولكنه متعب يا ولدي! أتصدق أني قضيت ليلة أمس لم يغمض لي جفن، وأنا مكب على أوراقي وكتبي والقلم لم يبرح يدي لحظة؟ - كان الله في العون. - والآن أنا في حاجة إلى التمدد قليلا في الحديقة، أليس لأبداننا علينا حق؟ أية سخرية في هذا الحوار الممتع؟ وأي صدق في تصوير هذا الغرور الملتوي، وذلك التواضع الكاذب؟ هذا حوار كاتب كبير. وتصل مهزلة الأستاذ كنعان الذي يحدثنا الراوي نفسه بأنه عالم كبير إلى غايتها، عندما تتفق الجماعة على السير إلى الجبل لاكتشاف "القصر المسحور" المنحوت في الصخر. ويأتي الصباح والقافلة تنتظر الأستاذ كنعان على باب الفندق، والأستاذ لم يظهر بعد. وقالت "مس إيفانس" نذهب إليه.. "وقصدنا إلى حجرة الأستاذ كنعان، فراعنا صوت غريب يتجاوب في أرجائها، فأنصتنا فإذا به غطيط مزعج يعلو ويهبط في نغمات ساذجة، وفي حشرجة فتقدم "الشيخ عاد" ودق الباب، فلم يجبه إلا الغطيط، وتابع دقه والنائم على حاله يملأ الجو بصوته الكريه وأنفاسه الجافة. وأخيرًا تقدمت "الراوي" لأعاون الشيخ في دق الباب.. ولكن لا حياة لمن تنادي! وقامت رغبة صادقة في استطلاع سر هذا الغطيط غير الطبيعي، فاستأذنت صديقتي وصديقي وجعلت أنظر من ثقب المفتاح، فإذا بي أرى "الأستاذ كنعان" جالسا على سريره يتميز غيظا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب، يوهمنا به أنه مستغرق في نوم عميق. فرفعت رأسي وأشرت إلى "مس إيفانس" أن تنظر ففعلت، ثم أشارت هي إلى "الشيخ عاد" أن ينظر ففعل.. وتبادلنا النظرات المصحوبة بالابتسامات، وتركنا المكان نمشي على أطراف الأصابع". ولو أنني رأيتهم في ذلك اليوم لاستغرقت في الضحك، هذه لوحة يجمع الخيال بين عناصرها فتضحك: الأستاذ كنعان الذي يتناوم بل يغط في نومه خوفا من صعود جبل يعرف حصباءه، وهؤلاء الأخوان الذين يرونه من ثقب الباب متربعا على سريره يتميز غيظا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب! ثم منظرهم وقد تبادلوا النظرات المصحوبة بالابتسامات. ثم يتركون المكان على أطراف الأصابع كي لا يوقظوا الأستاذ! أليست هذه صورًا من واقع الحياة؟ إن شخصية الأستاذ كنعان وكل ما كان لها من أحداث أنموذج بشرى صادق، لو لم يكن في الرواية غيره لكفى لتعتبر من عيون الأدب الواقعي. فكيف بنا لو نظرنا إلى تلك الشخصية الأخرى العجيبة، شخصية "مجاعص"

دليل الرحلة إلى القصر، نراه لأول مرة في حديقة الفندق، حيث كان يجلس الراوي مع "مس إيفانس"، وإذا "بحبيب" الخادم ينبئ بقدومه، ويسمح له بالمجيء، وغاب "حبيب" هنيهة ثم عاد ومعه رجل منبسط القامة، عريض الجوانب، مكتنز العضلات، له شارب غليظ كأنه مصنوع من الأبنوس، ورقبة كأنها الجذع العتيق.. ينظر إلينا نظرات حادة كأنه يزدرينا! واقترب الرجل من "مس إيفانس" وحياها، فأحسنت لقاءه، ثم التفتت نحوي "نحو الراوي" وقالت وهي تتلطف في بسمتها: أقدم لك دليلي الذي أعتمد عليه في ارتياد هذه المنطقة.. ودنا الرجل مني وصافحني في شيء من التحفظ، وقال بصوت خشن وهو يفتل شاربه، أو بالأحرى يداعبه مزهوا: "محسوبك مجاعص ابن الجبل.. أعرف هذه الجهة ومخابئها وطرقاتها، وكما أعرف أصابع يدي.. يمكنني -صيفا وشتاء- أن أسير في الليل، كما أسير في النهار، لا تعوقني ظلمة ولا رياح ولا لصوص ولا ضوار ولا ... "، ونحن وإن كنا لن نستطيع أن نميزه عندما نذهب إلى لبنان -إن قدر لنا ذلك- بنفس السهولة التي سنميز بها "الأستاذ كنعان" ذا الرقبة المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم، إلا أننا فيما أظن سننجح في التعرف إليه خصوصا إذا ذكرنا أخلاقه. فهذا المسكين رغم مكابرته الساذجة قد انتهى بأن أظهر هلعا واضحا عندما وصلت الجماعة في رحلتها في الجبل إلى مفاوز مخيفة، ولعل له العذر في ذلك؛ فقد تكالبت عليه المحن فانهارت به الصخور مرة وجرح، ولولا شجاعة "الشيخ عاد" الذي تدلى بالحبل لينقذه من الهاوية التي سقط فيها لمات، ومع ذلك فقد انتهى به الأمر إلى الموت في سقطة أخرى في القصر نفسه، وفي ذلك اليوم لم تُجْدِ شجاعة الشيخ عاد شيئا، فإنه عندما نزل بالحبل إلى الهاوية التي سقط فيها مجاعص وجده جثة هادة، مهشم الرأس، فعاد به ودفنوه، وكللت "مس إيفانس" قبره بالورد. وقد حزنا لموته؛ لأن الراوي نفسه قد حزن هو ورفيقاه إذ عثروا وهم عائدون ببغلتين كاللتين كانتا معهم في الذهاب، واللتين اضطروا إلى التخلي عنها لضيق المفاوز، وتأملوا في البغلتين فوجدوهما محجلتين كبغلتيهم، ولكن أنَّى لهم أنَّى يجزموا بشيء، وهل كان يستطيع أن يجزم بشيء كهذا غير المسكين "مجاعص"؟ وقال الراوي: "صحيح هما محجلتان.. ولكن ليس هذا دليلا قاطعا.. لو كان المرحوم "مجاعص" بيننا لأنقذنا من هذه الحيرة بالخبر واليقين". وبهذه الجملة البسيطة، بهذه الحادثة الصغيرة استطاع الكاتب أن يحيي ذكرى مجاعص في نفوسنا، بل وأن يلونها تلوينا عاطفيا بالغ الرقة، والآن لم يبقَ في "البهو" غير حبيب الخادم و"مس

إيفانس"، وحبيب خادم ككل الخدم، وإن كان مغرما بالقراءة، وهذا نادر حتى بين الأسياد! وأما "مس إيفانس" فبطلة القصة فيما يظهر، وإن كنت عن نفسي لا أعدل "بالأستاذ كنعان" أحدا، لا لأنه أستاذ فحسب، بل لأنه "الأستاذ كنعان" الذي سأراه أمام بصرى، وسأبتسم، بل قد أضحك كلما ذكرته. "مس إيفانس" سيدة إنجليزية قليلة الكلام محبة للعزلة، أتت إلى لبنان عقب أزمة نفسية، أوحت إليها بفلسفة عارضة في الحياة، زبد نفضه الألم على السطح. كانت مثلنا تسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة حتى تكشف لها المجتمع عن حقيقته، وبان لها زيفه وبهتانه.. وثقت بدنيانا هذه فأودعتها أعز ما تملك.. أودعتها قلبها، ولكنها ردت إليها هذا القلب مطعونا.. فكرهت دنيانا..كرهتها! حب خاب.. مأساة النساء بل والرجال منذ أن وجد الزمن وإلى أن يفنى الزمن. والنفس إذا حزت فيها الآلام حاولت أن تتمثل بأي شيء بالمغامرة مثلا. وهذا ما كان، "فمس إيفانس" قد سمعت بوجود قصر مسحور في الجبل وقد تسقطت أحاديثه فنزعت إلى السير إليه، وكأن مجهولا يناديها منه نداء لاقى صدى بنفسها التي لم يعد يعمرها شيء، فاتسعت لنداء المجهول، وكونت "مس إيفانس" بمحض المصادفة قافلة صغيرة للبحث عن القصر، أفرادها هم من ذكرت: الشيخ عاد، وراوي القصة، ومجاعص، ثم هي وساروا في رحلة شاقة تجدها في القصة، حتى انتهوا إلى القصر، وهنا قد يقول القارئ: ولكن هذه مغامرة خيالية! أبدا فالقصر حقيقة واقعة بناه الشيخ "بشير الصافي" وكان رجلا عظيم السلطان تؤازره عشائر شتى، وكانت له مع الدولة العثمانية مواقف مشهورة، وكان الولاة يرهبون جانبه ويجاملونه ما استطاعوا، ويضمرون له الشر للإيقاع به عند إمكان الفرصة، ولكن فطنته وسعة حيلته جعلته يخشى أن يتنكر له الدهر، فاختار مكانا في ركن يخفيه الجبل يصعب الاهتداء إليه، وشيد فيه قصرا محصنا يعتصم به هو ومن معه إذا اضطرهم الأمر إلى الاختفاء.. و"كان ذلك منذ زمن العثمانيين وأما الآن فقد آل القصر إلى حفيد الشيخ بشير، إلى يوسف الصافي. ولقد كانت لهذا الأخير قصة مؤثرة؛ إذ إنه أحب فتاة وطلبها إلى أبيها، ولكن الأب رفض وهَمَّ بتزويجها إلى رجل آخر، رغم حب الفتاة ليوسف، واتفق الشاب مع حبيبته على أن يقتلها ويقتل نفسه، وفعلا قتلها في ليلة زفافها، وأما هو فقد ضعفت يده عن قتل نفسه، ولئن شاع بين الناس أنه قد انتحر فإن هذا لم يكن صحيحا؛ إذ هام على وجهه وما زال يتخبط في بقاع الأرض حتى انتهى بالوصول إلى قصر جده.. وهناك أقام، مصدر رعب لكل من يدنو من القصر،

يهيل عليه الصخور أو ينصب له الشرك، حتى شاع وذاع أن القصر مسحور، وكانت بالقصر حدائق دانية الجنان استطاع أن يحيا فيها يوسف ربع قرن بأكمله. وصلت القافلة إلى القصر بعد أن نجت من حبائل يوسف بحسن توفيق، فقد شاء القضاء ألا يصيب خنجره منهم أحدًا. بينهما استطاع "الراوي" أن يصيبه بطلقة نارية عن غدَّارته، وهنا أخذت "مس إيفانس" تُعنى بأمر يوسف الجريح، ويوسف يهذي فيناديها بـ"صفاء" واهما أنها خطيبته التي كانت تحمل هذا الاسم، وفي ذلك ما يحرك قلب "مس إيفانس" ويرنح خيالها، حتى إذا شفي الرجل وثاب إلى رشده، لم يعد يناديها بهذا الاسم الجميل، وكأنه فطن إلى أنها غير حبيبته التي غادر الأحياء من أجلها. ونحن بعد لا ندري ماذا أحست "مس إيفانس" عندما عرفت تل الحقيقة ورأت يوسف يناديها بـ"مس إيفانس" فهذه أسرار نضيفها إلى غيرها، مما يملأ نفس "مس إيفانس" وإن تكن كلها أسرار واضحة. هل هي إلا فراغ النفس؟ فراغها المؤلم. وأيا ما يكون الأمر فقد ضاقت "مس إيفانس" بالبقاء في هذا المكان الموحش، وأصبحت تقول: "إني أسمى هذه العزلة مرضا اجتماعيا.. لكل امرئ في الحياة رسالة يجب أن يؤديها لبني جنسه. فإذا نكص على عقبيه عد ذلك فرارا من الميدان". وهذا تحول عجيب في فلسفة "مس إيفانس" في الحياة، ولكن ألم أقل لك إن فلسفتها زبد نفضه الألم على السطح؟ وغادرت القافلة المكان عائدة بعد أن فقدت "مجاعص"، ولكن "مس إيفانس" ظلت "تقضي وقتا غير قصير تطيل النظر إلى الجهة التي يقوم فيها قصرنا المسحور.."، وفي اليوم الثالث من الرحلة صحا الراوي من نومه واجتمع بـ"الشيخ عاد" لتناول الفطور، ولكنه لم يجد "مس إيفانس". فسأله الشيخ عاد عنها فلم يجبه.. بل اقتصر على ابتسامة "هادئة مديدة"، فيها معنى الاستسلام والاستخفاف بكل شيء. إلى أين ذهبت؟.. ألم تفهم؟ لقد استجابت لنداء المجهول الذي كانت تبحث عنه. عادت إلى يوسف إن لم يكن بد من الإفصاح. أما ما كان من أمرها بعد العودة إليه، فذلك ما ليس لنا به علم؛ إذا إن الراوي لم يحدثنا عن شيء بعد هذا، ولي ولك أيها القارئ، وسيكون للأجيال المتلاحقة بعدنا أن نفكر في مصير "مس إيفانس" التي ستهز خيالنا لزمن طويل. ولعل القارئ يعود فيسائلني: هل "مس إيفانس" هذه من الحياة حقا، أم هي خيال شاعر؟ وأنا في الحق لا أكاد أتصور هذه الفتاة العجيبة في وضوح؛ لأن الراوي كان أيضا معجبا بها، بل لقد داعب حبها قلبه فلم يمعن فيها النظر، كما لم يمعنه الشيخ "عاد". وهنا تظهر حقيقة أدبية كبيرة، تفسر لنا كيف أن الأدب الواقعي أمعن في

وصف الشاذ القبيح الدال، منه في وصف الجمال. فصفات الجمال كما قلت ألفاظ عامة كلها من نوع الكلمات المبتذلة التي تلوكها ألسن اليافعين واليافعات "فلان زي القمر" و"فلان زي البدر" وأمثال ذلك. وهكذا يقول الراوي عن "مس إيفانس" "وجلست على المقعد متمددة فظهرت معالم جسمها الفاتن وحدقت في السماء بعينيها الصافيتي الزرقة اللتين تكشفان عن عراقة منبت وسلامة قلب، وهذه أوصاف جميلة موحية، أجلها عن الابتذال ولكن هل أفادت تحديدا؟ وهل في لغة الجمال تحديد؟ كم في العالم من "مفاتن جسمية" وكم فيه من "أعين زرق صافية تكشف عن عراقة منبت وسلامة قلب"، ونحن نلتمس للراوي العذر، فهذه مشكلة لا حل لها إلا أن نغير لغة البشر، وهو بعد قد تورط في التعلق "بمس إيفانس" حتى لقد أصابته الغيرة من يوسف. وإلى اليوم ما زلت أفكر في الأثر الذي خلفته بنفسه تلك المغامرة. نداء المجهول إذن قصة واقعية. واقعية في تفاصيل موضوعها. واقعية في طريقة قصصها واقعية بشخصياتها. ولئن أحاط مس "إيفانس" جو من الشعر فإنه لا يستطيع أن يخفى ما فيها من حقائق نفسية، فهي شخصية نفسية إن لم تكن شخصية من دم ولحم. "نداء المجهول" واقعية بأسلوبها. ولتيمور أسلوب أصيل. أسلوب خطفات دالة موجزة مركزة موحية دقيقة. أتريد أمثلة؟ أذكر أسماء الأعلام وما فيها من بيان، الشيخ عاد والأستاذ كنعان ثم مجاعص، مجاعص بنوع خاص وما فيه من "جعاصة" تدعونا إلى الابتسام المشفق. وأخيرا صفاء وإن لم نخل من دهشة لاتفاق اسم "الصافي وصفاء" فقد تم في سهولة مسرفة كنت أود لو نجا منها تيمور، ثم أذكر جمله ولوحاته العديدة في القصة: ورأيت الشمس تنحدر الهوينى في الأفق. وقد "أخذ يبتلعها خضم الضباب القاني "وقت الغروب في الجبل" المترامي بأطراف الوديان الزاحف علينا من طلائع الليل". أولست ترى المنظر؟ أولست تحس بزحف الضباب؟! أذكر "الرعاة بوجوههم الطويلة المشدودة البشرة" ثم تصور مجاعص وهو يحاول "إخضاع" لقمة كبيرة حشا بها فمه، وقارن صورته هذه بصورته أثناء الرحلة: "ومر بعد ذلك يومان أيضا وأوشك الزاد أن ينفد على الرغم من تقتيرنا فيما نأكل منه "فيما نأكل منه، حشو هممنا بحذفه" واعترض "مجاعص" وجوم غريب وغشيته كآبة صماء" ولم يعد "يسمعنا مبالغاته المستفيضة في وصف شجاعته والإدلال بخبرته، وتراخى شارباه وانحنت قامته وكان إذا صادفته في الطريق عقبة كئود طمح ببصره إلى السماء وصرخ من أعماق قلبه: الله يخرب القصر ويحرق اللي بناه" ثم هذه اللوحة التي كأنها رسمت بريشة مصور ماهر يعرف كيف يجمع شخصياته ويميز بينهما. لوحة أفراد الرحلة

وهم بمأوى في إحدى الليالي: "ثم رأينا المأوى وقد بدأت تنيره أشعة القمر فتنهدت طويلا وطفت بعيني فألفيت "مس إيفانس" منكمشة بجواري تدور برأسها الدقيق حولها، وعيناها لامتعان كما تلمع الماسة المصقولة والشيخ "عاد ينظر أمامه نظرا تائها مسترسلا في أحلامه. أما مجاعص فقد كوم نفسه وراح في سبات عميق! ". وأخيرا دعنا من هفوات الكاتب كقوله عن نرجيلة الأستاذ كنعان ليلة كانوا ينصتون إلى المعلومات التي استطاع الشيخ عاد أن يجمعها عن القصر، ولا تستمع إلى دعواه أنه "انبعث بمائها هدير عال، كأنما هي أيضا تطالبه "تطالب الشيخ عاد" أن يروي لنا حكاية هذه الفاجعة، فاجعة يوسف الصافي".. فهذا ليس صحيحا وما سمعنا أن نرجيلة تهدر مطالبة بقص حكاية، هذا ظن تافه لا ندري كيف وقع فيه تيمور الدقيق الحس الصادق الذوق، ودعنا من العبارات المحفوظة التي أمقتها؛ لأنه لم يعد لها لون وقد أكلها التحات حتى أصبحت لا تدل إلا على الكسل العقلي الذي يحجم عن البحث عن العبارة الدقيقة، وذلك أمثال "يقلب له الدهر يوما ظهر المجن" "ص48" "ولا حياة لمن تنادي" فهي أيضا -على تفاوت في النسب- عبارة بالية، ثم انظر في كل ما بقي، ترَ أسلوبا دقيقا لرجل يعرف أسرار اللغة ويحسن استخدامها. "أصبح عند بعض الناس خرافة ليس لها وجود، وعند بعض آخرين، مكانا تعمره الشياطين"، وتأمل في قوله: بعض الناس.. وبعض آخرين، فهو لم يقل "البعض الآخر" حتى لا يفيد تعميما لا يريده. وأنس لتيمور ابن اللغوي تيمور باشا الجمع "أميال" "ص55" بدلا من "ميول" الدارجة الجميلة ثم تأمل في الصمت "الرازح" "ص65" و"شحيح البغلتين"و"ما عتمت أن غشيني النعاس" "ص8"، "جسمي يشجب دما" "ص82" و"خطين من الدموع يتهاديان على خديه" و"كلمة صفاء المنقوشة في الصخر الأملس تتدفق عليها مياه الينبوع فتدعها تختلج حروفها كأن لها قلبا حيا ينبض" "ص121" و"نار المدفأة تتلاعب على سقف المأوى في أشكال بشعة، وذلك في ليلة هاجت فيها نفس الراوي وتألمت وسمع فيها عواء حسبه صدى "لصوت نفسه العليلة المضطربة" ثم أطال التحديق "بنظرة الشيخ عاد الثابتة" وقد بلغ من ثباتها أن حملت الراوي على أن يصدع بأمر الشيخ رغم ما في أمره في مجازفة خطرة، ثم الشعلة "التي لاحت بقاع البئر كأنها بصيص ثقاب" "ص136" وأخيرا تصور "اليأس يعشش في نفسي" "ص149". أليست هذه كلها أمارة الدقة عند كاتب يعرف كيف يختار ألفاظه ويرسم صوره، كما يعرف فن القصة وأصولها. محمود تيمور كاتب واقعي، كاتب ممتاز، إنني لا أكتم محبتي لأدب هذا الكاتب.

دعاء الكروان ومشاكلة الواقع

دعاء الكروان 1 ومشاكلة الواقع: "دعاء الكروان" قصة يمهد نصفها الأول للنصف الأخير، تبدأ بمأساة وتنتهي بزواج، وبين الحادثتين جرائم ولوحات، منها ما يمت إلى القصة بسبب قوي، ومنها ما يتراخى به ذلك السبب وإن لم يعدم القيمة الذاتية. رجل معوج الخلق في بيئة بدوية، يقع بالشرك في إحدى مغامراته فيقتله من اعتدى على شرفهم، ويخلف زوجة وبنتين يطردهن أهلهن دفعا للعار، فيذهبن ليعملن خادمات بإحدى مدن الريف الصغيرة: آمنة إحدى البنتين بمنزل المأمور، وهنادي أختها عند مهندس الري، وتسقط هنادي فتسير الأم ببنتيها إلى بلد آخر، حيث ينزلن ضيوفا بدوار العمدة، ومن هنا ترسل الأم إلى أخيها خبرا مع إحدى النساء اللاتي يأتين إلى السوق، فيسرع الأخ بالمجيء، ويعلم الأخ بسقوط الفتاة، فيتركهن ليعد في الطريق حفرة يدفن فيها هنادي التي صمم على قتلها في طريق العودة. وتتم الجريمة، كما دبرها تاركة في خيال آمنة أثرا عنيفا، ينتهي بها إلى الهذيان عند وصولهم، وقد استحالت عليها الحياة حتى لم تجد مفرا من أن تغادر البلدة من جديدة بمجرد أن تماسكت قواها. وينتهي بها المسير إلى بيت الأمور، حيث كانت أول الأمر، وهنالك تعلم أن المهندس قد استبدل بأختها فتاة أخرى، فتثور حفيظتها، وتود لو وجدت سبيلا إلى الانتقام، وكانت للمأمور بنت -خديجة- في سن آمنة، وحدث أن خطبت خديجة للمهندس، وإذا بآمنة تسوقها غرائز غامضة إلى عرقلة هذا الزواج، فتخبر أم الفتاة بما كان بين المهندس وهنادي، وبذلك تصل إلى ما تريد، وبعد عدة مناورات ينتهي الأمر بآمنة إلى العمل ببيت المهندس نفسه، وهنا ينشب صراع قوي دفين بين الخادمة وسيدها، ولا تزال الخادمة تلعب بالسيد، راغبة متمنعة، حتى يقع في حبها، وينتقل المهندس إلى القاهرة، حيث يعقد بينهما الزواج. وهذا هو هيكل القصة العام. وهو في هذا التلخيص يبدو متسقا موحدا، ولكن الكتاب عند القراءة يشعرنا بوجود وحدات تكاد تكون قائمة بذاتها، ومن بينها ما

_ 1 من المعلوم أن هذه القصة للدكتور طه حسين.

يمكن حذفه دون أن يضطرب السياق، فهناك دعاء الكروان، وهو دعاء شعري جميل، تردده آمنة في المواقف الحاسمة، قد هيأ لها المؤلف حضور هذا الطائر كلما اشتد أمر. وهناك وصف الليالي التي أمضتها الأم وبنتاها عند العمدة، وفي هذا الجزء أشياء يمكن أن تستقيم القصة بدونها، كالحديث عن خضرة ونفيسة، فهما وإن تكونا نموذجين لبعض نساء الريف، إلا أنهما لا تلعبان في حوادث الرواية أي دور، وكذلك الأمر في حادثة قتل شيخ الخفراء التي تحلق بهذا الجزء دون أن نتبين لقصصها وجها واضحا، وهناك منظر القتل الذي نجح المؤلف في تصويره، وحلمنا على الإحساس بفظاعته، ثم تصوير هذيان آمنة، وهذا جزء يضعف تأثيره ما فيه من إسراف. وأخيرا تأتي قصة آمنة مع المهندس. ولعل هذا الجزء هو خير ما في الرواية؛ لما فيه من فهم عميق لحقائق النفوس، وبخاصة نفوس النساء. وإنه وإن تكن وحدة القصة من الأسس المهمة في كل عمل فني، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى تلك الوحدة نظرة واسعة، فلا نردها إلى وقائع الرواية، واتصال بعضها ببعض فحسب؛ بل نمدها إلى الهدف النهائي الذي يقصد إليه كل كاتب، وهو التصوير والتأثير، فالقصاص بتصويره للبيئة التي يحيا فيها أبطاله يعيننا على فهم نفوسهم، وهو بقصصه لطرف من حوادث العنف التي يأتونها يخلق جوا يمهد لما سيقع في القصة ذاتها، وعلى هذا النحو نستطيع أن نفهم ما ساق إلينا المؤلف من أجزاء لم نتبين رابطاتها المباشرة بالقصة. ولكننا على العكس من ذلك لا نستطيع التسامح فيما يجب أن يتوفر لكل قصة جديدة من مشاكلة للواقع L'illusion du reel، وتلك المشاكلة لا نراها متوفرة في كل أجزاء القصة التي بين أيدينا، وذلك لسببين كبيرين؛ أولهما: طغيان المؤلف على شخصياته، وثانيهما: تحجر أسلوبه في طابع خاص يعرفه الجميع. لنأخذ مثلا دعاء الكروان: "لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب قدومك وأنتظر نداءك، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك وأسمع صوتك وأستجيب لدعائك. ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!.. لبيك لبيك! أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، أمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع" هذا لا ريب شعر ساحر ما أظن نغماته تفارق الخيال عما قريب.. ألفاظ مجنحة خفيفة عذبة. ولكم من مرة يعود الطائر فتلقاه آمنة بنفس الحديث. ويستمع القارئ لدعائها فكأنما يأوي إلى واحة ظليلة أو يلقى صديقا قديما.

ولكن دعنا نصم آذاننا قليلا عن سحره لنتساءل عن قائله: أهو حقيقة آمنة، وهي مهما حدثنا الكاتب عن تلقيها العلم مع خديجة عاما بعد عام حتى ألمت باللغة الفرنسية ذاتها، لا نظنها قادرة على أن تدعو الكروان هذا الدعاء الجميل؟ يقول المؤلف الفرنسي المعروف بومارشيه في مقدمة روايته فيجاور: "في إحدى الليالي ونحن بالمسرح قال لي رجل عظيم الذكاء وإن كان يسرف في ادخاره: أرجوك أن تشرح لي لماذا نجد في روايتك كل تلك الجمل المهلهلة التي ليست من أسلوبك؟ - من أسلوبي يا سيدي؟ لو شاء النحس أن يكون لي أسلوب لحاولت أن أنساه عندما أكتب مسرحية، وأنا لا أعرف أتفه طعما من تلك المسرحيات التي نرى فيها كل شيء جميلا ورديا، كل شيء هو المؤلف نفسه كيفما كان، عندما يتملكني موضوعي أستدعي شخصياتي وأضع كلا في مكانه، وأنا لا أعرف ماذا يقولون، وإنما يعنيني ما سيفعلون وعندما يأخذون في الحركة أكتب ما يملونه عليَّ إملاء سريعا، واثقا من أنهم لن يخدعوني. فلنأخذ إذن في فحص أفكارهم لا في البحث عما إذا كان من واجبي أن أعيرهم أسلوبي". ونحن وإن كنا نقدر ما في أقوال بومارشيه من إسراف أدبي، وندرك أنه ليس من الممكن أن يترك المؤلف أشخاصه يتحدثون كل بلغته وإلا لأسمعوه العجب، ومن بين أبطال القصة التي بين أيدينا مثلا السيد والخادم والقاهري والبدوي والصعيدي والبحراوي، إلا أنه مما لا شك فيه أن في أقوال بومارشيه جانبا كبيرا من الصحة. وأنه لمن واجب القصاص أن يحتال فيوهمنا بأنه قصته واقعية ليكون تأثرنا أتم. ومن وسائل هذا الإيهام -إن لم يكن من أهم وسائله- تنوع الأسلوب وطبيعته وعدم طغيان المؤلف على شخصياته، وفي "ليالي العمدة" أدلة واضحة على صحة ما نقول، فقد وصف الكاتب مثلا موقف آمنة من أختها التي كتمت عنها خبر سقوطها، فأخذت تحتال لتعرف السر دون أن تنجح، وفيما هما في جوف الليل رأت آمنة أختها واقفة حزينة يائسة، فنهضت إلى جوارها "ومست كتفها مسا رفيقا" وهذا حسن، ولكن المؤلف يأبَى إلا أن يضيف تلك الجملة الرصينة المضحكة "لا تراعي" مع أن "لا تخافي" هي الجملة الواجبة. ولقد نتج عن عدم اكتفاء الكاتب بتدوين ما تملي عليه شخصياته -كما كان يفعل بومارشيه- أن ظهر تنافر واضح في الأسلوب في بعض المواضع، ففي نفس "الليالي" نرى زنوبة "دلالة" البلدة تدعو آمنة إلى أن تقص عليها سبب حزنها، وذلك لما يبدو عليها من أنها "قارحة، ليس في عينها ملحا". ومع ذلك نجد إلى

جانب تلك الجملة الشعبية الدالة جملة أخرى لزنوبة نفسها هي "أرى على وجهك شيئا يشبه القحة". وكيف يمكن أن تعبر زنوبة تعبيرا فيه كل هذا التحفظ البلاغي والتخفيف في الحكم "شيئا يشبه القحة" هذا أسلوب المؤلف، وزنوبة بريئة منه. ولقد كنا نفضل بدلا من هذا التنافر أن يترجم الكاتب إلى اللغة الفصحى ما يريد من تعابير الشعب، ولقد دل على أنه يملك تلك القدرة، فأنطق زنوبة بقولها للأم وبنتيها في معرض التحدي "ما أنتن أولاء بيننا منذ أمس ولا سمعنا لَكُنَّ صوتا ولا عرفنا من أمركن شيئا"، ولا ريب في أن تعبيره "ما أنتن أولاء" إن هو إلا تعريب للاصطلاح العامي الشديد "وانتوا إيه يا ادلعدي". ولو أن أسلوب الكاتب كان بطبيعته قريبا من لغة الواقع لهان الأمر، ولكنه أسلوب فني مصنوع، له خصائصه الثابتة، ونحن نترك الآن جانبا ما في هذا الأسلوب من جمال لنقف عندما يعيبه كأسلوب قصصي، وأوضح تلك العيوب أمران: 1- عدم الدقة والتحديد الناتجين إما عن عدم اختيار اللفظ المعبر، وإما عن استعمال أشباه الجمل. 2- الإسراف الذي نراه أوضح ما يكون في إشباع المعنى أو الإحساس، أو في الصياغة اللفظية التي تلجأ إلى المفاعيل المطلقة على نحو ملحوظ، وفي هذه العيوب ما يبعد به عن مشاكلة الواقع التي رأينا يها مبدأ صارما لا يمكن التسامح فيه. خذ مثلا حديث الدجالة نفيسة مع آمنة وهي توصيها بأن تذهب إلى قرية قريبة؛ حيث مقام أحد الأولياء، وحيث توجد امرأة لها "قرين" من الجن يستطيع أن يأتي بالأعاجيب، ترى المؤلف الذي يعرف من أسماء الأعلام الشيء الكثير، بل والنادر "كملزمة" اسما للأم، ولا يخصص هذا الولي باسم بل يقول: سيدنا "فلان"، ولا يخصص المرأة بل يقول دار "فلانة"، وفي هذا ما يضعف من الإيهام بالواقع. ولقد كان يستطيع أن يقول: سيدنا "محمد" ومنزل الشيخة "فاطمة" أو أي اسمين آخرين حتى يوهمنا بأن كل هذا قد حدث فعلا. وكذلك الأمر في استخدامه لأشباه الجمل بدلا من الألفاظ الدقيقة، كتعبيره عن "الشوكة والسكينة" بقوله: "هذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة، بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة"، وتعبيره عن القطار بـ"هذا الشيء المروع المخيف الغريب، الذي يبعث في الجو شررا ونارا وصوتا ضخما عريضا وصفيرا عاليا نحيفا. والذين يركبونه يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا وبالحمير حينا آخر وبالأقدام في أكثر الأحيان". هذا مع أن المؤلف يعرف كيف يتصنع السذاجة البالغة

أحيانا، كوصفه لدهشة آمنة عندما سمعت اللغة الفرنسية لأول مرة وتساؤلها كيف يمكن أن تكون هناك لغة غير ما تعرف من لهجة مصر ولهجة الريف ولجهة البدو، حتى لكأنها لم تسمع قط "خرستو" بقال "الناصية" يتكلم اليونانية. وأما الإسراف فذلك ما يطالعك في أكثر من موقف من مواقف القصة؛ حيث ترى الكاتب يسرف في اللفظ فيذيب الإحساس ويذهب بالتأثير، انظر مثلا إلى هذه المقابلات اللفظية: فصوتها مضطرب "ممزق" "يتمزق" له قلبي كلما ذكرته، وانظر إلى المفعولات المطلقة في قوله: "فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطربا عميقا". ونحن نفهم المفعولات المطلقة التي تصحبها صفات تحدد من الحدث. وأما تلك التي لا يقصد منها إلى غير التأكيد أو المبالغة فأكبر الظن أن ما قد يساوقها من موسيقى لا يكفي لتبريرها. وإسراف الكاتب لا يقف عند الأسلوب، بل كثيرا ما يمتد إلى الإحساس ذاته يبسطه حتى يشف. تقول آمنة في وصف مواساتها لأختها بدوار العمدة: "وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إليَّ وأقبلها وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر وآوت إلى ذراعي كأنها طفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها.." ولكن أية عذوبة لن تنساها آمنة؟! والأختان في موقف يثير الألم المر. والذي نعرفه عند كبار الكتاب هو الإيجاز في المواقف الحرجة. وأنا أذكر لفلوبير أمثلة عديدة لهذه المواقف. منها قوله في "قلب ساذج" عن أم ماتت ابنتها: "وسارت الجنازة وصعدت مدام أوبان إلى العربة وأرخت الستائر السود" تاركا لنا أن نتصور مبلغ الحزن الذي أخفته تلك الستائر، ومنها قوله عن القديس جوليان الذي قتل أمه وأباه خطأ فلبس مسوح الرهبان: "وسارت الجنازة وكنت ترى رجلا في مسوح راهب يتبع الموكب من مسافة بعيدة منكس الرأس". وكذلك موقف آمنة وأختها، فقد كنا ننتظر من المؤلف أن يتكفي بأن يشعرنا بما أضنى الأخت المنكوبة من إعياء: "فألقت برأسها إلى كتف أختها" ثم يتركنا نتصور الباقي. وباستطاعة القارئ أن يقارن كذلك بين وصف المؤلف لهذيان آمنة ووصف فلوبير أيضا لسان جوليان ويكفيه ليدرك ما ندعو إليه من وجوب الاعتدال والتركيز أن يوازن بين "ينبوع الدماء"، الذي رأته آمنة في هذيانها و"نقط الدم الصغيرة" التي رآها جوليان تقطر من فراش أبويه عند قتله لهما فلازمته أشباحهما أنَّى ذهب.

ومن غريب الأمر أن نرى المؤلف الذي نأخذ عليه هذا الإسراف يعرف كيف يقتصد، فترى الأسلوب الخاطف والحركة الدراماتيكية السريعة، وإذا بك مأخوذ بما تشهد، وقد علقت أنفاسك، على نحو ما تلقى من كبار الكتاب، ولعل وصفه لمقتل هنادي أن يكون من أقوى تلك المواقف وأنجحها. ولا تقف عدم مشاكلة الواقع عند أسلوب المؤلف أو طغيان شخصيته؛ بل يمتد إلى بعض وقائع القصة وإلى الطريقة الفنية التي اختارها الكاتب لقصته. ففي الواقع منذ البدء نلاحظ شيئا غير طبيعي، وهو طرد الأم وبنتيهما محوا للعار بعد قتل عائلهن في مغامرة أخلاقية، أي عار؟ ذلك ما لا نعلمه. والعار لا يلحق في هذه البيئات غير النساء، وما نظن بدو الريف يطردون نساءهم، وعرفهم أن يقتلن المذنبات منهن، وهؤلاء لم يرتكبن إثما؛ ولهذا كنا نفضل أن يحمل المؤلف الأم وبنتيها على الهجرة سعيا وراء الرزق أو ضيقا بالحياة، وأما أن يطردهن أهلن "ويخرجوهن إخراجا" فذلك ما لا عهد لنا به. وأما عن الطريقة الفنية في القصص فقد اختار الكاتب أن يسوق الرواية على لسان آمنة، وهذه طريقة لا غبار عليها ولكن على شرط أن يأتي القصص طبيعيا مسايرا لنفسية من يقص، ولقد سبق أن رأينا كيف أنه من غير المعقول أن يصدر دعاء الكروان عن آمنة، ونضيف إلى ذلك مثلا آخر واضحا لما اضطر إليه الكاتب من الخروج على ما اشترطنا لكي يصل من التحليل النفسي إلى ما يريد. فآمنة هي التي تحلل شعورها نحو المهندس ونتتبع مراحله، وهي من وضوح الرؤية والجرأة على الحق النفسي بحيث لا نظن صدور مثل هذا التحليل عن فتاة في ثقافتها وطبيعتها النفسية، بل لا نظن أن كثيرا من الفلاسفة أنفسهم يستطيعون أن يجابهوا حقائقهم النفسية في هذه الصراحة والقوة؛ ولهذا نظن أنه ربما كان من الأفضل لو غير الكاتب طريقته في هذا الجزء ليسلم من النقد. ومع ذلك فنحن حريصون على أن نؤيد ما سبق أن قلناه من أن هذا الجزء من الرواية يعد بلا ريب من خير ما كتب كتابنا. وأروع ما فيه ذلك التدريج المحكم في الكشف عن نفسية الفتاة وتطور شعورها تطورا غامضا غير محسوس من رغبة في الانتقام إلى غيرة خفية فحب للاستطلاع ثم اهتمام فاحتيال حتى إذا وصلت إلى ما تريد من معاشرة المهندس أخذت غرائزها تتلون بشتى المواضعات الاجتماعية التي تخفي حقائق النفس. إن في تاريخ هذا الحب الذي يجهل نفسه ولا يزال يراوغ ويداور حتى يتضح لوثيقة إنسانية عظيمة القدر.

زهرة العمر وحياتنا الثقافية

زهرة العمر وحياتنا الثقافية: 1- حمل إلى البريد أمس الكتاب الجديد لتوفيق الحكيم، وهو عبارة عن مجموعة "رسائل حقيقية" كتبت بالفرنسية في ذلك العهد الذي يسمونه "زهرة العمر" وهي موجهة إلى المسيو أندريه، الذي جاء وصفه في "عصفور من الشرق". وقد بدأ الصديقان يتراسلان بعد مغادرة أندريه باريس للعمل في مصانع "ليل" بشمال فرنسا، واستمرت المراسلة إلى ما بعد عودة الحكيم إلى مصر والتحاقه بالسلك القضائي، ثم انقطعت بينهما الرسائل والأخبار وانتهى كل شيء، وجرفهما تيار الحياة كلا في واديه1. وأما موضوع الرسائل فحياة توفيق الحكيم حياته الفنية: جهاده في تحصيل الثقافة من منابعها الحقة، ومحاولاته في سبيل الخلق الفني، وخواطره في قيمة ما يعمل، وخصائص ما ينتج، ولمحات كثيرة عميقة عن التربية الفنية، ووسائل تلك التربية من تفكير وفن وأدب ورثناها عن الغرب والشرق. لقد انشرح صدري بهذا الكتاب. وأنا بعد لست بغافل عما يمكن أن يكون في هذا الانشراح من عامل الأثرة، فلقد مرت بي أيام شديدة الشبه بما يقص الحكيم، وفي النفس إيمان بكثير من القيم التي أفنى الكاتب في سبيلها زهرة حياته. والناقد مهما حاول أن ينحي نفسه عما ينقد لا بد مستجيب لتلك النفس الآمرة في الجهر والخفاء، ولكنني مع ذلك قد أدركت في وضوح أن هذا الكتاب أوسع أفقا وأعمق أثرا من حياة الحكيم وما يشابهها من حيوات. إنه مرحلة من مراحل حياتنا الروحية الثقافية، مرحلة أعتقد أنه سيعيننا على اجتيازها، لا بمادتها، فالأمم لا ينقلها كتاب، مهما غزر تفكيره، بل بتوجيهه، سيجتاز تلك المرحلة من قادة الفكر عندنا من يؤمنون بصدق هذا التوجيه ثم يسايرون خطاه.

_ 1 مقدمة الكتاب.

وذلك مع تحفظات أبدأ بها لأخلص بعد ذلك إلى قيمة هذا الكتاب الخطيرة. وأولها ما ألاحظ من رهبة الحكيم للحياة، وانطوائه على نفسه، وهو رجل داخلي "لم يتح لي لحظة من لحظات حياتي أن أحزن لحزن الطبيعة، وأبتسم لابتسامها؛ وذلك لأن ما عندي من أزمات داخلية قد شغل قلبي دائما عن الطبيعة، إن عيني مصوبتان دائما إلى أعماق قلبي". وهذا في الحق ليس إلا جانبا من ظاهرة عامة عند الحكيم، فمن البين أن في نفسه شهوة مسيطرة، هي شهوة الفن، وهذه الشهوة هي مصدر ما يجد من قلق وشك وآلام، ولقد اتفق أن ألقى بنفسه إلى أوربا، وهو المرن التفكير، المفتح النوافذ السلس القياد، السريع التأثر، الوديع المزاج، فإذا بآيات الفنون والآداب تملك عليه أمره ملكا تاما فلا يعود يرى غيرها، وكان في هذا موضع الخطر، فإن المعرفة غير المباشرة من كتب ومحاضرات ومتاحف لم تلبث أن طغت في نفسه على المعرفة المباشرة، فهو يحدثنا أنه كان يفضل البقاء في باريس مكبا على القراءة والتحصيل على أن يصاحب إخوانه المصريين إلى شاطئ بحر أو قمة جبل. وهو يحلل سر أعراضه عن "ساشا" وغيرها -فيما أظن- من فتيات باستغراقه في تغذية نفسه بألوان الفنون. وهكذا تولدت في قلبه رهبة من الحياة التي أصبح يخشى أن تصرفه عن هدفه، فصدف عنه وسائل المعرفة المباشرة من مغامرة في المجتمع، وسياحة في بقاع الأرض، وتقليب البصر في مناظر الجمال والقبح التي نستطيع أن نلاحظها بكل مكان، إذا استطعنا أن ننتزع أنفسنا من انطوائها الداخلي لنشرها في الخارج، على أن نستردها بعد ذلك، أوفر غنى وأرهف نفاذا، ولقد كنا نفهم عندئذ أن يتجه الحكيم اتجاها روحيا صوفيا خالصا، ولكنه لم يفعل؛ وذلك لأن معدن نفسه فيما يبدو لم يخلق للتصوف. الحكيم مفكر، مفكر في الحياة: حياته وحياتنا، ولكن تفكيره لم ينهض على الملاحظة المباشرة، قارن بينه وبين بلزاك مثلا، تدرك الفرق الواضح لساعتك: بلزاك يفكر بحواسه، أما الحكيم فبعقله، ولا أدل على ذلك من أن تراه يعالج كبرى المسائل الإنسانية علاج من لم تمسه عن قرب استمع إليه يقول عن الحب، هذا اللفظ الخطير الذي لن يبليه ابتذال؛ لأنه جوهر الحياة -جوهر الشباب على الأقل: "يخيل إليَّ أن الحب في هذا العالم عضو سوف يتمكن العلم الحديث من بتره واستئصاله دون أن تخسر الإنسانية شيئا كبيرًا". وفي موضع آخر: "وإنك لنعرف أن للحب مقاما كبيرا عندي في الحياة، في كل حياة، وربما كان الحب هو الشيء الوحيد الجميل الذي نعيش به ومن أجله نحن البشر". ما سر هذا التناقض؟ أو ما

تراه في صدور الرأيين عن العقل؟ أما لحياة فتسخر من كل ذلك. فالحياة لا تعرف الفروض العقلية ومهارة التفكير، الحياة سيل ذو اتجاه واحد1. هذا المنحى العقلي هو ما سبق أن أوضحته في نقدي لبجماليون، وإنه لمما يشجيني من توفيق الحكيم أن روحه المدركة قد رأت ما رأيت وعبرت عنه في قوة ووضوح "صدقت يا أندريه في قولك: إني أصلح أن أكون رياضيا، وإن أفكاري وتصرفاتي تكاد تسير على طريقة هندسية أو حسابية أو جبرية. هذا صحيح، ولا أدري كيف اهتديت إلى ذلك! أنا مع الأسف كذلك. وهذا ما سوف يهدم كل عمل مسرحي أو فني أحاول إنشاءه، إن إسقاطي الحياة والعواطف كما هي، وكما يراها ويحسها دهماء الناس، وركوني إلى الطريقة الرياضية في تعريف أفكاري وتأملاتي لمصيبة كبرى، وإليك دليلا آخر في قطعة "اللحم" التي أرسلتها إليك. إنك ولا شك لم تجد فيها أية صورة تنطبق على الحياة وعواطف الحياة، ولكن قد وجدتها متمشية مع العقل والمنطق الذي تقتضيه فروض خاصة أنشأتها أنا في البداية، تلك هي الرياضة: فرض وعقل ومنطق. التصوير الحديث أخرج من حسابه العواطف البشرية وجعل أساسه الهندسة والمنطق العقلي الواعي وغير الواعي، والموسيقى الحديثة أيضا.. يا للبلاء! إني أحب الفن الحديث وأقلده أحيانا وأخشاه وأخشى منه على نفسي.."2. ودع عنك شك الكاتب في قيمة ما عمل، فهذا الشك لا تعرفه غير النفوس الكبيرة، ودع عنك جهره بهذا الشك، فذلك ما لا يستطيعه إلى الناجحون، ثم انظر معي إلى نمو الروح الهندسية esprit ed geometrie ما يسميها بسكال، عند كتابنا، وطغيانها على ما يسميه نفس الكاتب الفرنسي "روح الدقة" esprit de finesse، ثم ابحث عن أسباب ذلك، أوما ترى أن سيطرة الشهوة العقلية -شهوة المعرفة غير المباشرة- وما استتبع ذلك من انصرافه عن الحياة، وضيقه بها، كما تشهد الصفحات التي يبرم فيها الكاتب من احتكاكه بالمجرمين في حياته القضائية -كانت من أهم الأسباب الموجهة؟ الحكيم سجين نفسه، سجين عقله. ولقد حاول كاتبنا الذكي أن يرى في بنائه لموضوعه وتصريفه للحوار أسلوبه الخاص، ولكننا نلاحظ ما سبق أن وضحناه، وهو أن بناءه لقصصه ومسرحياته رائدة دائما الفكر، والحياة لسوء الحظ أشد نفورا من أن تنطوي تحت خط من خطوط العقل. والشخصية الروائية -مهما آمنا بالجبر الداخلي لا بد ممزقة- في الحياة كل منهج مرسوم. أولا ترى إلى كاتب كدستيوفسكي كيف تتدفق بعض

_ 1 ص30. 2 ص55، 56.

رواياته -"العبيط" مثلا- كما يتدفق سيل الحياة لا يحده شاطئ ولا يسجنه مهد. والحكيم كرجل تفكير لم يعد يرى للصورة جمالا يعتد به، فاللغة عنده "أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة"1. والأسلوب عنده هو روح الكاتب وشخصيته ومنهجه في التأليف، وهذا حق ولكنه ليس كل الحق، فهناك أيضا فن العبارة، وما ينبغي أن تدفعنا ثورتنا المشروعة على أدب اللفظ الذي أفسد حياتنا الروحية قرونا طويلة إلى تحطيم ذلك الفن، فالسجع والتكلف الأجوف -كما عهدناهما- لا يقدحان في المبدأ العام الذي تنهض على أساسه جميع الفنون وأعني به فن الأداء، ونحن لا نقول كما قال مذهب من المذاهب الحديثة: إن اللغة كمقاطع الرخام يصاغ منها الأدب، كما تنحت التماثيل، ولكننا نؤمن - ويجب أن نؤمن- أن الكثير من الأفكار الرائعة والأحاسيس العميقة تفقد من جمالها إن لم تفقده كله، إذا عريت عن جمال الصور، بل إن التفكير والإحساس كثيرا ما يضيعان إذا عجزنا عن إسكانهما اللفظ الدال، وكم من كتاب يحدثنا عن موضع الصعوبة في الخلق الفني الإنساني، فنجده في الاحتيال على الفكر أو الإحساس حتى يطمئن إلى اللفظ، وليس من شك في أن سر الخلود في الكثير من عيون الأدب يرجع جانب كبير منه إلى خصائص الصياغة، ولا أدل على ما نقول من استحالة ترجمة الشعر الخالص2. وهكذا نستطيع أن نجمل التحفظات التي نراها: 1- عدم الإمعان في الحياة طلبا للمعرفة المباشرة. 2- شدة وطأة التفكير الرياضي وعدم تنمية روح الدقة التي ترى التفاصيل والمفارقات وتحرص عليها لدلالتها الإنسانية لا لتأييدها لفكرة عامة أو اتجاه مسيطر. 3- عدم الإيمان بجمال الصياغة والشكل Le culte de la forme مع أنه إيمان بالجمال المطلق، ولنذكر قول أفلاطون: "لو صيغت الحقيقة امرأة لأحبها جميع الناس". هذه هي مواضع نقدي للكتاب وصاحب الكتاب. حرصت على البدء بها لأني أقدر مبلغ الأثر الذي سيحدثه هذا الكتاب في النفوس، كما أقدر قوة كاتبه، وقد خشيت أن يحتاج المؤلف القراء فيما هو محق فيه وغير محق، ولا شك في أن القارئ عندما يقرأ الكتاب -وهذا ما أرجوه أن يفعله- سيحس بإيمان كاتبه إيمانا

_ 1 ص216. 2 أريد أن ألفت النظر إلى أنني أناقش هنا رأي الكتاب في قيمة فن العبارة، وليس معنى هذا أنه ليس للحكيم أسلوب تعبيري، فهذه مسألة أخرى.

