في الأدب الحديث

عمر الدسوقي

المجلد الأول

المجلد الأول المقدمات الطبعة الأولى ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين مقدمة الطبعة الأولى: في مستهلِّ القرن التاسع عشر, أخذت مصر والبلاد العربية تستيقظ من سباتٍ طويلٍ, وتفرك عيونًا طالت هجعتها، وتنظر دهشةً إلى دنيا حافلةً بالجديد في نظم العيش, ووسائل التغلب على قوى الطبيعة, وتذليلها للإنسان؛ بالمخترعات الحديثة، وفي نظم الفكر، وعالم المعاني، والآداب، وما خلقه أدباء الغرب من صور ودبجوه من كتب؛ ونظموه من شعر، وسطروه من علمٍ مبنيٍّ على التجارب الممحصة، ومن حقائق مؤيدة بالبراهين الساطعة، منذ ذلك الوقت، ومصر والبلاد العربية تزداد بالغرب صلة، وبأهله تعرفًا، وبحضارته وثقافته ولوعًا، ولم تنس ماضيها وتراثها المجيد من الحضارة والثقافة, فأحيت ما ورثته عن العرب من آداب ضخمة، وأخذت تتناول من القديم، وتتناول من الجديد, وتمزج بين الثقافتين. وكان اتصالها بالغرب عن طرقٍ كثيرةٍ: فمن بعثات ترى رأي العين، وتتلقى العلم عى أساتذة مختصين ثمة، وتعود فتنقل صورًا جديدةً من العادات والحياة، وأفكارًا وآراءً لم تكن موجودةً من قبل، ومن ترجماتٍ لآثار العلماء الغربيين, ورجال الأدب والفكر والفن والقانون، يطَّلِعُ عليها جمهرة المتعلمين من الشعوب العربية، ويدرسونها فيستقر ما بها من آراءٍ في عقول الناس نتيجة التداول، ومرور الزمن، وتصير من تراث الأمة العقليّ؛ تظهر دون تعمد على ألسنة الخطباء، وعلى أسلات الأقلام، وفي ثنايا الأبيات الشعرية، والصور الفنية، وبذلك يتخذ الأدب والفن لونًا جديدًا يميزه عن العصور السابقة، ويطبعه بطابع خاص.

وكان التعليم المدني الذي وضع محمد علي أسسه في مصر، ونمَّاه إسماعيل, واشتد عوده وآتى أكله بعد ثورتنا القومية في سنة 1919، من أعظم العوامل التي ساعدت على اتصال الشرق بالغرب؛ وكذلك فعلت النهضة التعليمية في سوريا، وفي لبنان على الأخص، ومجهودات الإرساليات التبشيرية في هذا المضمار لا تنكر, وصار الطالب العربي في مدارس القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، حتى وهو في مرحلة الدراسة الثانوية يلم بشيء كثير من الأدب الغربيّ، ويطَّلِعُ على بعض صوره: من قصة، وشعر، ومقالة، وحياة أدباء، ويستوعب كل هذا, ويؤدي فيه امتحانًا، ثم يخزنه في عقله الواعي، أو في عقله غير الواعي؛ ولن يستطيع أن يتخلص من تأثيره حين يتكلم، وحين يكتب، وحين يقرض الشعر، وحين يفكر وحده، دع جانبًا دراسة التخصص في الجامعات، وما تقوم به الهيئات والأفراد من بحوثٍ وترجماتٍ، ونهضة الصحافة والتجديد في مادتها بنقل كثير من ألوان الصحافة الغربية وأبوابها لجمهرة القراء وعامة الشعب. وليس الغرب أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة, ولكنه أمم شتًّى، ولها أذواق مختلفة, وآداب متباينة, ولغات عديدة، ولكل شعب أسلوبه في التفكير، وفلسفةٌ خاصةُ في الحياة، ولم يكن اتصال مصر والبلاد العربية قاصرًا على شعب غربيٍّ دون آخر، بل اتصلنا بكل بلاد الغرب إن لم يكن عن طريق البعثات, فعن طريق الترجمة: اتصلنا بفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، وإيطاليا وروسيا، وأسبانيا، والولايات المتحدة، وغيرها، وعرفنا صورًا وألوانًا من آداب كلٍّ, وفلسفة كلٍّ، ولا سيما في الحقبة الأخيرة، بعد ما انتشر الطيران, وازداد العالم اتصالًا بعضه ببعض. ومن العسير أن نحدد مدى تأثر الأدب العربيّ بكل ثقافةٍ من هذه الثقافات, بيد أننا نستطيع أن نقول على وجه التقريب: إننا تأثرنا بادئ الأمر بالحضارة الفرنسية، فنقلنا عنها كل ما يتصل بأسباب الحياة من طب وهندسة، وعلوم تجاربة، وقانون, وما شاكل هذا؛ وإن مصر تأثرت بالثقافة الإنجليزية، ثم بالثقافة الفرنسية، ثم أخذت ألوانًا من ثقافاتٍ أخرى دون أن يكون لها تأثير كبير، أما لبنان: فبالثقافة الفرنسية، ثم بالثقافة الأمريكية والإنجليزية، ثم سوى ذلك من الثقافات.

هذا التيار الغربيّ القويّ الذي يجري في حياة الأمة العربية العقلية والأدبية، وينافسه تيارٌ آخر حبيبٌ إلى نفوس الأمة، ويمتُّ إلى ماضيها المجيد، ويعرض الشخصيات المألوفة لديها، الأثيرة عندها، التي تبعث فيها العزة والكرامة، وتقوي من شخصيتها، وتزيد في اعتدادها بنفسها، وذلك هو الأدب العربيّ القديم، وهو أدبٌ قويٌ ضخمٌ غاصٌّ بكثيرٍ من آيات الفن ومعجزاته، وهو قريبٌ من نفسية الشعب العربيّ، ويستطيع أن يتمثله بيسر ومسرةٍ، قريبٌ من فكره وعاداته، وعقيدته، ومزاجه, وشعوره، فلا بدع إذا عظم هذا التيار, واشتد وزاحم تيار الثقافة الغربية مزاحمةً عنيفةً. والأدباء في العالم العربيّ -في خلال قرن من الزمن- قد تباينوا في تأثرهم بهذين التيارين: فمنهم من اقتصر على القديم بحكم ثقافته وبيئته، والعوامل الاجتماعية الخاصة المحيطة به، وإن لم ينج من التأثر بالأفكار الشائعة، والألوان الأدبية المترجمة في الصحف والمجلات، ودور العلم، ولكن غلب القديم عليه في خياله وموضوعه وأسلوبه, وطريقة عرضه؛ ومنهم مَنْ كانت ألوان الثقافة الغربية غالبةً على أدبه، فتقرأ له وكأنما تقرأ لأديبٍ فرنسيّ أو إنجليزيّ يكتب بالعربية؛ ومنهم مَنْ حاول الجمع بين القديم والجديد، فحذق من القديم متانة الأسلوب، وطلاوة العبارة، ووضوح الغرض، وأخذ من الجديد حسن العرض، وطرافة الموضوع، أما الفكرة فتارةً يأخذها من هنا، وتارةً يأخذها من هناك. هذا، وقد حاول بعض أدباء العربية في السنوات الأخيرة محاكاة المدارس الأدبية الأوروبية، التي نشأت بتطور تلك الأمم في الحياة والمدنية، والتي كانت أثرًا لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة. حاولوا محاكاتها دون أن تحفظهم إلى هذه المحكاة, أو تدفعهم إلى لونٍ خاصٍّ من الأدب دافع قهريةً, كما كان في الغرب، ولكنه حب التجديد، والتقليد للأدب الغربيّ فحسب.

ولذلك رأينا مَنْ يقلِّدُ المدرسة الإبداعية "Romantiame"، ومن يدعي أنه من المدرسة الواقعية "Realisme"، ومن يحاول أن يكون من المدرسة الرمزية "Symbolisme" إلى آخر ما هناك من مدارس. وأدب هؤلاء المغرقين في التجديد، والمغرمين بالتقليد، هو أدب غربيٌّ صرفٌ، جاء في ثوبٍ عربيٍّ ضعيف النسيج، ملونٌ بألوان صارخةٍ يمجُّهَا الذوق العربيّ. هذه الأنماط المختلفة من الأدباء، وهذه الألوان المتباينة من الأدب، في عصرٍ ازدحم بالعلوم والثقافات، يجعل مهمة مؤرخ الأدب عسيرةً في تعرف طريقه: في درسها وتقسيمها وحصرها، وإصدار أحكام عامة عليها، وتبيان كل مدرسة، والفريق الذي ينتمي إليها في كل بلاد العروبة، ولا سيما النهضة اليوم عامة، وهناك عشرات من الأدباء اللامعين يستحقون الدراسة، ولابد لمؤرخ الأدب كذلك من التعرض للعوامل السياسية والاجتماعية التي أثَّرت في الأدب العربيّ الحديث، وتتبع نمو هذا الأدب منذ عصر محمد علي، حين كان يحاول التخلص من القيود التي كُبِّلَ بها في عصور الانحطاط، إلى أن قوي، ووقف على قدميه حرًّا طليقًا، ثم إلى أن صار ماردًا عملاقًا في جيلنا الحاضر. وأشهد أن هذا العمل الضخم يحتاج إلى دراساتٍ واسعةٍ قبل أن يَتِمَّ ويصيرَ عملًا تاريخيًّا علميًّا له قيمته: فمن دراسةٍ لتأثر الشعر العربيّ الحديث بالثقافة الغربية؛ من حيث الفكرة والخيال، والغرض والصورة، ومن دراسةٍ للكلمات الدخيلة والمعربة التي استعملها الأدباء، ومن دراسةٍ لتطور القصة في الأدب العربيّ قديمًا وحديثًا، ومن دراسةٍ للأساليب الأدبية المتأثرة بالأساليب الغربية، ومن دراسةٍ لتطور النثر العربيّ، وأدب المقالة، إلى غير ذلك من الدراسات المنظمة المسهبة التي تأخذ جزءًا خاصًّا من هذا العمل الضخم، وتبحثه وتصدر عليه أحكامًا مدعومةً بالأدلة والنماذج، لتعين مؤرخ الأدب حين يتعرض إلى المدارس الأدبية في العصر الحديث، ورجال كل مدرسة.

ولست أزعم أنني ضليعٌ بهذا العبء وحدي، وأنني حين أقدم هذا الكتاب للقارئ العربيّ قمت بهذه الدراسات المستفيضة، وانتهيت من الأحكام العامة التي تؤدي إليها هذه الدراسات، ولكن هذا الكتاب ليس إلّا محاضراتٍ ألقيتها على طلبة كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وحاولت أن أعرض عليهم فيها نماذج من هذه التيارات المتباينة في الأدب الحديث، وأسرد عليهم فيها كيف نما هذا الأدب وتطوّر، في إجمالٍ واختصارٍ. وقد ألحُّوا عليَّ إلحاحًا شديدًا في أن أقدمه للمطبعة، حتى ينتفعوا به, وينتفع غيرهم فيما يزعمون, ولقد ترددت طويلًا قبل أن أستجيب لرغبتهم، لاعتقادي أن هذا العمل يتطلب جهدًا عنيفًا, ووقتًا طويلًا, وأن الأولى به أن يظل دراسةً حتى تستوفي عدتها، وتكمل أهبتها، وتوضع في قالبها على صورة كتاب. فإنا لا أعفي كتابي هذا من التقصير، وإذا لم يستوعب الأدب الحديث ومدارسه، وكل الشخصيات الأدبية الجديرة بالدرس، فإني أول المعترفين بذلك، والمعتذرين عن تقصيره، والذي يشفع لي عند القراء أنها محاولة لدرس الأدب الحديث؛ علَّ فيهم مَنْ يكون أقوى مني منه، وأطول باعًا، فيستوفي الموضوع, ويلمَّ بكل أطرافه، أو يكون فيهم مَنْ تستهويه ناحية خاصة، أو أديب بعينه؛ فيتخذه مجالًا لدراسته، وتزويد المكتبة العربية بها، فيعين على تحديد معالم أدبنا المعاصر. وبعد, فإن المعاصرة حجاب، وقد أتعرض في كتابي هذا بالنقد لبعض الأحياء من الأدباء، والتعريف بآثارهم الأدبية، وقد يكون في كلامي ما لا يروقهم، أو يثقل عليهم، ولكني سألزم نفسي قول الحقِّ مجردًا عن الأهواء والغايات، ثم إني مجتهدٌ، فإن أصبت فلي ثوابان، وإلّا فلن أعدم ثواب الاجتهاد، ولن تحول المعاصرة بيني وبين تقرير الحقيقة، والله الموفق للصواب. عمر الدسوقي.

الطبعة السابعة

مقدمة الطبعة السابعة: لم أزل منذ صدرت الطبعة الأولى لهذا الجزء من الكتاب عام 1948, أواصل دراسة الأدب الحديث، وأبحث عن مصادره، وقد تسنَّى لي في هذه الحقبة الاطلاع على كثير من المراجع، وإني أتقدم اليوم بالطبعة السابعة إلى قراء العربية, وفيها زياداتٌ كثيرةٌ في كل بابٍ من أبواب الكتاب، وإفاضةٌ في تراجم الشعراء والكتاب. على أن هذه المرحلة من الأدب الحديث لا تزال في حاجةٍ إلى الدراسة، واستقصاء المصادر، حتى تظهر واضحةً مجلوَّةً لدارس الأدب، فلست أزعم أن الكتاب قد بلغ الكمال أو قاربه، وإني سأظل عاكفًا على الاستزادة من الأدب الحديث, حتى أبلغ بالكتاب الغاية التي أصبو إليها -إن شاء الله. ومما يحفزني على ذلك, ما وجدته في جمهرة القراء من تشجيع؛ حتى نفدت الطبعات السابقة في أمدٍ وجيزٍ, على الرغم مما تلاقيه الكتب الأدبية من انصراف عنها، وزهد فيها, وإني أقابل هذا التشجيع بالشكر راجيًا أن يوفقني الله إلى إرضاء العلم وجمهور الأدباء، وطلاب البحث، والله الموفق للصواب. عمر الدسوقي.

الفصل الأول: البعث

الفصل الأول: البعث مدخل ... الفصل الأول: البعث 1- قبيل البعث: ظلت مصر وبلاد العروبة ثلاثة قرونٍ تحت حكم الأتراك، وهي في ظلامٍ دامسٍ، وجهلٍ فاضحٍ، تعاني مرارة الظلم، وقسوة البغي. قَلِّبْ ما شئت من أسفار التاريخ, فلن ترى إلّا صفحاتٍ سوداء قاتمة، تنبعث منها روائح الاستبداد والبطش، وستسمع صراخ المظلومين يضم الآذان، وتلمح دماء الفلاحين في كل صقع تسيل تحت سياط الجباة، وتتمثل لك بلاد العروبة تخنقها يدٌ غاشمةٌ، أصابعها: الفقر, والمرض، والجهل، والذلة، والانحلال. لم يكن لولاة الأتراك هَمٌّ إلّا استدرار الأموال بأية وسيلة، غير معيرين صرخاتِ الشعوب العربية التفاتًا، وغير مهتمين بما يقاسونه من ضنكٍ وبؤسٍ وفاقةٍ وجهلٍ، واشتد الخلف بين أمراء المماليك، وسلبوا الوالي سلطته، وشنوها حربًا شعواء كلٌّ على أخيه، ينازعه السلطة والجاه، والضحية في هذا النزاع كله هُمْ أبناء البلاد، فلا غرو إذا أقفرت من أهلها، وقد جاء القرن التاسع عشر، وسكان مصر أقل من ثلاثة ملايين، أكثرهم من العرب المسلمين، ويليهم الأقباط, ثم الأتراك، وكان الحاكم يفيد من الأستانة, ويقيم بالقلعة, ويدعو للخليفة، ويضرب باسمه النقود. ولكن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، وهم أخلاطٌ من الأتراك والشراكسة، وجميع ثروة البلاد وإداراتها في أيديهم، ولم يكن لهم عصبية؛ لأنهم لم يتوارثوا الملك إلّا نادرًا، وإنما الغلبة للقوي، فضربةٌ موفقةٌ من حسام أحدهم, تكسبه الصدارة بين أبناء جلدته، ولم يكن حظه السعيد يغير من أخلاقه، فهو في منصب الوالي تتقمصه روح العبد الوضيع، وليس له من هَمٍّ إلّا الاستيلاء على النساء والخيل والأموال.

وكان الفلاح المسكين يُغْزَى وتُنْهَبُ أمواله، ولم يكن التاجر المصريّ أو الأوروبيّ الغريب بأحسن منه حالًا1، ولا ريب في أن الحالة الاجتماعية والأدبية تتأثر إلى حَدٍّ كبيرٍ بالحالة السياسية: فرعيةٌ هُمْلٌ، ورعاةٌ مستبدون، وهيهات أن يكون للأدب نصيبٌ في مثل هذه البيئة الجاهلة. وقد زار "فولني" الرَّحَّالة الفرنسيّ مصر، وبلاد الشرق العربيّ, وتركيا, في أخريات القرن الثامن عشر, فراعه ما بها من جهلٍ مطبقٍ, وفسادٍ شائع، وهو في هذا يقول: "الجهل عامٌّ في هذه البلاد، وفي كل بلد تابع لتركيا، وقد عَمَّ كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية, وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية تراها في حالةٍ بدائيةٍ، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وُجِدَ فهو أجنبيّ". ويقول في موضعٍ آخر: "ولَّى عصر الخلفاء, وليس من الأتراك أو العرب اليوم علماء في الرياضيات أو الفلك، أو الموسيقى, أو الطب، ويندر فيهم من يحسن الحجامة، ويستخدمون النار في الكيّ، وإذا عثروا بمتطببٍ أجنبيٍّ عدُّوه من آلهة الطب، وصار علم الفلك والنجوم شعوذةً وتنجيمًا، وإذا قيل لعلمائهم ورهبانهم: إن الأرض تدور, عدُّوا ذلك كفرًا؛ لأنه -في زعمهم- يخالف كتب الديانات". ولم تكن تركيا أحسن حالًا من البلاد الخاضعة لسلطانها، وحسبك أنه حينما أراد بعض النابهين من الأتراك في القرن الثامن عشر2 إدخال المطبعة لأول مرةٍ في تركيا، وجَدٍّ من ولاة الأمور، وجمهور الشعب عنتًا وإرهاقًا، واضطر إلى استصدار فتوى شرعية, بعد أن بذل إبراهيم بك صهر السلطان مجهودًا كبيرًا، وقد سمحت الفتوى بطبع الكتب غير الدينية، ثم أفتى علماء الشرع بعد ذلك -حين ظهرت فائدة المطبعة- بطبع كتب الدين اعتمادًا على أن الأمور بمقاصدها".

_ 1 The Begining of the Egyptian question and the Rise of Mohamed Ali by prof Shafik Cherbal. p.2. 2 هو محمد حلبي, سفير الدولة العثمانية بباريس.

وقد حرم الأتراك مصر أغلى كنوزها؛ فنقولوا أكثر الكتب التي كانت بخزائن المدارس إلى بلادهم، ثم نقلوا كثيرًا من العلما، والأدباء، والأمراء, والمهندسين، والورّاقين، وأرباب الحرف، وقد ذكر ابن إياس أسماء كثير من هؤلاء، وقال: إنهم يبلغون ألفًا وثمانمائة، وصادفهم النحس, فغرقت بهم بعض السفن التي كانت تقلهم, فمات كثير منهم، مع أن ابن إياس1، أرَّخ لمصر حتى أوائل الاحتلال العثماني، ولم يشهد الاحتلال في أوج جبروته، وما جرَّه على البلاد من نكباتٍ. وكان من نتائج هذا الاحتلال كذلك: أن قلت أموال الأوقاف التي كانت محبوسةً على العلماء وطلبة العلم، فتفرق الطلاب، وانفضت سوق العلم, ولم يبق منه إلّا ذماء يسير بالأزهر، ومن البديهيّ أن اللغة العربية لم تجد في هذا العصر المظلم من يشد أزرها، ويثيب الشعراء والكتاب المحتفين بها؛ لأن اللغة التركية طغت وصارت اللغة الرسمية في الدواوين، وفشت على ألسنة الناس، ولأن الحكام لا يفهمون العربية, ولا يقدرونها قدرها، ولا يميزون بين الجيد والغَثِّ من الكلام, حتى يلجأ إليهم الشعراء مادحين. ولم يعد في استطاعة كثيرٍ من الكُتَّاب أن يسلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالمفهوم المقبول، بل عَزَّ عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القويّ، فلجئوا للزخرف والمحسنات يخفون بها عوار كلامهم، وقد أكثروا من هذه الحلى اللفظية حتى استغلق الكلام، وأتوا بالغَثِّ السَّمَجِ الذي إن حَسُنَ فيه شيءٌ, كالسرقة واغتصابًا من آثار من سبقوهم من الكُتَّابِ. وحسبنا أن نقدم بعض نماذج دليلًا على ما وصلت إليه اللغة وآدابها نثرًا ونظمًا من الركة والضعف.

_ 1 هو ابن إياس الجركسيّ الحنبليّ, من رجال القرن التاسع والعاشر للهجرة، وله كتاب "بدائع الزهور في وقاع الدهور" دَوَّنَ فيه تاريخ مصر حتى سنة 248هـ 1521م, ولغته ضعيفة أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى.

1- قال عبد الوهّاب الحلبيّ في رسالة إلى الشهاب الخفاجيّ: "لقد طفحت أفئدة العلماء بشرًا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرًّا وجهرًا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بيمن قدوم مَن اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه". 2- قال عبد الرحمن الجبرتي, من النثر المرسل مبينًا نشأة مدرسة الهندسة في عهد محمد علي: "لمَّا رغب الباشا في إنشاء محلٍّ لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، تعيَّنَ المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب، وذلك أنه تداخل بتحيلاته؛ لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك, ورتَّبَ له خروجًا وشهريًّا، ونجب تحت يده المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها، وأعجب الباشا ذلك فذاكره, وحسن له بأن يفرد مكانًا للتعليم, ويضم إلى مماليكه مَنْ يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشاء ذلك المكتب، وأحضر له أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكليز وغيرهم". 3- ولم يكن الشعر -إذا صح أن نسميه شعرًا- أرقى حالًا من النثر, وإنما كان صناعةً لفظيةً غثَّةً. وهاك مثلًا مما قاله عبد الله الشبراوي1، يرثي أحمد الدلنجاوي, المتوفى سنة 1123هـ: سألت الشعر هل لك من صديقٍ ... وقد سكن الدلنجاوي لحده فصاح وخَرَّ مغشيًّا عليه ... وأصبح ساكنًا في القبر عنده فقلت لما أراد الشعر أقصر ... فقد أرَّختُ مات الشعر بعده 441 601 81

_ 1 كان عبد الله الشبراوي من أكابر شيوخ الأزهر، واشتهر بقوله هذا النوع من الشعر، وتوفي سنة 1172هـ.

ومن ذلك قول الشهاب الخفاجي1: فديتك يا مَنْ بالشجاعة يرتدي ... وليس لغير السمر في الحرب يغرس فإن عشق الناس المها وعيونها ... من الدل في روض المحاسن تنعس فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق ... وصارت جميعًا أعينًا لك تحرس ومن هذه النماذج المتقدمة للأدب قبيل النهضة، ندرك كيف كان النهوض صعبًا بطيئًا، ويحتاج إلى عناءٍ طويلٍ، وصبرٍ كثيرٍ، وزمنٍ مديدٍ ليبلغ أشده ويؤتي أكله. 2- البعث: هبَّت مصر من سباتها العميق فزعةً مذعورةً حين دوَّت في آفاقها مدافع نابليون سنة 1798م, وأخذت تقلب الطرف دهشةً في هذه الجيوش العجيبة، والوجوه الغريبة، فكان ذلك أول عهدها بالفرنجة منذ عصر صلاح الدين الأيوبي. ولكن شتَّان بين العهدين، ففي الأول كانت قويةً عزيزةً لا تزال فيها أثارةٌ من علم وأدب، وكانت أوربا لا تزال تتحسس طريقها نحو النور؛ فاقتبست من مهد العروبة, وأفادت علمًا وحضارةً، وأخذت ترقى صُعُدًا في سلم المدنية بخطواتٍ ثابتةٍ سريعةٍ، بينما أخذت مصر تهوي وتنحدر رويدًا رويدًا, ويتراكم عليها الجهل والغفلة حتى جاءها "نابليون" وهي في الدرك الأسفل. اصطحب "نابليون" معه كل عدد الاستعمار والاستغلال والإيقاظ, وكانت دهشة المصريين جدَّ عظيمةٍ مما رأوا من مظاهر هذه المدينة؛ إذ أنشأ نابليون مسرحًا للتمثيل, كانوا يمثلون فيه روايةً فرنسيةً كل عشر ليالٍ، ومدارس لأولاد الفرنسيين, وجريدتين، ومصانع، ومعملًا للورق، وأسس

_ 1 هو أحمد بن محمد بن شهاب الدين الخفاجيّ المصريّ, ولد بسرياقوس, وتَلَقَّى دروسه بالقاهرة, ثم رحل مع أبيه إلى الحرمين، ثم الأستانة، ثم عُيِّنَ قاضيًا للعسكر بمصر، ثم استقال, وسافر إلى دمشق فحلب فالأستانة, وتوفي سنة 1069هـ، ومن أشهر مؤلفاته: "ريحانة الألباب" يشتمل على تراجم أدباء عصره، ثم "شفاء الغليل بما في لغة العرب من الدخيل".

مراصد فلكية، وأماكن للأبحاث الرياضية، والنقش والتصوير في حارة الناصرية، وأسس مكتبة عامة، وقد جمعت بعض كتبها من المساجد والأضرحة، وفيها كثيرٌ من الكتب الفرنسية التي أحضرتها الحملة معها ليفد إليها كل من يريد المطالعة، وكان القائمون بأمرها يرحبون بمن يدخلها من المصريين، وكان بها عدد كبير من الكتب العربية، وأنشأ المَجْمَعَ العلميَّ المصريَّ على نظام المَجْمَعْ العلميِّ الفرنسيِّ, في أغسطس سنة 1798، وكان من أغراضه: 1- نشر المدنية, وبعث العلوم والمعارف بمصر. 2- دراسة المسائل والأبحاث التاريخية والطبيعية والصناعية، ونشر هذه الأبحاث في مجلة المَجْمَعِ التي تنشأ لهذا الغرض. 3- إبداء رأيه في الأمور التي تستشيره فيها الحكومة. وكان المجمع يتألف من أربعة أقسام: قسم الرياضيات، وقسم الطبيعيات، وقسم الاقتصاد السياسيّ، وقسم الآداب والفنون، ويتألف كلُّ قسمٍ من اثني عشر عضوًا. وقد أفاد هذا المجمع مصر والتاريخ بآثاره وأعمال رجاله, وصارت أبحاث أعضائه هي النواة الأولى لكل بحث خاصٍّ بمصر، ولا بدع إذا ظلَّ المجمع العلميّ هو الأثر الباقي حتى اليوم من آثار حملة نابليون، وذلك لجليل فائدته, وهذا ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن حملة نابليون على مصر, كانت علميَّةً أكثر منها حربيةً1: وبذل الفرنسيون غاية جهدهم في تقريب المصريين إليهم، وترغيبهم في أسباب الحضارة، وفي الجبرتي وصفٌ مستفيضٌ لكل هذا، حتى موائد الفرنسيين، وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون، وما شاهده من سائر أعمالهم العلمية والكيمائية، وكتبهم المصورة وأدواتهم، وهو يمثِّلً بدهشته هذه حالَ كلِّ عربيٍّ في أيامه.

_ 1 تاريخ مصر السياسيّ, لمحمد رفعت ج1 ص39.

ولقد ظَنَّ كثيرٌ ممن شاهدوا التجارب العلمية التي أجراها الفرنسيون في معاملهم سحرًا1، بيد أن كل هذا ذهب بذهابهم سنة 1801م. كانت حملة نابليون هزةً عنيفةً لمصر، أيقظتها من سباتهات الطويل العميق, وبيَّنَت لها أنها تعيش في عالمٍ آخر، وأن الدنيا تسير, وأهلها واقفون غارقون في أحلامهم, يجترون ماضيهم، ولا يدركون مساويهم، ويظنون أنهم الناس وأن غيرهم لا شيء. وقد نَظَّمَ نابليون شئون مصر الداخلية تنظيمًا حسنًا، يشهد له بالنبوغ الإدرايّ، فوق نبوغه الحربيِّ، على الرغم من قصر المدة التي أقامها بمصر، فأنشأ الدواوين في مصر والمدن الكبرى, وانتخب لها أكفأ المصريين, واختيار من بين المصريين المسيحيين رجال المالية والإدارة، بيد أن شراسة رجال الحملة، واستهتارهم بالشعب المصريّ، ودينه وتقاليده، وانتهاكهم حرمات الأهالي جهارًا, ونهبهم القرى الآمنة، وإفزاع أهلها، وفرض الضرائب على الأوقاف الخيرية التي كان يصرف ريعها على المساجد وطلاب العلم، وفرضها كذلك على المنازل، جعل كل قلوب المصريين تنفر من نابليون وإصلاحاته، وعلمه، وتنظر إليه نظرة الغاصب المستبد، ولقد ثار المصريون في أكتوبر سنة 1798؛ فأخمد ثورتهم في قسوةٍ عارمةٍ، وعنفٍ وغلظةٍ، وانتهك حرمة المساجد الإسلامية2, وعبثًا حاول بعد ذلك أن يتألف قلوبهم, أو يستميلهم إلى المدنية الغربية، وإن كلفوا بها بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر, واتخذوا ما وضعه لهم أساسًا للإصلاح الداخليّ2.

_ 1 وصف الجبرتي بعض ما رآه في أحد هذه المعامل بقوله: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان, أن بعض المتقدمين لذلك, أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصبَّ منها شيئًا في كأسٍ, ثُمَّ صَبَّ عليها شيئًا من زجاجة أخرى, فعلَا الماء وصعد منه دخان ملون حتى انقطع, وجَفَّ ما في الكاس, وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا, أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمد حجرًا ياقوتيًّا". 2 Professor Shafik Gherbal. pp. 73.5. 3 لمحة عامة إلى مصر, لكلوت بك, ج2، ص255-268.

وفي ذلك يقول المؤرخ الإنجليزي ألجود "Elgood": "لقد ترك الاحتلال الفرنسيُّ في مصر أثرًا لا يمحى، فقد ظلَّ المصريون يعجبون بنابليون بعد خروجه من ديارهم، وظلَّت طرق الإدراة الفرنسية مهيمنةً على حكومة مصر، وظلَّت عادات التفكير الفرنسية تسيطر على الطبقة المستنيرة بمصر, وإنَّ ما خَلَّفَته الحملة الفرنسية في مصر خلال ثلاثة أعوام لاغير، لمن أضخم ما يتسنى إنجازه في هذا الأمد الوجيز1". ثم أتيحت لمصر الفرصة لكي تنهض وتتبوأ مركزها بين أمم العالم المتمدين, باستيلاء محمد علي على عرش مصر، وحاول أن ينشئ دولةً قويةً خالصةً لنفسه ولذريته من بعده, فأفادت مصر من مجهوداته في هذا السبيل, وإن حكمها حكمًا استبداديًّا خالصًا. كان محمد علي طموحًا، يريد أن يرى مصر ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها, لا تقل في حضارتها وقوتها عن دول أوروبا، فوضع أسس نهضةٍ شاملةٍ: في الجيش، والصناعة، والزراعة، والتعليم، والإدارة، حتى يكون البعث عامًّا، يدفع بعضه بعضًا، ولا يعنينا في مقامنا هذا إلّا ما يَمَسُّ اللغة والأدب. وقد وجد محمد علي أن خير وسيلةٍ تنهض بالشعب المصريّ وترفعه إلى مستوى الأمم الناهضة, الاهتمام بالتعليم، وقد سلك في سبيل تعليم الشعب كلَّ الطرق الناجحة: فمن بعثاتٍ وطباعةٍ، وفتح مدارس، ونقل آثار الأمم الغربية في العلوم والآداب، وتأسيس الصحافة لتنير الحياة أمام الشعب. البعثات: جاء محمد علي إلى مصر جنديًّا في الحملة التي اشتركت في إخراج الفرنسيين منها سنة 1801م، ولم يمض عليه أربع سنواتٍ حتى استولى على مصر سنة 1805م؛ بعد أن ثار المصريون بقيادة الزعيم العالم السيد عمر مكرم على واليهم التركيّ خورشيد لعسفه واستبداده؛ فقرروا عزله.

_ 1 The Transit of Egypt.by P.G. Eigood. P. Edward & Co. Londor 1928.

وكان محمد علي قد تقرَّبَ إليهم, وأظهر حرصًا على استرضائهم, والاستجابة لكلِّ ما يأمرون به، والخضوع لهم، فاغتروا بمظهره وخداعه، وبايعوه بالولاية، وعلى رأسهم زعيم مصر الشعبيّ السيد عمر مكرم، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذا الزعيم الذي وضع بين يديه عرش مصر، خوفًا من منافسته, وتخلُّصًا من رقابته, وحسدًا لمكانته فنفاه. ورأي كذلك أنه لن يستقيم له الأمر حتى يقضي على المماليك لتمردهم وكثرة شغبهم، فأبادهم1؛ وأنه لابد له من جيشٍ قويٍّ يُقِرُّ به الأمن, ويصون هيبة الحكم في الداخل، ويدفع به غارة المغيرين من الخارج، فانتدب طائفةً من أساتذة الفنون العسكرية بأوروبا، وأرسلهم مع مماليكه إلى أطراف الصعيد؛ ليدربوهم هناك. وفي سنة 1815 أسس مدرسةً حربيةً إعداديةً، واتخذ لها قصر ابن العيني مكانًا، وكان كل تلامذتها في أول الأمر من غير المصريين, إلّا أنهم لم ينجحوا, فالتفت إلى المصريين، ونقلها إلى أبي زعبل، وأكثر بها من الأساتذة الفرنسيين؛ وتعجلًا للفائدة, كان قد سبق وأرسل في سنة 1813 طائفةً من شبان المماليك لدارسة الفنون العسكرية بإيطاليا، وفي سنة 1818 أرسل بعثةً أخرى إلى انجلترا؛ لدارسة علم الحيل "الميكانيكا" وغيرها. ورأى محمد علي أن الجيش في حاجةٍ إلى أطباء يأسون جراحات الجند، ويقاومون الأوبئة، ويعنون بالمرضى, وأن الطب لا أثر له ألبتة، فخاصة المصريين كانوا يعتمدون في هذا على المأثور من نسخ الأدوية في الكتب القديمة، وعلى ما تمخضت عنه التجارب، ومنها الكيّ والحجامة، وأما الدهماء فكانوا في عامة شأنهم يعوذون بمدعي الطب من الدجالين والمشعوذين والسحرة، أو يقنعون من طلب الاستشفاء بزيارة الأضرحة, فأنشأ في سنة 1826 مدرسة الطبِّ في جهة أبي زعبل، وأقام بجوارها مستشفًى كبيرًا لمعالجة المرضى، ولتمرين الطلبة، واستقدم لها أساتذة من الغرب؛ وجعل رياستها إلى الدكتور "كلوت بك الفرنسيّ".

_ 1 احتال عليهم ودعاهم إلى وليمة بالقلعة -وكانت مقر الوالي حينذاك- ثم أوقع بهم بعد أم أمنوا، فقضى عليهم, وكان ذلك في سنة 1226هـ 1811م.