لا يدفع، إيمانا مخلصا من نفس مخلصة، ثم كم فيه من ضياء! كم فيه من فهم عميق سليم لمعنى الثقافة الإنسانية! هذا الكتاب سيمثل -كما قلت- مرحلة من مراحل حياتنا الروحية والثقافية، وذلك ما سأبينه. وأما ما سبق فلست أتجه به لغير ملكة النقد عند القارئ، وهناك ملكة أخرى هي التي أدعو القارئ إلى أن يتناول بها هذا الكتاب، تلك هي ملكة الفهم بل ملكة المشاركة في الحس والإيمان. 2- "قد تسألني أليس في مصر طبقة من المستنرين؟ نعم في مصر بيئة مستنيرة. فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية، وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم من برامس وباخ وهاندل، ولكن من النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة العقلية الحقيقة شيء والكلام فيها شيء آخر، وقليل من هؤلاء من أدرك أن الثقافة العقلية وحدها ليست كل شيء. الثقافة الكاملة شيء أوسع من ذلك بكثير. إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برءوسهم ولا يدركونها بحواسهم. إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة، بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. ما قيمة الكلام عن بيتهوفن إذا كانت أعماله لا تهز نفسك هزا؟! وما معنى الحديث عن رفاييل، أو فلمنج أو روباننس أو بوتشيللي إذا كانت صورهم لا تعمر رءوسنا ليل نهار، وتحدث ألوانهم وأصباغهم في نفوسنا الأحداث؟! الثقافة ليست كلاما نملأ به الرءوس، ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك: إنه ليس في مصر عدد أصباع اليدين من المثقفين ... " "ص123". هذه الحقائق الكبيرة هي الدرس النهائي الذي تتمخض عنه "زهرة العمر". ولكي ندرك معناه البعيد يجب أن نحدد المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، وأن نتبين العناصر المكونة لثقافتنا الحالية، والأمر واضح، فهناك منبعان كبيران لتفكيرنا الحالي، بل لحياتنا الروحية كلها. وأما المنبع الأول فهو بعثنا لثقافة العرب في عصورها الأولى، فمصر المعاصرة ليست استمرارا لمصر الإسلامية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فأجيالنا الناشئة أكثر معرفة وتغذية -اليوم- بامرئ القيس وجرير والبحتري مثلا منها بالبوصيري والبهاء زهير بن نباتة المصري. ونحن أكثر قراءة

للأغاني والأمالي منا لنهاية الأرب أو صبح الأعشى. نعم أن مصر الإسلامية قد آوت الثقافة العربية يوم فرت من وجه المغول، ولكنها كانت ثقافة فاترة منحلة سطحية. ولقد كان في ظروف مصر السياسية والاجتماعية ما زاد تلك الثقافة ضعفا، حتى أصبحت إما دراسات وحواشي وتعليقات وتصانيف، أو أدبا إنشائيا متكلفا لفظيا لا تدب فيه الحياة إلا بمقدار. والذي لا شك فيه أننا لم ننتعش إلا عندما بدأت حركة البعث للقديم. ولعل البارودي أن يكون أول ثمرة لذلك البعث إن لم يكن رائده بمختاراته وديوانه، وذلك في مجال اللغة وفن الشعر، كما أن جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده قد جددا من شباب الإسلام بدعوتهما إلى الرجوع إلى التقاليد الصحيحة والعدول عن الخرافات التي كانت قد أوشكت أن تقضي على حياتنا الروحية. لقد حدث في مصر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ما يشبه إلى حد ما حركة البعث العلمي التي ازدهرت بأوربا في القرن التاسع عشر، حدث رجوع إلى القديم وبعث له، وكما أحيا الأوربيون تراث روما وأثينا كذلك أخذنا نحن نحيي تراث مكة والمدينة ودمشق وبغداد، وكذلك الأمر في المجال الروحي، فحركة جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام قد صدرت عن روح شديدة الشبه بالروح التي صدر عنها لوثر وكلفن وزونجلي. هذا هو المنبع الأول نشير إليه ولكنه ليس موضع حديثنا اليوم. وإنما نريد أن نتمهل عند المنبع الثاني الذي ينقلنا كتاب الحكيم إلى مرحلة جديدة من مراحله، ونعني به المنبع الأوربي الغربي، والملاحظ في تاريخنا الطويل أن مصر كانت بؤرة للثقافة اليونانية لمدة عشرة قرون كاملة "من 330ق. م-640م" أعني مدة البطالسة والرومان وبيزنطة، وهذا زمن طويل حتى في حياة الأمم. ومن المعلوم أنه خلال تلك المدة كلها كانت لغة الثقافة والإدارة هي اللغة الإغريقية، وأن اللغة اللاتينية لم تستعمل إلا في الجيش. ومراسلات الحاكم مع الإمبراطور أيام الحكم الروماني. ولقد كان لنا أن ننتظر انتشار الثقافة الإغريقية بمصر بين المصريين، ومع ذلك فإن شيئا من هذا لم يحدث، فمصر لم تصبح إغريقية في يوم ما، كما أصبحت فيما بعد عربية بسرعة مدهشة، فلقد ظل المصريون بعيدين عن الإغريق، ظلوا يتكلمون اللغة المصرية ويكتبون الكتابة الديموتيقية، كما ظلوا متمكسين بدينهم وثقافتهم الموروثة، وهم لم يتخلوا عن شيء من خصائصهم الروحية إلا أمام المسيحية، ولا غرابة في ذلك، فلقد كان الشعب المصري طوال هذا الزمن في بؤس مادي وبؤس روحي

بالغ الفقر، ولقد كان المصريون يبغضون الإغريق والرومان قدر بغض هؤلاء لهم، ولم يحدث قط أن امتزج الشعبان، كما امتزج المصريون والعرب فيما بعد. وفي الحق إنها الظاهرة عجيبة، فألف عام كانت كفيلة بأن تبذر بذور الثقافة اليونانية في بلادنا، ولكننا لا نجد أثرا لتلك البذور، ولقد انقضى ذلك الزمن بفتح العرب لمصر، وإذا بنا نرى الدواوين تعرَّب بعد ستة وستين عاما فقط من هذا الفتح، وسرعان ما اختفت اللغة الإغريقية بل واللغة المصرية، وأصبحت مصر بلدا عربيا وإسلاميا. ولكنه إذا كانت مصر لم تتأثر باللغة الإغريقية عن طريق مباشرة، فإنها لا ريب قد ورثت هذا الأثر فيما ورثت هذا من ثقافة العرب، ومن المعلوم أن العرب قد نقلوا فلسفة اليونان وبخاصة فلسفة أرسطو ودرسوها، بل نموها ثم أعادوها إلى أوربا خلال القرون الوسطى. ورثت مصر إذن الفلسفة الإغريقية مع ما ورثت من تراث عربي، ولكنها لم تضف إلى هذا التراث خلقا جديدا يعتد به. فليس لدينا فلاسفة مصريون، نذكرهم مع الفاربي أو ابن رشد أو الغزالي. والأمر في الأدب كالأمر في الفلسفة، فأدبنا المصري العربي قد انفصل عن التفكير الإنساني؛ بل الحياة الإنسانية بمعناها العميق. ولقد استمرات تلك الحالة إلى سنة 1798، وتلك سنة خطيرة في تاريخنا السياسي والروحي معا؛ وذلك لأننا خرجنا فيها عن وحدتنا وابتدأنا نتصل بأوربا ونفتح نوافذنا على العالم الحي. لقد كان للحملة الفرنسية في حياتنا من هذه الناحية أبلغ الأثر. ولا شك في أنها كانت من الأسباب التي وجهت نظر محمد علي إلى الغرب عامة وفرنسا بنوع خاص، فأوفد إليها البعثات، وكانت حركة مباركة في الترجمة، نهض بها رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مدرسة الألسن، ولقد استمرت تلك الحركة إلى يومنا هذا، بل لعلها أخذت في التزايد، كما انتشرت معرفة اللغات الأجنبية بيننا حتى رأينا من شعرائنا وكتابنا من يجيدها كشوقي وإسماعيل صبري وغيرهما؛ ولكنه بالرغم من ذلك لم تتغير حياتنا الروحية الثقافية حتى السنوات الأخيرة تغيرا يذكر، والسبب في ذلك هو أن اتصالنا بأوربا قد تم على نحو ما اتصل العباسيون بالثقافة الإغريقية، فالذي استطعنا أخذه إنما هو التفكير الأوربي، وأما الأدب وغيره من الفنون فذلك ما لم نستطع أن نتمثله، والذي لا شك فيه أن التفكير المجرد لا يكفي لأن يكون منبعا لثقافة جديدة دائمة التدفق. والأدب والفن على العكس من ذلك خليقان بأن يفجرا في النفس ينابيع جديدة؛ وذلك لأن تمثلهما معناه تمثل نوع جديد

من الحياة، وليس أدل على ذلك مما نجده من صعوبة في ذلك التمثل، ونحن على ثقة من أن العباسيين لو أنهم استطاعوا نقل الأدب اليوناني وهضمه لتغير التاريخ الثقافي للعرب. ولكن كيف كانوا يستطيعون ذلك، وهم لم يقروا على غير أرسطو من الفلاسفة؟! فأفلاطون نفسه لم يعرفوه معرفة عميقة، وذلك لسبب بيِّن هو أن فلسفة أفلاطون فلسفة حيوية شعرية، من دعائمها الصور والأساطير، وتلك أشياء كانت بعيدة عن محيط العرب العقلي والشعوري، وأما أرسطو فيمثل الروح الرياضية، روح التفكير المجرد الذي يستطيع كل عقل أن يدركه. ونحن في عصرنا الحاضر نستطيع أن نجاري التفكير الأوربي أو أن نضيف إليه إضافات حقيقية إذا اكتفينا بنقل هذا التفكير؛ وذلك لأن الفكرة التي تبنى على فكرة أخرى لا تلبث أن تنحل متعثرة في فتات المنطق، وإنما التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع، وعلى هذا لا يكون لنا بد إذا أردنا أن نجدد حياتنا الروحية من أن نغير من مقومات تلك الحياة واتجاهاتها وقيمها، وهذا لن يكون إلا إذا تغذينا بالآداب والفنون الأوربية من تصوير ونحت وموسيقى. هذا الغذاء الروحي الجديد هو ما يدعونا إليه توفيق الحكيم في "زهرة العمر"، وهو بهذا يدعونا إلى مرحلة جديدة من مراحل حياتنا الروحية. ونحن لا ريب ندرك ما في هذا من مشقة، فثمة طبائع متأصلة وعادات راسخة واتجاهات نفسية عميقة، تنهض في سبيل تلك الدعوة، ونحن لا نجهل أيضا أن كافة النفوس ليست في مرونة نفس الحكيم وغيره من النفر القليل الذين أفادوا من إقامتهم بأوربا إفادة حقيقة، ومن حولنا عشرات منهم بل مئات ممن قضوا السنوات الطوال بالغرب، ثم عادوا وقد تكون برءوسهم نظريات كثيرة وآراء لا تُحصى، ولكنهم لم يتمثلوا الحياة الأوربية والإحساس الأوربي والثقافة الأوربية بمعناها الصحيح، هذه كلها صعوبات لا شك فيها، ولكننا مع ذلك غير يائسين من الوصول إلى حالة خير من حالتنا الراهنة، وأنا على تمام الثقة من أن كتاب الحكيم سيثير في نفوس قرائه تشوقا حارا للثقافة الحقيقية، وبخاصة في نفوس الشباب الذين لا يزالون في دور التكوين، وهذا هو سر انشراح صدري للكتاب. والذي أحرص عليه في خاتمة هذا النقد هو ألا يضيق القارئ نفسا بما يحس من تبرم الكاتب بحياتنا المصرية الراهنة، فتلك حالة نفسية قد يصعب فهمها على من لم ينفذ من الثقافة الأوربية إلى مثل ما نفذ إليه الحكيم، ولكنني أؤكد -عن خبرة- أن تبرم الحكيم له ما يبرره. وما ينبغي أن نطلبه إلى الكاتب إنما هو الإخلاص والإيمان بما يقول إيمانا قلبيا. والحكيم هو ذلك الكاتب.

الأدب المهموس

الأدب المهموس الشعر المهموس "أخي" لميخائيل نعيمة "أخي" لميخائيل نعيمة ... الأدب المهموس: 1- الشعر المهموس: "أخي" لميخائيل نعيمة: أظن أنه قد حان الحين لنوضح ما نبغي من تلك الألفاظ العامة التي كررناها غير مرة طالبين إلى شعرائنا وكُتَّابنا أن يأخذوا بها إذا أرادوا أن يسموا نفوسنا، نريد أدبا مهموسا أليفا إنسانيا، وها نحن اليوم نعرض نموذجا له. الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة، ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده؛ إذ تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنو من القلوب. الهمس ليس معناه الارتجال فيتغنى الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة، وإنما هو إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد، وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل، إنما هي غريزته المستنيرة ما تزال به حتى يقع على ما يريد. الهمس ليس معناه قصر الأدب أو الشعر على المشاعر الشخصية، فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شيء يهمس به، فيثير فؤادك، ولو كان موضوع حديثه ملابسات لا تمت إليك بسبب. دعنا ننظر في "أخي" قصيدة ميخائيل نعيمة، فعنده سنجد ما نريد، كنوزا لا مثيل لها في لغتنا، كنوزا تثبت في المقارنة لأروع شعر أوربي. قصيدة وطنية قيلت في أواخر الحرب الماضية أو بعدها، فهي إذن مما نسميه أدب الملابسات الذي كثيرا ما نتناقش في إمكان اعتباره أدبا خالدا أم لا، وفي فنائه بانقضاء ظروفه أم بقائه بعدها، بل في طبيعة هذا البقاء، أهو على نحو ما تبقى الوثائق التاريخية مغبرة في دار المحفوظات أم كأدب دائم الحياة دائم الهز للنفوس. أخي؟ إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام ... لنبكي حظ موتانا نفس مرسل وموسيقى متصلة، فالمقطوعة وَحْدَة تمهد لخاتمتها، وفي هذا ما يشبع النفس، ألا ترى كيف يعدك للصورة التي يدعوك إلى مشاركته فيها! إذا ضج الغربي بأعماله وقدس موتاه وعظم أبطاله فلا تهزج للمنتصر، ولا تشمت بالمنهزم؛ لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك، وما أنت بشيء، وأنت أحق بأن تحزن، وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتا لتبكي موتاك، أية ألفة في الجو، وأية قوة في إعداده؟ "أخي" فأنا إذن شريكه في الإنسانية، وأنا قريب منه وهو قريب مني، ومتى قربت استطاع أن يهمس لأنني سأسمعه، وسيشجيني صوته الرقيق القوي المباشر، وهو ينقل إلى قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفد الإحساس "إن ضج غربي بأعماله" والضجيج لفظ بالغ القوة لجرس حروفه وقوة إيحائه، وهو يضج "بأعماله" لا "بالمبالغات الكاذبة". الغربي "يقدس ذكر من ماتوا" وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية فيها قدسية الدين، فيها نبل الوفاء، فيها جلال الموت. مشاعر شتى تجتمع إلى النفس ثروة رائعة, وهو "يعظم بطش أبطاله". أي قوة في تتابع هذه الحروف المطبقة ظاء ثم طاء وطاء. أعد هذه الجملة على سمعك ثم أنصت إلى قوتها التي تملأ فمك، كما تملأ الأذن، ثم إن التعظيم غير التحية أو التبجيل، والبطش غير الشجاعة أو الإقدام. البطش شيء يصعق وهو يدعوني إلى "ألا أهزج لمن سادوا". والهزج غير الفرح الهزج غناء، والسيادة لفظ حبيب إلى النفس مثال تهفو إليه؛ ولهذا فهو يحركها وله فيها أصداء مدوية "ولا تشمت بمن دانا" والشماتة شعور خسيس تركز في هذا اللفظ لكثرة مروره بنفوسنا جميعا، لفظ يحمل شحنة من الإحساس، وما أحقرها شماتة تلك التي نستشعرها لمن دان! نعم ما أحقر أن نشمت من جثة هامدة! بل ما لي أضعف من قوة الشاعر. وفي قوله: "من دانا" ما يثيرني فوق ما تثيرني الجثث والأشلاء؟ لأن "من دانا" قد ذل، والذل أشق على النفس من الموت، والموت كرامة إذا لم يكن بد من الهوان. ليس لي إذن أن أهزج لمن ساد، أو أن أشمت بمن دان، وإنما علي أن أركع مثل الشاعر، صامتا بقلب خاشع دام لنبكي حظ موتانا. وهذه نغمات دينية. ونحن بشر تستطيع أقلامنا أو ألسنتنا أو عقولنا أن تهذي كما تشاء، وأما قلوبنا فمؤمنة، واللهفة إلى الله لا تكاد تفارقنا حتى تعود إليها، وبخاصة إذا قست

علينا الحياة أو قسونا نحن على أنفسنا، وها نحن اليوم يقودنا الألم إلى كنف الله، الغربي يقدس ذكر موتاه ويعظم بطش أبطاله، فما لي أنا أهزج لمن ساد وأشمت بمن دان وما أنا بشيء؟ وإنه لعزيز على كل نفس ألا تكون شيئا، وما أخلقني عندئذ أن ألتمس رحمة ربي أنا وأخي الذي يجمعني به الألم الإنساني المشترك، ذلك الذي لا يعرف وطنا ولا قومية. ونحن سنركع صامتين، خاشعة قلوبنا الدامية، أنصت إلى كل هذه الكلمات! أنصت إليها واستشعر جلالها! استشعره بقلبك ثم تصور الصورة وما فيها من جمال التصوف ورهبة الدين ونبل الخشوع الصامت الدامي. سنركع صامتين لأن الله سيعمر قلوبنا، وقد خلت إلا منه، صامتين لأن خشوع الموت سيلمؤنا رهبة وهو بعد موت قد حرم حتى العزاء، موت يدمي القلوب ويعقد اللسان؛ لأن إخواننا لم يصيبوا مجدا ولا رفعوا للوطن ذكرا، الموت محنة فكيف به إذا لم يخلف عزاء؟! كيف به إذا لم يرفع من قلب أو يخلد أثرا؟! تعالَ إذن بنكِ حظ موتانا، حظهم المؤلم التعس المحزن. هذا هو الشعر الذي لا أعرف كيف أصفه؟ فيه غنى صادر عما تحمل الألفاظ من إحساسات دقيقة صادقة قريبة من نفوسنا، أليفة إليها، إحساسات ركزناها منذ أجيال، عزة الغربي المجاهد الشجاع اليقظ، ثم ألمنا وقد أصبحنا لا نجد أمامنا سوى الركوع خاشعين والبكاء في صمت على إخواننا المهدرين، وتتزاوج المشاعر المختلفة فتزداد قوة، أولا ترى كيف أن ضجيج الغربي بأعماله وتقديسه لذكر موتاه وتعظيمه لبطش أبطاله قد زاد من حزننا مرارة؟ وأخيرا فيه الموسيقى: الشعر من "الوافر" ولكنه متصل باتصال الإحساس حتى لا أكاد أرى فيه ذلك الإيقاع rythme الذي يفسد الكثير من موسيقى شعرنا عندما تستقل الأبيات: موسيقاه مما يسميه الأوربيون ترنيما melodie وفي هذا ما يماشي الحزن المتصل والألم الخشوع: أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم ... سوى أشباح موتانا وها نحن من جديد أنا وأخي، نشهد الجندي يعود إلى أوطانه، ومن اغترب يعرف معنى هذه العودة، فما بالك إذا كانت عودة ستنقذك من مخالب الموت؟

والجندي يعود مكللا بعزة النصر، فيلقي جسمه "المنهوك" في "أحضان خلانه"، لست أدري ما مصدر التأثير في البيت، أهو في هذه المدات الثلاث: "منهوك - أحضان - خلان" التي توحي بالتأسي والراحة والحنان، أم هو في إلقاء المنهوك جسمه بين أحضان خلانه؟ جسم منهوك "يلقي" بين الأحضان، أي صدق في العبارة؟ وأي صدق في التأثير؟ ثم أي تجسيم الصورة التي نكاد نراها؟ وأما نحن فسنعود من الحرب منهوكين، كما يعود كل الجند، ولكننا لن نلقى خلانا تتلقانا أحضانهم، وأنَّى لنا بهم والجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم سوى أشباح موتانا؟ أبعد هذا نختلف في حقيقة الشعر، ونروح نهذي بفحولة العبارة وجدة المعنى، وإشراق الديباجة؟ أبعد هذا نتخبط في معنى الأدب، فيذهب البعض إلى أنه الحث على مكارم الأخلاق والعدل الاجتماعي وإصلاح النظم، ويذهب آخرون إلى أنه الأفكار العظيمة والتفكير الكبير والصنعة المدهشة والأسلوب الفني!! أخي! إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع ويبني بعد طول الهجر كوخا هذه المدفع فقد جفت سواقينا وهد الذل مأوانا ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا ... سوى أجياف موتانا أية بساطة في التصوير؟ وأي قرب من واقع الحياة؟ تلك التي تعضني وتعضك: حياة الفلاح الذي يحرث ويزرع بعد أن يبني "كوخه" من جديد؛ وأما نحن فقد "جفت سواقينا"! عبارة ساذجة، ولكن كم لها في النفس من أثر. سواقينا التي ألفناها. سواقينا العزيزة التي خلفها لنا الآباء. لقد "هد الذل مأوانا" ثلاثة ألفاظ قوية نافذة جبارة، لا تستطيع أن تستبدل بأي منها غيره دون أن تفسد الشعر وتذهب بقوته، "هد الذل مأوانا" فهو لم يهدمه، والهدم شيء مبتذل. "هد" لفظ موجز مركز موحٍ مصور. وهو قد هد مأوانا، فلم يهد بيتنا ولا دارنا ولا منزلنا ولا قريتنا بل ولا وطننا، هد مأوانا الذي نحتمي به ونستر خلف جدرانه آلامنا، ثم ما الذي هد هذا المأوى؟ إن الحرب لم تهده، وإلا لبنيناه من جديد، كما سيبني فلاح الغرب كوخه، هده الذل، لفظ دال ثقيل، ثقيل كالصخر، لفظ بغيض مخيف مثير، هد الذل مأوانا، ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا غير أجياف موتانا، وما آلمه من غرس! تلك الجثث الهامدة، التي ترقد تحت التراب في غير مجد ولا عزاء. أخي! قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تما

وقد عم البلاء ولو أردنا نحن ما عما فلا تندب فأذن الغير لا تصغى لشكوانا بل اتبعني لنحفر خندقا بالرفش والمعول ... نواري فيه موتانا ودع عنك ما في قوله: "تم ما لو لم" فهذه أربعة أو خمسة مقاطع متلاحقة منفصلة كثيرة الميمات صعبة النطق في انسجام، ثم انظر فيما دون ذلك "فالبلاء قد عم" ألفاظ قوية تعبر عن إحساس قوي، وما ينبغي لنا أن نندب وإلا أضفنا الحمق إلى الألم، ومتى أنصتت أذن الغير إلى شكوى الناس، وبخاصة إذا كان هؤلاء الناس ممن لا يهمهم أمرنا؟ وإذن فليس لي إلا أن آخذ الرفش والمعول، وأن أتبع أخي الذي يدعوني في أسى إلى أن نواري موتانا، من منا لا يرى هذه الصورة المحزنة؟ من منا لا يحس بدعوة الأخ لأخيه؛ كي يتبعه وقد سار إلى الجثث الملقاة في العراء في خطى متناقلة، معوله على كتفه وأخوه من خلفه واجم النفس حزين الفؤاد؟ والشاعر لا يكتفي بالأموات؛ بل يهم بضم الأحياء إليهم، وقد تهيأ الجو وحميت الأنفاس فإذا به في القمة. تأتي القصيدة في وحدة موسيقية نفسية تنتظم مقطوعات موحدة لا يزال بعضها يكمل البعض، تنمو بنمو الإحساس المتصاعد إلى الأشباح حتى تستقر نفس الشاعر: أخي! من نحن، لا وطن ولا أهل ولا جار إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر ... نواري فيه أحيانا وهذه هي المقطوعة الأخيرة التي بلغت غاية الألم. ولكني لست أدري هل توحي إلى القارئ بما توحي به إليَّ أم لا؟ إني أحس فيها إثارة لهمتي وتحريكا لمعاني العزة في نفسي. فأنا لا أومن بأن الدنيا قد خمت بنا، كما خمت بموتانا، وأنا لا أرضى أن أواري التراب حيا. إن في هذه النغمات ما يلهب وطنيتي بل إنسانيتي، وهكذا تنتهي القصيدة إلى هذا الدرس النبيل، والشاعر بعد لم يعظ ولم يشد بالوطنية، ولا دعاني إلى شيء من تلك المعاني الضخمة التي نتشدق بها، وإنما أشعرني ببؤسي و"ما لي وطن ولا أهل ولا جار" وما أرتدي أن نمت أو قمت غير رداء الخزي والعار. لقد هم الشاعر بأن يدفنني حيا، فنفرت عزتي وهاجت شجوني. إنني أقوى نفسا وأعز جانبا، وأحمى شجاعة وإن كانت قد أدركت بؤسي، بل ربما لأنني قد أدركت مدى ذلك البؤس. والآن أليس هذا هو الشعر المهموس الذي ندعو إليه؟ أليس هذا هو الشعر الإنساني الذي نهتز لنغماته؟ إن بينه وبين الكثير من شعراء مصر قرونا، وإنه لمن الظلم أن يرتفع بعد ذلك بصوت يحاول أن ينكر على هؤلاء الشعراء -نعمية وإخوانه بالمهجر- أنهم هم الآن شعراء اللغة العربية، وأن شعرهم هو الذي سيصيب الخلود.

"يا نفس" لنسيب عريضة

"يا نفس" لنسيب عريضة: حاولنا أن ندل على ما في قصيدة ميخائيل نعيمة "أخي" من عناصر إنسانية نعتقد أنها كفيلة بأن تضمن لها الخلود بين الناس كافة رغم ما قيلت من ملابسات خاصة، وها هي قصيدة أخرى لنسيب عريضة تخللها؛ لأنها تحرك عدة مسائل لا بد من أن نجلوها بضرب المثل: منها الغموض والوضوح، ومنها مشكلة العبارة وما يأخذه البعض ظلما على شعراء المهجر من هلهلة النسيج، ثم إن فيها إشارات كثيرة إلى نظريات فلسفية معروفة، ومع ذلك استطاع الشاعر بقوة إحساسه وروعة صوره أن ينجو بها عن استواء الأفكار المجردة، وأخيرا فيها ما يمكننا من معالجة العناصر الموسيقية في الشعر العربي وكيفية استخدامها. القصيدة حديث يخاطب به الشاعر نفسه: يانفس ما لك والأنين؟ ... تتألمين وتؤلمين؟!! عذبت قلبي بالحنين ... وكتمته ما تقصدين وها نحن منذ المقطوعة الأولى في جو شعري. وننظر في السؤال "يا نفس مالك والأنين؟ " فلا ندري أهو عتاب أم لوم أم شفقة؟! وهي تتألم وتؤلم على نحو لا نعلمه، ولكننا نحس بصدق الشاعر، وهي تعذب القلب بالحنين وتكتمه ما تقصد، حنين إلى المجهول. ومن عجب أن تكتم النفس ما تجهل! ثم هل هي غير القلب؟ هل هي تعارضه؟ أسئلة لا محل لإلقائها، وما يجوز أن نبحث لها عن حلول توضحها، وإلا ضاع جمال الشعر، حالة نفسية غامضة لا نستطيع إداركها بعقولنا؛ لأنها أعمق من أن تجتلى وأغنى من أن تنثر، نفس تشع.

قد نام أرباب الغرام ... وتدثروا لحف السلام وأبيت يا نفس المنام ... أفأنت وحدك تشعرين! الليل مر على سواك ... أفما دهاهم ما دهاك! فلمَ التمرد والعراك؟ ... ما سور جسمي بالمتين وبذا نسير إلى قلب الفكرة الفلسفية التي ترى الجسم سجنا للنفس: فكرة إغريقية قديمة، ومع هذا تكسبها الحركة خفة الشعر، "الليل مر على سواك" تقرير يعقبه "أفما دهاهم ما دهاك؟ " استفهام لا نستطيع أن ندرك معناه، وإن كان في السؤال الآخر: "فلم التمرد والعراك؟ " ما يشعر بأنه إنكاري، وأخيرا تأتي القافلة "ما سور جسمي بالمتين" منفية مؤكدة في قمة يقف عندها النفس ويطمئن السيل الموسيقي، وهكذا بالمرور من الخبر إلى الإنشاء ثم العودة إلى الخبر، قد استطاع الشاعر أن يخلق تلك الحركة التي تحاكي ما بنفسه من اضطراب. وتنصت إلى الموسيقى، فإذا هي أجمل ما في القصيدة، وفي الحق أن شعراء المهجر قد جددوا موسيقى الشعر العربي تجديدا يستحق أن نطيل فيه النظر، نحن الآن إزاء بحر تقليدي "مجزوء الكامل"، ولكن انظر كيف استخدمه الشاعر. فالوحدة لم تعد البيت بل المقطوعة "قد نام ... تشعرين"، وفي كل مقطوعة نجد أربعة أشطر، الثلاثة الأول يقفي بعضها البعض، وأما الشطر الرابع الذي نسميه "القافلة" فيقفي القوافل الأخرى، وعلى هذا النحو تطرد القصيدة، كل وحدة تتكون إذن من ثماني تفاعيل تسيل إلى أن توقفها القافلة النونية الساكنة، ثم تعود فتستأنف سيرها في المقطوعة التالية إلى أن تقف. وكان من دقة إحساس الشاعر أن وقع على الكامل المتساوي التفاعيل؛ وذلك لأن الإضمار "إسكان الثاني المتحرك"، ليس في الحقيقة زحافا، وهو لا ينقص شيئا من كم التفعيلة، وإنما يستبدل مقطعين قصيرين "متفاعلن" بمقطع واحد مغلق "متفاعلن" يبلغ في الكم مبلغ المقطعين الآخرين، وبهذا لا يتغير في التفعيلة المزحفة غير الإيقاع بسبب التسكين، وأما طول التفعيلة فيظل ثابتا. وإذا ذكرنا أن الإضمار هو الزحاف الكثير الدخول على الكامل. وأن الطي "حذف الرابع الساكن" لا يكاد يجتمع إلى الإضمار إلا في التفعيلة الأولى من الشطر الثاني. وأنه في تلك الحالة يغلب أن يعوضه الترفيل "زيادة مقطع في تفعيلة القافية" إذا ذكرنا كل ذلك أدركنا أن هذا البحر من البحور المتساوية التفاعيل على نحو مطرد. والكامل والوافر هما البحران الوحيدان اللذان تنطبق عليهما تلك الصفة، ولربما كان في

ذلك سبب لتسمية الخليل لهما بهذين الاسمين، ونضيف أننا لم نعثر بطي في القصيدة التي ندرسها الآن، وإذا صحت ملاحظتنا وضح السر في إيحاء هذا الوزن بالاطراد، وكل اطراد يلائم الإضناء والحيرة اللذين يزيدهما وضوحا طول المقطوعة، وهي لا تقف عند سكون القافلة إلا لتعود من جديد، كأمواج البحر التي تتحطم تباعا مرتدة عند صخر الشاطئ، وهذا يماشي بناء القصيدة المكونة من فروض متتابعة وموجات نفسية متجددة. وهذه وتلك يطول نفسها ويطرد، ثم تفنى ليعود غيرها إلى الظهور. توفيق رائع إلى الملائمة بين موسيقى الشعر وموسيقى الإحساس، بين الصياغة ونفس الشاعر ثم إن الاطراد هنا لا ينتهي إلى الفقر والإملال كما يحدث أحيانًا، فقد عرف الشاعر كيف يتجنبه بالحركة الشعرية، ثم بتقسيمه لتفاعيله الثمانية إلى أربع وحدات، ثلاث منها تفصل وتجمع بينها القوافي، ثم يأتي سكون القافلة فيفصل ويجمع بين وحدات القصيدة كلها. وننظر في اللفظ فتعرض لنا مشكلة طالما أثرناها في مصر هي أخذنا على شعراء المهجر ما نسميه ضعف العربية في الأسلوب، وهذه تهمة يجب أن نقلع عنها؛ لأنني كلما أمعنت النظر في ألفاظهم وتراكيبهم لم أجد لها مثيلا في شعرنا الحديث، من حيث الدقة والقدرة على إثارة الإحساس، نعم قد يخطئون في النحو أو الصرف، ولكن هذه في نظري أشياء نادرة لها نظائرها عند أكبر الكُتَّاب، وإلى اليوم لا يزال الفرنسيون يضربون المثل بفولتير في الخطأ في الإملاء، وإنما يعيب الأسلوب عدم التحديد أو العجز عن الإيحاء، وتلك عيوب لا وجود لها في شعرهم، أما استخدامهم للألفاظ المألوفة فلست أرى فيه موضع ضعف بل قوة؛ وذلك لأن الألفاظ المألوفة -ولا أقول المبتذلة- هي التي تستطيع في الغالب أن تستنفد إحساس الشاعر، كما أنها أقدر من الألفاظ المهجورة على دفع مشاعرنا إلى التداعي، وقد كثر استعمالنا لها في الحياة، فتحددت معانيها، وتلونت بلون نفوسنا، فحملت شحنة عاطفية، وهذه صفات من أولى خصائص الأسلوب الشعري، بل أسلوب الأدب بوجه عام، وها نحن نسمع عريضة يقول: "أفما دهاهم ما دهاك؟ " فندرك "الداهية" التي لها وقع متميز في نفوسنا: أطلقت نوحك للظلام ... إياك يسمعك الأنام فيظن زفرتك النيام ... بوق النشور ليوم دين وهذا بلا ريب إسراف في الصور، لا ننكر أنه قلق، وأن نغماته أقوى من الهمس،

فيه مبالغة تخرجنا عن الألفة، ونحن لا نكاد نتصور كيف يصف نوح النفس إلى أن يكون "بوق النشور ليوم الدين"، ولا نرى ضرورة لهذا العنف في التعبير، ولكن هذا قليل. يا نفس ما لك في اضطراب ... كفريسة بين الذئاب هلا رجعت إلى الصواب ... وبدلت ريبك باليقين؟ أحمامة بين الرياح ... قد ساقها القدر المتاح فابتل بالمطر الجناح ... يا نفس ما لك ترجفين أسئلة متدفقة توحي بما في نفس الشاعر من حيرة، وصور جميلة دالة. النفس المضطربة كفريسة بين الذئاب، النفس التي ترجف كحمامة بين الرياح قد بل المطر جناحها. وفي اختيار الألفاظ ذوق دقيق ودليل واضح على أن الشاعر يرى ما يقول. وهل أدل على تلك الرؤية الشعرية من أن نراه بعد أن يصف حالات النفس يلتفت إليها فجأة فيخاطبها وكأنها قد تجسمت أمامه فريسة تضطرب بين الذئاب أو حمامة بللها المطر وسط الرياح: أوما لحزنك من براح ... حتى ولو أزف الصباح يا ليت سرك لي مباح ... لأعي صدى ما قد تعين والشاعر لا يحس في وضوح بغير حزنه، وأما السر في ذلك فتراه يتساءل عنه وهو بعد لا يعلم أتعرفه نفسه أم لا، أولا تراه يقول: "لأعي صدى ما قد تعين"؟ فهي قد تعي شيئا وهو -إذا أباحت له سرها- لن يتسطيع أن يعي منه غير الصدى: أسبتك أرواح القتام ... فأرتك ما خلف اللثام فطمعت فيما لا يرام ... يا نفس كم ذا تطمحين؟!! وهنا ندخل في سلسلة من الفروض الشعرية، يريد بها الشاعر أن يحاول الفهم، وهو في الحق يكاد يكون يائسا منه، وإنما هو إحساس نفس قلقة تطمع فيما لا يرام، وكأني بها قد استشرفت يوما أسرار الوجود. ثم كم في التفاته "يا نفس كم ذا تطمحين؟!! " من نفاذ يصل إلى القلوب: أصعدت في ركب النزوع ... حتى وصلت إلى الربوع فأتاك أمر بالرجوع ... أعلى هبوطك تأسفين؟! وتلك نغمات أفلاطون الشعرية الجميلة يوم حدثنا عن هبوط النفس من عالم المثل الذي لن تستطيع أن تغالب الحنين إليه. ولكم جرت بذلك أنفاس الشعراء منذ

"هبطت إليك من المحل الأرفع" إلى "الإنسان ملك هوى، فما يزال يذكر السماء". منذ ابن سينا إلى لامرتين: أم شاقك الذكر القديم ... ذكر الحمى قبل السديم فوقفت في سجن الأديم ... نحو الحمى تتلفتين أأضعت فكرا في الفضاء ... فتبعته فوق الهواء فنأى وغلغل في العلاء ... فرجعت ثكلى تندبين أسلكت في طرق الخيال ... دربا يقود إلى المحال فحطمت رحلك عند آل ... يمتص ري الصادرين فروض لا شك من تصورات العقل، ومع ذلك تنجو بها الصور من البرود. فالنفس تطل من سجنها نحو الحمى "متلفتة" في لهفة، وهي تحلق في الهواء، كمن يبحث عن مفقود لا يجده، فتعود حزينة ""ثكلى تندب" مسرفة مبتذلة" وهي تسلك في عالم الخيال "طرق لفظة نثرية" دربا يقود إلى المحال، ثم تحط رحالها عند سراب "يمتص ري الصادرين"، وهذه صورة بالغة الجمال والقوة، فالسراب الذي وصلت إليه لم يكتف بأن أسفر عن خلاء، بل سلبها ما تملك وامتص ريها، فصدرت عنه أشد ظمأ منها عند الورود: فنسيت قصدك والطلاب ... ووقفت يذهلك السراب وهرقت فضلات الوطاب ... طمعا بماء تأملين استقصاء للصورة واستمرار فيها، وهو مذهب قديم عند كبار الشعراء؛ إذ نراه من أهم خصائص شعر هوميروس الذي يشبه البشر بأوراق الخريف في إحدى أغانيه، فيرى في تساقطها ما يحكي فناءنا، ثم يتابع التشبيه، فيذكر نهوض الأجيال بعضها في أعقاب بعض، كما تخلف الأوراق غيرها.. وهو واضح عند بعض شعرائنا كذي الرمة الذي يصف إشعال النار، فيستقصي المراحل ويتابع الصورة، وكابن الرومي الذي يضرب المثل بوصفه لصانع الرقاقة. ومع ذلك فثمة مفارقات، فوصف ذي الرمة لإشعال النار، ووصف ابن الرومي لدحو الرقاقة حرص على التفاصيل التي تتمم اللوحة وتكسبها غنى الواقع، وأما استمرار هوميروس أو استمرار عريضة الآن فهو في خدمة الفكرة أو الإحساس، وهذا أسلوب في الكتابة له جماله: حتى إذا اشتد الأوام ... والآل أسفر عن ركام غيبت رأسك كالنعام ... في رمل قلبي تحفرين

وهكذا تأتي الصورة الجميلة الدالة، ينتزعها الشاعر من معطيات حواسه المباشرة، فتكسو الفكرة بأغشية الشعر، وتنشر أمامنا مناظر يدركها الخيال؛ بل تهتز لها النفس. وتنتقل إلى فرض آخر يودعه الشاعر صورًا جديدة: أعشقت مثلك في السماء ... أختا تحن إلى اللقاء فجلست في سجن الرجاء ... نحو الأعالي تنظرين وهنا نلمس الإغراب ونلمس المعاني البعيدة والصورة المقتسرة "فالجلوس في سجن الرجاء" ليس من الشعر القريب الحبيب إلى النفس، ولكن لنعد عن ذلك إلى ما يليه: لوحت باليد والرداء ... لتراك لكن لا رجاء لم تدر أنك في كساء ... قد حيك من ماء وطين وننظر فإذا بالصورة الجميلة المألوفة "لوحت باليد والرداء" تتجسم أمام أبصارنا، وبذلك ترفع من سقطة البيت السابق، وأما الكساء الذي يحاك من ماء وطين فصورة بعيدة، وأصدق الصور ما كانت ممكنة في الواقع إن لم تنتزع منه فعلا: أتحول دونكما حياة ... لو كان يبلوها الإله لبكى على بشر براه ... رحما يصارعها الجنين وهذا استمرار لفكرة النفس السجينة التي لو بلا الله أمرها لأخذته بأصحابها الشفقة فبكى. النفس في الجسم تصارعه كالجنين في الرحم، معنى بعيد وصورة بعيدة وإن لم تخلُ من قوة. يا نفس أنت لك الخلود ... ومصير جسمي للحود سيعيث عيثك فيه دود ... فعلامَ لا تترفقين؟ والآن تنتهي الأفكار الفلسفية وما جرَّت الشاعر إليه من صور بعضها قوي موفق وبعضها مقتسر بعيد؛ وذلك لما في طبيعة شعر الفكرة من مجازفة خطرة لم يسلم منها أحد من الشعراء فيما أعتقد، حتى ولو كان الشاعر شيلي أو فليري. ولكننا لا نكاد نصل إلى الإحساس الخالص والصور التي تصاغ للعبارة عنه حتى نرى في نسيب عريضة شاعرًا كبيرًا. يا نفس هل لك في النضال ... فالجسم أعياه الوصال حملته ثقل الجبال ... ورذلته لا تحفلين

عطش وجوع واشتياق ... أسف وحزن واحتراق يا ويح عيشي هل تطاق ... نزعات نفس لا تلين ونمر من الإحساس إلى الصور العاطفية فيبلغ الشاعر قمة المجد. والقلب واأسفى عليه ... كالطفل يبسط لي يديه هلا مددت يدا إليه ... كالأمهات إلى البنين؟ ها هو الشاعر قد انطلقت نفسه وتحركت حياته كلها، ونسيب عريضة من أولئك المجاهدين الذين نزحوا إلى العالم الجديد يجالدون في سبيل الحياة، وفي قسوة تلك المجالدة ما لا يترك لهم راحة ولا سبيل إلى الأخذ من لذات الوجود بنصيب. مأساة خليقة بأن تنطقهم بأنبل الشعر، ونسمعه فإذا هو كخير ما نعرف من شعر رومانتيكي، لا شعر أولئك الشعراء الصغار الذين اتخذوامن الرومانتيكية مذهبا أدبيا يتصنعون فيه النجيب، بل كبارهم الذين صدروا عن حالات نفسه صادقة. ثم أي بساطة مؤثرة في هذه الصورة الجميلة: صورة القلب الذي يبسط يديه كالطفل، والشاعر الذي يرجو نفسه المأخوذة بروعة الجهاد والتحليق في عالم المثل "أن تمد إليه يدا كالأمهات إلى البنين" صورة ساذجة ولكن كم فيها من إنسانية! كم فيها من جمال! كم فيها من قرب إلى النفوس! وتستمر الصورة: غذيته مر الفطام ... وحرمته ذوق الغرام وصنعت شيخا من غلام ... يحبو علي باب السنين ومن منا لا تهزه هذه الصورة الأخيرة: صورة الغلام الذي يحبو على باب السنين ولما يلج أبوابها وقد جعلت منه النفس القاسية شيخا. فغدا كحفار القبور ... يئد العواصف في الصدور ويبيت يهتف بالثبور ... يشكو إليك وتشمتين وهنا يجب أن نقف عند البيت الأول، فالغلام قد أصبح كحفار القبور، وهذا تشبيه يقبض النفس ويهز كيانها والحفار يئد العواصف. يئدها، وإذن فهي لا تكاد تنمو بل لا تكاد تظهر حتى يسارع بها إلى الدفن حية، والعواصف شيء قوي مدو؛ لأنها شهوات القلب المكبوت الذي يهم بالانفجار كلما طال به الضيق. أليس في وأد العواصف قوة الشعر؟ وهو يئدها في الصدور. أعمى تطاعنه الشجون ... وجراحه صارت عيون

وبها يرى سبل المنون ... فيسير سير الظافرين ولقد يكون في مطاعنة الشجون واستحالة الجراح عيونا يسير بها الشاعر في سبل المنون سير الظافرين -الذي يعتبرون الموت غنيمة- من القوة ما يكاد يمس المبالغة البعيدة أو تكلف الأداء، ولكننا مع ذلك لا ننفر من الصورة. حتى إذا اقترب المراد ... تطلى رؤاه بالسواد فيعود أعمى لا يقاد ... إلا بعكاز الحنين وهو رغم إحساسه بالظفر لا يلبث عندما يصل إلى نهاية الشوط أن يضطرب بصره فتطلى رؤاه بالسواد، وقد عاوده ضعف البشر فإذا به يقاد بعكاز الحنين. وهذه حقائق نفسية صادقة رغم ما حولها من ضباب الشعر، وفي طرق أدائها بساطة جميلة وبخاصة في "عكاز الحنين" يتكئ عليه متحسسا سبيله، ونحن إذا جمعنا بين هذه المقطوعة وسابقتها استطعنا أن نفهم إسرافه في الأولى؛ إذ ندرك ما يرمي من إظهار المكابرة التي تموه ما فينا من ضعف. يتلمس النور البعيد ... بأنامل الفكر الشريد ويسيل من فمه النشيد ... سيل الدماء من الطعين في البيت الأول صورة دالة، صورة الشاعر وهو يتلمس النور البعيد بأنامل الفكر الشريد، تجسيم جميل يرتكز في "الأنامل التي تتلمس". وفي البيت الثاني يتحدث الشاعر عن نشيده، ولكنه غير حديث شعرائنا عن قصائدهم الخطابية القيمة، فالنشيد يسيل من فمه، كما تسيل الدماء من الطعين، يسيل لأن الشاعر يتألم، لا لأنه يريد أن يخلع الخلود على عباد الله، أو لأن الآلهة قد اختصته بملكة الشعر. أرايت بيت العكبوت ... وذبابة فيه تموت رقصت على نغم السكوت ... ألما فلم يغن الطنين فكذاك في شرك الرجاء ... قلبي يلذ له الغناء وما ذاك شدوا بل رثاء ... يبكي به الأمل الدفين وبذا يحدثنا عما نحسه في نشيده: صوت الألم، ورثاء يبكي به الأمل الدفين. وأخيرا نعود إلى الفكرة فإذا بالروح تصعد. يا نفس إن حم القضاء ... ورجعت أنت إلى السماء وعلى قميصك من دما ... قلبي فماذا تصنعين؟ ضحيت قلبي للوصول ... وهرعت تبغين المثول

فإذا دعيت إلى الدخول ... فبأي عين تنظرين؟ وتعود الصور -وقد بعدنا عن حياتنا الأرضية- فترفع من استواء الفكرة -كما قلنا- "فالدم على قميص النفس"، و"العين التي ستنظر بها إذا دعيت إلى الدخول أمام الله"، كل هذه صورة قريبة تزيد من روحانية هذه الخاتمة الجميلة، وتقوي من إحساسنا بذلك الصراع العنيف الذي يدور بنفس الشاعر وقد ألقت به الحياة إلى الجهاد المستمر. والآن قد يتساءل القارئ: لِمَ استطاع شعراء المهجر ما لم يستطعه غيرهم؟ جوابي هو: لأنهم قد يكونون من بلاد تحرك مناظرها الجبلية من الخيال ما لا تحركه السهول، ومن جنس1 يشهد له التاريخ بالنزوع إلى المغامرة والتوثب، ثم إن غربتهم بأمريكا وكفاحهم ومن أجل الحياة قد أرهف حسهم وقوَّى من نفوسهم. وأخيرًا -وهذا هو السبب المهم- لأنهم قوم مثقفون، قد أمعنوا النظر في الثقافات الغربية التي لا غنى لنا اليوم عنها، وعرفوا كيف يستفيدون منها بعد أن هضموها في لغاتها الأصلية، فهم إذن ليسوا كأولئك الذين يسرفون في في الغرور عن جهل وكسل، ظانين أن الأدب في متناول كل إنسان، وأن كلام منظوم شعر. الثقافة هي التي تشع في ألفاظ هؤلاء الشعراء، وإنك لتقرأ الجملة لهم فتحس أن خلفها ثروة من التفكير والإحساس.

_ 1 يعني الفينيقيين.

النثر المهموس

2- النثر المهموس: "أمي" لأمين مشرق: بلغني أن أمين مشرق قد قتلته سيارة بأمريكا فحزنت، وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد؛ وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا أطالب إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت بكتابي القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنوانا ولكنني أفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض ألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان. أمين مشرق بين من يضمهم كتابي، له فيه صفحات من الشعر والنثر، كما آنست من وحشتي ورفعت من قلبي، أنه صديق قديم. لقد سبق أن تحدثت عن "الشعر المهموس" فتساءل نفر عن موضع الهمس من الأدب، ولكنني عندما أستمع لهؤلاء الشعراء لا أفكر في الأدب، أنهم يضعوننا أمام الحياة، ويسرون في همس صادق عميق، وهذا "نسيب عريضة" صاحب "يا نفس" التي خالفني في جمالها البعض، أعود أنصت إليه يهدهد طفله في "ترنيمة سرير" حزينة بموسيقاها المطردة: ظلام الويل قد جنا ... وبوق الهم قد رنا فنم يا طفل لا يهنا ... غنى بات شعبانا قتام اليأس غطانا ... فنم لا عين ترعانا إذا ما صبحنا حانا ... حسبنا الصبح أكفانا ألا يا هم يكفينا ... لقد جفت مآقينا لو أن الدمع يغذونا ... أكلنا بعض بلوانا أنصت، فتجيش النفس كهذا البحر الذي تتلاطم أمواجه خلف أذني "في الإسكندرية"، ومن عجب أن تثيرنا تلك الموسيقى المطردة الهادئة1 التي لم يدرك

_ 1 الوزن من الهزج "مفاعيلن مفاعيلن" وسر الهدوء والاطراد في هذه الموسيقى إنما أتى من غلبة المقاطع الطويلة، ففي كل تفعيلة مقطع واحد قصير ثم ثلاثة مقاطع طويلة هكذا "مع الرمز للمقطع القصير بالعلامة ب واللطويل بالعلامة -": ظ لا مل وي ل قد جن نا 7---7---.

الطفل سواها، وقد رنحته "الترنيمة" فنام، ولكنها قدرة الشاعر كقدرة الطبيعة، أولا ترى إلى البحر كيف يزيدنا صخبه إحساسا بالصمت ما أنصتنا إليه؟ موسيقى هادئة تحرك القلب، وصخب بحر يشيع به الصمت. إنني أخشى أن يكون التناقض كامنا في الحياة والوجود، ثم أي قوة في نفس الشاعر؟ نعم، "لا يهمنا غني بات شبعانا" عندما يبيت طفلي جائعا، دعاء بالنقمة، ولكن كم فيه من إنسانية، دعاء قوي لا يدفع أو يرد السيل إلى منابعه، وتتهافت النفس فإذا بالرجل يئن من قتام اليأس، وكأنه استوحش فود لو ترعاه عين، وهكذا يجتمع الضعف إلى الثورة، ولكنها نفوس صادقة، خيوط من الضياء والظلمة، ومن يدرينا لعلها عين الله، حيث يسوق ضعفنا البشري فنتعلق بشعاع، وإذا برحمته تمدنا بقوة ما لها أن تنفد، وإذا لاح الصبح "حسبنا الصبح أكفانا" هنا يصل الحزن من النفس إلا الأعماق، انظر كيف اجتمعت لذلك الحزن آياته: "ظلام الويل" و"قتام اليأس" ليست إلا مراحل تقود إلى "أكفان الصباح" قد تقول: ما لي وهذا الغم كله؟ ولكن الشاعر لم يكتب لك ولا لغيرك من ضيقي الخيال، لقد كتب لنفسه أولا، ثم لمن يستطيعون الإحساس معه. لو آن الدمع يغذونا ... أكلنا بعض بلوانا لست أدري بأي صفة أخص شاعرا يقول بيتا كهذا. لكن تأمل قليلا في فرضة: لو أن الدمع يغذونا أكلنا بعض بلوانا أنا وطفلي الجائع فما نملك غير البكاء. ولكنه لم يقل: لو أن الدمع يغذونا لأكلناه، ولو أنه فعل لظل رغم قوته دون تلك القدرة الخارقة. أي محنة أقسى من أن يعز على الرجل حتى التغذي ببلواه؟! جددت ذكر الشعر المهموس؛ لأنني رأيت أن خصائصه ليست وقفا على الشعر. هناك أيضا نثر صادق كالأسرار يتهامس بها الناس، تسمعه فيخيل إليك أنه آت من أعماق الحياة، مثله كمثل نواقيس تلك المدينة التي جرت إحدى أساطير بريتانيا الفرنسية -فيما يحدث رينان- أن المياه قد ابتلعتها، ولكنها لم تسكت أجراس كنائسها التي تدق من حين إلى حين، وبخاصة عندما يستجم البحر فيسقط أهل الشاطئ نغماته المقدسة. من هذا النثر مناجاة "مشرق" لأمه، وقد قست به الغربة: "يا علة كياني ورفيقة أحزاني، يا رجائي في شدتي وعزائي في شقوتي، يا لذتي في حياتي وراحتي في مماتي، يا حافظة عهدي ومطية سهدي وهادية رشدي، يا ضاحكة فوق لحدي. أمي، وما أحلاك يا أمي!. إذا تركني أهلي فأنت لا تتركيني، وإن ابتعد عني أحبابي فأنت لا تبتعدين،

وإن نقمت على الحياة جميعها فأنت تصفحين وترحمين، أنت يا مسكنة وجعي وألمي، ومبيدة بؤسي وهمي، أنت وما أصفاك يا أمي! قد غبت عنك يا أمي، فغاب عن عيني وجهك الباسم بملامحه الرقيقة الرزينة، ومعانيه الدقيقة الحنونة، وتراكمت على رأسي هموم الحياة بضجيجها الهائل، فضعضعت فكري، وزلزلت قلبي، وتقاذفتني أمواج المتاعب والشقاء، فغرت في لجج طامية وظلمات داجية، وبعينين غشي عليهما الرعب نظرت من أعماق قنوطي فرأيت وجهك اللطيف الثابت يبتسم إلى من الأقاصي البعيدة، فبكيت وبكيت وصرخت: يا أمي! آه! ما أقسى الغربة وما أمر الوحشة! قد كرهت البقاء يا أمي، واشتاقت نفسي إلى ماضيها الأمين، قد كرهت التمشي بين القصور الفخمة وروائح العطور الفائحة من التماثيل المتخطرة في "برودواي" واشتاقت حواسي إلى رائحة الأمومة المتنشرة من "فسطانك" العتيق، فقد كرهت "نيويورك" وكرهت "أمريكا" وكرهت العالم، ولم يبقَ في الحياة إلاك، إلاك يا أمي. في المساء عندما أنطرح على فراشي الخشن القاسي، أذكر يديك اللطيفتين الناعمتين، وفي الليل لما تمتزج أفكاري بأبخرة الأحلام أشعر بقديمك الصغيرتين، تنقران الأرض حول سريري، وفي الصباح أفتح عيني لأراك، فلا أرى غير جدران غرفتي السوداء، ولأسمعك، فلا أسمع غير أصوات الغرباء، وفي النهار أمشي بين النساء مفتشا متسائلا: أيتها النساء هل رأيتن أمي؟ جراء الكلاب تجلس في أحضان أمهاتها، وفراخ الدجاج تحتمي تحت أجنحة أمهاتها، وغصون الأشجار تبقى معانقة أمهاتها، وأنا -أنا وحدي- بعيد عنك، مشوق إليك يا أمي. إذا مت! يا أمي، إذا قتلني وجدي ودفنت آمالي في هذه الأرض القاسية الغريبة، فاجلسي عند الغروب قرب غابة السنديان واصغي! هناك روحي امتزجت بنسمات الغابة وأشجارها يرتلن بهدوء متمايلات مرددات: يا أمي! يا أمي! يا أمي! ". هذه أنفاس "أمين مشرق" أعيد قراءتها، ثم أستشعر ما فيها من حرارة ونبل. أوما تحس بروح جميلة يحزنك أن مات صاحبها، مات بعيدا عن "غابة السنديان"! وأي قرار أجمل من "أمي يتردد من حين إلى حين، فكأنك تلقى واحات بصحراء محرقة، واحات ناعمات الظلال: ما أحلاك يا أمي! ما أصفاك يا أمي!

وصرخت يا أمي، هل رأيتن أمي؟ إني مشوق إليك يا أمي.. كم تسكن النفس إلى هذا القرار! وماذا يذكر عن أمه؟ يذكر فتات الحياة التي عرف كبار الشعراء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة. يذكر يديها اللطيفتين الناعمتين، ووقع قدميها الصغيرتين حول سريره. يذكر "فسطانها" العتيق وبيتهم الصغير المنفرد، ومن قبل ما حز في نفس "كوبر" أن كانت أمه إلى مهده في ظلام الليل تغطيه خوفا من أن يصيبه برد. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحركنا؛ لأنها نسيج الحياة، نسيجها الحقيقي. وبهذه التوافه عبر المرهوبون من الأدباء عن أكبر المشاعر. وموضع الإعجاز هو أن نقول الأشياء الكبيرة بألفاظ صغيرة. ولا تحسبن أن هذا أمر هين، فليس أشق من أن نلاحظ ما نراه كل يوم. وبعد، فهناك شعر صادق جميل، وهناك نثر صادق جميل، سميتهما مهموسين لأعبر عما يثيره التعبير الفرنسي a mi voix الذي نستطيع ترجمته حرفيا بـ" نصف الملفوظ" والمعنى في نفسي ليس واضحا تمام الوضوح؛ لأنه في الحق إحساس أكثر منه معنى، وإنما أستطيع أن أوحي للقارئ بشيء منه إن قلت: إنني أقصد إلى ذلك الأدب الذي سلم من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي، وتلك روح إن لم تواتها القوة التي امتلكها كبار أصحاب تلك النزعة كالمتنبي وهيجو، ثم تلك الموسيقى الرنانة التي تنزل بالنفس الدوار، فيأخذنا ما يشبه الثمل، فنطرب دون أن نتمهل في إدراك معنى أو تحقيق صورة، أقول: إن تلك النزعة إذا خلت من هاتين الخاصيتين: قوة النفس وموسيقى اللفظ أفسدت الشعر. هذا من الناحية السلبية، الشعر المهموس لا خطابة فيه، وأما من الناحية الإيجابية فهو أدب يصاغ من الحياة وكأنه قطع منها، فيه ما في الحياة من تفاهة ونبل، فيه ما فيها من عظمة وحقارة، فيه ما فيها من ضوء وظلام، أدب حياة، والحياة شيء أليف، شيء قريب مني ومنكم، تلقاها فتتعرف إليها للحظتك، وتستمع إلى سرها فتصدقه؛ لأن قلبك قد أحس في غموض بذلك السر، وجاء الشاعر يهمس إلى فيبصرك بمكانه، لهذا تهتز مشاعرك. لست أدري أأفصحت أم لا، ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ؛ لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملا تاما؛ ولهذا أترك له دائما مشاطرتي التفكير والإحساس. عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصل ما أجمل، وأن يضفي على الإشارة ما خلفها، عليه أن يجهد كما أجهد، وإلا أصبح عبثا ما نكتب، إنه عندئذ

لن يعمق نفسا، لن يشق خيالا، لن يشحذ ذهنا، لكل أن يرجع إلى نفسه، فهي منبع المعرفة منبعها الوحيد، وما أنا وغيري إلا سبل تسوق كلا إلى نفسه. أدباء المهجر يردونني إلى تلك النفس التي نعتز بها، ولهذا أحبهم، وأنا بعد لا أبرئ نفسي من التأثر بالأدب الغربي الذي تأثر به هؤلاء الأدباء، ولكني أرجو مخلصا أن يأخذ المثقفون منا ثقافة شرقية غالبة أنفسهم بالإمعان في ذلك الأدب، فإنهم سيجدون فيه عناصر إنسانية تمسنا جميعا، شرقيين وغربيين، بل إن فيه خير ما في الشرق، فيه تلك اللهفة الروحية التي وجهت أجدادنا منذ آلاف السنين إلى رحمة الله، فيه مزيج عجيب من القوة والضعف، ذلك المزيج الذي عنه تصدر عظمة مزاجنا الشرقي. وأما خروجه على بعض موضوعاتنا الشعرية، وأما تأبيه على لغة الشعر التقليدية، وأما ركونه إلى التعبير المباشر القوي فتلك حسنات، أو أقل إنها الطريق الوحيد الذي لم يكن بد للأدب العربي الحديث من ابتهاجه؛ لكي يفلت من الصنعة إلى الصدق؛ لكي يرتد إلى الحياة. يجب أن نطرب للجمال، يجب أن نؤمن بالصدق، وشعراء المهجر يعرفون الصدق والجمال.

حول ترنيمة السرير

حول ترنيمة السرير: أرسل الأستاذ عزمي يوسف كلمة إلى "الثقافة" عن نسبة "ترنيمة السرير" إلى "نسب عريضة"، وهو يذكر أنها لإلياس فرحات، ولكنني راجعت كتابي القديم "ص214" فوجدتها لنسيب عريضة، كما ذكرتها في مقالي، وقد ظهر لي أن كتابي هو أيضا "بلاغة العرب في القرن العشرين"، وهو نفس المرجع الذي رجع إليه الأستاذ عزمي يوسف، ولعل تفسير ذلك التناقض في اختلاف الطبعات، ولقد اتفق أن لاقيت الأستاذ محيي الدين رضا المحرر بجريدة المقطم وناشر "بلاغة العرب في القرن العشرين" وسألته في نسبة "الترنيمة" فأخبرني أنها لنسيب عريضة، ووعدني بأن يخبرنا عن المجلة التي أخذ منها "الترنيمة" وهي إحدى المجلات التي تصدرها الجالية العربية بأمريكا. وأنا شاكر للأستاذ عزمي يوسف إحساسه الرقيق. والترنيمة طويلة لم أذكر منها إلا الأبيات الستة الأولى، ولقد راعني ما أثاره مقالي عن الهمس في الأدب من جدل، ولكنني ما زلت عندما أومن به، وأنا بعد لا أدعي أنني قلب صلد لا يستشعر الحنان، وأنا فقير كغيري إلى الكثير من الرحمة -على الأقل رحمة الله- ومع ذلك أرفض القول بأن أدب المهجر ضعيف منهوك، أين إذن نجد قوة النفس؟ أين نجد القدرة على الانفعال؟ أين نجد توثب ووميض العقول؟ أين نجد نبض الحياة؟! ليست القوت مكابرة باطلة، ليست القوة حياء كاذبا، القوة ليست نفاقا اجتماعيا. قالوا: إن الصدق في الأدب هو مقياسه الوحيد، وهذا قول بدائي. الأدب أعمق من الصدق، الأدب ليس تصويرا للواقع ولا تسقطا لأصداء الحياة، الأدب خلق للصدق. ظلام الليل قد أطفا ... نجوما تجذب الطرفا فما للطفل لا يغفى ... أيبغي اليوم ألحانا وللنظر فيما يحمل البيت الأول من صدق نراه عاريا عنه؛ وذلك لما هو واضح من أن ظلام الليل لا يطفئ النجوم بل يزيدها تلألؤا، ومع ذلك أي صدق نفسي في

ذلك البيت الرائع! وهذا رجل نشر الحزن بنفسه ظلاما لم يلبث أن غشي بصره، فللنجوم أن تتلألأ دون أن يرى لها بريقا: من الألحان لا أدري ... سوى أنشودة الصبر أغنيها من القهر ... لطفل بات جوعانا هؤلاء قوم ليسوا ضعافا، إنهم يسمون الأشياء بأسمائها، قوم لا ترهبهم الألفاظ، يتغنى الشاعر "من القهر" لجوع طفله، ولكن مَنْ منا لا يحس أن هذا القهر ليس يأسا وإنما هو استجمام للتوثب؟ من منا لا يحس بنفس الشاعر العاتية متحفزة خلف هذا القهر الإنساني؟! ليس الأدب ألفاظا، الأدب روح لا تدري من أين تطالعك، روح لا تدركها إلا الأرواح! ملاك الرب في الحلم ... يناجي الطفل كالأم يناديه من النجم ... ألا نم! وقتنا حانا قلت فيما سبق: إن شعراء المهجر يصدرون عن قلب فيه لهفة إلى الله، ولو أنني قلت: إنهم متصوفون لما عدوت الحق، فالتصوف ليس إلا وقدة في الإحساس، كل شعور قوي تصوف مهما كان موضوع ذلك الشعور؛ ولهذا نرى الناس يقتتلون في غير مقتل حول تصوف شاعر كالخيام: أمادي هو أم روحي؟ وهل خمره خمر الدنان أم خمر الروح؟ والأمر بعد سواء، الخيام روح حارة، وكذلك الأمر عند شعراء المهجر. أين منهم فتور أغلب شعرائنا؟ أين منهم فقرنا الروحي؟ أين منهم ضعف نفوسنا؟ أين منهم نفاقنا الخلقي؟! أنظر إلى شاعرنا كيف يجمع بين القيم الإنسانية في ملاك الرب الذي يناجي الطفل كالأم، أليس حنان الأم نفسا من روح الله؟ أوما تراه يشبه الهمس؟! الفن اختيار، وهؤلاء الشعراء يعرفون كيف يختارون التفاصيل الدالة الغنية بفيضها الإنساني. يناجيه بأيام ... سيأتي خيرها طام سيروي ماؤها الظامي ... ويشفي النور عميانا وفي شفاء النور للعميان ما يعزز فهمنا لإطفاء ظلمة الليل لنجوم السماء، ثم ما القول في هذا الأمل الباسم؟ عيجب أمر هؤلاء الشعراء! يبتسمون للأمل، ومع ذلك تهزنا ابتسامتهم! وكأني بها تبعث الحزن في النفس، وهي بعد ابتسامة تشرق وسط الظلام، ابتسامة يحوطها الحزن، أولا ترى معي شاعرنا وهو يشد على نفسه فيعزيها بأيام سعيدة؟ إنني أحس بالجهد في تلك الابتسامة الرائعة، وبعد ذلك يقول قائل: إن أدبهم ضعيف، وإننا في حاجة إلى أدب طروب قوي. ومن يستطيع أن

يدلني على قوة تصدر عن الطرب؟ الطرب شيء مبتذل لم نره قط مادة لأدب قوي، وهو بعد لا يحرك النفوس. الأدب عزاء عن الحياة، والعزاء قوة، الشعر في العالم كله ضيق بالحياة وعلاج لها، ولكنه ليس يأسا، فاليأس صمت، وموضع الإعجاز هو أن يدفعك ذلك الضيق إلى متسع الوجود، هو أن تشفي الشكوى من الألم. وبعد ذلك بأبيات: أصوتي ذاك قد غنى ... أقلبي ذاك قد أنا؟ كفى ندبا1 كفى حزنا ... فقلب الطفل ما لانا هزيز الريح ما يسمع ... وندب الروح ما أسمع كلانا منصت يخشع ... إلى الأصوات حيرانا ظلام الليل قد أطبق ... فنم يا طفل لا تقلق يعود النور والرونق ... إذا ما الله أبقانا هذا هو الهمس الذي لا أدري كيف يتهم بالضعف؟! وأنا بعد أحس فيه قوة لا أجدها في نفوس معظم شعرائها، والأمر ليس من الشاق تفسيره، فنحن قوم لصيقون بالأرض، قوم يؤثرون الاستكانة على المغامرة. لقد طوفت في الكثير من بقاع الأرض فلم أرَ مصريا يجالد غريبا على الحياة، وعدت إلى مصر ودرت ببصري فلم أرَ إلا مظلوما خاضعا لظالمه، أو متألما يخشى أن يشكو ألمه، رأيت ضعف النفاق، في كل مكان أرى رجالا قليلي الشبه بالرجال، فمن أين تأتينا القوة؟ نحن قوم لا يجسر أحدنا أن يرفع بصره إلى من يظنه أقوى منه، فكيف بنا نحدق في الحياة التي تصعق من يناهضها؟! نحن قوم متزمتون يظنون النفاق الاجتماعي فضيلة، قوم حسيون، إذا تغزلنا جاء غزلنا إما إسفافا في الخضوع وإما "طرطشة" في العاطفة، قوم تعوزهم القوة المتماسكة، نحن قوم كثيرو الادعاء عن جهل، نكابر الغربيين، وندعي الدعاوى العريضة الباطلة، ونزج بالقومية وما إليها لتغطي جهلنا المريع، مَنْ مِنْ أدبائنا أو شعرائنا يعرف أن من واجب الأديب أن يكون مثقفا ثقافة منظمة عميقة مهضومة؟ من منهم يدرك أن الأدب ليس خلقا من العدم؟ هذه بعض الأمراض النفسية التي تفسد أدبنا، ولهذا أوثر شعر المهجر، ولقد عللت إيثاري بما في ذلك الشعر من همس، وحاولت أما استطعت أن أوضح

_ 1 كنت أوثر ألا يستخدم الشاعر هذا اللفظ لما يثيره من تداع في الخواطر، ولكن لفظا لا يغير من روح القصيدة العامة.

معنى ذلك الهمس، فقال البعض: إنني أتعصب لنوع من الأدب يستجيب له مزاجي الخاص. ولكن الأمر ليس أمر تعصب، كما أنه ليس ضيقا في النفس يمنعها عن الإصغاء لغيره من الأدب، وإنما هو إيمان بروح إنسانية قوية أحسها في ذلك الأدب، روح نافذة موحية. ومن عجب أن نقول: إن الشعر الخطابي إذا خلا من موسيقى اللفظ وقوة النفس اللذين نجدهما عند المتنبي في الشرق وهيجو في الغرب مثلا -أفسدت الخطابة الشعر، ثم يأتي من يقول: إننا لا نطرب لشعر المتنبي. الشاعر العظيم هو من ينجح في أن يهزك، وهو قد يستطيع ذلك بضخامة موسيقاه كما قد يستطيعه برقتها، وأما أولئك الذين تقرأ لهم فلا ينبض منك حس، ولا يهتز قلب، فلست أدري من أين يأتيهم الشعر، ولقد تصفحت مثلا "أعاصير مغرب" فعجبت لمن يجرءون على تسميتها شعرا، وهي نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها، نثيرية في روحها، ونثريتها بعد مبتذلة سميكة، حتى الإحساس فيها شيء لا يطمئن إليه النفس. الأدب الجيد لا بد أن يلونه الإحساس، وصاحب "أعاصير مغرب" من الكُتَّاب الذين قد تبهرك مهارتهم العقلية في التخريج، ولكنني لا أذكر -إلا في النادر الذي لا يذكر- أنه قدا ستطاع يوما أن يحرك في نفسي إحساسا، فكيف له يقول الشعر؟ وكيف يجوز لنا أن نقارن شعرا "كالأعاصير" ونحوها بشعر المهجر الحي؟ أنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد، ولكنني أحاول أن أبصر بالقيم الإنسانية التي يجب أن يتجه إليها أدبنا إذا أردنا أن نلحق بغيرنا، بدلا من الجمود على الباطل الذي نحن فيه.

الشعر الخطابي

الشعر الخطابي: يريد الأستاذ السيد قطب أن يجعل ما سميته الهمس في الشعر نوعا من الأدب يتميز بالإحساس الذي يغذيه، فهو شعر الحنين أو "الحنية" كما يقول، وهو يحذر القراء من آرائي لخضوعها لطبع خاص أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، ولكنني بحمد الله لست مريضا، ولا أذكر أني مرضت يوما ما، وأنا على العكس سليم الجسم صُلْب البناء متمتع بكل قواي الجسمية والعقلية، وشخصي بعد ليس موضع الحديث، والهمس في الشعر ليس "الحنية" ولا هو خاص بنوع من الإحساس، وإنما هو مذهب في الفن، مذهب عام لا يتقيد بمادة. أما تحذير القراء من آرائي فهذا ما أدعو إليه أنا أيضا؛ لأنني أمقت مبدأ "السلطة" Principe duatorite، وأعرف ما أصاب الإنسانية من أضراره المميتة خلال القرون الوسطى، يوم كان الناس يؤمنون بآراء أرسطو؛ لأنها صادرة عن المعلم الأول، لا لما تقوم عليه من بينات، ونحن في الشرق أحوج ما نكون إلى تحطيم هذا المبدأ الذي يشل عقول الناس فتستسلم لآراء هذا أو ذاك والأمر في المسائل الفنية أشد خطورة؛ وذلك لأن الأذواق لم تتكون بعد بسبب واضح هو جهلنا بالآداب الأجنبية أو معرفتنا بها معرفة أضر من الجهل بها، وليس من سبيل إطلاقا إلى الادعاء بأن أدبنا العربي يكفي لتكوين ذوق أدبي صحيح. وإذن فأنا أريد أن أملي ذوقي على أحد؛ وذلك لأن الذوق وإن يكن من أعمق ملكاتنا البشرية في إدراك مواضع الجمال والقبح، إلا أنه لا يمكن أن يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدى الغير، إلا إذا علل بأسباب عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما نحس به، وإلا أصبح ما نقول ادعاء كاذبا إن لم يكن نصبا. ولقد حاولت تمييز "الشعر المهموس" بمعارضته "بالشعر الخطابي" ولكنني فيما يظهر لا أزال محتاجا إلى مزيد من الإيضاح، وهأنا اليوم أتناول قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل، وجدتها مصادفة في عدد 7 من يونية سنة 1943 من الرسالة بعنوان "حصاد القمر".

الأستاذ محمود حسن إسماعيل يذكرني دائما بالمتنبي، ففي شعره رنين قوي تجده في بسطة أوزانه وضخامة ألفاظه بل في بعض صوره الشعرية المجتلبة على نفس النحو الذي كان المتنبي يصطنعه أحيانا متتلمذا لأبي تمام، ولكني أبادر فأقرر أن شعر المتنبي غير شعر محمود إسماعيل في معدنه النفسي وفي رؤيته الشعرية. شعر المتنبي كشعر محمود إسماعيل من النوع الخطابي؛ ولكن شاعر الحمدانيين كان شاعرا كبيرا، وأما صاحب -هكذا أغنى- فشاعر يعيبه أمران خطيران: 1- أولهما أن للمتنبي نفس قوية عاتية متماسكة، عاطفة المتنبي مغلقة مركزة عميقة؛ ولهذا قلما تلوح كاذبة، عاطفة المتنبي نار داخلية لا تراها وإن ألهبت اللفظ أو أوقدت الصورة. وأما إحساس محمود حسن إسماعيل فمفضوح، ويأبى شاعرنا إلا أن يزيده افتضاحا بقصاصات النثر التي يعلقها فوق قصائده وفي هذا ابتذال، للنفس عن نفرة، عاطفة محمود حسن إسماعيل "مطرطشة" حتى لتلوح "سرابا عاطفيا" Pathetic fallacy كما يقول نقاد الإنجليز. 2- ثانيهما اضطراب الرؤية الشعرية Vision Poetique عند محمود إسماعيل، بل إنني لأخشى ألا يكون له حقل شعري على الاطلاق، وهذا أمر يتضح لمن يراجع صوره في أية قصيدة من قصائده، فإنه لا بد واجد بينها من التنافر ما يقطع بأنه لا يرى الأشياء رؤية شعرية صحيحة. تراه يجمع بين صور لا يمكن أن تكون وحدة للموصوف، ولو أنه حرص على الرؤية الشعرية الصادقة لرأيت التجانس الذي يعوزه، وأنا بعد أرجح أنه يلتمس الصور من ذاكرته لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه. ونحن عندما لا نجد لدى الشاعر العاطفة المتماسكة والرؤية الشعرية لا نستطيع أن نحكم بتفوق فنه؛ وذلك لأن الرنين الخطابي مهما بلغت قوته لا يمكن أن يسمو بالشعر. فلغيري إذن أن يعجب بقوة أسر محمود إسماعيل واستحصاء لفظه وغرابة صوره، وأما أنا فما دمت لا أستطيع أن أدرك ببصري حقيقة ما يصف ولا أن أسكن إلى نوع إحساسه، فإنني لا أتردد في رفض شعره وتفضيل "نعيمة" أو "عريضة" عليه وذلك لصدق شعراء المهجر في فنهم. وأنا بعد مؤمن بأن محمود حسن إسماعيل يستطيع أن يصبح شاعرا كبيرا؛ وذلك لأنه يملك هبتين لا شك فيهما: 1- أولاهما روح الشعر، روح غفل ولكنها قوة من قوى الطبيعة، قوة تحتاج إلى

التثقيف الصحيح. ولو جاز لي أن آمل من هذا الشاعر الإصغاء إلى موضعي النقض الكبيرين اللذين أشرت إليهما فيما سبق لرجوت أن نجد فيه شاعرا يعتز به عصرنا. 2- وثانيهما قدرته على الانفعال، وفي هذا ما يلهب الحس، فيدرك المرء بقلبه ما لا تدركه العقول، وما يحتاج إليه محمود إسماعيل لاستغلال قدرته إنما هو نوع من النظام يركز به إحساسه ويرد ما فيه من فضول. ثم إنني أريد أن يطمئن الأستاذ قطب أن أحكامي على أدباء المهجر ليست سريعة ولا هي عن جهل، فقد قرأت الكثير مما كتب وإن لم أتحدث عنه، وأمر اشتغالي بالدكتوراه حدث عارض لم يستوعب قط كل وقتي، وأنا لا زالت عند رأيي في أدب الحكيم ومحمود طه وغيرهما مع تحفظ واحد هو أنني اقتصرت في مقالاتي على كتب بعينها ليكون النقد موضعيا ومن ثم منتجا. ولقد قرأت لكل كاتب معظم كتبه الأخرى فوجدت الخصائص التي ذكرتها واضحة، وإن تكن ثمة اتجاهات أخرى تحتاج إلى علاج خاص كتصوير الحكيم لبعض الشخصيات تصويرا ناجحا في "عودة الروح". وكاستخدامه الهيومر في "أهل الفن" ولكنه أدبه، كما قلت: أدب فكرة في جملته. وكذلك الأمر في حديثي اليوم عن محمود إسماعيل هذا الحديث الذي لا أبغي من ورائه لجاجة؛ وإنما أبغي الخير، خير الشاعر وخير أدبنا الجديد، فأحكامي عنه تستند إلى قراءة شبه شاملة لما كتب، وإن كنت سأكتفي اليوم بنقد قصيدة واحدة من قصائده حرصا على الدقة. القصيدة كما يقول الشاعر في بطاقته: "وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد" وها هو شاعرنا يبدأ بوصف الحقل: "سيان في جفنه الإغفاء والسهر" وإذن فنحن في حالة هيام شعري تستوي فيه اليقظة والنوم، نحن إن أردت في حلم يقظة "نعسان يحلم والأضواء ساهدة" وهذا لا ريب جو الإلهام الشعري، ولكنه جو قد قيد الشاعر؛ ونحن لا يعنينا منه صدقه أو تصنعه، فالشاعر يدعونا إلى هذا الجو وقد أعاننا على أن نحيط أنفسنا به لنخلق فيها جوا مشابها، وننظر مع الشاعر فماذا نرى؟ نرى أن السنابل قد نامت واستيقظ القمر فإذا بنا أمام مقابلة مصنوعة؛ لأننا لا نرى نوم السنابل بوضوح ولا يقظة القمر، القمر الذي ينشر الأحلام، وهذا يسلمنا إلى ملاحظة عامة خطيرة على شعر محمود إسماعيل وهي مصدر ما فيه من تنافر وأعني بها "تشخيصه" للأشياء، والتشخيص لا ريب

من وسائل الفن القوية، ولكنه لا يمكن أن يكون مجرد عبث أو مهارة، بل من الواجب أن تمليه الأشياء إملاء يقربه الفن وقد مسه بجناحه، فإذا به كالحقائق، والفن إلى حد بعيد إيهام بالخلق، خلق واقع شعري، فهل نجح الشاعر في ذلك؟ إنني أنظر فأرى "قلب النسيم ولهان ينفطر للأضواء" و"السنا قد مال جاثيا" و"نخلة قد أطرقت بتلعة" وظل النخلة كأنه "مضطهد" ثم أرى "الدوح نشوانا" ومع ذلك يدعونا الشاعر إلى أن نخشع إن مررنا بالدوح النشوان: ما هذا التنافر؟ "لماذا ينفطر قلب النسيم ولهًا بالأضواء" أهذا تجسيم لإحساس الشاعر؟ أهو تصوير لرقة النسيم تصويرا مجتلبا؟ ولماذا "يجثو السنا" وهو "يحنو" على الشاعر "وينساب" إليه من السماء؟ ثم إن الجو كله جو أحلام هادئة.. فيها لا ريب حزن خفيف melancholie ومع ذلك فجأة نرى الدوح نشوانا. وكل هذا تخبط في الرؤية الشعرية أو انعدام لها، ومن عجب أن تجد وسط هذا التنافر البيت الرائع بتصويره: إن هب نسم بها خيلت ذوائبها ... أنا ملا مرعشات هزها الكبر وأن يجاور هذا التصوير الجميل تشبيهه لظل النخلة "بمضطهد" وأغصان الدوح بأشباح قافلة، غاب عنها الرفيقان "الركب والسفر" وقد نزل على الدوح ضيفان "الليل والقدر" ليتم الازدواج الكاذب: الليل والقدر والركب والسفر. أما الليل فنستطيع أن نفهمه، ولكن ما شأن القدر هنا؟ وما الرأي في "غياب السفر" كناية عن ثبات الدوح وعدم تحركه؟ قد يكون في غياب الركب ما يشعر بالوحشة؛ ولكنني في الحق لا أدرك العبارة عن السكون بغياب السفر. والأغصان "مبهورة ذاهلة" ولكنها مع ذلك قد تكون "منتعشة بشجو الرياح" وما أريد أن أدركه هو وضع تلك الأغصان، كيف كانت أو كيف رآها الشاعر "ذاهلة أم منتعشة"؟ إنني لا أطيق ما يلقيه الشاعر في نفسي من عجز عن إدراك ما رأى. ثم إن القمر "هيمان يحمل وجد الليل أضلعه" وقديما قاتل النقاد أبا تمام لقوله "ماء الملام" وثار به الآمدي إذ وصف حمرة الخدين بـ"ملطومة الخدين بالورد" فماذا يقول المسكين الآمدي لو سمع محمود إسماعيل يتحدث عن "أضلع القمر"؟! وأنا لا أريد أن أطيل، فقد أبنت بالأمثلة السابقة عما أريد من "الرؤية الشعرية". وأما "طرطشة" العاطفة فليست واضحة في هذه القصيدة الوصفية وضوحها في قصائده العاطفية وهي كثيرة بديوانه "هكذا أغنى"، ومع ذلك

نجد في هذه القصيدة أيضا كثيرا من "التأوه" و"والآهات" و"الكبد" و"كبدي" و"ياكبدا" وما إليها. انظر مثلا إلى قوله يخاطب القمر: قلب كقلبك مجروح، وقوله لنفس المخاطب: "إن العذاب الذي أضناك في كبدي"، ثم حدثني عما تستطيع أن ترى من جروح في قلب القمر الهادئ البارد الحالم الحزين حزنا رقيقا لا يعرف الدماء، ثم ما هذا الضنى الآخذ بكيد الشاعر؟ وكيف يوحي به القمر؟ أليس هذا إسرافا معيبا ووضعا لإحساس في غير موضع؟ "الله أكبر يابن النيل يا كبدا" أوما نحس بنفرة نفسية من "يا كبدا" هذه؟ كيف تخاطب القمر "يا كبدا"؟ وبعد فأنا لا أدري كيف يجوز لنا أن نضع هذا الفن الذي نردده اليوم في مستوى فن شعراء المهجر المرهف القوي المباشر؟ كيف نقارن هذا الضجيج بمهمسهم الفني؟ وأما عن النثر فما أظن القراء في حاجة إلى أن أدلهم على أن رثاء أحد الشبان لأمه الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن "بأمي" لأمين مشرق. فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في اختيار التفاصيل، وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون "بأسرة" أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر "فستانها العتيق" و"يديها اللطيفتين" ووقع قدميها حول سريره، وغابة السنديان، وما إلى ذلك من فتات الحياة التي يعرف كبار الشعراء -كما قلت- كيف يلتقطونها بأنامل ورعة، فيصلون من التأثير في نفوسنا إلى ما لا تصل إليه "الأبواق والطبول".

إيضاح أخير

إيضاح أخير: الحنية: قلت: إنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجا من المهاترة والمغالطة وها هو الأستاذ سيد قطب يعود إلى "مزاجي" الخاص فيدعي أن آثر شخصية لدي من شخصيات القصص التي حللتها في سلسلة النماذج البشرية هي شخصية "فيلسيتيه" للكاتب الفرنسي "فلوبير" وذلك لما بها من "حنية"، كما يقول! ولكنني لم أوثر شخصية على أخرى إلا أن يريد الأستاذ قطب حملي على ذلك الإيثار و"فيلسيتيه" بعد ليست النموذج الوحيد الذي تحدثت عنه، فثمت "فوست" يمثل الإقبال على الحياة والهم إلى المعرفة عن سبيل المغامرات، و"دون كيشوت"، والمجالد للبشر، رغم إخفاقه. و"هملت" العقل النافذ نفاذا يشل الإرادة. و"جوليان سوريل" الثائر على مواضعات الحياة الاجتماعية. و"ألست" الناقم على البشر انحلال أخلاقهم. و"فيجارو" المنتقم من الحياة بالسخرية. "وإبراهيم الكاتب" الذي تعلق بالحياة حتى مجها. "وجفروش" الطفل الباسم عن جسارة قلب، وغيرهم ممن لا صلة لهم "بالحنية" والمزاج الخاص. لقد حللت هذه النماذج مظهرا ما فيها، وهي عندي سواء، فلا محل إذن لمغالطة الأستاذ قطب وإصراره على زعمه أني لا أوثر إلا لونا واحدا من الإحساس. ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يضيف إلى المغالطة المهاترة بحيث لا أرى بدا من أن تكون هذه الكلمة آخر حديث لي في هذا الموضوع. يرى الأستاذ قطب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة، وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو. ويعصمني من تلك الرهبة جهل نفضته عن نفسي، وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس. لقد سمع الأستاذ قطب أستاذه العقاد يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير الرجل، وأن بينهما اختلافا سحيقا في الطبيعة، وسمع الحمقى من الرجال

يزدرون المرأة ويعتبرونها سبة أن يشبه الرجل المرأة في شيء، فلم يرَ سبيلا للمهاترة خيرا من أن يرد إحساسي إلى المرأة وإلى ذوي الأمزجة الخاصة. وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان، وليس بصحيح أن بين الرجل والمرأة اختلافا حاسما في الطبيعة، وقديما زعم اليونان -وزعمهم حق- أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة. بل خلقت أعضاء مختلفة، ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة كيفما اتفق، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل، ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدعي ذلك إنما يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بينها. واليونان لا ريب كانوا في خرافتهم هذه أنبه مني ومن العقاد، وطبعا من الأستاذ قطب، وإنه لمن الحمق أن نحاول تنقص الرجل برد إحدى أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن في إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار لكبار رجال الفن والأدب، ولعل الأستاذ قطب قد سمع من العقاد أن رينان قد وصف بأعظم الصفات كفنان عندما قيل عنه: "إنه يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل". الفتات: وأما فتات الحياة "التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة" فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يدرك ما أردته منها. وهأنا أبسط القول. والأستاذ قطب لا بد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيار للتفاصيل الدالة، فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة، وليس ثمة علاقة بين "فتات الحياة" التي يختارها "وضخامة الإحساس" الذي يريد أن يثيره، فالإحساس من الواجب طبعا أن يكون قويا، وموضع الإعجاز هو أن يثير الفنان هذا الإحساس القوي "بالفتات" التي لن يدركها الأستاذ قطب، بل إن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدين -أن إثارة الإحساسات القوية

لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر، وأما الطنطنة، وأما تضخيم التوافه، وأما عجيج الألفاظ، وأما التبجح بالقوة الجوفاء، فهذه وسائل العجز والادعاء والجهل. أضرب للأستاذ قطب مثلا بسيطا أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم. في إحدى الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتصاره أمرا يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، بل ولا على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت، هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة بل من هناتها، ولكن أوما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء، وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكا لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب؟ هذه هي فتات الحياة التي يجب أن نعرف قدرها في الفن، ولكننا قوم فطريون، نظن الفن ألوانا فاقعة وضجيجا خاويا، نعم يا أستاذ قطب أنا أوثر "الأطياف الباهتة" لأنها نسيج كل فن رفيع، وأما الأطياف الزاهية فلا تسر غير البدائيين من الناس، أولا ترى إلى زنوج إفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم؟ وأعود فأكرر أننا في سبيل الحديث عن طرق الأداء في الفن، وأما قوة الإحساس المثار فلا دخل لها بالفتات، إلا أن يكون هذا الفتات مبعث ذلك الإحساس القوي. وأما إنني أستطيع أن أستقل بالمشاعر الضخمة وبالفحولة والجهارة أو لا أستطيع، فهذه دعوى لا أحب أن أناقشاها لأنها صغيرة، ولسنا في مجال مبارزة. وأنحدر إليها، ورحم الله من قال: "أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار". ونحن نناقش مسائل فنية يدور حولها الأستاذ قطب -يدور من الخارج. مختارات الأستاذ قطب: قلت: إنني أحب المتنبي وأرى فيه شاعرا كبيرا، ويأبى الأستاذ قطب إلى أن

يقول ويكرر: إنني لا أحبه، وهو يقرن العقاد إلى المتنبي، وفي هذا ظلم للمتنبي وللعقاد، فالمتنبي شاعر والعقاد لا شأن له بالشعر، ولا أدل على ذلك من مختارات قطب نفسها. لقد أتى الأستاذ قطب بنموذج للنثر المصري الجيد "رثاء أحد الشبان لأمه" والشاب صاحب الرثاء هو الأستاذ قطب نفسه، واحتجاج الإنسان بنثره الخاص شيء سمج، وأمعن في السماجة أن يتحدث المرء عن نفسه في مناقشة الغير فيدعي أن في نثره "معاني كبيرة وأحاسيس عميقة". هذا الأسلوب ليس من آداب المناقشة؛ ولهذا أهمل نثر الأستاذ قطب كله وأترك له مهمة الحديث عن نفسه. وأما مختاراته الشعرية فهي أولا لشاعر مصري كبير، وثانيا لشاعر من شعراء الشباب المصريين، فأما شاعر الشباب فهو أيضا الأستاذ قطب ولهذا أهمله وأهمل شعره؛ لأنني لا أطيق هذه الصفاقة، ثم إنني لا أرى من اللياقة أن أناقش أشعار التلميذ، بينما لدي أشعار الأستاذ نفسه، لدي أشعار المصري الكبير العقاد. فالشعر له والأستاذ قطب في ركابه. ولنأخذ من الصورة الشعرية التي أوردها الأستاذ قطب للشاعر الكبير العقاد قصيدته "الكون جميل" "الرسالة عدد 520" قال الشاعر: صفحة الجو على الزر ... قاء كالحد الصقيل لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل رجفه الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل وقال الأستاذ قطب معلقا على جمال هذه الأبيات: إن فيها ألفة، وإنه يكاد يلمح الشاعر "متسع الحدق مفغور الفم وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة" وأنا لا أدري أي ذوق أدبي ذلك الذي يحمل الناقد على تصوير الشاعر "متسع الحدق مفغور الفم". وهل يستطيع القارئ أن يتصور هذه الصورة القبيحة دون أن يملكه الاشمئزاز والضحك؟ تصور شاعرًا مفتوح العينين فاغر الفم! هذه صورة أبله لا صورة شاعر! ثم أين الجمال في هذه الأبيات؟ ما هذه الصفحة؟ أهي الأثير؟ وهل هي غير الزرقاء؟ وهبها كانت غيرها أهي

كالخد؟ هذا الفضاء الرحب، الفضاء المترامي الذي تسبح فيه الروح فلا تنتهي إلى غاية، هذا الفضاء خد؟ وكيف تصقل الأثير، الأثير اللين الشفاف الخفيف؟ لمعة الشمس كعين ... لمعت نحو خليل هل يرى القارئ عين الحبيب وهي تلمع نحو الخليل فتشبه لمعة الشم؟ لا بد أنها عين حمراء تقدح الشرر وترسل اللهيب! رجفه الزهر كجسم ... هزه الشوق الدخيل أنا أعلم أن الدخيل معناه الطفيلي. أهو الشوق الطفيلي؟ أهو الشوق الداخلي؟ وهل ترى الجسم يهتز كرجفة الزهر؟ لو أن الهزة كانت في القلب لقلت شاعر يشارك الطبيعة بإحساسه ولكنه الجسم كله. يخيل إليَّ أنني أرى فيلا يهتز بجوار وردة تتمايل على غصنها. حيث يممت مروج ... وعلى البعد نخيل مرج ونخيل لا تخصيص فيها ولا اختيار، أين الفن في يممت نحو المروج وعلى البعد نخيل؟ وهذا نثر لا روح فيه. وأما غاية العجب فتأخذك من قوله: قل ولا تحفل بشيء ... إنما الكون جميل تسمع قل ولا تحفل بشيء، فتتنبه حواسك، ويستيقظ إحساسك. ويصحو عقلك لهذا التحدي القوي وتلك الشجاعة النادرة، وتحسب أن الشاعر سيخرج على قانون من قوانين الوجود أو على حقيقة من الحقائق الإنسانية الثابتة، ثم ننظر فإذا به لا يأتيك بغير هذه الجملة المبتذلة "إنما الكون جميل". وأنت تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء. ها هو شعر الشاعر الكبير، فما بالك بشعر الشاعر الصغير؟

الهمس في الأناشيد

3- الهمس في الأناشيد: تحدثنا في مقالات سابقة عن الهمس في الشعر والنثر، وكانت مناقشات يمجها الذوق الخلقي، فقد أرى البعض في رفاهة الحس ولطافة الروح أنوثة، ورددنا بأن ذلك ليس وقفا على النساء؛ إذ من الواضح أن الله لم يقصر بعض الصفات على جنس دون جنس، وإنما نحن بإزاء نسب، وكنت أظن أن الحديث كله دائر على الرجولة والأنوثة من الناحية النفسية، وأما عن الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية. فذلك ما لم يخطر لي ببال في مجادلة رجال يتصدون لتثقيف الجماهير، وكم كانت دهشتي عندما رأيت كاتبا يذهب إلى أبعد من الرجولة الأخلاقية والاجتماعية، فيدعي "أني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها" مع أنه يعرف معنى كلامي حق المعرفة، بدليل أنه قد فطن هو نفسه منذ سبعة عشر عاما فيما يقول إلي: "أن حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة. فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والجسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس"، وأنا لم أقل غير هذا. فالحديث -كما قلت- لم يعد الناحية النفسية، ومع ذلك يسف الكاتب فيعتقد أنه قد وصل مني إلى شيء عندما قال: "إنني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها"! وأكبر ظني أن الإنسانية كلها مجمعة على أن "أنوثة" قادة البشر من "كبار الرجال" الذين وصفوا بتلك الصفة مثل تاجور، ورينان ولامرتين، وشنييه، وغيرهم، خير من "رجولة" صاحبنا وأذنابه أولئك مخلدون حباهم الله تفكير الرجال وإحساس النساء وسذاجة الأطفال، وهؤلاء لا تسمع منهم إلا صلفا وغرورا ومهاترة مخزية. ولنترك هذا الحديث الذي ينزل بالقلوب إلى آخر يرتفع بها، وأمامي الآن نشيد من الشعر اللبناني تذكرته إذ جاءني خطاب يخبرني بوفاة فؤاد البعلبكي، أحد الطلاب اللبنانيين بجامعة فؤاد، ولكم طربنا أساتذة وطلبة لصوت هذا الراحل الكريم وهو يتغنى به من جوقة من إخوانه، تعاودني هذه الذكرى فيزداد حزني لوفاة ذلك الشاب الرقيق الصوت، الأنيق السمت، العزيز النفس، الطيب الخلق، ألا يرحمه الله! وأتلمس سر طربنا لهذا الشعر، فأرى فيه إلى جانب الأنغام خاصيتين

هامتين يكملان معي الهمس في نفس ذلك المعنى الذي لا بد من الوصول إلى رفع كل لبس عنه حتى يسفر، فيتحقق ما نرجوه من توجيه شعرنا الحديث تلك الوجهة التي ندعو إليها بإيمان يزيده رسوخا أنه نبع عن إحساس لن يمل العقل البحث عن تعليله وإيضاحه. فأما أولى الخاصيتين، فهي ظاهرة الحب بل العشق، والحب ليس وقفا على الغزل الجنسي كا قد يظن، فلغته من الناحية النفسية هي المنفذ الصادق لكل شعور حار، ومن عجب أن يفطن نقاد العرب أنفسهم إلى هذه الحقيقة الكبيرة فيحسون بلغة العشق عند أكبر شعراء العرب الخطابيين نفسه، وهو المتنبي، فيقول الثعالبي في "اليتيمة": إن المتنبي ققد خاطب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب، وإنه قد استعمل ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد، وهو يرى في هذا مذهبا تفرد به شاعر الحمدانيين. وهذا حق، وإن يكن الثعالبي لم يستطع تعليل تلك الظاهرة؛ لأن النقد العربي بجملته لم يحاول أن يصل بين نفسية الشاعر وشعره، وذلك لسبب واضح، هو أنه يتضج إلا في العصر العباسي، وهو العصر الذي لم يعد يعبر فيه الشاعر التقليدي عن الحياة، وأصبح يرسف في محاكاة القديم، حتى لم يعد فضل للمحدثين في غير تجويد العبارة عن المعاني المطروقة والتفنن في "البديع". وجارى النقد الشعر فأصبح نقدا فنيا بحتا، ومن هنا لا ندهش عندما نرى الثعالبي يعلل استخدام المتنبي للغة الحب في غير الغزل بأن ذلك كان "اقتدارًا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني". ثم يضيف سببا آخر هو "رغبة الشاعر في رفع رأسه غن درجة الشعراء، والسمو بها إلى مماثلة الملوك"، وهذه الأسباب وإن تكن صحيحة إلا أنها لا تكفي، بل لعلها تعدو السبب الحقيقي الذي نجده في طبيعة المتنبي النفسية وفي ملابسات حياته، فقد كان الرجل قوي الانفعال سريع التأثر، زخرت نفسه بشتى المشاعر ففاضت في لغة الحب. ولقد أحب سيف الدولة حبا حقيقيا؛ إذ رأى فيه رجلا شهما كريما، وزاده حبا له كونه عربيا في زمن غلب فيه الأعاجم وسيطروا على العرب في كل مكان، إلا في حلب حيث كان يرابض الحمداني يحمي الثغور ضد الروم، ثم يخضع القبائل الثائرة، ويتبع النصر بالعفو عنهم ليضمهم إلى جانبه في دفاعه المجيد ضد أمراء بيزنطة أعداء العرب جميعا، ولقد ترك الشاعر أمير حلب مغضبا، ومكث في مصر عند أعداء بني حمدان أربع سنوات، ثم عاد إلى العراق، ومع ذلك لم يهج قط صديقه

الحبيب، ولا عدا في ذكره له حد العتاب الذي تفاوت لينا وشدة بتفاوت حالات الشاعر النفيسة، بل قد رأيناه يرثي أخته خولة رثاء مؤثرا يدل على حزن حقيقي ومشاطرة لأخيها في ألمه، ودعاه سيف الدولة إلى أن يعود إلى جواره فاعتذر، ومع ذلك لم يكتم فرحة بخطاب تلك الدعوة الكريمة التي أتته من صديقه القديم، ولقد عبر عن حزنه لفراق ذلك الصديق غير مرة في شعر صادق جميل مؤثر، وبخاصة أثناء إقامته بمصر: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا حببتك قلبي قبل حبك من نأى ... وقد كان غدَّارا فكن أنت وافيا خُلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقوله من قصيدة أخرى: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب أما تغلط الأيام فِيَّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تُقرب وقوله: أود من الأيام ما لا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا ترده أحب إذن شاعرنا سيف الدولة حبا حقيقيا، وحزن لفراقه حزنا موجعا: ما لي أكتم حبا قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم وكذلك قوله: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم ... إلخ، مما يفيض غراما أو ما يشبه الغرام، وألف الشاعر تلك اللغة، فظهرت في مدحه لغير سيف الدولة، ككافور في قوله: "وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... " وقوله: ولو لم يكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المتسهام المتيم وابن العميد بقوله: تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد فجد لي بقلبي إن رحلت فإنني ... مخلف قلبي عند من فضله عندي

وعضد الدولة بقوله: أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا ولتعليل تلك اللغة في مخاطبة قوم لم يكن المتنبي يحبهم حبه الصادق لأمير حلب، يجب أن نفطن إلى حقائق نفسية أخرى عن الشاعر، وأخص تلك الحقائق اثنتان: الطموح والسذاجة، فالطموح من طبيعته أن يخلط بين الغايات والوسائل، فترى صاحبه يجب كل وسيلة إلى الغاية التي يستهدف، وكأن الغاية قد اختلطت بالوسيلة، وإذا اجتمعت السذاجة إلى الطموح -كما حدث عند المتنبي- لم يكن غريبا أن يحب الرجال الذين رأى فيهم كل وسائل إلى غاياته، وأن يسرف في هذا الحب عندما تخيل إليه سذاجته أن غاياته المحبوبة قد تحققت أو أصبحت في حكم المتحققة، ولعل في بيته الشهير: وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب وما يمثل نفسية الرجل الطموح خير تمثيل، فهو لا يحب إلا من يولي الجميل ولا يرى الطيب إلا حيث ينبت العز. وحن الآن لا نناقش قيمة هذا الإحساس من الناحية الأخلاقية، ولكننا نقرر حقيقة نفسية ثابتة، نجدها عند النفوس المندفعة الطموحة الساذجة في الغالب، والمتنبي من بينها. وينتهي بنا هذا التحليل السريع إلى نقطة البدء، وهي مقدرة المتنبي على الانفعال، وبهذه المقدرة نعلل استخدامه لغة العشق أيضا في الكلام على الحر كقوله: أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقُبَل وقوله: شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل فأنت ترى الطعن عنده كالقبل، وترى الحرب عاشقة للشجاع، وأمثال ذلك كثير في شعره. هذه هي الظاهرة التي لاحظها الثعالبي وقد عللناها بما نراه متمشيا مع نفسية الشاعر، وهي بعد لا تقف عند المدح أو الفروسية، بل تكاد تمتد إلى معظم شعره. والقراء لا ريب يذكرون نظرية صديقنا الباحث العميق محمود شاكر، وهي التي يزعم فيها أن المتنبي قد أحب خولة حب غرام. ومن أكبر أدلته على ذلك ما في رثائه من حرارة الألم، ونحن وإن كنا غير واثقين من صحة هذا الفرض، إلا أننا مغتبطين إلى الظاهرة العامة التي لاحظها صاحب اليتيمة وأمَّنا عليها، فالمتنبي -ككل شاعر كبير- غني بنغمات الحب.

والحب هو الذي يمس نفوسنا عندما نستمع إلى أناشيد لبنان، وفي هذا تختلف أناشيدنا في جملتها عن أناشيدهم. فنحن نصدر، إما عن زهو كقولنا: "بلادك يا مصر بلاد الأسود" أو نحن "زوابع من نار في قوة الإعصار، في عزمه الجبار، كنا على الدنيا فنا" "نحن السيوف المشروعات". وإما أن ندعو إلى حروب كحروب دون كيشوت نحو: "يا قاعد في دارك والعالم في نار، ما تحمل سلاحك وتحمي الديار" أو "يا فرحتي، في الحرب حاخدم أمتي" بلغتها المخنثة السمجة التي يصدعنا بها الراديو المصري المشئوم صباح مساء. وإما أن نستلهم "خضرة" الشجاعة في لغة لا أعرف لثقلها مثيلا: "مين زيك عندي يا خضرة1.. ما تجودي علي بنظرة.. وأنا رايح الميدان". وما إلى ذلك من استجداء لا يشعر بالحاجة إليه جندي حقيقي، يعرف أن البطولة الفذة ستجعل منه معقد أنظار "خضرات" الأرض جميعا، وما هكذا تكون الأناشيد وإنما تكون شعرًا، والشعر إحساس بجمال الوطن وحب لذلك الجمال. والأناشيد لا تحرك النفوس إلا بقدر ما فيها من تفاصيل حقيقية قادرة على استحضار صورة الوطن أمام الخيال. ثم التغني بتلك التفاصيل غناء مهموسا نافذا حارا، ومن هذا النوع "نشيد العروبة" الذي نريد أن نتحدث عنه. عليك مني السلام ... يا أرض أجدادي ففيك طاب المقام ... وطاب إنشادي وهذان البيتان هما القرار الذي تردده الجوقة، وقوام الإحساس فيه ربط الوطن بمستقر الأجداد، ثم طيب المقام به ونشوة الانتماء إليه. وتأتي المقطوعة الأولى: عشقت فيك السمر ... وبهجة النادي عشقت ضوء القمر ... والكوكب الهادي والليل لما اعتكر ... والنهر والوادي والفجر لما انتشر ... بأرض أجدادي وهذا شعر سهل قريب، ولكن تحس بلغة الحب تتقد بين مقاطعة، وكأن السمر وضوء القمر، والكوكب الهادي، والليل لما اعتكر، والنهر والوادي، والفجر لما انتشر ليست من الظواهر الشائعة بين البشر، بل شيء خاص، خاص بأرض أجدادي، يخيل إلَيَّ أن هذه الأشياء كلها غيرها في البقاع المغايرة للوطن الذي

_ 1 لقد بلغني أن المقصود بخضرة هنا هو "وادي النيل" ولكن متى عرفت الأناشيد المصرية الرموز!

يتغنى به الشاعر، هناك شيء من التخصيص لا أدري من أين أتى، فهو يجري في المقطوعة كلها، يجري في الإحساس الصادق بالجمال، يجري في يسر العبارة، يجري في "فيك" بعد "عشقت" الأولى وفي "باء" "بأرض أجدادي" بعد "والفجر لما انتشر" يجري في موسيقى اللفظ، وحرارة القلب. ويعود القرار: عليك مني السلام ... إلخ، ثم تأتي المقطوعة الثانية ولعلها أجمل ما في النشيد: أهوى عيون العسل ... أهوى سواقيها أهوى ثلوج الجبل ... ذابت لآليها سالت كدمع المقل ... سبحان مجريها ضاعت كرمز الأمل ... بأرض أجدادي وهنا يجتمع الإحساس بالجمال الخاص، بالجمال الدال على وطن بعينه، الجبال ذات الثلوج تذوب كاللآلئ يجتمع إلى لوعة النفس، لوعة فيها روحية التصوف. سالت الثلوج كدمع المقل، سالت سبحان مجريها، ضاعت كرمز الأمل. ثروة روحية في تلك المعاني التي بلون بعضها وقد تدفقت في وحدة نفسية بالغة العمق! انظر إلى نار الوطنية تئج في تشبيه ثلوج الجبل الجميل كاللؤلؤ يدمع المقل، انظر إلى التصوف الديني في سبحان مجريها، انظر إلى العتاب القوي المثير للهمم في "ضاعت كرمز الأمل". ويعود القرار مرة ثالثة، ثم تصل إلى المقطوعة الأخيرة: يا قوم هذا الوطن ... نفسي تناجيه فعالجوا في المحن ... جراح أهلية إن تهجروه فمن ... في الخطب يحميه ياما أحيلي السكن ... في أرض أجدادي أوما يفعل هذا العتاب في النفس أكثر مما تفعل ألفاظنا الضخمة ونداءاتنا الغليظة المسرفة؟ فالنفس تناجي هذا الوطن، وقد نزلت به محن جرحت أهليه، هلا عالجتموها! وهأنتم تهاجرون التماسا لسعة الحياة، ولكن أما للوطن أن يلتمس فيكم حماته؟! هذا الوطن الجميل "ياما أحيلي السكن في أرض أجدادي"! عتبا فيه إغراء قوي حتى العبارة عذبة جميلة مؤثرة "ياما أحيلي السكن"، ياما أحيلاه في أرض أجدادي! هذا هو سحر الألفاظ، سحر مستمد من القلوب. ذلك هو شعر الأناشيد الذي يخاطب النفس فيحركها؛ لأنه يقوم على الإحساس

بجمال الوطن كما قلنا، على عشق هذا الجمال1، وأما الوطنية، وأما استنهاض العزائم، وأما الدعوة إلى الفداء، فكل تلك معانٍ لا يمسها الشاعر بظاهر اللفظ إلا في رفق يشبه الحياء، ولكن لكم نحسها قوية دامغة في حرارة النغمة، ولطف الإحساس، ونفاذ العبارة! وهذا هو سر الشعر، هوا لهمس إن أردت أن تعرف ما نقصد بذلك اللفظ الذي كأنه سر مغلق. وبعد، فأنا أخشى أن يكون مصدر ما في أشعارنا من غلظ ضعف في الحاسة الفنية، حاسة الإحساس بالجمال، ثم نقص في القدرة الحقيقية على الحب بمعناه الإنساني الصحيح، ويزيد هذا الخوف في نفسي وضوحا ما ألاحظه من أن شعبنا لا يفطن إلى شيء اسمه جمال في شجرة أو نهر، فجر أو غسق، وإنما يعرف ذلك من سمع منا أو تعلم أن هناك شيئا بهذا الاسم، وأن الله لم يخلق الأشياء لما فيها من نفع مادي للإنسان فحسب، بل خلقها أيضا لمعانٍ روحية، سل مثلا فلاحا عن جمال شيء، تحس لساعتك أنك تخاطبه عن أمر خلا منه ذهنه على الإطلاق! وليس لذلك سبب غير الجهل. فالإحساس بالجمال ذاته لا بد أن يوقظه العلم، واللبنانيون أكثر اتصالا منا بثقافة الغرب؛ ولذلك نضح إحساسهم، ورهفت أذواقهم، ونضجت نفوسهم، ومن هنا ترانا ندعو جاهدين إلى نقل الثقافة الغربية إن كنا نريد نهضة حقيقية، وما النهضة إلا نوع من الحياة لا أفكار تردد أو نظريات تسرد.