وكان الطلاب في هذه المدرسة من المصريين وغيرهم، واختير كثير من أولئك من بين نوابغ طلاب الأزهر، ثم نقلت هذه المدرسة إلى قصر ابن العيني في سنة 1838. وقد كان لمدرسة الطب أثرٌ لا يُنْكَرُ في بعث اللغة العربية والنهوض بها، واتصالها بالعلم الحديث؛ لأن فصيح اللغة فوق أنه قد غُمَّ على الناس وعلى المصريين بخاصةٍ من عهد بعيد، وأن آدابها ومظاهر بلاغتها قد دَبَّ إليها الضعف والانحلال إلى حدٍّ كبيرٍ، فإنها قد تخلفت عن متابعة العلم حقبًا طويلةً؛ فلما استوى العلم وأدرك، إذا هو في وادٍ، وإذا حظّ الناس من لغة العرب في وادٍ آخر. وحين فوجئت مصر بهذه العلوم التي حذقها الغرب منذ عدة قرون, تشايعها الألفاظ هناك، وتدارجها الصيغ، وتطبع لها المصطلحات التي تهيئها الهيئات العلمية المنظمة, تبين العسر أشد العسر في تعليم هذه العلوم الحديثة لطلابٍ يجهلون لغات أهلها، وخاصةٍ من معلمين لا يعرفون العربية، ولو عرفوها ما تهيأ لهم أن يدرسوا بها لعجزها عن أداء الكثير والقليل مما تهيأ لهم أن تؤديه, ليس في متناول اليد، بل إنه يحتاج إلى كثرة مراجعة، وشدة تنقيب، ويحتاج إلى علماء عندهم شغف بالاطلاع, ورغبة في البحث، وجَلَدٌ على العمل؛ لهذا دعت الضرورة أول الأمر أن يقام بين الأساتذة وتلاميذهم جماعةٌ من المترجمين, يستمعون الدرس في اللغات الأجنبية، ثم يؤدونه إلى هؤلاء بالعربية، وكان هؤلاء المترجمون من المغاربة والسوريين والأرمن وغيرهم. ولقد عانوا كثيرًا في القيام بهذه المهمة الشاقة، ولكن كان علمهم هذا أول دعامةٍ في صرح النهضة الحديثة، فلقد حفَّزَّهم ذلك إلى مراجعة معجمات اللغة، والكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار، وقانون ابن سينا، وكليات ابن رشد، وغيرها من الكتب العربية لاستخراج المصطلحات العلمية, أو لصياغة ما يؤدي مطالب العلم الحديث، إذا عجز القديم عن أدائه، وإذا كانت قد غلبتهم الألفاظ الأجنبية في كثيرٍ من الأحيان, ففضلهم في عقد الصلة بين الشرق والغرب لا يجحد.

رأى محمد علي أن تشمل نهضته جميع نواحي الحياة؛ فأكثر من إنشاء المدارس العالية والابتدائية، وقد بدأ بالمدارس العالية، وكان على حقٍّ فيما فعل؛ حتى يجد بجنبه جماعةً من المتخصصين في المواد المختلفة, يشرفون على مراحل التعليم الأخرى, ويسيرون بالنهضة سريعًا، فأسَّسَ مدرسةً للصيدلية، وأخرى للهندسة في القلعة, ثم نقلت إلى بولاق، ومدرسةً للولادة والتمريض, ورأى أن الحاجة ماسَّةً إلى أساتذة متخصصين عالمين بعلوم الغرب وثقافته، فجلب الأساتذة من فرنسا في كل فنٍّ من الفنون، ولكنه أدرك أن النهضة الحقة لا تتم إلّا على يد أبناء البلاد، فأكثر من البعثات، وفي سنة 1826 أرسل بعثةً إلى فرنسا, عدتها أربعة وأربعون طالبًا، ذكر أسماؤهم "المسيو جومار"1 -وقد عهد إليه محمد علي بالإشراف على بعثاته- في المجلة الأسيوية، Journal -Asiatipue 2 وقد تخصصوا في شتَّى العلوم والفنون: من حقوق، وعلوم سياسية، وهندسة حربية، وطب، وزراعة، وتاريخ طبيعيٍّ، وميكانيكا، وكيمياء، وطباعة، وحفر، وغير ذلك مما استلزمته النهضة الحديثة، ومن أشهرهم وأعظمهم أثرًا, إمام البعثة الشيخ: رفاعة الطهطاوي, وسنترجم له فيما بعد لجليل قدره وعظم أياديه على الترجمة والنهضة والأدبية. ثم توالت البعثات، ومن أشهرها البعثة الطبية الكبرى في سنة 1832، وقد اختير طلبتها من نابهي مدرسة الطب المصرية، ومن نوابغ رجالها محمد علي البقلي, وفي سنة 1844 أرسلت بعثةٌ ضمَّت خمسةً من أمراء أسرة محمد علي، ومنهم الأمير إسماعيل3، ولذا سميت ببعثة الأنجال، وهي أكبر بعثات محمد علي, وآخر بعثاته الكبرى، وقد اختار تلامذتها سليمان باشا الفرنساوي من نوابغ تلاميذ المدرس المصرية، ومن أجل هذه البعثة فتح محمد علي مدرسةً بباريس، ومن أشهر رجالها علي مبارك باشا، وحسن أفلاطون باشا، ومحمد عارف باشا، ومحمد شريف باشا.

_ 1 كان مهندسًا في الجيش الفرنسيّ بمصر, وعضوًا في المجمع العلميِّ أيام حملة نابليون. 2 عدد أغسطس سنة 1828 ص109. 3 الخديوي إسماعيل فيما بعد.

وقد أرسل محمد علي إحدى عشرة بعثةً, آخرها سنة 1847، وكان شديد العناية بأعضاء البعثات, يتقصى أنباءهم، ويشرف على دراستهم باهتمام، ويكتب لهم من حينٍ لآخر رسائل يستحثهم فيها على العمل والاجتهاد، وينبههم إلى واجباتهم؛ وذلك لشدة حاجته في نهضته إلى من يقف بجانبه، وينفذ مشروعاته الضخمة، وقد ذكر رفاعة الطهطاوي نموذجًا من الرسائل التي وجهها محمد علي إلى طلبة البعثات، ويوبخهم فيها على تقصيرهم، ويحثهم على الاجتهاد، وبتعجلهم في قطف ثمار تحصيلهم1. كان لهذه البعثات كلها أثرٌ بالغٌ في تقدُّم مصر ونهضتها، وإرسال نور العلم دافقًا قويًّا في ربوعها، كما كان لها أعظم الفضل في إحياء اللغة، وجعلها مسايرةً للعلم الحديث، بما ترجم أعضاؤها من كتبٍ, وما أدخلوه من مصطلحات، وما ألفوه في شتَّى نواحي العلم. الترجمة: اقتضت النهضة أن تنقل كنوز الغرب إلى اللغة العربية, فأسست في سنة 1836 مدرسة الإدارة والألسن، وعهد بالإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي, ولما كان تاريخها مرتبطًا به، ونهضة الترجمة في عصر محمد علي وخلفائه ثمرة جده وكده، رأينا أن نترجم له ترجمةً موجزةً, فحياته حياة مدرسة الإدارة والألسن: لأنها وجدت بفضله، وانتهت بخروجه منها.

_ 1 راجع الرسالة: في تخليص الإبريز لتلخيص باريز, لرفاعة بك ص151، وفي تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص455.

رفاعة الطهطاوي

رفاعة الطهطاوي: 1801-1873 هو إمام النهضة العلمية في مصر الحديثة غير مدافع، وهبه الله لمصركي يزوّدها بنور العلم؛ فكان مشعلًا ساطعًا بدَّدَ الجهل وسُدْفَته، وأنار الطريق لآلاف العقول والقلوب, ووضع اللبنات الأولى القوية في صرح ثقافتنا الحديثة. أُوتِيَ القلب الذكي، والعقل الصافي، والنشاط الموفور، والبصيرة النفاذة، والعزيمة المبرمة؛ فما أضاع ساعةً منذ وضع رجليه على سُلَّمِ الباخرة التي أقلته إلى فرنسا إلّا وأمامه الهدف الذي رسمه لنفسه ولوطنه، وظلَّ هذا دبأه إلى أن انطفأ مشعل حياته. هو مصريٌّ صميمٌ، من أقصى الصعيد، يتصل نسبه من جهة أبيه بسيدنا الحسين -رضي الله عنه، وقد أشار إلى هذا النسب قوله: حسينيّ السلالة قاسميٌّ ... بطهطا معشري وبها مهادي1 ومن جهة أمه بالأنصار الخزرجية، ولد في طهطا، وكان أجداده من ذوي اليسار وممن تولوا مناصب القضاء بمصر، ثم أخنى عليهم الدهرن وحينما وُلِدَ كانت أسرته في عسر، فنشأ نشأةً معتادةً بين أبوين فقيرين، وقرأ القرآن، وتلقَّى العلوم الدينية، كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الأزهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار كثيرون، ولكن ذكاءه وحبه للعلم، وإقباله على التحصيل, لفت إليه نظر الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في ذياك الوقت، وكان الشيخ العطار من أفذاذ عصره في العلم والأدب والفنون الحديثة، فاقتدى به تلميذه الشيخ رفاعة، فقرأ كثير من كتب الأدب، ومهر في فنونه وهو بعد في الأزهر, ثم تولَّى التدريس سنتين؛ ظهر فيهما استعداده للتعليم والتثقيف؛ إذ أحبه تلاميذه حبًّا جمًّا, وتتعلقوا به وبدروسه. ويقول صالح بك مجدي في هذا2.

_ 1 قاسميّ: نسبة إلى أجداده أبي القاسم الحسين, وهو من أولياء طهطا المشهورين، راجع في نسبه الخطط التوفيقة لعلي مبارك ج13, ص51-56. 2 في رسالته "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن" وهي ترجمة حياة رفاعة بك، كتبها صالح مجدي أحد تلاميذه.

"وكان -رحمه الله- حسن الإلقاء؛ بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتبٍ شتَّى: في الحديث والمنطق والبيان والبديع والعروض وغير ذلك، وكان درسه غاصًّا بالجمِّ الغفير من الطلبة, وما منهم إلّا من استفاد منه، وبرع في جميع ما أخذوه عنه، لما علمت من أنه كان حسن الأسلوب سهل التعبير، مدققًا، محققًا، قادرًا على الإفصاح بطرق مختلفة؛ بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقةٍ ولا تعبٍ، ولا كدٍّ ولا نصبٍ". ثم عُيِّنَ واعظًا وإمامًا لإحدى فرق الجيش في سنة 1828، فاعتاد حياةً جديدةً عنوانها: النظام والطاعة، ومحبة الوطن والدفاع عنه، ومواجهة الأخطار، وقد كان لذلك أثر كبير في حياته، فعاش محبًّا للنظام، في كل ما تولاه: في تلقي العلوم، وفي التأليف والتعريب، وفي حسن تنظيم المعاهد التي تولَّى إدراتها، شغوفًا بوطنه مخلصًا له طول حياته. وكان من حسن حظِّه وحظ مصر أن طلب محمد علي إلى الشيخ العطار أن يختار له من علماء الأزهر إمامًا للبعثة الأولى، يرى فيه اللياقة لتلك الوظيفة1, فوقع الاختيار على الشيخ رفاعة. ولم يكن مطلوبًا من إمام البعثة أن يحصِّلَ شيئًا من علوم الفرنسيين، ولكن حسبه أن يؤدي مهمته من وعظ الطلاب وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم، ونصحهم إذا ضلت بهم السبل، وإمامتهم حين الصلاة، ولكن الشيخ رفاعة كان ذا نفسٍ طموح، فما أن أقامت به وبصحبه الباخرة من مصر حتى ابتدأ يتعلم؛ فأجلُّوه وأَكْبَرُوه، ومنهم المستشرق المشهور "البارون دي ساسي"2. "كوسان دي برسفال"3.

_ 1 الخطط التوفيقية ج13 ص54. 2 ولد بباريس سنة 1758, وتوفي سنة 1838, راجع آثاره وخدماته للأدب العربيّ في كتاب "المستشرقون" لنجيب العفيفي ص37. 3 ولد سنة 1759, وتوفي سنة 1853, راجع "المستشرقون" ص26.

واهتم في دراسته بالتاريخ والجغرافية، والفلسفة والأدب، فقرأ "فولتير", و"رسو"، "وراسين"، و"ومومنتسكيو" وغيرهم، وقرأ بعض الكتب في علم المعادن وفنون الحرب والرياضيات، ومالت نفسه وهو بباريس إلى التأليف والتعريب، فوضع رحلته وسماها: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد كان أستاذه العطار قد أوحى إليه بذلك، وعرَّبَ نحو اثنتي عشرةَ رسالة في مختلف الفنون والعلوم: من هندسة, ومعادن, وطبيعة, وتاريخ, وتقويم, وميثولوجيا, وعلم الصحة, والأخلاق، وترجم كذلك في باريس كتابه "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر". وهو أول من كتب من المصريين في المباحث الدستورية، مع أن هذه المباحث كانت مجهولةً في تاريخ مصر القوميّ، وذلك أنه درس في أثناء إقامته بباريس بنظام الحكم في فرنسا؛ وعرَّبَ في كتابه "تخليص الإبريز" دستور فرنسا في ذلك الحين, وما تضمنه من نظام المجلسين واختيار أعضائهما، وحقوق الأمة أفرادًا وجماعات، ولم يكن يكتفي بالتعريف، بل كان يعلق بما يدل على سعة فهم وصحة حكم، وميل فطريّ للنظم الحرة1. وكان للشيخ رفاعة في باريس موضع إعجاب أساتذته وإكبارهم، لتمام رجولته، ونضج عقله، وحسن تصرفه، وشدة إقباله على الدرس والتحصيل، والعمل على نفع أمته، وفيه يقول المستشرق الفرنسيّ المشهور "سلفستر دي ساسي": إن الشيخ رفاعة "أحسن صرف زمنه مدة إقامته بفرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة, وتمكَّن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعًا بلاده.. وله عنده مزية عظيمة ومحبة جسمية2".

_ 1 ومن ذلك تعليقه على موقف الملك "شارل" المباشر لمَّا قامت الثورة في باريس قال: "فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك وهو خارج, فأمر بجعل المدينة محاصرة حكمًا, وجعل قائد العسرك أميرًا من أعداء الفرنساوية، مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة، فقد دلهَّم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو الملك أبقى للمُلْكِ، ولما ولي على عساكره إلّا جماعة عقلاء أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم: عليك بالحلم وبالحياء ... والرفق بالمذنب والإغضاء إن لم تقل عثرة من يقال ... يوشك أن يصيبك الجهال 2 تخليص الإبريز, ص154. 3 حلية الزمن, ص10.

وذكر السيد صالح مجدي تلميذه ومؤرخ حياته في كتاب "حلية الزمن": وقال لي من أثق به ممن كانمعه بباريس: "أنه كان يؤدي الفرائض والسنن، ولم يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وواظب على تلاوة القرآن1". كان رفاعة قبل أني يغادر مصر يظن أن العلم كله قد جمع في الأزهر، وأنه سيحرم الاغتراف من هذا النبع العذب، وفي ذلك يقول: "ولكن يتبين له به أن ذهب إلى باريس، واتصل بثقافة الغرب, أن وطنه في حاجةٍ ملحةٍ إلى معرفة هذه الثقافة الجديدة ليرقى وينهض، وأنه لا يكفيه علم الأزهر، ولذلك جَدَّ في الترجمة، حتى ليخيل للمرء أنه يريد أن ينقل كل شيء إلى اللغة العربية وإلى مصر، ولا بدع, فكل شيء أمام ناظريه جديد، وعلى عقله غريب". ثم عاد إلى مصر سنة 1831، بعد ست سنوات قضاها مكبًّا على الدرس والتحصيل: يطالع، ويقرأ، ويكتب ويعرب، ويجالس العلماء ويسجالهم البحث والمناظرة، وينعم النظر في أحوال الشعوب الأوروبية وتاريخها، وأسباب حضارتها وتقدمها، واستقرَّ عزمه وهو في باريس, على أن يخدم بلاده عن طريق نقل العلوم الغربية إلى مواطنيه، فتتسع أفكارهم, وتنمو مدراكهم, مقتفيًا في ذلك آثار الدولة العباسية؛ إذ بدأت نهضة العلوم والمعارف في عهدها بترجمة كتب اليونان إلى العربية. ولقد برَّ بوعده؛ فملأ البلاد علمًا وحكمةً، وحمل نواة النهضة وخدمتها بتأليفه وتعاريبه وتلاميذه الذين تخرجوا على يديه في مدرسة الألسن وغيرها. أعماله بعد عودته: لما رجع ولي منصب الترجمة، وتدريس اللغة الفرنسية في مدرسة الطب بأبي زعبل، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية بطرة، وعهد إليه ترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية، ثم وقع وباءٌ في القاهر اضطره إلى السفر لطهطا بلدته، فمكث بها ستين يومًا، ترجم في خلالها مجلدًا من جغرافية "ملتبرون" Nalt Bron وعاد به إلى القاهرة، وقدَّمَه لمحمد علي, فأكرمه ورقاه.

_ 1 المصدر السابق ص97.

عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، والتي أسست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسمِّيها في كتابه مدرسة الألسن، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب أغراضها، ورأى في أعضاء البعثات -مهما كثر عددهم- لن يقوموا بكل ما تتطلبه النهضة من جهود، فلابد من إيجاد طبقةٍ من العلماء الاكفاء في الآداب العربية، واللغات الأجنبية، ليضطلعوا بمهمة تعريب الكتب، وليكونوا صلةً بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية. إننا بالبعثة ننقل بعض المصريين إلى أروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوربا إلى مصر، فاقترح الشيخ على محمد علي إنشاء مدرسة الألسن، وكان من مزايا محمد علي أن يُسَرَّ بالاقتراح الجيد، وينفذه فورًا، فعهد إلى الشيخ رفاعة بوضع المشروع وتنفيذه، وبذلك أنشئت مدرسة الألسن، وكان مكانها "سراي الدفتردار" حيث كان فندق "شبرد القديم" وتقع بجوار قصر الألفي بك, الذي أقام به نابليون, ثم محمد علي، واختار لها الشيخ خمسين طالبًا من نوابغ طلاب المكاتب المصرية, وفي هذه المدرسة التي تولى الشيخ نظارتها ظهر نبوغه عالمًا محققًا، ورئيسًا قديرًا، ومعلمًا كفؤًا، ومربيًا ممتازًا. وكانت المدرسة كليةً تدرس فيها آداب العربية، واللغات الأجنبية, وخاصة الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافية، والشريعة الإسلامية, والشرائع الأجنبية، فكانت أسبه شيء بكلية للآداب والحقوق مجتمعتين, وكان نهج المدرسة علميًّا ومفيدًا، فلم يكن دروسًا تكتب في دفاتر وتهمل، بل يمرن الطلبة على الترجمة في كتب نافعة، فإذا استغلقت عليهم جملةً لجئوا إلى شيخهم يذللها لهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لهم لغتهم، وخاصةً الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة، لما رُزِقَه من موهبةٍ جليلة في التدريس بلغة سهلة، وعبارةٍ فصيحةٍ, وقدرةٍ على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون، فإذا

أتموا الكتاب, أو الكتب, رُوجِعَتْ, ثم قُدِّمَت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرًا خالدًا1. وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنواتٍ تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة, وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته, ما كان دعامة لنهضتنا الحالية. ظلَّ الشيخ سبعة عشرًا عامًا وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كلِّ آونةٍ يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدرٍ رحبٍ وعزيمةٍ قويةٍ، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأةً وتقديرًا؛ فمنحه محمد عأتموا الكتاب, أو الكتب, رُوجِعَتْ, ثم قُدِّمَت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرًا خالدًا1. وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنواتٍ تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة, وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته, ما كان دعامة لنهضتنا الحالية. ظلَّ الشيخ سبعة عشرًا عامًا وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كلِّ آونةٍ يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدرٍ رحبٍ وعزيمةٍ قويةٍ، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأةً وتقديرًا؛ فمنحه محمد علي رتبة "أميرالاي" و 1300 قرش في الشهر، و350 فدانًا في طهطا, ولكن الدنيا لا تدوم على حالٍ، فما أن مات محمد علي، وتولَّى عباس الأول الحكم, حتى أغلق المدارس جميعها إلّا القليل، وألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة معها، بحجة الاقتصاد في النفقات، ولأن حاشية السوء لما رأت ميل الوالي إلى محاربة التعليم والعلماء خاضوا في الشيخ رفاعة وطريقته, ورموه بالعقم، فنفاه عباس الأول إلى السودان تحت ستار إنشاء مدرسة ابتدائية هناك, وتعيينه ناظرًا لها، ومعه طائفةٌ من أكابر العلماء. ولم تكن الخرطوم كما هي اليوم في نظافتها ومبانيها، وتوفر وسائل العيش بها، وإنما كانت مدينةً صغيرةً تصعب الحياة فيها على من ألف حياة باريس والقاهرة، وعلى كل من يشرف على التعليم كله بمصر، فإذا هو يشرف على مدرسةٍ ابتدائيةٍ صغيرةٍ بالخرطوم.

_ 1 يقول أحمد عبيد مترجم كتاب "الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر" "كانت تحت إرشاد مدير مدرسة الألسن السيد رفاعة، فأجاد تربيتي كغيري حتى حسن حالي، واجتهادي في نيل المعالي بين أمثالي، واقتضى رأيه المؤيد, وحزمه المعضد، أن أترجم كتابًا من كتب التاريخ؛ فاختار ملكًا من ملوك الإفرنج, تعلو همته على المريخ، وهو كتاب بطرس الأكبر، وفضله أشهر من أن يذكر، لمؤلفه الشهير المسمى: "فولتير" الذي يعد بين أكابرهم أعظم حجة، وإن كان عن الأديان بعيد المحجة، فجاء التعريب بحمد الله على أحسن حالٍ، وأتَمَّ منوالٍ، وقد شرعت في نقله من الفرنسية إلى العربية, مع إعانته لي في حل مشكلاته، وما عسر عَلَيَّ من غوامضه ومعضلاته، وقد صرفت في ترجمته على صعوبته الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة ... إلخ". لي رتبة "أميرالاي" و 1300 قرش في الشهر، و350 فدانًا في طهطا, ولكن الدنيا لا تدوم على حالٍ، فما أن مات محمد علي، وتولَّى عباس الأول الحكم, حتى أغلق المدارس جميعها إلّا القليل، وألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة معها، بحجة الاقتصاد في النفقات، ولأن حاشية السوء لما رأت ميل الوالي إلى محاربة التعليم والعلماء خاضوا في الشيخ رفاعة وطريقته, ورموه بالعقم، فنفاه عباس الأول إلى السودان تحت ستار إنشاء مدرسة ابتدائية هناك, وتعيينه ناظرًا لها، ومعه طائفةٌ من أكابر العلماء. ولم تكن الخرطوم كما هي اليوم في نظافتها ومبانيها، وتوفر وسائل العيش بها، وإنما كانت مدينةً صغيرةً تصعب الحياة فيها على من ألف حياة باريس والقاهرة، وعلى كل من يشرف على التعليم كله بمصر، فإذا هو يشرف على مدرسةٍ ابتدائيةٍ صغيرةٍ بالخرطوم.

وحَزَّ في نفس الشيخ أن يجازى على إحسانه بالإساءة, وأن يطعن الجاهلون في صلاح وطريقته, وقد أينعت وآتت أكلها شيهًّا لذيذًا، يزيد في نماء البلاد العقليّ، ونهضتها نحو الكمال، وأخذ يستغيث ويندب حظه، والموت يخطف أعوانه كل يومٍ حتى لم يبق إلّا نصفهم, وكان يستغيث أولًا بمن يأنس منهم روح الجد والعمل لخير مصر، حتى إذا عجز هؤلاء عن إغاثته, لجأ إلى أولياء الله الصالحين, وأنبيائه المطهرين، ومن قصيدةٍ له أرسلها إلى حسن باشا كتخدا مصر1. مهازيل الفضائل خادعوني ... وهل في حربهم يكبو جوادي وزخرف قولهم إذا موهوه ... على تزييفه نادى المنادي قياس مدارسي -قالوا- عقيم ... بمصر فما النتيجة من بعادي ثم يذكر أشهر مترجماته ومؤلفاته فيقول: على عدد التواتر معرباتي ... تفي بفنون سلمٍ أو جهاد وملطبرون يشهد وهو عدل ... ومنتسكو يقر بلا تمادي ومغترفو قراح فرات درسي ... قد اقترحوا سقاية كل صادي ولاح لسان باريس كشمس ... بقاهرة المعز على عمادي ويزفر زفرة حارةً على ما صار إليه أمره, وعلى بعده عن أولاده وأهله فيقول: رحلت بصفة المغبون عنها ... وفضلي في سواها في المزاد وما السودان قط مقام مثلي ... ولاسلماي فيه ولا سعادي وقد فارقت أطفالًا صغارًا ... بطهطا دون عودي واعتيادي أفكر فيهمو سرًّا وجهرًا ... ولا سمري يطيب ولا رقادي أريد وصالهم والدهر يأبى ... مواصلتي ويطمع في عنادي

_ 1 مباهج الألباب المصرية, ص265-268.

وهذه القصيدة على وزن وقافية: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي وحين يئس من مثل هذه الاستغاثات، أخذ يخمس قصيدة لسيدي عبد الرحيم البرعي في مدح النبيّ -عليه السلام, مطلعها: حل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه ويقول فيها: "رفاعة" يشتكي من عصبة سخرت ... لما أتى أبحر العرفان قد زخرت فارفع ظلامة نفس عدلك ادخرت ... وهاك جوهر أبيات بك افتخرت جاءت إليك بخط الذنب ترقمه وظل الشيخ في منفاه أربع سنوات، وكان رفاعة وهو في السودان برمًا بقمامه ومصيره، ولكن رأيه في السودان حين هدأت ثائرته، وعاد إلى وطنه، يدل على بصيرةٍ وحكمةٍ، وفي ذلك يقول: "فمتى زالت من السودان وسائل الوخامة والسقامة, ودخلت أهاليها بحسن الإدارة في دائرة الاستقامة، صارت هي والديار المصرية في العمار كالتوأمين، وفي إيناع الأثمار صنوين، حتى ينشد لسان حالهما: نحن غصنان ضمنا الوجد جميـ ... عًا في الحب ضم النطاق في جبين الزمان منك ومني ... غرة كوكبية النفلاق1

_ 1 مباهج الألباب المصرية, ص263.

ولم يعد لمصر إلّا بعد أن توفي عباس, وتولى سعيد أريكة مصر؛ فعينه وكيلًا للكلية الحربية، ثم ناظرًا لها، ومديرًا لمدرسة الهندسة، ومدرسة العمارة، مع الاحتفاظ برئاسة قلم الترجمة، بيد أن هذه المدارس جميعها ألغيت في سنة 1860، كما ألغي قلم الترجمة، فظل الشيخ بدون منصبٍ حتى عهد إسماعيل، حين هبَّت على العلم والتعليم نسمةٌ من الحياة فبعثته قويًّا فتيًّا، وأعيد قلم الترجمة بنظارة المعارف العمومية, وتولى رئاسته من جديد رفاعة بك سنة 1863، وعُيِّنَ عضوًا في مجلس المعارف الأعلى, الذي كان يعرف حينذاك بـ "قومسيون المدارس" وكان لهذا المجلس فضلٌ كبيرٌ في تنظيم التعليم، على عهد إسماعيل. رفاعة والقانون: حينما فكرت الحكومة في إصلاح نظام القضاء على عهد إسماعيل, رأت أن تبدأ بترجمة القوانين الفرنسية المعروفة بـ "الكود" وهو قانون نابليون، وكانت هذه مهمة عسيرة, تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية، وأحكام الشريعة الإسلامية, لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسيّ، هذا كله يحتاج إلى صبرٍ طويلٍ, ومثابرةٍ وهمةٍ. ولم تجد الحكومة خيرًا من رفاعة وتلاميذه، ليقوم بهذه المهمة الجليلة، فقام بهذا العمل مع بعض من نجباء خريجي مدرسة الألسن، وأخرجوه في مجلدين كبيرين. رفاعة والمرأة: وهو أول من نادى بتعليم المرأة وتثقيفها، ووضع كتابًا مشتركًا لتثقيف البنات والبنين على السواء، وسماه: "المرشد الأمين للبنات والبنين" وهو كتاب في الأخلاق والتربية والآداب.

بل دعا إلى اشتراك المرأة في أعمال الرجال على قدر طاقتها، ويقول في هذا: "ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا.. فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذه مما يزيدهن أدبًا وعقلًا, ويجعلهن بالمعارف أهلًا, ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي؛ فيتعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن، وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة؛ فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء، وافتعال الأقاويل، فالفعل يصون المرأة عَمَّا لا يلطيق، ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومةً في حق الرجال, فهي مذمةٌ عظيمةٌ في حق النساء" وقد طبع كتابه هذا في سنة 1872، وأسست أول مدرسة لتعليم البنات في مصر سنة 1873، أسستها إحدى زوجات إسماعيل، على أن دعوة رفاعة إلى تعليم المرأة والنهوض بها ترجع إلى ما قبل هذا بكثير، ولكن لم يستجب لدعوته من يلبيها ويعمل على تنفيذها. وفاته: ظل هذا العالم الجليل يدأب ويجد في نشر الثقافة وفتح أبواب العلم والنور للأمة المصرية، حتى توفي سنة 1290 هـ 1873م, وله من العمر 75 سنة. وقد بقي تلاميذه من بعده, وطريقته التي استَنَّها, وكتبه التي ألفها وترجمها, تهيب بالأمة أن تسير على سنته، وأن تنقل من آثار الغرب ما يزيل صدأ السنين عن عقول طالت غفلتها. صفاته: كان رفاعة عربيُّ الصفات، يتمثل فيه الكرم والجرأة والحزم، وتفرس الأمور، أخصّ مزاياه الشمم والإباء، واعتداده بنفسه, وصراحته عند مجابهة أولي الأمر بما ينفع وطنه.

وكانت له أفكار تخشاها الأسرة الحاكمة، وقد صرح بها في مواطن كثيرة من كتبه، فكان يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وألّا يستبد مالك الأرض بزراعتها، فزارعها هو في حقيقة الأمر أولى الناس للانتفاع بها، وكان يلمح تلميحات -لا تخفى على ذوي الفطن- إلى استبداد أسرة محمد علي وحاشيته، ويدعو إلى الشورى وغير ذلك مما يرتئيه الرجل المصلح العامر القلب بالإيمان, والعقل بالأفكار النيرة، ولعل هذه الصفات تفسر لنا تأخر رفاعة في سلم الترقي الحكومي ونيل الألقاب، بينهما قد سبقه بعض تلاميذه في هذا المضمار, وكان يمثل أخلاق العلماء ببعده عن مظاهر الخيلاء والغرور، بل كان زاهدًا جوادًا، متواضعًا، محبًا للخير، وكان يتقد وطنيةً وغيرةً على بلاده، وله في ذلك كثير من الأشعار الحماسية, يشيد فيها بمصر وعظمة جيشها، ومن هذا قوله يخاطب الجنود: يا أيها الجنود ... والقادة الأسود إنْ أمَّكم حسود ... يعود هامي المدمع فكم لكم حروب ... بنصركم تئوب لم تثنكم خطوب ... ولا اقتحام معمع وكم شهدتم من وغى ... وكم هزمتم من بغى فمن تعدى وطغى ... على حماكم يصرع وتتجلى روحه الوطنية في ترجمة نشيد فرنسا القوميّ "المارسليز"، لأنه أحبه, وهاج عاطفته، وكان يكثر من عباراته الوطنية وخدمة الوطن في مؤلفاته. وفي الوطن يقول: "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته، وغذاه هواؤه، ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه1".

_ 1 المرشد الأمين, ص90.

ويقول عن مصر في زهوٍ وإعجابٍ: "ولا يشكُّ أحدٌ أن مصر وطنٌ شريفٌ، إن لم نقل: إنها أشراف الأمكنة، فهي أرض الشرف والمجد في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آياتٍ بيناتٍ، وآثار وحديث، فما كأنها إلّا صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض، بيد الحكمة الإلهية التي جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد أن تكون صورتها في أرجائها ونواحيها, بلدة معشوقة السكنى، رحبة المثوى ... إلخ"1. ويقول عن واجب الفرد نحو وطنه في كتابه "المرشد الأمين" كذلك: "فالوطنيّ المخلص في حب الوطن، يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ويبذل جميع ما يملك، ويدفع عنه كل ما تعرض له بضرر، كما يدفع الوالد عن ولده الشر, فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائمًا متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئًا مما يخلُّ بحقوق أوطانهم، فيكون ميلهم إلى ما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي ابنه من جميع ما يضر به"2. وتلك لعمري نغمة جديدة لم يألفها الشرق العربيّ بعامة، ومصر بخاصةٍ؛ لأن الوطن عندهم لم يكن محدود المعالم، فكل بلاد الإسلام بلادهم، يدينون بالولاء للخليفة، ولم يكن يعنيهم من أمر أوطانهم والفناء في سبيلها شيء. كانت هذه النغمة، وذلك الحديث عن الوطن, وواجب المواطن, أول لبنة في بناء الأدب القوميّ المصريّ الحديث, جعلت أنظار الأدباء فيما بعد يعنون بهذا الوطن، ويتملون جماله، ويعبرون عن آلام أهله وأمانيهم، وإن لم يحدث ذلك سريعًا لانتشار الأمية, وقيام معوقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ كثيرةٍ، وحسب رفاعة أنه سبق زمانه، وتحدث حديثًا عن الوطن تخاله لجدته قد قيل في أيامنا هذه.

_ 1 نفس المرجع, ص31. 2 نفس المرجع, ص93 وما بعدها.

وكان بجانب هذا أديبًا، وشاعرًا رقيقًا إذا قيس بأهل عصره، ويدل على ذلك ما روي من أن السفينة التي أقلته إلى أوربا ظلت خمسة أيام بجزيرة صقلية تتزود من الماء والخضر، ولم يسترع انتباه الشيخ بمجامع قبله إلّا دق نواقيس الكنائس. وفي إحدى الليالي دعا صديقًا من أصدقائه من أعضاء البعثة, ممن يعرف فيه الظرف والأدب، واقتراح عليه أن يشتركا في إنشاء مقامة على غرار مقامات البديع أو الحريري، ويكون موضوعها ثلاثة أشياء: حوار حول: "أن الطبيعة السليمة تميل إلى استحسان الذات الجميلة مع العفاف"، "سكر المحب من عيني محبوبه"، ثم "تأثر النفوس بضرب الناقوس" إذا كان من يضربه ظريفًا, وأخذ ينشيء الشعر في مقاماته حول هذه المعاني، فقال في المعنى الأول: أصبو إلي كل ذي جمال ... ولست من صبوتي أخاف وليس لي في الهوى ارتياب ... وإنما شيمتي العفاف وقال في المعنى الثاني: قد قلت لمَّا بدا والكأس في يده ... وجوهر الخمر فيها شبه خديه حسبي نزاهة طرفي في محاسنه ... ونشوتي من معاني سحر عينيه وفي المعنى الثالث: مذ جاء يضرب بالناقوس قلت له: ... من علم الظبي ضربًا بالنواقيس وقلت للنفس أي الضرب يؤلمك ... ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي ومما يدل على هذا المزاج الأدبيّ ترجمته لبعض الشعر الفرنسيّ، وتأليفه كتاب "تعريب الأمثال في تأديب الأطفال"، وترجمته رثاء فولتير الشاعر للويس الرابع عشر، الذي يقول فيه:

"ولم يتول قبله ملك من تلك العصابة، ولا ساواه غيره في تربية الرعية بهذه المثابة، فالفخار شعاره، والمجد دثاره، وكان أحظى الملوك باكتساب الطاعة من رعاياه والانقياد، كما كان أعظمهم في الهيبة عن الأخدان والأضداد، وربما كان دونهم في مثل الرعية إليه، ومحبتهم له بانعطاف القلوب عليه، فطالما رأيناه تتقلب عليه صروف الزمان، وتتلاعب به حوادث الحدثان، وهو عند النصرة يظهر الفخار، ويتجلد عند الهزيمة، ولا يظهر بمظهر الذل والانكسار، فقد أرهب عنده عشرين أمة عليه تعصبت، وعلى قتاتله تحالفت وتحزبت، وبالجملة فهو أعظم الملوك في حياته، وكما كان عظيم العبرة عند مماته1". وترجمة رفاعة لتليماك تدل على اتجاهه الحديث في الأدب، فتليماك رواية فرنسية اسمها: Les Aventure de Telemaque كتبها قسيس فرنسيّ يُدْعَى فنلون Fenelon وقد سمى رفاعة الرواية "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" ولعل الأدب العربي الحديث لم يعرف روايةً فرنسيةً ترجمت قبل تليماك، ولقد أراد رفاعة أن يوجه أذهان الناشئة إلى أهمية القصة في الأدب، وأنها لونٌ من ألوانه, لم يعبأ به العرب من قبل، وأنها ستكون جليلة الشأن في التربية. ويقول رفاعة عن كتابه تليماك الذي ترجمه وهو في السودان: "إن تعريب تليماك، بكل من في حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية"2. ومن هذه الأمثلة وغيرها مما مَرَّ بك, ترى أن رفاعة قد حمل لواء النهضة الجديدة في الأدب، وأنه جدد في أغراضه، كما جدد في أسلوبه، وإن لم يتخلص جملة من كل تلك القيود القديمة، والزخارف اللفظية، ورفاعة لم يكن ذلك الشاعر الفحل، ولكنه كان أديبًا سلمت له بعض الأبيات التي تدل على ذوق سليم، وتدل على أنها تباشير الشعر الجديد.