_ 1 وهذا الاتجاه الصحيح في كتابة الأناشيد ليس خاصا بالأدب العربي، فهو واضح في معظم الأناشيد الغربية، ولقد سبق أن ترجمنا نشيد "الرين" للشاعر الألماني نيقولا بيكر بالثقافة "عدد 166" وفيه يتغنى الشاعر بجمال نهرهم وجمال نبيذه وجمال بناته.

الأدب عسر لا يسر 1: منذ عودتي من أوربا بعد السنين الطويلة التي قضيتها بها وأنا أرسل للثقافة المقال تلو المقال فتنشر القليل وتمسك الكثير بحجة أن فيما أكتب عموضا وكثرة استطراد وإشارات إلى بعض الآداب الأجنبية، لا يستطيع القارئ المصري فهم معناها وقد خلا ذهنه مما تفترضه معلوما لديه من أسس الثروة العقلية التي يملكها مثقفو القوم في أوربا. والرأي عندها أنه من واجبنا أن نلحظ القارئ ونقدم إليه ما يتناسب وثقافته في وضوح وجلاء، وفي هذا إهدار لكل القيم، فالماء الوشل لا يعرف إلا لونا واحدا تتفق عليه كل الأبصار، ونحن نحرص على أن نترك له عمقه حتى تتهيأ له من تكافئ طبقاته تلك الألوان المتباينة تباين ما يلقى عليه من ضوء أو تنعكس فيه من ألوان السماء، وفي نفسي -إذ أقول ذلك- صور لبحيرة Bourget في جبال السفوا بفرنسا، فهناك تتغير ألوان مياهها بتغير حالات الجو وساعات النهار، فطورا تنحدر الأضواء عما يحيطها من جبال شامخة لتنتهي إلى صفحة الماء وكأنها مأخذ آلة مصورة تجتمع إليها الأشعة، فإذا بشدة البريق تلهينا عن لون مياهها، فكان البريق لونا، وطورا يخف الضوء بما انتشر فوقه من ظلال، وإذا بالماء في زرقة قاتمة أو خفيفة كالعين المبصرة. وكثيرا ما تعبس السماء فلا ترى إلا ما يشبه النحاس علاه الصدأ، وفي ذلك من الجلال مثل ما نحسه بإزاء أثر قديم قد كساه الزمن بذلك الطلاء القاتم، الذي يخلع على ما يكسوه من نبل القدم، ما يأخذ بكل نفسي صادقة الحس، وعلى شاكلة تلك البحيرة أود أن لو كان كل مقال، أود أن نترك له عمقه حتى لا يجد فيه كل قرئ ما يجد الآخر. والنفوس متباينة وبحكم هذا التباين نفسه لن نستطيع أن نقدم لكل منها ما تبغي، فالسبيل إلى تغذية النفوس بالحق والجمال لا يمكن أن يكون بغير ترك احتمالات لا حد لها ترقد تحت ألفاظنا فتلتقط منها كل نفس ما تريد. وحسبما كان لونها الدائم أو الموقوت، ونحن بعد ذلك لا نكتب لنسكب ما في نفوسنا في أنفس الغير، وإنما لنعين كل نفس على الوعي بمكنونها؛ إذ النفوس عامرة بكل حق وجمال، والمقال الجيد هو ما يأخذ بتلك النفوس إلى حيث يستقر منها ذلك الحق وذلك الجمال.

_ 1 هذه المقالة من أولى المقالات التي نشرت بالثقافة بعد عودتي من أوربا سنة 1939.

يخيل إليَّ أن الطبيعة البشرية كقطعة الرخام حلَّتها الطبيعة بأجمل "التجازيع" ولكنها مختفية كما هو الأمر في الرخام، ولكي تظهر تلك التجازيع لا بد لها من محك يذهب بالطبقة السطحية التي تخفيها. وهذا المحك في الطبيعة البشرية هو الحياة، فنحن إذ نكتب لا نفعل ذلك إلا لأن الحياة قد كشفت لنا عما في طبيعتنا من "تجازيع" نطلع الغير عليها لتعينهم على اكتشاف ما اكتشفنا، فيجدون في أنفسهم ما وجدنا، ذلك أنه وإن تكن تجاربنا الخاصة لن تغني الغير عن التجربة الذاتية، إلا أنه ما من شك في أن حياتنا الروحية خاضعة لقانون عام هو قانون "ادخار الطاقة" فالرواية التمثيلية نراها فتشفى النفس من غريزة مكبوتة أو أمل مكتوم، وكأننا أحيينا تلك الغريزة وحققنا ذلك الأمل، وهكذا تحل المشاهدة وما يصاحبها من مساهمة خيالية محل المزاولة الفعلية، وبهذا نجنب أنفسنا التجربة المباشرة، وندخر ما في جهدنا من طاقة، والأمر في الرواية كغيره في كل أثر أدبي أو فني. وإذن فنحن نكتب لنساعد الغير على اكتشاف نفسه، ونحن نريحه بتجاربنا من المزاولة الفعلية، وخلاصة تجاربنا في أكثر الأحيان ليست من الوضوح بحيث يُظن إلا أن تكون تجارب مدعاة. فالحياة لسوء حظنا أعمق من أن تسلم إلينا أسرارها. والخلق الأدبي ليس خلقا عقليا بل خلق حواس، فليس لرجل الفن أن ينتظر حتى تأخذ الصور الحسية عنده دلالتها العقلية، وإلا حكمنا عليه ببعد طبيعته عن إمكان ذلك الخلق، وإنما هو يأخذها عند نبعها، قبل أن تصل إلى نفسه فتسقط في الميدان العقلي الذي يشترك فيه جميع الناس، وكيف نستطيع أن ندعي الخلق بما هو شائع بين البشر؟ ومن هذه الصورة الحسية نصوغ ما نعرضه على القارئ وقد شاطرنا صفة الإنسانية واثقين أنه واجد في نفسه ما يماثلها. ونحن بعد ذلك لا نعرض عليه ما في نفوسنا من حب أو ألم تطفلا منا وزجا له فيما لا يعنيه ليضيق بنا نفسا، بل لإيماننا بأنه يحب ويألم كما نحب ونألم، والواقع أنه ليس هناك أي خلق أدبي يسند إلى حادثة بذاتها، فالكاتب للغزل لا يتغنى بامرأة بعينها بالغا حبه لها ما بلغ، وإنما أقصى ما يستطيع أن يفعل هو أن يحضرها إلى نفسه ليخلق جوا يستطيع بفضل ما يشيع فيه من حرارة أن ينفذ إلى صميم النفس البشرية إطلاقا. والفنان يعرف أنه صائر إلى الفناء، وهو منذ نشأته يحس أن في نفسه رسالة لا بد من أدائها، وهمه الأول هو تحديد تلك الرسالة وقد شاعت في نفسه غامضة، فليس لإنسان أن يزيده نصبا وقد شد عزمه لجمع ما انتثر من تلك الرسالة، ولا أن يطالبه بتأديتها دفعة واحدة، فلو أنه استطاع لما توانى، وإنما لنا وعلينا أن نمهله متلقين ما يحمل لنا من فتات، مقدرين له جهده، عالمين أنه خير للإنسانية أن تؤدي نفس واحدة رسالتها ولو نقطة نقطة من أن يملأ الناس آلاف الصفحات المستعارة.

هذا هو الأديب كما أظنه. وأما من يدعون الأدب بغير رسالة تطرب بها نفوسهم فتلك أرواح خلقت خطأ كما خلق أكثر الناس بغير سبب، ولا مبرر، إلا إتلاف الحياة على من يستحق الحياة. رأيت بمسرح الأديون بباريس رواية لإبسن lpsen هي رواية "بيرجنت" Pyr Gynt موضوعها خيالي استقاه المؤلف من أساطير البلاد الشمالية، ووضع لبعض أجزائها الموسيقى جريج Greeg ما زاد في دلالتها من ألحان، والذكرى التي علقت بنفسي منها هي ذكرى أحد أشخاصها الوهميين، وقد سار على المسرح وبذراعه سلة وبيده الأخرى "مجراف" وقد أخذ يجرف من يلقاه من الناس الذين خلقوا خطأ، يلقيهم بالسلة ليعود خلقهم من جديد رحمة بهم وبغيرهم ممن يشاركون في صفة الإنسانية. وكلما فكرت في أمر الأدب أو الفن عندنا عاودتني تلك الذكرى، وبودي لو ساقت هذا الرجل قدماه إلى بلادنا. فما أشك أنه واجد ما يملأ أضعاف سلته. فالأدب عندنا يزجيه فراغ أو احتيال على العيش، وفي هذا امتهان لحياتنا لا حد له، وهو إن سعى إلى غاية جاءت غايته حقيرة، فمن قائل: إنه منبر وعظ سبيل إرشاد، ومن قائل: إنه مصري أو يجب أن يكون مصريا، والكل يجمع على ضرورة تيسيره لكافة الناس حتى نكسب من ورائه المال. وأنا بعد أعلم أننا بوجه عام لم نزل في حالة فطرية حيث تقاس الأشياء بما تعود به من نفع مادي أو معنوي مباشر، وأنه لا بد لنا من زمن حتى نصل إلى تفدير الحق والجمال في ذاتهما. ولكن أما لنا أن نحاول بسط أجنحتنا؟ وشباب هذه الأمة يحتفز نشاطا، فما له لا يأخذ عدته، فيبحث وينقب عما نشير إليه، يغني بتفاصيله نفسه؟ فرجاؤنا إلى الشباب اليقظ أن يرجع إلى ما يشير إليه الكاتب، فيستوعبه ليرى أثره العام في نفسه، وليذكر مثل هذا الشاب أن الثقافة الحقيقية "هي ما يبقى في النفس بعد أن نسى ما حصلنا"، وهذه الثقافة هي ما نحاول أن نمده بها، وإن يكن ذلك غير منغنيه عن الرجوع بنفسه إلى كتب البسط، فمهمتنا ليست في ذلك، وإنما هي في تعليمه كيف يجد نفسه. الأدب عسر لا يسر، وما ينبغي أن يكون غير ذلك، على أنك مجازي بغير ريب عن جهدك، فسترى أمامك عوالم لم تحلم بها من قبل، وسيأتي يوم يخيل إليك فيه بمجرج نظرة -أنك تشق الحجب فترى في النفوس ما تكنه من جمال أو قبح، كما سترى خلف الأشياء ما فيها من حق أو باطل، وأي كسب يعدل كسبا كهذا؟ وأي معنى للحياة بغير الفطنة إلى أسرارها وغاياتها؟

مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء

مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء الأدب ومناهج النقد النقد الذاتي والنقد الموضوعي ... الأدب ومناهج النقد: البحث عن الحقائق في الإنسانيات شاقٌّ؛ لما هو واضح من أن مثل المرء عندما يحاول فهم نفسه كمثل العين تبغي رؤية نفسها، والنفوس بها وحدات قل أن تتشابه في غير جوانبها العامة التي لا تعني الأدب في شيء، ومثلها في ذلك مثل كل الكائنات، فأنا أعرف شجرة الزيتون أو شجرة الرمان، وأما مطلق شجرة فهذا ما لا أكاد أدركه، وبالمثل أعرف شكسبير أوجيته، وأما مطلق رجل فذلك ما لا وجود له في الواقع؛ بحيث يخيل إلَيَّ أن في تفكيرنا فسادا أصيلا، مصدره ذلك التجريد الذي مكنتنا منه ألفاظ اللغات. ولهذا أراني دائما شديد الحذر من كل تعميم، فقد أستطيع أن أطمئن إلى تصوير أديب ما لنفسية ما في رواية ما، ولكني أرفض أن أثق بما يقوله الفلاسفة أو علماء النفس عن الإنسان إطلاقا أو ملكة من ملكاته؛ لأني أحس دائما أن حديثهم لا يلقى حقيقة أي نفس ممن أرى حولي. وإذا صح أن النفوس وحدات غير متشابهة في خصائصها المميزة، وأن التجريد حيلة عقلية، وضح ما في البحث عن حقيقة الأدب وقيمه الفنية من صعوبات. النقد الذاتي والنقد الموضوعي: يقرأ الناقد القصيدة من الشعر ثم يتساءل عن رأيه فيها، وإذا به يصدر ألوانا من الأحكام يسمون بعضها "قيمية" وهي ما تدور حول الجودة وعدمها، في سلم للقيم يضعه كل ناقد لنفسه، وبعضها "واقعية" يستمدها من حقيقة ما ينقد، كوصفه للقصيدة بأنها شعر عقلي أو عاطفي أو حسي، وأحكامه في كلتا الحالتين إما أن تكون مطلقة وإما أن تكون نسبية، أي مردودة إلى ملابسات القصيدة، من حالة نفسية لقائلها أو ظروف خاصة بعصره أو ضرورة لموضوع الشعر، أو ما شاكل ذلك مما ينقل الحكم من الإطلاق إلى النسبية. فإذا كان رأيك عن "قيمة" القصيدة كانت أحكامك "مطلقة" جاء نقدك -فيما يقولون- نقدا ذاتيا، وإلا فهو موضوعي.

وهذا قول يبدو سليم المنطق، ولكنك ما تكاد تمعن النظر حتى تحس بوهنه؛ وذلك لأن كل حكم قيمي لا بد راجع إلى حكم واقعي، فالناقد الذي يحتمي وراء ما يسميه ذوقه الخاص إنما يحيلك في حقيقة الأمر على مجموعة من الآراء السابقة المقررة، التي تبلورت في نفسه بوعي منه أو على غير وعي، بحيث نستطيع أن نقول: إن الذوق ما هو إلا راسب من رواسب العقل الخفية. يقسم ابن قتيبة الشعر -مثلا- إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه. وفي تلك التقاسيم والألفاظ ما يدل على أحكامه قيمية، بدليل قوله "حسن" "جاد" "وحلا" و"قصر" "وتأخر"، وهي أحكام مطلقة إذا لم يعلقها على توافق بين لفظ ومعنى أو بين قائل ومقول أو بين الشاعر وعصره، فهو إذن ناقد ذاتي. ومع ذلك ما تكاد تمعن البصر حتى ترى أن أحكامه القيمية هذه تستند إلى حكمين تقريرين سابقين هما اللذان أملياها: 1-أولهما أن اللفظ في خدمة المعنى، وأن المعنى الواحد يمكن أن يعبر عنه بألفاظ مختلفة يحلو بعضها ويقصر الآخر. 2- ثانيهما أنه لا بد لكل بيت من الشعر من معنى. ولنناقش هذين الرأيين. فأما اللفظ في خدمة المعنى أو للعبارة عنه فنظر جزئي هو الذي تلف ذوق ابن قتيبة على غير وعي منه، بل هو إحدى تلك المسلمات التي أفسدت الكثير من أدبنا العربي ومن نقد نقادنا؛ وذلك لوجوب التمييز بين نوعين من الأساليب: 1- الأسلوب العقلي الذي نستخدمه في العلم والتاريخ والفلسفة وأدب الفكرة إن صح أن يسمى ذلك أدبا. وعلى هذا الأسلوب تصدق وجهة نظر ابن قتيبة؛ إذ اللفظ عندئذ لا يقصد منه إلى غير العبارة عن المعنى، بل نحن نذهب إلى أبعد مما ذهب إليه العرب، فنقول: إن المعنى الواحد لا يمكن أن يعبر عنه إلا بلفظ واحد، فاللغات لا تعرف -ولا يجب أن تعرف- الترادف. وأمر الألفاظ كأمر الجمل، فالكاتب الحق هو الذي لا يطمئن حتى يقع على الجملة الدقيقة التي تحمل ما في نفسه حملا أمينا كاملا، بحيث تصبح العبارة كجسم حتى لا يمكن أن ينتقص منه أو يزداد عليه شيء. والتحدث عندئذ عن العلاقة بين اللفظ والمعنى كالتحدث عن شفرتي مقص، والتساؤل عن جودة أحدهما

كالتساؤل عن أي الشفرتين أقطع، وإنما لك أن تحكم على المعنى المعبر فتقبله كرأي مصيب أو ترفضه كرأي باطل. 2- الأسلوب الفني: وهذا هو أسلوب الأدب بمعناه الضيق كما يفهمه الأوربيون؛ بل هو الأدب ذاته إذا سلمنا -كما سنرى- أن الأدب "هو العبارة الفنية عن موقف إنساني في عبارة موحية". واللفظ عندئذ لا يستخدم للعبارة عن المعنى، بلب يقصد لذاته؛ إذ هو في نفسه خلق فني، فمن اليسير مثلا أن نقول: "إن وقت الظهيرة قد حان" فنؤدي المعنى الذي نريد أن ننقله: إلى السامع، ومع ذلك يقول الأعشى: "وقد انتعلت المطي ظلالها" للعبارة عن نفس المعنى، فنحس لساعتنا أن عبارته فنية: "وسارت الإبل في الصحراء عائدة من الحج" كما يقول ابن قتيبة وكما يريد أن يفهم من قول الشاعر: "وسالت بأعناق المطي الأباطح". ولكن عبارة الشاعر عبارة فنية قصد منها إلى نشر ذلك المنظر الجليل، أمام أبصارنا، منظر الإبل قادمة من مكة متراصة متتابعة في مفاوز الصحراء، وكأن أعناقها أمواج سيل يتدفق. وكذلك يستطيع مؤرخ أن يقول: إن العرب أنهكوا الفرس. وأما الأعشى فيقول: إنهم ترقوهم "وقد حسوا بعد من أنفاسهم جرعا"، ولقد نصف الصحراء بأنها جرداء تمل عابريها، وأما الشاعر فيقول: "وغبراء يقتات الأحاديث ركبها" وفي هذه الأمثلة الأربعة أربعة أفعال: "انتعل" و"سال" و"حسا" و"اقتات"، وهي أمارة الفن في العبارة، ولها وظيفتان: أولاهما: أنها تعبر عن المعنى عبارة حسية؛ لأن كلا منها يحمل صورة تدركها الحواس، فالإبل تنتعل الظل، وأعناق المطي تسيل في الصحراء، والفرس يجرعون أنفاسهم، والركب يقتات الأحاديث، وهذه خاصة من أهم خصائص الأسلوب الفني، وأعني به أن "تصاغ العبارة من معطيات الحواس"، وذلك على خلاف الأسلوب العقلي؛ حيث تكثر المعاني المجردة والألفاظ المجردة التي إن حملت صورة فصورة عامة كتلك التي نجدها في معظم تلك الألفاظ التي أصبحت "مجازات ميتة" أمثال: الرفعة، الانحطاط، التي لم يعد أحد يفكر فيما اشتقت منه من "رفع" و"حط". ووظيفتها الأخرى أنها تربط بين عوالم الحس المختلفة، فتحررنا مما اضطرانا إليه ضعف عقلنا من تقاسيم مفتعلة؛ وذلك لأنه ليس من الصحيح أن كل حاسة من حواسنا قد ذهبت بطائفة من المدركات، ولا أدل على ذلك من أننا

نستطيع أن ندرك الفجر، وأن نحس بنداه في نفوسنا بطرق شتى من حواسنا، عن طريق الأذن عندما نسمع لحنا موحيا، وعن طريق البصر إذا ما رأينا أول أشعته رؤية مباشرة أو في لوحة فنان، بل إن من النحاتين من استطاع أن يحمل الحجر وقعه في النفس، بأن مثل فتاة تخلع عنها غلائل النوم، وإلى ساقها طائر يبسط جناحيه البليلين، والشعراء بدورهم يصلون إلى ما يصل إليه كل هؤلاء، عندما يحدثنا أحدهم عن بزوغه وقد لاحت بالآفاق "أصابعه الوردية" بما فيها من رقة وصفاء. وإذا صح أن معطيات الحواس تتلاقى في النفس التي تكون كلا لا يعرف تقاسيم العقل، استطعنا أن نفهم معنى الخلق الفني عند الشعراء؛ إذا كثيرا ما يكون بفضل إمكان تبادل الحواس صورها إمكانا نفسيا لا شك فيه، فهذا شاعر إنجليزي يطيل التحديق في ضوء المصباح فيقول: "إنه أخذ ينظر إلى الصمت في جوف الضياء"، وذلك آخر فرنسي يتحدث عن أزهار الربيع التي ترسل عطرها إلى السماء كما يرتفع البخور إلى قباب الكنائس، فترى الأول وقد تمثل الصمت شجا يرى، بينما بعثت نشوة الربيع بالآخر ما يشبه إيمان اليافع في قوته، فرأى الطبيعة معبدا تحوطه آفاق السماء وكأن عطر الزهر بخور، ومن الشعراء من يذكر "شربه" "للون" الشمس السائل، ومنهم من "يرى" ضوء أمسية الخريف في نعومة اللؤلؤ. بل إن منهم من تتلاقى في عبارته وحدة النفس بوحدة الوجود على حد قول بودلير: "إن الأشياء تفكر خلاله كما يفكر خلاله"، وذلك عندما تأخذه نشوة الأحلام، فإذا بذاتيته قد امحت لتخلط بما يحوطه من جلال الطبيعة، ولكم من مرة نستمع إلى "همس" الرياح، فنفهم أنفسنا بصور الأشياء، كما نخلع على الطبيعة معاني الإنسان، ولكن تهزنا كلمة كيتس. "عندما يأتي إلى جواري عصفور ينقر الحصى يخيل إليَّ أني أنقر معه وأني أشاطره حياته". وفي هاتين الوظيفتين ما يساعد على إيضاح تعريفنا للأدب بمعناه الصحيح "إنه العبارة الفنية عن موقف إنساني، عبارة موحية"؛ إذ من البين أن كل أدب هو قبل كل شيء صياغة لموقف إنساني، وأن بين الأمرين رابطة وثيقة؛ إذ في تلك الصياغة يتركز موقف الكاتب مما أمامه من عالم النفس أو عالم الطبيعة، وفي الصيغة التي يختار ينساب ذلك العنصر الشخصي الذي يميز الأدب عن التفكير المجرد، فهو يضيف إلى موضوع مشاهدته عنصرا من نفسه أو يتلقى منه عنصرا،

ومن تمازج العنصرين تخرج الصور التي تحقق وحدته النفسية أو تصل بينه وبين العالم الخارجي. ولتلك الصور قدرة على الإيحاء لا يمكن أن يصل إليها أي تعبير مجرد؛ وذلك لأنه من الثابت أن العبارة الحسية أغنى بقوة رمزها، وما قد يرقد تحتها من احتمالات أو ما تستدعي من إحساسات وخواطر، من العبارة المجردة التي لا تمتلك عادة غير محمولها المحدد. وهذا هو الأدب؛ إذ فيه عناصره الثلاثة: 1- عبارة فنية. 2- موقف إنساني. 3- قوة إيحاء. وقد اتحدت تلك العناصر في وحدة متينة هي وحدة الفن! وأمر الصياغة في الأدب الفني ليس أمرا شكليا، كما ظن معظم نقاد العرب، فهو ليس أمر مجازات أو تشبيهات تتعلق بظواهر الأشياء، أو تستخدم لإيضاح المعنى أو تقويته، بل أمر الخلق الفني في صميم حقيقته النفسية، كما وضحنا، فالشاعر الذي يشرب لون الشمس أو يحس به في نعومة اللؤلؤ، لا يقصد إلى تجميل معنى أو تنميق عبارة، وإنما يخلق قيمة فنية، لها أصولها في نفسه، ومن هنا يتمايز الكتاب بطرق صياغتهم، وأدق ما يكون ذلك التمايز في موسيقى كل منهم، والذي لا شك فيه أن لكل نفس موسيقاها الداخلية، وأن الأسلوب هو مرآة تلك الموسيقى، وأن الكاتب الأصيل العميق هو من تحس بموسيقاه دون أن تستطيع إدراكها. والأمر بعد كثيرا ما يعدو الكتاب إلى الشعوب في حدود ما يتشابه فيه أفراد الشعب الواحد، وذلك بنوع خاص في الحكم والأمثال الشعبية؛ ولهذا ترى العربي يحدثك عن "إهداء التمر إلى هجر"، والإنجليزي عن "حمل الفحم إلى نيو كاسل"، والمصري الشعبي عن "بيع المية في حارة الساقين"، وتلك عبارة فنية مختلفة لأداء معنى واحد هو "إعطاء الشيء لمن لا حاجة له به". إلى شيء من كل هذه الحقائق لم يفطن ابن قتيبة، فجاء ينقد الشعر في ألفاظه ومعاينة بما يحسبه البعض ذوقا خاصا، وهو في حقيقة رأي سابق مقرر عن خدمة اللفظ للمعنى وإمكان العبارة عن المعنى الواحد بألفاظ مختلفة يحلو بعض ويقصر البعض كما يقول دون فهم منه ولا تفصيل لأنواع الأساليب وطرق العبارة، مما أفسد الكثير من أحكامه.

مشكلة المعنى

مشكلة المعنى: وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة بين اللفظ والمعنى، كذلك يستند إلى إحدى المسلمات الأخرى، وهي ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني. وبمراجعة الأمثلة التي أوردها يخيل إليَّ أنه يقصد بالمعنى أحد أمرين: 1- فكرة. 2- معنى أخلاقيا. فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية لخلوها فيما يقول من كل معنى مفيد: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على حدب المطايا رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة بقوله: "ولما قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأباطح" لا تحمل أية فكرة، وإنما هي قصص فني رائع، سبقنا الجرجاني في "دلائل الإعجاز" إلى إظهار ما بها من صور أخاذة، وخصوصا في الشطر الأخير "وسالت بأعناق المطي الأباطح". ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الآداب الأوربية الحديثة قد شهدت مذهبا قويا في أواخر القرن التاسع عشر، مذهب أمثال Hreedia هرديا وGoutier جوتييه ممن يقولون بالفن للفن، ويجعلون من أسس مذهبهم نظرتهم إلى اللغة نظرة المثالين إلى مقاطع الرخام، أولئك ينتزعون من اللغة صورا وهؤلاء تماثيل، مع ذلك لم يجرؤ أحد أن يقدح في أدبهم أو يخرجه من فنون الشعر لخلوه من المعاني، وقد رأينا أي دور تلعبه الصور في حياتنا النفسية التي تعذيها كل الفنون، كما رأينا في الأمثلة التي سقناها من الأعشى وغيره تفاهة ما بها من معنى تفاهة لم تنل مما بها من قيم فنية. وأما تطلبه لمعنى أخلاقي فواضح من إعجابه بأمثال قول القائل: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع

هذه النظرة -نظرة الفقيه ابن قتيبة- بدورها نظرة ضيقة؛ إذ من الواضح أن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكار، وأن من أجوده ما يمكن أن يكون مجرد تصوير فني، كما أن منه ما لا يعدو مجرد الرمز لحالة نفسية رمزا بالغ الأثر قوي الإيحاء؛ لأنه عميق الصدق على شخصيته، ولعلني لا أعرف لذلك مثلا خيرا من قول شاعرنا العربي الدقيق الحس ذي الرمة، وقد حط رحاله بمنزل الحبيبة وتفقدها فلم يجدها: عشية ما لي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الترب مولع أخط وأمحو الخط ثم أعيده ... بكفي والغربان في الدار وقع فأي معنى يريد ابن قتيبة من هذه الصور الجميلة الصادقة، صورة شاعر أصابه الحزن بالذهول، فجلس إلى الأرض منهكا يائسا يخط ويمحو الخط بأصابع شرد عنها اللب، فأخذت تعبث بالرمال، وفي الغربان الواقعة بالدار ما يملأ الجو أسى ولوعة. وهل أصدق من هذا وصفا؟ وهل أقوى منه على إيحاء؟ ولعله صدقه في تناهي بساطته. وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيق عندما يتطلب معنى في كل بيت من الشعر. كما ظهر لنا فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا تفسير لضعف ما يسمونه ذوق هذا الناقد. والأمر عند ابن قتيبة كالأمر عند غيره ممن نسمي منهجهم بالمنهج الذاتي، فأحكامهم القيمية تستند دائما إلى أحكام واقعية؛ بحيث نستطيع أن نخلص من هذا المقال بالنتيجة التي سبق أن عبرنا بأن الذوق ليس في الحقيقة إلا راسبا من رواسب العقل الخفية، وأن كل نقد ذاتي هو في حقيقته نقد تقريري.

أبو العلاء والنقد

أبو العلاء والنقد: لعل أبا العلاء من أكثر من تناوله النقاد بالدرس من بين شعراء ومفكري اللغة العربية. وما نريد اليوم أن نعرض للأبحاث التاريخية التي درات حوله كأبحاث نيكلسون ومرجوليوث وسلمون وفون كريمر والراجا كوتي، فتلك تستند إلى مناهج في البحث التاريخي، أكثر اعتمادها على الأدلة النقلية، وهي كتب علمية، نصيب الأدب أو النقد الأدبي منها محدودة، وهي وإن تكن غنية بالتفاصيل التي لا بد لمن يريد الحديث عن أبي العلاء من الإلمام بها، إلا أنها لا تغني عن ضرورة تخطيها إلى الفهم العام لنفسية أبي العلاء فهما لا يستقيم نقد بدونه، بل إنه لمن الواضح أن أمثال تلك الأبحاث قد تميت أبا العلاء بدلا بما يفيدون من تجارب الغير، ينفذون إليها ويضيفون إلى حيثيتهم الخاصة، التي لا يمكن أن تتسع لكل أنواع التجارب البشرية، وتلك مهمة الأدب الأساسية، إذا فقدها لم يعد لوجوده معنى إلا أن يكون ضربا من العبث بالأفكار والألفاظ، يلهو به الناس أو يلهون الغير. وإذن فالنقد التاريخي تمهيد للنقد الأدبي، تمهيد لازم، ولكنه لا يجوز أن نقف عنده وإلا كنا كمن يجمع المواد الأولية ثم لا يقيم البناء، وأنا بعد لا أجهل فضل هؤلاء الباحثين الذين يتوفرون على الكشف عن وقائع الحقائق، كما أدرك مدى النشوة العقلية التي يجدونها في شق الحجب عما نجهل من تفاصيل، بل أعلم أن الأبحاث التاريخية ما ينتهي برد العناصر المستقاة عند الشاعر أو الكاتب إلى أصولها التي استمدت منها، وبذا تبصرنا بما عندهم من أصالة، ولكني في الحق شديد الحذر من كل تلك الأبحاث، ولا أكاد أطمئن إلى نتائجها من الناحية الإنسانية؛ وذلك لأني لا أفهم الأدب -كما قلت في مقالي السابق- إلا على أنه تعبير فني عن تجارب بشرية، والكاتب أو الشاعر لا يواجه الناس أو الأشياء وفي نفسه عناصر أصيلة ومستقرة، وإنما يواجههم بنفس مجتمعة موحدة كقطرة من المياه لا تمايز بين ذراتها، وإنه لينفعل بالأشياء والناس كما تتردد الأصداء في أنحاء بناء تام. وإن كانت للأديب صفة نفسية فهي على ما أرجح تلك الوحدة التي تختلط فيها الأفكار بالمشاعر والإحساسات حتى أن في خياله فكرا وفي شعوره نظرًا.

ونحن إذ نترك النقد التاريخي إلى النقد الأدبي لا نلبث أن نعثر بأنواع من النقد التقريري الذي لا أحسبه أقل خطرا على الأدب الحي من سابقه، وهنا لا بد من التمييز بين نوعين متباينين من النقد الأدبي. فهناك نقد الشعراء والكُتَّاب الذين نادوا بمذاهب معينة في الأدب أو الفن، هذا نوع من النقد نسميه إنشائيا ولا نعرض له بتأييد ولا تجريح، وإنما يكون مجال الحديث عنه إذا واجهنا ما يدعو إليه، فنقبله أو نرفضه تبعا لما نبغي من الأدب. فلشاتوبريان مثلا أن يفضل وحي المسيحية في نظره إلى الطبيعة على وحي أساطير اليونان، وله أن يقول: إن المسيحية قد ردت إلى الطبيعة ما بها من صمت عميق يحنو على النفس فيرفعها إلى الله، بينما ملأ اليونان حنايا الطبيعة بآلهة وربات استقرت بكل غابة وكل نبع وكل جبل وكل يم، حتى لم تعد الطبيعة معبدا مقدسا، بل حظيرة لكائنات غريبة، ولهيجو أن يدعو إلى الرومانتزم، ولغيره أن يدعو إلى غير الرومانتزم من المذاهب المعروفة في أوربا، والتي نرجو أن تنشأ عندنا يوما ما جماعات تدعو إلى مثلها وتقتتل في سبيلها عن إيمان. وهناك نقد الأدباء والمفكرين الذي نسميه وصفيا؛ لأنه يتناول التراث الأدبي الذي خلفه الكتاب والشعراء السابقون والمعاصرون، وكل نقد من هذا النوع نقد تقرير، كما رأينا في المقال السابق، وهنا نصل إلى مشكلة النقد الأساسية. وذلك لأنه من حقنا أن نتساءل: هل من الممكن أن نستقري مما بين أيدينا من أمهات المؤلفات الأدبية أصولا عامة للأدب على نحو ما استقرى النحويون قواعد اللغة من الاستعمال، أو استقرى الفلاسفة المنطق من مقولات اللغة؟ وهبنا استقرينا أصولا كهذه أتراها متحكمة فيما ينتج الأدباء اليوم أو سينتجون في الغد على نحو ما تتحكم قواعد اللغة أو المنطق في تعبيرنا أو تفكيرنا؟ وهل من الخير للأدب أن نقبل هذا القياس؟ بل هل من الممكن أن نقبله؟ والواقع أن لدينا طائفة من المبادئ قد استقراها النقاد بالفعل في كل فرع من فروع الأدب، ومرد الكل إلى أرسطو في كتابيه عن "الشعر" و"الخطابة" ولكنه لسوء الحظ قد حدث في الأدب ما حدث في اللغة؛ إذ جنح الناس إلى اتخاذ تلك المبادئ -التي كانت في الأصل مجرد ملاحظات- كقواعد آمرة على نحو ما نفعل في قواعد اللغة؛ إذ نحاول أن نتخذ عنانا يثني عن كل تطور، فيه لا شك إثراء للغة، كما أنه في طبائع الأشياء باعتبار اللغة أداة يستخدمها أحياء دائمو التقدم أو على الأقل التغير. هنا يظهر سخف أصول النقد المدعاة. ولكن ذلك لا يذهب بكل قيمته، فنحن

لا نستطيع أن نتجاهل كل ما جرى عليه كبار الكتاب، كما لا نستطيع أن نتجاهل كل قواعد اللغة وإلا كنا جهلة، نخفي جهلنا وكسلنا خلف حرية باطلة ندعيها، فنفسد حياتنا بالعبث بأداة تفاهمنا وإدخال الاضطراب في أصولها. بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنرى في تلك الأصول الأدبية عونا على الخلق وادخارًا للطاقة، ولا أدل على ذلك من أن الشعر نفسه -وهو أخص ما تمتاز به الآداب- هو أكثر فنونها خضوعا للقواعد. ولكم من شاعر يحدثك عما وقع عليه من صور رائعة، أو عبارات دالة بفضل ضرورة القافية مثلا أو استقامة الوزن! وإذن فهناك قواعد تؤيدها أمهات الآثار الأدبية التي خلفها كبار الأدباء، ولؤلاء من القداسة ما يحملنا على احترام ما صدروا عنه من أصول، ولا معدل لنا أردنا أن نصل إلى مثل ما وصلوا إليه عن أن نهتدي بهم، ولكن على شريطة أن نميز بين عنصرين في الأدب: 1- عنصر التجربة البشرية. 2- عنصر الصياغة، ننظر فيها على ضوء الأصول الأدبية. وأنا أميز بين التجربة البشرية وصياغتها وبالصدر حرج؛ وذلك لأننا مضطرون إلى التمييز اضطرارًا وإن كان الواقع أن بين العنصرين تداخلا قويا، يكاد يكون وحدة في كثير من الأحيان. فالعنصر الشخصي الذي يميز كل أدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي كثيرا ما يكون في الصياغة. ومع هذا يجب أن نفهم التجربة البشرية في ذاتها، وهذا الفهم ليس بالهين؛ إذ الأمر بين الكاتب والقارئ أشبه ما يكون بأمر الأواني المستطرقة. فنحن لا نفهم عن الغير إلا إذا اتصلت نفوسهم بنفوسنا، وفهمنا محدود بقدرتنا على الاستجابة، بل كثيرا ما نخطئ فهم ما نقرأ لأننا نحمله فوق ما تستطيع أن توحي به ألفاظه، أو نرى فيه ما لم يخطر ببال قائله، إن لم نجد بمعاينة وفق هوانا حتى لكأننا نقرأ ما برءوسنا لا ما تقع عليه أعيننا. وفي كل هذا ولا ريب إثراء للآثار الأدبية، ولكنه أيضا موضع خطر قد يبلغ أحيانا مبلغ السفسطة الباطلة، وهذه مشكلة تستحق أن نقف عندها قليلا. وفي الحق أني لا أعرف أصدق من كلمة للأديب الإنجليزي إيليوت "Eliot" يقول فيها: "إنه لم يؤثر في الآداب القديمة شيء قدر ما أثرت الآداب الحديثة"، وتلك ظاهرة عمت على الشرق والغرب، ففي فرنسا مثلا رأينا ناقدا كبيرا برونتيير "Brunetiere" يطبق نظرية التطور اللاحقة على الأدب السابق، فيحاول أن يثبت أن أنواعه المختلفة

قد صدر بعضها عن بعض، كما صدر وهم دارون الإنسان عن القرد فيقول: إن مادة الشعر الرومانتيكي هي مادة الخطابة الدينية في القرن السابع عشر؛ لما شاهده من حديث الشعراء الرومانتيكي عن بؤس الحياة وفنائها المستمر وما شاكل ذلك، في نغمة حارة تشبه من قريب أو بعيد نغمة الخطابة، والأمر عندنا أخطر. فها هو الأستاذ العقاد يقحم النظريات الفلسفية التي تقوم كمذاهب ذات أسس نظرية عميقة شاملة في ميدان الأدب، فيكتب فصولا طويلة ليدلل على أن أبا العلاء قال بالاشتراكية أو ببقاء الأصلح وما إلى ذلك، مما قد يدل على براعة الناقد، ولكنه لا يغني شيئا عن فهمنا لنفسية أبي العلاء ومأساته التي صدر عنها في كل ما كتب من شعر إحساس أو فكرة. ولقد يلقي الأستاذ أمين الخولي محاضرات عامة عن أبي العلاء، فيأتي الجزء الأول منها مستندا إلى مسلمات غير ثابتة، فهو يفترض أن المفكر الحق هو من يسير في حياته وفق تفكيره، وأبو العلاء لم يفعل ذلك، وإذن فهو ليس مفكرا حقيقيا. وهذا قول مردود لما هو معروف عن تاريخ الفلاسفة، أمثال بيكون وسينيك مثلا من تناقض واضح بين حياتهم وتفكيرهم، ولما هو ثابت بداهة من أننا لا نسير في الحياة بعقولنا، بل بقوى دفينة، أغلبها عضوي المصدر، ولكم من مرة نأتي الشر ونحن نعلم أنه شر ولا نستطيع أن نمسك عنه. وهو يحرر قوائم بتناقض أبي العلاء في كل نواحي المعرفة وسبلها، ثم يخلص من ذلك في النصف الثاني من بحثه إلى أن كل ما كتبه أبو العلاء إن هو إلا خواطر شاعر، وأن مصدر تناقضه هو "مركب نقص" قال به فرويد منذ سنين فلم يأتِ بجديد، وإنما أسرف فيما كانت تعلم الإنسانية من حق منذ قرون، وعممه واتخذ منه مذهبا، وأتى الأستاذ الخولي فطبقه على أبي العلاء، فياعجبا! ولم يدفع هذا المركب أبا العلاء إلى اعتزال الحياة، بينما دفع بشارا مثلا إلى المغامرة فيها باستهتار لم نعهده حتى في المبصرين؟ وللدكتور طه حسين كتابان عن أبي العلاء: أولهما "ذكرى أبي العلاء" وهو كتاب طه حسين الشاب الذي كان لا يزال في حماسته الأولى لمناهج البحث العلمي وأقسام الفلسفة، وهو يعد قريب عهد بالثقافة الأزهرية التي تحرص على محفوظها تستعيره لأداء ما تريد لجمال ما تسشهد به من منقول نثرا كان أو شعرا، في هذا ما يدعو إلى الانصراف عن مجاراة فكرتنا الأصلية لنمهد للشاهد، فهو منذ المقالة الأولى يريد أن يلم بعصر أبي العلاء -وفقا لمناهج

البحث الحديث- "إلمامة الطغرائي بالجزع، تلك التي تمناها لتنقع غالته وتشفي علته، ولتثلج فؤاده، وتفيض على نفسه العافية والسلام". لعل إلمامة بالجزع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي وهو يلم به إلمامة مهما تكن قليلة قصيرة المدى فهي شاملة الخير موفورة النفع عظيمة الغناء. ألما بمي قبل أن تطرح النوى ... بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها فإن لا يكن إلا تعلل ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها وهذا كلام جميل وشعر جميل، يدل على ذوق أدبي مرهف، ولكنه ليس من مقتضيات مناهج البحث الحديثة، وما نترك الجزء الأول من الكتاب الذي يلم فيه المؤلف بعصر أبي العلاء وتاريخ حياة أبي العلاء لنصل إلى فلسفة أبي العلاء وشعر أبي العلاء حتى نجد طائفة من التقاسيم المدرسية التي تقف عند الشكل دون أن تمس الصميم، فهو يدرس شعره في أبواب من مدح وفخر ووصف ورثاء ونسيب ودرعيات ولزوميات، ثم ينتقل إلى نثره بما فيه من نقد وسخرية وخيال ومهارة لغوية. فيتحدث عنه حديثا موجزا غير واف، حتى إذا انتهى إلى فلسفته اصطنع لدراستها تقسيم المسلمين للفلسفة إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الفلسفة الطبيعية أو العلم الأدنى، والثاني: الفلسفة الرياضية أو العلم الأوسط، والثالث: الفلسفة الإلهية أو العلم الأعلى، والرابع: الفلسفة العملية. ثم يتحدث عن كل تلك الأقسام عند العلاء فيورد شعره في المادة والزمان والمكان وتناهي الأبعاد، ثم الله والجبر والروح والتناسخ والجن والملائكة والنبوات والبعث وأصل الإنسان والغرائز والدنيا والعدم والزواج والمرأة والسياسة والاقتصاد والحيوان والعزلة. وما نظن دراسة كهذه نستطيع أن تنتهي إلى فهم أبي العلاء، ذلك الفهم الرائع الذي انتهى إليه نفس المؤلف في كتابه الآخر الذي ألفه حديثا، وقد تمت خبرته واتسعت آفاقه، كتاب "مع أبي العلاء في سجنه"، ولكم يخيل إلينا أن كتاب "ذكرى أبي العلاء" أشبه ما يكون بقطعة من الأثاث، تامة التركيب معدة الأدراج أتى المؤلف فملأها، مع أن أبا العلاء لم يكد يثبت على رأي، وإن ثبت فعلى إحساسه بالألم، ولكن طغيان المعرفة الأولى بالفلسفة هو الذي وجه المؤلف تلك الوجهة المدرسية الشكلية. ونحن بعد ذلك لا نجد في هذا الكتاب عن رسالة الغفران العظيمة الخطر في أدبنا العربي شيئا يذكر، لا عن وحدة تأليفها، ولا عن فكرتها وروحها، ولا عن

طرق الأداء فيها، وأما الكتاب الثاني لنفس المؤلف فهو فيما أعتقد خير ما كتب عن أبي العلاء؛ وذلك لأنه لا يقف عند التفاصيل والأقسام المدرسية التي تفسد وحدة أبي العلاء، بل يتناوله كتجربة بشرية، يقصها بأسلوب جميل ووسائل روائية تغرينا بالقراءة، ولكننا هنا نقع على خطر آخر؛ وذلك لأن المؤلف لم يكد يخلص من طغيان النظرة التعليمية التي ظهرت في أوائل حياته، حتى ضرب في آفاق الثقافة الأوربية، يحاول في إيمان أن يدخلها في مجرى تفكيرنا، وهذا اتجاه نافع نحن في أشد الحاجة إليه، ولكن على أن نستخدمه في حذر، ولا نسرف في الركون إليه، وأوضح ما يظهر هذا الإسراف في مقارنات المؤلف، ومن هنا لا بد من الوقوف عند هذه الناحية لما لها من عظيم التأثير في توجيه أدبنا الحديث، ولما لهذا المنهج من خطورة. وأول ما نلاحظ هو عدم التفرقة بين البحث عن المؤثرات وبين إقامة المقارنات، فهو عندما يعرض للمقارنة بين الشاعر اللاتيني لوكريس وأبي العلاء، ينكر طبعا أن يكون أبو العلاء قد عرف لوكريس أو سمع به، ولكنه يعود فيقرر أن لوكريس لم يكن إلا تلميذا لأبيقور، ويقرر أن العرب قد عرفوا فلسفة أبيقور، وإذن من المعقول أن يكون هناك تشابه بين لوكريس وأبي العلاء وهو يتلمس هذا الشبه في مسائل جزئية وأفكار، في أدب أبي العلاء ما يؤيدها وفيه ما ينقاضها؛ لما هو معروف من أن أبا العلاء لم يثبت قط على رأي، ونحن لم نعرف كيف تأثر أبو العلاء بالفلسفة الأبيقورية، ونحن نعجب من مقارنة لوكريس بأبي العلاء؛ لما هو معروف من أن للوكريس فلسفة ثابتة مستقرة متماسكة الأجزاء، فلسفة تقريرية في كل مشكلة عرض لها، بينما أبو العلاء رجل ابتلاه الله بمحنة بلبلت أفكاره فلم يؤمن بغير "النعمى والبؤس" وما عدا ذلك فكل شعره ونثره من وحي الساعة ووفقا لحالته النفسية التي لم يترك لها الألم اطرادًا، فالمقارنة بينهما لا يمكن أن نتعقد، بل إن ما أورده المؤلف من اتفاق على بعض الجزئيات يخيل إلينا إنه غير ثابت. ولنضرب مثلا بالعلة الغائية "ص232 وما بعدها" فالمؤلف يقول عن لوكريس: إنه ينكر العلة الغائية؛ إذ إن الأعضاء -كما يقول لوكريس- "قد أوجدت غايتها ولم توجد هي لتحقيق هذه الغايات"، ومع ذلك نجد في الكتاب السادس من "طبائع الأشياء" للوكريس في الأبيات "1023 وما بعده" ما ترجمته: "عند كل كائن إحساس بما يستطيع أن يستخدم فيه ملكاته، فالعجل الصغير حتى قبل أن تبرز قرونه بجبهته إذا استثير يحاول استخدامها فيهدد خصمه ويطارده وقد حنى رأسه، وكذلك صغار الفهود والأسود تدافع عن نفسها بمخالبها وأنيابها قبل أن تنمو لها مخالب وأنياب،

وأما الطيور بكل أنواعها فتراها تركن إلى ريش أجنحتها طالبة إليها عونا لم تقوَ عليه بعد". ونحن لا نناقش نظرية أبيقور على العموم، ولكن أليس من الواضح أن عبارات لوكريس هذه تدل على وجود العلة الغائية، وعلى أن تلك العلة هي سبب خلق الأعضاء لا العكس؟ والمؤلف يستدل على إنكار أبي العلاء للعلة الغائية بقوله في الفصول والغايات: "يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقديمه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته". ولست أرى هنا دخلا للعلة الغائية التي تربط بين العضو ووظيفته، وإنما هنا حديث عن قدرة الله الذي كان يستطيع لو أراد سبحانه أن يجعل من أبي العلاء مبصرا. وفي القرآن ما يمكن أن يوحى بمثله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ... } ... إلخ. فما العلاقة هنا بين أبي العلاء وفلسفة أبيقور أو لوكريس؟ وهل هناك نفع من وراء هذه المقارنة أو داع إليها أو حقيقة لها؟ والمؤلف يبني على ذلك نتائج كثيرة تدل على مهارة في التفكير والعرض، ولكني أخشى ألا تلاقي حقيقة أبي العلاء النفسية، كما لا تلاقي حقيقة فلسفة لوكريس أو روحه. وهناك بعد اتجاه عند نقادنا طالما حير اللب، فهم دائما يحاولون البحث عن أوجه شبه في مقارناتهم، وهذا اتجاه خاطئ، فالنفوس لا يمكن أن تتشابه، بل إن نفس الفكرة يعبر عنها أديبان فتكتسب من لون نفسيهما ومن الروابط بعوالم الحس والنفس الأخرى ما يجعلها أصيلة عند كل أديب منهما، على نحو ما تتكون أحاديثنا المختلفة من نفس ألفاظ اللغة الشائعة بيننا، بل على نحو ما تتكون تلك ذاتها من الحروف الهجائية المحصورة العدد، ومع ذلك تتنوع أفكارنا إلى غير حد كما تتنوع ألفاظ اللغة رغم انحصار وحداتها المكونة. وهناك عدة أبحاث حول أبي العلاء صادرة عن نفس هذا الاتجاه، منها مقارنة حامد الصواف في كتابه عن عمر الخيام بين عمر وأبي العلاء، ومقارنة قسطاكي حمصي في كتابه "منهل الوراد في علم الانتقاد" بين دانتي وأبي العلاء، ومقارنة الأستاذ على أدهم في مجلة "الهلال" بين أبي العلاء وشوبنهور. وكل تلك الأبحاث على اختلافها في الإصابة بعيدة فيما أحسب عن الحقيقة النفسية الثابتة وعن تمايز النفوس تمايزا لا يمكن أن ينال منه -بخاصة في النفوس الأصيلة- أي وحدة في الجنس أو الزمان أو المكان أو الثقافة، أو غير ذلك مما زعمه "تين" وغير "تين" من النقاد الشكليين، الذين فهموا كل شيء غير أصالة النفوس، واختلاف طرق انفعالها بما يحيطها من ناس وأشياء، بل بما يدور في حناياها من حس أو شعور أو فكر.

أبو العلاء ورسالة الغفران

أبو العلاء ورسالة الغفران: رسالة الغفران مجموعة من أصداء محنة أبي العلاء؛ بحيث لا يمكن فهمها ما لم ننفذ إلى معنى تلك التجربة البشرية التي عاشها أبو العلاء، وأن ندرك نتائجها الخطيرة في إحساسه وتفكيره، وفهم تلك التجربة على وجهها الصحيح وهو أهم عمل للناقد؛ وذلك لأن التفسير والبحث عن العوامل التي أثرت في حياة الكاتب أو الشاعر لا يمكن أن ينتهي إلى شيء نهائي، فقد يبصرنا العلماء بما في حياة أبي العلاء من مؤثرات، ومع ذلك يظل دائما شيء لا يمكن تفسيره، هو أصالة الأديب التي تتلخص في كيفية انفعاله بتلك المؤثرات، وهذا هو السبب في أن نرى ناقدا كالدكتور طه حسين يعرض لما كان من تفاوت أثر المحنة عند أبي العلاء وبشار، فلا يجد تعليلا غير ما يسميه "غريزة أبي العلاء الوحشية"، ومن الواضح أن هذا التفسير لا يغني لما فيه من دور؛ إذ ما نريد أن نفهمه هو سبب تلك الوحشية التي تميز بها. وإذن فمحاولة الفهم خير من محاولة التفسير، وعلى أساس هذا الفهم يستقيم النقد أو يعوج، والذي لا شك فيه أن الكثير من النقد الوصفي لم ينجح في أداء رسالته لعجز أصحابه عن كل فهم صحيح لنفوس من ينقدون، بله روح العصر أو الأدب الذي يعرضون له. فالمرء لا يستطيع أن يتذوق الأدب اليوناني مثلا ما لم يبدأ فيخلق لنفسه روحا يونانية قديمة بقراءة ما خلفوا من آثار أدبية وتاريخية، حتى يتشبع بروحهم، فتتداعى خواطره وإحساساته على نحو ما كانت تتداعى عندهم. والأمر كذلك في أدبنا العربي القديم، فالناقد ذو الخيال القادر على تصور حياة العرب والإحساس بها قدرة الممثل الجيد على أن يحيا الدور الذي يلعب يستطيع أن يدرك ما في بكاء الديار عند هؤلاء القوم الرحل من جمال وصدق لا أعرف لهما مثيلا في أدبنا، ومع ذلك كم نرى من أحمق يسخر من هذا البكاء، بل كم من ناقد لا يرى فيه إلا مجرد تمهيد لأغراض الشعر عند العرب، وهذا نظر فقير لحقائق العربي النفسية، أو قل قصور عن فهم تجارب الغير.

والواقع أن النقد ليس بالمهمة الهينة، ولا هو في مقدور كل إنسان؛ إذ لا بد لمن يريد أن يحاوله أن يكون غنيا بتجارب الحياة غنى يذهب بما في النفس من جمود، بحيث تستطيع أن تخرج من محيطها لتعيش بالخيال في محيط جديد، وهذا يحتاج إلى مرونة نفسية لا تكتسب إلا بإحدى أمرين: إما بالتجارب المباشرة، وإما بالمران الطويل على فهم تجارب الغير كما يقصها الأدباء. ولقد ضرب النقاد عندنا في فهم روح أبي العلاء كل مضرب. وفي الجزء الثالث من رسالة الغفران طبعة الأستاذ كامل الكيلاني آراء عديدة لكثير من كبار مفكرينا وأدبائنا، ولكنهم في الغالب لم يخضعوا أنفسهم لمنطوق أدبه، بل أتاه كل منهم بفكرة سابقة في مسألة من المسائل التي يثيرها، وهذا موضع الداء عندنا وأكبر دليل على أننا لا نزال بعيدين عن النضج الأدبي المنشود، الذي يخضع للفن وينتزع منه مدلوله بدلا من أن يملي عليه رأيا كونته لنا من قبل ثقافتنا الإسلامية أو مطالعتنا في كتب الأوربيين. فبين يدي الآن رأي للأستاذ عبد الوهاب النجار، يقرر فيه أن أبا العلاء "كان متين الدين قوي اليقين، وأنه كان شديد الوطأة على منتحلي التقوى المتظاهرين بالدين والتصوف"، وأنه "لم يقصد بالدين هزؤا ولا سخرية، وإنما هو شيء جر إليه الخيال الشعري وأملاه حب الإغراب في التصوير". ومن الواضح أن رحمة الله واسعة وأن أبا العلاء في غير حاجة إلى هذا الدفاع قدر حاجتنا نحن إلى فهم محنة ذلك الرجل ومشاركته إياها لنثري ونفيد، وكذلك الأمر في رأي ذلك المفكر الروحي الأستاذ فريد وجدي، فهو يصدر فيه عن فكرة سابقة عن حقيقة الإيمان يحاول أن يطبقها على أبي العلاء دون أن يبصرنا بكيفية استقرائه لها من أدبه، فهي كالقالب يريد أن يصب فيه إيمان أبي العلاء أراد أبو العلاء أو لم يرد، وذلك حيث يقول: "إذا كان التدين هو الخضوع لصورة ذهنية تنتحل صفات علوية منتزعة من الصفات البشرية، والتأمل في الرذائل خوفا من عقاب، والتحلي بالفضائل طمعا في ثواب، والتقليد في العبادات والمعاملات، وإهمال أحكام العقل والنظر، والجمود على حالة نفسية لا تتغير، والاستعصاء على ناموس الترقي، قلنا: إذا كان التدين هو تقمص هذه الروح فإن أبا العلاء لم يكن متدينا، ولكن إذا كان التدين -على ما نفهمه اليوم من معنى الإسلام- هو محو كل صورة ذهنية وتعريض صفحتي العقل والقلب للوجود المطلق رجاء أن ترتسم عليها الحقيقة تحميها الشكوك من عبث الخيالات، والثورة على كل تقليد يناقض بداهة

العقل، وعلى كل نظام لا يوافق سنن الطبيعة، واستشعار الروعة من المجهول الضخم الذي يحيط بنا من كل مكان، والترفع عن الدنايا؛ لأنها لا تتفق وكرامة الإنسان، وإحالة الحاجات البدنية إلى أدنى حدودها، قلنا: إذا كان التدين هو هذا، فإن أبا العلاء كان من أعمق الناس تدينا. وهذا كلام جميل، ولكنه لا يتفق مع روح الإسلام ولا مع روح أي دين آخر؛ لأن الدي تصديق وشعائر، كما هو حالة نفسية ومبادئ أخلاقية، وهو لا يتفق مع نفسية أبا العلاء، وإنما هو فهم خاص للأستاذ وجدي يريد أن يمليه على أبي العلاء. والأمر أغرب في الخصومة التي نشبت بين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد. والعقاد يبدأ فيؤكد -فيما يعلم- أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية. وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرا ما تدهشنا لجرأتها. ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء. والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجته أوريديس، والكل يعلم وصف هوميروس رحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإنيادة لرحلة إنيوس بذلك العالم، كما نعلم جميعا أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم ومن تلك الرحلات الرائع الجميل، كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في "التوهم" الذي نشره المستشرق الدكتور أربري، وصدر له الأستاذ أحمد أمين بك، وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب ابن شهيد رسالة "التوابع والزوابع" المنشورة بكتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" "ج1 ص210" وهي شديدة الشبه برسالة الغفران، ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان "؟ " وهو يخلص من ذلك إلى الحكم على الرسالة بأنها "نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، وفن طريف، وفكرة لبقة، وفذلكة جامعة لأشتات من نكات النحو واللغة، وأما أن ينظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء، والقصص التي يخترعونها اختراعا، أو ينظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور والباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقا". وهذا كلام غريب يستند إلى مسلمات لا يعلم من سلم بها. وما نعلم أن الأرض قد أنجبت كُتَّابا يخترعون القصص اختراعا، كما لا نظن

أن أبا العلاء لم يتصور مواقف وأوضاعا حسية عديدة تحمل ما بنفسه من سخرية، ورد الدكتور طه يجادل العقاد في قدرة الخيال أهي خالقة أو معيدة؟ وما كانا أغنانا عن هذه الخصومة بأن نتناول النص نبين ما فيه دون الرجوع إلى "فلسفة علم النفس". وكذلك الأمر في مشكلتي "تشاؤم أبي العلاء" و"سخرية أبي العلاء". ففي "مطالعات" الأستاذ العقاد عدة مقالات عن المعري، ولكن موضع الداء هو دائما ما ذكرت من إقحام كتابنا لآراء كونوها من مطالعاتهم في الكتب الأوربية على أدبنا إقحاما، بدلا من الخضوع لذلك الأدب والصبر على فهمه واستخلاص ما به في تواضع وإخلاص، فالعقاد يبدأ بتقرير تشاؤم أبي العلاء "ص70 وما بعدها" مع أن التشاؤم هو ما نريد أن نعلم لونه ونتائجه. ونحن بعد نعلم أن التشاؤم مصدره اتساع الشقة بين الأمل والواقع أي بين قدرتنا وبين ما نبغي، ولكننا نعلم أن نتائجه تتفاوت في النفوس، فهي عند رجل كأبي العلاء قد تبلغ حد اليأس واليأس قد يريح بعض النفوس، كما قد يحطم أخرى، واليأس قد يصرف إلى نوع من السخرية أشبه ما تكون بحساسية العقل. وهنا نلمس الاتجاه الصحيح نحو فهم محنة أبي العلاء ككل، وهو ما كنا نبغيه من نقادنا، ولكنهم لم يفعلوا مكتفين بتعميمات لا غناء فيها. وكذلك أمر السخرية، فقد تحدث عنها العقاد، كما ذكر الدكتور طه حسين أنه أول من لفت الأنظار إليها في رسالة الغفران، ولكننا لا نخرج من حديثهما بفهم واضح لتلك السخرية أو تمييز لها عما يشابهها من اتجاهات النفس، وعلة ذلك فيما أحسب هي افتقارنا إلى المفارقات الدقيقة، ولنوضح قليلا ما نقصد إليه في التشاؤم وفي السخرية. فالتشاؤم قد يكون تشاؤما عقليا وليدا لنظرة فلسفية للوجود وما فيه من قوانين كتشاؤم شوبنهور، وهذا لا يعنينا؛ لأننا لسنا من الطموح بحيث نمتد بضعفنا العقلي إلى الحكم على العالم بأنه خير العوالم الممكنة أو أسوأها. ولنترك ذلك للفلاسفة يبنون العالم كما يريدون وإنما يعنينا تشاؤم الأدباء، وتلك صفتهم الغالبة حتى كُتاب الكوميديا منهم، وإن تفاوتت ألوان ذلك التشاؤم، فشعراء الرومانتيكية كلهم متشائمون لما في حسهم من إرهاف يبالغ في الشعور بوقع محن الحياة، وعجز الإرادة البشرية عن كبح جماح الأمل. ولقد يولد أحدهم من أصل شريف، ثم تأتي أحداث الحياة فتعطل من قواه وتذهب

بأمنه، وما كان يبغي من مجد، كما فعلت الثورة الفرنسية بشاتوبريان فإذا به حزين "يتثاءب الحياة" بدلا من أن يحياها، وهذا النوع من الاتجاه أقرب إلى الحزن منه إلى التشاؤم. ومن الشعراء أمثال الشاعر الإيطالي "ليوباردي" من تقعد به آفات الجسد عن المغامرة في الحياة، كما يريد فإذا به يصيح: "إنه ليس إلا جذعا نخرا يحس ويتألم"، ومنهم أمثال أبي العلاء ممن نزلت بهم محنة لا فرار منها فأصابهم ما يشبه اليأس من الحياة فتبرموا بها في ضرب من الاستهتار العقلي الذي يلهو بكل فكرة وكل عقيدة وكل عاطفة؛ لأن اليأس لا يستطيع غير ذلك، ومنهم من استهتر عملا فغمر والتمس اللذات في غير حياء ولا تعفف كبشار، وكان هذا أيضا مظهرا ليأسه، والأمر بعد سيان. فاستهتار العقل واستهتار العمل مردهما واحد، ونحن بعد لا ندري إلى أي حد نسمي هذا تشاؤما وهو أقرب ما يكون إلى الثورة. هناك إذن حزن وهناك ألم وهناك يأس وهناك ثورة، ولكل هذه مظاهره، وهي تختلف عن التشاؤم الذي هو توقع دائم لأسوأ الفروض، وتغليب لجانب الشر في الأشياء والناس على جانب الخير فيها. وفي تفكير أبي العلاء شيء من هذا ولكنه ليس صفته الغالبة، التي نراها في يأسه العقلي الذي يرى إمكان كل رأي ولا يكاد يجزم في شيء برأي، وفي يأسه العاطفي الذي لم يعرف يقينا غير اليقين بألمه، لمحنته التي لا ذنب له فيها. والسخرية كذلك ألوان نفسية لا عداد لها، فلا أقل من أن نميز بين ما نستطيع التمييز بينه منها، فناك "روح العبث" المعروفة بالهيومر Humour وهي غير التهكم Sarcasme وغير السخرية بمعناها الدقيق ironie وغير الضحك le comique فلكل منها مصدره النفسي ولكل منها دوره في حياتنا. ولجورج ديهامل في كتابه "دفاع عن الأدب" عدة أسطر عميقة يتحدث فيها عن "الهيومر" ويميز بينه وبين ما ليس منه؛ إذ يقول: "إن روح الهيومر تختلف عن روح الإضحاك. فالإضحاك يرمي إلى إثارة الضحك بأسلوب خاص ولغة خاصة؛ بحيث يصعب أن يستعمل في التراجيديا مثلا، وهو غير المرح الخالص الذي هو حالة نفسية عارضة يطول أو يقصر دوامها، وليست لها قدرة على الكشف عن حقائق النفس" وعنده "أن الهيومر نوع من التغير في الضياء، يمكننا من أن نرى الشيء في كافة مظاهره، ولقد يكون بين بعض تلك المظاهر تناقض،

بفضله تكتسب تلك المظاهر دلالتها. وفي الهيومر نوع من الخفر والتحفظ وتمالك النفس لا يعرفه الهزل الصريح" ثم إن "اليهومر استعداد طبيعي في نفس صادقة لا تصدف عن أن تعرف كل ما ترى وأن تقول كل ما ترى وأن تقول كل ما تعرف" أي: إنه -على حد قول ديهامل- "حيلة نفسية نتخذها للعبارة عن كل ما نريد أن نعبر عنه في خفر وتحفط"، وتلك صفة من صفات أبي العلاء البارزة. وأما السخرية والتهكم فالفرق بينهما مرده إلى طبائع النفوس، فمن الناس من يسخر من آلامه ليهون حملها عليه، فهي حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي منها إلى طبع الشعراء، وأما التهكم فيصدر عن النفوس العنيفة التي لا ترحم حمق الغير أو جهله فتتهكم منه، فالسخرية أغلب ما تكون من النفس وإليها وإن امتدت إلى الغير ففي رفق، بينما التهكم سلاح قوي ضد الآخرين. وكل هذه طرق مختلفة للعبارة عن مكنون نفوسنا، الذي لا نريد العبارة عنه عبارة مباشرة. فمن الكُتاب أمثال موليير من يضحك من الناس ليقوم من اعوجاجهم، ومنهم أمثال شارلي شابلن ممن يضحكنا ليثير شجوننا، ورفقنا بضعفاء الناس، ثم تورثنا على الظالمين منهم، وهناك من أمثال فيجارو الذي يضحك انتقاما لنفسه وخوفا من أن يبكي من محنه، ومنهم من ضحكه نقد اجتماعي مر لظواهر لا يعرف لها علاجا، ومن هذا النوع ضحك ربليه Rabelais. ومن الواضح أن ما نسميه سخرية أبي العلاء ليست شيئا من كل هذا، وإنما هي عبث يأس، عبث رجل استوى عنده كل شيء؛ لأنه لا يؤمن بغير ألمه، بل ولا يستطيع بطبعه أن يعبر عن هذا الألم إلا في خفر وحياء. وهكذا يتضح أمامنا الآن بعض الوضوح، أن ما في نفسية أبي العلاء مما يسميه نقادنا تشاؤما وسخرية ونسميه ثورة وعبثا مردهما إلى ما ابتلي به من محنة نزلت فلاقت مزاجا خاصا أنتج ما بين أيدينا من أدبه، ولنصور تلك النفسية كما نفهمها: يخيل إلي مفتاح فهمنا لنفسية أبي العلاء ليس في شعره ولا في "الفصول والغايات"؛ وإنما هو في رسائله لداعي الدعاة؛ حيث يناقش مشكلة الخير والشر، وإرادة الله لهذا الشر أو عدم إرادته. ومن الواضح أنه لم يحرك هذه المشكلة في نفسه غير محنة عماه، ولقد عنت مشكلة الشر ومصدره، وإمكان الإفلات منه أو عدم الإمكان أبا العلاء طوال حياته، ولقد انتهى به الأمر إلى اليأس من الفهم؛ ولهذا غلب عليه التفكير الأخلاقي أكثر من التفكير العقلي، ولقد انتهى إلى الشك

في كل شيء والاعتقاد بإمكان كل شيء عقليا؛ ليأسه من كل شيء وثقته من عدم إمكان أي شيء عمليا. إنه لم يستطع أن يدرك لمحنته حكمة. لِمَ لم يخلق أو يترك بصيرا كغيره؟ ثم من أراد به هذا الشر؟ أهو الله الذي هو سبحانه خير مطلق؟ ثم أما لهذه المحنة من نهاية؟ عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفاني فأي غرابة أن تساوره الشكوك في كل شيء، حتى في الله والأديان، بل في ذلك العقل نفسه الذي عجز أن يحل مشكلة الشر فيحمل إلى نفسه الرضا بما قسم له، وعنده أن العقل أداة هدم لا يقين؟ إذا رجع اللبيب إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها فخذ منها بما أداه لب ... ولا يغمسك جهل في صراها وهت أديانهم من كل وجه ... فهل عقل يشد به عراها ثم قوله: ثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل له وإذا كان قد ركن إلى يقين في حياته، فهو لا ريب لم يكن يقين عقل بل يقين حس. وقال أناس ما لأمر حقيقة ... فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى وشكل في الإيجاب والنفي معشر ... حيارى جرت خيل الضلال بهم سعيا فنحن وهم في مزعم وتشاجر ... ويعلم رب الناس أكذبنا زعما إيمانه إذن إيمان بالشقاء والنعمى، شقاؤه هو ونعمى الغير، وذلك لا ريب إيمان سلبي خليق بأن يحطم النفس لا أن يقودها إلى اليقين، ومتى ولد الألم الإيمان؟ والألم سخط وحيرة وتبلبل وضجر، بينما الإيمان اطمئنان وسكون ورضا وأمان، حتى لتكاد تحس بين الأمرين تناقضا تاما. يئس أبو العلاء من كل يقين. فاعتزل الحياة والناس رهينا لمحبسيه أو لمحابسه الثلاثة. وبذلك أسدل ستار عليه في حياته العملية. ولكن بقيت حياته الروحية تعمل ما لم يستطع تحقيقه فعلا من معالجة الحياة والضرب فيها، واتخذ نشاطه العلمي ذلك اللون من العبث الذي جاءت رسالة الغفران أحد مظاهره.

رسالة الغفران

رسالة الغفران: وقال أناس ما لأمر حقيقة ... فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى بهذا البيت تتركز -فيما أحسب- مأساة أبي العلاء النفسية، على أن نفهم منه أنه هو ذلك الرجل الذي يؤمن بأنه "ما لأمر حقيقة" وإن آمن "بالشقاء والنعمى" بل بالشقاء فحسب؛ إذ إنه عرف الألم، وأما السرور فطالما تساءل عن سره: أعن باكيا لج في حزنه ... وسل ضاحك القوم: ممَّ ابتهج وهو يؤمن بأن الموت حق: يكر الحول بعد الحول عني ... وتلك مصارع الأقوام حولي كأي بالألى حفروا لجاري ... وقد أخذوا المعاول وانتحوا لي فيفزع: يهال التراب على من ثوى ... فآه من النبأ الهائل فإذا اطمأن فلحديث إحساسه: متى غدوت ببطن الأرض مضطجعا ... فثم أفقد أوصابي وأمراضي أو: متى ألق من بعد المنية أسرتي ... أخبرهم أني خلصت من الأسر وهكذا جاء يقين أبي العلاء يقينا حسيا، فهو لا يثق بغير ما تستشعر نفسه، وهو يقين سلبي: يقين بالألم، يقين بالموت، يقين بالخلاص من أسره ومن ألمه، ثم شك فيما عدا ذلك، أي في كل ما يحدثنا به العقل أو النقل، سيان في ذلك حديث عقلنا أو حديث عقول الغير، وأيا كان مصدر ذلك النقل. وسر هذه المأساة هو ما ذكرت في المقال السابق من عجز أبي العلاء عن فهم حكمة ما ابتلي به من محنة، مع إحساسه القوي بوقعها في نفسه: يقين من الألم وعجز عن الفهم، هذا هو مصدر الحالة النفسية التي تحكمت في كل ما كتب. نزلت بالرجل محنة العمى، وهو المرهف الحس المعتز بملكاته، فتألم ألما مبرحا، ويئس من الإفلات منها، ثم حاول أن يجد في فهم سرها عزاء، فيئس من الفهم أيضا. ولكأني به يتساءل في فزع: ولِمَ ابتليت دون غيري؟ وهل لم يكن من

الممكن أن أكون بصيرا كسواي؟ وطغت الممكنات على تفكيره، فانتهت به إلى ذلك الاستهتار العقلي الذي يفسر الكثير من متناقضاته، كما نجده في أساس ذلك العبث الذي يطالعنا في رسالته. والذي لا شك فيه أن طول الإحساس بالألم والعجز عن الخلاص منه أو التسليم بحكمته خليق بأن يقود إلى نوع من اليأس العقلي يردد كل رأي ولا يؤمن بأي رأي، وقد أمحت قيود الواقع التي تحكم تفكيرنا وتقضي فيه بالصحة أو البطلان، وهذا ضرب عنيف من الثورة العقلية، كم سيق إليه رجال ممن يعجزون عن تغيير الواقع فيرفضونه، وكأن لا وجود له، وقد ذهب إيمانهم بكل شيء وبكل أحد؛ لأن قوة إحساسهم بالألم لا تدع في نفوسهم فراغا لغيره. لم يستطع أبو العلاء أن يرضى بالواقع، فرفضه في ثورة عنيفة لم تجتح واقعه فهو فحسب، بل اجتاحت كل واقع، وضرب بعلقه الجريح في عالم الممكنات، وقد أرهف الألم تفكيره، فإذا به عابث، والعبث أكبر مظاهر حساسية العقول. ألا تذكر قوله في "الفصول والغايات": "يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه ويجد الطعام بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته"، وكأني بنجوى نفسه تهمس: "وإن صح ذلك فلِمَ لم يتركني بصيرا؟ " و"فنيت بنفسه، بيض الأماني، والظلام ليس بفانٍ"، فتزعزع إيمانه بكل ممكن؛ وكيف يؤمن والواقع يثقله؟ وإذا عزت الممكنات أحالها ألم الواقع ضربا من العبث نجد فيه عيدا من أعياد الذكاء ننتقم به من كل المحن. وفي جنة أبي العلاء من هذه الممكنات أنواع في تصورها نفسه أكبر ثورة على حقائق الإيمان. فيكف بها وقد أحالتها روح العبث نسبا تتقابل فتفتر لها الشفاه. فهذا أعشى قيس وقد أصبح "شابا غرانقا وصار عشاه حورا، وانحناء ظهره قواما"، وهؤلاء عوران قيس الخمسة "لم ير ابن القارح أحسن من عيونهم في أهل الجنان"، وهذا زهير الشيخ الفاني "شاب كالزهرة الجنية كأنه ما لبس جلباب هرم ولا تأفف من البرم" بل إن الجارية توفيق السوداء لتستبدل بسوادها بياضا أنصع من الكافور. ومن عجب أن يصير الناس إلى هذا التغيير في جنة دخلها أسد القاصدة لافتراسه عيينة بن أبي لهب، كما دخلتها حية رضابها أصبح أفضل من الدرياق؛ لأنها حفظت القرآن؛ إذ سكنت في دنيانا دار الحسن البصري وطال استماعها

تلاوته للكتاب، بل دخلها "أخنس ذيال؛ لأنه كان يروض في بعض القفار فمر به ركب مؤمنون قد كرى1 زادهم فصرعوه واستعانوا به على السفر، فعوضه الله بأن أسكنه في الخلود"، ثم "علج وحشي ما التلف عنده بمخشى، إذا صاده صائده بمخلب وكان إهابه له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، فاتخذ منه غرب2 شفى بمائه الكرب، وتطهر بنزيعه الصالحون فشملته بركة من أولئك، فدخل الجنة يرزق فيها بغير حساب". وليست تلك جنة القرآن التي يعاود المؤمنون فيها شبابهم وجمال أجسامهم و {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} ، وإنما هي ممكنات يعبث بها عقل أبي العلاء المضني، وقد أتاحت النهز لذلك البعث ذكريات الأدب بل تداعي الألفاظ، كحور الأعشى وبياض السوداء وما إلى ذلك مما لا حصر له في كل ما كتب المعري. وفي الحق إن جنة أبي العلاء مثلها كلها مثل الحور العين التي حدث عنها أحد الملائكة ابن القارح قائلا: "إنها على ضرب خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله من الدار العاجلة لما عمل من الأعمال الصالحة". فهي مزيج عجيب من ماضي العرب وجنة الخلد، وفي ذلك الماضي، كما في حقائق الجنة ما يمكن أبا العلاء من أنواع من الممكنات، في نسبها وقلبها للأوضاع -بما يحوط ذلك من منحى الدراما وواقعية الحديث- ما يمكن لروحه العابثة. فلقد نرى فيها أحمد بن يحيى وقد غسل قلبه من الحقد على محمد بن يزيد فصارا يتصحافحان ويتوافيان، وسيبويه وقد رخصت سويداء قلبه من الضغن على عليِّ بن حمزة الكسائي وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} بينما نرى النابغة الجعدي والأعشى يتشاجران، كما يتشاجر الشعراء، وتبلغ الخصومة بهم حد الإقذاع وكأنما قد "نزفوا3 فيصيح الجعدي بالأعشى: اسكت يا ضل بن ضل، فأقسم أن دخولك الجنة من المنكرات، ولكن الأقضية جرت كما شاء الله. لحقك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صلى بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت: إنك قد غلط بك". وهكذا يتصافى من احتدمت بينهم الخصومة بدنيانا، بينما يتقابل من لم يرد عنهما اقتتال. وهكذا دأب أبي العلاء المتصل، حتى لتراه يصرف عدي بن زيد إلى ما ألف في دنياه من قنص، رغم ما في الجنة من متع وخيرات {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ

_ 1 نفد. 2 دلو. 3 من قوله تعالى: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} أي: يحنون.

أَكْبَرُ} ، كما يأبى الهذلي إلا أن يحتلب ناقة مطلقة قيضها الله بقدرته إرضاء لهوى نفسه التي لا تتذوق إلا ما اعتادت رغم ما في الجنة من أنهار من لبن، حتى إذا أصاب ما يريد صاح أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] . وعند أبي العلاء أنه ما دمنا قد رفضنا الواقع وثرنا على ظلمه حتى تحرر العقل من حكمه "فليس ثمة شيء على قدرة ربنا بعزيز، بل قدرة خياله هو وعبثه الجريح، فللنفوس أن ينتزع غلها أو يعود وللجنة أن تضم خيار البشر أو الوحوش، ولسكانها أن ينعموا بلذاتها أو يعودوا إلى ما ألفوا من قنص واحتلاب، بل للهذلي أن يحمد الله على أن هداه إلى حليبه وأن يرى في ذلك الحليب تلكم الجنة التي يورثها المؤمنون، فالأمر كله عبث "وما لأمر حقيقة". بل للكائنات أن تتناسخ، كما يحلو للتصور ويمكن من العبث، فإذا مر بابن القارح رف من الأوز انتفضن فصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس من الملاهي! بل لشجر الجوز أن يينع لوقته ثم يساقط عددا لا يحصيه إلا الله، وتنشق كل واحدة منها عن أربع جوار يرقن الرائين، يرقصن على أبيات منسوبة للخليل، كما يعبر طاوس من طواويس الجنة يسر من رآه حسنا، فيشتهيه أبو عبيدة مصوصا1 فيكون كذلك في صفحة من الذهب، فإذا قضى منه الوطر انضمت عظامه بعضها إلى بعض ثم يصير طاوسا كما بدأ، فتقول الجماعة: "سبحان من يحيي العظام وهي رميم" {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . ولقد يكون في هذا ما يتفق مع ما قال به الهنود أو اليونان من تناسخ علم به أبو العلاء، ولكن الوقوف عند هذا الفهم لا يرينا من نفسية أبي العلاء إلا شكلها الخارجي، وثورة على الواقع، وعبث بالممكنات، وفي هذا جماع حقيقته النفسية. وتلك تجربة أبي العلاء لا يغني في فهمها منهج ولا أصول للنقد؛ لأن النفوس -كما قلنا- ليست قطرات ماء أو أوراق شجر يمكن أن يشابه بعضها بعضا، وإنما هي حقائق فريدة تحس أكثر مما تدرك.

_ 1 طعاما على طريقة خاصة.

فأبو العلاء لا يشبه أحدا على الإطلاق، فلقد التمس له النقاد أشباها من لوكريس إلى أناتول فرانس إلى دانتي إلى ملتون إلى شوبنهور إلى الخيام، وليس في كل ما كتب إلا ضروب من التجوز وإغفال لدقيق المفارقات، إذ أين إيمان دانتي وملتون من يأس أبي العلاء؟ وأين تقريرات لوكريس من عبث رجلنا الفكري؟ وأين تشاؤم شوبنهور الفلسفي من ثورته العاطفية؟ وأين سخرية أناتول فرانس من استهتاره؟ ثم كيف تنعقد مقارنة بين الخيام والمعري، والخيام رجل عاف الحياة لطول ما انغمس في خمرها، حتى إذا هفت نفسه إلى الفناء المطلق أحسسنا فيه لساعتنا عدميا واعيا بما يفعل، صادفا عن ملل: "ملك يا إلهي وجودي وضيق صدري وفراغ يدي، يا من يجعل من العدم وجودا أخرجني من عدمي بحرمة وجودك". بينما أبو العلاء رجل لم ينصرف عن متع الحياة إلا لأن خيارها "قد خنس عنه" فالتمس في أعياد الذكاء عزاء عن الحرمان. وواجب النقد فيما أحسب هو فهم تجارب الكتاب والشعراء فهما نفسيا لا تحده أصول ولا يمليه علم، وإنما نستعين بالعلم وبالأصول عند دراسة صياغة ما كتبوا. ورسالة الغفران من هذه الناحية ليست "كتوهم" المحاسبي الذي يطلب إلى قارئه أن يتصور ما هو صائر إليه من نعيم أو عذاب في آيات القرآن وأحاديث النبي ما يبصرنا بوقعها في النفوس، إن لم يبصرنا بمجسماتها على وجه التحديد، وهي ليست لخلق العالم وخروج آدم من الجنة، كما فعل ملتون في "فردوسه المفقود"؛ بل ولا تصويرا شعريا للعالم الآخر، كما يحدثنا الإسلام، وإنما هي حيلة أدبية تجمع -كما قلنا- بين بعض حقائق الدار الأخرى وبين أدباء وكتاب العرب، كما يحدثنا عنهم التاريخ. وأبو العلاء يفكر أو يعبث بكل هذا معتمدا على ما يحفظ، يهيئ له المناسبات، بحيث إن وحدة تأليفه لا تلوح في غير تداعي الألفاظ، أو على الأكثر تداعي المعاني لروابط شكلية أكثر منها داخلية. وهذه الحقيقة أظهر ما تكون في هيكل الرسالة، فلقد بدأ المعري بأن نقل ابن القارح إلى الجنة رأسا بفضل كلمة الطيب الذي يستطيع أن يصعد به إلى السماء، وهناك لقي من لقي من شعراء، حتى إذا كان بينه وبين أحد عوران قيس حوار يسأل فيه ابن القارح أعور قيس عن بعض أبياته فقلا يذكرها مدعيا أن وقفة

الحشر قد أنسته كل شيء، ذكره ابن القارح بما نسي، فيعجب الرجل من عدم ذهاب ذاكرة ابن القارح مع أنه قد مر بلا ريب بالحشر وبالصراط قبل أن يصل إلى الجنة، وهنا يحتال أبو العلاء فيعود إلى ما كان يجب أن يبدأ به فيدفع ابن القارح إلى سرد قصته الممتعة على عبور الصراط وكأنه في سبيل العبور بالفعل، ثم يعود به إلى الجنة ومنها إلى الأعراف يشرف من عليائها على أهل النار، وفي النهاية يرجع ثانية إلى الجنة، وبهذا ينتهي الجزء الأول من الرسالة وهو الذي يعنينا؛ إذ الجزء الثاني رد على رسالة ابن القارح عن الزندقة والزنادقة. وفي الحق أن من الروايات ما يبدؤه كتابه من منتصف القصة، بل أحيانا من نهايتها دون أن ينال ذلك من جمال القصص إن لم يزده تشويقا، ولكن هذا ممكن عندما يكون للقصة موضوع واحد يفسر بعض أجزائه البعض الآخر، وأما في رسالة الغفران، حيث الأمر كله أمر مناظر مختلفة وحوادث متفرقة، ومقابلات شتى بين أمكنة متعددة وأشخاص متباينين، فنظام يلوح مهشما. نعم إن دانتي قد أسرف في تنظيم "كوميدياه" وأمل بعض الملل بتقاسيمه المنطقية التي عهدها كل رجال القرون الوسطى، فجعل كلا من الجحيم والمطهر والجنة تسع طبقات، كما جعل من وصفه لكل منها ثلاثا وثلاثين أغنية لولوع المسيحيين بالعدد ثلاثة ومضاعفاته، تقديسا لثالوثهم الإلهي، ولكن أبا العلاء بدوره قد أهمل وحدة التأليف إهمالا تاما، بل نحن لا نظن أنه قد قصد إلى شيء من هذا، وإنما هي كما ذكرت مجموعة من تداعي ما يحفظ، ولعله في هذه الرسالة قد كفر عما في لزومياته وفصوله وغاياته من تنظيم وتقييد أضنياه أكثر مما يضنيان القارئ اليوم. ومع هذا فنحن لا نتخذ من انعدام الوحدة سبيلا للحط من قدر هذه الرسالة الممتعة؛ إذ فيها من الصفات الأخرى ما يحتفظ لها بقيمتها من ناحية الصياغة، فوق ما بها من ألوان نفسية، ولنفصل ذلك في إيجاز: نعم، إن الرسالة عارية عن تلك القيم الرمزية التي تشهد لدانتي بالعبقرية، والكل يعلم كيف افتن الشاعر الإيطالي في وصف وتصوير أنواع العذاب والنعيم مقيما رابطة بين عمل من يصلى العذاب أو ينعم بالنعيم وبين ما هو فيه من ذلك، على نحو ما نرى العواصف تتقاذف أصحاب الشهوات وسط النيران أو المنتحرين يقضي عليهم بأن يحيوا حياة أبدية سجينين داخل الأشجار التي استحالت قشراتها أسيجة منيعة، وفي القرآن بعض هذا كقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35] . ولكن أبا العلاء لم يفكر في شيء من ذلك. ومع هذا فثمة خصائص أخرى تكسب "الرسالة" من الخفة والحياة ما لم يتوفر لكوميديا دانتي. فهناك تلك الواقعية التي تطالعنا في الحوار وفي المشاهد فتقربنا من حياة العرب الخشنة، كما نألفها في كتب التاريخ والأدب مما يجدد لذة القارئ، وفي قنص عدي بن زيد واحتلاب الهذلي للناقة، أمثلة جيدة لما نقول. وهنالك عنصر التمثيل بما يحمل من حركة وحوار يخالطهما العبث فتفتر الشفاة ويستقيظ الانتباه، وفي قصة عبور الصراط مثل رائع لذلك. حتى لتكاد تكون مهزلة صغيرة متماسكة كأروع ما كتب مؤلفو المسرح، وهل أبلغ في الهزل من أن نرى في يوم الحشر الذي تشيب من هوله النواصي شيخا أبيض اللحية مرسلها كابن القارح يصاح به وسط الجموع: "يا علي بن منصور! يا علي بن منصور! يا قاضي حلب"، أو أن نراه على الصراط وقد عجز عن عبوره فحملته إحدى جواري الجنة زقفونة، على نحو ما يفعلون في "كفر طاب"، وهناك أخيرًا العبث الذي يعتمد على التناقض والإسراف في النسب يستعين بها الكاتب على أداء كل ما يعرف وما يريد أن يقول في تقية بل في خفر. وتلك فيما أحسب أهم وسائل أبي العلاء الفنية نضيفها إلى الحالة النفسية التي سيطرة عليه فنخرج بنوع من الفهم إن لم يكن مطابقا لحقيقة تلك الرسالة فهو مقارب قربا أرجو أن يدنيها من القراء.

مساجلات جورجياس المصري

مساجلات جورجياس المصري: كتب الأستاذ العقاد في العدد 467 من "الرسالة" تحت عنوان "مساجلات" يقول: نبهت إلى كلمة لأديب يكتب في "الثقافة" بتوقيع "محمد مندور" قال فيها عني بصدد الكلام عن أبي العلاء ورسالة الغفران: "والعقاد يبدأ فيؤكد -فيما يعلم- أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير "ولسيان" في محاوراته في الألمب والهاوية، وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرا ما تدهشنا لجرأتها، ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان وعرفها العرب قبل أبي العلاء". وأنا أحمد الله إذ نبه الأستاذ إلى كلمة محمد مندور هذا، فالعقاد رجل لديه ما يشغله عن "الثقافة" وعن محمد مندور، وهو منهمك في قراءة أمهات كتب الأدب التي وجد فيها أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته، فأنَّى له بقراءة "الثقافة"! وما هي بشيء إلى جوار عيون الأدب؟ ومن هو محمد مندور ليقرأ له وهو مأخوذ بسحر لوسيان؟ و"محمد مندور" يسره أن ينبه العقاد قبل أن يبدأ في مناقشته إلى تتمة جملته، كما هي بالثقافة عدد 176، والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجته أوريدس، والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيليوس شاعر الأنيادة لرحلة أينيوس بذلك العالم، كما نعلم جميعا أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في "التوهم" الذي نشره المستشرق آربري، وصدر له الأستاذ أحمد بك أمين في عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب ابن الشهيد رسالة "التوابع والزوابع" المنشورة بكتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" "ج210" وهي شديدة برسالة الغفران، ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان.

وهذا فيما أظن كلام لا يستطيع العقاد ولا غير العقاد أن يدفعه، فهو يؤكد أن أديبا لم يسبق أبا العلاء في وصف الرحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقوله له: بل سبقه هوميروس وفرجيلوس ... و ... فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد -وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته- أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد وإن كان قد وضعه في غير موضعه. وبعد فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيلوس لرحلة كهذه؛ إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعا نجهل أشياء كثيرة وسنجهل أشياء كثيرة، ولو أضفنا أعمارًا إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل، وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب. لم يرد العقاد على ما وجهته إليه بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقيل لوسيان "على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها"، وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي. وموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفا أدبيا فنيا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا. ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط كما كان يفعل جورجياس كبير السوفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو، ألا ليته قال مثلا: إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة! ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالا، وأما أن "لندن وباريس وبلاد الأفيال" كانت موجودة قبل الرحلات، فهذه حقيقة مغالطة تافهة، كنت أود أن يترفع عنها. أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القراء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع. فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير، كما يطالعنا من رده، وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام.

سمعت العقاد يوما يناظر في الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة الأجنبية فينا فيقول: "إن الكتاب الأمريكي لا يمكن أن يجعلنا أمريكيين وإلا لجعلتنا التفاحة الأمريكية أمريكيين، وهذا مثل الكثير ما كتب العقاد، فسبيله هو "المغالطة" ثم "القياس الفاسد". ألا تراه كيف ينقل الحديث من الرحلة الأدبية في العالم الآخر إلى وجود ذلك العالم وتصور الناس له، وهذه هي "المغالطة" ثم ينتقل إلى قياس وجود العالم الآخر في الواقع أو في خيال البشر وجودا مستقلا سابقا على وصف ذلك العالم في الأدب، بوجود باريس ولندن وبلاد الأفيال وجودا مستقلا سابقا على رحلة المسافرين إلى تلك البلاد وهذا هو "القياس الفاسد". ووجه الفساد في كلا القياسين هو انعقاده بين أشياء مادية وأخرى روحية، فالتفاحة ليست كتابا وإلا لكانت عقولنا معدات، ولندن ليست الجنة ولا باريس النار والسفر إليهما ليس وصفا أدبيا للعالم الآخر نزوره بخيالنا. والمغالطة خطرها بيِّن، ومن نافلة القول أن نقف عندها. بقي القياس فاسدا وغير فاسد، ومن الثابت أن المنطق الشكلي كله لا القياس فحسب لا يمكن أن يوصل إلى الكشف عن حقيقة جديدة، وإنما تعمل الأقيسة في الحقائق المعروفة، فإذا كان القياس صحيحا انتهى إلى إفحام مناظرنا، ولا أقول إلى إقناعه؛ لأن الإقناع إحساس وتسليم قلبي، وأما الإفحام فانعقاد للسان أو شلل للعقل، وهذا هو الجدل، وإذا كان القياس فاسدا فتلك هي السفسطة التي لا تقنع ولا تفحم ولا تليق بالإنسان على أي نحو. وإنما نكشف الحقائق بالخيال وبالقلب، وتلك ملكات لا أحس لها بوجود فيما يكتب العقاد. انظر إليه في رده كيف يقول: "إن الجمع بين المعري ولوسيان مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه"، وتلك لعمري مقارنة عجيبة، وأنا لا أرى أصلا أي شبه بين أبي العلاء ولوسيان، بل ولا بين أبي العلاء وأي كاتب آخر؛ وذلك لإيماني بأن النفوس لا يمكن أن تتشابه أصالتها. وقد بينت ذلك ولن أعود إليه. واتجاه العقاد الخاطئ واضح في كل مقارناته، والذي أفهمه من المقارنة هي أن تكون إما مقارنة تأثر نبغي منها إيضاح أخذ كاتب عن آخر، والمنهج الصحيح في هذا هو أن تثبت قراءة هذا الكاتب لذاك وتأثره به تاريخيا؛ إذ لا يكفي مجرد التوافق على فكرة أو صورة. والجمع بين أبي العلاء ولوسيان لا يمكن أن يكون على هذا النحو، أو "مقارنة فهم" وذلك بأن نجمع بين كاتب وآخر لنفهم

كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعا لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحدثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه، وهذا ما لم يفعله العقاد وإنما فعل وفعل دائما أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينهما، فهو طورا يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكيا وطورا أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح "الفصول"، وهذه محاولات باطلة، فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا، ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة، وإنه لتعسف باطل أن يزج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء. وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن رسالة الغفران: "أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفا موصوفا؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودا للناس مألوفا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ... ". وهذا كلام لا علاقة له أصلا بموضع المناقشة، فهو لا يدل في شيء على "أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان", إنما يدل على فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس، كما وردت في الديانات والكتب المقدسة، وإما أنها لم تستخدم في الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان، فهذا ما لم يرد عليه العقاد. ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد غير المقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة، كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها، والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب؛ إذ إنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة، وقد جمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وبان القارح محمولا زقفونة على الصراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة بل لا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء. ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: "إنها رحلة قديمة؛ ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتتدعها أول مرة ... ". وموضع البحث هو -كما قلت وأكرر- أن نعرف مدى قدم تلك الرحلة ومن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا. والآن لم يبقَ لدي إلا أن أترك للقارئ الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من "لا يا شيخ! " إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل.

المعرفةوالنقد - المهج الفقهي

المعرفةوالنقد - المهج الفقهي الشعراء النقاد ... المعرفة والنقد - المنهج الفقهي: الشعراء النقاد: نشر زميلنا الأستاذ محمد خلف الله مقالا بهذا العنوان في مجلة "الثقافة" "عدد 191"، وقد وجدت فيه آثارا واضحة لمنهج عام في دراسة الأدب ونقده، لمسته غير مرة في أوساطنا الجامعية وغير الجامعية، ولما كنت أخشى أن يصيب حياتنا الأدبية بالعقم، فإنني أبادر على مناقشته. ولباب هذا المنهج -كما نستخلصه من مقدمة المقال- هو الدعوة إلى نقد تقريري يقوم على أسس من علوم الجمال والنفس والتاريخ والاجتماع، وهذا ما يفعله الآن بعض الأساتذة الذين يظنون أن الأدب يمكن أن يحدد فهمنا له أو دراستنا لنصوصه بإقحام هذه العلوم وغيرها فيه، وهذا في الواقع ليس تجديدا، فقد سمع عنه العرب بلسان قدامة بن جعفر، وعرفته أوربا في قرن الفلسفة، القرن الثامن عشر، وقد فطن لخطئه معاصرو قدامة واللاحقون له، وفي مقدمة "أدب الكاتب" لابن قتيبة أقوى رد عليه. ولقد عادت أوربا من ضلالها وأصبحت اليوم تؤمن -عن حق- بأن لكل علم مناهجه، وأن أي علم لا يمكن أن ينمو إلا إذا كان نموه ذاتيا ومن داخله، وأنا أعتقد أن الاتجاه الذي يدعو إليه الأستاذ خلف الله محنة ستنزل بالأدب؛ لأن معناه الانصراف عن الأدب وتذوق الأدب وفهم الأدب، والفرار إلى نظريات عامة لا فائدة منها لأحد. النقد هو فن دراسة النصوص الأدبية، والتمييز بين الأساليب المختلفة، وهو لا يمكن أن يكون إلا موضوعيا، فهو إزاء كل لفظة يضع الإشكال ويحله، النقد وضع مستمر للمشاكل، والصعوبة هي في رؤية هذه المشاكل، وهي متى وضعت وضح حلها لساعته، والذي يضع المشاكل الأدبية ليس علم الجمال ولا علم النفس ولا أي علم في الوجود، وإنما هو الذوق الأدبي. وهذا شيء ليس له "مرجع إليه". وأسارع فأقول: إن الذوق ليس معناه ذلك الشيء العالم المبهم التحكمي. وإنما هو ملكة إن يكن مردها ككل شيء في نفوسنا إلى أصالة الطبع، إلا أنها تنمو وتصقل بالمران وعند ابن سلام الجمحي وعند الآمدي في ذلك صفحات يجب أن

نتدبرها. يقول ابن سلام: "قال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك"، فقال له: "إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ "، وإذن فلكي يصح النقد الذوقي لا بد له من دربة، وفي هذا يقول ابن سلام أيضا: "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصروه ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيبعرف زائفها وستوقها ومفرغها ... إلخ". ويضيف ذلك الناقد العربي الكبير هذه الحقيقة الرائعة: "إن كثرة المدراسة لتعدي على العلم"، وهذا الكلام الذي قاله ابن سلام منذ قرون هو آخر ما انتهى إليه الأوربيون في حقيقة النقد الأدبي، ولنستمع إلى لانسون Lanson عميد النقد الموضوعي في فرنسا المعاصرة: "إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجابات فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقض أن ندل على هذا الفارق في تعريف الأدب ثم لا نحسب له حسابا في المنهج، لن نعرف قط النبيذ بتحليله تحليلا كيماويا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب، فلا يمكن أن يجل شيء محل "التذوق"، وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام "يوم الحساب"، أو حلقة الليل"1، ولم يكن ثمة وصف في قائمة أو تحليل فني يستطيع أن يحل محل إحساس العين، فذلك نحن لا نستطيع أن نتطلع إلى تعريف أو تقدير صفات مؤلف أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا أولا لتأثيره تعريضا مباشرا "تعريضا ساذجا" أليس هذا ما قاله ابن سلام؟ ولقد عاد الآمدي أكبر نقاد العرب وأصدقهم ذوقا إلى تنمية هذه الحقائق في "الموازنة"، وفيها يوضح كيف أنه سيعلل أحكامه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم يرشدنا إلى أنه سيبقى "ما لم يمكن إخراجه إلى التبيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما لا يعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة، وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته"، وهو يحكي عن إسحاق الموصلي أن المعتصم سأله يوما: "أخبرين عن معرفة النغم وبينها" فأجاب إسحاق: "إن من الأشياء أشياء تحيط

_ 1 لوحتان زيتيتان.

بها المعرفة ولا تؤديها الصفة"، وفي الأدب أشياء كثيرة، شأنها شأن النغم يحيط بها الذوق ولا تؤديها الصفة، ويضيف هذا الناقد الكبير: "ليس في وسع كل واحد أن يجعلك أيها السائل المتعنت والمسترشد المتعلم في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك في نفسك ولا في نفس ولده ومن أخص الناس به سبيلا، ولا يأتيك بعلة قاطعة ولاحجة باهرة". وهنا قد يعترض المعترضون بأن هذا الكلام يفتح الأبواب للتحكم والأذواق متباينة، وما إلى ذلك من الكلام الطويل الذي نعرفه جميعا، وقد لاكه علماء الجمال والنفس حتى مللناه، ولقد يضيفون، وهذا يتنافى مع الروح العلمية التي يجب أن تسود أبحاثنا اليوم. وأنا أترك لكبير الدعاة إلى المذهب العلمي الموضوعي في النقد مهمة الرد، قال لانسون: "إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية impressionisme في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة، وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة؛ ولكن لنقصره على ذلك في حزم، ولنعرف -مع احتفاظنا به-كيف نميزه ونراجعه ونجده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه، ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة". وهذا كلام صادق عميق، فالذوق الذي نقول به ليس ذلك الذوق النظري الذي يتحدث عنه الفلاسفة، وإنما هو الذوق الأدبي، ذلك الذي يرى أن أبا تمام عندما يصف امرأة "بأنها ملطومة الخدين بالورد" قد أتى كما يقول الآمدي "بالحمق أجمعه"، والذوق خير وسائل المعرفة على أن يكون ذوقا مدربا، وأن نأخذه بالمناقشة والتعليل، حتى بعد أن يتم تثقيفه، ولكم من مرة يصدق الذوق وبطل التعليل، وهذا عند الآمدي كثير الحدوث. ولكم من مرة يستقيم التعليل ثم يخطئ الذوق، كما نرى عند ابن قتيبة. ومع ذلك فالذوق الذي يعتد به هو الذوق المعلل في حدود الممكن، وإن كان ثمة أشياء "لا تؤديها الصفة". واعتراض آخر قد يراه البعض، وهو ينظر فيرى أن الإنسانية قد تقدمت، وأن

كل شيء قد أصبح اليوم خاضعا لمنهج العلوم الطبيعية الدقيق، وها هو علم الجمال وعلم النفس وعلم الاجتماع تجري فيها التجارب والأبحاث، وتدون النتائج وتستنبط القوانين، فما بالنا لا نستفيد في دراسة الأدب من كل ذلك؛ بل ما لنا لا نجعل من النقد هو الآخر علما له معادلاته ومبادؤه؛ وذلك أملا في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنب ما في تأثرات الذوق من تحكم، وما في الأحكام الاعتقادية من مسلمات غير ثابتة، وهنا أيضا أترك الرد للانسون، حتى لا يتساءل صديقنا الأستاذ خلف الله مرة أخرى عن المراجع. يقول لانسون: "التجربة قد حكمت بفشل تلك المحاولات" ويضيف: "واستخدام المعادلات العلمية في أعمالنا بعيد عن أن يزيد قيمتها العلمية، وهو على العكس ينقص منها أن تلك المعادلات ليست في الحقيقة إلا سرابا، عندما تعبر في دقة حاسمة عن معارف غير دقيقة بطبيعتها، ومن ثم تفسدها. فلنحذر الأرقام، الرقم لا يمحو الفضفاض والعائم في تأثرنا بل يستره، وكل من له أقل دراية بفن الكتابة يستطيع أن يجد في اللغة العادية الوسائل التي يوضح بها المفارقات الدقيقة التي بدونها لا نصل في دراستنا إلى صواب، وتلك المفارقات لا تخضع للأرقام". ويستمر لانسون في توضيح تلك الفكرة الهامة في صفحات كنت أرجو أن أنقلها كلها إلى القارئ، فعنده "أن الاصطلاح العلمي عندما ننقله في الأدب لا يلقى غير ضوء كاذب بل قد يحدث أن يلقى ظلمة1. وأمعن في الروح العلمية موقف أولئك الأدباء الذين لا يدعون بناء أي شيء على أي أنموذج غيره، بل يقصرون علمهم على رؤية الوقائع الداخلة في مجال بحثهم، والعثور على العبارات التي لا تخلف شيئا خارجا عنها ولا تضيف إليها إلا أقل ما يمكن.. والشيء الذي يجب أن نأخذه عن العلم ليس كما قال فردريك رو هذه الوسلية أو تلك.. بل روحه". ويعلق لانسون على أقوال رو فيقول: "إن ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء هو النزعة إلى استطلاع المعرفة والأمانة العقلية القاسية والصبر الدءوب، والخضوع

_ 1 ضرب لذلك مثلا كلمة السيكولوجية التي يستخدمها الأستاذ خلف الله بحيث لا أذكر أن مقالا واحدا من مقالاته قد خلا منها، فأنا لا أفهم السر في استخدامه لها عندما يقول مثلا سيكولوجية الحجاج أو سيكولوجية زياد ابن أبيه، إذا ترجم إلى العربية اصطلاحه فيكون "علم نفس الحجاج" و"علم نفس زياد ابن أبيه"، والحجاج وزياد ليس لهما علم نفس، وإنما كانت لهما -رحمهما الله- عقلية أو نفسية، أو إن شئت فقل مع المرحوم طه إبراهيم: "ذهنية"، أليس في "سيكولوجية" ما يلقي ظلمة وإن ألقى فضوءًا كاذبًا؟

للمواقع والاستعصاء على الصديق تصديقا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرة إلى النقد والمراجعة والتحقيق. وأنا لا أدري أعلم ما سنعمله عندئذ أم لا ولكني على ثقة من أننا سنعمل خير تاريخ أدبي.. وإذا فكرنا في مناهج العلوم فيجب أن يكون ذلك لإثارة ضمائرنا أكثر من أن يكون لبناء معارفنا". هذه هي أقوال لانسون، وهي عندي تفصل في الخصومة فصلا نهائيا، فالذي نستطيع أن نأخذه عن العلوم -سواء في ذلك العلوم الطبيعية أو العلوم النفسية التي أصبحت اليوم تصطنع مناهج العلوم الطبيعية، كما هو معروف- هو روحها، وأما أن نأخذ عنها مبادئ وآراء وقوانين، فهذا خطأ بل كارثة على الأدب. وكلنا لا ريب يذكر أقوال قدامة عندما رد الرثاء إلى المدح مع كان ويكون وجعل الهجاء نقيض المدح، وحصر الصفات التي يمدح بها في "العقل والشجاعة والعدل والعفة" وما إلى ذلك من سخافات يسمونها فلسفة، وأنا إذ أقاوم بكل قوتي هذا الاتجاه الذي يصدر عنه الأستاذ خلف الله لا أدعو إلى الكسل أو إلى إهمال أبحاث علماء النفس والجمال والاجتماع. فهذه أشياء أضعنا فيها جزءا كبيرا من شبابنا وهي لا ريب تفتح آفاقا للتفكير، وقد تزيدنا بالإنسان معرفة. ولكني أقول: إنها غير الأدب. وإنه لا يجوز أن نظن أننا سنجدد الأدب في شيء عندما نقحمها فيه. وخير عندي من كل هذا أن نناقش قصيدة شعر أو رواية، وإني لمؤمن إيمانا لا يتزعزع بأنه من الأجدى على أستاذ الأدب أن يناقش أمام طلبته أو يعرض على قرائه مناقش نص أدبي يقف عند تفاصيله ويظهر ما فيه، من أن يشرح لهم في سنين أو في مئات الصفحات نظريات علم النفس أو علم الجمال، فهذه لن تصقل ذوقا ولن ترهف حسا. وتلك هي ملكات الأدب التي يجب أن ننميها وأن نتعهدها يجب أن نحبس أنفسنا في الأدب وأما الفرار إلى غيره فلا. وليس أدل على صحة ما أقول به من واجب قصر المشتغلين بالأدب جهدهم أو على الأقل معظمه على دراسة النصوص الأدبية ذاتها بدلا من محاولة إدخال الفلسفة على الأدب وتضييع وقتنا في ذلك، من كلام الأستاذ خلف الله نفسه، فنظرته إلى النقد كشيء يقوم على الرؤية ويخالف الخلق الفني، وظنه أن الشعراء والكتاب لا يشتغلون بالنقد ولم يشتغلوا به ولا وضعوا نظريات عامة فيه، وأنه لا بد للنقد من أن يكون لنفسه أولا فكرة أساسية في الأدب والفن، كل هذا كلام مردود وخطر؛ وذلك لأن ما فيه من حقائق تاريخية غير صحيح، وما فيه من آراء شخصية للزميل الفاضل لا أراه مصيبا فيها.