_ 1 مناهج الألباب المصرية, ص220. 2 مواقع الأفلاك, ص24.

ولم يكن رفاعة يفتخر بالشعر، ويعده من بضاعته الجيدة. وما نظم القريض برأس مالي ... ولا سندي أراه ولا سنادي1 وإن برع في نظم الأناشيد الوطنية من مثل قوله: يا حزبنا قم بنا نسود ... فنحن في حربنا أسود عند اللقا بأسنا شديد ... هام عدانا لنا حصيد حامي حمى مصرنا سعيد ... في عصره مجدنا يعود بجنده المجند وسيفه المهند ... ونصره المؤيد وعزه المشيد في عصره مجدنا يعود

_ 1 مباهج الألباب, ص 269.

الطباعة والصحافة

3- الطباعة والصحافة: الكتب غذاء العقول، وإذا لم يتيسر للعقل غذاؤه أجدب، والأمة التي تجدب عقولها لا تعرف كيف تحيا حياة الأناسيِّ، وتكون أمة من سائمة. ولا ريب أن الكتب تُيَسّرُ ويسهل على الناس اقتناؤها والانتفاع بها, والاستنارة بمصابيحها، إذا كثرت وانتشرت، وساعد أولو الأمر على إذاعة الثقافة. وقد كان القائمون على شئون مصر في مبدأ نهضتها, من أولئك الذين ألهموا حب الخير، ورزقوا العقل المفكر، والنظر الثاقب، فعملوا على نشر الطباعة في مصر. ليست مطبعة بولاق أول مطبعةٍ عربيةٍ في العالم, ولكن أول مطبعة عربية ظهرت, كانت في "فانو" بإيطاليا، حيث أمر بها الباب "يوليوس الثاني" وأخذت تعمل في سنة 1514 في عهد البابا "ليون العاشر". وأول كتاب عربيٍّ طُبِعَ في هذه السنة, هو كتابٌ دينيٌّ -كما هو منتظر- ثم سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليلٍ طبع القرآن في البندقية, ولكن الطبعة أحرقت خشية أن يؤثِّر على عقائد المسيحيين، وطبع كتاب القانون لابن سينا في روما سنة 1593 في مجلد ضخم، وتعددت المطابع العربية في أوربا، وطبعت فيها مئات من الكتب العربية وغيرها1. أما الطباعة العربية في الشرق، فأسبق الأمم إليها الدولة العثمانية، وقد مَرَّ بك كيف اضطر من أراد إدخال المطبعة الأولى لأخذ فتوى من علماء الدين، وأول كتابٍ طبع بالعربية في الآستانة كان سنة 1728. وكانت للسوريين محاولات سابقة لهذا التاريخ؛ إذ طُبِعَ الإنجيل في حلب بالعربية سنة 1706، وأقدم مطبعة عربية في الشام هي مطبعة "ماريو حنا" الصايغ, في "الشوير" للروم الملكانيين، أنشئت سنة 1145هـ- 1732م، ثم مطبعة القديس "جارجيوس" للروم الأرثوذكس, في بيروت سنة 1167هـ-1753م, ولكن مطبوعات هاتين المطبعتين لم تتعد بعض كتب الدين، ولم يكن لهما أثر يذكر في نشر الثقافة العربية, ولا في النهضة الحديثة. وأهم مبطعة انبعث منها النور متدفقًا فياضًا, يبدد الظلام الحالك المطبق على عقول الأمة العربية، هي تلك المطبعة الضخمة التي أسست في بولاق سنة 1822، وهي إلى اليوم تعد أكبر مبطعة عربية في العالم. نعم! إن مصر قد عرفت الطباعة المصرية قبل محمد علي؛ لأن نابليون كان قد أحضر معه مطبعة عربية، وحاول أن يصدر بها تلك النشرة المعروفة "بالتنبيه" التي لم تصدر فعلًا2, وإنما الذي صدر هو "سلسلة التاريخ" وكان يحررها السيد إسماعيل الخشاب.

_ 1 راجع جروجي زيدان, في كتاب آداب اللغة العربية, ج4 ص44. 2 راجع عبد الرحمن الرافعي, في تاريخ الحركة القومية, الجزء الأول, ص145، والجزء الثاني, ص223، 228، ج3 ص538.

وكانت سجلًا لمحاضر جلسات الديوان والحوادث الهامة، بيد أن أثر مطبعة نابليون زال بخروج الحملة الفرنسية من مصر، واشترى محمد علي مطبعتهم، فكانت نواةً مطبعة بولاق الشهيرة، أما مطابع تركيا فكانت أسبق إلى نشر الكتب الأدبية والعلمية من سواها، فطُبِعَ هناك القاموس المحيط سنة 1814، وطُبِعَتْ كافية ابن الحاجب سنة 1819، وجملة ما نشر من الكتب الأدبية واللغوية لا يزيد على أربعين كتابًا حتى سنة 18301. لم يكن اتجاه محمد علي أدبيًّا، ولكن معظم اهتمامه كان بالعلوم والجيش والإدارة، ولذلك؛ كان نتاج مطبعة بولاق في أوائل أمرها علميًّا بحتًا، ومن أوائل الكتب التي طبعت بها قاموس طلياني عربي، وكتاب الأجرومية في النحو، ورسالة الفنون الحربية مترجمةً إلى التركية، وكتاب صباغة الحرير من الإيطالية، ثم سيرة الإسكندر الأكبر. وفي الحق, لم تخرج مطبعة بولاق شيئًا ذا قيمةٍ من الكتب الأدبية إلّا في عهد إسماعيل, حينما أخذت النهضة الأدبية تشتد وتقوى، على أن مطبوعات استامبول كانت في نموٍّ واطرادٍ، ولا يزال لطباعتها في آذاننا رنة حتى اليوم. ومن أشهر المطابع التي كان لها أثر ملموس في يالنهضة الأدبية بالشرق العربيّ, المطبعة الأمريكية ببيروت سنة 1834, ومطبعة الآباء اليسوعييين ببيروت كذلك, سنة 1848. وتعد الأخيرة أكبر المطابع في سوريا، وأعظامها إتقانًا، وفيها حروف عربية، وإفرنجية، ويونانية، وسريانية، وعبرية وأرمينية. الصحافة: الصحافة من أسس النهضة الأدبية الحديثة، وعامل من أهم العوامل في مقاومته اللغة العامية، وانتشار اللغة الفصحى، ومجال واسع لنشر الأبحاث الأدبية، والعلمية، والسياسية, والتاريخية، والاجتماعية، ولقد تدرجت في نموّها من عصر محمد علي حتى اليوم.

_ 1 راجع مجلة الشرق 3, 1900م.

أنشأ الفرنسيون إبان مقامهم في عهد نابليون صحيفتين فرنسيتين: العشار المصري "La Decade Egyptinne" وهي جريدةٌ علميةٌ اقتصاديةٌ, تنشر فيها أبحاث المجمع العلمي ومناقشات أعضائه, وتصدر كل عشرة أيام، وبريد مصر "Lecourrier de L'Egypt" وهي الصحيفة الرسمية للحملة الفرنسية، وتصدر كل أربعة أيام، وقد ذهبتا بانقضاء الحملة الفرنسية، كما أنهم نشروا سلسلة تاريخية حررها السيد إسماعيل الخشاب. وقد أشرنا إليها سابقًا، وقد ذهبت كذلك بانقضاء حملتهم. كانت هذه محاولات بدائية في الصحافة، فلما جاء محمد علي أصدر أول صحيفةٍ عربيةٍ سنة 1822، حين أصدر "جنرال الخديو"، وكان يطبع في مطبعة القلعة بالقاهرة، ويصدر كل مرة في مائة نسخة باللغتين العربية والتركية، متمضنًا الأخبار الحكومية, وبعض القصص من ألف ليلة وليلة، وكان يرسل إلى رجال الدولة الذين يهم الحاكم أن يقفوا منه على أحوال البلاد، وظلت تصدر لمحمد علي وحده بعد أن ظهرت الوقائع المصرية، وكان الغرض من تزويده ببعض القصص جذب القراء إليه, ثم أنشأ في سنة 1828 جريدة الوقائع المصرية، وكانت تصدر أول أمرها بالتركية والعربية معًا، وأخيرًا اقتصرت على العربية، ولا تزال تصدر حتى اليوم. ولم يكن صدورها في عهد محمد علي منتظمًا، وكان يشرف على تحريرها الشيخ العطار شيخ الأزهر، وكان صديقًا للشيخ إسماعيل الخشاب محرر "سلسلة التاريخ". وتكاد الوقائع تكون مقصورةً على الأخبار الرسمية، وكان محمد علي شديد الاهتمام بالوقائع، يودُّ أن يراها في قوة تحريرها وحسن إخراجها، وغزارة مادتها, مثل تلك الجرائد التي كانت تأتيه من أوربا، وتقرأ له، وقد أرسل ذات مرة يعنف المسئولين عن تحريرها؛ لأنهم نشروا خبرًا تافهًا لا يليق بمقام الجريدة الرسمية للدولة.

وجاء في كتابه: "لقد أخذنا العجب في درج مثل هذه الحوادث القبيحة، فإذا علمتم ذلك فعليكم من الآن فصاعدًا أن تدرجوا الحوادث اللائقة بالنشر, وتتجنبوا نشر ما لا يليق نشره، وأن تلاحظوا ذلك بكل تدقيق واهتمام؛ لأنه من مقتضى ذمة خدمتكم، ومطلوبي أن تكونوا بعدئذ على انتباه وبصيرة"1. وقد حرص محمد علي على أن يرى مسودات الجريدة، ويبدي فيها رأيه قبل أن تنشر2، وبذا كان محمد علي أول صحفيٍّ بمصر، وكانت مهمته أشبه بمهمة رئيس التحرير في الجرائد اليومية اليوم، فكان يشير بالمقالات، ويحذف ما لا يراه لائقًا بكرامة الصحيفة، ولا يبخل عليها بمالٍ أو رجالٍ، ويأمر أن يلي أمر طبعها عمال مهرة لا تشوب كفايتهم شائبة. وقد تعاقب على تحريرها منذ ذلك الوقت نخبة من كبار الأدباء منهم: مختار بك, مدير المدارس في عهد محمد علي، وبغوص بك, موضع ثقته في المسائل العليا، وأحمد فارس الشدياق, والسيد شهاب الدين, صاحب السفينة، والشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده, والشيخ أحمد عبد الرحيم, والشيخ عبد الكريم سلمان, وغيرهم. وقد تعطلت الوقائع بعد محمد علي, ما بين 1849- 1863، ولم تصدر جريدة غيرها، وذلك راجع إلى عزوف عباس وسعيد عن النهضة ووسائلها, ولكنها استأنفت حياتها في عهد إسماعيل. تعقيب: كانت نهضة محمد علي -كما رأينا من كل ما تقدم- علميةً حربيةً، ولم يلتفت للأدب أدنى التفاتة، وذلك لأنه لم يكن بحاجةٍ للأدب كحاجته لجيشٍ قويٍّ يدعم به عرشه، ويؤسس دولته، ويدافع به عن نفسه.

_ 1 محفوظات عابدين, وثيقة رقم 51, في 14 من جمادى اللآخرة 1248هـ, دفتر 48 معية سنية. 2 راجع محفوظات عابدين, وثيقة رقم 799, في 19 من جمادى الآخرة 1251هـ, دفتر 66 معية تركي.

وكان كل شيء في مصر, وكل البعثات من طبيةٍ وهندسيةٍ وصناعيةٍ وغيرها, ترمي إلى خدمة الجيش، ورجال الجيش, ومع ذلك, فقد كانت هذه النهضة الحربية أساسًا للنهضة العلمية الأدبية التي ظهرت في عهد إسماعيل، فالمدارس التي فتحت في عهد محمد علي، والكتب التي ترجمت، والبعثات التي تزودت من علوم أوربا، واطلعت على حضارتها، أسهمت كلها في النهضة التالية، وساعدت على نجاحها، فلم يكن كبار المفكرين في عهد إسماعيل إلّا شبّانًا في عهد محمد علي، ولقد أفادوا مصر فيما بعد أكبر فائدة, وفي طليعتهم رفاعة الطهطاوي، ومحمد علي البقلي، وإسماعيل الفلكي، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك. وتعلَّم هؤلاء في عصر محمد علي, وقادوا الحركة الفكرية في عهد إسماعيل، ففضل هذا العصر على النهضة الأدبية من هذه الناحية أَجَلّ من أن ينكر، على الرغم من أن اللغة الرسمية للدولة كانت التركية، ولكن اللغة العربية أخذت منذ ذلك الحين تنمو وتشتد, حتى استطاعت بعد زمنٍ وجيزٍ أن تقضي على التركية في الديوان، ثم تصير لغة الأدب الحيِّ الذي ينبض بالقوة, ويعبر عن الحضارة الحديثة؛ لكثرة ما ترجم إليها من آثار الغرب، وكثرة ما أحيا من تراث العرب، والفضل في ذلك لهذه الأسس التي بنيت عليها نهضتنا الحديثة. وعلى الرغم من مظاهر النهضة المختلفة، فإن محمد علي لم يكن يقصد نفع مصر والمصريين، وإنما كان يريد استغلالهم على أسوأ طريق؛ فحكمهم بالقهر، وأطاح بالرءوس الكبيرة في البلاد، وجمع كل عقود التمليك، ووزع الأرض الزراعية توزيعًا جديدًا، كان لأقاربه وأنصاره من غير المصريين منها النصيب الأكبر، ومن هنا جاء الإقطاع الحديث بشروره وآثامه. كما أنه جعل مصر مزرعةً كبرى يجني وحده خيراتها، وينفق من تلك الخيرات على الجيش الذي يعده لتمكين ملكه وتثبيت عرشه، وتوسيع نفوذه. وقد أخذ ما كان للمساجد من أموال، وأخذ من أوقاف الأزهر ما لو بقي له اليوم لكان ذا شأن كبير في إصلاحه, والنهوض به.

ولقد أساء محمد علي إلى المصريين وأذلهم، وصار يجبي منهم الأموال بالعسف، ويسوقهم سوق الأنعام للجندية التي يحارب بها السلطان أو الوهابيين في نجد، وفَضَّل عليهم الأجانب الذين جلبهم لمعاونته في تدبير شئون البلاد، وأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز متعديًا حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوكٍ منهم، لم يكن يملك قوت يومه، ملكًا أو كاللملك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ فصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبيّ بحقوق الوطنيّ التي حرمها، وانقلب الوطنيّ غريبًا في داره, غير مطمئنٍ في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة, وذل سامهم الأجنبيّ إياه ليصل إلى ما يريد منهم, غير واقف عند حَدٍّ, أو مردود إلى شريعة1.

_ 1 مذكرات محمد عبده, ص49-50.

الأدب في عهد محمد علي

4- الأدب في عهد محمد علي: لا نستطيع أن نقول أن الأدباء الذين ظهروا في عهد محمد علي هم أثر النهضة العلمية في عصره، ولكنهم ولا شكَّ أفادوا منها، مع أنهم من آثار العصر السابق، اطلعوا في عصر محمد علي على أشياء كثيرة لم يروها من قبل، وأحاطت بهم نهضة شاملة، مع ذلك, فقد كانوا مكبلين بقيود الألفاظ والزخارف في كتبابتهم وشعرهم إلّا القليل، ومن هؤلاء: 1- الشيخ حسن العطار1: من أسرة مغربيةٍ, نزحت إلى القاهرة, فوُلِدَ بها سنة 1180هـ 1866م، وكان أبوه عطَّارًا، فتبع أباه في تجارته أول الأمر, ولكن الله قد أودع قلبه حب الأدب والعلم، فلم يضن عليه والده بالمساعدة على تحصيلها، وجَدَّ الولد، وحصل منهما الشيء الكثير، ووعى ما حَصَّلَ، وتتلمذ على أكابر علماء عصره؛ كالشيخ الأمير والشيخ الصبان. وفي أيامه دخل الفرنسيون، فاتصل بهم, وأفاد منهم بعض الفنون الشائعة ببلادهم, وعَلَّمَ بعضهم اللغة العربية، ثم ارتحل إلى الشام، وسكن دمشق زمنًا. وتَجَوَّلَ في بلادٍ كثيرةٍ يفيد ويستفيد، ثم آب إلى مصر، فأقرَّ له علماؤها بالفضل، وعُهِدَ إليه بتحرير الوقائع المصرية، ثم تولَّى التدريس بالأزهر، ثم صار شيخًا له بعد الشيخ العروسي سنة 1246, فأحسن إدراته, وظلَّ في منصبه إلى أن توفي سنة 1250هـ- 1835م, وكان محمد علي يجلُّه ويكرمه لما امتاز به من التفوق في العلوم العصرية والأدبية وفنونها, ويقول عنه تلميذه رفاعة الطهطاوي في كتابه "مباهج الآدب المصرية": "كانت له مشاركة في كثير من هذه العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان, لإسماعيل أبي الفداء سطان حماة.. وله هوامش أيضًا وجدتها بأكثر التواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلِّعُ دائمًا على الكتب المعرَّبة من تواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان له ولوعٌ شديدٌ بسائر المعارف البشرية"2". وقد خلَّف عدة مؤلفاتٍ في النحو والبيان والمنطق والطب, وله في البلاغة حاشيةٌ على السمرقندية, وله كتاب في الإنشاء والمرسلات, طبع مرارًا بمصر، وجمع ديوان ابن سهل الإشبيلي وبوبه, وكان على إلمامٍ بعلم الفلك، وله رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب، وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية, وقد اشتهر بالأدب والشعر. وكان صديقًا للسيد إسماعيل الخشاب، واستمرت صحبتهما بعد عودة الشيخ العطار من الشام -حتى كانا يبيتان معًا- إلى أن مات الخشاب، وللعطار ديوان شعرٍ، وروى له الجبرتي كثيرًا، وكان على صلة بكثير من أدباء عصره، ومنهم المعلم بطرس كرامة اللبناني, وقد قال فيه كرامة لما لقيه بمصر: قد كنت أسمع عنكم كل نادرة ... حتى رأيتك يا سؤلي ويا أربي والله ما سمعت أذني بما نظرت ... لديك عيناني من فضل ومن أدب

_ 1- راجع ترجمته في الخطط التوفيقية, ج4 ص48, وتاريخ آداب اللغة العربية, ج: ص222, وكنز الجوهر في تاريخ الأزهر, لسلمان رصد الزياتي ص138، وعصر محمد علي للرافعي, ص472. 2- مباهج الألباب المصرية, ص375.

ومن نثر الشيخ العطار: "أما بعد, فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه. سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا ... أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمي سلام عاطر الأردان, تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد, الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى معصمه وجيده ... إلخ". ومن شعره قوله يتغزل: ألزمت نفسي الصبر فيك تأسيًا ... والصبر أصعب ما يقاد نجيبه وبليت منك بكل لاح لو تبدَّى ... نحو طودٍ أثقلته كروبه أفلا رثيت لعاشق لعبت به ... أيدي المنون ونازعته خطوبه أنت النعيم له ومن عجب ... تعذبه وتمرضه، وأنت طبيبه وهو شعر إذا قيس بعصره دل على روح أديب، وذوق شاعر، كما أن النثر، وإن كان مسجوعًا، إلّا أنه غير مثقل بالحلى اللفظية، مما يدل على بعض التطور في كل من النثر والشعر, نعم, إن في النثر تكلفًا وتعمدًا للسجع, فإذا كان السلام عاطر الأردان، فلابد أن تحمله الصبا ساريةً على الرند والبان، إلى غير ذلك مما يذكرنا بسجع القاضي الفاضل, وتذليل المعاني للألفاظ، وخفاء شعور الكاتب والشاعر تحت هذه الزخارف الكثيرة، على أن الشيخ العطار مع هذا, من أحسن كُتَّابِ عصره وشعرائه ديباجة، وأقلهم تكلفًا. 2- الشيخ حسن قويدر: تلميذ العطار، ولد 1204هـ-1789م, وهو مغربيّ الأصل كأستاذه، ونزح أهله إلى بلدة الخليل بالشام، وجاء والده إلى القاهرة وأقام بها، فولد فيها المترجم، ونال شهرة عظيمة في العلوم، وكان مع ذلك يشتغل بالتجارة، وصارت

له مع أهل الشام صلات تجارية، ومن تأليفه شرحه المطول على منظومة الشيخ العطار في النحو، وكان قد قرظها من قبل بقوله: منظومة الفاضل العطار قد عبقت ... منها القلوب بريا نهكة عطره لو لم تكن روضة في النحو يانعة ... لما جنى الفكر منها هذه الثمرة وله كتاب إنشاء ومراسلات، وكتاب نيل الأرب في مثلثات العرب، وهو مزدوجات ضمنها الألفاظ المثلثة الحركات، المختلفات المعاني، كمثلثات قطرب، وقد طبع بمصر، ونقله إلى الإيطالية المستشرق "إريك فيتو" قنصل إيطاليا ببيروت, وهو أرجوزة طويلة مطلعها. يقول من أساء واسمه حسن ... لكن له ظن بمولا حسن فكم لملواه عليه من منن ... بالعد لا تدخل تحت الحصر ويقول في المنظومة: جمعت فيها الكلمات اللاتي ... تكون في الشكل مثلثات أبدًا بالمفتوح ثم آتي ... بالضم لكن بعد ذكر الكسر وهاك مثلًا من مثلثاته: أجمة الحَلْفاء هي الأباء ... والامتناع من كذا إباء والغيث كان يا أخي أباء ... وهو كراهة الطعام فادر وهي ألفان ومائتان وعشرة أبيات، ومن مطبوعات جمعية المعارف. وكان مشهورًات بالتأريخ الشعري, وقد أرَّخ وفاته وهو مريض سنة 1263هـ بقوله: "رحمة الله على حسن قويدر" ومما يُرْوَى من شعره قول: يا طالب النصح خذ مني محبرة ... تلقى إليها على الرغم المقاليد عروسة من بنات الفكر قد كسيت ... ملاحة، ولها في الخد توريد

كأنها وهي بالأمثال ناطقة ... طير له في صميم القلب تغريد واحذر من الناس لا تركن إلى أحد ... فالخِلُّ في مثل هذا العصر مفقود بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت ... فالشر طَبْعٌ لهم والخير تقليد وله قصيدة تسمى: المزدوجة جاء منها، وهي طويلة: رأيت بدرًا فوق غصن مائس ... يخطر في خضر من الملابس ويسحر العقل بطرفٍ ناعسٍ ... وهو بشوش الوجه غير عابسٍ كأن ماء الحسن منه يجري خاطرت لما أن رأيته خطر ... وحار فكري في بها ذاك الحور وقلت لا والله ما هذا بشر ... ومن بشمس قاسهه أو القمر فليس عندي بالقياس يدري وهو شعركما ترى، قريب المعاني جدًّا، ليس فيه من الخيال شيء، وهو إن خلا من المحسنات البديعية إلّا أنه غير متين النسج، بل هو قريب من الكلام المعتاد، وكل تشبيهاته قديمة. وقد رثاه محمد صفوت الساعاتي بقصيدة مطلعها: بكت عيون العلا وانحطت الرتَبُ ... ومزقت شملها من حزنها الكتب

2- السيد علي الدوريش: تُوفِيَ سنة 1270هـ-1853م. وهو السيد علي الدرويش بن إبراهيم المصري، وُلِدَ بالقاهرة سنة 1211هـ، ونشأ بها, وأُغْرِمَ بالأدب، وحفظ كثيرًا من الشعر، وأصاب شهرةً كبيرةً في زمانه، وله عدد وفير من المقطوعات الغنائية، واتصل بأمراء أسرة محمد علي، وعُرِفَ بشاعر عباس الأول، ولم يكن يتكسب بالشعر؛ لأن الله رزقه حظًّا من الثروة، فاكتفى بما لديه. وله من المؤلفات "الدرج والدرك", وضعه في مدح من اشتهر في أيامه بحميد المزايا وكريم الصفات، وكتاب "محاسن الميل لصور الخيل" وضعه بأمر عباس الأول, ذكر فيه محاسن الخيل ومساوئها، و"سفينة الأدب". وشعره يمثل لنا عصره؛ من حيث الولوع بالمحسنات البديعية، يحشرها حشرًا، ويتكلفها تكلفًا, ومعانيه وأخيلته لا تدل على شاعرية ممتازة إذا قيست بشعر عصرنا، ولكنه بالنسبة لعصره كان طليعة الشعراء، وقد اشتهر بالتواريخ الشعرية، وله ديوان طبعه تلميذه مصطفى سلامة النجاري في 482 صفحة، وقد جمع كل ما قاله السيد على الدرويش من شعر ونثر. ومن نثره قوله في مقامة الفضيلة والرذيلة: "وفقك الله لما يرضاه، وعصمك في موجب الذم, ومن لا يتحاشاه، إن الفضيلة والرذيلة صفتان متضادتان، ونوع الإنسان مجبول على الميل للأولى، والفرار من الأخرى على حسب آراء العباد، وعوائد البلاد، فربما كانت الفضيلة عند قوم رذيلة عند آخري، وكانت الرذيلة عند أممٍ فضيلة عند غيرهم من المتأخرين، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، مع تفاوت في طباعهم، وأشكالهم, وصنائعهم، فمنهم ذو الطبع السليم، ومنهم الذميم، ولا سبيل إلى ترغيب الأول ليجتهد في الازدياد، وترهيب الثاني لينطبع على أن يتحاشى بالاعتياد، لا باللسان، الآتي بسحر البيان، فقد جاء في الحديث: "إن إيمان المرء ليربوا إذا مدح، وربما

يصح الجسم إذا جرح، فمن ذلك كان المدح على المحاسن تذكيرًا، والذم على القبائح تنفيرًا، وكلاهما مطلوب شرعًا، ومرغوب فرعًا، فيستقيظ الغافل، ويقبل الكمال الكامل". ومن شعره قطعةٌ قالها في منفلوط "وهي من قرى الصعيد": سعيد من نأى عنه الصعيد ... صعود ما لطالعه سعود وردنا منفلوط فلا سقاها ... وردناها فأظمأنا الورود فما لي قد بعثت لقوم عاد ... كأني صالح وهم ثمود أراهم ينظرون إليّ شزرًا ... كعيسى حين تنظره اليهود فما لي منهم خِلٌّ ودودٌ ... ولي من طبعهم خلٌّ ودود ويقول في الهرمين: انظر إلى الهرمين واعلم أنني ... فيما أراه منهما مبهوت رسخا على صدر الزمان وقلبه ... لم ينهضا حتى الزمان يموت ومن شعره يصف الجراد الذي اجتاح مصر سنة 1259هـ: فترى الجراد على الجريد ... مكللًا مثلَ الثمر ورقشٌ تراها إنها ... نارٌ تلظَّى بالشجر لواحة للأرض لا ... تبقي النبات ولا تذر وصغيرةٌ في حجمها ... لكنها إحدى الكبر الأرضُ كانت جنة ... فالآن ترمي بالشرر نزل الجراد بها كما ... نزل القضاء أو القدر

4- المعلم بطرس كرامة: وهو من شعراء سوريا في عهد محمد علي، وُلِدَ في حمص سنة 1188هـ 1774م، وجاء لبنان واتصل بالأمير بشير الشهابي، وتُوفِيَ سنة 1268هـ 1851م، ومن شعره يصف ينبوع الصفا، وقد مد "بيت الدين" مقر الأمير بشير بماء هذا الينبوع: صاح قد وافى الصفا يروي الظما ... بشرابٍ كوثريّ العس "كذا" وأفاض الشهد في روض الحمى ... لجلا الغم وبرء الأنفس حبذا الفوار عنه حين راق ... فأرانا ماؤه ذوب اللجين نَزَّه القلب عن الهم، وراق ... بسنا صافي صفاه كلّ عين نثره الدر بفيض واندفاق ... وسقى الوراد أهنا الأطيبين قد جرى عذبًا فأغنى الندما ... بزلال من رحيق الأكؤس وعلى الأغصان أبقى النِّعَما ... فزهت مثل ندامى العُرُس1 وقال يصف باقة زهر أهداها له الأمير بشير: وقال يصف باقة زهر من ميلك منحتها ... معطرةَ الأرواح مثلَ ثنائه فأبيضاها يحكي جميل خصاله ... واصفرُها يحكي نضار عطائه وأزرقها عين تشاهد فضله ... وأحمرها يحكي دماء عدائه

_ 1 قد نظم الشاعر هذه القصيدة على منوال الموشح الأندلسيّ المشهور, لابن سهل الإشبيليّ, ومطلعه. جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلّا حلمًا ... بالكرى أو خلسة المختلس

وقال يهنيء إبراهيم باشا بفتح عكا: فتحٌ به الفتح القريب موكد ... وكواكب النصر المبين توقد ما المجد إلّا بالحسام ولم يدم ... شرف الفتى ما لم يصنه مهند ما يوم عكة لم تذع ذكرًا لما ... غبر الزمان به وما يتجدد يوم به الحرب العوان تضرمت ... بقنابل مثل الصواعق ترعد رجمت بشهب كراتها الأسوار من ... لهب فدك الشامخ المتوطد ورمت بصدر بورجها قلل الفضا ... تلك المدافع فهي طورًا تسجد فتخال والهيجاء تلهب حولها ... نار الجحيم بجوها تتصعد سبقت إليها الصبح أسد عرينة ... وبغير صبحٍ حرابهم لم يهتدوا من كل أروع قد تعود في الوغى ... أخذ الكمأة وما يقول السيد وتراه يبسهم للكفاح كأنما ... ورد الحمام لديه نعم المورد وثبوا على الأسوار, ثم تسنموا الـ ... أبراج السيف الصقيل مجرد وتجلد القوم العدة وإنما ... لم يجدهم عند العراك تجلد 5- الشيخ ناصيف البازجي: هو الشيخ ناصيف بن عبد الله اليازجي، وُلِدَ بكفر شيما بلبنان, سنة 1800م, واشتغل أول أمره بالعلوم والطب، ولكن الأدب غلب عليه, واتصل بالأمير بشير الشهابي, فاتخذه كاتم سره، ولما دالت دولة الأمير بشير انقطع للتأليف ومراسلة الأدباء، ونظم الشعر، وقد خلَّف عدة مؤلفات، من أشهرها: 1- مقاماته الستون المعروفة بمجمع البحرين, عارض فيها مقامات الحريري، ويقول في إحداها المعروفة بالمقمامة الخزرجية: "قال سهيل بن عباد: دخلت بلاد العرب في التماس بعض الأدب، فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة1 النادي، أخذ بمجام فؤادي، فجلست بين القوم ساعة، وأنا

_ 1 بهرة النادي: وسطه.

أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تَصَدَّرَ في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينه1 أو شاعر مزينه2، فليحضر ليسمع ويرى، فإن كل الصيد في جوف الفرا3, فعمد إليه رجل وقال: أطرق كرى، إن النعامة في القرى4 إلخ". ومن نثره المرسل قوله: "وكان الملوك ومن يليهم في الأيام القديمة يعرفون كثيرًا من العلوم ويتمكنون منها، حتى كان منهم من يخطيء العلماء في بعض المسائل؛ ولذلك كانوا يعتنون بشأن العلم والعلماء ويعرفون حقهم, وكانوا يقيمون مدارس في علوم شتَّى, حيثما وجدوا لها موضعًا، ويغرمون المشايخ والطلبة بالعطايا والإحسان, فكان الناس يدخلون فيها أفواجه, ويعكفون على تحصيل ما يستطيعون من العلوم، حتى إذا استتم الرجل علمه خرج إلى منصب، أو وظيفة عند السلطان، متمتعًا ببسطة الجاه والمال، ومستغنيًا عن جميع المهمات والأشغال، فيفرغ للتوسع في العلوم، وإنشاء المصنفات فيها، وبذلك يكون مثالًا لغيره في طلب العلم والتجرد له". 2- وله كتاب فصل الخطاب في الصرف والنحو، وله شرح على ديوان المتنبي، أتمه ابنه الشيخ إبراهيم، واسمه العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. 3- وله ديوان شعر في ثلاثة أجزاء: أحدهما: نفحة الريحان، وثانيها: فاكهة الندماء، وثالثها: ثالث القمرين. وشعره يجمع بين الرقة والمتانة، ومن شعره في بخيل:

_ 1 جهينة: قبيلة قتل رجل منها قتيلًا، ومر بامرأته وهي تبحث عنه فقال: تناشد كل حي عن حصين ... وعند جهينة الخبر اليقين 2 هو زهير بن أبي سلمى. 3 الفرا: حمار الوحش، ومن صاده أغناه عن كل صيد سواه, ويضرب بهذه الكلمة المثل. 4 الكرى: الكروان: أخفض رأسك ولا تتكبر, فإن النعامة وهي أكبر منك قد صيدت وحبست في القرى.

قد قال قومٌ إن خبزك حامض ... والبعض أثبت بالحلاوة حكمه1 كذب الجميع بزعمهم في طعمه ... من ذاقه يومًا ليعرف طعمه؟ وقال في الزهر: مر النسيم على الرياض مسلمًا ... سحرًا فرد هزارها مترنما وحنى إليه الزهر مفرق رأسه ... أدبًا، ولو ملك الكلام تكلما يا حبذا ماء الغدير وشمسه ... تعطيه دينارًا فيقلب درهما وقال يرثي صديقًا: قد كنت أنتظر البشرى برؤيته ... فجاءني غير ما قد كنت أنتظر إن كان قد فات شهد الوصل منه فقد ... رضيت بالصبر لكن كيف أصطبر أحب شيء لعيني حين أذكره ... دمع, وأطيب شيء عندها السهر هذا الصديق الذي كانت مودته ... كالكوثر العذب لا يغتالها كدر لا غرو أن أحزان الزوراء مصرعه ... فحزنه فوق لبنان له قدر وقال يمدح محمد علي "باشا" ويهنئه بفتح عكا: يا فاتح القطرين أنت محمد ... هل دون فتحك في البلاد مسدد؟ أنت العلي كما يقال ونسله ... منك المعالي لم تزل تتولد لما بعثت من الكنانة سهمها ... حلفت عليه أنه لا يصرد ما زالت النار التي وقدت له ... بردًا عليه وناره لا تبرد من مثل إبراهيم إلّا سيفه ... يوم الكريهة والقنا المتأود

_ 1 أل لا تدخل على بعض في صحيح اللغة، وعجب أن يفوت ذلك على الشيخ ناصيف, وهو العالم اللغوي.

ولقد ضربت حصون عكاء التي ... كانت لهيبتها الفرائص ترعد الله أكبر ليس دونك قلعة ... تحمي ولا حصن أشم ممرد وتحصنت منك الأسود فلا تلم ... قومًا بإغلاق الحصون استنجدوا أسألت "عبد الله1" أين قلاعه ... ورجاله وفؤاده المتوقد؟ ومما كنا نحفظه في الصغر للشيخ ناصيف اليازجي, قوله في عروس الزهر "الوردة": هذي عروس الزهر نقطها الندى ... بالدر فابتسمت ونادت معبدًا لما تفتق سترها عن رأسها ... عبث الحياء بخدها فتوردا فتح البنفسج مقلة مكحولة ... غمز الهزار بها فقام وغردا وتبرجت ورق الحمام بطوقها ... لما رأين التاج يعلو الهدهدا بلغ الأزاهر أن ورد جنانها ... ملك الزهور فقابلته سجدا فَرَنَا الشقيق بأعين مُحْمَرَّةٍ ... غضبًا وأبدى منه قلبًا أسودا بسط الغدير الماء حتى مسه ... برد النسائم قارسًا فتجمدا ورأى النبات على جوانب أرضه ... مهدًا رطيبًا لينًا فتوسدا يا صاحبي تعجبًا لملابس ... قد حاكها من لم يمد لها يدا كل الثياب يحول لون صباغها ... وصباغ هذي حين طال تجددا وفي هذه القصيدة خيال جميل، وسهولة لفظ، ورقة وصف, تجعل مثل ناصيف اليازجي يقف وحده بين شعراء عصره, كما يقف وحده بين كتاب جيله؛ لمتانة عبارته, وحسن صياغته, ولأنه ترسل في كتابته على خلاف المعهود في زمنه. ومن جميل شعره الذي يدل على رقة حسٍّ، ودماثة عاطفةٍ, قوله يرثي ولده حبيبًا:

_ 1 يقصد عبد الله الجزار, والي عكا حينذاك.