فأما ملاحظته "عن قلة عدد الشعراء الذين يعنون بالناحية النقدية من فنهم" فهذا غير صحيح في "مختلف الآداب العالمية" وأنا لا أدري كيف يقال قول كهذا. والناظر في تاريخ الآداب يجد نوعين من النقد: نقد نسميه وصفيا، ونعني به نقد النقاد المحترفين الذين درسوا مؤلفات الكتاب والشعراء الآخرين ليستنبطوا حقائق وليصفوا لغيرهم، وهذا النقد قد ابتدأه اليونان وبخاصة أرسطو في كتابيه "الخطابة والشعر"، وأنا لا أقول: إن أرسطوا كان كاتبا أو شاعرا، ولكن ما الرأي في "هوراس" الشاعر اللاتيني الشهير، ألم يكتب "فن الشعر" وهي قصيدة طويلة تزيد على الثلاثمائة بيت في فنون الشعر المختلفة وأصول كل فن ومن تميز فيه؟ وما الرأي في بوالو الشاعر الفرنسي الشهير أيضا وقد وضع "فن الشعر" كما فعل هوراس؟ بل ما بال الأستاذ خلف الله يظن أن "الشعراء القدامى" عند العرب لم يتناولوا النقد إلا في بيت للبحتري وبيت لأبي نواس، مع أن لأبي تمام أيضا بيتا يقوله فيه: "إن الشعر صواب العقل"، وهذا يحدد مذهبه، بل دعنا من البحتري وأبي تمام، ثم لننظر إلى أبي نواس وفي معظم خمرياته وغزله نقد لمذاهب القدماء الأمر عند أبي نواس ليس أمر بيت من الشعر بل أبيات إن لم يكن مئات الأبيات. ومع هذا نسلم مع الأستاذ أن "الشعراء القدامى" عند العرب فيما عدا أبي نواس لم يقتتلوا في سبيل مذاهبهم الأدبية؛ لأن هذه المذاهب لم تكن قد اتضحت بعد ولا تنوعت. ولكن ما الرأي في شاعر كابن المعتز ألم يكتب في النقد "كتاب البديع" الذي يجمع بين علم البيان وفن النقد؟ ألم يكتب في "سرقات الشعراء"؟ ألم يضع الشعراء في طبقات في كتابه "مختصر طبقات الشعراء"؟ ثم ما الرأي في أبي العلاء صاحب "ذكرى حبيب" و"عبث الوليد" و"معجز أحمد" ثم رسالة الغفران؟ وهب أن كتب أبي العلاء كان يغلب فيها الشرح على النقد وأنه قد ضاع معظمها أيضا ولكن أليس لدينا في رسالة الغفران نقد من خير ما خلف "الشعراء القدامى"؟ ولنترك القدامى لننظر في المحدثين في الشرق والغرب وكلنا يعلم أنه منذ القرن السادس عشر أي منذ البعث العلمي كان الشعراء والكتاب هم طليعة النقاد وخير النقاد، ونقدهم يجمع بين ما نسميه بالنقد الإنشائي، ذلك الذي يدعو إلى مذهب جديد من مذاهب الأدب كالمذهب الكلاسيكي أو الرومانتيكي أو الواقعي ... إلخ. ومن منا لا يذكر شكسبير في "هملت" وجيته في "الشعر والحقيقة" وموليير

في "الفن الرومانتيكي" وفكتور هيجو في "مقدمة كرومويل" وشيلي في "الدفاع عن الشعر" وورد زورث في "مقدمته"، وفاليري في "متفرقاته"، ودانتي في "اللغة العامية"، وديهامل في "دفاع عن الأدب". بل إنني لا أعرف أو لا أكاد أعرف كاتبا أو شاعرا لم يكتب ويتحدث في النقد، وهل يظن الأستاذ خلف الله أن أحدا يستطيع أن يكون شاعرا أو كاتبا مجيدا إلا أن يكون ناقدا ليبدأ بنقد ما يكتبه ووزنه جملة جملة وحرفا حرفا؟ وهلا يرى معي الأستاذ أن كل الفارق بين القدامى والمحدثين هو أن القدامى كانوا ينقدون أنفسهم أو غيرهم دون أن يشعروا بالحاجة إلى كتابة ذلك، وأن المحدثين ينقدون ثم يدونون لتبصير جمهور القراء بحقائق الأدب، ثم من قال: "إن النشاط الفني فيض حيوي متدفق يأبى الوقوف حتى يصل إلى غايته من التصوير أو الإبداع، وإن النشاط النقدي حركة قائمة على الأناة والروية تُعنى -بالضرورة- بتسلسل الفكرة وإحكام حلقاتها". وهذا كلام نرتجله نحن ولم يقل به أحد، لا من الأدباء ولا من علماء الجمال والنفس وأنفسهم وإنما الخلق الفني والنشاط النقدي كلاهما "صناعة كسائر الصناعات"، لا بد فيهما من روية وإمعان وتسلسل وإحكام حلقات وأنا لا أومن بشيء اسمه الإلهام والوحي والعبقرية، وإنما أعرف "التثقيف وإبداع الصناعة" ونقد ما نكتب والجهد وطول المران، وهذه كلها حقائق سبق أن قلتها وسأقولها دائما لأنها الحق. قال أبو عمرو الجاحظ: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلى غريبه، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. فلله در أبي عثمان لقد غاص على سر الشعر واستخرج أدق من الشعر، وفي هذا النمط ما حدث محمد بن يوسف الحمادي قال: حضر مجلس عبيد الله بن طاهر وقد حضره البحتري لفقال: يا أبا عبادة: مسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلبا لا يوافق على هذا فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحيط بالشعر ولا يقوله وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه". بذا يتحدث الصاحب بن عباد في رسالته عن "الكشف عن مساوئ شعر المتنبي" "ص4، 5" ومنه ترى أن القدامى قد فطنوا إلى أن النقد شيء مستقبل عن كل علم آخر، وأن قوامه الذوق، وأن أقدر الناس عليه هم الشعراء والأدباء.

فما بالنا نترك كل هذه الحقائق الرائعة التي خلفها لنا أجدادنا، ثم نروح نحاول بعث مذهب سقيم كمذهب الأعجمي قدامة. إن مذهب الأستاذ خلف الله ومن يرى رأيه سينتهي بنا إلى قتل الأدب، والأدب لا يمكن أن نجدده ونوجهه ونحييه إلا بعناصره الداخلية عناصره الأدبية البحتة، وهذا ما يجب علينا جميعا أن نجاهد في سبيله. إنه لوهم بعيد أن نظن في علم النفس أو علم الجمال أو غيرهما من العلوم كبير فائدة للأدب، يجب علينا أن نعرف كل تلك الأبحاث، ولكن على أن نحتفظ بتلك المعرفة لأنفسنا ولا نزج بها في الأدب وإلا كنا مفلسين، نوهم الغير ببريق كاذب. ولقد كتب الأستاذ خلف الله نفسه عن "الذاتية والموضوعية في الفن" بالثقافة منذ أعداد، فماذا أفاد الأدب من ذلك. وإنه لأجدى علينا أن يحلل لنا الأستاذ نصا نتذوقه ونحس في ثنايا تحليله أنه يعرف الذاتية والموضوعية وما إلى ذلك معرفة تضيء تحليله من الداخل، ولكن لا تجففه ولا تتلفه ولا تخرجه إلى التعليم المدرسي. وهو لا ريب بأمثال هذا التحليل سينتهي إلى فكرة أساسية عن الأدب، يستطيع أن يحدثنا بها كخلاصة لتجاربه الخاصة، وعندئذ ستكون أصدق وأعمق من كل ما تستطيع أن تمنحنا علوم النفس والجمال والاجتماع من أفكار أساسية في الأدب.

المعرفة والنقد

المعرفة والنقد: رد الأستاذ خلف الله على مقالي الذي دعوت فيه إلى تنحية العلم عن الأدب ونقده، وذلك تحت عنوان "بعض مناهج الدراسة الأدبية"، واحتاط فلم يذكر اسمي، هذا ما أشكره من أجله، والأستاذ خلف الله رجل لبق، ولقد كان من حقي أن ألزم الصمت، ولكني مع ذلك أعود إلى إيضاح رأيي لا رغبة في محاجة الأستاذ -فذلك أمر ثانوي- ولكن لأن المسألة المثارة لها عندي أهمية بالغة وهي خليقة بأن تجدد حياتنا الروحية ومناهج دراستنا تجديدا تاما، وتسير بنا إلى اللحاق بمن سبقنا من الشعوب. من السهل أن ندافع عن المعرفة فهي شيء نبيل، نبيل حتى لا يحتاج إلى دفاع، ومن السهل أن نرى في الذوق الأدبي شيئا غامضا أقرب إلى التصوف منه إلى الضوء. وأسهل من كل ذلك أن نستشهد بآراء "آبركرومبي" لندل على وجود ملكة إنتاج وملكة نقد، فهذه كلها أشياء نعرفها وهي ليست موضع المناقشة، والذي أريد أن أتبينه هو: هل هناك مجال لجعل النقد علما؟ وهل ذلك ممكن باستعانتنا بعلوم النفس والجمال والاجتماع؟ النقد -كما قلت ويقول كل النقاد- هو في دراسة النصوص وتمييز الأساليب، وهذا الفن يستعين بضروب من المعارف، ولكنه لا يستخدمها ليحاول أن يضع بفضلها قوانين عامة للأدب، ثم يأتي فيطبق تلك القوانين على النص الذي أمامه، فما تمشي مع تلك القوانين كان جيدا، وما خرج عنها كان رديئا. والعلم -كما نعرف- هو اكتشاف القوانين التي تفسر الظواهر الخاصة بكل جانب من الحياة والوجود، فهل الأدب أحد تلك الجوانب؟ والجواب على هذا السؤال يتطلب أن نميز بين عدة أشياء، فهناك ما سماه مفكرو القرن التاسع عشر "علم الأدب"، وهناك ما سماه بول فاليري في القرن العشرين خلق الأدب، ترجمة للفظة Poetique بمعناها الاشتقاقي، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى لدينا "تاريخ الأدب" و"نقد الأدب". فأما عن علم الأدب فإجماع الأدباء اليوم أنه قد فشل، وكلنا نعرف نظرية

"تين" في ذلك، فقد أراد ذلك الناقد الفيلسوف أن يضع للأدب قوانين يفسره بها، ورد تلك القوانين إلى الزمان والمكان والبيئة، وطبق قوانينه على الأدب الإنجليزي. وهب جميع ذوي النظر السليم ضد هذا العلم الذي لا يستقيم. وإنك لتقرأ في كتب المدارس بفرنسا ردودا على تلك المحاولة لا تستطيع دفعها. والزمان والمكان والبيئة لا يمكن أن تفسر لنا التفاوت الكبير بين بيير كورني وأخيه توما كورني، وأندريه شينييه وأخيه ماري جوزيه شينييه، فهؤلاء إخوة اتحدوا في الزمان والمكان والبيئة، ثم اختلفوا في كل ما عدا ذلك، ومنهم من طبق مجده الآفاق كبيير كورني، وأندريه شينييه، ومنهم من لا نذكره اليوم إلا للتاريخ كتوما كورني وماري جوزيه شينييه، ثم كيف نعلل في أدبنا تفاوت أبي تمام والبحتري أو الفرزدق وجرير، بل كيف نفسر في الأدب أصالة كل كاتب، مع أن الأصالة بتعريفها ذاته شيء لا يرد إلى غيره وهي مجموعة من الخصائص التي تتميز بها روح عن روح، وأنا على ثقة من أن كل علوم الأرض لن تفسر ذلك الشيء الدفين الذي يميز روحي عن روح غيري، والعبرة بعد ليست باتحاد الزمان والمكان والبيئة، بل بطريق استجابة كل نفس لهذه المؤثرات، وتلك الطرق أصيلة في النفوس الأصلية. وخلق الأدب أو الإنتاج هو الآخر لا يمكن أن يفسره علم النفس، لا القائم منه على الملاحظة الداخلية، ولا الذي يدرس في المعامل؛ وذلك لأن علم النفس لا يسعى إلا إلى إدراك القوانين النفسية العامة التي قد تفسر حياة الأفراد العاديين إذا صح أن هؤلاء يتشابهون. والذين يخلقون الأدب -كما قلت- نفوس أصيلة لكل نفس منها حقائق، فكيف نريد أن نطبق عليهم قوانين علم النفس العامة التي أشك أكبر الشك في صحتها بالنسببة للعاديين من الناس. نعم إن هناك محاولات قد عملت في علم النفس الفردي، وهذه تتناول بالدرس حياة الأفراد في حدود ما تتميز به تلك الحيوات. ولكن هبنا أقمنا تلك الفروق فأين لنا بنسبها، والوجود كله مجموعة من النسب؟ أليس الأجدى -وتلك حالتنا- أن ندرس طرق إنتاج كل كاتب في نفسه، واقفين عند خصائصه هو مع حرصنا الشديد من كل تعميم مخل؟ وأما عن محاولة فاليري فالذي لاحظه كل من استمع لمحاضراته بالكلوليج دي فرانس هو أن نفسه الخاصة هي التي كانت موضع تحليله وإن ساق الحديث على نحو عام، فهو عندما يتحدث عن خلق الصور واقتناص الفنان لتلك الصور قبل أن تأخذ دلالتها العقلية، يتضح أنه

إنما يفسر أسرار شعره هو، إذن فحتى في هذه المعضلة لا مجال لتعميمات العلم! بقي تاريخ الأدب والنقد الأدبي. وفي الحق أن التاريخ الأدبي بالمعنى المعروف اليوم فيه جانب كبير من التجوز الذي تضطرنا إليه ضرورة التعليم، والناظر في طرق تاريخ الآداب المختلفة يجد أنها لا تكاد تعدو ثلاثة أنواع: 1- تأريخ لفنون الأدب Genres Litteraires أو كما نقول في الأدب العربي مثلا: أغراض الشعر، فتتناول في الأدب الغربي فن الملاحم نؤرخ له أو فن القصة أو الدراما، وفي الشعر العربي نتتبع تاريخ المدح أو الرثاء وهكذا. 2- تأريخ للتيارات العقلية والأخلاقية Les courants كدراستنا لتيار شعر اللذة الحسية عند أناكريون ورونسار ومن نحا نحوهما، أو الغزل العذري عند بترارك وبابيف، أو عند العرجي وعمر بن أبي ربيعة، وعند جميل وقيس بن ذريح. 3- تأريخ لعصور الذوق Les epoques du gout فندرس عصر الإنتاج الكلاسيكي في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد مثلا، أو ندرس عصر الصنعة أيام البطالسة بالإسكندرية، ندرس مذهب التثقيف عند أوس بن حجر وزهير والحطيئة وكعب، أو مذهب البديع عند مسلم وبشار وأبي نواس وأبي تمام. وكل هذه الأنواع إنما نجعلها وحدات لاضطرارنا إلى الاعتماد على الكليات في إدراك ذلك الفيض الذي يكون تراث البشرية الروحي، ولكنا عندما ندقق النظر نجد مفارقات لا حصر لها في داخل كل نوع، فرثاء أصحاب المراثي الذين أفردهم ناقدنا العليم ابن سلام الجمحي بباب خاص، وجعل متمم بن نويرة على رأسهم، غير رثاء البحتري وأبي تمام مثلا، ذلك لوعة وهذا مدح، وشعر أنا كريون اليوناني غير شعر رونسار الفرنسي، ولو اتفقا في التغني بالذات، ذلك يوناني يحب الحياة حتى ليكاد ينهبها نهبا، وهذا فرنسي من رجال النهضة يقلد القدماء ويود لو أصاب الخلود مثلهم، وأين صفاء البحر الأبيض من ضباب اللوار؟ ثم من يقول بأن إباء جميل وقوة نفسه يشبه رقة ابن ذريح وتولهه؟ وكذلك الأمر في عصور الذوق، فأوس وزهير يغايران الحطيئة في لون النفس. هذان ذوا أنفة وترفع والحطية هجاء لم يبق حتى على نفسه، ثم هل بي حاجة لأن أقرر أن مسلما غير بشار، وأن بشارا غير أبي نواس، وأن أبا تمام يغاير

الجميع؟ أين استهتار بشار وأبي نواس مثلا من فقر حياة أبي تمام؟ بل أين فن هذين من تقليد شيخ البديعيين الذي لم يعد في كل شعره "الرقص في السلاسل" أعني: التقيد بمعاني القدماء ومحاولة تجديد صياغتها. إذن فالصواب هو أن هناك رجالا، كما قال مورياس على فراش موته، وكل ما يعدو الرجال إلى التعميم مجازفة لا يشفع لها إلا الضرورات الملازمة لحياتنا العقلية. فإذا صح هذا فأي علم وأي قوانين عامة يريد أن يصل إليها الأستاذ خلف الله؟ لم يبقَ أمام زميلنا باب مفتوح غير النقد الأدبي، وهذا ما نريد أن ننظر الآن في إمكان إخضاعه لقوانين عامة. والواقع أنه قد قامت محاولات لجعل النقد علما، وكل تلك المحاولات يمكن أن نلخصها في اثنتين: 1- الأولى تلك التي ابتدأها أرسطو التي ازدهرت في أدب عصر النهضة، وهو الأدب المعروف بالكلاسيكي، وأساس تلك المحاولة هو استقراء ما درج عليه عرف الأدباء في كل فن من فنون الأدب، وجعل ذلك العرف قوانين، ومحاولة إخضاع الإنتاج الأدبي لها، وأسهل مثل لذلك هو الوحدات الثلاث في الدراما. أعني وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، ووجوب توفرها في كل دراما. ومن الثابت أنه لم يخضع لتلك القوانين حتى في الأدب الكلاسيكي إلا المقلدون من الأدباء؛ وذلك لأنها عكاز الأعمى، وأما كبارهم فقد مزقت عبقرياتهم كل عرف وكل قانون. تجد الوحدات مثلا أوضح عند برادون منها عند راسين أو كورني، ويا ويل أدب يحده شيء غير الحياة. 2- والمحاولة الثانية هي التي أحاربها اليوم بكل قواي، وهي في الحق من "مخالفات الماضي، من مخلفات القرن التاسع عشر في أوربا، ومن مخلفات "الأعجمي" قدامة في الأدب العربي. وأعني بها تطبيق القوانين التي اهتدت إليها العلوم الأخرى على الأدب ونقد الأدب، وهنا لا بد لي من تفصيل القول". وأنا أبدأ بما حدث في أوربا لكي انتهى منه في أسطر لأفرغ إلى أدبنا، فهو مادة حياتنا وهو أولى بأن نوفر عليه جهدنا لنوجهه الوجهة الصحيحة المنتجة. كلنا يعلم قيام مذهب التطور في أواخر القرن التاسع عشر بأوربا بفضل أبحاث لامارك ودارون، وكلنا يذكر أن سبنسر قد نقل قوانين التطور من مجال العضويات إلى مجال الروحيات فطبقه على الأخلاق والاجتماع وعلم النفس وما إليها.

وشاءت الأقدار أن ينفق ناقد فرنسي عظيم هو برونتير حياته في تطبيق ذلك المذهب على الأدب، فكتب سلسلة كتب بعنوان "تطور فنون الأدب" أخذ يحتال فيها لكي يثبت أن الأدب هو الآخر كالكائنات العضوية. فكما تطور القرد فأصبح إنسانا كذلك من الواجب أن يكون الأدب قد تطور فاستحال فنا من فنونه إلى فن آخر، ونظر فوجد الشعراء الرومانتيكيين يتحدثون في شعرهم عن الموت والحياة والبقاء والفناء، وعن الروح والله، وعن عظمة الإنسان وبؤسه في داخل الطبيعة وبالقياس إليها، وتذكر أن رجال الدين كانوا في القرن السابع عشر يتخذون تلك الموضوعات ذاتها مادة لوعظهم في خطبهم الدينية "Sermon" فقال: "إن الوعظ الديني قد تطور فأصبح شعرا غنائيا في القرن التاسع عشر". وهذا القول فيه من الحق ما كان يعرفه كافة المثقفين من تشابه موضوعات الوعظ الديني والشعر الغنائي الرومانتيكي، ولكن روح المذهب "Syteme" ورغبة هذا المفكر الكبير في أن يصوغ تلك الحقائق صياغة تماشي القوانين العضوية، وحرصه على أن يكون التطبيق عاما شاملا أفسد الكثير من أحكامه، وذهب بجانب كبير من قيمة مؤلفاته، التي أصبحنا ننظر إليها اليوم كوثائق تاريخية أكثر منها ككتب في تاريخ الأدب ونقد الأدب، وما لنا نذهب بعيدا وهأنا أجد لفظة "سيكولوجية" ترد في مقال الأستاذ خلف الله عدة مرات، وفي كل مرة لا تعدو أن تعبر عن أشياء معروفة قريبة بلفظة ضخمة تنزل بعقلي الدوار، وأنا لا أعرف ما هي "سيكولوجية الأدب" مثلا، وكأني بتلك اللفظة قد أخفت غموضا في نفس الكاتب، بل تعمية أخشى منها على نفسي وعلى غيري، بل لقد بلغ الأمر أن أصبحت لي أنا نفسي "سيكولوجية" فيها تصوف واندفاع وتأثرية. وكل تلك حقائق قد تكون صححية -وما أبرئ نفسي- ولكن أصحيح أيضا أنني أدخل في نوع محدود من أنواع الأجناس البشرية، وأن لي "خانة" يمكن أن أوضع فيها؟ في الحق أن هذا كله شرف لا أدعيه. محاولة اقتحام العلم على الأدب إذن قد فشلت، وكان هذا من حسن حظ الأدب الذي هو أدق وأرهف وأعمق وأغنى من أن نخطط له طرقه. الأدب شيء غير دقيق بطبيعته، ومحاولة أخذه بالمعادلات جناية عليه. الأدب مفارقات، ونقد الأدب وضع مستمر للمشاكل الجزئية، فقد يكون جماله في تنكير اسم أو نظم جملة أو كبت إحساس أو خلق صورة أو التأليف بين العناصر الموسيقية في اللغة، ولقد يخلو من كثير من العناصر التي نعدها كالخيال والعاطفة وما إليها، ومع ذلك يروقنا لصياغته أو سذاجته.

والأمر في أدبنا العربي أشد خطورة؛ لأن الأوربيين لم يجمدوا على الخطأ كما جمدنا، والذي لا شك فيه أن مناهج كل علم أو فن تصدر عن طبيعة ذلك العلم أو الفن، فعندما نريد درس الأدب العربي يجب أن نكون من الفطنة بحيث لا نحاول أن نطبق عليه آراء الأوربيين وقد صاغوها لآداب غير أدبنا. فعلم الأدب مثلا كما عرفناه سابقا بأنه محاولة تفسير الظواهر الأدبية ليس له دائما مجال في أدبنا؛ لأنك إذا وجدت علاقة ما بين حياة بعض من شعرائنا مثلا وشعرهم كما هو الحال في أبي نواس، والمتنبي، وأبي العلاء، وكما كانت الحال في الأدب الجاهلي والأدب الأموي، فإنك لن تجد شيئا من ذلك عند الشعراء المقلدين الذين نسميهم بالكلاسيكيين الجدد أمثال البحتري وأبي تمام مثلا. وكذلك نظرية الإنتاج الأدبي قد يكون لها محل عند الشعراء الأوائل الذين اهتدوا بأنفسهم إلى تشبيه الرسم الدارس بالوشم في ظاهر اليد وأمثال ذلك. وأما من تلاهم فلم يعدوا التقليد، ولك عندئذ أن تبحث في انتقال القيم الفنية المعروفة، وما أدخلوا عليها من تغيير، وكذلك الحال عندما نحاول تأريخ الأدب العربي، ففنونه وتياراته وعصوره غير متميزة، وهم أنفسهم لم يفصلوا القول إلا في مذهب واحد هو مذهب البديع، فهذا وحده هو الذي يشبه مدارس الأدب في أوربا. وأما ما دون ذلك فمقارنات أشاروا إليها إشارات عابرة، وحاول بعض نقادنا المحدثين أن يجعلها مدارس كما فعل الدكتور طه حسين في مدرسة زهير والحطيئة، ولكنها بعد محاولة لا أدري مبلغ ما فيها من جمع ومنع. إذن فالذين يبقى لدينا من دراسة القدماء للأدب العربي هو ما نسميه بالنقد الفني، ونعني به ذلك الذي ينظر في النصوص ويحكم فيها من حيث الجودة الفنية وعدمها، وهذا النقد حظ التفسير فيه، ومن ثم ما يسميه الأستاذ خلف الله بالعلم ضعيف، وهذا أمر طبيعي أملته حقائق الأدب العربي ذاته، وكل محاولة لتجريح هذا الاتجاه واتهامه بأنه غير علمي محاولة ظالمة مخطئة. المنثور في كتاب الأغاني وغيره كتب نقد منهجي مفصل لا نظن أن الأوربيين قد وضعوا في آدابهم خيرا منها، ومع ملاحظة الفارق بين طبيعة أدبنا وآدابهم، وخير مثل لتلك الكتب هو "الموازنة" و"الوساطة" ففي أولهما يتناول الآمدي البحتري وأبا تمام بالدرس التفصيلي والمقارنة المستقصاة وفق منهج وضحته في كتاب أرجو أن يقرأه الناس قريبا1، وفي ثانيهما فعل عبد العزيز الجرجاني كذلك في دراسته للمتنبي.

_ 1 كتاب النقد المنهجي عند العرب.

ولكن إلى جانب هذا النقد المنهجي الرائع قامت محاولة "قدامة" التي يريد الأستاذ خلف الله أن يجدد محنتها اليوم. وموضع الخطر عند "قدامة" وعند "العسكري" الذي يعتبر استمرارا لمذهب -هو اعتماد نقده على التقاسيم والشكل والتعليم والتحكيم، ومن منا لا يذكر تعريفه للشعر بأنه: الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى؛ ليخرج غير الكلام الأغراض ومناهجها وتمكن بأن يكون المدح بأشياء ولا يكون غير الموزون وغير المقفى وغير ذي المعنى وما إلى ذلك من حماقات؛ ومن منا لا يذكر رده الرثاء والفخر إلى المدح وحصره لمعاني تلك بأشياء، ثم ماذا فعل في تقسيمه لأوجه البديع غير الخلط حتى في الاصطلاحات، ورفضه أن يسمى المطابق مطابقا كما سماه ابن المعتز وتسميته له بالمتكافئ، ثم تعريفه المعاظلة بأنها فاحش الاستعارة وما إلى ذلك من خلط. ثم هبه قسم الأوجه بل هبه مهد السبيل للعسكري ليصل بها إلى خمسة وثلاثين وجها، فماذا أفدنا من ذلك؟ وماذا يفيد طلبتنا اليوم من لصق بطاقات على طرق الأداء كما يلصق التجار على بضائعهم؟ أهذا نقد؟ أهو بلاغة؟ أهو أدب؟ هذا لا شيء، هذا إضلال للمتأدبين وإفقار للذوق وإماتة للحاسة الفنية في النفوس، لقد قلت وأكرر: إن كتب قدامة وكتاب أبي هلال مستطيرة الشرر، ومن الواجب أن نلفت الأنظار إلى أنه لا يجب أن ينظر إليها المتعلمون إلا كوثائق تاريخية تنير لنا ماضينا، وأما أن نعتبرها كتب نقد فلا، وكفى طغيانها على كتب المتأخرين حتى يومنا، فقد كانت في ذلك محنتنا، ومن واجبنا أن ندافع عن حياتنا التي يغذيها الأدب الصحيح. أما عبد القاهر الجرجاني فقد قلت للأستاذ خلف الله شفويا: إنني لا أعدل بكتاب "دلائل الإعجاز" كتابا آخر، وأما "أسرار البلاغة" فمرتبته في نظري دون "الدلائل" بكثير. الدلائل تشتمل على نظرية في اللغة وتطبيق تلك النظرية، وأما "أسرار البلاغة" فأقرب إلى الفلسفة النظرية منها إلى النقد الأدبي، وليكن تفصيل ذلك موضوع الحديث الآتي. وكفى أن وصلنا الآن إلى رد اتجاه العلم عن الأدب، وسوف نرى في مذهب عبد القاهر جانبا كبيرا من المعرفة التي يجب أن تتوفر للناقد، وهي بعد ليست معرفة نظرية بل معرفة لغوية وفنية تكتسب بالدربة، وبدراسة علوم اللغة لا بدراسة المنطق والسيكولوجية والجمال وما إليها.

نظرية عبد القاهر الجرجاني

نظرية عبد القاهر الجرجاني: يخيل إليَّ أنه لا سبيل إلى الوقوف عند الكليات في مناقشة منهج الدراسة في الأدب، فها هو صديقنا الأستاذ خلف الله يرى أن ما أدعو إليه جاهدا لا يختلف إلا قليلا عما يقول، وأنا لا ريب يسرني أن أكون على وفاق تام مع الصديق، بل ومع كافة البشر؛ ولكنني أخشى أن يكون الخلاف أعمق مما يظن، وإن كان ثمة ما يخفف عن نفسي، فهو أننا نقتتل لغاية شريفة. والذي أدعو إليه هو استقلال الأدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي، استقلاله بموضوعه ومناهجه، ولي في استقلال الفلسفة التي كانت تشمل قديما كل أنواع المعرفة أسوة حسنة. وأما ما يدعو إليه الصديق فذلك ما لا علم به؛ لأنه هو نفسه لم يستقر به على تحديده، وكم أود لو واجهنا الصديق برأي متميز يناهض به رأيي، إذن لاهتزت جوانحي فرحا، ولقلت ها نحن قد نضجت ملكاتنا فأصبحت لنا اتجاهات نؤيدها ويؤيدها معنا من يرى الأشياء كما نراها، وبهذا تكون لنا مدارس أدبية كما كانت لغيرنا من الشعوب. يريد الأستاذ خلف الله أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف: علم النفس وجمال واجتماع، وأنا أعوذ بالله أن أكون عدوا للمعرفة، ولو أن أديبا أخبرني أنه يدرس الفك لشجعته على المضي في دراسته؛ لأن المعرفة -أي معرفة- إن لم تنفع كما يقولون فلن تضر ما حجزناها عن الأدب، وموضوع الخطر هو أن نقحم على دراستنا معارف أقل ما فيها من إضلال هو صرفنا عن أن نركز نظرنا في الأدب كفن لغوي، واهمين أننا نجدده إذ نتناوله بمبادئ علوم أخرى. وأما النظريات اللغوية، وأما علوم اللغة ومناهج اللغة، فذلك موضع دراستنا الذي نعتز به ونرى فيمن يستطيعه على نحو ما استطاعه عبد الظاهر كنزا ثمينا، المنهج الذي أدعو إليه هو المنهج الفقهي -منهج فقه اللغة- وسوف نرى ذلك المنهج يبتدئ بالنظر اللغوي لينتهي إلى الذوق الأدبي الذي هو لا شك متحكم في كل ما يمت إلى الأدب بصلة، وسواء في ذلك أردنا أو لم نرد. ولنتخذ في إيضاح ما نريد سبيل البواقي، فندل بضرب المثل على ما ليس من

منهجنا، ولتكن أمثلتنا من بين المسائل النفسية التي عالجها صديقنا وغيره من النقاد المصريين، ولنكتف بمثلين: دراسة شخصية الحجاج التي نشرها الأستاذ خلف الله "بالثقافة" ومسألة التصغير عند المتنبي كما نشرها الأستاذ العقاد في "المطالعات". درس الأستاذ خلف الله خطب الحجاج فوجده رجلا ورعا قوي الإيمان من جهة، قاسيا صلبا من الجهة الأخرى، وذكر أن بعلم الأمراض النفسية شيئا اسمه "ازدواج الشخصية" بل وفطن إلى أن هذه الحقيقة العلمية قد استخدمت في الأدب نفسه، فكتب أحد الروائيين الإنجليز قصة بعنوان "دكتور جيكل آند مستر هيد"1، وفيها يصور المؤلف رجلا يعمل بالنهار كطبيب شريف رقيق، وفي الليل ينقلب شريرا مجرما. وما دام الحجاج قد جمع إلى التقوى الصرامة فهو إذن مزدوج الشخصية، وهو -في رأي الأستاذ- مثل قديم "لدكتور جيكل آند مستر هيد". وهذا مثل لتطبيق مبادئ علم النفس على الأدب، مثل ذلك نرى فيه إغراء المذهب وإفساد الفكرة لحقائق النفوس، وهو بعد لا يقل إسرافا وخطرا وخطأ عن محاولة برونتير تطبيق مبادئ التطور على الأدب كما رأينا في المقال السابق. الحجاج أقوى شخصية من الازدواج. الحجاج نفس مؤمنة تتعصب لما تؤمن به، والتعصب قسوة، نفس قوية بوحدتها. نظر الأستاذ فوجد الحجاج يقول: "إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها ... وإني ... وإني ... "، وذكر أن في علم نفس الأطفال مرحلة تسمى التركيز الآني "ego- centrisme" وهي تلك التي يرد فيها الأطفال كل شيء إلى أنفسهم، كأن العالم الخارجي امتداد لذواتهم، وكأنهم جزء لا ينفصل عن ذلك العالم حتى يتم لهم إدراك انفصال أجسامهم عن غيرهم وتمييزها عما سواها، وها هو الحجاج يكثر من استعمال ضمير المتكلم، وإذن فلا بد أنه ولوع بذاته، مركز للعالم في آنيته، وهذا مثل ثانٍ لطغيان علم النفس على الأدب. وأنا بعد لا أرى في هذا ذاتية ما، وإنما هي حماسة قلب تلتمس من طرق الأداء وما يشفيها، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي -المنهج الطبيعي المستقيم. وكذلك يفعل الأستاذ العقاد، فهو بلا ريب يعلم ونعلم معه أن المتنبي كان

_ 1 "دكتور جيكل آند مستر هيد" هكذا كتب الأستاذ خلف الله في الثقافة، وأنا بعد لا أدري لماذا لم يترجم حرف العطف "آند And" بالواو فيقول "دكتور جيكل ومستر هيد" وأنا قد أفهم على مضض إصراره على استخدام لفظة "سيكولوجية". وأما "آند" بدلا من واو العطف فذلك ما لا أقبل به.

رجلا معتزا بنفسه، وهو قد لاحظ أن المتنبي يكثر من استعمال التصغير، فما عليه إلا أن يقيم علاقة نفسية بن الظاهرتين فيعلل تصغير المتنبي بتكبره، وهذا أيضا من طغيان النفسيات على الأدب، والنفسيات في ذاتها ليست شرا، وإنما الشر يأتي من طريقة استخدامها وبخاصة في عصرنا الحالي، حيث يريد أصحابها أن يعطوها صفة العلم بما يستتبع ذلك من تعميم قوانين لا يمكن أن تنطبق على الأدب، الذي هو -كما قلت وسأقول دائما- مفارقات دقيقة تحتاج في إدراكها إلى ما يسميه بسكال "Pascal" لطافة الحس "esprit de finbesse" أكثر من احتياجها إلى التفكير الهندسي "esprit de geometrie". ولننظر عن قرب في رأي الأستاذ العقاد؛ وذلك لأنه يبدو لأول وهلة ظاهرة الوجاهة، والمتنبي لا نزاع في أنه متكبر، كما لا نزاع في أنه قد هجا "الشويعر" و"كويفير" و"الخويدم" و"الأحيمق" بل "وأهيل عصره". والتصغير في رأي النحاة كثيرا ما يكون للتحقير، وإذن فالمتنبي يريد بالتصغير أن يحقر خصومه، وهو يحقرهم لأنه متكبر؛ وهنا يتسلل الخطأ إلى التفكير النفساني؛ وذلك لأني لا أظن أن التصغير في شعر المتنبي كان لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها كافة شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب. أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير، حتى ولا في شعر المتنبي نفسه، وهو قد استخدمه للتعظيم، قال: أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي ومعنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلة حتى خيل للشاعر أنها لم تكن ليلة واحدة بل سبعا، وإذا كان هذا طولها فكيف يصغرها فيقول: "لييلتنا"؟ ولقد سئل المتنبي نفسه في ذلك "الوساطة - طبعة صبيح ص339": هذا تصغير التعظيم، والعرب تفعله كثيرا، قال لبيد: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... ودويهية تصفر منها الأنامل أراد لطف مدخلها فصغرها، وقال الأنصاري: أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك، فصغر وهو يريد التعظيم، وقال آخر: يا سلم أسقاك البريق الوامض ... والديم الغادية الفضفاض وإذن فالمتنبي قد استخدم التصغير في غير التحقير، بل استخدمه في ضده. ومن هذا نرى أن العلاقة بين التكبر والتصغير غير مطردة حتى يستقيم التفسير

بفرض إمكان ذلك. وفي الحق أن التصغير لا يفيد التحقير والتعظيم والتلميح وما إليها فحسب، بل يفيد ألوانا لا حصر لها من العواطف، وأنه لمن الخطأ أن نأتي بتفكيرنا الهندسي فنعمم على غير احتياط. ونحن لسوء الحظ لم نعد نحس اللغة العربية الفصحى، وهذا يقودنا إلى أخطاء كثيرة لا يمكن أن يعصمنا منها نحو ولا بلاغة، ولنفكر جميعا في الإحساسات المختلفة التي يثيرها في أنفسنا تصغيرنا العامي في قولنا مثلا: "حتة ولد" و"حتة نتفة ولد"، ولنتصور الملابسات العديدة التي يقول فيها شعبنا أمثال تلك الجمل، لندرك المفارقات الدقيقة التي أشرت إليها، هناك وسائل كثيرة تحتال بها اللغات على تلوين أفكارنا ذلك التلوين الذي لا تحمله ولا يمكن أن تحمله مفردات اللغة، وإنما نلحقه بها بفضل التنغيم في الكلام، وبحيل بلاغية في الكتابة، والتصغير إحدى تلك الحيل، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي، وأما منهج العلم النفسي فيرى أن تصغير المتنبي كان لتكبره! هذه الأمثلة أسوقها للتدليل على النتائج البعيدة التي تترتب على استخدام مناهج العلوم الأخرى، أو مبادئها في دراسة الأدب. الأدب فن لغوي كما قلت، فمنهجهه هو المنهج الفقهي الفني كما فهمه عبد القاهر الجرجاني وطبقه في "دلائل الإعجاز". والآن ما هو ذلك المنهج؟ منهج عبد القاهر يستند إلى نظرية في اللغة، أرى فيها -ويرى معي كل من يمعن النظر- أنها تماشي ما وصل إليه علم اللسان الحديث من آراء، ونقطة البدء نجدها في آخر "دلائل الإعجاز"؛ حيث يقرر المؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات "Systeme des reapports". على هذا الأساس العام بنَى عبد القاهر كل تفكيره اللغوي الفني، قال: "إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينهما فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم، والديل على ذلك أن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها؛ لأدي ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لنعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فحمال أن يوضع اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار

إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها؛ كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مساغا في العقل لكان ينبغي إذا قيل زيد أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة ... وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا تتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل والأول هو الخبر، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء. وكنت إذ قلت: اضرب، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء. 1- أن الألفاظ لم توضع كما أنها لا تستعمل لتعين الأشياء المتعينة بذواتها، وهذه هي نظرية الرمزية في اللغة التي أوضح المفكر الألماني فنت Wundt1 حدودها؛ وذلك لأنه لدينا عن طريق تجاربنا المباشرة أو تجارب الغير صورة ذهنية لكل شيء ولكل حدث، وإنما نضع ألفاظ اللغة ونستعملها لنحرك هذه الصورة الذهنية الكامنة، فعندما نقول: "رجل" لا يمكن أن يثير هذا اللفظ في نفوسنا شيئا، ما لم يكن في ذهننا صورة الرجل، اللفظ رمز لها ومحرك. 2- ونحن لا نستخدم ذلك اللفظ لنحرك الصورة الذهنية تحريكا نريده لذاته، وإلا كنا مجانين، وإنما نفعل ذلك لأننا نعتزم أن نخبر عن "الرجل" بشيء ما، وهنا يلحق الجرجاني بأكبر مدرسة حديثة في تحليل اللغة، أعني مدرسة العالم السويسري الثبت رأس علم اللسان الحديث فردينانمد دي سوسير F. de Saussure2 ثم اللغوي الفرنسي الذائع الصيت أنتوان مييه "A. Meillet" ولقد كتب هذا العالم الأخير فصلا3 هاما عن منهج الدراسة

_ 1 بنوع خاص في كتاب ضخم "10 أجزاء" عن "نقسية الشعوب". 2 راجع دروسه التي نشرها تلاميذه بعد موته بعنوان: "دروس في علم اللسان العام". ولعل هذا الكتاب أعمق ما كتب في ذلك العلم وأغناه وأوضحه. Cours de linguistique generale 3 eme edition Paris -Payot 1931. 3 هو أحد فصول مجموعة من المقالات الطويلة كتبها علماء مختلفون كل في مادته، ونشرت في مجلدين عند ألكان Alcain بعنوان "مناهج العلوم" De la methode dans les sciences وقد ترجمنا الفصلين الخاصين بـ"اللغة" و"الأدب" ونشرتهما دار العلم للملايين ببيروت في كتاب بعنوان "منهج البحث في الأدب واللغة".

في علم اللسان، وفيه يرد اللغة إلى عنصرين: "أ" مفردات" "ب" عوامل الصيغة Morphemes. والمفردات معروفة وهي كلفظة "رجل"، وأما عوامل الصيغة فيقصد بها إما ترتيب الكلمة في الجملة، وإما مقطع صوتي كالتنوين في "رجل"، وإما علامة الإعراب، وإما أداة نحوية كالألف واللام في "الرجل". فهذه العوامل هي التي تعطي اللفظة دلالتها التي نقصد إليها عند تفوهنا بالكملة؛ وذلك لأننا -كما يقول الجرجاني- لا ننطق بلفظة ما إلا لكي نخبر بها أو عنها بشيء، ومن ثم فحن ننطق بها مضافا إليها حتما عوامل الصيغة من ترتيب أو مقاطع صوتية خاصة. فالرفع لإفادة الإسناد، والألف واللام للتعريف، والابتداء لكذا وكذا، ونحن بعد لا نكتفي بلفظ واحد إلا أن يكون جوابا لسؤال أو اعتمادا في كلام سابق أو ملابسة راهنة، وإنما نقول "رجل" ثم نخبر عنه فنضيف "جاء" مثلا، ومن ثم تكون مفردات اللغة لا قيمة لها في ذاتها؛ لأنها لا تكتسب دلالتها المقصودة إلا بفضل عوامل الصيغة. وإذن فمفردات اللغة ليست إلى رموزا لصور ذهنية محصلة من قبل، وهي لا تستخدم لذاتها بل لتقيم بفضل عوامل الصيغة التي تضيفها إليها طائفة من العلاقات بين الأشياء أو بين الأشياء والأحداث، وهنا ننتهي إلى ما أجملناه في قولنا: اللغة مجموعة من العلاقات لا مجموعة من الألفاظ. عن هذا "العلم الشريف والأصل العظيم" فرَّع الجرجاني كل آرائه، وجمعها مسألتان؛ الأولى: إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صفة في اللفظ ذاته؛ ثم ثورته على مذهب العسكري الذي يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل. الثانية: تعليقه جودة الكلام بخصائص في النظم: "واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت ... هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية أو فضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.

فأما مخالفته للحاجظ فباستطاعتنا أن نقره عليها، وإذا ذكرنا أن الجاحظ وغير الجاحظ من أدباء العرب ونقادهم لم يصفوا فصاحة اللفظ ولا عنوا فيها إلا بالصفات السلبية كالخلو من التعقيد والتنافر وما إلى ذلك، والبحث الحديث قد أصبح اليوم يرى للألفاظ قيمة ذاتية إيجابية من حيث ما يوحي به جرس حروفها من إحساس يعزز المعنى المعبر عنه، ومن غريب الأمر أن النحاة وعلماء اللغة قد فطنوا إلى أن بعضا من ألفاظ اللغة كانت أسماء أو أفعال أصوات، كما منهم من اهتدى بالاستقراء حقائق لغوية تلوح صحيحة، وأضرب لذلك مثلا ما ذكره الزمخشري في الكشاف عندما قرر أن كل أفعال اللغة العربية التي تبتدئ بنون وفاء تفيد المضي والنفاذ، كقولنا نفد ونفذ ونفر ونفق ونفض ... إلخ، ومع ذلك فإنهم لم يستخدموا تلك الحقائق في نقد الأدب ليوضحوا على أساس لغوي - ما يهتدي إليه الشعراء والكتاب بغرائزهم الصادقة، عندما يؤثرون لفظا على لفظ، وفقا للمعنى الذي يريدون العبارة عنه. لقد كتب الأوربيون كتبا في إيضاح أسرار الشعراء والكتاب اللغوية فتراهم1 يحصون أنواع الأحرف الصائتة Voyelles والأحرف الصامتة Consonnes في البيت الجيد من الشعر، ويقيمون بينها نسبا يستخرجون بفضلها ما يسمونه "بالانسجام الصوتي" harmonoie vocaliques الذي ينتج عن توزيع الأحرف الصامتة، ثم "انسجام المحاكاة" harmonie imitaitve الذي ندركه من مطابقة الإحساس الذي يخلفه في النفس وقع الأحرف الصامتة المختلفة للإحساس الذي لدينا عن الشيء الذي نتحدث عنه، على نحو ما توحي السينات المتتابعة مثلا بصفير الريح، ولكن هذه كلها أبحاث حديثة ليس لنا أن نتطلب مثلها من نقادنا القدماء. والجرجاني أشد إصابة في نقده لآراء العسكري السقيمة، فهو يرى "أن في كلام المتأخرين كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على

_ 1 راجع كتاب موريس جرامون M. Grammont عن الشعر الفرنسي، طرق أدائه وانسجامه. :Le vers francais: ses moyens, d'expression son harmonie , paris 1917. وهو من خير ما كتب النقاد العماء العصر الحديث.

المعنى وأفسده، كمن يثقل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها. "أسرار البلاغة ص6" وهو يلاحظ "أنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بديلا ولا تجد عنه حولا، ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبا بهذه الصورة". وأما نظرية النظم عن الجرجاني فنظرية كبيرة هامة. وعنده أن دراسة النظم لا تقف عند أمر الصحة بل تعدوه إلى تعليل الجودة. وبعبارة أخرى: يمزج الجرجاني "النحو" بما سماه البلاغيون فيما بعد "علم المعاني" وله في ذلك حكمة بالغة تقتضينا أن نفصل القول في ذلك.

النظم عند الجرجاني

النظم عند الجرجاني: منهج فقه اللغة الذي ندعو إليه، عارضين آراء الجرجاني كمثل، لا يتنكر لمعرفة النفس البشرية؛ لأنه يفرق بين تلك المعرفة وقوانين علم النفس، كما لا يتنكر لروح العلم، وإن أقصى قوانين العلم. مثل من يدعي أن قوانين علم النفس تبصرنا بحقيقة النفس الإنسانية، كمثل من يزعم أنه يستطيع أن يفهم دور شطرنج يعلب أمامه؛ لأنه قد تعلم القواعد التي تتحرك بموجبها كل قطعة من قطعة، مع أن علمه لا يعدو الحكم على موافقة حركات القطع للقواعد أو عدم موافقتها؛ وأما لماذا تتحرك؟ وإلى أي غاية تسعى؟ وكيف ينظم اللاعب الماهر خططه ويتصرف في قطعة؟ فذلك ما لن يدركه صاحبنا ولو وعى القواعد عن ظهر قلب. ذلك وللشطرنج قواعد آلية؛ لأنها مواضعة بحتة. وأما النفس البشرية فلا أرى بل ولا أحس فيها جبرا إلا أن يضعه البعض فيها. وهم لا يخطئون في ذلك فحسب، بل يأثمون، ولقد فرغ الباحثون في حقيقة المعرفة بوجه عام من الفطنة إلى أن قوانين المادة ذاتها شرطية لا تولد آثارها إلا إذا توافرت ملابسات لا يمكن استقصاؤها، وتلك الآثار تتغير بتغير الملابسات. وكبار الرياضيين1 أنفسهم يجزمون بأننا لا نستطيع -وما أظننا نستطيع في المستقبل القريب- أن ندرك بفضل القوانين العملية حقائق الأشياء بله النفوس، نعم إننا قد استطعنا أن نستغل العالم المادي بفضل معارفنا العلمية التي تدرك الأشياء في ظواهرها وآثارها الخارجية، ولكن هذه ليست المعرفة التامة الداخلية، وأنا لا أريد أن أنزلق إلى سفسطة ما وراء الطبيعة العقيمة، ولكنني أنظر أمامي الآن فأرى ورقة بيضاء تحدث في نفسي أثرا ما، كما تحدث في نفس جاري آثرا آخر، ونحن الاثنان نتفق بلا ريب على تمييز اللون تمييزا يجعلنا نرمز له باللفظ اللغوي "أبيض" فنتفاهم، ولكن من لي بمعرفة أثره النفسي عند ذلك الجار، والنفوس عوالم مغلق بعضها دون بعض؟ وهل المعرفة الحقيقية في مردها النهائي إلا ما تطبعه الأشياء في النفوس من آثار؟ وكيف

_ 1 راجع مثلا كتاب الرياضي الفيلسوف الشهير هنري بوانكاريه "قيمة العلم" La valeur de la science.

أدرك تلك الآثار، وهي لا ريب مكيفة في كل نفس بملابسات لا حصر لها، وأين لي باستقصاء كل ما تثيره في النفوس من تداعٍ؟ أنا لا أنجح في التفاهم مع جاري إلا استنادا إلى التقسيم، فنميز الأبيض؛ لأنه يختلف عن الأسود أو الأحمر؛ ولكن أهذه معرفة حقه؟ أفيها إدراك لحقائق الأشياء؟ وإدراك لآثارها المتميزة بالنفس؟ فإن لم تكن، أَوَلا ترون أن الذين يريدون فهم النفس البشرية بفضل نظريات السيكولوجيا، إنما يريدون تشريح فراشة "بسكينة بصل". وأنا لا أجهل أنه قد يصاح بي: ولكن هناك التحليل العلمي الذي يرد الألوان إلى عناصرها، وأدرك هذا الاعتراض الذي لا يرهبني في شيء؛ لأنني وإن كنت أجل رجال العلم، وأعتز بنتائج أبحاثهم التي مكنتنا من الحياة وردت عنا الكثير من الآلام، إلا أنني أنكر الإنكار كله أن يستطيع العلم أن يحل محل نفسي في إدراك حقائق الأشياء، من منا يستطيع أن يزعم أن في مقدروه أن يعرف طعم شراب لم يذقه بمعرفة عناصره الكيماوية ونسبها؟ من منا يجرؤ أن يدعي أنه يعرف حيوانا لم يره قط، بدراسة خلاياه تحت المجهر؟ من منا يصل إلى تصور جمال لوحة زيتية بقراءة وصف لها في دليل أحد المتحاف؟ ممن منا يتوهم أنه سيفهم نفسه بغير نفسه؟ أي قوانين وأي أبحاث ستبصرني بآلامي وأحلامي؟ معرفة النفس البشرية غير قوانين علم النفس ونظريات السيكولوجيا، وذلك بفرض أننا نحسن فهم تلك القوانين والنظريات، وقف بها عند ما تستطيعه، فما بالكم بهذا الوباء الذي تفشى بيننا في السنين الأخيرة فأخذنا نرى كتابنا وناقدينا يظنون تلك النظريات أثوابا تصلح لكل نفس، فإن ضاقت فلتمزق، وإن اتسعت فلتشجب، هناك وسيلة سهلة لإدراك الشخصية الروائية أو النموذج البشري، هي أن نتلقاه بقلوبنا كما خلقه أصحابه بقلوبهم، وأن نتحد به اتحادا شعريا، وهذا لا يتطلب إلا هبة من الله، هبة الإحساس ترهفه تجارب الحياة ويسعده خيال قوي يعيننا على أن نحيا حياة غيرنا وكأننا أصحاب تلك الحياة، وأما ما دون ذلك من علم ومعرفة فمكملات لن تسد نقصا جوهريا، ومتى جعلت من الأبله سقراطا؟! ونحن بحاجة إلى الأمانة العقلية، إلى الخضوع لموضوع دراستنا، إلى انتزاع الحق من جوف الأشياء، وما نحاربه هو إملاء النظريات على الواقع، هو إتلاف الحقائق بالعلم الباطل، هو مداراة فرقنا الروحي بمصطلحات العلم الخاوية، هو ظننا أن المعرفة إدراك للظواهر التي يكتفي بها العلم في عالم المادة، ونحن

نرفضها في عالم الروح، إننا نحارب قسر الفكرة، نحارب ادعاء العلم، نحارب التبجح بالمعرفة التي لا تغني، لنعرف كل شيء، على أن نكون قادرين على هضم ما نعرف، ولتشع المعرفة في كل ما نقول أو نكتب، ولكن ليكن الإشعاع من الداخل، ليكن إشعاعا لطيفا رقيقا خفيا، كذلك الذي ينساب إلى قلوبنا في جوف الليل من محبة الله. ذلك عن النفس وعلم النفس، والأمر كذلك في روح العلم وقوانين العلم، فأنا كما أثور على إقحام قوانين علم النفس الهيكلية على الأدب، بينما أدعو إلى الصدور عن معرفة حقيقية بالنفس البشرية، واعين بما نفعل، حتى لا نتهم بأننا كجوردان الذي ظل يتكلم النثر عشرات السنين دون أن يفطن لما يفعل، أقول: إنني على نفس النحو أدعو جاهدا إلى الأخذ في الأدب بروح العلم، وأما اصطناع قوانينه فلا. روح العلم غير قوانين العلم، ليست إلا ما ذكرت وأكرر: أمانة عقلية، وخضوع للموضوع وتأدب على التصديق، وتنحية للهواء، ثم استقصاء للتفاصيل، وقصر من الأحكام، وتدعيم للإحساس بنظرات العقل، واتخاذ الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة بتحديده، وتمييزه، ومراجعته، وتعليله ما أمكن التعليل. وروح العلم موقف تقفه النفس من الناس والأشياء، وأما العلم فجموعة من القوانين التي تفسر عادة عالم المادة، تفسر مظاهره، لنأخذ بروح العلم؛ لأنها روح خلقة نبيلة، وأما محاولة تطبيق قوانين العلم على الأدب، فقد رأينا مثلا دالا على خطئها عندما عرضنا لما فعله برونتيير ووضحنا ما سار إليه من ضلال، الأدب مفارقات. الأدب كالنفس البشرية حفنة من الماء لن تتميز ذراته. المنهج الفقهي إذن يتضمن روح العلم ويعتز بالنفاذ إلى حقائق النفوس، ولكن هذا ليس ما يميزه عن غيره من المناهج، وروح العلم وفهم النفوس حقيقتان مستقرتان في كل نشاط عقلي منتج، حتى أننا لا نرى فيهما شيئا يخصصهما بالمنهج الأدبي. المنهج الفقهي يستمد حقيقته من مادة درسه وهي الأدب، ولقد قلنا في مقام سابق: إن منهجا لا ينتزع من موضوعه مستمدا مبادئه من ذلك الموضوع ذاته، لا يمكن أن يستقيم. والأدب لا ريب فن لغوي، وتلك حقيقة يجب أن نوضحها لنفهمها. قالوا: إن الأدب ملكة النفس، طبع مفطور، فالشاعر يغني كما يغرد الطائر، ولكن هذا أعجم وذاك مبين، وللطائر دوفعه، وما أظن الطبع خالقا شيئا بذاته،

أولا ترى مع ابن قتيبة أنه لا بد للشاعر مهما كان طبعه غنيا من مثير "وللشعر تارات يبعد فيها قريبه ويستصعب ريضه" وكذلك له "دواع تحت البطيء وتبعث المتكلف"، بل هبه واتاه الدافع؟ أتحسب أن الشعر جمرات من الإحساس؟ والجمرات تحرق، والإحساس العنيف يعقد اللسان. وإنما يكون الشعر عندما يسكن العنف وتهدأ حدقة العين فتستطيع الإبصار، عندئذ تستغل الإرادة ما بقي في النفس ويبدأ الشاعر في الجهد الذي لا يستقيم شعر بدونه. الشعر صناعة جيدها ما أحكم حتى اختفى. الشعر طبع ودوافع وإرادة وجهد وصناعة. ونحن بعد لا نستطيع دائما كل ما نريد، ونحن بعد لا نصل دائما بجهدنا إلى الكمال، وموضع المشقة في الأدب ليس إلا في القدرة على إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ. قال ديهامل: "كم من مرة أستمع إلى رجال أو نساء يتحدثون وسط الجموع في عربة قطار، أو أثناء وجبة طعام، فتحدثني نفسي كل مرة: "ها قد وقعت على صفة نفسية، أو تسقطت علاقة أو لمحت دافعا خفيا، ولكني عاجز عن أن أصوغ ما اكتشفت ألفاظا، ربما أستطيع فيما بعد أن أصور ما أحسست به أما الآن فلا، وأنا أعلم أني إن لم أصب التوفيق فسيأتي من بعدي غيري يفيد من تجاربنا وتساعده عبقريته فينجح في العبارة عما لمحناه". إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ هو ما يميز الأدب عن غيره من الفنون. الأدب طريقة من طرق العبارة عن النفس يعبر باللفظ، كما يعبر المصور بالألوان والناحت بالأوضاع، ومن ثم وجب أن يكون منهجه منهجا لغويا، وأنا أعرف ما يثيره هذا اللفظ في النفوس من مخاوف، فمن الناس من يظن أننا سنعود به إلى الدراسة اللفظية التي أفسدت الأدب وسلبته روحه، ولكن هذه خوف ظالم؛ لأن اللغة مستودع تراثنا الروحي، ومن الثابت أننا لا نملك من أفكارنا وأحساسيسنا إلا ما نستطيع إيداعه اللفظ الذي يوضح الفكرة ويميز الإحساس. وهذه النظرية الصحيحة هي موضع اعتزازنا بتفكير عبد القاهر. ينكر عبد القاهر -كما رأينا- كل مزية في اللفظ، وهو في ذلك يناقض آراء الجاحظ في الفصاحة، ولكن هذا في الحق إنكار مسرف لا نقره، ونحن لا ندعي لرجلنا العصمة، ولا نضرب دائما بعصاه، والذي لا شك فيه أن لجرس الألفاظ -كما قلنا- وقعا إيجابيا كثيرا ما يعين الكاتب أو الشاعر على استنفاد1 إحساسه، وذلك

_ 1 خذ لذلك مثلا قول الدكتور أبوشادي: عودي لنا يا أغاني أمسنا عودي ... وجددي حظ محروم وموعود ثم ردد الشطر الأول عدة مرات تشعر لا ريب براحة في الصدر، كأنك كل مرة تطلق زفرة تشفي النفس، ثم تساءل عن مصدر ذلك فإنك لن تجده إلا في توفيق الشاعر بغريزته الصادقة إلى اختيار المدات بدلا من السواكن التي كانت تستطيع أن تؤدي نفس الوظيفة في الوزن.

على أن يسلم من التكلف والصنعة المقتسرة، ويثور الجرجاني كذلك على محسنات العسكري اللفظية، وهنا نؤيده مؤمنين بما يقول، وعنده "أن المزية تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موضع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض" بل "ليس من فضل إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم". ولكنه لا يريد بذلك إلى الأسلوب المسطح الذي لا نتوء فيه، وكتاباته تشعرك بأنه قد فطن إلى أن الأسلوب الفني الجيد هو الذي يصدر عن صاحبه، وقد سكنت الفكرة وسكن الإحساس إلى طرق أدائها -حقيقة كانت أم مجازية- سكونا طبيعيا، حتى لتحس بأن الفكرة والإحساس قد ولدا مجسمين في العبارة، فلا تدري أفطن الكاتب إلى الصورة أو لا، أم إلى موضوعها، أخلق الموضوع الصورة أم خلقت الصورة الموضوع؟ الكاتب الكبير يدرك ما في نفسه مكسوا مجسما، يدركه ملفوظا، يستشعر الفكر والإحساس مرتبطا بعوالم أخرى، وإذا بالمجاز جزء من الإحساس أو الفكرة، ومن ثم لم يكن هناك محل لأن نخشى اللفظية، وتلك لا تكون إلا عند من يدركون مواضيع قولهم إدراكا مجردا عن صورها، ثم يحتالون لوضعها في صور تظل منفصلة عنها، مصطنعة الإلصاق، ومن هذا النوع الكثير من المحسنات اللفظية المفضوحة؛ ولهذا نقول: إن الصناعة الحقة هي تلك التي تحكم حتى تختفي. لا خوف إذن من أن يعود بنا عبد القاهر إلى اللفظية، وما يجوز أن يرهبنا هذا الخوف فنتخلى عن المنهج الطبيعي في دراسة الأدب، وما دمنا قد فطنا إلى الدور الذي يلعبه اللفظ في خلق مادة الأدب ذاتها، فمن واجبنا أن نأخذ في بحثنا بالمنهج الفقهي، ونحن بذلك نجمع بين عناصر الأدب الإنسانية وعناصره اللغوية؛ لأن هذه مستودع ثمين لا يقل قدرا عما أودع فيه، وبفضله -في النهاية- يتميز الأدب عن كل ما عداه. ليست العبرة إذن عند عبد القاهر باللفظ في ذاته وإنما هي بالنظم.

الذوق عند الجرجاني

الذوق عند الجرجاني: يقول الجرجاني: "وإذا قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها مع بعض واستعمال بعضها مع بعض"، "وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصورة والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة، والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواضعه ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب، كذلك حال الكاتب والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم". وهذا ينتهي بنا إلى ما نراه اليوم وما ندعو إليه جاهدين من أن النقد وضع مستمر للمشاكل، وأن لكل جملة أو بيت مشكلته التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها، وهذا هو النقد الموضوعي الذي نؤمن بفائدته وهو بعد ليس بالأمر الهين؛ لأنه لا بد لنا كما يقول روسو من فلسفة كبيرة لنلاحظ ما يقع عليه بصرنا، ثم إن الملاحظة لا تكفي بل لا بد من وضع الإشكال، ووضعه -فيما يحكي المثل الأوربي- حل له، ومن ثم حكم فيه. لا بد إذن من الحكم على النظم الذي أمامنا من حيث إنه يجمع بين معانٍ متباينة، ونحن بعملنا هذا لا نقف عند الألفاظ بل ولا عند الجمل، وإنما ننظر في المعنى عند تمامه والفراغ من تأليف عناصره، ننظر في المعنى منظوما، ومن البين أن الذوق هو الفيصل الأخير في الحكم على هذه الدقائق. وإلى هذا فطن الجرجاني بحسه الأدبي الصادق، فكتب تلك الصفحة الرائعة التي يوردها كاملة لأهميتها البالغة، قال: "أعلم أنك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم؛ وذلك لأنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن هاهنا نظما أحسن من

نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم بذلك تسدر أعينهم وتضل عنهم أفهامهم، وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئا غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون معاني، فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم؛ لأنك تعالج مرضا مزمنا وداء متمكنا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم، وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيه له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في كلام دون كلام.. والداء في هذا ليس بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفا والسعي منجحا؛ لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصور لهم شانها أمور خفية ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث لها علما بها حتى يكون مهيئا لإدراكها وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قول أبي نواس: ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس الكرى فانتشى المسقى والساقي كأن أعناقهم والنوم واضعها ... على المناكب لم تعمد بأعناق أمن لها وأخذته الأريحية عندها ... وأنت تقول في محاجتك على استشهاد القرائح وسبر النفوس وفلها، وبهذا يعود عبد القاهر إلى النقاد الكبار أمثال ابن سلام والآمدي وعبد العزيز الجرجاني الذين يرون في الذوق وفي "ستشهاد القرائح وسبر النفوس" المرجع النهائي في كل نقد أدبي صحيح. والآن قد يتساءل قارئ يقظ من أين يدخل الذوق؟ والذوق لا يكون إلا حديث نسلم للكاتب بحرية في اختيار طرق العبارة عما يريد. وعبد القاهر نفسه لا يرى هناك اختيارًا ما، وعنده أن المعنى لا بد متحكم في اللفظ، والجواب على هذا الاعتراض خليق بأن يزيد النظرية وضوحا، وصاحبها ينكر أن تكون المزية في اللفظ، وإذن

فهو لا يحكم الذوق في الموازنة بين ألفاظ ممكنة، وإنما المزية في المعنى، وفي المعنى تكون المفاضلة، وفي المعنى يكون الاختيار، والأمر ليس نظما لألفاظ بل نظما لمعان، فنحن نحكم الذوق في اجتماع بعض المعاني إلى بعض، ويحتال عبد القاهر ليخضع اللفظ أيضا للذوق فتأتي عبارته عن المعنى مضمنة للمعنى الملفوظ، أي المعنى المعبر عنه، وفي هذا إفراط في الدقة يكاد يمس المغالطة، ولكننا في الحق نستطيع أن نقبل منه هذا الاحتيال إذا نظرنا للمسألة نظرة تاريخية، فذكرنا طغيان اللفظية في ذلك الحين، ومحاربة عبد القاهر لها بكل قواه، وكلنا لا ريب يذكر ذلك التكلف الثقيل الذي ظهر عند أنصار البديع في الشعر، ثم امتد النثر فأتلف أسلوب الصاحب ابن عباد وأبي هلال العسكري وجانبا من أسلوب ابن العميد نفسه. ويتحكم الذوق إذن عن الجرجاني في نظم المعاني التي نعبر عنها. خذ لذلك مثلا تعليقه على أبيات إبراهيم بن العباس: فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب ... وسلط أعداء وغاب نصير تكون على الأهواز داري بنجوة ... ولكن مقادير جرت وأمور وأني لأرجو بعد هذا محمدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير "فإنك ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو تكون، وإن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر، ثم إن قال: تكون، ولم يقل: كان، ثم نكر الدهر ولم يقل: فلو إذ نبا الدهر، ثم إن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى من بعد. ثم إن قال: وأنكر صاحب، ولم يقل: وأنكرت صاحبا، لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك يجعله حسنا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى". وبالإمعان في ملاحظات ناقدنا نجدها ترجع إلى مفارقات في المعاني. وألوان النفس هي التي حددت اختيار الشاعر وضمنت له الجودة، جودة العبارة عما في نفسه بدقة، تبصيرنا بالألوان النفسية لتلك المعاني. فهو قد قدم الظرف على عامله، قدم "إذ نبا" على "تكون" وذلك لأنه لم يتمن أن تكون داره بنجوة على الأهواز إلا عندما نبا دهر، وفي هذا النبو ما يحز في نفس الشاعر، وكأني به قد سارع إلى نقصه، ثم هو

قد اختار المضارع1 "تكون" على الماضي "كان"؛ لأن المضارع هنا نحس في دلالته معنى الحالة المستمرة المنسحبة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، والشاعر ود عندما نبا الدهر لو تكون داره على الأهواز بنجوة، تكون حتى قبل نبو الدهر، تكون وتستمر كذلك؛ لأن الدهر قد أثبت بنبوة تلك المرة أنه قادر على الغدر في كل حين، ومن الخير أن نقدر ذلك الغدر في كل حين. وإذن المفاضلة بين الماضي والمضارع ليست مفاضلة بين ألفاظ بل بين معان، وعلى الأصح بين حالات نفسية بأكملها، ثم إن شاعرنا قد نكر "دهر" وهو بهذا يفرد الدهر فيجعله دهرا خاصا به، دهرا غدارا لا الدهر دهر الناس كافة. نبا دهر ابتلاه به القضاء المحتوم، وإذا كان تنكير الدهر، وهو الشيء الواحد المعرف بوحدته، يفيد الإفراد، فإن تنكير صاحب وأعداء ونصير يفيد الإطلاق ويشعرنا بضيق الشاعر فهو ينكر كل صاحب لما كان من غدر أولئك الصحاب، وهو يرى أن كل عدو قد سلط وأن كل نصير قد غاب، تنكير المتعدد أفاد الإطلاق، والأمر في تنكير "مقادير وأمور" يشبه تنكير "دهر" فهو يخصصهما بالشاعر ويجعلها وقفا عليه، وإذن فنحن أمام معان مختلفة وألوان نفسية متباينة ندرك بعضها بعقولنا ونحس ألطفها بقلوبنا، وهذا الإحساس هو أساس الذوق عند ناقدنا العظيم. وتسوق فكرة النظم عبد القاهر إلى تخطي الإعراب والجملة البسيطة إلى الجملة المركبة فيكتب فصلا "في النظم يتحد في الوضع ويدق في الصنع" قال: "واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة، فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا كقول البحتري: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر ونوع آخر قول كثير:

_ 1 يسمى هذا المضارع في نحو اللغات الأندوأوربية بالمضارع التاريخي Present historique ولقد عرف باستعماله فرجيل شاعر اللاتين في ملحمته الشهيرة "الإنيادة"؛ ولهذا للمضارع دلالات كثيرة منها مجرد إثبات حدث مطلقا من الزمن، ومنها استحضار الماضي حتى لكأنك تراه، وفي هذا برع فرجيل، ومنها إفادة الاستمرار كما في مثلنا، وفي الحق أن استعمالاته أكثر وأدق من أن تحصر أو تحد، والشعراء والكتاب قد يستعملونه لشفاء إحساس في نفوسهم أكثر من العبارة عن معنى بذاته.

وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عما بيننا وتخلت لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت و ... و ... إلخ". ومن البين أن عبد القاهر في هذه الملاحظات قد أحس بوجود الجمل المركبة التي تشمل عدة معان بعضها قيود لبعض أو متممات. ويا ليت اللاحقين له ساروا في هذا السبيل! ولو أنهم فعلوا لاستقام فهمنا لممكنات لغتنا، ولعرفنا مثلا الطرق التي لدينا للتعبير عن الأزمنة المطلقة والأزمنة النسبية في الجملة الأصلية وفي الجمل التبعية التي تلقاها في اللغات الأوربية والتي نحتال فنعبر عنها في لغتنا بكافة الحيل غير واعين بما نفعل. ومع ذلك فعبد القاهر لم ينظر إلى هذا المركبات إلا من حيث الجودة، فهو يرى في اجتماع تلك المعاني بعضها إلى بعض إعجازا من الشعراء، وهو لا يعنى بدراسة نحوهنا قدر عنايته بنقدها نقدا أدبيا، ومرد ذلك النقد وفيصله هو الذوق، الذوق الذي يحس ثم تأتي المعرفة فتعلل ما يمكن تعليله، ولقد يخطئ رغم استقامة الذوق. والآن نستطيع أن نفهم كيف أن عبد القاهر -كما قلنا في أول مقال عنه- قد ابتدأ بنظرية فلسفية في اللغة ثم انتهى إلى الذوق الشخصي الذي هو مرجعنا الأخير في دراسة الأدب، ويجب أن يظل ذلك المرجع. وإنك لتقرأ كل ما كتبه عن الإسناد وعن التقديم والتأخير وعن الفصل والوصل وتمعن في أمثلته فتجد إحساسه الأدبي سابقا دائما لعقله ومعرفته، بحيث يخيل إلينا أن هذا الرجل إنما صدر في آرائه عن خبرة طويلة بنصوص الأدب العربي، وقد وهبه الله حسا صادقا أعمله في تلك النصوص، ثم أطال التفكير في إحساساته فإذا به يهتدي إلى كل تلك الحقائق التي وإن يكن في تفكير اليونان القدماء ما يماشيها، كما أن علم اللسان الحديث يؤيدها ويوضحها، فالفضل الأكبر في الوقوع عليها لمواهب عبد القاهر الفطرية، ونظريته -كما قلت- ليس لها من القيمة ما لتطبيقاته، فهنالك يظهر ذوقه العربي السليم، ذلك الذوق الذي لا يمكن أن يغني عنه في الأدب شيء. وما نظرية عبد القاهر في رمزية اللغة ورد المعاني إلى النظم، وما منهجه في نقد النصوص نقدا موضوعيا إلا مراحل تنتهي به إلى الذوق الذي يدرك الدقائق ويحس "بما تحيط به المعرفة ولا تؤديه الصفة"1.

_ 1 هذه الجملة قالها إسحاق الموصلي وقد سأله الخليفة أن يصف له الأنغام. ومعنى المعرفة "المعرفة الباطنية" التي ندركها بما سماه الأستاذ أحمد بك أمين في "كتاب الأخلاق" "باللقانة" ترجمة للفظة الأوربية Intuition وعلى تلك اللقانة يعتمد الناقد إن كان يملكها وإلا وقف نقده عند الشكل.

خلط بين القيم

خلط بين القيم: يقول ديهامل: "إن دليل الصحة هو أن لا يفكر الفرد في جسمه، فهو يتخد كل يوم بعض الاحتياطات الأولية، وبذا تتم عنايته، فيأكل ويشرب ويغتسل ويغدو إلى أعماله، فهل تراه من ساعة إلى ساعة ومن دقيقة إلى أخرى يتساءل في لهفة عن حركة بنكرياسه أو غدده الكلوية؟ أبدا. بل إن هناك مجالا للأمل في أن يجهل حتى اسمها وحتى موضعها من الجسم، فإذا أحسن بمعدته دل ذلك على أن هذه المعدة ليست في حالة جيدة". وما يصدق على صحة الجسم يصدق على اتزان الهيئة الاجتماعية وسلامة بنائها، فعندما نسمع أصواتا ترتفع من كل جانب تنادينا بأن نضع الأدب في خدمة الحياة الراهنة ومعالجة مشاكلها، وأن تقف أقلامنا على الحديث عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وعندما نرى كل محاولاتنا في توسيع أفق الفكر أو إرهاف الحس توصف بأنها "هراء مسخته رغبة المهارة وخلبته صفة البراعة وحب الظهور، حتى انحط عن بعض ألعاب التسلية. أو صار وسيلة للكسب ومطية لخدمة الأغراض الخاصة ... إلخ"، مما تفضل فجاد به صاحب مقال، "ما بعد المنهج الفقهي" عندما يحدث كل ذلك لا نملك إلا أن نصيح في عزم وقوة بأن الهيئة الاجتماعية التي نعيش بينها مريضة، وأن واجبنا وواجب كل من يستطيع شيئا في هذا السبيل أن يعلم لتشخيص الداء والتماس الدواء. أما أننا نعيش في هيئة اجتماعية مريضة، فذلك ما لا يقبل الشك، وفي وفرة ما يكتب اليوم عن حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكبر دليل على ذلك المرض، وإنه لمن الواجب -كما قلت- أن نلتمس العلاج، والآفة الكبرى التي لا بد من تسليط الضوء عليها هي آفة الخلط بين القيم. في المقالة التي أناقشها الآن خلط بين أشياء لم تفهم، فالكاتب قد خلط بين الأدب وغيره من مواضيع الكتابة كالسياسة والاجتماع والاقتصاد كما خلط بين الأدب ومنهج دراسة الأدب. خلط الكتاب بين الأدب وغيره من الأبحاث، ومصدر الخلط في تفكيره إنما أتاه

كما أتى غيره ممن تلقاهم وتسمعهم بكل سبيل، من معرفته معرفة ناقصة مبتسرة ببعض الجمل التي أذاعها المبسطون بأوربا كعبارة أرنولد عن الأدب أنه "نقد للحياة" وعبارة كارل ماركس عن فلسفة التاريخ "بمادية التاريخ" أي تحكم نظم الاقتصاد في تطور التاريخ، ورسم الخطة لذلك التطور، وأما أن يتمهل كاتبنا في فهم ما يعنيه أرنولد "بنقد الحياة". وأما أن يمعن النظر في العوامل الإنسانية غير المادية التي لا تقل أثرا عن النظم الاقتصادية في السيطرة على سيرة التاريخ، فذلك ما لا يريده كاتبنا، ولعله لا يستطيعه. لقد أصبحت عبارة "نقد الحياة" Criticism of life عند كاتبنا مرادفة "للاهتمام البارز بالحياة وأنباء الحياة"، و"إدراك ما للنظم الاقتصادية من المؤثرات الأولى في حياة الناس والجماعات روحيا ونفسيا ومعنويا"، وبذلك يوفق -فيما يظن- بين نظرية أرنولد في الأدب، ونظرية ماركس في فلسفة التاريخ، ويكون حتما على الأدب أن يكون همه الأول مثلا الحديث عن الصناعة بمصر وما تبشر به نشأتها من نمو الوعي السياسي عند طبقة العمال، وعن توزيع الثورة في مصر وطرق إعادة ذلك التوزيع على أساس جديد، وما شاكل ذلك. وإما أن يتحدث الأدب عن حياتنا النفسية، وإما أن يمد الأدب من آفاق تفكيرنا، وإما أن يرهف الأدب إحساسنا، وإما أن نحاول بعث ماضينا، أو نشر الثقافة الحرة، فكل هذا هراء وادعاء وحذلقة، ولو صح هذا لوجب أن نوفر جهدنا على الصحف الحزبية اليومية نبشر فيها بهذا المذهب أو ذاك. والداء بعد أعمق من كل ذلك، فهناك خلط مخيف بين الثقافة الحرة والتفكير العلمي، هناك عدد من الناس يظنون أننا لسنا بحاجة إلى الثقافة الحرة؛ لأن هذه الثقافة لا يحتاجها إلا المرهفون المنعمون الأغنياء، وما نحتاجه نحن إنما هو التفكير العملي أي التفكير السياسي الذي يخفف بالحلول التي يدعو إليها، والتي قد ينجح في تنفيذها؛ من فقر البؤساء والمحرومين والمظلومين، وكاتب هذه السطور ليس بغافل عن البؤس والجهل والمرض، ولا عن فتك الأوبئة بمواطنينا، ولقد سبق له أن تحدث عن ذلك في "الثقافة" بعنوان "بؤسنا المادي" ولكنه يرفض الخلط بين الأشياء، ويرى في هذا الخلط جهلا مخيفا يجب أن يحاربه بكل قوته. مثل من يزعمون أن الثقافة الحرة ترف لا نفع من ورائه كمثل من يقول للدول المحاربة: إن من واجبك أن تغلقي جامعاتك ومعاملك؛ لأنك لست في حاجة إلى التفكير الخالص. بل في حاجة إلى مصانع للذخيرة والمؤن، وناصح كهذا لا يدل

بنصيحته تلك على فهم عميق، فإن الجامعات والمعامل هي التي تفتح المصانع، واليوم الذي يتوقف فيه التفكير الخالص عن العمل، ستتوقف فيه المصانع؛ لأن هذه إنما تطبق التفكير الخالص الذي يبدو للجهلاء بعيد الصلة بالإنتاج المادي. وكذلك الأمر في الأدب الخالص، فهو الذي يشحذ إدراك كاتبنا فيستطيع أن يصف التفكير الحر بأنه "هراء" وهو الذي يرهف حسه فيجعله يقدر بؤس غيره، بل هو الذي يحمله على الوعي بما هو فيه من بؤس، هو ونحن والجميع، وعندما يقف الأدب عن تقديس المعاني الخالدة من خير وجمال لن يستمع أحد لصيحات كاتبنا ولو صاغها قوية قوة كتاب "رأس المال". ثم أي فائدة في أن نعيد ما قلناه وقاله غيرنا مئات المرات. في مصر ظلم اجتماعي في توزيع الثروات، بل في توزيع الحقوق حتى القانوني منها، وهذا ما يعرفه الصغير والكبير، في مصر إلى جانب الظلم الاجتماعي فقر عام، لا سبيل إلى علاجه بغير تعزيز الصناعة في مصر، وجهل لن يبدده إلا علم صحيح. في مصر مرض لن يقضى عليه ما لم تعالج عقلية الأطباء. في مصر أدواء كثيرة نعرفها جميعا ونعرف طرق علاجها، ولكن العلاج لن يجدي إلا إذا أعدنا التربية الخلقية لمن يقومون على ذلك العلاج، وأي نتيجة لكتابتي وكتابة غيري في كل ذلك. الأمر لا يحتاج إلى كتابة وإنما يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى تنظيم أحزاب، وهذا ليس من شأني كرجل قد قبل أن يقف نفسه -الآن- على نشر الثقافة في حدود قدرته. واجبي إذن هو أن أقول لكاتب المقال: إن نقد الحياة ليس معناه ما ذكرت، وإنما معناه "فهم الحياة" أي فهم النفس البشرية، ذلك الفهم الذي يغضبك أن توفر عليه قلمنا، وكل ما تكتب ليس له غاية غير هذا الفهم، سواء أكان عن خوالج نفسية أو طرائق لغوية أو موضوعات نموذجية، أو آلام وآمال خاصة. ونحن مطمئنون إلى أن جهدنا لن يضيع سدى إذا وصلنا إلى شيء مما نريد. وأكبر دليل على أن أرنولد لم يقصد من "نقد الحياة" إلى ما ذكرت هو أن الرجل قد أنفق جهدا كبيرا في إقناع معاصريه بضرورة دراسة القدماء وبخاصة الإغريق مما تستطيع أن تتبينه من "مقدمته" لقصائده ومن "مقالاته في النقد"، وهو يفعل ذلك لإيمانه بأن القدماء قد فهموا من النفس البشرية جانبا كبيرا، وأنهم قد صاغوا ما فهموا في جمال لا نعرف أفعل منه في تهذيب النفوس. وأما عما نراه في تفاهة التوافر على دراسة الجاحظ وقدامة والعسكري

والجرجاني فأمر عجب، إن حاولنا بعث تراثنا القديم قال أمثالك: هذا هراء، وإن حاولنا نقل التراث الغربي قلتم: هؤلاء مترجمون، فماذا تريدوننا أن نفعل؟ أظن أنه الصمت. هناك شيء يجب أن نقوله: وهو أننا اليوم في مرحلة يجب أن تتوفر فيها كل الجهود على أمرين1 نشر الكتب العربية القديمة ودراستها وبعثها3 نقل التراث الأوربي عن سبيل الترجمة، ومن الواجب أن يفهم الجميع أن النشر والترجمة هما أشرف عمل وأنبل نشاط نستطيع التوفر عليه الآن، بل أقول: إنه من الضروري أن نعرف معنى التواضع والأمانة العقلية وروح العلم الصحيح، وأن نشرب أنفسنا بالوطنية، فنعمل مخلصين لمصلحة بلادنا بنشر تراثنا القديم ونقل التراث الغربي كاملين، فعندئذ يحق لنا أن نفخر بعملنا، وأن نعتز بمجهودنا إذ نكون قد مهدنا لنهضة وطننا نهضة حقيقية لا كتلك التي تخدعك اليوم، وما هي إلا بهرج زائف ونصب عقلي. أي نفع لبلادنا بل لأنفسنا في أن ندعي أن التأليف ويكون عملنا هو عدم أمانة في الترجمة، نترجم ما يسهل علينا فهمه ونهمل ما يشق، ثم ننثر حول النص الأوربي شيئا من هذياننا الشخصي، وبعد ذلك نعدي أننا قد ألفنا كتبا. ومن يستطيع في هذا البلد أن يدرك أصالتك -إن كانت لك أصالة- وأنت تتكلم عن نصوص ومؤلفين ومؤلفات مجهولة من الجميع. إن كان صاحب المقال حريصا على موضوع أدبي علمي يكتب فيها فيصيب من ورائه المجد، فأنا أدله على ذلك الموضوع الذي لا يقل أهمية عن المسائل الاقتصادية. وذلك هو أن يحمل الحكومة على إنشاء وزارة للنشر والترجمة، لا تقل ميزانيتها عن ميزانية أكبر وزارة، وأن يكون عملها، نشر الكتب العربية القديمة، وترجمة عيون الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والكيمياء ... إلخ الموجودة الآن بالعالم العربي. عندئذ سأومن بأن كل مشاكلنا ستحل، وأن أفراد الشعب سيجدون تلك الحلول ويملونها على حاكميهم، فإن لم يستطع كاتبنا أن يقوم بحملة كهذه رجوته أن يتركنا الأستاذ خف الله، وأنا نقتتل رغم صادقتنا الشخصية حول منهج الأدب وحقائق اللغة، فمن يدرينا لعل الهنات وأن تخصب نفسنا أو تشق خيالا أو تهذب ذوقا.

مناقشات لغوية

مناقشات لغوية: اللغة والتعريب: تحركني كلمة الأديب زكريا إبراهيم إلى الرد؛ لأنها تتناول مسألتين جوهريتين: أولهما مسألة الخطأ والصواب بمناسبة "عثرت به" و"عثرت عليه"1، وثانيهما مسألة تعريب الأسماء الأعجمية. فأما عن "عثرت به" فقد قلت: إن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء أي ملاقاته اتفاقا، ولم أرد "العثور عليه" أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها. والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى مختار الصحاح ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية، وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها! والعلماء الكبار أمثال الكرملي وزكريا إبراهيم لا ريب يعلمون أن لغات العالم كلها مجازات ميتة، وأن تلك المجازات رغم موتها تحتفظ دائما بشيء من معناها الحقيقي، فأنا عندما أقول "عثرت بالشيء" مفسرا بقولي "وقعت عليه" يكون معنى ذلك أنني اطلعت عليه ولكن مصادفة كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز. وبذلك أعبر عن المعنى الذي في نفسي تعبيرا لا تحققه "على" بما تفيده من قصد إلى غاية وسعي لبلوغها. ثم إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي، وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب في اللغات. وإنما يستقرئون الاستعمالات عند كبار الكتاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور. ومن الغريب أن نظل نحن متردين في طرق التفكير التي تخلص منها العالم

_ 1 هذه والكلمة التي تليها نشرتا بالرسالة على أثر مناقشة بيني وبين الأب أنستاس ماري الكرملي بخصوص بعض تحقيقات في كتاب "الإمتاع والمؤانسة"، وقد اشترك في تلك المناقشة الأديب زكريا إبراهيم كما قد يستطيع القارئ أن يفهم من سياق الحديث.

المتحضرة منذ أكثر من قرن. فاللغة العامية ذاتها ليست مجموعة أخطاء، وإنما هي تطور عادي مألوف في كل اللغات. واللغة الفرنسية والإيطالية كذلك ليستا أخطاء في اللغة اللاتينية. إذن فكلام الأب الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة تافهة ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية Dogmatique في شيء. وأما عنصر الثبات في اللغة وهو ما يطالب به الأديب زكريا حتى لا يصير الأمر فوضى، فذلك ما لا أستطيع أنا أن أدخله في اللغة بل ولا المجمع اللغوي نفسه، عنصر الثبات هو استعمال كبار الكتاب لمفردات اللغة وتراكيبها، ثم قراءة مؤلفات كبار الكتاب في المدارس والجامعات لتشيع تلك الاستعمالات، وكل محاولة غير هذه السبيل لن تجدي شيئا. اللغة كائن حي لا يقنن له، وأكبر دليل على صحة ما أقول هو أن المجمع اللغوي لم يستطع شيئا في هذا الباب ولن يستطيع. وأنا أشكر الأديب زكريا إبراهيم إذ نبهني ونبه زملائي أساتذة الجامعة إلى وجوب ترجمة أسماء الأعلام كما ينطق بها أهلها، فهذا لا ريب مبدأ سليم، ولكن على شرط أن نعرف كيف كان ينطق بها أولئك الأهل، ونحن لسوء الحظ لا نعرف ذلك دائما. ولقد ثار الأديب زكريا على أساتذة الجامعة وثار الأب الكرملي؛ لأننا نعرب أحيانا عن الإنجليزية والفرنسية، مع أنني أستطيع أن أؤكد لهذين العالمين الفاضلين أننا نعرف مبادئ اللغات الأندوأوربية وبخاصة اللاتينية واليونانية، ولكننا مع ذلك نؤثر أن نعرب عن اللغات الحديثة؛ لأننا لسنا على ثقة من نطق هاتين اللغتين، وهما لغتان ميتتان، والعلماء مختلفون في نطقهما إلى الآن أشد الاختلاف. وأنا وإن كنت لا أريد أن أدخل هنا في التفاصيل إلا أنني أضرب لذلك مثلا باسم الخطيب الروماني Cicero فهذا الاسم ينطقه اليوم علماء الإنسانيات الإيطاليون "شيشرو" وكأنه لفظ من ألفاظ اللغة الإيطالية الحديثة والفرنسيون ينطقونه "سيسرو" والإنجليز "كيكرو" فأيها أصح؟ نعم لقد قامت في السنين الأخيرة دعوة كان من أكبر زعمائها العالم الفرنسي ماروزو marouzeau تدعو إلى محاولة النطق نطقا تاريخيا أي نطقا يقارب النطق القديم يستنتجونه من بعض الكتابات الصوتية القديمة ومن العناصر الموسيقية في الشعر ومن نتائج علم الأصوات التاريخي وتطور نطق الحروف المختلفة، كما يستعينون بآراء العالم إرزم ومحاولاته في هذه السبيل. أقول: إن ذلك كله قد كان،

ولكن هذه المحاولات لم تنجح. ولا يزال علماء كل بلد في أوربا ينطقون اللاتينية واليونانية كأنهما من لغاتهم. وإذن فنحن حتى في هاتين اللغتين مضطرون إلى أن نتخير نطقا نأخذه عن علماء أحد هذه البلاد وذلك إلى أن يستقر النطق التاريخي Reconstituee على أسس ثابتة مقبولة من الجميع. ويزيد الأمر تعقيدا أن تعريب الأسماء لا يمكن أن يكون وفقا لقرارات يصدرها المجمع الغوي أو الأستاذان الكرملي وزكريا إبراهيم، وإنما الأمر أمر استعمال: استعمال كبار الكتاب الذين لهم من الشهرة ما يجعل تعريبهم يذيع بين الناس. خذ لذلك مثلا ما استقر عليه العرف في فرنسا منذ القرن السابع عشر، تجد أن أسماء الأعلام الشهيرة التي تتداولها الألسن قد أعطيت صيغة فرنسية؛ ولذلك يقولون: فرجيل وهومير وسوفوكل وأوربيد وأشيل، وأما الأسماء التي لا ترد إلا على ألسنة الخواص من العلماء فقد تركت لها صيغتها اللاتينية أو اليونانية؛ ولذلك يقولون: كورنيليوس وإنيكوس وبيون وموسكوس ومن إليهم. وإذن فالأمر أعقد مما ظن الأديب زكريا إبراهيم. وأساتذة الجامعة يؤلمهم أن يبلبلوا أذهان القراء. ولكن ما الحيلة والمسائل معقدة؟ أليس من الأجدى علينا وعليكم أن تتركونا نتحسس السبل ونجاهد حتى نصل إلى تعريب سهل قريب مستساغ نرجو معه أن تنتشر الألفاظ التي نفضلها فتنحل المشاكل ويرتفع اللبس؟ ثم أليس من الخير أن نعرب عن إحدى اللغات والمنتشرة في بلادنا بدلا من التعريب عن لغات قديمة لا يعدو من يعرفها من مواطنينا الذين نكتب لهم الأصابع؟

عثرت به وعثرت عليه

عثرت به وعثرت عليه 1: لم يكن عزمي أن أرد على زكريا أفندي إبراهيم؛ لأن المناقشة لم تكن بيني وبينه، وإنما فعلت لأنني رأيته قد أثار مسألتين حسبت في إيضاحهما فائدة لعامة القراء. وقد اعتمدت في تأييد استعمالي "لعثرت به" على مبادئ لغوية عامة لم يقتصر العلم بها على الباحثين في عالم اللسان بل سبقهم إليها ولحقهم الفلاسفة وكافة المفكرين. فاللغات -كما قلت- مجازات ميتة في الكثير من مفرداتها، فنحن عندما نقول بالفرنسية مثلا abimer بمعنى "أتلف" نستعمل مجازا ميتا لم يعد يحس به أحد؛ وذلك لأن معنى هذا الفعل الاشتقاقي في اللغة الفرنسية هو "يلقى في هاوية" "هاوية: abime" وكذلك الأمر في اللغة العربية، فالرفعة والسمو والانحطاط مثلا، كل هذه الألفاظ كانت معانيها الأولى حسية، ثم ماتت تلك المعاني وأصبحنا نستعمل تلك الألفاظ في الدلالة على الصفات المعنوية المعروفة، وهكذا مما لا حصر له في كافة اللغات. ولقد كانت هذه الحقيقة من الأسس التي بنى عليها الفلاسفة الإنجليز أصحاب المذهب الحسي في المعرفة ومنابعها مذهبهم، وإذا لاحظوا أن معظم ألفاظ اللغة كانت في الأصل تدل على معان تدركها الحواس ثم انتقلت إلى المعنويات. وعلى هذا يتضح لنا أن عثر في معناها الأصلي لم تكن تفيد الاطلاع مصادفة أو عن بحث في شيء. وإنما أفادت هذين المعنيين تجوزا، وحروف الجر في كافة اللغات من أدوات نقل المعنى، ومن ثم عندما نقول عثر بي أو عثر على، يجب أن نحدد المفارقات بين الاستعمالين تبعا لدلالة حرفي الجر ومنحاهما في نقل المعنى. ولذي لا شك فيه أننا نقول: "عثر الجواد بحجر" ونكون بذلك في حدود المعنى الحقيقي؛ بحيث إذا تجوزنا أو قلنا عثرت بفكرة نكون أقرب ما يكون إلى مضمون المعنى الحقيقي أيضا. ومن الواضح أن في ذلك المعنى ما يدل على المصادفة؛

_ 1 كان الأب الكرمي قد انتقد قولي "عثرت به" زاعما أنه خطأ وأن الصحيح عثرت عليه، فرددت بأن التعبيرين جائزان، وأن لكل منهما معنى خاصا على نحو ما ترى في المقال.

لأن الجواد لا يبحث عن حجر ليعثر به. وأما عندما نقول: عثرت على فكرة، فالحس اللغوي يبصرنا بأننا هنا قد بعدنا عن المعنى الحقيقي وما يحمل من دلالة المصادفة؛ لأنه على الأقل يتضمن العثور بالفكرة ثم الوقوع عليها. وليس من الضروري أن نعثر بالشيء ثم نقع عليه إذ قد يفلت منا، فالعثور على الشيء فيه معنى إيجابي هو ما أحسست ولا أزال أحس فيه بمدلول البحث. وأيا ما يكون الأمر فأنا بعد لا أرى مانعا ما دام المجاز قد مات في عثر وأصبح الفعل يدل على الاطلاع في الاستعمالين من أن نقصد "بعثر بـ ... " إلى الاطلاع مصادفة "وعثر على" إلى الاطلاع عن بحث. واللغة -كما قلت- كائن حي من الواجب أن نغذيه باستمرار بأن ننوع من طرق الأداء فيه كما نحدد من تلك الطرق على نحو ما نشاهد في لغات الأمم المتحضرة كلها1.

_ 1 على أثر هذه المناقشة أرسل إليَّ صديقي الدكتور عبد الرحمن بدوي خطابا به شواهد كثيرة على استعمال عثرت به، وقد نشرت هذا الخطاب بالرسالة مع ردي هذا شاكرًا للصديق أريحيته وعلمه الغزير.

حول أصول النشر

حول أصول النشر: كتاب قوانين الدواوين "1": 1- منذ سنين اعتدت أن أسمع من الدكتور عزيز سوريال عطية، أستاذ تاريخ العصور الوسطى الأوربية بجامعة الإسكندرية، وعدا بأنه سينشر كتابا عربيا يأخذ فيه بأصول النشر العلمية -كما وضعها الألمان أنفسهم- أخذا دقيقا يجب أن يحتذى؛ ولهذا نشطت همتي إلى الاطلاع على كتاب "قوانين الدواوين" للأسعد بن مماتي الوزير الأيوبي المتوفَّى سنة 606هـ-1205م، وقد نشره أخيرًا الأستاذ الفاضل، وطبعته الجمعية الزراعية بإشارة المغفول له الأمير عمر طوسون. وإنه وإن كان يحلو لي أم أمتدح كل جهد، وبخاصة جهدا يبدو في النشر الذي أعلم ما فيه من مشقة لا يقدرها جمهور المثقفين قدرها الحق، إلا أنني لا أستطيع أن أقر الدكتور سوريال على المبادئ التي صدر عنها، وكنت أتوقع منه أكثر مما يعرض علينا اليوم. ولما كانت قواعد النشر من المسائل الجوهريرة في حياتنا العلمية الراهنة، ونحن على أبواب نهضة إحدى دعائمها الأساسية نشر تراثنا العربي القديم، فإنني لا أرى بُدا من مناقشة هذه المبادئ على نحو مفصل، حتى نستقر على ما يجب أن نأخذ به فيما نريد نشره. اعتمد الدكتور سوريال في نشر الكتاب على أمرين: 1- المصادر المباشرة، وهي مخطوطات الكتاب، وقد أخبرنا في مقدمته بما جمع منه. 2- المصادر غير المباشرة، وهي الفقرات التي أخذها المؤلفون اللاحقون عن ابن مماتي وأوردوها في كتبهم في معرض الاستشهاد أو الاستدلال، هذه المصادر لم يدرسها الناشر في مقدمته ولا حدد قيمتها، ولكنه انتفع بها فعلا في بعض هوامشه، وإن يكن انتفاعا ناقصا كما سنرى. إلى هنا نقر الناشر؛ إذ من البديهي أننا لا نملك غير هذين المصدرين للنشر، وذلك مع التحفظ الذي أوردناه عن عدم دراسته للمصادر غير المباشرة دراسة

عامة في مقدمته، ولكننا نخالفه في طريقة انتفاعه بهذين المصدرين، ومن ثم نخالفه في كل شيء، ولتوضيح الخلاف نتحدث عن كل مصدر. المصادر المباشرة وأنواعها: ليس من شك في أن أول عمل للناشر هو جميع المخطوطات المختلفة، وهذه عملية مادية تنتهي بحيازة تلك المخطوطات أو استنساخها أو تصويرها، وبعد ذلك تبدأ عملية "تسلسل المخطوطات" "filliatoin des textes" وهذه العلمية هي الأساس الأول لكل نشر علمي صحيح؛ وذلك لأن واجب الناشر أن يميز بين ثلاثة أنواع من المخطوطات: 1- تحريرات الكتاب المختلفة "versions" وذلك لما هو معروف من أن كثيرا من المؤلفين يعودون إلى كتبهم بالتعديل والتنقيح، والزيادة والنقص، فمن واجب الناشر أن يميز بين التحريرات المختلفة للكتاب الواحد، وأن يسلسلها سلسلة زمنية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي اللغة الفرنسية مثل رائع لمثل هذا العمل الجليل، وهو ما فعله الأستاذ فيلي Villey في نشره لمقالات الفيلسوف مونتين Montaigne. 2- مجموعات الكتاب المختلفة recensins، ونعني بها تلك الحالات التي لا يصل إلينا فيها الكتاب كما حرره مؤلفه، إما لأنه لم يكتبه هو بنفسه بل ألفه شفويا، وهذه حالة الملاحم القديمة كملاحم هوميروس التي لم تدون إلا بعد موت الشاعر بقرون، وحالة الشعر العربي القديم كالمعلقات وغيرها، وإما لأن الكتاب لم تصلنا منه إلا مختصرات يتفاوت بعضها عن بعض طولا وقصرا. وفي هذه الحالات من واجب الناشر أن يميز بين كل مجموعة. 3- النسخ المختلفة "copies" وهذه من الواجب أن نميز بين ما هو منها بخط المؤلف وما هو بخط الناسخ. ونسخ النساخ نميز بين ما هو منها نسخ التحريرات والمجموعات المختلفة وما هو نسخ عن نسخ واحد ثم نسلسلها تاريخيا ما استطعنا. والدكتور سوريال قد كانت لديه كل الوسائل ليقيم "تسلسل المخطوطات" على أصح نحو. ولقد فطن إلى شيء يشبه هذا التسلسل. ولكنه استخدمه استخداما غريبا، فهو يقسم مخطوطاته إلى ثلاثة أقسام: يضع في القسم الأول منها مخطوطات مكاتب غوطة، واستانبول، والقاهرة، وفي الثاني مخطوطي باريس

ولندرة، وفي الثلاث مخطوطي الأزهر ومعهد دمياط. وهو ينبهنا إلى أن نسخ القسم الأول ترجع إلى أصل أقدم من الأصل الذي أخذ عنه ناسخو المجموعة الثانية، بدليل ما ورد في مقدمة نصوص القسم الأول من الإشارة إلى الدولة الملكية الناصرية السلطانية الصلاحية بينما يشير الكاتب في نسخة لندرة إلى الدولة العزيزية. وإذن فأصل القسم الأول من عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي "564-589هـ/ 1169-1193م"، وأصل القسم الثاني جاء في عهد خليفته الملك العزيز عماد الدين "589-595هـ/ 1193-1198". وهذه النصوص قاطعة في أن ابن مماتي قد حرر كتابه مرتين: مرة لصلاح الدين، ومرة للعز عماد الدين، ونستطيع أن نضيف إليها نصوصا أخرى تقطع بنفس الحقيقة، منها أن المؤلف في طبعة الدكتور سوريال يقول ص345 متحدثا عن صلاح الدين: "ورد كتاب كريم ناصري بأن.. افعل كذا وكذا" بينما يقول في نفس الصدد في طبعة الوطن، فإنه كان ورد علي كتاب كريم من السلطان رضى الله عنه، وسقى عهده، وروض لحده، بأن أفعل كذا وكذا. وهذا يدل -كما هو واضح- على أن ابن مماتي قد حرر كتابه كما قلنا مرتين: مرة وصلاح الدين حي، ومرة بعد موته، كما يدل على أن طبعة الوطن مأخوذة من نسخة من القسم الثاني أو ما يماثلها. وإذن من المؤكد أن كتاب "قوانين الدواوين" قد حرر مرتين، وفي هذه الحالة ما هو التحرير الذي يجب على الناشر أن يعتمد عليه أولًا؟ أليس من البدهي أن يكون اعتماده على التحرير الأخير الذي نقحه المؤلف كما يرى، أو على الأقل، أما يجب على الناشر ألا يغفل هذا التحرير إذا فضل التحرير الأول وبصرنا بأسباب هذا التفضيل؟! ومع ذلك يخبرنا الدكتور سوريال بأنه قد اعتمد بنوع خاص على نسخة من مكتبة غوطة؛ لأنها -فيما يرجح- "أقدم عهدا من بقية المخطوطات الأخرى". وهذا سبب عجيب للتفضيل، فالقدم في النسخ يأخذ به العلماء عندما تكون تلك النسخ عن تحرير واحد للكتاب، وأما عندما تكون لدينا نسخ عن تحريرين مختلفين، فمن الواجب كما يجمع العلماء أن نأخذ بالنسخ المخطوطة عن التحرير الأخير، أو على الأقل أن نجمع بينهما كما قلنا. ولقد كان لتصرفات الناشر على هذا النحو غير المقبول نتائج خطيرة على النص، ولو أنه اهتم بمخطوطات القسم الثاني اهتمامه بمخطوط غوطة لتجنب تلك النتائج التي يؤسف لها، لقد كان باستطاعته أن يتدراك كل شيء لو أنه

لم يحتقر طبعة الوطن المأخوذة عن القسم الثاني كما فعل في مقدمته، وإليك مثالين لما نشير إليه: المستخدمون وعددهم: في الباب الثالث من طبعة الوطن "ص10" يتحدث المؤلف عن المستخدمين من حملة الأقلام، فيذكر أن عددهم ثمانية عشر، وأما في طبعة الدكتور سوريال فيقول نفس المؤلف في الباب الثامن "298" المقابل للباب الثالث في الطبعة السابقة: إن "المستخدمين من حملة الأقلام لا يتجاوزون سبعة عشر رجلا". ومع أن الدكتور سوريال قد أخبرنا في مقدمته أنه قد "أثبت في الحواشي جميع الاختلافات" "ص41" ومع أنه قد أثقل حواشيه بأشياء كثيرة تافهة لا نرى ضرورة لها، إلا أنه لم يثبت هذا الاختلاف الخطير، مع أنه طبعة الوطن قد أوردت بالفعل اسم المستخدم الثامن عشر، وهو الضامن، وعرفته في خمسة أسطر بآخر الفصل "ص10". حراج البهنسة: يستطيع القارئ أن يراجع ما ورد في طبعة الوطن "ص17" عن هذا الحراج وما ورد عنه في طبعة الدكتور سوريال "ص254"؛ ليرى أن نص الطبعة الأولى أطول بعدة أسطر من نص الطبعة الثانية، ومع ذلك لم يثبت الناشر حديث هذا الاختلاف الجوهري في حواشيه، مع أنه أثبت ما لا يحصى مما يسميه العلماء "محار النسخ" "coquilles des copistes" ويهملونه بالإجماع. ونحن بعد لا نريد أن نسهب في التفاصيل، مكتفين بأن نتخذ مما فعله الدكتور سوريال مثلا نضعه أمام الناشرين، معتقدين أنهم سيقروننا جميعا على أهمية ما سميناه، كما يسميه علماء الغرب، "تسلسل المخطوطات" ووضعها في مواضعها تبعا للنظام الذي بسطناه، فهذا العمل هو مفتاح النشر، وهو السبيل الوحيد لتجنب ما أشرنا إليه من خطر على ما ننشر. المصادر غير المباشرة: قلنا: إن الدكتور سوريال قد استخدم المصادر غير المباشرة في بعض حواشيه، وإن لم يدرسها في مقدمته كما كنا نتوقع، ومع ذلك فقد كان من واجبه أن يستخدم تلك المصادر في تصحيح النص استخداما أوسع وأكمل مما فعل؛ فمن المعروف أن المقريزي والقلقشندي قد أخذا الكثير من كتاب "قوانين الدواوين لابن مماتي". ولما كانت مخطوطات ابن مماتي مضطربة في غير موضع كما يقول الناشر، فقد كان حتما عليه أن يجهد نفسه في البحث عن جميع

ما نقله هذان المؤلفان عن ابن مماتي ليكون عمله عملا علميا بمعنى الكلمة وله في علماء الغرب بل والشرق أسوة حسنة. ولو أنه فعل لما رأيناه يكتفي بنسخ بعض الفقرات في طبعته وتركها كما هي غير مفهومة ولا قابلة للفهم، مع أن عمل النشر الأول هو أن يقدم إلينا نصا يمكن فهمه، وبهذا فقط يتميز الناشر عن الناسخ، خذ لذلك مثلا في "ص82" وقال: وأمرت غلاما لي، أحضر لي من فكاهين "كذا" القاهرة الورد، والنرجس، والبنفسج، والياسمين، والحرير "كذا" الذين يسمى المنثور، والمرسين، والريحان، والسوسان، والطلع، والبلح، والجمار، والخيار، والبطيخ الأخضر، والباقلا، والتفاح، والفقوس، والأترنج، والنارنج، والأسيا، والليمون ... إلخ. ولو أنه رجع إلى صبح الأعشى "ج3 ص309" لاستغنى عن "كذا" أو اثنتين مما يورد هنا. والكتاب كله مليء بـ"كذا" والحمد لله كما سنرى، فقد قال صاحب الصبح: "قال المهذب بن مماتي في قوانين الدواوين: بعثت غلاما لي ليحضر من فكاهي القاهرة ما وجد بها من أنواع الفاكهة والرياحين، فأحضر لي منها الورد، والنرجس، والبنفسج، والياسمين، والمنثور، والمارسين ... إلخ". ومع ذلك لم يشر الناشر إلى هذا النص لا في المتن ولا في الهوامش. من هنا نرى أن الناشر الفاصل لم يبذل ما كنا ننتظره من جهد في خدمة النص بفضل المصادر غير المباشرة، وإذا أضفنا هذا التقصير إلى ما رأينا في حديثنا عن المصادر غير المباشرة، أدركنا أن طبعة الدكتور سوريال لا تزال في الواقع محتاجة إلى نشر أصح من نشرها الحالي. وكل هذا بفرض أن الناشر قد بذل ما يجب من جهد في قراءة النص قراءة صحيحة، حتى يعتبر عمله نشرا لا نسخا. ولكن كيف يكون الحكم إذا لاحظنا أن الناشر الفاضل قد انتهج في نشره خطة لم نسمع أن أحدا قال بها، فترك النص كما هو، وذلك فيما يقول: "محافظة منه على أسلوبه الأثري"، وهذا قول لا نقبله أصلا، ولا بد لإيضاحه من حديث آخر.