ذهب الحبيب فيا حشاشة ذوبي ... أسفًا عليه ويا دموع أجيبي ربيته للبين حتى جاءه ... في جنح ليلٍ خاطفًا كالذيب يا أيها الأم الحزينة أجملي ... صبرًا فإن الصبر خير طبيب لا تخلعي ثوب الحداد ولازمي ... ندبًا عليه يليق بالمحبوب إني وقفت على جوانب قبره ... أسقي ثراه بدمعي المصبوب ولقد كتبت له على صفحاته ... يا لوعتي من ذلك المكتوب الشهاب الألوسي: هو أبو الثناء شهاب الدين محمود الألوسي, وُلِدَ ببغداد سنة 1217هـ-1802م, وتوفي 170هـ-1854م. وكان إمامًا في التفسير والإفتاء، وعالمًا ضليعًا باللغة، وكاتبا بليغًا, وخطيبًا مصقعًا, وقد حظي بشهرة عظيمة في عصره، وصار مقصد الأدباء والمتأدبين، وطلاب التفسير والفقه. وقد كثر حاسدوه وشانئوه بغداد، واضهده الوالي التركي، فقام برحلةٍ إلى الآستانة, يبث شكواه لأولي الأمر، ويعرض عليهم تفسيره المشهور "روح المعاني", ولقي في رحلته من الإكرام ما أنساه غلظة الوالي، وسجل رحلته بعد عودته لبغداد في ثلاثة كتب. كان سريع الخاطر، منطلق الذهن في الكتابة والتحرير، وقيل: إن أقل ما كان يكتبه في الليلة من مؤلفاته ورقتان كبيرتان، وله عدة كتب في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة، ومن أشهرها: 1- روح المعاني في التفسير, وهو تسعة أجزاء, ويعد خير كتبه, ومن أحسن التفاسير المتداولة، وقد طبع مرةً على نفقة ولده السيد نعمان خير الدين بمطبعة بولاق بمصر سنة 1301هـ.

2- شرح السلم في المنطق. 3- كشف الطرة عن الغرة، وهو شرح على درة الغواص للحريري. 4- وله كتاب في المقامات, طبع في كربلاء. ومن نثره يصف القسطنطينية: "بلدة مونقة الأرجاء, رائعة الأنحاء، ذات قصور تضيق عن تصويرها الأذهان، وتتجاذب الحسن هي وقصور الجنان، وربة رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، وقد تغنت أطيارها فتمايلت طربًا أشجارها، وبكت أمطارها فتضاحكت أزهارها، وطاب نسيمها، فصحَّ مزاج إقليمها, وليتك رأيت ما فيها من الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق حمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحلّ، فلما رويت من الصهباء أشجارها، رنحها مع النسيمات المسكية خمارها، فتدانت ولا تداني المحبين، وتعانقت ولا تعانق العاشقين، يلوح من خلالها شقيق، كأنه جمرات من آثار حريق، ويتخللها بهر يبهر ناظره. وكأن النرجس الغض بها ... أعين العين وما فيهن غمض ومن نثره قوله يحذر أولاده من الدجاجلة وأبالسة التضليل: "يا بني! بعض الناس ذئاب، عليهم من جلود الشاة ثياب, فلا تخدعوا بمتماوت تغنجت كالهلوك كلمته، ولانت كالصعلوك عريكته، وولع الذبول بقمامته، فتناطحت تفاحة كتفه ورمانة هامته، وربما لزق ذقنه بصدره، وأصاخ بسمعه نحوه بسره، وحمل سبحة من ذوات الأذناب, وجعلها شبكةً، وأعمل فيها سبابته تنقر حباتها كما تنقر الحب الديكة. قريب الخطو تحسبه لهون ... وليس مقيدًا يمشي بقيد فوأبى! لقد رأيت في هؤلاء المتماوتين من هو أَمَرُّ من أبي مرة، وأضر منه بألف مرة.

وقد جربتهم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن تستجير1 ومن شعره قوله في العراق: أهيم بآثار العراق وذكره ... وتغدو عيوني من مسرتها عبرى وألثم أخفافًا وطئن ترابه ... وأكحل أجفانًا برتبته العطرى وأسهر أرعى في الدياجي كواكبًا ... تمر إذا سارت على ساكني الزورا وأنشق ريح الشرق عند هبوبها ... أداوي بها يا مي مهجاتي الحرا ومنه قوله: وإذا الفتى بلغ السمك بفضله ... كانت كأعداد النجوم عداه ورموه عن حسد بكل كريهة ... لكنهم لا ينقصون علاه ومن المعاصرين لأبي الثناء الألوسي الشاعر الأخرس البغدادي، وقد اشتهر بشعره الثائر على الأوضاع الفاسدة ببغداد، وهناك مقطوعة قصيرة قالها حوالي سنة 1803, يصور بها العراق بأنه صار موردًا عذبًا للكلاب، بينما تذاد الأسود عن نميره، ولم يعد يجد الأحرار فيه موئلًا، بل ضاق بكل حر أبي, وتحكم فيه الأوغاد والطغاة. ودهر أعاني كل يوم خطوبه ... وذلك دأبي يا أميم ودأبه مسوق إلى ذي اللب في الناس رزؤه ... ووقف على الحر الكريم مصابه وحسبك مني صبر أروع ماجد ... بمستوطن ضاقت بمثلي رحابه تذاد عن الماء النمير أسوده ... وقد تبلغ العذب الفرات كلابه وأعظم بها دهياء وهي عظيمة ... إذا اكتنف الضرغام بالذل غابه متى ينجلي هذا الظلام الذي أرى ... ويكشف عن وجه الصباح نقابه؟

_ 1 تجد نماذج لشعره في كتاب "أعلام العراق" لمحمد بهجة الأثري, ص24, وما بعدها.

وتلمع بعد اليأس بارقة المنى ... ويصدق من وعد الرجاء كذابه ومن لي بدهر لا يزال محاربي ... تفل مواضيه وتنبو حرابه عقور على شلوى يعض بنابه ... وتعدو علينا بالعوادي ذائبه1 تعقيب: ذكرنا آنفًا أن هذا الأدب وليد العصر السابق، وأنه لم يتأثر أدنى تأثر بالحركة العلمية التي حمل محمد علي لواءها في مصر، كما رفع رجال الإرساليات التبشيرية هذا اللواء في بعض بلاد الشام؛ لأن هذه الحركات فضلًا عن أنها كانت في بدء نشأتها، بحيث لم يستفد بها هؤلاء الرجال الذين ترجمنا لهم، والذين هم خير من أنجب عصرهم، فإن هذه الحركات كانت علميةً لا تُعْنَى بالأدب إلّا القليل. والنماذج التي أوردناها لهؤلاء الأدباء من شعرٍ ونثرٍ, تفصح عن تعلق أكثرهم بتلك الحلى المتكلفة, والزخارف اللفظية، والمعنوية، والتي تضحي بالفكرة في سبيل المحسن المقصود، والفكرة في ذاتها ضحلة، والخيال يكاد يكون معدومًا، وما بها من معنًى فهو مأخوذ من السابقين، وليته ظهر واضحًا كما ظهر عند المتقدمين من الشعراء، ولكنه توارى تحت ستارٍ كثيفٍ من المحسنات الثقيلة، والنسج ضعيف إلّا القليل. وأما الأغراض فهي تلك المقاصد التقليدية التي صار عليها الأدباء من قديم، ولم يظهر فيما رأينا أية بادرة للروح القومية ويقظة الشعوب، والأغراض العامة، وإفصاح الشاعر عما يجيش في نفسه هو من حزنٍ وألمٍ، وفرحٍ ولذةٍ, مما يلاقيه في الحياة، بحيث يبدو مستقلًّا في شخصيته عن أميرٍ يُمْدَحُ، أو عظيم يُرْثَى، وربما كان عند بعض شعراء الشام أو العراق في ذلك الوقت -كما رأيت- كلف بالطبيعة ووصفها؛ لأن الشاعر الحساس لا يملك أن يغمض عينه مهما كانت من الضعف, أو ألا ينجذب ذوقه مهما كان عليه من المرض، أمام هذه الطبيعة الفياضة بالفتن والمحاسن في بلاد الشام، والطبيعة ثمة تغري على القول: تبدل كل آونة لبوسًا ... خيال العبقري به يضل بيد أن وصف الطبيعة، وإن دلَّ على حسٍّ مرهفٍ، وتأثرٍ بجمالٍ، فإن الصياغة والمعاني تئن من الضعف والركة، ولم يلم لهم إلّا القليل مما تبدو عليه آثار العافية والصحة والجمال.

_ 1 مجموع الأخرس, ص88-90, والديوان ص52-54.

التأليف في عصر محمد علي

5- التأليف في عصر محمد علي: رأينا عند الكلام على الترجمة، أن النهضة الحديثة ابتدأت، والبلاد في فقرٍ عقليٍّ شنيع، وظلامٍ مطبقٍ دامسٍ، وليس ثَمَّةَ إلّا بصيص ضئيل من النور يشع من الأزهر، بيد أن أهله كفوا على كتب الأقدمين يدرسونها بطريقتهم العقيمة، ولم يكونوا على علمٍ بما وصلت إليه أوروبا من علمٍ وحضارةٍ، بعد أن جاء نابليون، ومعه العلماء الأفذاذ والباحثون العظام، بل ظلَّ الأزهر كما هو غارقًا في أحلامه القديمة، وإن اعتمد عليه محمد علي في اختيار أعضاء البعثات منه أول الأمر, وأخذت النهضة تسير في طريقٍ مختلفةٍ عن طريق الأزهر، ولم يشأ محمد علي أن يغيِّرَ من نظم الأزهر شيئًا؛ بحيث توافق مقتضيات العصر، وحاجات النهوض، بل أنشأ نظامًا علميًّا جديدًا, هو ذلك النظام المدني في التعليم الذي نجني ثمرته اليوم، وذلك أن تغيير الأزهر وتحويله إلى النظام المدنيّ عملًا شاقًّا، وفيه قضاء على ما للأزهر من سمعةٍ دينيةٍ في نفوس المسلمين في كافة الأقطار، ثم فيه تحدٍّ للشعور الديني الذي كان مسيطرًا على أذهان الناس في الشرق حينذاك. ولم ير محمد علي بدًّا من الاستعانة بعلماء الأزهر وكتب الأزهر في مدارسه الحديثة؛ إذ لم يكن هنالك علماء في غير الأزهر يصلحون لتدريس اللغة والدين، ولم تؤلف فيهما كتب على النهج الحديث، بل كانت الكتب الأزهرية -على ما بها من غموض، ومع أنها في مستوى أرقى من مستوى المدارس الحديثة- هي الشيء الوحيد في الميدان، ولذلك اضطرت حكومة محمد علي أن تقدم الأجرومية, والسنوسية، والألفية، والشيخ خالد، وغيرها من الكتب إلى مطبعة بولاق، فطبعت منها لأول مرةٍ في مصر آلافًا من النسخ, نشرتها في مدارسها الحديثة، وفي الأزهر نفسه.

ولم يكن في هذه الكتب ما يشوق التلميذ, أو يحبب القراءة إليه, أو يعاونه على تفتق ذهنه، واستكمال عدته للتعلم الثانوي؛ لأنها ألفت في عصور ضعف اللغة، وفيها أمثلة بعيدة كل البعد عن بيئة التلميذ وحياته، وطريقة تأليفها عقيمة؛ إذ لا تتدرج مع معلومات التلميذ، وإنما تفرض فيه العلم من أول سطر، وتعرض أمام مشكلاتٍ في الإعراب والعقائد يخالها طلاسم، ويتبرم بها، ويكاد ييأس، كل هذا في عصرٍ كان الكتاب فيه هو كل شيء أمام التلميذ، وليس له إلّا أن يستظهره، فحفظ كتب الدين واللغة، وأعدته الطريقة فاستظهر كتب الحساب والهندسة, وغيرها من الكتب المعروفة، استعدادًا لاجتياز الامتحان. ولم يكن المدرسون وحدهم هم الذين استعارتهم مدارس محمد علي من الأزهر، بل كان ثمة طائفةٌ أخرى، اقتضتها طريقة التدريس على يد المترجمين التي ذكرناها آنفًا1، هذه الطائفة هم المصححون الذين يصححون الأخطاء النحوية والأساليب في الكتب التي تنقل إلى اللغة العربية، ولم يكن هذا العمل سهلًا هينًا، فكثير من المترجمين، وبخاصةٍ في السنين الأولى من إنشاء المدارس، كانوا من السوريين، أو غيرهم من المتمصرين كالأرمن والمغاربة، ولا ريب أن لغتهم كانت على شيءٍ كثيرٍ من الضعف، فقلَّمَا وُثِقَ بكتابتهم وترجمتهم, ولا سيما في موادٍّ لم يدروسها من قبل, هذا إلى أن العلوم الحديثة كانت تنقل لأول مرةٍ من اللغات الأوربية إلى اللغة العربية، وقد هجر الأزهر من زمنٍ بعيدٍ دراسة هذه المواد، فاضطروا إلى مراجعة الكتب القديمة في الحساب والفلك والهندسة والطب، وغيرها من التي ترجمت, أو ألفت في العصر العباسي، وذلك لأن مهمتهم لم تكن قاصرةً على تصحيح العبارة اللغوية، بل تعدتها إلى اختيار الكلمات الفنية المناسبة. وقد أفادت اللغة العربية من عملهم هذا فائدة جليلة، وحين أعجزتهم الترجمة، ولم يهتدو إلى مقابل للكلمة الأجنبية في العربية عمدوا إلى تعريبها، وتركوها كما هي, مع تحريفٍ يسيرٍ يناسب اللسان العربيّ، أو بدون تحريف.

_ 1 راجع ص22 من هذا الكتاب.

وبذلك ازدادت ثروة اللغة العربية، واتسع أمامها المجال لدراسة المواد الحديثة وتعريبها والتأليف فيها، وقد ألف بعضهم في ذلك كتبًا تعين المترجمين والمؤلفين؛ مثل الشيخ: محمد عمر التونسي في كتابه "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية". كان لابد لمصر في أول نهضتها من الاعتماد على هذا القبس الضئيل الذي يشعُّ من الأزهر، ولقد رأينا إلى أي حدٍّ كان هذا الاعتماد، ولكن حين استطاع نظام محمد علي أن يقف على قدميه, ويؤتي ثمرته، ويتخرج في مدرسة الهندسة والطب وغيرها شبابٌ جمعوا بين الثقافتين, حاول محمد علي أن يتخلص من تأثير الأزهر على نظامه، ورأينا في أخريات عهده محاولةً لتأليف كتب في اللغة والدين على طريقة حديثة، وهذه الكتب وإن لم تبلغ مستوى الكتب الأزهرية في الجودة؛ بحيث يمكنها التغلب عليها, إلّا أنها كانت نزعة إلى التحرر من الأزهر، ورأينا أيضا مدرسي الحساب من خريجي الهندسة، وبعض مدرسي اللغات العربية, يؤخذون من نوباغ المتخرجين في مدرسة الألسن. وهكذا ابتدأت الهوة تزداد اتساعًا بين تعليم الأزهر والتعليم الحديث، حتى أوشكت الصلة أن تزول فما بينهما, بل رأينا -على العكس- أن الأزهر يقتبس من النظم الجديدة في التعليم، ويحاول الشيخ العروسي شيخ الأزهر في عهد محمد علي, أن يدخل الطب في الأزهر بمعاونة كلوت بك، لولا أن عاجلته المنية. كان التعليم الحديث في عهد محمد علي بالمجان في كافة المدارس؛ سواء كانت ابتدائية أو ثانوية أو عالية، وكانت الحكومة تنفق على التلاميذ، وتتولَّى أمورهم من مسكنٍ, ومأكلٍ، وملبسٍ، وتجري على كثير منهم الأرزاق والمرتبات, بيد أن الأهالي لم يطمئنوا إلى إسلام أولادهم للمدارس والتعليم في بادئ الأمر، بل نفروا من ذلك نفورًا شديدًا، حتى لجأت الحكومة في بعض الأحيان إلى إدخال التلاميذ في المدارس قسرًا.

ولكن ما لبثت الناس في مصر أن لمسوا فائدة التعليم، وكيف ينقل أولادهم من حال الضعف الجسمي والعقلي والخلقي، إلى مستوًى رفيعٍ من الحياة, فأقلعوا عن المعارضة، بل أقبلوا على التعليم بنفوس راضية. وقد بلغ عدد التلاميذ في عهد محمد علي بجميع مدارس القطر المصريّ على اختلاف أنواعها, تسعة آلاف تلميذ، تتولى الحكومة النفقة عليهم في كل شيء، وتعطي لهم بعض الرواتب1. كانت نهضة محمد علي علميةً حربيةً -كما مر بنا؛ لأن البلاد في رأيه لم تكن في حاجة للآداب حاجتها للعلوم والنهوض بالجيش، ومسايرة الحضارة الأوربية العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفنون العسكرية، وكان محمد علي نفسه يؤثر اللغة التركية على اللغة العربية في التعليم أول الأمر، ولكنه اضطر إلى أن يجعل اللغة العربية لغة الدراسة، فكانت هذه الخطوة الأولى في إحياء اللغة، ثم أنشأ مطبعة بولاق سنة 1822 -كما ذكرنا، قد عكفت منذ عصره حتى اليوم على إحياء الكتب القديمة, وإن كان اهتمامها بكتب الآداب في عهد محمد على زهيدًا؛ لأنها كانت في شغل بطبع مؤلفات رجال البعثات في الفنون التي تخصصوا بها، ولم تتجه إلى إحياء التراث العربيّ القديم إلّا في عصر إسماعيل -كما سيأتي. وأغلب الكتب التي ظهرت في عصر محمد علي كانت كتبًا مترجمةً في شتَّى العلوم والفنون، ولم تؤلف إلّا كتب قليلة ليست ذات شأن، مثل كتب الرحلات التي دَوَّنَ فيها أعضاء البعثات مشاهداتهم بأوربا، ككتاب رفاعة بك "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وما شاكله, أما الكتب العلمية البحتة فكان أغلبها ترجمة، وقد اننتشرت هذه الكتب كثيرًا بتشجيع محمد علي لمترجميها ومكافأتهم مكافأة سخية، وبطبعها على نفقة الدولة في مطبعة بولاق.

_ 1 راجع كتاب "لمحة عامة إلى مصر" تأليف كلوت بك, ج2 ص519, وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي, ص451 ج3.

ويروى عن محمد علي أنه لما عاد أعضاء البعثة الأولى إلى مصر استقبلهم بديوانه بالقلعة، وسلَّمَ كلًّا منهم كتابًا بالفرنسية في المادة التي درسها بأوربا، وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب إلى العربية، وأمر بإبقائهم في القلعة، وألّا يؤذن لهم بمغادرتها حتى يتموا ترجمة ما عهد به إليهم، فترجموها، وأمر بطبعها وتوزيعها على المدارس التي وضعت لها تلك الكتب1. وكان للوقائع المصرية التي أنشأها محمد علي فضلٌ في تذليل الأسلوب العربيّ للأخبار الصحفية، وكانت على عهده تنشر أخبار الحكومة ومصالحها, وبعض الأنباء الخارجية, وكان يحررها نوابغ العلماء في عهده. كل هذا ولا شك قد مهد اللغة نوعًا ما للعصر الثاني في النهضة, وهو عصر إسماعيل, وهيأ جيلًا من العلماء والمفكرين، ومحبي الفنون والآداب، قادوا مصر في عهد إسماعيل إلى مدى واسع من الرقيِّ والتعليم. على أن النهضة السورية اتجهت وجهةً أدبيةً من أول أمرها بخلاف النهضة المصرية، وقد وقفنا على الدوافع التي حولت نهضة مصر إلى وجهة علمية، أما الأسباب التي جعلت نهضة سورية أدبيةً، فهي أن المبشرين كانوا حملة مشاعل تلك النهضة أول الأمر، وكان همهم نشر التعاليم الدينية طبقًا للمذاهب المسيحية الغربية، وقد عنوا بترجمة التوارة، وظلَّ الجدل الدينيُّ مسيطرًا على الصحافة السورية ومجالس الأدب ثمة ردحًا طويلًا من الزمن، ولعل هذا يعلل لنا سبق السوريين في الصحافة, وإتقانهم لإخراجها وتبويبها، وقد ظهرت ثمرة هذا الميل الأدبيّ عند السوريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولنا إليه عودة.

_ 1 راجع تاريخ الحركة القومية للرافعي, ج3 ص537.

الفصل الثاني: النهضة

الفصل الثاني: النهضة التعليم ... الفصل الثاني: النهضة النهضة: عصر إسماعيل على الرغم من مساوئه السياسية والاجتماعية, هو العصر الذي أينعت فيه النهضة الأدبية، وأورقت، وبشَّرَت بثمارٍ طيبةٍ حلوةٍ، وكان عهده الباب الذي دلف منه الأدب إلى الرياضة الغناء في عصرنا الحاضر, وذلك لأن إسماعيل وضع أسسًا متينةً لنهضةٍ شاملةٍ، بعد أن مضت فترة ركودٍ كادت تعصف بما غرسه محمد علي، وتعود بمصر القهقريّ إلى عصور الظلمات، وذلك أيام الواليين عباس وسعيد؛ إذ كانا من دعاة الرجعية، فألغى عباس حين توليته كل المدارس العالية إلّا المدرسة الحربية. والأدب في عصر إسماعيل مدينٌ في نهضته ورقيه وسيره نحو التحرر من أغلال الماضي في صورته ومعناه إلى عدة عوامل لا نستطيع إغفالها، أو التقليل من أثرها، وسنلقي عليها نظرةً عاجلةً، حتى يكون إدراكنا لتطور الأدب في مصر والبلاد العربية إدراكًا صحيحًا. 1- التعليم: استوى إسماعيل على أريكة مصر سنة 1863، وما بها إلّا مدرسة ابتدائية واحدة، ومدرسة حربية، وأخرى طبية, وثالثة للصيدلة، وأوقفت البعثات، واستغنى عن خدمات من عاد من رجالها، وكان إسماعيل ذا طموح، ترسَّم في نهضته إلى حدٍّ ما خطوات جده محمد علي، وأراد أن يرى مصر قطعةً من أوروبا في ظرف وجيز، فأعاد البعثات سيرتها الأولى, حتى بلغ عدد أعضائها في عصره اثنين وسبعين ومائة، فأعاد مدرسة البعثات بباريس؛ لأنه عرف فائدتها أيام أن كان طالبًا هناك. وأخذت الحياة تدب إلى كل أنواع التعليم، فأعيدت المدراس العالية التي كانت على عهد محمد علي كالهندسة والطب، وزيد عليها مدرسة الحقوق، وكانت تسمى مدرسة: الإدراة والألسن, "بدلًا من مدرسة الإدارة القديمة".

وقد أسهمت مدرسة الحقوق في النهضة اللغوية والأدبية، فالمذكرات التي يعدها المحامون، ووكلاء النيابة، ولغة المرافعات والدفاع، والخطابة القانونية, قد تحسنت كثيرًا, وأدخلت في اللغة كلمات عديدة لم تكن مستعملةً من قبل. وظلَّ رجال الحقوق والقانون يقودون مصر في ميدان السياسة حقبةً طويلةً من الزمن، ولكنَّهم وللأسف قد أثروا بعقليتهم الجدلية، وتبريتهم النظرية، وإصلاحاتهم القانونية اللفظية في حياة الأمة أثرًا بليغًا، وأبعدوها عن جادة الصواب، وألقوا بها في لجةِ الجدلِ والتناحر الحزبيِّ، والتشدق بالإصلاح, ونأوا بها عن الحياة العلمية المنتجة، وعلى هذا الموضوع ليس يعينا في كتابنا هذا، وإنما الذي يلفت أنظارنا هو نهضة الخطابة واللغة على يد من تَخَرَّجَ في هذه المدرسة, ولا سيما في عصرنا الحاضر. ومن المدارس التي أنشئت في عهد إسماعيل، وكان لها أكبر الفضل في نهضة اللغة العربية والآداب, مدرسة دار العلوم, التي أشار بها علي مبارك، وافتتحها في سنة 1871, وقد رأينا ما كانت تعانيه مدارس محمد علي الحديثة من فقرٍ في الكتب المدرسية المنظمة, والمدرسين الأكفاء، الذين جمعوا بين العلم القديم والحديث، وعرفوا النظام، ونالوا حظًّا من طرق التربية, وأن ذلك الفقر التربويّ كان معوقًا لنهضة الآداب، بيد أن دار العلوم سدت هذا الفراغ، فقد كان طلبتها يُخْتَارون من متقدمي طلبة الأزهر ونابغيهم، وينشئون تنشئةً لغويةً وأدبيةً وشرعيةً, مع قسطٍ وفير من العلوم الحديثة، وطرق التربية. ولقد أدت دار العلوم ورسالتها للأمة واللغة وللدين على الوجه الأكمل، فحفظت اللغة وصانتها، وقوتها وأيدت دعائمها، وأحيت مواتها، وجددت في أساليبها، ونفضت عن تراثها المجيد غبار القرون، وقدمته للناس رائعًا جذابًا، وعكف أبناؤها على تعليم النشء، وتقويم ألسنتهم, وتدريب أقلامهم، وتزويدهم بذخائر نفيسة من مختارات الشعر والنثر، وتقديم الكتب التي تنهج نهجًا علميًّا نفسيًّا يتمشى مع الطفل وملكاته وغرائزه، فكانت بحقٍّ خير ما أسدى علي مبارك من خدمات للغة العربية.

ولا تزال دار العلوم تقوم بنصيبها الوفير في نهضة التعليم واللغة، وتعتمد عليها جامعتا القاهرة والإسكندرية وعين شمس في دارسة الآداب والنصوص وقواعد اللغة، وما زال بنوها في الطليعة من الكُتَّابِ والمؤلفين, يجارون بتأليفهم تيار النهضة الحديثة، ويمشون مع الزمن خطوةً خطوةً، وقد تَخَرَّجَ على أيديهم زعماء النهضة في كل ميادين الحياة. وفي عهد إسماعيل, أنشئت أول مدرسة للبنات، وذلك في سنة 1873, حيث أسست السيدة "جشم آفت هانم" ثالثة زوجات إسماعيل, مدرسة السيوفية، وكان بها حين افتتاحها مائتا تلميذة، وبلغ عددهن في السنة الثالثة أربعمائة تلميذة, يتعلمن بالمجان, فضلًا عن القيام بمأكلهن وملبسهن، وكنَّ يتعلمن القراءة والكتابة ويحفظن القرآن الكريم، ويدرسن الحساب والجغرافيا والتاريخ والتطريز والنسيج. وقبل مدرسة السوفية كانت البلاد خُلُوًّا من مدرسةٍ للبنات, إلّا مدرسة للولادة، ولم يشغها إلّا البنات الحبشيات، واستنكف المصريات من دخولها، ومدرسة إنجليزية أسستها مس "وتلي" سنة 1806, وقد نجحت بعد عشر سنواتٍ من الجهاد, في جذب كثير من الفتيات المصريات إليها، وكذلك كان الجهل متخذًا من رؤوس فتيات مصر ونسائها أعشاشًا، إلّا مَنْ حرص أهلها على تعلميها في البيت، وقليل ما هن. وقد خطا تعليم البنات منذ مدرسة السيوفية خطواتٍ واسعةٍ في مصر، وتعددت ألوانه ومدارسه، وزاحمت الفتاة الفتى في الجامعة، واقتحمت الكليات المستعصية، ولست هنا في مقام النقد، ومناقشة طريقة تعليم الفتيات ذلك التعليم النظريّ، ومنافسة البنين في كل شيء, ولكن مما لا شك فيه أن تعليم المرأة ونهوضها دعامة متينة في النهضة الاجتّماعية والأدبية، والأم المتعلمة تربأ بابنها أن يكون فريسة الجهل، وتسعى في جهدها أن تنيله حظًّا مهما كان يسيرًا من نور العلم. وقد أنشأت الحكومة بجانب هذه المدارس كثيرًا من المدارس الصناعية

والخصوصية، كمدرسة المساحة والمحاسبة، ومدرسة الزراعة، ومدرسة العميان والبكم. أما عن المدارس الابتدائية: فقد زاد عددها, بلغ أربعين مدرسة، وقد صار للأقباط زيادة على ذلك اثنتا عشرة مدرسة، وافتتحوا مدرستين لتعليم البنات، واحدة بالأزبكية والأخرى "بحارة السقايين" وقد وهبهم إسماعيل ألفًا وخمسمائة فدان, ينفق ريعها على مدارسهم. وأنشأ الحكومة كذلك عدة مدارس ثانوية؛ منها مدرسة رأس التين في سنة 1862, والمدرسة الخديوية سنة 1868، وأعادت ديوان المدارس، وهو نواة وزارة التربية والتعليم, بعد أن ألغاه سعيد، ليشرف على التعليم ويرعاه، ويدخل على نظمه وأساليبه التحسينات التي تساير الحياة. ومن الوسائل التي ساعدت على النهضة الأدبية والعلمية في عصر إسماعيل دار الكتب، وناهيك بما لها من أثر في نشر العلم وتحبيب الاطلاع وتسهيله، ومعاونة المؤلفين والباحثين, ومساعدة الناشرين والطابعين على استنساخ نفائس الكتب وإشاعتها بين الناس. لقد كانت الكتب قبل ذلك مبعثرةً في المساجد, يتولى أمرها خدمٌ لا يقدرونها قدرها؛ ففرطوا فيها، وتسرَّب كثير من كنوزها الأدبية والعلمية إلى مكاتب أوربا، وأهين كثير من الكتب القديمة باستعمالها في دكاكين البدالين وغيرهم. همَّت الحكومة بتأسيس دار الكتب؛ فجمعت هذه الكنوز المبعثرة في المساجد والتكايا والزوايا والأضرحة وغيرها, وضمت إليها ألفي كتابٍ اشترتها من مكتبة المرحوم حسن "باشا" المانسترلي، ولما مات شقيق الخديو إسماعيل, الأمير مصطفى فاضل، وكان من أكبر هواة الكتب في الشرق، ابتاعت الحكومة من مكتبته ما يربى على ثلاثة آلاف كتاب، وضمتها إلى دار الكتب، فكان ذلك نواةً لهذه المؤسسة العظيمة، التي أخذت بعد ذلك تنمو وتزداد, وتجلب لها الكتب من الشرق والغرب، وتضم إليها المكتبات الكبيرة, مثل مكتبة المرحوم أحمد تيمور وغيرها. وقد ضم القسم الأدبيّ الذي كان يشرف على إحياء الكتب القديمة بمطبعة

بولاق إلى دار الكتب، وعكف منذ سنين على تصحيح وإخراج أمهات الكتب الأدبية من أمثال: الأغاني، ونهاية الأرب، والنجوم الزاهرة، ... وغيرها. 2- الجمعيات العلمية: إذا كثرت الجمعيات العلمية في أمةٍ دل ذلك على حيويتها ويقظتها، ورغبتها في السير نحو الكمال، وغير معتمدةٍ على الحكومة في غذائها العقليّ، فإذا اضطرب أمر الحكومات، أو وليها من لا يحسن القيام بشئون الحكم، لا يصاب الشعب بالشلل العقليّ، ولكن يمضي في طريقه قُدُمًا، ويتثقف ويستعد للنضال في سبيل الحياة السعيدة, بهمم أفراده اليقظين, والجمعيات القوية المنظمة. وقد بدأت تباشير هذه اليقظة العقلية في عهد إسماعيل, وبرهنت مصر على أنها آخذةً بأسباب النهضة الصحيحة، وأنها مستعدةً للنضج الفكريّ، ولو توانت الحكومة في الإصلاح، أو قصرت في الأخذ بأسبابه، ومن أوائل من عنوا بنشر الكتب القديمة والمخطوطات: 1- المرحوم رفاعة الطهطاوي متأثرًا بطريقة صديقه المستشرق الفرنسيّ "سلفستر دي ساسي"، وعن مجهود رفاعة في إحياء الكتب القديمة يقول العلامة علي مبارك: "ولرغبته في نشر العلوم، وسعة دائرتها، وحبه عموم النفع بها، استدعى مع بعض أفراد الحكومة المصرية من المرحوم سعيد باشا, وكان له ميل إلى المترجم -رحمه الله، صدور الأمر بطبع جملة كتب عربية على طرف الحكومة، عم الانتفاع بها في الأزهر وغيره, منها: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية، وغير ذلك من الكتب التي كانت عديمة الوجود في ذلك الوقت فطبعت1". 2- المجمع العلمي: وقد أسس على عهد الفرنسيين سنة 1798، وألغي عند

_ 1 الخطط التوفيقية, ترجمة رفاعة ج13, ص55-56.

جلائهم, ولكنه أعيد في عصر سعيد، وظلَّ يعمل مدة حكم إسماعيل، مؤديًا رسالته في نشر المباحث العلمية. ولا يزال حتى اليوم قائمًا، وإن تغير اسمه إلى مجلس المعارف المصريّ, ومقره وزارة الأشغال، وله مجلة تنشر أبحاثه, وقد تكلمنا عنه آنفًا1. 3- جمعية المعارف سنة 1868، وهي أول جمعيةٍ علميةٍ مصريةٍ ظهرت لنشر الثقافة عن طريق التأليف والترجمة والنشر، وأسسها محمد باشا عارف, وأسهم في تأسيسها عددٌ كبيرٌ من أعيان البلاد، وقد اقتنت مطبعة، وقامت بطبع طائفة من أمهات الكتب في التاريخ والفقه والأدب2. ولقيت الجمعية تشجيعًا عظيمًا, حتى بلغ عدد أعضائها ستين وستمائة عضوٍ من الطبقة الممتازة في الأمة3. وظلَّت الجمعية تعمل، وتؤدي رسالتها الثقافية, إلى أن اشتد النزاع السياسيّ بين الخديو إسماعيل، والأمير عبد الحليم؛ لتنافسهما على أريكة مصر، وكان عارف باشا من أنصار حليم باشا، ففرَّ إلى الآستانة خوفًا من إسماعيل، وبذهابه انحلت الجمعية، وكان عارف أديبًا، ويروى له قوله: ألم تعلم بأن سماء فكري ... تلوح بأفقها شمس المعارف تفرس والدي في المزايا ... فيوم ولدت لقبني بعارف 3- الجمعية الجغرافية سنة 1875، وتعد من أهم المنشآت العلمية بمصر، وتُعْنَى بالأبحاث الجغرافية والعلمية وتدوينها، ونشرها, ولها مجلةٌ دوريةٌ تنشر أبحاثها، وما تقوم به من اكتشافات، ولا تزال قائمة إلى اليوم. 4- الجمعية الخيرية الإسلامية، أنشئت أول الأمر بالإسكندرية سنة 1878، حين دفعت الحماسة جماعة من المتعلمين بالثغر -رأوا طغيان الأجانب، واشتداد نفوذهم، واستئثارهم بمرافق البلد- إلى تأسيسها, وكانت تعقد الاجتماعات ليلًا, ويتبادل أعضاؤها الخطب، وقبيل افتتاحها انضم إليهم السيد عبد الله نديم، فكلفته الجمعية العمل على تأسيس مدرسةٍ حرةٍ يتعلم فيها أبناء المسلمين, وينشئون تنشئةً صالحةً، وظلت الجمعية والمدرسة تتقدمان حتى قامت الثورة العرابية, فتفرق القائمون بأمرها. وقد أنشيء على غرار هذه الجمعية التعلمية جمعية باسمها في القاهرة، وأخرى بدمياط، أما الجمعية الحالية, فقد أسست سنة 1982, على غرار الجمعية الأولى حين اشتدت الحاجة إليها, وكان الداعي إلى تأسيسها الإمام الشيخ محمد عبده، وسنعود إلى الكلام عنها في ترجمته -إن شاء الله.

_ 1 راجع ص16 من هذا الكتاب. 2 من هذه الكتب: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير في خمسة مجلدات، وتارج العروس من شرح جواهر القاموس، وتاريخ ابن الوردي، وشرح التنوير على سقط الزند، وديوان ابن خفاجة, وديوان ابن المعتز، والبيان والتبيين للجاحظ، وشرح الشيخ خالد على البردة، ورسائل بديع الزمان الهمذاني, وغير ذلك من الكتب. 3 كان من أعضائها: إبراهيم المويليح، وأحمد فارس الشدياق، والشيخ حسونة النواوي، والدكتور محمد شافعي، ومصطفى رياض، والشيخ بدراوي عاشور، وتجد ثبتًا بأسماء أعضاء الجمعية، في آخر "الفتح الوهبيّ" وراجع كتاب عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي, ج1 ص256، وجورجي زيدان في كتاب آداب اللغة ج4 ص78.

الصحافة

3- الصحافة: وتعد الصحافة من أقوى عوامل النهوض بالشعب في عقليته، ولغته، وعلمه، والإصلاح الاجتماعيّ الذي يأخذ بيده صواب الكمال، وقد تحررت اللغة من آفاتها القديمة التي ورثتها عن عصور الانحطاط، ولا سيما السجع والمحسنات والزخرف اللفظيّ والركاكة، على يد الصحافة. انقضى عصر محمد علي كما رأينا، وليس بمصر سوى صحيفةٍ واحدةٍ هي الواقائع المصرية، وكانت موضوعاتها قاصرةً على الأخبار الحكومية، ولغتها لا تكاد تستقيم من الركة، ولكننا نشاهد في عصر إسماعيل نهضةً جديدةً واسعةً, عظيمة الأثر في الصحافة. سبق السوريون في بلادهم بإصدار صحف سياسية، وصدرت مرآة

الأحوال, بحلب سنة 1855، وإن لم تعمِّر أكثر من عام واحد، ثم صدرت حديقة الأخبار, ببيروت سنة 1858, وظلت تصدر حتى سنة 1909، وكانت يومًا لسان الحكومة الرسميّ، ثم خطت الصحافة خطوةً أوسع في سبيل الرقيّ بصدور الجوائب لصاحبها أحمد فارس الشدياق, بالآستانة سنة 1860, وقد طلعت على الناس بأسلوبٍ جديد في الكتابة العربية، وافتَنَّ صاحبها في تحريرها، وتخير موضوعاتها. فجمعت بين السياسة والأدب بشتَّى ضروبه وأبوابه, بما في ذلك القصائد البليغة لكبار شعراء العربية، فذاعت، وأقبل الناس على قراءتها بشغفٍ بالغٍ، لم تدع بلدًا عربيًّا، بل إسلاميًّا إلّا دخلته, وقد سافرت كذلك إلى كثير من بلدان الغرب، واقتبسوا منها، وحكو عنها، وظلت تعمل حتى سنة 1884، أما صاحبها: أحمد فارس الشدياق: هو من رواد النهضة الحديثة في الأدب، وممن سبق بفكره، وقلمه، وعلمه, أبناء زمانه لكثرة ما قرأ، وجرب ورأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ لأنه جاب بلادًا عديدة، وعرف لغاتٍ شتَّى، وأفاد مما رأى، ومما قرأ وعرف، فكان نادرةً من نوادر عصره. وُلِدَ بقرية عشقون في لبنان سنة 1219هـ-1804م, من أسرة مارونية مشهورة, ثم انتقل والده إلى قرية "الحدث" بالقرب من بيروت، وتيتم فارس بن منصور "وعرف فيما بعد باسم: أحمد فارس الشدياق" وهو صغير، وكانت تتراءى عليه علامات النجابة؛ فأتقن صناعة الخط، وجعل ينسخ الكتب بنفسه، ولغيره, طلبًا للرزق. وكان له أخٌ يسمى: "أسعد" على حظٍّ وفيرٍ من العلم والذكاء, وعليه تلقى فارس دروسه الأولى، وأفاد منه فائدةً جليلةً, ووجهه وجهةً صالحةً، وغرس في نفسه محبة العلم. ثم اضهد "سعد" من بطريك المورانة، وسيم ألوانًا من العذاب، لتغيير

مذهبه المارونيّ إلى المذهب الإنجيليّ، حتى مات بأحد الأديرة, وهو في عنفوان شبابه, فأثر موته على فارس، وحزَّ في نفسه، فكره الإقامة ببلاد الشام، وأعلن سخطه على المارون، فجدّوا في أثره لينكلوا به، بيد أنه لجأ إلى المبشرين الأمريكيين ببيروت، فأحسنوا مقدمه، وبعثوا به إلى مصر ليعلم أعضاء بعثتهم فيها اللغة العربية. وفي مصر, تعرف على الشيخ محمد شهاب, محرر الوقائع المصرية, فلازمه وقرأ عليه طائفة من كتب اللغة والأدب، وقرأ على غيره كتبًا في المنطق والنحو, حتى تمكَّن من سائر علوم العربية، وتقرَّب من كبار علماء مصر، ومن معية الخديوي، ثم أفسح له مجال الكتابة في الوقائع، فأخذ يدبج فيها المقالات الممتازة بأسلوبٍ جديدٍ لم يألفه المصريون من قبل، وهو الأسلوب المرسل الرصين، ثم أسند إليه تحرير الوقائع مدة. وبعد ذلك سافر إلى "مالطة" سنة 1834, بدعوةٍ من الأمريكان، ليعلِّم في مدراسهم هنالك، فمكث بها أربعة عشر عامًا، عكف في أثنائها على التدريس، والتأليف، ونشر الكتب وتصحيحها، إلى أن طلبته جمعية ترجمة "التوراة" بلندن؛ ليساعد في التعريب والضبط والتنقيح، فسافر إليها سنة 1848، وأقام بها مدةً مكنته من تعلم اللغة الإنجليزية, وتعرف أحوال الإنجليز وبلادهم معرفةً دقيقةً، ثم سافر إلى باريس بعد أن نال الحماية البريطانية، وتجنس بالجنسية الإنجليزية. وقد سجَّل رحلته إلى أوربا في كتابه "كشف المخبا عن أحوال أوربا", وقد ألَّفَ في أثناء مقامه بأوربا كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق" والفارياق لفظ متقطع من "فارس الشدياق". ولما زار باي تونس باريس، ووزَّع في فرنسا كثيرًا من الأموال على الفقراء, مدحه الشدياق بقصيدة طويلة حببته إليه, فاستدعاه للإقامة معه بتونس، وكان قد مدح السلطان عبد المجيد كذلك بقصيدةٍ طويلةٍ حسنت لديه، فاستدعاه للآستانة، ولكنه فضَّل الذهاب إلى تونس أولًا، فأرسل إليه "الباي" باخرةً حربيةً لحضوره عليها. وقد وقعت بينه وبين شيخ الإسلام في تونس مجادلاتٍ في العقائد الدينية

أدت إلى اعتناقه الإسلام, وسمى نفسه: "أحمد فارس"، وتكنَّى "بأبي العباس"، وكان يقول في هذا. "لعمري ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقًا ينفق فيها، ولكن إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا لم يعقه عنه الشعر ولا غيره". وتولَّى عند الباي أرفع المناصب، واشتهر اسمه، فطلبته الآستانة مرةً أخرى، فلبّى الدعوة، وهناك ألحق بديوان الترجمة، وتولّى الإشراف على التصحيح بدار الطباعة. ويقال: إن الخديوي إسماعيل هو الذي أشار عليه في أثناء زيارته للآستانة بإنشاء "الجوائب" وكان معجبًا به، فقام بإنشائها سنة 1861، واشتركت فيها الحكومة المصرية بألفي نسخة. وقد قدم مصر سنة 1866، وهو شيخ هرم، في عهد الخديوي توفيق، فقوبل بكل إجلالٍ وترحابٍ، واجتمع به كثيرون من الأدباء ورجال الصحافة، فبهرهم على الرغم من شيخوخته بتوقد قريحته، وسرعة بديهته، وحلاوة سمره وطلاوته، ورقة حاشيته, ورشيق عبارته، ثم عاد إلى الآستانة, فتوفي بها سنة 1887، ونقلت جثته إلى سوريا, ودفن بقرية الحازمية على مقربة من بيروت. والشدياق من أوئل الذين اهتموا بالأبحاث اللغوية في العصر الحديث، وله كتاب "الجاسوس على القاموس"، وهو كذلك من أوائل الكُتَّاب المترسلين، الذين خاضوا في كل موضوع، وأفادوا الأدب واللغة بأبحاثهم ومقالاتهم، وله عدة كتبٍ, كان لها في زمانه وبعد زمانه شأن يذكر، منها: 1- "الواسطة في أحوال مالطة" وقد وصف فيه هذه الجزيرة وصفًا دقيقًا, وأبان فيه عن أصل اللغة التي ينطق بها زهلها، وبيَّنَ أنها اللغة العربية شيبت بلهجات الغزاة الفاتحين وألحانهم. 2- "كشف المخبا عن أحوال أوربا" فَصَّلَ فيه سياحته في بلاد الإنجليز

وغيرها من الأقطار الأوربية، ووصف عادات الإنجليز وآدابهم، وأخلاقهم، وتاريخ تمدينهم, وسر تقدمهم بأسلوبٍ شائقٍ طليّ. 3- "الساق على الساق فيما هو الفارياق" وهو كتابٌ ممتعٌ، سيق في أسلوبٍ قصصيٍّ, وذكر فيه تاريخ حياته، وأحوال الخاصة، وما عاناه في دهره، وفي معركته مع الحياة والأيام، وخلط فيه الجد بالهزل، والسجع بالترسل، والعلم بالأدب، وأغرب فيه وأطرب، وذهب في تدبيجه وصياغته كل مذهب، طبع بباريس 1855. 4- سر الليالي في القلب والإبدال. 5- "الجاسوس على القاموس" وضعه لاستدراك ما فات الفيروز آبادي في قاموسه, وما وَهِمَ فيه من الألفاظ، وهو مطبوع. 6- "منتهى العجب في خصائص لغة الأدب"، في أسرار اللغة، وخصائص الحروف ومدلولاتها، ولكنه ذهب فريسة النار، وهو بعد مخطوط لم يطبع. 7- "الجوائب" وقد اشتركت فيها مصر بألفي نسخة، وكان باي تونس يمدها بخمسمائة جنيه سنويًا، وتلقت مثل هذه الإعانة من السلطان عبد العزيز، وكانت تصدر أسبوعيًّا، وقد نالت شهرةً عظيمةً -كما ذكرنا آنفًا، وهي الجريدة الوحيدة التي جاهرت بالدفاع عن الخديوي إسماعيل في دار الخلافة, حينما خلع سنة 1879، ورثته يوم وفاته، ولم يخش سطوة الحكومة العثمانية، ويقال: إن السفارة الإنجليزية بالآستانة دفعت لصحابها ألف جنيه، نظير إذاعة المنشور الذي أصدره الباب العالي, فيه عصيان عرابي باشا سنة 1882، وأن ذلك كان من أسباب إخفاق عرابي. وقد جمع سليم بن أحمد فارس منتخبات من الجوائب ونشرها في سبعة أجزاء. 8- لأحمد فارس كتب مدرسية كثيرة منها: الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنجليزية، والسند الراوي في الصرف الفرنساوي، واللفيف في كل معنى طريف. 9- وله ديوان شعر لم يطبع.

وقد عُنِيَ الشدياق -كما رأينا من مؤلفاته- بالأبحاث اللغوية, ومن ذلك كتابه "الجاسوس على القاموس" الذي حاول فيه أن يستدرك على صاحب "القاموس" ماجاء في معجمه من قصورٍ وإبهامٍ وإيجازٍ وريهامٍ وعسرٍ في مراجعة الأفعال ومشتقاتها، وذلك بأن يؤلف في اللغة كتابًا سهل الترتيب, واضح التعاريف، شاملًا للألفاظ التي استعملها الأدباء والكُتَّاب, وكل من اشتهر بالتأليف. وقد دعاه إلى ذلك أمران: أولهما: مزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية واللسان؛ فكادت تجلي عنه أهله، وتحجب عنهم ظله، وتحبس وابله وطله؛ لأن ترتيب كتب لغاتهم أسهل, والوصول إليها أعجل، ولا سيما أنها قليلة المشتقات، وليس في تعريف ألفاظها كبير اختلاف في الروايات، أما من يتعاطون من التجارة، ويحملون عبء الإمارة، فإنهم يزعمون أن اللغة العربية لا تصلح في هذا الزمن لهاتين الخطتين, فلابد بكلام الأجانب وإن أدى إلى الحطتين، فمن ثَمَّ مست الحاجة إلى زيادة تفصيل لمفردات لغتنا ومركباتها، وتبيين لأصولها من متفرعاتها ... إلخ". وثانيهما: رغبة في حَثِّ أهل العربية على حب لغتهم الشريفة، وحَثِّ أهل العلم على تحرير كتابٍ فيها, خالٍ من الإخلال، مقرب كما يطلبه الطالب منها دون كلال، فإني رأيت جميع كتب اللغة مشوشة الترتيب، كثر ذلك أو قلّ, وخصوصًا كتاب "القاموس" الذي عليه اليوم المعول". وقد أثار في هذا الكتاب موضوعاتٍ لا تزال موضع بحثٍ حتى يومنا هذا، وقد حاول في غير هذا الكتاب أن يدافع عن اللغة العربية, وأن يعمل على تزويدها بالمصطلحات الفنية، فهو في الوقت الذي يمتدح فيه اللغة العربية لسهولة ألفاظها ووضوحها, نراه يعترف بأن مفردات العربية غير تامةٍ فيما يتعلق بما استحدث بعد العرب الذين وضعوا اللغة من فنون وصناعات، مما لم يكن يخطر ببالهم، ولكن ذلك في رأيه مما لا يشين اللغة؛ إذ لا يحتمل أن واضع اللغة يضع أسماء لمسمياتٍ غير موجودة, وإنما الشين علينا الآن في أن نستعير هذه الأسماء

الأجنبية, على قدرتنا على صوغها من لغتنا، على أن أكثر هذه الأسماء هو من قبيل اسم المكان أو الآلة، وصوغ اسم المكان والآلة في العربية مطرد من كل ثلاثي". وقد حثَّ على استخدام "النحت" والإكثار منه؛ لإثراء اللغة كما فعلت اللغات الأجنبية الأخرى، وذلك حتى نستغني عن استعمال الدخيل. ومن روائع أدبه قوله يصف مصر في كتابه "الساق على الساق": "ومن خواصِّها أن أسواقها لا تشبه رجالها ألبنه، فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدبًا وكياسة وشمائل، وأخلاقًا زكية, وأسواقها عارية عن ذلك رأسًا. ومنها: أن العالم عالم، والأديب أديب، والفقيه فقيه، والشاعر شاعر، والفاسق فاسق، والفاجر فاجر، ومن ذلك أن البنات اللائي يستخدمن في "الميرى" لحمل الآجر, والجبس, والتراب، والطين, والحجر, والخشب، وغير ذلك، يحملنه على رءوسهن، وهن فَرِحَات، جامحات، سابحات، صادحات، مادحات، وغير ترحات، ولا دالحات1، ولا رازحات، ولا كالحات، ولا نائحات، ومن كان نصيبها من الأجر نظمت عليه "موالًا" أجيرًا، أو من الجبس غنت له أغنية جبيسةً، كأنما هن سائرات في زفاف عروس. ومن ذلك أن "الرنيطة" فيها تَنْمِي وتعظم، وتغلظ وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق، فإذا رأيتها على رأس لابسها حسبتها "شونة"2، قال "الفارياق": وكثيرًا ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان، وبدا للعيان أن مثل هذه الرءوس الدميمة, الضيئلة الذميمة، الخسيسة اللئيمة، المستنكرة المشئومة، المستقذرة المهوعة3 المستقيمة المستفظعة، المستسمجة المستشنعة، والمسترزلة المستبشعة.

_ 1 من دلح كمنع: مشى بحمله متقبض الخطو لثقله، وسحابة دلوح: كثيرة الماء. 2 الشونة: كما جاء في القاموس مخزن الغلال, مصرية. 3 الهوعة: من هوعته ما أكل، إذا قيأته إياه.

هواء مصر، وكبرها إلى هذا المقدار، وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش، ولا توازن ناقورة الفرَّاش، وكيف كانت هناك كالتراب، فأصبحت هنا كالتبر؟ يا هواء مصر، يا نارها، يا ماءها، يا ترابها1 صيري طربوشي هذا "برنيطة"، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل، وأجمل وأمثل، وللعين أبهى وأكمل, وعلى الرأس أطبق, وبالجسم أليق.. قال: فلم يغن عني النداء شيئًا، وبقي رأسي مطربشًا، وطرف دهري مطرفشًا2. ومن خصائصها أيضًا أن البغاث بها يستنسر، والذباب يستصقر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة. ومن ذلك أن كثيرًا من أهلها يرون أن كثيرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والأكدار, أو بالعكس، وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور, كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره, وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال، فما دام النور موقدًا، فلابد أن تفقد الفتيلة، ولا يمكن إبقاؤها إلّا بإطفاء النور، أو كالماء في الوادي, فإذا دام الماء جاريًا فلابد أن ينصب في البحر، فمتى حقن بقي، أو كالفلوس في الكيس، فما دام المفلس أي: صاحب الفلوس يمد يده إلى كيسه، وينفق منه, فني ما عنه, إلّا أن تربط يده عن الكيس، أو يربط الكيس عن يده، فمن ثَمَّ اصطلحوا على طريقةٍ لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حينًا من الأحيان، ليتوفر لهم في غيره، وذلك بشرب شيء من الحشيش، أو بمضغه، أو بالنظر إليه، أو بذكر اسمه، فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم، ويحضر السرور، وتولي الأحزان، ويرقص المكان".

_ 1 يشير بالهواء والنار والتراب والماء إلى العناصر الأربعة, التي كان يعتقد الفلاسفة القدماء أنها أصل المواد. 2 الطرف العين: وطرفشت العين: أظلمت وضعفت، وفلان نظر وكسر عينيه.

وفي الحق لم يدع أحمد فارس شيئًا من أهل مصر وعاداتهم إلّا وصفه وصفًا دقيقًا بذلك الأسلوب المرح، وهذا التهكم المحبوب، وله نظراتٌ نافذاتٌ حين يتكلم على الأجانب, وكيف صار لهم الحول والسلطان، مع أنهم كانوا في بلادهم أفاقين مفلسين، وحين يعبِّر عن فلسفة الحشاشين، وكيف يعملون جادين مخلصين على تغييب العقل، وهو الذي يهدي الإنسان سواء السبيل. وأنت ترى في أسلوبه السجع، والترسل، والسهولة، والتوعر، والكلمات العامية، والكلمات الغريبة التي لا تستعمل إلّا في المعاجم، وكأنه قصد إلى إحيائها، وكما كان يفعل أصحاب المقامات، لولا طرافة الموضوع، وصدق الوصف، ومما يلفت الأنظار في أدب أحمد فارس أنه كان قوي الملاحظة، معنيًّا بأحوال الشعوب وطرق حياتهم، والموازنة بين الشعوب التي زارها, والشعوب العربية، وله فصولٌ ممتعة في كتابه "الساق على الساق" عن الإنجليز وبلادهم، والفرنسيين وأحوالهم، ومما قاله في الموازنة بين الأدب الغربيّ والعربيّ قوله: "فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب، ويجعلونه ضربًا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح، ومقاصده, وفضله على مَنْ تقدَّمَه من الملوك, بتعديد أسمائهم, ولما ترجم "مسيو دوكان" قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا, والي تونس, وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني "هل اسم الباشا "سعاد"؟ وذلك لقولي: "زارت سعاد وثوب الليل مسدول" فكنت أقول: لا، بل هو اسم امرأة, فيقول السائل: "وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟ " وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب، قال العلامة الدسوقي: "اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسانٍ أن يذكروا قبله الغزل؛ لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر، والمبالغة في الوصف، وترويح النفس ورياضتها" قلت: كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة، كذلك ينكرون المبالغة في وصف الممدوح, وأما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد، والطود، والبدر، والسيف، فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم، وبأن عطاياه تصل إلى البعيد، فضلًا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم، فإنما يمدحونهم للناس، لا لأن يصل مدحهم إليهم".

ومن فكاهاته التهكمية، ونقداته اللاذعة, ما قاله عن علم النحو وتعلمه، قال أحد التلميذين: ألا قبحًا لذوي الخواطر البليدة، والفطن البعيدة، وكيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو، وهو أسهل من حك ما تحت الحقو، أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيرًا ولا صغيرًا إلّا استوعبته كله، ولكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح العلوم، ولا يعد منها فلابد أن يكون غيره أصعب منه. فقال له معلمه: لا تقل هكذا, بل النحو أساس العلوم، وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس، ألَا ترى أن أهل بلادنا لا يعلمون سواه، ولا يعرجون على غيره؟ وعندهم أن من تَمَكَّن منه, فقد تَمَكَّن من معرفة خصائص الموجودات كلها, ولذلك لا يؤلفون إلّا فيه, وإنما يحصل فيه خلاف بنيهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهمًا منه بأدلةٍ وشواهد، واختلفوا أيضًا في الشواهد، فمن قال إنها مفتعلة، ومن قائل إنها ضرورة أو شاذة، بيد أن المآل واحد، وهو أن العالم لا يسمى عالمًا إلّا إذا كان متمكنًا من النحو, مستقصيًا لجميع وقائعه، ولا يكاد يستتب أمر إلّا به, ولو قلت مثلًا: ضرب "زيد عمرو" من غير رفع زيد, ونصب عمرو، فما يكون ضربه حقًّا، ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار، فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعًا، وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع, فهي خالية عن الإفادة التامة، وإنما يفهم الناس بعضهم بعضًا من دون هذه العلامة, عن دربة واتفاق، فلا معول على كتبهم وإن كثرت، ولا على علومهم وإن جلت". وأخذ المعلم يثني على النحو ثناءً عظيمًا، ويبين أنه هداه إلى مسألةٍ حار فيها حيرةً عجيبةً، فسأله تلميذه: وما هذه الفائدة يا أستاذي؟ قال: قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس، فكنت أميل إلى ما قالته الفلاسفة، ومن أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناهٍ، فلما رأيت النحو له ابتداء، وليس له انتهاء قست النفس عليه فزال عني والحمد لله ذلك الإبهام" وفي هذا الكلام لذعات حادة للنحاة لا تخفى على اللبيب.

وهكذا نجد أحمد فارس في كل ما كتبه يخلط الجد بالهزل، ويتهكم تهكمًا مريرًا على الأوضاع التي لا تروقه، وقد قال عن كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق": هذا كتابي للظريف ظريفًا ... طلق اللسان وللسخيف سخيفًا أودعته كلمًا وألفاظًا حلت ... وحشوته نقطًا زهت وحروفًا وبداهةً وفكاهةً ونزاهة ... وخلاعةً، وقناعةً وعزوفًا كالجسم فيه كل عضوٍ تعشق الـ ... مستور منه وتحمد المكشوفا فصلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفًا وقد وضع أحمد فارس كل تجاربه وعلمه وفنه، وقلمه الظريف القوي المتمكن من مختلف أساليب اللغة في إخراج "الجوائب" فكانت من الصحف الأولى في العالم، وله يرجع فضل السبق في تعبيد العربية وتذليلها بأسلوبه المرسل الطليق، كما أنه من أوائل الذين مُلِئَت قلوبهم بغضًا للأجانب, فهم عن حق أغراضهم الدنيئة، وسلقهم بلسان حاد، وحَرَّضَ على إخراجهم من ديار العرب والشرق, وقد خَصَّ مصر بحبٍّ وفيرٍ، وكان مثلًا في الصحافة انتهجه المصريون، وحذوا حذوه, فلا بدع أن كان من رواد النهضة الحديثة. كل ذلك حفَّزَ المصريين إلى الاهتمام بالصحافة، ووجدوا من إسماعيل صدرًا رحبًا للنقد السياسيّ, اللهم إلّا ما يمس شخصه، فلصحابه الويل والثبور كما حدث لمدير الأهرام سنة1889، حين أشار إلى مالٍ صرف من الخزينة، ولم يعلم مصيره، وكاد إسماعيل يبطش به، وبجريدته, لولا أن ارتمى في حضن فرنسا فحمته، كما وجدوا إسماعيل تشجيعًا للحركة الأدبية, وميلًا للأدب والفن والعلم, ومن الصحف المصرية التي ظهرت في عهد إسماعيل: 1 - مجلة اليعسوب: وهي أولى هذه الصحف المصرية، وهي مجلةٌ طبيةٌ أصدرها الدكتوران: محمد علي البقلي، وإبراهيم الدسوقي، وكانت شهرية عربية اللغة، وهذا يدلنا على عظم المحاولة التي ان يبذلها أطباء البعثات العلمية في تذليل اللغة العربية للمصطلحات العلمية, والاستعانة بالكتب القديمة، وبوضع كلمات من عندهم-

على سبيل الاشتقاق- ولقد كانت هذه المجلة الأولى من نوعها في الشرق، ولكنها للأسف لم تعمِّرْ طويلًا، ومنها نماذج بدار الكتب, وكان ظهورها سنة 1865. 2- مجلة روضة المدارس: أنشأها العلامة علي مبارك سنة 1870, حين كان وزيرًا للمعارف المصرية، وهي من أجلِّ أعماله خدمةً للغة والأدب، وكانت الوزارة تتولى إصدارها والإنفاق عليها، وقد أسست لإحياء الآداب العربية، ونشر المعارف الحديثة, وأسندت رئاسة تحريرها للعالم الأديب رفاعة الطهطاوي، فقد رأى علي مبارك أن رفاعة أجدر الناس أن يتولى الإشراف على روضة المدارس، وفي ذلك يقول: "لما كان حضرة رفاعة بك ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس، وهوالمشار إليه بين أرباب المعارف بالبنان، والمعترف بدرجة فضله الرفيعة كل إنسان، ناسب أن يجعل هذه الصحيفة تحت نظارته، لتتحلى من معلوماته بالدر الثمين، وينشر علمها، فيتلقاه محب المعارف باليمين". وقد صَدَّرَ رفاعة بك أول عدد منها بمقالٍ بَيَّنَ فيه الهدف الذي تسعى إليه المجلة، والخطة التي تسير عليها لبلوغ هذا الهدف، ومما جاء في هذا المقال قوله: "بحيث تكون فيها الفوائد المتنوعة، والمسائل المتأصلة والمتفرعة، أقرب تناولًا للمطلع المستفيد، وأسهل مأخذًا لمن يعانيها من قريب الفهم والبعيد، بقلم سهل العبارة، واضح الإشارة، وألفاظٍ فصحيةٍ غير حوشيةٍ، ولا متجسمةٍ لصعب التراكيب، ومعانٍ رجيحة تنفرط في سلك مستحسن الأساليب". وقال: "وقد تنزهت صحيفتنا هذه مما سوى ما يخص نشر فائدة علمية، ومحمدة أثرية, مما يقع عليه الاختيار, ولا ضرر فيها ولا ضرار، فليس من وظائفها تقييد الأحوال السياسية الوقتية، والأفعال الرئاسية والإدارية".

ومن الذين أسهموا في تحرير المجلة: عبد الله فكري, الذي أحيلت عليه العلوم العربية والفنون الأدبية, و"بروكش" ناظر مدرسة اللسان المصريّ القديم, وخُصَّ بالتاريخ، وإسماعيل الفكلي, وعُهِدَ إليه بالفلك، ومحمد قدري, وخُصَّ بالجغرافية والأخلاق والعقائد، وأحمد ندا, وعُهِدَ إليه ببيان المواد النباتية، والشيخ عثمان مدوخ، وطُلِبَ منه إمداد المجلة بغرائب النوادر والمضحكات والألغاز والأحاجي والنكات، وأُحِيلَ على مباشر تحريرها الكلام على محروسة مصر القاهرة، وذكر أخطاطها وشوارعها، وأُحِيلَت كافة العلوم الرياضية على مدرسي المدارس، وما يراد منه في القابل، ويذكر اسم صاحبه حتى لا يضيع عمل عامل1. وقد ضُمَّ إلى هيئة التحرير بعد إنشائها السيد مجدي, وكيل ديوان المدراس، والشيخ حسونة النواوي, مدرس الفقه وعلم الكلام بمدرسة الألسن, وصار فيما بعد شيخًا للأزهر, وأسنتدت مباشرة تحريرها وترتيب مقالاتها على علي فهمي ولد رفاعة "بك"، وكان مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن، واتخذت المجلة شعارها: تعلم العلم واقرأ ... تحز فخار النبوة فالله قال ليحيى ... "خذ الكتاب بقوة" فكانت هذه المجلة ميدانًا يتبارى فيه فطاحل الكتاب في ذلك العصر، وقد عنيت -كما رأيت- بالمباحث الطريفة في العلم والأدب والاجتماع والفلك والتاريخ والرياضيات، وكانت تصدر مرتين في الشهر، وظلت تصدر ثماني سنوات، فمهدت السبيل للصحافة الحديثة، وكانت توزع بالمجان على جميع التلاميذ، وقد أفسحت أعمدتها للطلبة ينشرون أبحاثهم الجيدة فيها, فعودتهم بذلك الاطلاع والكتابة والبحث، وبذل الجهد المستقل عن أساتذتهم. ومن الأمثلة على تشجيع المجلة للتلاميذ ما نشرته "للشاب النجيب، إسماعيل أفندي صبري, أحد تلاميذ مدرسة الإدراة وقتئذ", وقد صار فيما بعد الشاعر المشهور إسماعيل "باشا" صبري.

_ 1 العدد الأول من مجلة روضة المدارس.

فمن ذلك قصديته في مدح الخديو إسماعيل, بالعدد العشرين من السنة الأولى, مطلعها: سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود وقصيدة أخرى, بالعدد الخامس من السنة الثانية, قال فيها: أغُرَّتُك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاء أم عادل السمر وشعرك أم ليل تراخى سدوله ... وثغرك أم عقد تنظم من در وقصيدة أخرى, بالعدد الثالث والعشرين من السنة الثانية, استهلَّها بقوله: لا والهوى العذري والوجد ... عذل عذولي فيك لا يجدي إني مع الصد وطول الجفا ... باقٍ على الميثاق والعهد وغير ذلك ما يعد تقدمى وباكورة للشعر الحديث1. 3- أما الصحف السياسية بمصر: فأقدمها ظهورًا جريدة "وادي النيل" أنشأها الكاتب الأديب الشاعر عبد الله أبو السعود2, وكانت تصدر مرتين في الأسبوع على شكل المجلات, ثم ألغتها الحكومة في سنة 1883، بيد أنها استأنفت جهادها وحياتها باسم جديد هو "روضة الأخبار" التي أصدرها محمد أنسي, نجل عبد الله أبي السعود، وكان والده يحرر القسم السياسيّ بها إلى آخر حياته. 4- وتليها في الظهور جريدة "نزهة الأفكار" سنة 1869, لمنشئها إبراهيم المويلحي، ومحمد عثمان جلال، وناهيك بهما في ذلك العصر فحولة قلم، وجزالة أسلوب, وطرافة موضوع, وحلاوة نكتة، وكانت هذه الجريدة أسبوعية، ولكن لسوء الحظ لم يصدر إلّا عددان، وضاق بها إسماعيل ذرعًا، فعطلها حين نصحه بذلك أحد وزرائه خشيةَ أن تثير لهجتها الخواطر ضده.

_ 1 راجع تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي, ج3 ص489, ترجمة رفاعة الطهطاوي وعصر إسماعيل له كذلك, ج2 ص262, وديوان إسماعيل صبري 2-10, وأعداد مجلة روضة المدارس. 2 توفي سنة 1878, وهو من أوائل تلاميذ رفاعة الطهطاوي، واشتغل بالتدريس بدار العلوم, واشتهر بالترجمة والكتابة في التاريخ، وصار عضوًا بمجلس الاستئناف.

5- وأنشأ بعض الأقباط بمصر في سنة 1877، جريدة "الوطن"، وكانت سياسيةً وطنيةً تميل إلى التحرر, ثم نزح عقب حوادث سنة 1860, في سوريا1 جماعةٌ من الأدباء الذين فروا بحريتهم من الاضطهاد، وجاءوا وقلوبهم تغص بالحقد والإحن على تركيا، وفي نفوسهم ميل إلى الحرية, والتنفيس عن الآراء المكبوتة, وقد شجعهم إسماعيل على الإقامة بمصر، والإسهام في نهضتها، ولا نستطيع أن ننكر ما أسدوه للصحافة ولنشر الثقافة من خدمات. ومن أوائل الذين وفدوا إلى مصر عقب هذه الحوادث الدامية: أديب إسحق: وهو فلتة من فلتات الزمن, استطاع مع حداثة سنه أن يتوهج في سماء الأدب والسياسة والخطابة نجمًا ساطعًا، وأن يكون مدرسةً إنشائيةًَ يحتذيها الأباء والخطباء، وكان من الذين امتلأ قلوبهم بحب مصر والشرق، ورأى الأجانب الطامعين، والمرتزقة والأفاقين، فأضرمها عليهم نارًا مشبوبة، لا تخمد لها جذوةٌ في كل مكان حلَّ به، وقد ارتحل وشُرِّدَ في سبيل مبدأه, وفيض وطنيته, وحرارة أسلوبه, حتى احترق صغيرًا ومات, ولما ينته العقد الثالث من عمره. ولد أديب إسحق سنة 1856, من أبوين سوريين, ونشأ بلبنان، وتعلم العربية والفرنسية في مدرسة الآباء العازاريين، واضطر إلى الكدح في سبيل بريد بيروت, وقد ظهرت ميوله الأدبية في حداثته, فعهد إليه وهو في السابعة عشرة بتحرير جريدة "التقدم". وكان إلى عمله الصحفيّ يترجم عن الفرنسية ويؤلف، وانتمى إلى جمعية "زهرة الآداب", ثم صار رئيسًا لها فيما بعد, وقد ترجم "أندروماك" لراسين، وساعد صديقه "سليم نقاش" في تأليف المسرحيات، وتمثيلها، ولحق به في الإسكندرية.

_ 1 في هذه السنة زاد اضطهاد الأتراك لمسيحي سوريا، وقامت مذابح في جبل لبنان, ذهب ضحيتها عدد كبير من المسيحيين, واضطر كثير من سكان القرى بجبل لبنان إلى الهجرة, وذلك لأن نصارى الشام قد أظهروا ولاءهم لإبراهيم باشا, وكرههم للحكم التركي أيام وجوده بينهم, فلما سحبت الجيوش المصرية ظلوا على ولائهم لمصر, فانتقم الأتراك منهم شر انتقام.

وكانت فرقتهما التمثيلية من أوائل الفرق العربية, وعرف أديب رواية "شارلمان" وأعجب بها المصريون إعجابًا عظيمًا1 وألف رواية "غرائب الاتفاق". وحَنَّ إلى الصحافة فذهب إلى القاهرة، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني, وأنشأ هو وصديقة سليم نقاش جريدة "مصر" سنة 1877، وكانت أسبوعيةً، وقد تأثرا فيها بتعاليم جمال الدين الأفغاني, وأسلوبه الملتهب، أنشآها وهما مفلسان لا يملكان غير عشرين "فرنكًا" بيد أن أسلوبها وقوة بيانها، وجدة أفكارها، ودعوتها الجريئة للحرية، قد ضمنت لها الإقبال، والرواج، ورحَّبَ بها الذين يحبون القلم القويّ، والأسلوب الجزل, والأفكار الجريئة، واندفع كاتبها كالبركان يرسل نارًا، ونورًا، وينفس عن نفسه ما طالما كبت فيها وهو ببيروت، وما ذاقه وقومه من اضطهادٍ وظلمٍ على أيدي الأتراك، فحركت الهمم وأعادت للأسلوب الرفيع عزته. وقد وجد أديب إسحاق, وسليم نقاش في رواج مصر, ما شجعهما على إصدار جريدة يومية سمياها "التجارة"، وكانت لا تقل عن أختها حماسةً وقوةً، ونشر فيها جمال الدين الأفغاني بعض المقالات، تارةً ممهورة بتوقيعه، وتارة بتوقيع مستعارٍ، وقد ألغاهما رياض باشا سنة 1880. ولكن ذلك لم يثن من عزيمة "أديب إسحاق" فهاجر إلى باريس، واستأنف جهاده, وإصدر ثمة جريدة "القاهرة" بالعربية, وقال في مقالها الأول: "ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم، بل هي مصر خادمة مصر". وقد حرص في أثناء مقامه بباريس على معرفة عدد كبير من ساسة فرنسا وعلمائها, حتى روى فيكتور هوجو أنه قال لمن كانوا في حضرته، على أثر انصراف أديب: "هذا نابغة الشرق", ولكن برد باريس، وإسرافه على نفسه في كل شيء, قد جنى على صدره، فرجع إلى لبنان ملتمسًا الشفاء، وعاد إلى تحرير جريدة "التقدم" مرة أخرى.

_ 1- M. Sapry: La Genese de L. Esprit National Egyption p128.