كتاب قوانين الدواوين "2"

كتاب قوانين الدواوين "2": تحدثنا فيما سبق عن مصادر النشر مباشرة وغير مباشرة، واليوم نخطو إلى المرحلة التالية وهي قراءة النص، ثم نختم المقال بالحديث عن الروح العلمية التي يجب أن تسود فيما ننشر أو نؤلف. قراءة النص: لا شك أن الهدف الأخير لكل ناشر هو أن يقرأ النص قراءة تمكن القارئ من فهمه. ومن المعلوم أن الواجب العلمي يقضي بألا يتصرف الناشر في النص على نحو يحيله عن أصله ويجعله مماشيا لما قد يظنه هو فهما صحيحا، ومع ذلك فالعلماء لا يجمعون على وجوب احترام النص احتراما مقدسا، إلا في حالة واحدة هي حالة وصوله إلينا بخط المؤلف؛ إذ إنه لا يجوز لنا عندئذ أن نتناول النص بأي إصلاح؛ لأن الأخطاء ذاتها تكون عندئذ عظيمة الدلالة على درجة ثقافة المؤلف في اللغة أو في موضوع الكتاب. وأما فيما عدا هذه الحالة فنحن إزاء نسخ يتحمل ناسخوها عادة جزءا كبيرا مما فيها من أخطاء، ويكون من واجب الناشر حتى يكون عمله نشرا لا نسخا جديدا، أن يصلح من أخطاء هؤلاء النساخ، وسبيله إلى ذلك ألا يكتفي كما فعل الدكتور سوريال بالاعتماد على نسخة أو مجموعة من النسخ مهملا إلى حد كبير ما عداها، بل يقابل بين كل المخطوطات التي لديه، بعد أن يقيم تسلسلها كما وضحنا في المقال السابق، وبعد أن يحصي القراءات المختلفة لكل جملة أو جزء من الجملة، يكون من واجبه أن يفاضل بين تلك القراءات. وهنا لا بد أن نشير إلى نوعين من القراءات Variantes وهما اللذان يسميها العلماء بالقراءة السهلة "Lection facillis باللاتينية" والقراءة الصعبة Lection defficillis ويجب على الناشر ألا يسارع إلى قبول القراءة السهلة، فكثيرا ما تكون من تحريف الناسخ الذي عجز عن فهم القراءة السهلة، فكثيرا ما تكون من تحريف الناسخ الذي عجز عن فهم ما ينسخ فأحاله إلى شيء يفهمه هو وكل هذا على فرض وجود قراءتين كلتاهما فهمها ممكن، فإذا استعصى الفهم وجب على الناشر أن نلجأ إلى ما يسميه العلماء بالتخمينات Conjectuires وله عندئذ أن يثبت تخميناته في المتن بين قوسين أو أن يودعها في الهوامش. ونحن نكرر أن هذه التخمينات لا نلجأ إليها إلا بعد استقصاء كل القراءات والعجز عن فهمها كلها، وكثيرا ما لجأ العلماء إلى تخمينات أثبتت صحتها مخطوطات اكتشفت بعد النشر. وحق التخمين بل واجبه لم نرَ أحدا من ناشري النصوص، وبخاصة النصوص القديمة -كالنصوص اليونانية والعربية- يماري فيه؛ إذ لا مفر للناشر من أن يعطينا -كما قلنا- نصا يمكن فهمه. هذه هي الأصول العلمية للنشر كما عرفناها من أساتذتنا، وأما ما يزعمه الدكتور سوريال من نشره للنص بأخطائه "محافظة على أسلوبه الأثري" فهذا شيء لم نسمع به. والذي نعلمه أن التماثيل الأثرية ذاتها لا يحجم علماء الآثار

عن ترميمها الضروري حتى لا تنهار. ولإصلاح النص في الحدود التي بيناها فيما سبق لا بد للناشر من نوعين من المعلومات: 1- معرفة لغة الكتاب معرفة فقهية. 2- معرفة مادة الكتاب معرفة تخصص. ونحن على تمام الثقة من أنه إذا امتلك هذين النوعين من المعرفة لن يحتاج إلى نشر الكتاب بأخطائه محافظة على أسلوبه الأثري. ونحن مع احترامنا للأستاذ سوريال ومع اعترافنا بما أدى من خدمات لتاريخ العصور الوسطى في الغرب. ونلاحظ لسوء الحظ أنه لا يمتلك نوعي المعرفة اللذين أشرنا إليهما فيما سبق. ولا أدل على عدم تمكنه من اللغة العربية من أنه حتى في نسخه لترجمة ابن مماتي عن معجم ياقوت قد أخطأ في عشرات المواضع. ولنضرب لذلك أمثلة: "قوله ص9: قد تتوق فيها وأجيد، وصوابها تُفُوِّق فيهما وأجيد، وص14 إحدى عشرة مرة: وصوابها إحدى عشرة مرة، وص16: حُباب الحميا، وصوابها حَباب الحميا"، ثم كل تلك الأخطاء الواردة فيما ينقل من أشعار ابن مماتي، والتي لا يستقيم الوزن دونها إصلاحها، كقوله ص17: ورأى أن يرسل الأسهم بالبرد فراشا وصوابه بالبرد. وقوله ص17 أيضا: وأنست الصبي الصبا وأذكرت جهنما وصوابه: وأنست الصبا الصبا. وقوله ص18: قل لي أنهاك ... عن مجيئك نهاك وصوابه عن مجيك. وأمثال ذلك كثير. وأما عن عدم إلمامه بموضوع الكتاب إلمام تخصص؛ فذلك ما يقوله الأستاذ الفاضل نفسه في مقدمته، حيث تقرأ ص43: "ولكننا لم نتعرض للشرح والتعليق على الموضوعات الفنية التي تصدى لها المؤلف.. معتمدين على الأخصائيين في إصدار مباحثهم في صدد مختلف الموضوعات في ملاحق خاصة". ولعمري إذا كان المؤلف لا يجيد اللغة العربية، ولا هو متخصص في تاريخ العصور الوسطى في الشرق. فلماذا إذن يحرص على نشر هذ الكتاب؟! وقد كانت النتيجة أنه لم يستطع أن يعطينا نصا يمكن فهمه، ومن الواضح أننا لا نطالبه بأن يضع التعليقات الفنية في هوامش طبعته، فمن العلماء من يفضلون نشر تلك التعليقات في ملحقات خاصة، ولعله يرى هذا الرأي، ولكننا نجزم بأن نشر أي كتاب نشرا صحيحا لا يمكن بغير البحث عما يعالج من موضوعات فنية، وفهم

هذه الموضوعات فهما صحيحا. ومن الثابت أن العلماء الذين ينشرون تعليقاتهم الفنية في ملحقات خاصة يضعون تلك التعليقات أثناء نشرهم الكتاب، حتى إذا فرغوا من النشر، فرغوا من التعليقات في نفس الوقت، وما إصدارها في ملاحق أو إيداعها الهوامش إلا مسألة شكلية. للعلماء أن يتخيروا منها ما يشاءون. ونحن لا نريد أن نتتبع ما في الكتاب من جمل وعبارات غير مفهومة. فهذا أمر يطول. كما لا نريد أن نجادل فيما يعتبر أخطاء لغوية قد يرى الناشر أنها ترجع إلى المؤلف، وقد نرى نحن أنها ترجع إلى الناسخ، وفي الواقع لا سبيل إلى الترجيح إلا بعد جهد، وقلما نتفق، وإنما نقف عند بعض الأمثلة التي لا تقبل جدلا؛ فمن ذلك مثلا كلمة "مركوش" ص339، 340 التي وردت في نسخة غواطة على هذا النحو، وفي طبعة الوطن بالرسم "بركوش". ولقد لاحظ الناشر نفسه في ص340 هامش 10 أن نقط شين الكلمة ساقطة من نسخة غواطة، ولو أنه كان ملما بموضعه، وقد كان درس أسماء السفن التي كانت تستخدم في الحروب الصليبية لاستنتج في سهولة أن صحة اللفظ هي "بركوس" "انظر "الفتح القدسي" للعماد الأصفهاني بالقاهرة 1321هـ ص238" إذا ورد هذا اللفظ في صيغة الجمع براكيس. ومفردها كما هو واضح بركوس، كما ذكرها أبو شامة صاحب "الروضتين في أخبار الدولتين", القاهرة 1287هـ ص238"؛ إذ ورد هذا اللفظ في صيغة الجمع براكيس، ومفردها كما هو واضح بركوس، كما ذكرها أبو شامة صاحب "الروضتين في أخبار الدولتين" "القاهرة 1287هـ ج2 ص187". ولقد كان من السهل على الدكتور سوريال الذي كتب في تاريخ الحروب الصليبية أن يفطن إلى أن الكثير من الأسماء التي أطلقها العرب على السفن في تلك الحروب أسماء أوربية الأصل مثل الجلاسة "من الإيطالية Galeazza"، والشلندي "من الفرنسية Chaland"، والغليون "من الإيطالية Galeone"، وبركوس "من الإيطالية Barque" والفرنسية وغير ذلك كثير. ومن الأمثلة الأخرى على عدم الإلمام بالموضوع، أن الناشر الفاضل قد نقل عن دوزى في فهرست الألفاظ والمصطلحات المستعصية ص54، تحت كلمة خزانة البنود قوله: "ويعني بها أيضا سجن"، وليس هذا صحيحا. وكان من واجب الناشر أن يصلح خطأ دوزى. فخزانة البنود بمعناها اللغوي لا تؤدي هذا المعنى إطلاقا، ولكنه حدث تاريخيا أن وجد مكان بهذا الاسم، وغير استعماله وأصبح سجنا "راجع خطط المقريزي الطبعة الأهلية ج3، ص315 حيث يقول عن خزانة البنود: وكانت أولا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يعمل فيها السلاح ... ثم إنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، فعملت بعد حريقها سجنا يسجن فيه الأمراء والأعيان إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فأقرها ملوك بني أيوب سجنا".

ونكتفي بهذين المثلين الواضحين للتدليل على ما يستهدف له الناشر من أخطاء، عندما يكون غير مختص بموضوع الكتاب الذي ينشر، كما رأيناه يستهدف للأخطاء اللغوية التي لا شك فيها ولا مفر من إصلاحها، عندما يكون إلمامه باللغة قاصرا. الآن ننتقل إلى المسألة الأخيرة التي نريد أن نتحدث عنها، وهي الروح العلمية، وأكبر ظننا أن جميع القراء سيقروننا على مبدأين كبيرين يجب أن يتصف بهما العالم أولهما التواضع، وثانيهما إعطاء كل ذي حق حقه من الزملاء المعاصرين والعلماء السابقين على السواء. فأما عن التواضع فإنه لمما يؤسفنا أن نلاحظ أن الدكتور سوريال كان أحرص مما يجب على إظهار مجهوده وقيادة القارئ إليه قسرا. وفي الكتاب أدلة يلمسها القارئ في يسر، فالناشر مثلا يقول في مقدمته عن حياة المؤلف: وأول شيء يدهش الباحث في أمرها هو خلو أغلب كتب التاريخ الأدبي من الكلام فيها والعلم بها، حتى أن "دائرة المعارف الإسلامية" المنشورة بمدينة ليدن نفسها -وهي أعظم الموسوعات في تاريخ الدراسات الإسلامية- لم تحو شيئا عن ابن مماتي؛ لهذا توجهنا إلى التنقيب في المراجع القديمة من كتب الطبقات. ووفقنا في النهاية إلى العثور على شذرات عن حياته في "وفيات الأعيان" لابن خلكان، وفي "عقد الجمان" للعيني، وفي "المواعظ والاعتبارات" للمقريزي، ولكن كل هذا لا يقارن بما ورد عن سيرته في كتاب "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، من تصنيف ياقوت الرومي لناشره المرحوم الأستاذ س. مرجوليوث". ومن الغريب حقا أن يشير الناشر إلى "التنقيب" وإلى "التوفيق إلى العثور في النهاية" على ترجمة لابن مماتي، مع أنه وارد في معجم ياقوت، وهذا المعجم في متناول الأيدي، وخصوصا بعد طبعة الدكتور فريد رفاعي، وهي أول ما يتجه إليه كل باحث عن التراجم، ثم نرى الناشر ينقل ترجمة ابن مماتي عن ياقوت وعن ابن خلكان إحداهما في إثر الأخرى، ونتساءل عما يدعوه إلى ذلك، وكتابا ياقوت وابن خلكان يملآن المكاتب، وهلا يرى الناشر الفاضل أننا نطمع في خير مما فعل؟ نطمع في دراسة نقدية تحليلية لهذه النصوص. واستنباط ما تجمع عليه من حقائق، مع الاكتفاء بالإشارة إلى المكان أو إيراد ما يستدل به من النصوص. وكما يبتدئ الكتاب بهذه الروح المسرفة في إظهار الجهد حيث لا جهد، كذلك ينتهي الكتاب لسوء الحظ، فقد أورد في نهايته ثبتا سماه فهرس الاصطلاحات والألفاظ المستعصية، وننظر في هذا الفهرس فنجد إما ألفاظا أساء الناشر

قراءتها مثل كلمة "مركوش" السابقة الذكر، التي يثبتها الناشر مردفا إياها بقوله: نوع من المراكب، وإما ألفاظا أوضح معناها الدكتور محمد مصطفى زيادة، في فهرس الاصطلاحات الذي أثبته في الجزء الثالث من السلوك للمقريزي، وإما ألفاظا نقل الناشر معناها عن دوزى أولين، فما الذي يدعوه إذن إلى تسميتها بالمستعصية؟ وما هو جهده في تفسيرها؟ ولقد كنا ننتظر منه على الأقل أن يصحح دوزى أو يكمله ولو بالنص الذي ينشره اليوم. ولنضرب لذلك مثلا كلمة شلندي، فقد نقل عن دوزى أنه "نوع من المراكب لنقل البضائع والأمتعة"، مع أن ابن مماتي نفسه في ص340 يعرفه بقوله: "وأما الشلندي فإنه مركب مسقف تقاتل الغزاة على ظهر" معنى هذا أنه مركب حربي، ولقد كان من واجب الناشر أن يشير إلى مناقضة ابن مماتي لدوزى، وأن يفسر هذا التناقض على وجه من الوجهين الممكنين. فالشلندي، إما أن يكون مركبا مسقفا يستخدم للبضائع أو في الحرب لرمي الرماة على السواء، وفي هذه الحالة يوفق بين دوزى وابن مماتي، وإما أن يكون استخدامه مقصورا على البضائع أو الحرب، وفي هذه الحالة يكون من واجبه أن يرجح بين زعمي الرجلين، وأن يورد أسباب ترجيحه. ولكنه لسوء الحظ لم يفعل هذا ولا ذاك، ومع ذلك يسمى فهرسه بفهرس الألفاظ المستعصية! وأخيرا يبقى المبدأ الثاني وهو مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه. وإنما نثير هذا لأن الناشر ينبئنا هو نفسه في ألفاظ -أحيانا واضحة وأحيانا غير واضحة- أنه قد استعان بالأستاذ محمد بك رمزي المعروف باشتغاله بجغرافية مصر التاريخية. ولقد كان اعتماده على رمزي بك فيما يظهر كبيرا، وبخاصة في الباب الثالث من الكتاب "في ذكر جملة أعمال مصر وتفصيل نواحيها"، وهذا الجزء يشغل مائة وعشرين صفحة تقريبا من متن الكتاب الذي يقع في 380ص، أي ثلث الكتاب تقريبا، ودليل اعتماده عليه قوله أنه قد اعتمد على نشر هذا الباب بنوع خاص على مخطوطتي الأزهر ومعهد دمياط، وأنه قد استخدم هذين المخطوطين عن نسختين نقلهما رمزي بك بيده؛ إذ الأصول مودعة الآن خزائن لا يسهل الوصول إليها. وإذا كان الأستاذ رمزي بك قد نقل هذين المخطوطين فهو لم يكتف بمجرد النقل، بل أعمل في قراءتهما قراءة صحيحة كل جهده، وقد ظهر هذا الجهد في تصحيح هذا الجزء من الكتاب بنوع خاص تصحيحا لم يتوافر للأجزاء الأخرى. وإنه ليحلو لنا أن نثبت أن الأمير عمر طوسون قد اعترف لرمزي بك بجهده المشكور، فقال في تقديمه للكتاب: "وقد راجع الباب الثالث وهو الخاص بتقويم

البلدان وصوب تحريفه، حضرة الأستاذ محمد بك رمزي، وبذل في ذلك جهدا يستحق عليه الشكر والتقدير. وأما الدكتور سوريال فقد قال: "ولما كان الباب الثالث يحتاج إلى عناية خاصة في تحقيق الأسماء الصحيحة لنواحي القطر المصري وإثباتها في النص دون غيرها، فقد راجعناه مع حضرة محمد رمزي بك مراجعة دقيقة، واستفدنا منه في الوصول إلى ضبط الكثير من الأسماء الغامضة أو المحرفة في مختلف الأصول"، ومن الواضح أن عبارة الناشر الفاضل لا تطابق تماما عبارة عمر طوسون، ولقد صرنا نطمع من الناشر الفاضل لا أن يعترف بجهد رمزي بك اعترافا صريحا كاملا فحسب؛ بل أن يضع اسمه على غلاف الكتاب مع اسمه هو. وذلك لا لأن الجزء الخاص بتقويم البلدان يشغل ثلث الكتاب فحسب؛ بل لأنه أصح أجزاء الكتاب نشرا، بدليل أن الناشر قد اعترف هو نفسه بأنه قد استطاع أن يثبت في متنه الأسماء الصحيحة دون غيرها، وهذا شيء لم يوفق إليه في أجزاء الكتاب الأخرى، مع أن من بين تلك الأجزاء ما هو مجرد سرد لأنواع من الزراعات والمكاييل والمقاييس والأشهر وما إلى ذلك. وفي استطاعة القارئ أن يراجع هوامش هذا الجزء ليرى إلى أي حد قد استفاد الناشر من مجهودات رمزي بك. مستدلا على كفاية هذا العالم الفاضل بما أثبته الناشر أخذا عن بحث رمزي بك المنشور فيه. Memoires de L.htm'institut francais. T. LXVLLL Melanges. Maspero. vol. LLL.P. 273-321 Le Caire. 1953. Rectifications a l'ouvrage e d E.Amelineau: Geographie de l'Egypte al' Epoque Copte". أي "تصويبات في كتاب المسيو أميلينو عن جغرافية مصر في العصر القبطي". ثم بحوالي سبعة وعشرين هامشا ذكر الدكتور سوريال أنها من تحقيقات رمزي بك. ونجمل ملاحظتنا على طبعة الدكتور سوريال بأن روحها العلمية ليست سليمة. وأن أصول النشر فيها لم تراع، وبخاصة في إقامة تسلسل المخطوطات. وفي الأخذ بالمبادئ الصحيحة في قراءة النص، وبذل ما تتطلبه هذه القراءة من جهود. وأما ما أوردنا من أمثلة وتفاصيل فنرجو القارئ ألا يعتبرها على أي نحو استقصاء لما في الكتاب من أخطاء، وإنما سقناها تأييدا للقواعد العامة التي أوردناها، وهي بيت القصيد فيما كتبنا1.

_ 1 يسرني أن أشير إلى أنني قد رجعت إلى زميلي بالمحقق الأستاذ جمال الدين الشيال مدرس التاريخ بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، لتحقيق بعض مصطلحات العصر الأيوبي الواردة في الكتاب.

أوزان الشعر

أوزان الشعر الشعر الأوروبي ... أوزان الشعر: 1- الشعر الأوربي: يخيل إلَيَّ أننا قد وصلنا الآن إلى مرحلة من نمو ثقافتنا يجب عندها أن نأخذ أنفسنا بالصرامة فيما نكتب، فلا نتحدث إلا عن بينة تامة، وتحقيق لما نقول، بعد أن نكون قد عمقنا الفهم، وإلا فسنظل نوهم ونتوهم أنا نعرف شيئا نافعا، ونحن في الواقع نضرب شرقا بغرب. وهنا مسائل لا يكفي للحديث عنها أن نقرأها في كتاب إنجليزي أو فرنسي ثم ننقلها إلى قرائنا حسبما نظن أننا قد فهمناها. هذا لا ينبغي. ونأخذ اليوم لتلك المسائل مثلا من "أوزان الشعر". كما تحدث عنها الأستاذ دريني خشبة فيما يحشد في "الرسالة" من أحاديث. يريد الأستاذ أن يميز بين العروض الإنجليزي وغيره من الأعاريض الأوربية، وبين العروض العربي، فيقول: "وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوربية، إنما أساسها التفعيلة the foot، وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي". وهذا قول لا معنى له إطلاقا؛ لأن جميع أنواع الشعر، الشرقي والغربي على السواء، تتكون من تفاعيل يجتمع بعضها إلى بعض فتكون الأبحر، والشعر العربي في هذا كغيره من الأشعار، وإنما التبس الأمر على الأستاذ؛ لأنه رأى الأبحر في الإنجليزية تسمى باسم التفعيلة المكونة لها فيقولون lambic meter ... إلخ. وأما في العربية فقد وضعوا لها أسماء أخرى كالطويل والبسيط وغيرها، وإذا كانت في الشعر العربي أبحر متجاوبة التفاعيل كالطويل والبسيط مثلا حيث نجد التفعيل الأول يساوي الرابع، فإن هناك أيضا أبحرا متساوية التفاعيل كالمتدارك والرجز والهزج والكامل وغيرها، وهذه كان من الممكن أن تسمى بأسماء تفاعيلها، فالمسألة مسألة مواضعة، وإذا كانت في الشعر العربي زحافات وعلل فإن الشعر الأوربي أيضا فيه ما يسمونه بالإحلال Substitution فتراهم يضعون مقطعا اسبونديا محل مقطع داكتيلي أو مقطع

إيامبي، وفي الشعر الأوربي والعربي معا لا يغير هذا الإحلال من اسم التفعيل الأصلي. وإذن فكل الأشعار من هذه الناحية لا تختلف في شيء. وإنما تتميز الأشعار ببينية التفاعيل، وهنا نلاحظ أن الأستاذ خشبة لم يدرك بأذنه حقيقة الشعر الإنجليزي، وكان السبب في ذلك اعتماده في أرجح على قواميس اللغة الإنجليزية، فقد قرأ في أحد كتب العروض الإنجليزي أن هناك شعرا تتكون تفاعيله من الإيامب، وشعرا تتكون تفاعيله من الداكتيل ... إلخ. ومما يجده القارئ في هامش مقاله، وبحث في القاموس فوجد أن الإيامب عبارة عن وحدة من مقطعين، أولهما قصير والثاني طويل وهكذا، وفاته أن هذه التعاريف لا تنطبق على الشعر الإنجليزي بسهولة، وإنما هي خاصة بالأشعار اليونانية واللاتينية، ففي هاتين اللغتين تتميز المقاطع بعضها عن بعض بالطول والقصر، وأما اللغة الإنجليزية واللغة الألمانية فتتميز مقاطعهما قبل كل شيء بالارتكاز الصوتي stress، فهناك مقاطع تنطق بضغط وأخرى بغير ضغط، وعلى هذا يكون الإيامب وحدة من مقطع لا يحمل ارتكازا وآخر يحمله، ومن ثم لا يكون الشعر الإنجليزي شعرا كميا بل شعر ارتكاز stressed، وهذا هو الرأي المعتمد. وفي موضع آخر يقول الأستاذ: "ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقا، وهو يتكون من اثني عشر مقطعا: ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين". وهذا القول أيضا يدل على أنواع من عدم الدقة، بل ومن الخطأ البين، فعدم الدقة نجدها في شرح سبب تسمية هذا البحر، فهو ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر بل نسبة إلى رواية بالذات كتبت في القرن الثاني عشر بفرنسا "عن الإسكندر الأكبر le Roman d'alexandre" استعمل فيها لأول مرة هذا البحر بدلا من الأبحر الأقصر منه التي كانت مستعملة في القرون الوسطى. أما الخطأ ففي ظن الأستاذ أن البحر الإسكندري في الشعر الفرنسي يتكون من ست تفعيلات إيامبية كل تفعيل من مقطعين، فهذا لا وجود له في الشعر الفرنسي، ومن المعلوم أن اللغة الفرنسية قد فقدت منذ قرون الكم، فلم تعد هناك مقطاع طويلة ومقاطع قصيرة إلا في حالات نادرة في أواخر الكلمات مثل age. ومن المسلم به عند الفرنسييين وعند جميع من كتبوا عن الشعر الفرنسي أن هذا الشعر لا علاقة له بكم المقاطع. 2- الارتكاز، فألفاظ اللغة الفرنسية لم تعد تحمل ارتكازا stress وإنما يوجد ارتكاز في أواخر الجمل. فكل جملة فرنسية أو شبه جملة تنتهي بارتكاز نحس أنه ارتكاز شدة وارتفاع معا إلا في حالة الوقف، فإنه يعتبر ارتكاز شدة فحسب.

فمثلا جملة Cette maison est tres belle لا نجد فيها غير ارتكازين اثنين أولهما على on والآخر bel، والارتكاز الأول ارتكاز شدة وارتفاع في الصوت، أما الثاني فشدة فقط؛ لأن الارتفاع يسقط للوقف، وإذن فالشعر الفرنسي ليس شعرا كميا ولا شعرا ارتكازيا؛ لسبب واضح هو أن مقاطع تلك اللغة لا تتميز بكم ولا ارتكاز الشعر الفرنسي يسمونه بكل بساطة "شعرا مقطعيا syllabique". من هذه الملاحظات يتبين لنا أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر كنا نحب من الأستاذ خشبة -ما دام قد أراد أن يبصرنا بحقائق الأوزان- أن يميز بينها لنحاول بعد ذلك أن نرى أين يقع منها الشعر العربي، وبذلك قد نستطيع أن نساعد على ظهور أنواع جديدة من الشعر العربي تمكن شعراءنا الكبار الذين يعجب بهم الأستاذ من إجادة فمنهم حقا. وعندئذ سنرى المسرحيات تكتب شعرا كما كانت تكتب منذ ثلاثة قرون، ونكون بعملنا هذا قد أثبتنا للعالم المتحضر أنهم مخطئون في عدم استمرارهم على استخدام الشعر في المسرحيات1. هذه الأنواع الثلاثة هي: 1- الشعر الكمي. 2- الشعر الارتكازي. 3- الشعر المقطعي. أما النوع الأول فهو الشعر اليوناني واللاتيني القديم، أما النوع الثاني فهو الشعر الإنجليزي والألماني، وأما الثالث فهو الشعر الفرنسي. الشعر الكمي: لنأخذ لذلك مثلا بيت فرجيليوس في الأنيادة: Infandum regina jubes renovare deolorem2 نجده مكونا من ستة تفاعيل، وكل تفعيل مكون من مقطعين طويلين "اسبونديه"، أو مقطع طويل أو مقطعين قصيرين "داكتل"، ما عدا التفعيل الأخير فمقطعه الأخير قد يكون قصيرا ويكتفى به؛ لأن الوقف يعوض النقص. وإليك التقطيع مع رمزنا للمقطع الطويل بالعلامة وللمقطع القصير بالعلامة/ inf an-d um re-g in a ju=bes r en o-v are do-l or em وأما الأساس الذي يعتبر به المقطع طويلا أو قصيرا فيرجع إلى الحرف الصائت voyelle، فإذا كان طويلا بطبيعته كما هو الحال في بعض الحروف اليونانية، أو كان حرفا مزدوجا dephtongue، أو كان ناتجا عن إدغام حرفين

_ 1 كتابة المسرحيات شعرا، رأي نادَى به الأستاذ خشبة في عدة مقالات بالرسالة هو رأي لا نقره. 2 هذا البيت في مطلع الأغنية الثامنة من الإلياذة وترجمته: "أيتها الملكة، إنك تأمرين بتجديد ألم لا تمكن العبارة عنه". قاله إينوس بطل الملحمة عندما طلبت إليه ديدون ملكة قرطاجنة أن يقص عليها نبأ ما كان من تدمير الإغريق لمدينة طروادة وطن البطل الأصلي.

صائتين، أو كان متلوا في نفس المقطع بحرف صامت consonne، اعتبر المقطع طويلا، وإلا فهو قصير. وفي القواميس الجيدة نجد دائما كم الحروف الملتبسة. ونحن لا نريد أن نطيل في تحليل موسيقى هذا النوع من الشعر. فهي لا شك لا تقف عند التفاعيل والمقاطع بل لا بد لها من إيقاع rythme ينتج عن وجود ارتكاز شعري يسمى lctus، وهو يقع على مقطع طويل في كل تفعيل، كما أن هناك وقفا مهما في كل بيت يشبه الوقف على الشطر في البيت العربي. وهو في البيت السابق يقع بعد المقطع السابع كما وضحنا بالعلامة = والواقع أن أوزان الأشعار اليونانية واللاتينية معقدة صعبة حتى بالنسبة لمن يتقنون تلك اللغات؛ وذلك لأن نطقها غير معروف على وجه دقيق، ومن باب أولى عناصرها الموسيقية؛ ولهذا نكتفي بما ذكرنا. الشعر الارتكازي: نأخذ لهذا النوع بيتا من الشعر الإنجليزي وليكن مطلع "مرثية في مقبرة بالريف" لتوماس جراي: the jcurfew tolls the knell of pattin day1 نجده مكونا من ستة تفاعيل إيامبية، وكل تفعيل مكون من مقطع غير مرتكز عليه ومقطع آخر مرتكز عليه، وإليك وزنه مع رمزنا للارتكاز بالعلامة وترك غير المرتكز عليه بدون علامة: The eut-few tolls-the k ell-of p ar-ting day. وما على القارئ الذي يريد أن يحس بوزن البيت إلا أن يقرأ مع المرور بخفة على المقطع غير المرتكز عليه والضغط على المقطع الذي يحمل الارتكاز. ومن البين أن ما يميز هذه المقاطع بعضها عن بعض ليس كمها كما قال الأستاذ خشبة؛ بل الضغط الواقع على بعضها. وأما أن هذا الضغط يزيد من كم المقاطع التي يقع عليها فهذه مسألة تابعة لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الشعر، الذي يعتبر إيقاعيا قبل كل شيء. ومن الملاحظ أن اللغة الإنجليزية2 بوجه عام لغة إيقاع إذا قيست بلغة سيالة كاللغة الفرنسية. الشعر المقطعي: هذا النوع من الشعر خاص باللغة الفرنسية، وسبب وجوده هو ما أشرنا إليه من قبل. فاللغة الفرنسية كما هو معلوم تطور للغة اللاتينية على نحو ما تطورت لغتنا العامية عن اللغة الفصحى مع المحافظة على النسب، ولقد كانت اللغة اللاتينية كما

_ 1 ترجمته: "دق ناقوس المساء ينعى النهار المدبر". 2 الإنجليز يضمون حرف r إلى f إلى t في المقطعين الثالث والسادس؛ ولكنا جارينا التقسيم العلمي.

رأينا لغة كمية تتميز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر، ولكن اللغة الفرنسية فقدت هذه الخاصية كما فقدت الارتكاز أيضا. فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازا على المقطع السابق الأخير، وذلك ما لم يكن هذا المقطع قصيرا فإن الارتكاز يسمو في هذه الحالة إلى المقطع الثالث من الآخر، ولكن هذا الارتكاز سقط من الفرنسية بسقوط الكثير من أواخر الكلمات اللاتينية الأصل. فقدت اللغة الفرنسية -إذن- الكم والارتكاز، فعلى أي أساس يقوم -إذن- الشعر فيها؟ الواقع أن موسيقى الشعر الفرنسي ليست في جوهرها موسيقى إيقاع ولكنها موسيقى سيالة دقيقة، ومع ذلك فالأمر فيها ليس أمر مقاطع متشابهة؛ كل عشرة أو اثني عشر أو غيرها تكون بيتا من الشعر، بلا لا بد أن يكون هناك تقسيم لهذه المقاطع في وحدات موسيقية إيقاعية إلى حد ما. فالوزن الإسكندري مثلا ينقسم عن معظم الشعراء الكلاسيكيين إلى أربع وحدات كبيت راسين: Oue je viens dans son temple adorer l'Eternel1. فيه نرى تفعيلة مكونة من ثلاثة مقطاع "حرف e في آخر كلمة Temple يحذف في القراءة". ولكن هذه المقاطع لا يتميز بعضها عن بعض بكم ولا ارتكاز، وإنما يأتي الإيقاع من وجود ارتكاز شعري على آخر مقطع من كل تفعيلة وقد رمزنا له باعلام " ً" وهذا الارتكاز -كما قلنا- ارتكاز ضغط وارتفاع معا في التفاعيل الثلاثة الأولى، وارتكاز ضغط فقط في التفعيل الأخير لسقوط الصوت عند الوقف. هذا هو التقسيم الشائع عن الكلاسيكيين2. وأما الرومانتيكيون فقد اعتزوا بالتقسيم الثلاثي. ففكتور نفسه قد افتحر بتمزيق أوصال الوزن الكلاسيكي لهذا البحر في بيت ثلاثي شهير هو: 1- j' ai desloque ce grand niais d'alexandrin وهو مقسم كما ترى إلى ثلاثة تفاعيل، كل تفعيل أربعة مقاطع، وأما عن الإيقاع فيأتي من الارتكاز على أواخر الجمل كما ذكرنا بالنسبة للبيت السابق. هذا والتفاعيل الفرنسية ليست دائما متساوية في عدد مقاطعها، ولقد كتب الأستاذ الكبير جرامو Grammont كتابا مهما جدا بعنوان: Le vers francais, ses moyens d'expression, son harmonie.

_ 1 وترجمته: "نعم. لقد أتيت أعبد الرب الخالد في معبده". 2 يسمى الأستاذ الزيات الكلاسيكيين بالاتباعيين والرومانتيكيين بالاتباعيين ولكنهم جميعا كانوا في الحق اتباعيين: الكلاسيكيون أخذوا عن اليونان، والرومانتيكيون أخذوا من القرون الوسطى أي عن الأدب الروماني وهو ذلك الأدب الذي كتب باللغة أو اللغات الرومانية Langues Romanes واللغة الفرنسية إحدى هذه اللغات، فالرومانتيكيون قد فضلوا أن يستوحوا أدبهم القومي من القرون الوسطى بدلا من الرجوع إلى قدماء الإغريق واللاتين، وهذا هو سبب تسميتهم بالرومانتيكيين.

وفيه يظهر أن التفاعيل الفرنسية وإن لم تكن متساوية في الكتابة إلا أنه من الواجب أن نقرأها كأنها متساوية، فعدم التساوي هذا قد ساقت إليه غريزة الشعر عند الموهوبين من الشعراء عندما أحسوا أنه لا بد من أن تسرع القراءة أو تبطئ لتترجم ترجمة صحيحة عن مشاعرهم المتباينة. وإذن فمن واجب القارئ أن يسوي بين التفاعيل في كمها الزمني ثم يبحث بعد ذلك عن العلة فيما اضطر إليه من إسراع أو تباطؤ. هذه هي أنواع الشعر الأوربي الثلاثة: كمي، وارتكازي، ومقطعي. ومن الممكن أن نستخلص منها عنصرين عامين يقوم عليهما كل شعر وهما: 1- الكم. 2- الإيقاع. أما الكم فقصد به هنا كم التفاعيل التي يستغرق نطقها زمنا ما، وكل أنواع الشعر لا بد أن يكون البيت فيها مقسما إلى تلك الوحدات. وهي بعد قد تكون متساوية كالرجز عندنا مثلا. وقد تكون متجاوبة كالطويل حيث يساوي التفعيل الأول التفعيل الثالث والتفعيل الثاني التفعيل الرابع وهكذا. ولكن هذا الكم الذي يسمى في الموسيقى mesure لا يكفي لكي نحس بمفاصل الشعر. فلا بد من أن يضاف إليه الإيقاع المسمى rythme. ولكي نضمن تحديد الفهم نعرف الإيقاع، فهو عبارة عن رجوع ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة، فأنت إذا نقرت ثلاث نقرات ثم نقرت رابعة أقوى من الثلاث السابقة، وكررت عملك هذا تولد الإيقاع من رجوع النقرة القوية بعد كل ثلاث نقرات، وقد يتولد الإيقاع من مجرد الصمت بعد كل ثلاث نقرات. لا بد إذن أن تكون هناك ظاهرة صوتية متميزة تحدث في أثناء نطق كل تفعيل، وتعود إلى الحدوث في التفعيل الذي يليه. والأمر في الشعر الارتكازي واضح. فالارتكاز نفسه كما يميز بين المقاطع يولد كذلك الإيقاع، وأما الشعر الكمي فقد أحس القدماء بأن مجرد عودة مقطع طويل بعد مقطعين قصيرين مثلا لا يكفي لإيضاح الإيقاع، فدلونا على أن هناك ارتكاز شعريا يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود في نفس الموضع تقريبا من التفاعيل الأخرى، كذلك الأمر في الشعر الفرنسي فهم لم يكتفوا بتقسيم البحر الإسكندري مثلا إلى تفاعيل متساوية في الكتابة والقراءة معا أو القراءة فحسب، بل أضافوا إليه وجود ارتكاز ضغط وشدة، أو ضغط فقط في آخر كل تفعيل، وعودة هذا الارتكاز إلى مسافات زمنية محددة هو الذي يولد الإيقاع. ولكنه لما كان إيقاعا قليل العدد خفيف الوقع، فإن الشعر الفرنسي لا يعتبر بالنسبة للشعر الإنجليزي مثلا شعرا إيقاعيا بل شعرًا سيالًا كما قلنا. والآن أين يقع الشعر العربي من كل هذا؟ للجواب عن هذا السؤال يجب أولًا أن نناقش مذهب الخليل.

الشعر العربي

2- الشعر العربي: ليس من شك في أن الخليل بن أحمد كان رجلا عبقريا نفخر به مع من نفخر بهم من أجداد. ولكن العلم لا يعرف الوقوف، ولقد تقدمت الدراسات اللغوية تقدما يحملنا على أن نطمح إلى معرفة أدق من معرفة الخليل بالعناصر الموسيقية في شعرنا العربي. والذي لا شك فيه أن الخليل قد وضح حقيقة أساسية في الشعر العربي لا نستطيع أن نغفلها، وهي انقسام كل بيت إلى تفاعيل متساوية، كما هو الحال في الرجز والهزج وغيرهما، أو متجاوبة "التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع"، كما هو الحال في الطويل والبسيط وغيرهما. وهذا التقسيم من أسس الموسيقى والشعر عند الأوربيين اليوم، فهنالك وحدات موسيقية متساوية isometriques وأخرى متجاوبة symetriques كما وضح الخليل. ولكننا لا نكاد نترك وجود التفاعيل إلى بنية تلك التفاعيل حتى نختلف مع الخليل؛ وذلك لأنه لم يدلنا على وحدة الكلام وهي المقطع، وأكبر ظني أن الخليل لم يعرف العروض اليوناني، وإلا لفطن إلى المقطع، وإن يكن قد علم -فيما نرجح- بالموسيقى اليونانية بفرعيها: "علم الإيقاع rythmique وعلم الانسجام Les harmoniques" "والعروض اليوناني كما هو معلوم يقوم على المقطع، والسبب الذي منه الخليل من الوقوع على المقطع مزدوج فيما أظن". 1- عدم كتابة الحروف الصائتة القصيرة voyelle breves التي نسميها حركات "الفتح والضم والكسر" في صلب الكتابة العربية التي لا تزال إلى اليوم مقطعية إلى حد بعيد، بمعنى أننا نكتفي برسم الحروف الصامتة، وأما الصائتة فلا نكتب إلا الطويل منها "الألف والواو والياء". فكتابتنا وسط بين الكتابة الفينيقية والكتابة الإغريقية، ومن الثابت تاريخيا أن الإغريق عند أخذهم بالكتابة الفينيقية قد أضافلوا إليها رسوما خاصة للحروف الصائتة كلها طويلة وقصيرة. وانبنى على ذلك أن الخليل لم يفطن إلى أن الحروف الصائتة القصيرة تكون مع الحرف الصامت Consonne الذي توضع فوقه كحركة - مقطعا تاما مستقلا؛ ولهذا اكتفى في تقطيع التفعيل بالحروف التي تكتب مميزا بينها بالحركة والسكون.

2- السبب الثاني هو أن اللغة العربية كغيرها من اللغات السامية تغلب فيها الحروف الصامتة فيما يرجح، وتلك الحروف يقع معها عادة الوقف؛ أي السكون. ولهذا لاح للخليل أن التتابع إنما يقع في الحركات والسكنات، بينما نجد في اللغة اليونانية أن الحروف الصائتة هي الغالبة، ولهذا لا نحس فيها بالسكنات الموجودة في اللغة العربية، بل نحس فوق كل شيء باختلاف كم الحروف الصائتة في تتابعها. هذان السببان لا يجوز أن يحجبا عنا الحقيقة اللغوية التي تصدق على كل لغة؛ وهي أن المقطع هو وحدة الكلام. وفي اللغة العربية أربعة أنواع من المقاطع هي: 1- المقطع القصير المفتوح، وهو المكون من حرف صامت وحرف صائت طويل "ألف أو واو أو ياء - حروف اللين" مثل "كا" في كانت. 2- المقطع الطويل المزدوج، وهو المكون من حرف صامت وحرفين صائتين مثل بي bia في بيت مع احتفاظنا بالمناقشة العلمية التي تدور حول طبيعة الياء في هذا المقطع أهي صائتة أم صامتة؟ 3- المقطع المغلق، وهو المكون من حرف صامت، ثم حركة فحرف صامت آخر نحو "تن" في بيتن. والحرف الصائت في هذا المقطع قصير دائما، فهذا قانون مهم من قوانين اللغة العربية وليس له استثناء إلا في حالات محصورة أهمها حالات الوقف على الاسم المنون مثل "نار" فهي تتكون في هذه الحالة من مقطع واحد مغلق حرفه الصائت طويل، وكذلك الوقف في حالتي التثنية والجمع مثل "محمدان ومحمدون" فالمقطع "دان" والمقطع "دون" كطل منهما حرفه الصائت طويل، وإذن فالقانون العام هو قصر الحرف الصائت في المقطع المغلق، فهل نعتبره مقطعا طويلا أم قصيرا؟ الواقع أنه مقطع طويل ويأتيه الطويل من الزمن الذي يستغرقه الحرفان الصامتان، فهذا الزمن لا بد من حسابه وإن لم يحسبه علماء العروض الإغريقي واللاتيني. ولقد أثبت البحث الحديث أنه من الواجب أن يحسب كم الحروف الصامتة في جميع اللغات ومن باب أولى في اللغات السامية حيث تغلب تلك الحروف. ثم إنه إذا كانت في جميع اللغات حروف آنية momentanees كحروف الانفجار "باء ودال مثلا"، فإن هناك حروفا متمادة continues كالسين واللام مثلا، فهذه من الممكن أن نمد في نطقها كما نشاء. وإذن فالمقطع المغلق نعتبره طويلا. ونخلص من هذا إلى وجود مقاطع في اللغة العربية، وهذه المقاطع تختلف في

كمها، فهل نستنتج من ذلك أن الشعر العربي كمي بمعنى أن كل تفعيل فيه يتكون من مقاطع مختلفة الكم بنسبة محدودة؟ ذلك ما رآه المستشرق أولد Ewald، فقد وضع للشعر العربي عروضا على غرار العروض اليوناني، وهو عروض مستقيم سهل الفهم مبسط عن عروضنا تبسيطا كبيرا، ولقد درسناه للطلبة بالجامعة فأجادوا فهمه، ويستطيع القارئ أن يجده في الجزء الثاني "من قواعد اللغة العربية" Arabic Gramar للسمتشرق المشهور ريت Right ولكننا مع ذلك لا نقر أولد ومن نحا نحوه من عامة المستشرقين في اكتفائهم برد العروض العربي إلى المقاطع الكمية كما هو الحال في العروض اليوناني واللاتيني؛ وذلك لأنهم لم يبصرونا بالإيقاع Rythme، فالكم -كما قلنا- لا يكفي لإدراك موسيقى الشعر؛ بل لا بد من الارتكاز الشعري الذي يقع على كل تفعيل ويعود في نفس الموضع على التفعيل التالي وهكذا. ولقد كان على نسب محدودة يوضح ذلك الإيقاع، وكذلك تتابع المقاطع المختلفة الكم. والواقع أن الارتكاز في اللغة العربية موضوع شاق لا يزال في حاجة إلى البحث، نحن لا نظن أن المستشرقين يستطيعون بحثه؛ لأن معرفتهم باللغة مهما اتسعت لا يمكن أن تصل إلى الإحساس بمسائل موسيقية لغوية دقيقية كهذه، فهل مستطيعون نحن ذلك؟ ليسمح لي القارئ بأن أقول: إنني قد حاولت حل هذه الأشكال في بحث طويل كتبته باللغة الفرنسية بعد دراسة وتحليل لثلاثة أبحر من الشعر العربي بمعمل الأصوات بباريس، هي الطويل والبسيط والوافر1. ولنأخذ مثلا من هذه الدراسة بيت امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

_ 1 هذا البحث لا يزال مخطوطا؛ لأن الحرب حالت دون نشره بأوربا ولا يستطيع نشره غير هيئة علمية لكثر السجلات الصوتية والرسوم فيه، ثم لخصوصية موضوعه.

ولكن هذا الوزن لا يبصرنا بالحقيقتين الكبيرتين اللتين يقوم عليهما الشعر في جميع اللغات، وهما: الكم والإيقاع. الكم mesure: نقصد بالكم لا كم كل مقطع منفردا، فذلك ما سبق أن أوضحناه، بل كم التفاعيل، فنحن هنا أمام تفاعيل متجاوبة "التفعيل الأول يساوي الثالث والثاني يساوي الرابع"، ولكننا مع ذلك نسلم بجواز دخول زحافات وعلل، فكيف يستقيم الكم برغم هذه الزحافات والعلل التي تنقص من التفعيل في الغالب. هذه المشكلة قد حيرت المستشرقين، ولقد حاول العالم الفرنسي جويار Guyard أن يحلها في كتاب له بعنوان Novelle theorie de ja metrique arabe وفيه يطبق مواضعات الموسيقى وأصولها على الشعر العربي، ولكنه لا يدخل في حسابه غير الحروف الصائتة كما يفعلون في الموسيقى، فيغطي تلك الحروف المختلفة بقيم متفاوتة من نقطة بيضاء إلى نقطة سوداء إلى كروش مزدوج ... إلخ. ومن البين أنه قد أخطأ لسوء الحظ بإهماله كم الحروف الصامتة العظيمة الأهمية في اللغة العربية واللغات السامية عامة كما أشرنا. والذي اهتدينا إليه بحساب الآلات الدقيقة هو ما يأتي: "مقدرين كم كل تفعيل بأجزاء من مائة من الثانية". وهذه نتائج غريبة نلاحظ عليها: 1- أن التفاعيل المزحفة كالتفعيل الخامس والسابع قد ساوى كمها في النطق مع كم التفاعيل الصحيحة بل زاد. 2- أن هناك فروقا بين التفاعيل المتساوية كالتفعيل الثاني والرابع والسادس والثامن. وتفسير ذلك هو أولا: أن الفروق التي ظهرت في حساب الآلات لا تدركها الأذن؛ لأنه من الثابت أن الفرق الذي لا يزيد على 16/ 100 من الثانية لا تكاد تدركه الأذن، وإذن فهذه نستطيع إسقاطها. ثانيا: وأما عن مساواة التفاعيل المزحفة للتفاعيل الصحيحة، فهذا يفسر بحقيقة مهمة تحدث عند إنشاد الشعر، وهي عبارة عن عمليات تعويض نقوم بها

آليا، وهذا التعويض يحدث بطريقة مختلفة، منها تطويل حرف صائت بشرط ألا ينتج عن ذلك لبس يأتي من قلب الحرف القصير بطبيعته اللغوية إلى حرف طويل، ومنها مد النطق في حرف صامت متماد كالسين أو اللام أو غيرهما، ومنها الصمت بعد لفظ أو عند حرف آني كحروف الانفجار مثل الباء والفاء والدال وغيرها. إذن فالزحافات والعلل لا تغير شيئا في كم التفاعيل عند النطق، وهي لذلك لا تكسر الوزن. الارتكاز الشعري: الارتكاز عنصر أساسي في الشعر العربي بل عنصر غالب، ومن تردده يتولد الإيقاع؛ ولهذا بحثنا عنه في عناية. والذي يبدو لنا هو أن هناك ارتكازا على المقطع الثاني من التفعيل القصير "فعولن". وأما التفعيل الكبير فيقع عليه ارتكازان أحدهما أساسي على المقطع الثاني، والآخر ثانوي على المقطع الآخير في "مفاعيلن"، وقد رمزنا للارتكاز الأساسي بالعلامة - وللارتكاز الثانوي بالعلامة // ومن المعلوم أن الارتكاز لا يقع إلى على مقطع طويل، ومن ثم نلاحظ أن هذا الوزن لا بد أن يسلم منه دائما مقطع طويل بعد المقطع الأول القصير، فإذا لم يحدث ذلك انكسر البيت، فالمجموعة ب // الموجودة في أول كل تفعيل من البحر الطويل هي النواة الموسيقية للبيت، وهي عبارة عن وتد مجموعة في لغة الخليل. ومن عودة الارتكاز على هذا المقطع من كل تفعيل يتكون الإيقاع؛ لأنه -كما قلنا- عبارة عن عودة ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة. وإذن فاستقامة الوزن أو عدم استقامته لا تعود إلى الكم الذي تؤثر فيه الزحافات والعلل تأثيرا ظاهريا فقط، إلا إذا نتج عن هذه الزحافات والعلل فقدان للنواة الموسيقية التي تحمل الارتكاز. ولكن هل ينتج عن ذلك أن الشعر العربي شعر ارتكازي بمعنى أن مقاطعه تتميز بأنها تحمل ارتكاز ضغط أو لا تحمله؟ الجواب أيضا بالنفي، فالمقاطع العربية كما تحمل الارتكاز تتميز بالكم كذلك، وإذن فالشعر العربي يجمع بين الكم والارتكاز وربما كان هذا سبب تعقد أوزانه. ونلخص طبيعة الأوزان العربية بأنها تتكون من وحدات زمنية متساوية

أو متجاوبة هي التفاعيل، وأن هذه التفاعيل تتساوى أو تتجاوب في الواقع عند النطق بها بفضل عمليات التعويض، سواء أكانت مزحفة معلولة أو لم تكن، وأن الإيقاع يتولد في الشعر العربي من تردد ارتكاز يقع على مقطع طويل في كل تفعيل ويعود على مسافات زمنية محددة النسب، وعلى سلامة هذا الإيقاع تقوم سلامة الوزن. وهكذا ننتهي في هذا الحديث إلى ما انتهينا إليه في الحديث السابق من قيام جميع الأشعار على عنصري الكم والإيقاع، وأما موضع الاختلاف بين الأشعار المختلفة فهو في كيفية هذين العنصرين1.

_ 1 باستطاعة القارئ -إذا رأد- أن يقرأ مقالا مفصلا للمؤلف عن "الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه" في "مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية" وهي مجلة تصدر كل عام مرة " العدد الأول سنة 1943" وهي مخصصة لأبحاث أساتذة الكلية وطنيين وأجانب.

فهرست الموضوعات

فهرست الموضوعات: صفحة موضوع 3 الإهداء 5 مقدمة الأدب المصري المعاصر 8 النقد ووظائفه 12 بجماليون والأساطير في الأدب 18 سوء تفاهم وفن الأسلوب 25 أرواح وأشباح - الشعر والأساطير 32 نداء المجهول والأدب الواقعي 41 دعاء الكروان ومشاكلة الواقع 47 زهرة العمر وحياتنا الثقافية الأدب المهموس "أدب المهجر" 1- الشعر المهموس "أخي" لميخائيل نعيمة 55 "يا نفس" لنسيب عريضة 2- النثر المهموس 69 "أمي" لأمين مشرق مناقشات حول الأدب المهموس 74 حول ترنيمة السرير الشعر الخطابي 78 محمود حسن إسماعيل 83 إيضاح أخير 88 3- الهمس في الأناشيد 95 الأدب عسر لا يسر مناهج النقد - تطبيقها على أبي العلاء 98 الأدب ومناهج النقد 105 أبوالعلاء والنقد 112 أبو العلاء ورسالة الغفران 119 رسالة الغفران 126 مساجلات - جورجياس المصري المعرفة والنقد -المنهج الفقهي 130 الشعراء النقاد 138 المعرفة والنقد 145 نظرية عبد القاهر الجرجاني 153 النظم عند الجرجاني 158 الذوق عند الجرجاني 163 خلط بين القيم مناقشات لغوية 167 اللغة والتعريب 170 عثرت به وعثرت عليه حول أصول النشر 172 كتاب قوانين الدواوين للأسعد بن مماتي "1" 176 كتاب قوانين الدواوين للأسعد بن مماتي "2" أوزان الشعر 183 1- الشعر الأوربي 189 2- الشعر العربي

§1/1