وحين تغيرت الأحوال في مصر, دُعِيَ إليها، وعُيِّنَ مديرًا لقلم الإنشاء والترجمة بوزارة المعارف، وسُمِحَ لجريدة مصر بالظهور، وشغل وظيفةً أخرى بجانب وظيفته الأولى؛ حيث عُيِّنَ كاتب سر مجلس شورى القوانين، وحين قامت الثورة العرابية واشتد لظاها, عاد إلى بيروت, ثم رجع إلى الإسكندرية، ثم اشتد به مرض الصدر، فعاد إلى لبنان؛ حيث مات بقرية الحدث بالقرب من بيروت, وهو في التاسعة والعشرين من عمره سنة 1885, وهي قريبة من القرية التي دفن فيها أحمد فارس الشدياق، وهكذا جمع الموت بين علمين من أعلام النهضة الحديثة, ورواد الفكر والأدب الجديد. وكان أديب إسحاق نارًا مسلطة على الاستعمار، والذل والعبودية، وقد التقى بجمال الدين فزادت حماسته واضطرمت النار في فؤاده، فأخرجها شواظًا ملتهبًا في كلماتٍ تصب الحمم على الأعداء، وتثير الهمم الفاترة. لقد نادى بوجوب اتحاد الأمم العربية، فسبق زمنه قرنًا, أو ما يقرب من قرنٍ، وفي ذلك يقول: "ما ضر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى مكانٍ يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصواتٍ متفقة المقاصد كأنها من فمٍ واحد, قد جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة، تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباءً منثورًا، ولمت بناء القارعة، ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم نغن بالأمس، ولم نكن شيئًا مذكورًا، فهل ننشد الضالة، ونطلب المنهوب، لا تقوم بأمر ذلك فئة بدون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، وتجمعنا جامعة اللسان، وكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان. أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له من صدًى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاديّ سدًى، أم لا يعلمون أن مثل هذا الاجتماع، منزهًا عن المقاصد الدينية، منحصرًا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفًا من أكثر النحل العربية, يزلزل الدنيا اضطرابًا، ويستميل الدول جذبًا وإرهابًا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون".

إن هذا ولا ريب تفكير مشرق، وقلب يتجه الاتجاه السليم, الذي يجب أن تسير فيه الأمة العربية منذ أن رأت الغرب الجشع يطمع، ويحد براثنه لينهشها الواحدة تلو الأخرى، ولو فعلت ذلك من أواسط القرن التاسع عشر ما أصابها اليوم ما أصابها. وكان أديب ممن يعشق حرية الرأي وينادي بالدستور، وقد كتب مقالًا يرد فيه على الشيخ حمزة فتح الله, محرر جريدة "البرهان" في سنة 1881, حين دعا الشيخ إلى حكم الفرد يوم افتتاح مجلس النواب، فقال له أديب: صفحًا لصرف الدهر عن هفواته ... إن كان هذا اليوم من حسناته وكيف لا؟ وهو حاجة النفس, وأمنية القلب، منذ توجه الخاطر إلى السياسة الوطنية، وانصرف العزم إلى إحياء الهمم، وانعقدت النية على حفظ الحقوق، واتحدت الوجهة في القيام بالواجبات، وهو النشأة التي كست الوطن رداء الفتوة قشيبًا، وهو البنية التي غرست للأمة غصن الأمل رطيبًا، وهو ما رجوناه زمانًا, ودافعنا الزمن فيه، وتمنيناه أعوامًا, وغلبنا الحدثان عليه، فيها حسنه من يوم رد فائت البهاء، وأحيا مائت الرجاء، وأعاد شباب الأمة، وسدل ستور النعمة، وأظهرت مقاصد الأمير، وأيَّد مساعي الوزير، وقضى لبانات النبهاء، وحقق أماني النزهاء1". وكان أديب مغرمًا بمصر، محبًّا لها حبًّا ملك شغاف قلبه، مثله في ذلك مثل الشدياق، ولا بدع, فقد آنته في غربته، وأعطته الحرية التي حرمها في وطنه، وأفسحت له مجال العمل، وقدرت جهده، حتى منحه الخديوي الرتبة الثالثة بيده، وأنزلت كفاءته منزلتها, فعينته في الوظائف الكبيرة، ثم إنها ملجأ الأحرار، وزعيمة الشرق العربيّ، ونهوضها -كما كان ذلك رأي أستاذه جمال الدين- نهوض للعرب أجمعين، وفي مصر يقول أديب: "ومصر، ولا حياء في الحب، بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلفت غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبًا،

_ 1 جريدة مصر في 29 من يناير 1882.

ولبست ثوب الآمال قشيبًا، فما عدلت بي عن حبكها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده البعد وجدًا، ولم ينكث على العهد عهدًا، فحذار أهل مصر إن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد". واستمع إليه يقول في الحزب الوطنيّ وأمانيه وأنه "يريد أن يكون المصريّ في مقام الإنسان، مستقلًّا بوجوده متمتعًا باستقلاله، فائزًا بحقوقه، نهاضًا بواجباته، وتريدونه بمنزلة الحيوان، يساق للموت، فإن عجز فللسلخ، ويطلب أن يكون الوطنيّ آمنًا في دراه، مساويًا لجاره، ويستغل زرعه، ويستدر ضرعه، وتلتمسون أن يكون غريبًا في آله، مصادرًا بماله، يطعم من يحرمه، ويؤمِّنُ من يروعه، ويحفظ من يضيعه1". وكان أديب من ألد أعداء الأجانب، وإليك بعض نفثاته الحارة ضد صحيفةٍ مواليةٍ للأجانب، وقد كانت تشيد بإلغائهم بعض الضرائب؛ لتمكن أقدامهم في احتلال مصر: "فهل خفي عن تلك الصحف أنه ليس من شفقة الصياد على الطير إلقاؤه الحب بين يديها؟ أوتعلم أن القائل بهمجية المصريين، المعتقد بانحطاط مدراكهم، لا يطعمهم هذه الفتات، إلّا ليسهل على الإنجليز هضم قوتهم والتهام ثروتهم!. كلا! إن الجرائد المصرية لا تجهل حقيقة الأمر، ولكنها لا تستطيع التصريح، علمًا بأن اللص العازم على سرقة الحقوق الوطنية يكره النور، فإذا حاولت إظهاره سارع إلى إطفائه بتعطيلها وإلغائها. يا أهل مصر: إني محدثكم حديثًا غريبًا: إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهرالأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وإغنياؤكم بخلاءكم, وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".

_ 1 جريدة مصر في 29 من يناير 1882.

كان أديبُ جنديًّا من جنود الحرية، ومصر، والعروبة، ولما عُطِّلَتْ جريدة التجارة أسبوعين أول الأمر, دبج مقالًا جاء فيه: "ولئن ساءنا أن جاءنا ذلك الإخطار بلوم، وعقاب أليم، لقد سرنا أن تكون الجرائد موضوعًا للنظر، ومجالًا للنقد، ولم نر في القصاص شيئًا يستعين به اللائم، أو مصابًا يعتضد به الشامت، فإن "التجارة" تحسب حب الوطن دينًا والمدافعة عنه جهادًا، فإن عاشت فهي سعيدة، وإن ماتت فهي شهيدة، ولقد آتاها الله النعمتين، وأتاح لها الحسنيين، فعاشت به، وماتت عليه، وستبعث بعد أسبوعين، رافلةً في ثوب الشهادة، مزينةً بحلى السعادة، على الرغم من أنوف حاسديها، الذين أَوَّلُوا كلامنا إلى ما لم نقصد، وسعوا بها بما لم يخطر على قلوبنا، وحاولوا إطفاء نور الحق، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره المبطلون1". ولم يثنه تعطل جريدته ونزوحه إلى باريس عن غايته المثلى، وهي العمل على إيقاظ الشرق العربيّ، والدعوة للحرية، وطرد الأجانب من البلاد، وقد أعلن خطة جريدته "القاهرة" التي أصدرها بباريس, بقوله: "إني لا أقصد إلى الانتقام، وإنما أروم مقاومة الباطل ونصرة الحق، والمدافعة عن الشرق وآله، وعن الفضل ورجاله، فمَسْلَكِي أن أكشف حقائق الأمور، ملتزمًا جانب التصريح، متجافيًا عن التعريض والتلميح، وأن أجلو مبادئ الحرية، وآراء ذوي النقد، ومقصدي أن أثير بقية الحمية الشرقية، وأهيج فضالة الدم العربيّ، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، وأحيي الغيرة في قلوب العارفين، ليعلم قومي أن لهم حقًّا مسلوبًا فيلتمسوه، ومالًا منهوبًا فيطلبوه، وليخرجوا من خطة الخسف، وينبذوا عنهم كل مدلس يشتري بحقوقهم ثمنًا قليلًا، ويذيقوا الخائنين عذابًا وبيلًا، وليستصغروا الأنفس والنفائس في جنب حقوقهم، وليستميتوا في مجاهدة الذين يبيعون أبدانهم وأموالهم وأوطانهم وآلهم". وأسلوب أديب أسلوبٌ قويٌّ متينٌ، افْتَنَّ في تدبيجه وانتقاء ألفاظه، وحلَّاه بالسجع على عادة كتاب ذلك الوقت، ولكنه ليس بالسجع السخيف المتعمد، ولكنه سجعٌ قريبٌ من سجع ابن العميد، والصاحب بن عباد، والصابي، لا من سجع الحريريّ والقاضي الفاضل.

_ 1- التجارة, العدد187, في 13 من فبراير 1879.

إنه حقًّا حفل بالأسلوب كما حفل بالمعنى، وأحيا الكتابة العربية المنمقة القوية أيام كانت في القرن الرابع الهجريّ، ونقول مع "مارون عبود"1: "أما الذي يتراءى لي من آثاره الكتابية ومن أسلوبه، فهو أنه ناريّ الشعور، ومتَّقِدُ الخاطر، ثوريٌّ من الطراز الأول، كأنه كان في رفقة الحَجَّاج يوم دخل الكوفة وقد انتشر النهار, يرسل عباراته فتئز أزيز السهم, وقد فأرق الوتر جمل كأنها مقطوعة على نمط واحد، لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة، يشد بعضها بعضًا فتؤلف مقالته كتيبةً جامحةً، إذا راعيتها منفردة لا تحس لها مفعولًا عظيمًا، ولكنها تؤلف كلًّا تخرج منه النفس، وقد ملاها هذا الكلام اندفاعًا واستبسالًا". ويقول: "نثرٌ كأنه الشعر يرصِّعُه بأبياتٍ, إما من الشعر القديم، وإما من نظمه هو, فيأتي مقاله عجاجًا زاخرًا حين يحتد ويشتد كقوله: هو الظلم حتى تمطر السماء بلاءً، فتنبت الأرض عناءً، فلا تجد على سطحها إلّا جسومها ضاوية، في ديار خاوية، وقلوبا تحترق في بلاد تحت رق". وهو يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره؛ فيتعمد ما كانت تتعمده مدرسة ابن العميد من أفعالٍ مختلفةٍ, تتحرك لها الجملة فتحرك قارئها توًّا، وإن ذهب أثرها من عقله بعد حين كقوله: "هو الجهل حتى تضيع الأخطار، وتفنى الأقدار، وتبطل الهمم، ويعفو القلم، ويدرس الفهم، ويستعلي الخامل، ويستولي الجاهل، وتنخفض الرءوس، وتنقض النفوس، وحتى ترمي: بكل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم يستخشن الخز حين يلبسه ... وكان يبري بظفره القلم ومن شعره الذي جرى مجرى الأمثال، وإن لم يكن من الشعراء المجلين، وإن اشتهر بنثره أكثر مما اشتهر بشعره قوله:

_ 1 مجلة الكتاب فبراير 1948.

قتل أمريء في غابة ... جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن ... مسالة فيها نظر والحق للقوة لا ... يعطاه إلّا مَنْ ظفر ومن ذلك قوله: حسب المرأة قوم آفةً ... من يدانيها من الناس هلك ورآها غيرهم أمنية ... ملك النعمة فيها من ملك فتمنى معشر لو نبذت ... وظلام الليل مشتد الحلك وتمنى غيرهم لو جعلت ... في جبين الليث أو قلب الفلك وصواب القول لا يجهله ... حاكم في مسلك الحق سلك إنما المرأة مرآة بها ... كل ما تنظهر منك ولك فهي شيطان إذا أفسدتها ... وإذا أصلحتها فهي ملك إذا كان الشدياق قد وضع أسس المقالة الحديثة في الجوائب، وهجر الأسلوب المرصَّعَ المسجوع في الكتابة الصحفية، واقتفى أثره كثيرون شغلوا بالصحافة، ورأوا ذلك أدنى لأن يفهموا من جمهرة القراء، وأسرع في الإبانة عن المعاني الكثيرة التي يريدون الإفضاء بها واستقصاءها، فإن فضل أديب إسحق على الأسلوب الأدبيّ لا ينكر، وقد قلده كثيرون ممن كتبوا المقالة، وكانوا من أنصار الشدياق بادي الأمر، وعلى نهجه جرى جبران، ونجيب حداد, وغيرهما من أفاضل السوريين، ولكن الصحافة لم تحتمل هذا الأسلوب، ورجعت إلى البساطة في التعبير، وإن ظلَّ أسلوب أديب الذي أحيا به كتابة القرن الرابع نموذجًا للأدباء في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن الحاضر. ومن السوريين الصحفيين سليم الحموي, صاحب جريدة "الكوكب الشرقيّ" سنة 1783، ولكنها كانت قصيرة العمر, ومنهم سليم وبشارة تقلا، وقد أصدرا "الأهرام" بالإسكندرية سنة 1875, وقد لاقت أول أمرها عقبات جمة،

ثم نالت حظًّا كبيرًا من الرواج، وكانت تصدر أسبوعيًّا في بدء ظهورها، ثم صدرت بجانبها جريدة يومية تسمى: "صدى الأهرام" فلما عُطِّلَتْ الجريدة اليومية, انفردت الأهرام بالظهور، ودأبت تصدر حتى اليوم، فهي أقدم الصحف المصرية السياسية، وإليها يرجع الفضل في تقدم الصحافة المصرية, وأخذها بكل جديدٍ من صحافة الغرب. ولقد كانت المقالة أهم شيء في الصحفية، حتى خرجت الأهرام على ذلك في سنة 1912، وقدمت الأخبار على المقالة، والأهرام أول من عُنِيَ بالحوادث المصورة، ولقد ازداد حجمها أحيانًا في عهد جبرائيل تقلا, حتى بلغ عشرين صفحة، وقد عنيت عنايةً فائقةً بالأخبار الخارجية، وصارت نموذجًا لصحف الشرق العربيّ كله. ومنهم سليم عنحوري، وقد أصدر جريدة سياسية سماها: "مرآة الشرق" ولكن تنحى عنها في سنة 1879, وتولاها إبراهيم اللقاني بإيعازٍ من السيد جمال الدين الأفغاني، وقد أنشأ الشيخ يعقوب صنوع اليهوديّ صحيفتين سياسيتين, وهما "مرآة الأحوال" صدرت في لندن سنة 1876، و"أبو نضارة" صدرت في القاهرة سنة 1877, ويعقوب صنوع إسرائيلي مصريّ, ولد سنة 1839، وكان يتقن التوراة، وقرأ الإنجيل، والقرآن، وتعلم في إيطاليا على نفقة أحمد باشا يكن، وهو أول من أنشأ مسرحًا عربيًّا في القاهرة سنة 1870, وأعجب به الخديو إسماعيل, وكان يسميه: "موليير مصر", منحه المنح، وأمده بالعون، وحضر بعض تمثيلياته تشجيعًا له، وقد ألف نحو اثنتين وثلاثين مسرحية في موضوعات جدية وهزلية، وسافر إلى أوربا سنة 1884 وبقي فيها فترة، ولما عاد إلى مصر اتصل بالسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، وكان يعلمهما الفرنسية. وكانت "أبو نضارة" من الصحف المعارضة لإسماعيل، وكان صاحبها ميَّالًا للفكاهة والدعابة، وقيل: إن اليسد جمال الدين هو الذي أوحى إليه بإصدار جريدته لانتقاد سياسة إسماعيل.

وكانت "أبو نضارة" أول جريدة هزلية سياسية صدرت بمصر، وقد نفاه إسماعيل فرحل إلى باريس، واستأنف إصدار جريدته بأسماء مختلفة, معارضًا الخديوي ومنتقدًا أعماله، ولم يخل عدد منها من صور تعرِّضُ تعريضًا شديدًا بالخديوي إسماعيل، فلقيت رواجًا، واستمرَّ الشيخ صنوع يصدر جريدته إلى ما بعد الاحتلال، وكان معاديًا للإنجليز, وتوفي سنة 1912. وعلى العموم, فقد بلغ عدد الصحف التي ظهرت في عهد إسماعيل ما يقرب من عشرين صحيفة، ومعظمها ظهر في آواخر أيامه، وقد أطلق لها الحرية في الكتابة، وكان يميل إلى هذه الحرية في آخريات عهده حين اصطدم بالمطامع الأوربية، وكانت هذه الصحف تندد بسياسة الأوربيين وجشعهم، ونواياهم، وتشعر الناس بتدخلهم السياسيّ، وتحمل عليهم حملات شديدة اللهجة، فكان ذلك يروق إسماعيل، ولكن لم يكن يرضى أن يتعرض كاتبٌ ما لسياسته الخاصة أو لشخصه. تعقيب: هذا النهضة الصحفية خلصت اللغة من أسرها القديم، وأوضارها التي ورثتها من عصور الضعف، وخاضت في موضوعات شتَّى كما ذكرنا، وسلس الأسلوب، واحتذى الصحفيون أسلوب ابن خلدون في مقدمته، وذلك الأسلوب المرسل السهل، وإذا وازنَّا بين أسلوب النثر الصحفيّ في هذا العهد الذي نتحدث عنه، وأسلوب الكتابة في العصر السابق, وجدنا البَوْنَ شاسعًا، وقد مرَّت بك نماذج من هذه الكتابة الصحفية, يتجلى فيها أثر التحرر اللغويّ والفكريّ، وقوة البيان، وطرافة الموضوع، وإليك ما قال بعض قادة النهضة الصحفية في الحثِّ على العلم والاهتمام بالبيان، وطريقة الكتابة، راسمين للشادين في الصحافة الطريقة القويمة.

1- يقول أحمد فارس الشدياق: "من الناس مَنْ يتعلم، وهو مجبولٌ على صفات حميدةٍ فيزداد هدًى ورشدًا وورعاً ودماثة أخلاق، وحسن تصرف، واستقامة طبعٍ، ونزاهة نفسٍ، وصفاء عقيدةٍ، وإخلاص مودةٍ, وسلامة نيةٍ، وعفة قلبٍ ولسانٍ، وانبساط يدٍ؛ فمثله كمثل الجوهر الشفاف إذا قابله شعاع الشمس، أوكمثل إناءٍ من زجاجٍ نظيفٍ صافٍ إذا وضع فيه الماء لم يتغير من طبعه شيئًا، فتراه دائمًا مقبلًا على نفع الناس, ساعيًا في إصلاح شئونهم، وتسنية أحوالهم، باذلًا أقصى جهده في تسكين خواطرهم، ولَمِّ شعثهم، وتأليف مفرقهم، وتسلية حزينهم، وإرشاد غاويهم، وتأييد ضعيفهم، وليس من همه التردد على أبواب الأمراء والخضوع لحجابهم ... إلخ1". 2- ويقول أديب إسحق: "الكتابة صناعةٌ يراد بها التعبير عن الخواطر والمحسوسات بوضعٍ صحيحٍ، وأسلوبٍ صريحٍ، فهي ذات ثلاثة أركان: الخاطر المراد إيضاحه وهو الإنشاء، والوضع الذي يبدو به ذلك الإيضاح وهو البيان، والكيفية التي تحصل بها ذلك وهو الأسلوب". ويقول أديب إسحق كذلك: "رأيت أن أصرف العناية إلى تهذيب العبارة وتقريب الإشارة، لتقريب المعنى في الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق, متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا ومبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داءٌ إذا سرى في القراء والمطالعين, أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة, يقضي بإماتة اللغة، وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم". وقد عدل أديب إسحق عن أسلوبه المنمق في أخريات حياته، ولا سيما في بعض مقالاته الصحفية, وفي ذلك يقول:

_ 1 مجالي الغرر ج2 ص177.

"قد التزمت لهذا المطلب أسلوب التقرير، وعدلت فيه عن منهج الخطابة الشعرية، لاعتقادي بأن الأسلوب الخطابيّ، وإن كان أسرع تأثيرًا في القلوب, وأحسن وقعًا في الأذهان، إلّا أنه قد يميل بالكاتب إلى جانب التخيل الوهميّ في مكان التقرير العلميّ، فيرتفع بيانه عن المدراك التي سيقت إليها الملكات الحسية، فلم يبق بها من محلٍّ لملكة الخيال المسماة شعرًا، فيفوت الغرض المقصود من البيان والبلاغة، وهو تقرير المعاني في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام، ولهذا سأرسل فيه الكلام إرسال مقرر مبين، ولا أتكلفه تكلف منمق مزين، فإن أحكام التقرير منافية لهذا التمويه الذي يسمونه بديعًا". ويقول: "النثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة بلا كلفة ولا صنعة, إلّا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه، فهو من هذا الوجه مقدَّمٌ على سائر أنواع الكلام، بل هو الأصل في الإنشاء، وما سواه فرع منه، فإنه طبيعيّ أصيلٌ، وما دونه صناعيٌّ حادثٌ، والأصل في الطبيعة لا محالة، يدل على ذلك أن هذا الكلام المقفى الذي يسمونه سجعًا لا يكاد يوجد في غير اللسان العربيّ، فلو كان طبيعيًّا لوجب أن يكون في جميع اللغات، أو في المعدودة منها أصولًا على الأقل1". 3- ويقول السيد عبد الله النديم, في العدد الأول من جريدة "التنكيت والتبكيت"2. "إليكم يراعي فاستخدموه في مقترحات أفكاركم العالية، وصحيفتي فاملئوها بآدابكم المألوفة، وبدائعكم الرائقة، فاليراع وطني يخاطب القوم بلغتهم, ويطيعهم فيما يأمرون به، والصحيفة عربية، لا تبخل بالعطاء، ولا ترد الهدية، وأنتم كرام اللغة وأخوان الوطنية، فشدوا عضد أخيكم بالقبول والإغضاء عن العيوب، وساعدوه بأفكار توسع دائرة التهذيب، وتفتح أبواب الكمال، وكونوا معي في المشرب الذي التزمته, والمذهب الذي انتحلته: أفكار تحليلية، وفوائد

_ 1 مجالي الغرر ج2 ص6. 2 صدرت سنة 1881, وراجع سلافة النديم ص77.

تاريخية، وأمثال أدبية، وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم الخرافات، ولنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثلةً في الوجود, من ركوب متن الغواية، واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل". وترى من هذه النماذح كيف كان القوم يجاهدون في سبيل العلم وتفتيح الأذهان المغلقة، وتحبيب الناس في الثقافة، والإشارة بفضل المتعلمين في زمنٍ كانت فيه الأمة لا تزال تحبو في طريق النور، وكيف وضعوا أسس تحرر اللغة من أسر السجع والتكلف، ورسموا قواعد الإنشاء الصحيح لمن يريد أن يتخذ الكتابة حرفةً، وكيف سخَّرُوا القلم القويَّ الجرئَ في خدمة الوطن، وجعلوا الصحف ميدانًا للأفكار الطيبة, والأدب الرفيع, والدعوات الإصلاحية الحرة, وبذلك كانت الصحافةُ منارةً من منارات النهضة العربية الأدبية, ارتفعت هذه المنارة في عهد إسماعيل، وظلَّت ترسل النور قويًّا يبدد سدفة الجهل ويهدي الضالين إلى اليوم. 4- الطباعة: نهضت الطباعة نهضةً عظيمةً في عهد إسماعيل؛ إذ وجهت الحكومة عنايتها إلى مطبعة بولاق، وما زالت بها حتى صارت أرقى مطبعةٍ في الشرق، وأسست مصنعًا للورق يمد مصالحها المختلفة بالورق في سنة 1871، ويزود المشتغلين بالعلم والطباعة والتجار بكل ما يحتاجون إليه, ولقد سهل هذا الأمر على المشتلغين بالعلوم، وشجعهم على النتاج المتصل، وكاد نتاج الورق بمصر يعطل ما يرد من أوربا حينذاك. وأنشئت بجوار مطبعة بولاق عدة مطابع أهلية؛ أهمها: مطبعة جميعة المعارف التي تكلمنا عنها آنفًا، ثم المطبعة الأهلية القبطية التي جلبها من أوربا الأنبا كرلس الرابع سنة 1860 في عهد سعيد باشا، ومطبعة "وادي النيل" لمحمد أبي السعود أفندي، ومطبعة "مجلة روضة المدارس" والمطبعة الوطنية بالإسكندرية ... وغير ذلك من المطابع التي كان لها الفضل الأكبر في نشر الكتب الحديثة، وتيسير الاطلاع، والنهوض باللغة والأدب وشئون التعليم.

5- الترجمة والتأليف: كانت التركية لا تزال ذات سطوةٍ في مصر حتى عصر إسماعيل, ولكنه عمد إلى تمصير الحكومة ولغتها، حتى يسهل انفصاله عن الدولة العثمانية، وأصدر أمرًا بجعل صور الأمر واللوائح وكل ما سبق صدروه من الإجراءات منذ عهد محمد علي عربيةً، كما أمر بطبعها، فما كان منها عربيًّا يطبع كما هو، وما كان تركيًّا تطبع معه ترجمته العربية1، ولقد كان الأمر باستعمال اللغة العربية أداة التعبير الحكومية سابقًا لأوانه، لافتقار البلاد لعددٍ كبيرٍ ممن يحذقون اللغة العربية، ولا سيما بعد ذلك الركود الذي أصاب التعليم على يد عباس وسعيد، ثم إن ترجمة هذه القوانين الكثيرة التي صدرت منذ عهد محمد علي تحتاج إلى وقتٍ طويل، ولذلك ظلَّت للتركية بعض السطوة، وإن أخذت تدريجيًّا تفسح مكانها للعربية, حتى أوشكت أن تحلَّ محلها نهائيًا في أخريات عصر إسماعيل. ومما ساعد على الاهتمام بالترجمة في عهد إسماعيل ازدياد النفوذ الأجنبيّ، وكثرة من وفدوا إلى مصر من هؤلاء الأجانب تجارًا ومغامرين، ولا سيما بعد فتح قناة السويس، فأنشئوا المصارف والدور التجارية الكبرى، ودخلوا في خدمة الحكومة مديرين وفنينين, وعلي الأخصِّ حين اضطربت مالية البلاد.

_ 1 حركة التركمة بمصر لجاك ص62.

واهتم إسماعيل باللغة الفرنسية اهتمامًا زائدًا؛ لأنها كانت منذ عهد محمد علي هي اللغة التعليمية الأولى لرجال البعثات. وظل الأمر في تدريس المواد العلمية كما كان في عهد محمد علي محتاجًا إلى واسطةٍ بين التلاميذ والمدرس الأجنبيّ, ولكن حينما أعيدت مدرسة الألسن سنة 1868، وأخذ تلاميذ رفاعة الطهطاوي يشرفون عليها، نهضت الترجمة نوعًا ما، وتولَّى رفاعة بك رئاسة قلم الترجمة، واشترك في تعريب القانون الفرنسيّ مع عبد الله أبي السعود وغيره. واستمرت حركة الترجمة في أوائل عهد إسماعيل مصبوغةً بالصبغة العلمية، ومعظم ما تُرْجِمَ حينذاك كان في العلوم؛ كالهندسة والطب والصناعات العسكرية وغيرها، وذلك لشدة حاجة البلاد إلى هذا النوع من التعليم. وإن كان بعض تلاميذ رفاعة قد اهتموا بالنواحي الأدبية من قانونٍ وتاريخٍ وأدبٍ. فنجد عبد الله أبا السعود الصحفيّ والسياسيّ يترجم "نظم اللآليء في السلوك في من حكم فرنسا من الملوك" و"قناصة أهل العصر في خلاصة تاريخ مصر"، تأليف "أوغست ماربيت بك"، وباشر ترجمة تاريخ عام مطول واسمه "الدرس التام في التاريخ العام"، و"تاريخ الديار المصرية في عهد الدولة المحمدية العلوية" تأليف "برنار الفرنسيّ". وممن كان لهم أثر في الترجمة والأدب العربية، وكان صاحب مدرسةٍ لها نهجها الخاص، واحتذى حذوها الأدباء من بعده. محمد عثمان جلال: وهو مصريٌّ من صميم الريف، ولد في "ونا القس" بمديرية بني سويف سنة 1828، وتلقى العلم في مدرسة قصر العيني، ثم في مدرسة الألسن، وكان من نبهاء تلامذة رفاعة الطهطاوي, وشغل عدة مناصب حكومية، وكان آخر ما تولاه منها منصب القضاء في المحاكم المختلطة سنة 1881، وتوفي سنة 1898 عن سبعين سنة.

امتاز محمد عثمان جلال بأنه يمثِّل الروح المصرية أتَمَّ تمثيلٍ في خفتها، وحبها للنكتة، ومرحها الجم، وقد اختلط كثيرًا بالعامة، وعرف أمثالهم ونوادرهم، ومواعظهم، وعرف كذلك ميولهما الفطرية، وحبهم للقصص العربية، وامتاز أيضًا بأنه كان أديبًا مطبوعًا، ثائرًا على المدرسة التقليدية التي تحاكي أدب القديم في محسناته وفخامته، وموضوعاته، فكان يعتمد أولًا على تجربته الشخصية, يستوحيها ويتسلهمها, ويعبر عما يحسه وعما يهديه إليه فكره، فهو في أدبه يمثل القاهرة والريف المصريّ، لا بغداد ولا قرطبة, ولا البلاد العربية وصحراءها, وهذا لعمري هو الأدب الصادق، ولولا ما شاب أدبه من إسفافٍ في اللفظ, وجنوحٍ إلى العامية، إفراطًا منه في مصريته، لكان من أفذاذ الأدباء المصريين, وأصحاب المبادئ في الأدب، وقد نقد في كتابه "العيون اليواقظ" هؤلاء الذين يدعون إلى الأدب التقليديّ, ولا يستلهمون مشاعرهم الخاصة، وأساليبهم المبتكرة: يقولون ما هذا الكتاب وما به ... أكاذيب أقوال البهائم في قبح وقد زعموا أن البلاغة لم تكن ... بأحسن مما قيل في القد والرمح وتشبيه لون الخد بالورد واللظى ... وتمثيل نور الوجه إن لاح بالصبح1 وقد غالى في مصريته وثورته على الأدب القديم، فأكثر من استعمال العامية، سواء في كتبه الموضوعة, أو في ترجمته للروايات المسرحية. ومن أشهر كتبه التي تمثل هذه الروح المصرية المرحة، وتدل على شدة تأثره بعامة الشعب في أمثالهم, كتابه الذي أشرنا إليه سابقًا، وهو "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ", الذي ترجم به أمثال "لافونتين" La Fontaine شعرًا2، وقد شحنه محمد عثمان جلال بكثير من الأمثال العامية، من مثل قوله:

_ 1 العيون اليواقط في الأمثال والمواعظ ص102. 2 لافتونتين: شاعر فرنسي مشهور, ولد في سنة 1621، وتوفي بباريس سنة 1695، وقد اشتهر بكتابة القصص، والأمثال, أما "القصص" فقد أهمل فيه الأخلاق، ولكنه ممتلئ بالحيوية، وكتاب الأمثال هو أشهر الكتابين، ولا يزال حتى اليوم ذا منزلة عظيمة في عالم الأدب، وقد نظم فيه كثيرًا من القصص الرمزية، وقصصًا على ألسنة الحيوان؛ من أمثال تلك التي في كليلة ودمنة, بل إن كثيرًا منها مأخوذة من كليلة ودمنة الذي ترجم إلى كل اللغات الأوربية منذ القرن الرابع عشر. راجع "Nouveau Petit La Illustre".

فإنما تأخذ من سماطي ... ما تأخذ الريح من البلاط1 وقوله: واحذر مدى الأيام كل ساهي ... فإن تحت رأسه الدواهي2 وقوله: إن كان بالتوت غضبان ... هلبت يرضيه شرابه3 وقوله: صدقني حاجة ما تهمك ... وصى عليها جوز أمك4 ولغته في هذا الكتاب إما عامية دراجة، أو عربية قريبة من العامية، ومن أمثلة هذه القصص قوله: كان البخيل عنده دجاجة ... تكفيه طول الدهر شر الحاجة في كل يوم مر تعطيه العجب ... وهي تبيض بيضة من الذهب فظن يوما أن فيها كنزًا ... وأنه يزداد منه عزًّا فقبض الدجاجة المسكين ... وكان في يمينه سكين وشقها نصفين من غفلته ... إذ هي كالدجاج في حضرته ولم يجد كنزًا ولا لقيه ... بل رمة في حجره مرمية فقال لا شك بأن الطمعا ... ضيع للإنسان ما قد جمع وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير في أدب الأطفال في عصرنا الحاضر، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الأطفال من قصة مأخوذة منه بنصها، أو محرَّفَة بعض التحريف أو منثورة، بل إن بعض المشتغلين بكتب الأطفال لم يتحرجوا في أن ينسبوا بعض قصصه إلى أنفسهم, وعلى مواله نسج شوقي كثيرًا من القصص الرمزية أو قصص الحيوان.

_ 1 العيون اليواقظ ص149. 2 ص164. 3 ص 99. 4 ص 176.

ويقال: إن قصص "لافونتين" هذه التي ترجمها محمد عثمان جلال مأخوذة من قصص "إيسوب1". هذا وقد ترجم عثمان جلال بعض رويات "موليير2" الهزلية: "الأربع روايات من نخب التياترات؛ منها رواية "ترتوف"، وسماها: "الشيخ متلوف" ومثلت مرارًا على المسرح المصري, ومنها: "النساء العالمات" وقد مصَّرَ أشخاص هذه الروايات وكتبها باللغة العامية. وترجم كذلك بعض رويات "راسين3" وسماها: "الروايات المفيدة في علم التراجيدة" وقد قال في مقدمتها: "وجعلت نظمها يفهمه العموم, فإن اللغة الدراجة أنسب لهذا المقام، وأوقع في النفس عند الخواص والعوام4". وألَّفَ محمد عثمان جلال روايةً بالعامية عن الخدم والمخدومين، ويقول الاستاذ العقاد عن ملكة عثمان القصصية عند الحديث عن هذه الرواية: "قد كان له ملكة قيمة في فن القصة والرواية المسرحية، فكانت هذه الملكة تنزع به إلى نظم الزجل غالبًا, والشعر أحيانًا, في وصف ما يقع له من النوادر والفكاهات والرياضيات، ومن ذلك زجله في الأزهار, وزجله في المأكولات، وأقوم منهما كليهما روايته المسرحية عن المخدومين والخدم، وهي باكورة في وضع الروايات المصرية، وتمثيل البيت المصريّ، والمجتمع الوطني, يندر ما يقاربها في بابها بين روايات هذا الجيل، وبحقٍّ يسمى محمد عثمان جلال أبا المسرحيات الوطنية في العصر الحديث5".

_ 1 "إيسوب": صاحب هذه الخرافات يوناني, ولد بعد تأسيس روما بمائتي سنة، وكان عبدًا رقيقًا, وإليه تنسب هذه القصص التي قليلت على ألسنة الحيوان، وكثير منها شرقيّ: هندي, وصيني، وفارسي, وعربي، وقد ترجم قسيس إغريقي في القرن الرابع عشر كثيرًا من القصص الشرقية ونسبها إلى إيسوب. (Masterpiece Librery of Short Stories Vol. I.P.15) . 2 موليير Moliere شاعر فرنسي, ولد بباريس سنة 1622، واشتهر برواياته التمثيلية الهزلية، ومن أشهرها: النساء المتحذلقات، والطبيب رغم أنفه، وترتوف، ومدرسة النساء، وتوفي سنة 1673 (Petit Larouse Illu Stre) . وراجع كتابنا "المسرحية: نشأتها وتاريخها وأصوله - فصل الملهاة". 3 راسين Racine شاعر فرنسي, اشتهر بمآسيه ولد سنة 1639، وكان صديقًا لموليير، وللافنونتين، وقد بلغ المثل الأعلى في كتابة المأساة المسرحية على الطريقة "الكلاسكية" الاتباعية, ومن أشهر مآسيه: أندروماك، وقد ترجمها أديب إسحاق كما مر بنا، , "باجازيت أو بابا زيد" وآتيل، وتوفي في سنة 1699 "راجع كتابنا المسرحية". 4 مقدمة الروايات المفيدة في علم التراجيدة. 5 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي, للعقاد ص117.

وقد يحار المرء في تحليل هذا الاتجاه الذي انحرف إليه عثمان جلال، وإيثاره اللغة العامية مع تمكنه من اللغة الفصحى، أما الدكتور طه حسين: فيرى أن ذلك لضعفه في اللغة العربية, وذلك حين يقول: "فأخذ الذوق يتغير، وكان تغيره قويًّا، ظهر في مظهرين مختلفين، أحدهما: إيثار اللغة العامية على لغة الأدب العصريّ، والآخر: إيثار اللغة القديمة، والأساليب القديمة على لغة العصر وأساليبه، ورأينا رجلًا كعثمان جلال قد أعجبه الأدب الفرنسيّ, وأراد أن ينقل إلى قومه صورًا منه، ولم يكن من الأدب القديم على حظٍّ قويٍّ، ورأى أن الأدب العصريَّ أدنى إلى الموت من أن يحتمل هذا الأدب الفرنسيّ، فيترجم لقومه، أو قل: ينقل إلى قومه تمثيل موليير في الزجل العاميّ, لا في الشعر العربيّ1". على أن هذا الكلام على ما به من وجاهةٍ لا يؤخذ على إطلاقه، فمحمد عثمان جلال قد ترجم "بول وفرجيني" كما سنذكر فيما بعد, بأسلوب عربيٍّ فصيحٍ، كما قال كثيرًا من الشعر باللغة الفصحى، فهو لم يكن بهذه المنزلة من الضعف اللغويّ حتى يعجز عن ترجمة أمثال لافونتين، وهزليات موليير، ومآسي راسين, ويضع رواية باللغة العامية. ولعل من الأسباب غير ما ذكره الدكتور طه حسين، عِظَمِ تأثره بالروح المصرية في كل شيء، وتعصبه للهجة العامية التي هي لغة جمهرة الشعب، وقد يكون ذلك لغرض تجاريٍّ بحت؛ إذ لم يجد الأدب الرفيع سوقًا رائجةً, فأقبل على التحدث إلى جمهرة الشعب باللغة التي يفهمونها لعلهم يقبلون على كتبه، وليس أدل على رواج هذه الكتب التي تكتب بالعامية من قول الشيخ محمد عبده، "ومنها الكتب المضرة بالأدب والأخلاق، كتب الأكاذيب الصرفة، وهي ما يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع، وتارةً تكون بعبارةٍ سخيفةٍ مخلةٍ بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد وعنترة العبسيّ، وإبراهيم بن حسن، والظاهر بيبرس، والمشتغلون بهذا القسم أكثر من الكثير، وقد طبعت كتبه مئات المرات, ونفق سوقها، ولم يكن بين الطبعة والثانية إلّا زمن قليل2".

_ 1 حافظ وشوقي ص4. 2 تاريخ الأستاذ محمد عبده, لمحمد رشيد رضا, ص416.

ويقول عثمان جلال مؤيدًا هذا الرأي حين حاول نشر "العيون اليواقظ": "واشتغلت بإتمام العيون اليواقظ، وعرضتها على الوالي بواسطة المرحوم مصطفى فاضل، وكان أوصلني إليه محمد علي الحكيم، فما أثمر غرسها، فاتفقت مع فرنساويّ له مطبعة من الحجر, يسمى: يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد، فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته، وصرفت عليها ما جمعت، ونشرتها، ثم بعد الحمار وبعتها، وقلت في ذلك: راجي المحال عبيط ... وآخر الزمر طيط والناس فاثنان بخت ... مروج وقليط والعلم من غير حظ ... لا شك جهل بسيط1 وقد يكون من الأسباب التي دعته إلى ترجمة المسرحيات وكتابتها باللغة الدارجة, إقبال الفرق التمثيلية على هذا النوع دون سواه, ولا سيما بعد أن أغلقت أبواب "الأوبرا" التي كان يشجعها إسماعيل, ويهب الممثلين فيها والمؤلفين لها بعض المال، ويحضر الروايات بنفسه، وكان التأليف حينذاك باللغة الفصحى، فلما أغلقت الأوبرا أبوابها؛ إذ عد التمثيل ترفًا وإسرافًا، وأنشئت الفرق الخاصة, واعتمدت على الجمهور، اضطرت إلى مجاراته في لغته، وإلى التأليف له بالعامية حتى يقبل على مسارحها. وإذا أحسنَّا الظن بعثمان جلال قلنا: إنه جارى المصلحين في نزولهم إلى مستوى الشعب حتى يكون لكلامهم أثره، ولم ينظروا للأدب إلّا بمقدار ما يؤثر في النفوس، وقد رأى عثمان جلال انتشار الأدب الرخيص, وإقبال الجمهور على سماعه في المقاهي؛ من أمثال قصة أبو زيد، وعنترة, والظاهر بيبرس, وغيرها، فأثر أن يوجد لهم أدبًا اسمى موضوعًا، ولكن لابد من كتابته باللغة التي يفهمونها، ولا سيما حين منعت الحكومة طبع كتب الأدب الرخيص؛ إذ وجدت فيها ضررًا عظيمًا، ولبَّت نداء المصلحين بمنع تداولها2.

_ 1 الخطط التوفيقية ج12 ص64. 2 الوقائع المصرية, العدد 1109, 11 مايو 1881.

وربما كان من حسن الظن بعثمان جلال أنه قلَّدَ أدباء الغرب في إنطاقهم أشخاص رواياتهم بلهجاتهم المألوفة، ورأى أنه ليس من المعقول أن ينطق الخادم مثلًا اللغة العربية الفصحى، ولما كان جمهرة أبطاله من عامة الشعب, لجأ إلى العامية لتكون شخصياتهم مطابقة لواقع الحياة، خاليةً من التكلف والصنعة. ومهما يكن من أمرٍ, فإن هذا النوع من الأدب لم يكتب له الخلود؛ لأن اللغة العامية، وإن كانت قريبةً من الشعب، تنبض بالحياة, وتجدد كل يوم, فهي لغةٌ لا أصل لها، ولا نظام، ولا قاعدة، ولذلك أهمل كل ما كتب بها، وإن كنت لا أبرئ محمد عثمان جلال من مملأته للإنجليز في حملتهم على اللغة العربية، وترويجهم للغة الدارجة؛ لأنه كان إبَّان عصر القوة -عصر إسماعيل- يكتب بالفصحى، فلما انقضى هذا العهد، ورأى المحتلين يشجعون اللغة العامية, ويعاضدهم المبشرون والمستشرقون أمثال: مارتمان Martman, ويشجعونه على الكتابة والتأليف باللغة العامية، وهم أصحاب الحول والطول، وعلى طريقته تلك1. وقد كان لمحمد عثمان جلال ومسرحياته، وكتابته باللغة العامية أثرٌ في الجيل الذي أتى بعده؛ إذ حذا حذوه "هيكل" في رواية "زينب", التي نشرها أول الأمر سنة 1914 باللغة العامية، ومحمد تيمور ومحمود تيمور فيما أخرجا من قصص, ولكن زينب أهملت كذلك؛ لأنها كتبت بالعامية، ويقول الأستاذ المازني في شأنها: "وأعتقد أن الدكتور هيكل يوافقني الآن على ذلك -أنه لو كتبها باللغة الفصحى -فإن فيها عاميًّا غير قليل- لكان أثرها أسرع في إزخار هذا التيار الجديد"2. ولم يجرؤ هيكل، كما لم يجرؤ من قبله محمد عثمان جلال، وقد كتبا باللغة العامية، على الجهر بأنهما ألفا هذه الروايات العامية، وإلّا انحطت منزلتهما الأدبية، ولذلك نرى عثمان جلال يرمز إلى اسمه بالحروف الأولى "م. ع.ج" على الروايات "المفيدة في علم التراجيدة" و"الأربع روايات من نخب التياترات", كما

_ 1 The Encyclopecia of Islam. Vol. II P. 985. 2 الأهرام 19 مارس سنة 1938, كلمة المازني في تكريم هيكل.

يكني هيكل عن نفسه حين نشر "زينب" لأول مرةٍ بقوله: "زينب -مناظر وأخلاق ريفية- بقلم مصري فلاح"، ذلك لعلمهما بأن اللغة العامية ليست لها مكانة، وأنهما يحاولان بعثها وخلقها، ولكن هيهات. ومن الكتب التي ترجمها محمد عثمان جلال عن الفرنسية رواية "بول وفرجيني" للكاتب الفرنسيّ "برناردين دي سان بيير"1, وقد صبغها عثمان جلال بالصبغة المصرية كعادته، وسماها: "الأماني والمنة، في حديث قبول وورد جنة"، وتصرف فيها بالزيادة والنقصان، ولكنه حرص في كثير من الأحيان على روح الرواية وأصلها, وقد قال في تصدير الكتاب: "أخرجته من الطباع الإفرنجية، وجعلته على عوائد الأمة العربية، فمن تصحفه بعين النقد، رأى القد على القد، ومن قاسه بمقياس المقابلة، وطبق آخره وأوله، رأى فذًّا قرن بتوأم، وعلم أن من ترجم فقد ترجم، ثم كتبته على ورق الحنة، وسميته قبول وورد جنة، لمقارنة مخرج الاسمين، ومطابقته في لفظة اللغتين". ولقد ترجمت هذه الرواية بعد ذلك عدة تراجم, أشهرها ترجمة المنفلوطي التي سماها: "الفضيلة"، وقد خلع عليها ثوبًا قشيبًا من أدبه وأسلوبه، وترجمته يغلب عليها الروح الأجنبيّ, وينقصها الروح المصريّ الذي اشتهر به عثمان جلال2. وكان لعمثان جلال الفضل في تنبيه الأدباء إلى هذه الرواية، وحاول كثير منهم ترجمتها كما ذكرنا، وقد التزم عثمان جلال الأسلوب المسجوع، والقصير الفقرات، السهل العبارة، واستمع إليه يصف حال ورد جنة قبل فراقها لقبول، وسفرها إلى خالتها. "ولما جاء العشاء، وجلس الكل على المائدة, وكان جلوسهم بغير فائدة؛ إذ كان لكل شأن يغنيه، وشاغل يشغله ويلهيه، ويأكلون قليلًا، ولا يقولون قليلًا، ثم

_ 1 برنادرين دي سان بيير Bermardin De Sanit Pierr كاتب فرنسي من دعاة الرجوع إلى الطبيعة, ولد في سنة 1737، وتوفي سنة 1814, ومن أشهر كتبه: بول وفرجيني, ودراسة الطبيعة. 2 H.R Gibb. B.S.O.S. Vol. VII Part. P.2-3.

ما أسرع ما قامت ورد جنة أولًا، وجلست في مكانٍ غير بعيدٍ في الخلاء، فتبعها قبول، وجلس بجانبها، ومكثت تراقبه, ومكث يراقبها، وانقضت عليهما ساعة، وهما ساكنان، ولبعضهما ملتفتان. وكانت ليلة نيرة، ذات سماء مقمرة، زائدة الإتحاف والألطاف، لا يرسمها رسام, ولا يصفها وصاف، قد نزل البدر منها منزلة القلب، ونشر أشعته على الشرق والغرب، فما يستره إلّا أثر الضباب، وبعض سحاب، كأنه حين تجلى على بساط الخضرة، بدرٌ عليه من الفضة بدرة، وكان الريح ممسكًا نفسه، والليل مطلقًا همسه، فلا يسمع في الغابات ولا في الوديان، لا صوت إنسانٍ ولا صوت حيوان, إلّا مناغاة الطيور في أوكارها، ومداعبتها مع صغارها، مسرورين بضيائه، وسكون الجو في جميع أرجائه". وكان عثمان جلال كثيرًا ما ينطق قبول وورد جنة بالشعر العربيّ الفصيح, مع اعترافه بأنها "لم يتعلما الكتابة ولا القراءة" بل نشأ على السذاجة والبراءة، فلا يفكران في أزمانٍ مضت، ولا ليالٍ انقضت، بل قام بعقولهما الصغيرة، أن الدنيا قد انحصرت في هذه الجزيرة، وأن لا لذة لهما فوق لذتهما، ولا شغل إلّا حب أمهاتهما"1. ومن ذلك الشعر قول ورد جنة، تذكر لهف الأمهات على أولادهن، ولذلك قبل أن تسافر إلى خالتها لتبتدئ تعلمها الدنيا: يا ويح قلبي على نساء ... قد لقبوهن بالأمهات يحملن طول الزمان هَمًّا ... على البنين أو البنات وكل خير لهن ماضٍ ... وكل ضيرٍ لهن آتٍ ما تم حظٌّ لهن إلّا ... بدَّلَه الله بالممات

_ 1 الأماني والمنة ص18.

فقال لها قبول, وقد أحسن أن يقول: وحق حبي لك يا أختاه ... وما اعترى قلبي وما أتاه لترين اليوم أمهاتنا ... ولنبيتن معًا في بيتنا1 وأسلوب عثمان جلال في "بول وفرجيني" كما ترى من الأساليب الخالية من التعقيد, والتي تنطلق في يسر ورشاقة, ويدل على تمكنه من اللغتين الفرنسية والعربية، فقد حصر على الأصل كل الحرص، وأداه بخير أداء، ولولا تمصيره لأشخاص الرواية، وجعله الكنيسة مسجدًا، وبرج ناقوسها مئذنة، وصبغها بالصبغة المصرية الخالصة, لجاءت ترجمته مثلًا في الترجمة؛ إذ أضفى عليها من الأمانة، وخفة الظل، وسهولة اللفظ شيئًا كثيرًا. ومن الذين اشتهروا بالترجمة خليفة محمود, وقد ترجم "إتحاف الملوك الألبا بتقديم الجمعيات في بلاد أوربا"، وكتاب "إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شرلكان" وترجم محمد أحمد عبد الرزاق كتاب "غاية الأدب في خلاصة تاريخ العرب" تأليف المؤرخ الفرنسيّ "سيديللو", وترجم بشارة شديد رواية "الكونت دي موت كريستو" تأليف: "إسكندر دوماس", وجاءت بعبارة بسيطة ليكون ذلك سهلًا على عامة الناس, كما يقول المترجم. وترجم حسن عاصم خطبة "رينان" الفرنسيّ، وموضوعها "الدين الإسلاميّ والأمة العربية", وترجم مراد مختار من التركية "قصة أبي علي بن سينا, وشقيقه أبي الحارث، وما حصل منهما من نوادر العجائب، وشوارد الغرائب". وهذه أهم الكتب الأدبية التي ترجمت في عصر إسماعيل، ويقول قدري باشا: إن مستوى الترجمة قد هبط بمصر بعد أن أغلقت مدرسة الألسن، ولم يخلفها معهد آخر لتخريج العلماء الأكفاء في التعريب، ولذلك استعانت الحكومة بالأجانب.

_ المصدر السابق ص29.

نعم إن مدرسة الألسن قد أعيدت في عهد إسماعيل -كما ذكرنا, بيد أن تخريج المترجمين لم يكن موضع عناية, ولا سيما بعد أن حولت إلى مدرسةٍ للحقوق سنة 1886. أما التأليف فقد خطا خطواتٍ لا بأس بها, ولا سيما في القانون والتاريخ والعلوم، فقد ألف قدري باشا ثلاثة كتب, رتب فيها أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوالت الشخصية والوقف، على مذهب أبي حنيفة، وصاغها في شكل مواد قانونية، وهي كتاب "مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان" في المعاملات الشرعية، وكتاب "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية", وكتاب "قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف". أما التأليف في العلوم, فهناك عشرات الكتب من تأليف علي البقلي، والشافعي، ومحمد بيومي، وصالح مجدي، ومحمد سليمان، وهو أول من برع في الترجمة من الإنجليزية. وقد ذكر قدري باشا1 أن تلاميذ رفاعة بك عرَّبُوا نحو ألف كتاب, أو رسالة في مختلف العلوم والفنون، وأن جميع الذين نبغوا في الترجمة كانت لهم مؤلفات قيمة. هذا, وقد توسعت حكومة إسماعيل في فتح المدارس والمعاهد على اختلاف أنواعها ودرجاتها، واقتضى ذلك تنسيق العلوم والمواد المختلفة لصغار التلاميذ، فألفت الكتب العربية شاملةً كل نواحي العلم, من: حساب وجغرافيا وتاريخ وطبيعة كيمياء وحيوان وحياة ولغة, إلى غير ذلك مما مهَّدَ السبيل لبلوغ النهضة ذورتها في عصرنا الحالي.

_ 1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي, ص511.

6- النهضة في بلاد الشام: لا نستطيع أن نغفل أثر السوريين في الأدب إبان القرن التاسع عشر وفي عصرنا الحاضر، ولقد ساعدهم على النهوض, ومكنهم من خدمة اللغة حرصهم على التعليم، ووجود الإرساليات التبشيرية. والباحث في نهضة سوريا التعليمية يعجب أشد العجب؛ لأن الأتراك تركوا البلاد تتخبط في ديجور مطبقٍ من الجهالة ردحًا طويلًا من الزمن، ولم ينشئوا من المدارس إلّا القليل الذي لا يكاد يذكر، وهي مدارس لا يجاوز ما تلقنه لتلاميذها مبادئ العلوم، وكان أكثر الذين بنوا مدارس دمشق غرباء عنهم، وقد ظلت المدارس التي أسست في عهد ملوك الطوائف مفتوحةً للطلاب قبل زمن الأتراك، بيد أن الناس قد فسدوا في القرون الأخيرة, وتوفروا على التهام تلك المدارس وأوقافها. وكان معظم هذه المدارس دينية؛ فمدرسة للفقه الحنفيّ، وأخرى للشافعيّ، وثالثة للمالكيّ, ورابعة للحنبليّ، ومنها مدراس لدارسة القرآن وتجويده، ومنها دور الحديث، وكان هناك مدرسة للطب, وأخرى للصيدلة، غير أن كل هذه المدارس قد أُغْلِقَت بعد دخول الأتراك بلاد الشام1. ولما رأى الأتراك أن مصر ولبنان قد سارتا خطواتٍ واسعةٍ في درج النهضة العلمية, لم يستطيعوا أن يغمضوا أعينهم عن التأخر والفساد والجهل الذي كان فاشيًا في سوريا، وقد وُكِّلَ إليهم أمرها، فأسسوا في أخريات أيامهم مدرسةً للحقوق, هي اليوم أحدى كليات الجامعة السورية، وأنشئوا مدرسة التجهيز والمعلمين سنة 1304هـ-1882م2. وفي سنة 1321هـ-1900م صدرت إرادة السلطان عبد الحميد بإنشاء مدرسةٍ طبية بدمشق، وأن يخصص لبنائها عشرة آلاف ليرة، ومثلها لنفقاتها ولوازمها، وذلك لأن بيروت أخذت تخرج أبناء البلاد في مدرستيها الأجنبيتين الأمريكية واليسوعية3.

_ 1 خطط الشام لكرد علي, ص69 ج6. 2 راجع خطط الشام لكرد علي, ص102 ج6. 3 نفس المرجع ص104.

أما غير دمشق من مدن الشام فكانت مقفرةً من المدارس تقريبًا إلّا حلب، وهي أكبر مدن سوريا، وقد عمرت قديمًا بكثير من المدراس، ولكنها خربت على يد العثمانيين، وجاء في تقويم 1332هـ-1912 أن بحلب الشهباء اثنتنين وثلاثين مدرسة، وما نظن العامر منها يتجاوز العشر1. وإذا كانت دمشق وحلب لم يسعدهما الحظ بالنهوض السريع، فإن نصارى لبنان كانوا أسبق إلى اليقظة من إخوانهم المسلمين في دمشق وغيرها، بفضل الإرساليات التبشيرية، ولصلة النصارى الدائمة بأوربا المسيحيحة, يستمدون منها القوة ضد الدولة العثمانية المغتصبة. وكان التعليم في لبنان -كما كان غيره- دينيًّا، ومن أوائل المدارس التي أسست فيه "مدرسة عين ورقة" سنة 1789، وكانت ديرًا, ثم حُوّلَت إلى مدرسة، وكانت تدرس فيها اللغة السريانية، والعربية، والفصاحة، والمنطق, واللاهوت. ولكن المدارس لم تنتشر، والنهضة لم تعم البلاد إلّا في الربع الثاني من القرن التاسع عشر, حين أسست مدرسة "عينطورا" سنة 1834م, ولا تزال مفتوحة الأبواب حتى اليوم, وقد تعَلَّم فيها عدد من زعماء النهضة اللبنانية الحالية. ولما وفد على لبنان الدكتور "فانديك" الأمريكيّ مبشرًا بالدين المسيحيّ, والمذهب البروتستانتي، ورأى البلاد في حاجةٍ للمدارس العلمية, أنشأ مدرسة "عبية" سنة 1847. كانت كل هذه المدارس في الجبل؛ لأنه موئل المسيحية، فلما وقعت مذابح سنة 1860, ونزح كثير من أهل الجبال إلى بيروت, ابتدأت الإرساليات تفتح المدارس فيها، ومن ذلك الوقت تبتدئ النهضة الحقيقية بلبنان. وأقدم مدرسة أنشئت ببيروت كانت للبنات اليتامى اللاتي فقدن آباءهن في مذابح سنة 1860, وأسستها "مسز طمسن" في تلك السنة، ثم المدرسة الكلية الإنجليزية الأمريكية للبنات سنة 1861.

_ 1 خطط الشام لكرد علي, ص11 ج6.

وقد كان لهاتين المدرسيتن أثر عظيم في النهضة؛ لأن تعليم الأم أول خطوةٍ في تعليم الشعب، وقد كثرت مدارس البنات في لبنان خاصةً, بعد ذلك كثرة ملحوظة، ولا ريب في أن الأم المتعلمة لن ترضى لأولادها الجهل. ومن أوائل مدارس البنين: المدرسة الوطنية, للمعلم بطرس البستاني, في سنة 1863، وكانت ممتازة بصبغتها الوطنية، وحرية الدين، ولكنها تعطلت سنة 1876, وأنشئت المدرسة البطريركية, للروم الكاثوليك, سنة 1865, ومدرسة الحكمة في السنة نفسها, وهي للطائفة المارونية, وأقدم المدارس الإسلامية هي كلية المقاصد الخيرية الإسلامية, سنة 1880. أما التعليم العالي فيتمثل في الكلية الأمريكية والكلية اليسوعية، وقد أنشئت الأولى ببيروت سنة 1866، وبها الآن فروع للطب، والفلك، وطب الأسنان، والتجارة، والآثار، والآداب، ولها قسمٌ إعداديّ وثانويّ، وبها مرصد فلكي, ولما قوي نفوذ الإنجليز في الشرق بعد الحرب العالمية الأولى, وصار تعلم الإنجليزية ضروريًّا اتسعت الجامعة الأمريكية، وزاد إقبال الطلاب عليها، وقصدوها من كل البلاد العربية، وبها ما يقرب من خمسة آلاف طالب، وقد اتسعت مبانيها، ,ألحق بها مستشفى عظيم، ولها عناية بالمؤلفات العربية1. أما الكلية اليسوعية: فقد نقلت إلى بيروت سنة 1874، وتعلم اللغات، والآداب, والطبيعيات, والرياضيات، وبها ثلاث شعب رئيسية: الحقوق والطب والهندسة، ولها مستشفى كبير، والتعليم فيها باللغة الفرنسية، وبها مكتبة من أنفس المكتبات العربية، ومطبوعات اليسوعيين ذات شهرة عظيمة. كان لهذه النهضة التعليمية في لبنان أثر بالغ في ثقافة الشعب، والإقبال على القراءة, والتنافس في أسباب الرقي بين الطوائف المختلفة، كل طائفة تسعى لأن تبز الأخرى وتحتل دونها مركزًا أدبيًّا ممتازًا في القطر الصغير.

_ 1 من أشهر أساتذتها الذين عرفناهم الرئيس "دودج" والأستاذ بولس الخولي, أستاذ التربية، والأستاذ أنيس المقدسي, أستاذ الأدب العربي، والدكتور قطسنطين زريق "وكان مديرًا للجامعة السورية"، والدكتور شارل مالك, وقد صار وزيرًا مفوضًا بالولايات المتحدة، والدكتور أسد رستم, ناشر مخطوطات الشام في عهد محمد علي، والدكتور مصطفى الخالدي.

ولكن كثيرًا من أدباء لبنان في القرن التاسع عشر قد آثروا الهجرة إلى مصر، لاضهاد تركيا المسلمة لهم، ولضيق المجال أمام تفوقهم في بلادهم، ومن أشهر مَنْ وفد على مصر من هؤلاء الأدباء, غير من ذكرنا سابقًا من الصحفيين: جورج زيدان، وطانيوس عبده، وأديب إسحاق، وسركيس، ويعقوب صروف، وفارس نمر1. وقد نشر زيدان في مجلة الهلال كثيرًا من البحوث المترجمة، واختصت المقتطف بالأبحاث العلمية, ومن أشهر آثار اللبنايين في الترجمة تعريب الإلياذة شعرًا، وقام بهذا العمل الضخم سليمان البستاني2. ولكن الأسف قد طغت الفرنسية على أهالي لبنان بعد الحرب العالمية الأولى, حينما خضعت بلادهم لحكم فرنسا، ففرضت الفرنسية في جميع المدارس، تُعَلِّم بها كل المواد ما عدا اللغة العربية، فاستعجمت ألسنة شبابهم وأدبائهم، وركت أساليبهم، وضعفت الترجمة إلى حد كبير، ولا سيما المسيحيين، أما المسلمون فقد انصرفوا للتجارة، وإن كانوا أصلح لغة من إخوانهم، ولولا شعراء الجيل الماضي وأدباؤه؛ لتأخرت منزلة لبنان في الأدب، على أن هذا الوضع قد تغير نوعًا ما بعد الثورة 1945، واستقلال لبنان, وأخذت النهضة الأدبية فيه تشتد وتقوى، وأسست فيه دور نشر قوية، وظهرت ثمة بعض الصحف الأدبية الراقية, وإن كان أثر الثقافات الأجنبية في نتاج أدبائه واضحًا كل الوضوح, وأخذ كثيرٌ منهم يقلد المذاهب الأدبية الأوربية بحماسة ظاهرة.

_ 1 وسنترجم لهم في الأجزء التالية من كتاب الأدب الحديث إن شاء الله. 2 ولد سنة 1856, وتوفي سنة 1925، وابتدأ في ترجمة الإلياذة سنة 1887 بالقاهرة، وتعلم اليونانية ليترجم الإلياذة. زونظمها في أحد عشر ألف بيت غير متقيد بوزن واحد ولا قافية واخدة بل استعمل كل ضروب الشعر وبحوره، وانتهى من نظمها سنة 1895، وشرحها وعلق عليها بألف بيت من الشعر وبكثير من القصص العربية، وانتهى من شرحها سنة 1902, ونشرت لأول مرة كاملةً بشرحها ومقدمتها سنة 1904.

الفصل الثالث: الأدب في عصر إسماعيل

الفصل الثالث: الأدب في عصر إسماعيل المدارس الأدبية في هذا العصر ... الفصل الثالث: الأدب في عصر إسماعيل لم يكن لهذه النهضة الشاملة، وهذا الإحياء القويّ الذي ظهر في عصر إسماعيل, ورجال البعثات أثر كبير في الأدباء الذين نشأوا في عصر محمد علي, وعاصروا إسماعيل بعد أن جمدت طباعهم، ورسخت عادتهم, وصار عسيرًا عليهم أن يتقبلوا الأفكار الجديدة, ويغيروا أسلوبهم في التعبير والتفكير، ولم يكن من المنتظر أن تؤثر النهضة في مثل هؤلاء الأدباء، ولم يتشربوا مبادئها، ويسيروا على هداها، ويتمتعوا بنورها ردحًا طويلًا من الزمن، ولم يكن من السهل التخلص من أوضار الماضي وتقاليده، ولا سيما ذلك الماضي القريب الذي يمت إلى عصور الضعف اللغويّ والفكريّ والخلفيّ؛ إذ لم ير الأدباء أمامهم أمثلةً تحتذى إلّا ما قيل في الماضي إن قريبًا وإن بعيدًا, أما الأدب الأوربيّ القويّ فلم يترجم في عصر إسماعيل منه إلّا شيءٌ يسيرٌ وبلغة ضعيفةٍ, ولا سيما الرويات المسرحية، ولو عرفه الأدباء ما استساغوه؛ لأن ثقافتهم كانت محدودة، وكان عصرهم مثقلًا بتلك التقاليد القديمة، والمدارس قليلة العدد، والمتعلمون في الأمة يعدون عدًّا. هذا، وقد كان اهتمام مصر في عهد محمد علي وإسماعيل بالعلوم أعظم من اهتمامها بالأدب، ولولا ما أخرجته المطبعة العربية حينذاك من الكتب القديمة، واطلاع المحبين في الأدب, والراغبين في التزود من ينابيعه على آثار السلف، ودواوين كبار الشعراء الذين ظهروا في عصور القوة, لما كان للأدب في مصر والشرق العربيّ نصيب. ولما كان الأدب الموروث هو أول ما عرفوا من الآداب, كان طبيعيًّا أن يحتذوه، ويحاكوه في موضوعاته وأسلوبه، ومعانيه وأخيلته، وقد تفاوت الأدباء في هذا التقليد تبعًا لمواهبهم وشخصياتهم، كما تفاوتوا في اختيار من قلدوهم فمنهم: 1- أدباء لم تكن لهم شخصية ألبتة، بل ساروا في الطريق المعبَّد الذي سلكه مِنْ قبلهم أدباء عصور الانحطاط والضعف، ذلك هو طريق الشعراء النظامين أو العروضيين, لا يعرفون الشعر والأدب إلّا أنه مهارةٌ لفظيةٌ وقدرةُ على التفوه بعباراتٍ شعريةٍ ونثريةٍ لا حياة فيها ولا عاطفة ولا قوة, وإنما غرضها إظهار

البراعة في اقتناص ألوان البديع، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكمات والتصريف، إذا تعارض الإعراب أو التصريف مع ما يريدونه من جناسٍ أو طباقٍ، ويفسدون بنية الكلمة، عساها تصادف ما يجرون وراءه من هذه الحلى التي يسترون بها عوار لغتهم الركيكة, وأفكارهم السقيمة، وخيالاتهم المريضة، ومثال هذه المدرسة العروضية في عصر إسماعيل: السيد علي أبو النصر, والشيخ علي الليثي، ولولا ما بهما من ظرفٍ طبيعيٍّ، ورقة قاهرية، ولولا أنهم أَلِفَا منادمة الأمراء والعظماء، وتطلبت المنادمة منهما أدبًا وحلاوة نكتة، وسرعة بديهة, لما خرجا عن نطاق أدباء مصر والشام إبَّان الدولة العثمانية، ولما امتازا بشيءٍ عن عبد الله الشبراوي، وحسن قويدر, وأضرابهما. 2- أدباء كانت لهم -مع تقليدهم للسلف والأدب الموروث -شخصية، بيد أن هذه الشخصية كانت ترى من بعيد، ومن خلف الحجب الكثيفة من التقاليد، في العبارات والأساليب والأخلية، حائلة غير واضحة ولا مميزة، ولكنها تدل على أن هذا الأديب قد جاهد في أن ينفذ بشاعريته وأدبه من خلال هذه الحوائل الغليظة، وإن لم تمكنه شخصيته القوية، ولا أدبه المتين من التغلب عليها، خير مثل لهذا النوع من الأدباء هو: محمود صفوت الساعاتي، وإبراهيم مرزوق، وصالح مجدي. 3- أدباء قويت شخصيتهم بعض الشيء، وحاولوا أن يجددوا، وأن يلونوا أدبهم بما يظهر نفسيتهم, ويطبعه بطابعهم، وقد نجحوا في ذلك أحيانًا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقاوموا سيطرة الأدب الموروث، ولا إغراء المحسنات، والزخارف، فضعفت هذه الشخصية، وتضاءلت أمام هذا الإغراء، فجاء أدبهم إبَّان هذا الضعف من نمط المدرسة الثانية، ومن هذه المدرسة: عبد الله فكري، تراه آنًا ينطلق على سجيته ولا يتقيد بهذه الصناعة السمجة المتكلفة في نثره، وبهذه الزخرفة اللفظية الممجوجة, فتتضح شخصيته وتنجلي فكرته، ويترسل في كتابته, فيفهم الناس منه ما يقول دون عناء، وهذا قليل في كتابته، وآنًا يجذبه ذلك الزخرف فيستعد ويهتم ويحتفي بموضوعه, ويبذل جهدًا شديدًا في صوغ العبارات، ويكاد هذا يطغى على شخصيته، وأكثر شعره ونثره من هذا الطراز.

4- وأدباء رزقوا الشخصية الغلابة، والأدب المتين، وحاكوا النماذج الرفيعة من أدب السلف، فاستحصدت مرتهم، وعظمت ذخريتهم من الأدب الرصين، فمزقوا هذه الحجب الكثيفة، وطرحوها جانبًا، وارتفعوا بالشعر وبالأدب إلى حيث الشمس الساطعة القوية, فتراءت معانيه، وتجلت أخيلته، واهتزت لديباجته المشرقة النفوس، قلدوا القدماء بل عارضوهم، وجروا وإياهم في ميدانٍ واحدٍ, ولكنهم لم يقلدوا الغَثَّ من الآداب, بل عمدو إلى فحول الشعراء ينسجون على منوالهم, ويبارونهم في قصائدهم المشهورة الخالدة، فحلَّقوا معهم في سماواتهم، وأضفوا على الشعر لونًا جديدًا جذابًا, لم يستمتع به منذ أمد طويل. أجل! لم يكونوا دائمًا في قوة فحول الأدباء والشعراء السابقين، بل قصروا عنهم في كثير من الأوقات، ولكن حسبهم أن سلم شعرهم من هذه العلل والأوصاب التي أزمنت لدى الشعر العربيّ قرونًا، ووصلت به إلى درك الغثاثة والركة والعجمة، وخير مثل لهذا النوع من الأدباء -أستغفر الله- بل باعث الشعر العربيّ في العصر الحديث، وصاحب هذه اليد الطولى على الأدب هو البارودي. هذا, وقد ظهر في أخريات عصر إسماعيل فجر نهضةٍ جديدةٍ في الأدب، لم تكن مدارس إسماعيل، ولا حركة الإحياء في عهده هي الباعث عليها، ولكن رغبة إسماعيل في أن يرى مصر بين عشيةٍ وضاحها قطعةً من أوربا في مدنيتها وحضارتها، وجعلته يسرف في مال مصر ويبدده في هذه السبيل, غير ناظر إلى الشعب ومصيره. واتخذ الأجانب من حب إسماعيل للحضارة الأوروبية وسيلةً لاستيطان مصر، فجاؤوا زرافاتٍ ووحدانًا، يرتادون هذه الأرض البكر, وينشئون البيوت التجارية والمصارف المالية، ويتقدمون لخدمة الحكومة في جميع مصالحها, ولما استدان إسماعيل، وأثقلته ومصر الديون, عظم نفوذ هؤلاء الأجانب, وشجعتهم حكوماتهم وحمتهم امتيازاتهم، فكان هذا النفوذ المتزايد سببًا في تنبه المصريين إلى الخطر الداهم الذي ينتظر بلادهم.

وتصادف أن كان بمصر الزعيم المصلح السيد جمال الدين الأفغاني -وكان من الملهمين في العصر الحديث- فبثَّ تعاليمه الإصلاحية، وشجَّع حركة الاستياء من طغيان النفوذ الأجنبين، وأخذ يقتحم هذا الحمى الذي ظل قرونًا لا يقرب، وهو حق الحاكم في التصرف برعاياه وأموالهم ونفوسهم، فوجَّه الانتقاد لإسماعيل, وحاسبه في الصحف المختلفة التي يكتب فيها أتباعه ومريدوه, من أمثال: أديب إسحاق، وإبراهيم المويلحي، وسليم نقاش، وعبد الله نديم، ويوسف أبو السعود، وهو من ورائهم يغذيهم بروحه وتشجيعه وآرائه، ويكتب هو أحيانًا مستترًا. وهذه الحركة أنتجت أدبًا قوميًّا؛ حيث وجهت الأدب -ولا سيما النثر- إلى النظر إلى شئون الشعوب العربية، والدفاع عن حقوقها, ووصف أمراضها وأدوائها، وماتتطلبه هذه الأوصاب من علاجٍ، ولنا عودة إلى هذا الأدب ومظاهره فيما بعد. وحريٌّ بنا، وقد ألقينا هذه النظرة العاجلة على ألوان الأدب في عصر إسماعيل, أن نعود إلى هذه الألوان والنماذج فندرسها بشيءٍ من التفصيل. 1- السيد علي أبو النصر: مصريٌّ شريف النسب من منفلوط، لا نعرف على التحقيق متى ولد، وأغلب الظن أنه كان رجلًا ناضجًا في عصر محمد علي؛ حيث أرسله في مهمةٍ إلى الأستانة, في خلافة السلطان عبد المجيد، ومبعوث محمد علي إلى "الحضرة الخليفية" لن يكون حدثًا غرًّا, أو شابًّا غير مجرب، بل رجلًا مكتمل العقل والشهرة، ولذلك نرجح أن ولد في أوائل القرن التاسع عشر, وجاء إلى مصر من منفوط وهو صغير السن، ثم دخل الأزهر وتلقى به العلوم العربية والشرعية، إلّا أنه لم يسر في مرحلة التعليم هذه حتى غايتها، بل ترك العلم واشتغل بالأدب، وقد ظهر ميله إليه منذ الصغر, وكان عصر شبابه مقفرًا من الأدباء اللامعين، وكان صفوت الساعاتي في شغلٍ بمدح أمراء الحجاز -كما سيأتي، فنال أبوالنصر شهرةً، واتصل بالأسرة الحاكمة، وبعثه محمد علي -كما ذكرنا- إلى الآستانة، وصحب إسماعيل من بعده، وكان له نديمًا وجليسًا، وقد سافر إلى الآستانة معه مرةً ثانيةً.

ولم يكن أبو النصر شاعرًا فحسب، ولكنه كان نديمًا أكثر منه شاعرًا، وللمنادمة صفات كثيرة، وهي صنعة شاقة، أما هذه الصفات فمنها: الإحاطة بالأدب القديم, ورواية شعره ونثره ونوادره وأمثاله، ثم الذكاء الحاد, وسرعة البديهة، ومعرفة دخائل النفوس، ودراسة أحوالها المتباينة، وأهم من هذا طبيعة مرحة، قادرة على استلال سخائم النفوس، وبعث الضحك مع الاحتفاظ بالوقار والمنزلة, حتى لا يمتهن النديم ويهان, وليس الضحاك أمرًا هينًا, ولا سيما في مجلس أميرٍ عظيمٍ تشغله أعباء الحكم، وتَحِزُّ به أزمات نفسية كثيرة، والنفس الإنسانية يعتورها الحزن والسرور, والانقباض والانشراح، والغضب والرضا، والمفروض في النديم أن يستطيع بعث الضحك في كل حالة، ولا سيما في حالات الانقباض والحزن، وأن يذهب بمرحه وأدبه ضُرَّ القلوب، وتجهم الوجوه، مع أنه إنسانٌ كسائر الناس, له نفس تحزن وتنقبض، وعقل يفتر ويخبو، وقريحة تخمد وتتبلد أحيانًا. ولهذا كانت مهمة النديم شاقة، وعليه أن يخلق الجو المناسب لنكاته، وأن يروض الناس على الضحك حين يطلق النكتة, ولو لم تكن مستساغة، وهذا فن يتقنه الموهوبون من الندماء. ثم إن النديم صدًى للحوادث التي تحدث في مجلس الأمير أو العظيم، يسجلها في أدبه, فيقول الشعر في كل المناسبات الممكنة, حين يرحل الأمير، وحين يعود، وحين يرتقي أحد أفراد الحاشية, أو ينعم عليه بلقبٍ، وحين يولد مولود جديد، وفي الأعياد والأفراح والمآتم، بل في غير ذلك من المناسبات المفاجئة والعارضة. وإذا تصفحنا ديوان أبي النصرلم نجده شيئًا غير هذا، وقلَّمَا يلتفت النديم لنفسه, فيظهر لواعج حبها، أو اهتزاز مشاعرها وعواطفها، أو يلتفت إلى غير الأمير وحاشيته.

وشعر أبي النصر يمثِّلُ كذلك هذه المدرسة التي أثقل أدبها بأوضار القديم وآفاته، فهو مولع بالمحسنات البديعية، وبالتأريخ الشعري، وبالألغاز، وبالتشطير, والتلاعب بالألفاظ، والشعر في هذه المدرسة -كما ذكرنا- صناعة تظهر البراعة والقدرة على صياغةٍ معينةٍ تحقق غرضًا من هذه الأغراض, وليس ترجمانًا عن همسات القلوب، وأشجان النفوس وأحاديثها، ومطية للخيال يحلق في سماواته الواسعة، أو مفصحًا عن فكرة اختمرت في عقل الشاعر وأبت إلّا أن تظهر جليةً واضحةً, كما يجب أن يكون الشعر. ولم يكن مع هذا شعر السيد علي أبي النصر متين النسج، قويّ العبارة, بل هو وسط بين القوة والضعف، وبذلك يكون خير مثال للنظامين أو العروضيين, ومن شعره وقد أهدي إليه قدح: أهدى الحبيب لمن أحب ... قدحًا تحلى بالذهب لو أفرغت فيه الطلا ... لأطل ينظره الحبب قد راق منظر حسنه ... ودعا له داعي الطرب لا نظرت لشكله ... في رسم تيجان العرب قلبته وقبلته ... ووعدته بنت العنب ولأجله لولا التقى ... لخلعت أثواب الأدب وملأته راحًا بها ... ينفي عن الصب الوصب لكنني أودعته ... بخزنة تحوي الأدب ومدحت من أهداه لي ... ومنحته شكرًا وجب وجعلته بشرى المنى ... والدهر يأتي بالعجب وقال ملغزًا: ما اسم الحبيب أفيدوا أيها الأدبا ... فإن بقراط عنه ساء منقلبا؟ فقال لي بعضهم: حرف أضيف له ... حرفان دلَّا على شيءٍ حوى ذنبا فقلت: هذا جواب رائق فعلى ... مثلي لمثلك شكر الفضل قد وجبا

ومن قوله يتغزل: نور زاهي الروض أم نور الصباح ... وابتسام الثغر أم زهر الأقاح ونجوم تزدهي في أفقها ... بوميض البرق أم كاسات راح ولا، ولا، بدر تمَّ ينجلي ... للندامى في اغتباق واصطباح بمحايا يزدري شمس الضحى ... في معاني حسنه تعيا الفصاح وقال مهنئًا مصطفى نعماني برتبة الباشوية, مؤرخًا في كل شطرٍ من أبيات القصيدة بتاريخ هذه الرتبة, وهو سنة 1295. بشير الهنا لاحت بيمن قدومه ... بدور بها نور البشائر قد صفا وبدر التهاني فاق بالأنس نوره ... فأهدى لنا أسنى السرور وأتحفا وهكذا حتى أتم خمسة عشر بيتًا, كل شطر منه يؤرخ سنة 1295 مظهرًا بذلك مهارته وقدرته على الصياغة والنظم. ومن أحسن ما قاله من الشعر هذه القطعة التي يتأسف فيها لفراق أحبابه: لقد ذهب النوى بجميل صبري ... وأودع في حشاشتي الولوعا وألبسني الأسى خلع التمني ... وألزمني التذلل والخضوعا ونار الشوق أغراها غرامي ... على كبدي فقومت الضلوعا ولي قلب تقلبه شجوني ... وتمنعه السكنية والهجوعا يبيت مع الأحبة حيث كانوا ... ويصبح راجيًا منهم رجوعا يرى أضغاث أحلام الأماني ... حقائق لا يزال بها ولوعا تطوف به الحوادث وهو لاهٍ ... كأن الوهم ألبسه دروعا وقائلة: إلام تحن شوقًا ... إلى حيٍّ أحلَّ بك الهلوعا فقلت لها: وقيت اليأس إني ... أود بحبهم أدعى هلوعا

أبعد فراقهم ترتاح روحي ... وترجو ساعةً أن لا تلوعا1 فهم روحي وريحاني رواحي ... فكيف أرى إلى السلوى نزوعا2 وفي هذه النماذج التي سقناها من شعره يتبين مدى ما ذكرناه عن أدباء هذه المدرسة وتقليدهم, وعدم ظهور شخصيتهم، مع افتتانهم بالبديع والجري وراءه، وضعف أسلوبهم، وقد مات سنة 1880، وله ديوان مطبوع. الشيخ علي الليثي: ولد سنة 1830 ببولاق، وتيتم صغيرًا, فتحولت به أمه إلى جهة الإمام الليثي وإليه ينسب، وطلب العلم بالأزهر مدةً, ولكنه لم يتم تعليمه, ثم رحل إلى طرابلس الغرب, وأخذ عن الشيخ السنوسي الكبير, والشيخ القوصي الكبير الطريقة والعلم، ولما عاد اتصل بالأسرة الحاكمة، وكان مقربًا لدى الخديو إسماعيل؛ لأنه كان مثلًا للنديم المحبوب الذي لا يُمَلُّ حديثه، ولا يطاق فراقه، وتورى له في باب المنادمة ونوادر لا تزال تتردد حتى اليوم على ألسنة السمار في مجالس الأنس, ولعل كثيرين منا يعرفون قصته مع "المهردار" بقصر الخديو إسماعيل, حين كتب على باب حجرة الشيخ الآية الكريمة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إذ لم يجد لقبًا سواها يعطي لهذه الحجرة, كما أعطيت الحجرات الأخرى بالقصر ألقابًا، من مثل حجرة أمين المخازن، ورئيس الحرس، وغير ذلك، وقد كانت هذه مداعبة من "المهردار"، أثارت في نفس الشيخ الليثي الرغبة في الانتقام منه، وجعله سخريةً أمام رجال الحاشية، فانتهز فرصة وجوده معه بحضرة إسماعيل، والمجلس عامرٌ بعلية القوم يخوضون في أحاديث شتَّى، ولما سنحت الفرصة قال الشيخ علي الليثي للخديو: عندي قصةٌ صغيرةٌ يا مولاي، فقال: ما هي؟ قال:

_ 1 تلوع: تجزع. 2 الراح: الخمر، والنزوع، الميل.

لنا طحونة في البلد ... لكن تقيله ع الحمار علقت فيها الطور عصى ... علقت فيها المهردار فكانت أضحوكةً سارت على الألسنة، وطرب لها الخديو وأفراد حاشيته، ونال الشيخ الليثيّ لدى إسماعيل حظوة ومنزلة، وعرف رجال الدولة مكانته, فكان مقصد طلاب الحاجات، ولايرد له رجاء عند أولي الأمر, ولما مات إسماعيل أبقى عليه توفيق، وقرَّبَه وأكرمه، وبقي مخلصًا له في أحلك أوقات الثورة, حين تنكر له كثيرون ممن أكرمهم توفيق, فأسبغ عليه من نعمه, وكافأه على إخلاصه له. وللشيخ علي الليثي ديوانٌ لم يطبع، بل يقال: إنه لعن من يطبعه، ولسنا ندري سببًا واضحًا لعزوف الشيخ عن تخليد أثره الأدبيّ, إلّا أنه نال ثراءً واسعًا في أخريات حياته، وصار من سراة مصر، وليس من اللائق بسريٍّ وجيهٍ مثله أن يكون له ديوان شعر يروى, وبه ما به من عبثٍ ومجونٍ وتزلفٍ لكثيرين ممن يتسامى في حالته الأخيرة لمنزلتهم, ومن المستبعد أن يكون الشيخ قد أدرك أن شعره لا يستحق الخلود، وأنه ركيك ضعيف، فكل إنسان مهما كان شأنه يعجب بما يقوله، ولا يفطن ما به من عيوب، ثم إن الذوق الأدبيّ والنقد لم يكونا قد وصلا إلى منزلةٍ تمكن الشيخ من الاطلاع على مساوئ شعره، بل على العكس, كان الشيخ محسود المكانة الأدبية، ويتهافت أدباء عصره على مكاتبته ومطارحته الشعر1, وقد طال عمر الشيخ, وتوفي سنة 1313هـ-1896م. وإذا نظرنا إلى ما روي لنا من شعره، لم نجده يتميز عن زميله السيد علي أبي النصر في شيء، ونجده يقول في المناسبات المختلفة شأن الندماء، وقلما يطلق نفسه على سجيتها، وينظم الشعر؛ لأنه يشعر بدافع نفسانيّ يلهمه القول, ومن شعره على البديهة قوله، وقد كان أحد رجال الحاشية يفرغ تفاحة بمدية ليشرب فيها، فانكسرت المدية، فنظر إلى الشيخ نظرة من يسأله وصف هذه الحال، وخليق بنديم الخديو إسماعيل أن يسجل مثل هذه الحادثة، فقال الشيخ مرتجلًا:

_ 1 الآداب العربية في القرن التاسع عشر, للأب لويس شيخو.

عزَّت على الندمان حتى إنهم ... تخذوا لها كأسًا من التفاح ولدى اتخاذ الكأس منه بمدية ... لان الحديد كرامةً للراح ومن شعره في رثاء عبد الله باشا فكري: نذم المنايا وهي في النقد أعدل ... عداة انتقت مولى به الفضل يكمل كأن المنايا في انتقاها خبيرة ... بكسب النفوس العاليات تعجل فتم لها من منتقى الدر حلية ... بها العالم العلويّ أنسًا يهلل ويقول في وصف الفقيد: لقد كان ذا بر، عطوفًا، مهذبًا ... سجاياه صفو القطر بل هي أمثل وقيق حواشي الطبع سهل محبب ... إلى كل قلب حيث كان مبجل وله في مدح السلطان عبد العزيز في عيد جلوسه سنة 1290: مولى الملوك الذي من يمن دولته ... ظل العدالة في الآفاق ممدود عبد العزيز الذي آثاره حمدت ... أبو الألى جدهم في المجد محمود أجاد نظم أمور الملك في نسق ... لا يعتريه مدى الأزمان تبديد فلا تقسه بأسلافٍ له كرمت ... والشبل من هؤلاء الأسد مولود ففخرهم عقد در وهو واسطة ... في جيد آل بني عثمان معقود وهذا نظم ليس فيه شيء من الخيال أو المعاني السامية، وعبارته تميل إلى الضعف، وهكذا كان شعر الشيخ، بل له شعر مليء بالمحسنات والزخارف اللفظية التي زادته ضعفًا على ضعفٍ، من مثل قوله يرثي محمود باشا الفلكي, وقد تصادف أن تهاوت نيازك ليلة وفاته:

أرى النيازك عن سام من الفلك ... مذعورة أصبحت تصبو إلى الدرك كالطير فاجأها البازيّ وأذهلها ... فحاكت البرق، وانقضت عن الحبك إلى أن يقول: إليس نسر سماء العلم قد علقت ... كف المنون به فانحاز في الشرك الصبر يا نفس، واستبقي منايحه ... أو فالتصبر إن تبغي الهدى فلك حل القضاء وناعي المجد أرخنا ... قد مات محمود باشا المسند الفلكي "فقد أرخ وفاته سنة 1353 في هذا البيت". وهو شعرٌ ليس فيه من أثر الحزن شيء، بل هو مصنوعٌ ليظهر قدرة الناظم على تلفيق مثل هذا الكلام، وقد حاول مرةً أن يَفْتَنَّ ويصف السفينة التي أقلته إلى مصر وهو عائد من برلين، فلم تمكنه اللغة القوية، ولم يسعفه الخيال، وأتى الشعر ضعيفًا، وأغلب الظن أنه لم يقله بدافع نفسيّ، وإنما طلب إليه أن يسجل هذه الرحلة فصنع الأبيات التي منها: أصبح الوقت باسمًا بالسرور ... كابتسام الربيع وقت الزهور أينا لقي ظريف طبع لطيفًا ... كي ندير الحديث مثل الخمور فوق ظهر السفين نحسن وصفًا ... حيث يجري على صفاء البحور وتراه يختال وهو معنى ... ويحه كم يجر ذيل الفجور ذيله يرسم المجرة عجيبًا ... بين موج يضيء مثل البدور وهو وصفٌ غنيٌ عن التحليل، وإظهار ما به من ركاكة، ففي كل بيت عوار لا يغفر, ودليل قاطع على أن الشيخ ينتمي إلى مدرسة النظامين والعروضيين, ولعل خير ما روي له, قصيدته التي قالها مستعطفًا الخديو توفيق عقب الثورة العرابية، وطالبًا الصفح عمن أجرم -في رأيه:

كل حالٍ لضده يتحول ... فالزم المصبر إذ عليه المعول يا فؤادي استرح فما الشأن إلّا ... ما به مظهر القضاء تنزل رب ساعٍ لحتفه وهو ممن ... ظن بالسعي للعلا يتوصل قدر غالب وسر الخفايا ... فوق عقل الأريب مهما تكمل غاية العقل حسرة وعقال ... واللبيب الذكيّ من قد تأمل كيف ننسى، وحادثات الليالي ... فاجأتنا بكارثٍ ليس يحمل أذهبت أنفسًا وغالت نفيسًا ... وذوي مربع الحظوظ وأمحل وإذا المرء كان بالوهم يبني ... فخيال الظنون ما قد تمثل وريح قوم سعوا لإدراك أمر ... دون إدراكه الجبال تزلزل ما أصروا عليه إلّا أضروا ... بأناس من نابه أو مغفل ذاك يسعى على التقية خوفًا ... وسواه سعى لكيما يجمل لو أصابوا الرشاد عند ابتداء ... كانت الغاية الجميلة أجمل وهذه القصيدة على ما بها من سهولة، فمعانيها مطروقة ليس فيها جديد, وحكمها مألوفة، وبها كثير من أثر الصنعة والتكلف، أما الخيال وهو روح الشعر وجناحه الذي يحلق به فلا أثر له, ونعود فنقرر أن هذه المدرسة التي ينتمي إليها علي أبو النصر, وعلي الليثي, هي مدرسة التقليد للشعر الذي كان سائدًا في عصور ضعف اللغة، وليس لهذين الشاعرين وأضرابهما شخصيةٌ قويةٌ تهتك ستار هذه الحجب الكثيفة من الزخارف السمجة، وليس لهما قوة عارضة، وفحولة نسج لتستر مساوئ هذا الذي يسمى شعرًا, وهما نظامان أكثر منهما شاعران، ويقولان في المناسبات نظمًا غير صادر عن شعور إلّا القليل النادر.

3- محمود صفوت الساعاتي1: وهاك مثلًا لشاعرٍ استطاع بمواهبه أن يفصح عن شخصيته، وإن تراءت من بعيدٍ حائلة اللون، غير واضحة المعالم، تحاول جهدها أن تظهر من خلال هذه السدف الغليظة من التقاليد الموروثة في الشعر العربيّ, ولا سيما عصور الركة والانحلال, وقد أوتي حظًّا من اللسن والفصاحة فاستطاع أن يجيد في غير ما موضع من شعره، حتى ليعده بعضهم طليعةً للنهضة الحديثة، وممهدًا للطريق الذي سلكه الباردوي من بعد. ولد الساعاتي بالقاهرة سنة 1241هـ-1825م, وظلَّ بها إلى أن بلغ الثانية عشرة، ثم ارتحل إلى الإسكندرية فأقام بها ثمانية أعوام، ولم يدخل الساعاتي الأزهر كما دخله علي أبو النصر, وعلي الليثي، ومحمد شهاب، وعبد الله فكري, وغيرهم، بل يقال: إنه لم يتعلم النحو, وإنما استظهر ديوان المتنبي, وكثيرًا من أشعار القدماء فاستقام لسانه، وعظم مخزونه من الأدب، وقد ظهر تأثير المتنبي في شعره واضحًا، وكان بينه وبين النحاة مناقشات طويلة كما سنرى. وكان تليمذًا للشيخ حسن قويدر، يغشى مجلسه, ويأخذ عنه الأدب، وكان الشيخ قويدر غنيًّا كريمًا، ومات سنة 1845، وكانت سن الساعاتي حينئذ عشرين سنة، وهذا كل ما نعلمه عن ثقافة هذا الشاعر وحياته حتى هذه السن، وقد رثى الشيخ قودير بقصيدة مطلعها: بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب وفيها يقول: وقد حشاها بالمبالغات السخيفة، وهي ليست قوية النسج, مما يدل على أنها من أوائل ما نظم:

_ 1 هو محمود صفوت بن مصطفى أغا الزيلع, الشهير بالساعاتي، والساعاتي لقب غلب عليه؛ لأنه مهر في إصلاح الساعات, ولا ندري على التحقيق أكان إصلاح الساعات حرفةً له أم هوايةً كما يقول بعضهم.

يا شمس فضل فدتك الشهب قاطبة ... إذ عنك لا أنجم تغني ولا شهب لما أصابك لا قوس ولا وتر ... سهم المنية كاد الكون ينقلب ما حيلة العبد والأقدار جارية ... العمر يوهب والأيام تنتهب لو افتدتك المنايا عندما فتكت ... بخيرنا لفدتك العجم والعرب وأمست لفقدك عين العلم سائلة ... ترجو الشفاء وأنَّى ينجح الطلب إلى آخر هذا النظم الذي ينبئنا بأن ذوق الشاعرلم يكن قد تهذَّب بعد، وأنه يحاكي الشعراء المتأخرين في نسجهم الضعيف, واستعاراتهم السمجة، مثل "عين العلم سائلة" وغير ذلك. وفي سن العشرين بدا له أن يحج إلى بيت الله الحرام، وهناك اتصل بأشراف مكة "آل عون"، فأكرموه، واصطحبوه معهم في غزواتهم, وحروبهم مع آل سعود وأمراء اليمن، وظل بجوارهم خمس سنواتٍ يسجل انتصارتهم، ويسبغ عليهم مديحه، ولما عزل الأمير محمد بن عون عن إمارة مكة، ورحل إلى الآستانة, صحبه الشاعر ثمة، ومكث معه قليلًا، ثم تركه، ورجع إلى مصر، ولسنا ندري سببًا لتركه: أيئس من عودة الأمير إلى أريكته, فأراد أن يبحث عن شخصٍ آخر يستظل بظله؟ أم أن الأمير رأى نفسه معزولًا قليل المال, فبرم بصحبة شاعرٍ يعوله وينفق عليه في غربته؟ ولما عاد إلى إمارته لم يستدع شاعره الصداح، وفي شعر الساعاتي ما يدل على أن القطيعة كانت من الأمير من مثل قوله يخاطبه: أوليتني الآلاء ثم تركتني ... مثل الذي حلت به اللأواء ما كان ذا أملي الذي أملته ... فيكم وأنتم سادة كرماء ويقول: وحبوتموني بعدها بقطيعة ... أكذا يكون تكرم وحباء

وقال مرةً يعاتبه، ويظهر يأسه منه، وكأنه يودعه إلى غير رجعة: قضى العبد بعض الواجبات بقصده ... إليكم وقد جوزي بما هو أعظم ونال الذي قد كان يرجوه وانقضت ... أمانيه منكم، والسلام عليكم وعلى الرغم من هذه القطيعة, فقد ظل الشاعر يتحسر على أيامه الخاليات، وعلى المودة المفقودة، ويتعذر عن جرم لا ندري كنهه للشريف محمد، ولأولاده من بعده عبد الله، وحسين، وعلي، فيقول للشريف عبد الله: شددت بكم بعد الإله عزائمي ... فكنت عليهم بالعذاب شديدًا وإني أعيذ النفس بعد لعفوكم ... وإن جلَّ ذنبي أو مكثت بعيدًا ويقول مرة أخرى للشريف عبد الله: فإني لم أبرح على العهد مخلصًا ... وإن طال عهد البعد واشتقت معهدًا ويبدو أن الشريف عبد الله كان يصله على البعد، ولكن كان يأمل أن يستدعيه لديه: يقلدني فضلًا عن البعد بيننا ... وأطمع حرصًا في شنوف المسامر ويتذلل للشريف حسين, ويطلب العفو: أقلني وبادر بالجميل فإنني ... أرى العفو دومًا ممن صفات الأماجد ولما يئس الشاعر من صلاتهم، والعودة إليهم بعد كل ما قدمه من زلفى ومن قصائد يرسلها إليهم في كل المناسبات, قال للشريف حسين: عللت نفسي غرورًا بالمواعيد ... فكان تعليلها عنوان تفنيد إلى متى وإلى كم لا أرى زمني ... إلّا كذا بين تقريب وتبعيد؟! قالوا ذكاؤك محسوب عليك كما ... يروى، فقلت حديث غير مردود

وما كان أغنى الشاعر عن هذه الضراعة والذلة, وهذا الإلحاح المشين في الطلب, وأغلب الظن أنه لم يكن يراه بهذا المنظار, وإنما يقتفي آثار الألى عبدوا له طريق المدح, والإلحاف في المسألة من لدن النابغة الذبياني حتى عصر إسماعيل، ولم يجد في قوله هذا ما يخل بالكرامة أو يشين المروءة، ونحن إنما نحكم عليه وعلى أمثاله من الذين طبعوا الشعر العربيّ بهذا الطابع؛ لأننا في عصرٍ تغيرت فيه قيم الأشياء، وصرنا نعتد بالأدب الشعبيّ القوميّ، وبالشعور الخاص، والعواطف الكامنة في نفس الأديب، ونجوى خياله وروحه، أكثر من التفاتنا إلى شعر المناسبات، والسير في ركاب العظماء، والتمدح بمناقب الأغنياء, ولكننا نتساءل: ألم يكن بمصر أمراء يكفون الشاعر لو تقرب منهم مؤنة هذا التسول؟ ولماذا قصر في مدح إسماعيل إذا لم يثبه سعيد على مديحه إياه ثوابًا يرضيه؟ وهل ثلاث قصائد تكفي في إسماعيل, وهو من هو حدبًا على الأدب والأدباء، وهو الذي أظل بعطفه العليين أبا نصر والليثي، هما دون الساعاتي قدرةً على النظم, ومتانة شعر, وسمو خيال, أيهما المقصر: إسماعيل إذ لم يضم إلى حاشيته وندمائه هذا الشاعر؟ أو الساعاتي إذ انصرف إلى مديح آل عون بمكة، واشتهر بإخلاصه لهم، وجعل شعره حبسًا عليهم إلّا القليل، ورأى أن باب إسماعيل قد سبقه إليه شاعران آخران, واحتلّا لدنه مكانةً ومقامًا؟ فلم يشأ أن يدع طريقًا عرفه، ونوالًا جربه وذاق حلاوته، وينافس آخرين في أمرٍ لا يعرف مصيره، فظلَّ على ولائه لآل عون يمدحهم في كل مناسبة: إذا غزوا، وإذا أبلوا من مرض، وإذا ولد لهم مولود، ويقول فيهم: أحبهم ما دمت حيًّا ديانةً ... وأرغب لكن عن سواهم ترفعًا وقد سار شعري بين شرق ومغرب ... فما اختيار غير البيت والآل موضعًا وما طار في الآفاق بدعًا مديحهم ... ولكنه نشر زكي تضوعًا

وكان يرى أنهم هم الذين أطلقوا لسانه بعطاياهم، وعلموه الشعر، ولولاهم ما نظم قصيدًا: نظمت حالي ولولا سلك فضلكم ... ما كان قولي ولا فعلي بمتنظم علمتني الحمد والشكر الجزيل على ... فعل الجميل بما توليه من نعم ما كنت لولاكم أبغي الفوائد من ... نظم الفوائد في اسم ولا علم وعلى الرغم من هذا الولاء، ومن دءوب الشاعر على مدحهم في كل مناسبة, وهو عنهم بعيد, فإنهم لم يستجيبوا لرجائه دعوته إليهم، ولعل للمنافسات التي كانت بين الشاعر، وبين بعض الحجازين1 أثرًا في هذه الجفوة، فقلما خلت حاشية أمير عظيم, سمح النفس, سخي اليد من أمثال هؤلاء الحساد لكلِّ من نال لديه حظوةً أو نبغ وقصروا, وما أمر المتنبي وسيف الدولة بمجهول، ولقد بلى

_ 1 من المنافسين للشاعر في الحجاز, الشيح زين العابدين المكيّ، وكان نحويًّا، اعترض مرةً على قول الساعاتي: وأبصرت في كف ابن عون مهندًا ... يرويه قرم بالضرب خبير بأن الضراب في اللغة: النكاح، وليس فيه ضراب بمعنى الضرب، واحتج الشاعر مؤيدًا رأيه بقول الحارث بن ظالم المري: وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا الناس الضرابا أقاموا للكتائب كل يوم ... سيوف المشرفية والحربا واستشهد بقول المتنبي, وكان من الحفاظ لشعره: وكل السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسها غير سيف الدولة السأم وقوله: إنما بدر رزايا عطايا ... ومنابواه وطعان وضراب وقوله: بغيرك راعيًا عبث الذئاب ... وغيرك صارمًا ثلم الضراب فأفحمه بهذا الاستشهاد, وفات المكيّ أن الضراب مصدر قياسيّ لضارب كقاتل وناضل، ولكنها حزازات النفوس تزل الحصا.

الساعاتي بمثل ما بُلِيَ به المتنبي من هؤلاء النحاة الذين يحاولون الوقيعة بينه1 وبين ممدوحه, كما فعلوا مع أبي الطيب من قبل، لكنه انتصر عليهم في كل مرةٍ تعرضوا فيها لأدبه، وأغلب الظن أنهم لم يتركوه يهنأ بهذه المنزلة، وحاولوا جهدهم أن يزحزحوه عن مكانه، وفي ذلك يقول معرضًا بهم: لا تعدلوا بالشعر كل معمم ... كالثور ذي القرنين بالإسكندر ما كل من يملي القصيدة ناظم ... قد ينتمي للشعر من لم يشعر لو كان فيهم شاعر لوقفت في ... ديوانه أدبًا، ولم أتكبر يا آل محسن لم يزل إحسانكم ... يدع الدنيء على حماكم يجتري بل يحاول أن يوقع بهم كما حاولوا الوقيعة به، وأن يفسر بغضهم له لإخلاصه لآل عون: فما أبغضوا مثلي سدًى غير أنهم ... يعدون مدحي فيكم كالمأتم ألم تر حسانًا ولى أسوة به ... وما كان يلقى من عد آل هاشم إذا زعموا أني مع الفضل جاهل ... فقل لهم: هاتوا فصاحة عالم فدعني من قول النحاة فإنهم ... تعدوا لصرف النطق في غير لازم وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسرَّاقٍ كبعض الأعاجم

_ 1 من ذلك أنهم خطئوه في قوله يمدح الشريف, ويصف أعداءه بالجبن: كأنهم فوق السوابق خرد ... لهن متون الصافنات جياد بأن في ذلك انحطاطًا لمقدار من يقاومه حيث شبههم بنسوة، فكأنه انتصر على نساء لا على أبطال, ومكنته ذاكرة واعية لما استظهر من شعر المتنبي في الصغر من إفحامهم بقوله يمدح سيف الدولة. فصبحهم وبسطهم حرير ... ومساهم وبسطهم تراب ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب

شعره: قدمنا عند الكلام على الساعاتي، والمدرسة التي ينتمي إليها, بأن له شخصية في شعره، وأن هذه الشخصية استطاعت البروز والوضوح على الرغم من كثافة التقاليد الشعرية الموروثة. أجل! استطاع أن يتخلص في بعض قصائده من المحسنات البديعية، وأن يرتفع بديباجته عن درك الغثاثة والركة، وأن يعبِّرَ عن شعره تعبيرًا واضحًا، وأن يشعرك على الرغم من معانيه المطروقة بأنه أحسن التقليد وأضفى عليه شيئًا من نفسه ورووحه, ومع كل هذا فمعظم شعره من ذلك النوع الذي ساد أيام المماليك وبني عثمان, وقلما خلت قصيدة من تاريخ وتعمد للصناعة والزخرف. 1- ترى الشاعر يجيد في الحماسة، ويقوى شعره وتشرق ديباجته، اسمعه يقول مادحًا سعيدًا، وقد عزم على زيارة المصطفى -عليه السلام: ملأت قلوب العرب رعبًا فما دروا ... بعثت لهم بالكتب أم بالكتائب تركتهم في أمرهم بين صادق ... وآخر في تيهٍ من الظن كاذب تسير لهم في بحرٍ جيش عرموم ... يفيض بموج الحتف من كل جانب إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت ... جبال عليها الذل ضربة لازب فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم ... وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب وجُرد عليها الأسد في قصب القنا ... ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب وخيرٌ من هذا قوله يمدح الشريف ابن عون, ويصف غزوته لبني سليم: وأضرمتم النيران فيهم وأضرموا ... لهم نار حرب مثل نار الحباحب1 كررتم على أهل الجبال بمثلها ... جبال رجال سيرت بالركائب وما ثبتوا إلّا قليلًا وزلزلوا ... وأبطالكم ما بين ضارٍّ وضارب

_ 1 الحباحب: فراشية صغيرة تضيء بالليل.

رأوا باترات البيض تغمد فيهم ... وتخرج من أصلابهم والترائب فملوا ومالوا للهزيمة بعدها ... وملتم على أرواحهم ميل ناهب فهذه الديباجة القوية، وهذه الفحولة قد طال انتظار الشعر العربيّ لها, ولعل في حفظ الشاعر للمبتنبي ما جعله يجيد في الحماسة ووصف المعارك، كما كان المتنبي يجيدها وهو يمدح سيف الدولة، وقد شهد الساعاتي معارك آل عون مع أعدائهم, كما شهد المتنبي معارك سيف الدولة مع الروم وغيرهم. 2- ومن الأغراض التي وُفِّقَ الشاعر للقول فيها العتاب، وقد سلمت له أبيات جيدة في هذا الباب مثل قوله يعاتب آل عوان: إني على العهد القديم وإنما ... حظ الأديب عداوة الأرزاق عاملتموني بالجفاء، رويدكم ... الورد ذو أرجٍ بلا إحراق مالي أراكم تنكرون مكانتي ... الشمس لا تخفى من الإشراق قلدتم غيري الجميل وقلتم ... حسب الخغرد زينة الأطواق أسديتم الجدوى له وسددتم ... طرق الرجاء عليَّ بالإطراق إن لم يكن مثلي يسيء ومثلكم ... يغضي، فإين مكارم الأخلاق؟ ويقول معاتبًا صهرًا له: هلّا اتخذتم سوى أعراضنا غرضًا ... يُرْمَى وصيرتم الإكثار تقليلا إنا لنضرب صفحًا عن بوادركم ... ولو أردنا أسأنا الرد تنكيلا لكن نصون عن الفحشاء ألسنةً ... هي الأسنة تجريحًا وتعديلا فليتكم تحسنون الظن إذ حسنت ... منا الظنون، وكان الود مأمولا رأيت وصلكم قطعًا وحبكم ... بغضًا ونصركم للصهر تخذيلا ومن عتابه الرقيق قوله: كنا وكنتم فأكثرنا زيراتكم ... ونحن مثلان في فقر وإفلاس كانت مناسبة الحالين تجمعنا ... ومن يدوم على حال من الناس

والعتاب، كما نعلم، بابًا ليس جديدًا في الشعر العربيّ، بل طرقه قبل الساعاتي كثيرون, وأتت معانيه فيه مما وردت عند غيره من شعراء العتاب، وكان الساعاتي أحيانًا يستعمل الكلام المألوف العاديّ في العتاب, حتى يفهم المعاتب ما يقول: 3- وقد ظهرت شخصيته في نصائحه التي قدمها لممدوحيه، والتفاته للشعب، وطلب الرأفة به، وحسن معاملته، كقوله للشريف ابن عون: فما استقام عماد الملك منتصبًا ... إلّا إلى قائم بالعلم والعمل ودولة الجد ما انقادت ولا خضعت ... إلّا إلى عادل للشرع ممتثل ما راقب الله مولى في رعيته ... إلّا وأدرك منها غاية الأمل ويطلب العفو لأعداء ممدوحه محاكيًا المتنبي في توسطه لدى سيف الدولة لبني كلاب، فمن ذلك قوله: للسلم قد جنحوا فمنوا واصفحوا ... ما قتل نصفهم من الإنصاف وإذا أساءوا أحسنوا لمسيئهم ... وراعوا مقام بقية الأحلاف وإذا هم اقتتلوا وشدوا أصلحوا ... ما بينهم خير من الإجحاف 4- وكانت له دعابات طريفة تدل على روح مرحة، وبديهة طيعة، ونكتة رائقة, وهذا طابع المصريين غالبًا لا يستطيعون عنه حولًا، فمن ذلك قوله يعزي منافسه وحاسده الشيح زين العابدين المكيّ، وقد نفقت فرسه في طريق جدة: قضت وهي تدعو فالق الحب والنوى ... بقلب كئيب دقه الحب والنوى فكيف يعزى الشيخ في الفرس التي ... به طوت الأسفار صبرًا على الطوى وكانت به تجري مع الريح خفة ... وأشبعها جريًا فعاشت على الهوى وإن حملت ما لا تطيق لضعفها ... تعوج منها الظهر والذنب استوى قضت، وهي ما ذاقت شعيرًا لزهدها ... فما شعرت إلّا وعرقوبها التوى

ألَا أيها الخل الذي طال حزنه ... عليها وفي أحشائه التهب الجوى فعش أنت واسلم والحمير كثيرة ... ومثلك معدوم النظير لما حوى ألا تذكرنا هذه القصيدة بالبهاء زهير حين يقول: لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردلة تمشي فتحسب أنها ... فوق الطريق مشكلة هي روح الدعابة المصرية تتجلى دائمًا حين ينطلق شعراء مصر على سجيتهم, لا يتكلفون القول، ولا يتزمتون. ومن دعاباته الظريفة قوله معرضًا ببعض النحاة, وواصفًا لهم ولحركاتهم وخلطهم: إذا ارتفعت بالنحو أعلام علمنا ... جعلنا جواب الشرط حذف العمائم ليعلم من بالنصب يرفع نفسه ... بأن حروف الخفض غير الجوازم ويعلم من أعياه تصريف اسمه ... بأنا صرفناه كصرف الدراهم نصبنا على حالٍ من العلم والعلى ... وكنا على التمييز أهل المكارم لأنا رأينا كل ثور معمم ... يكلف قرنيه بنطح النعائم يجر من الإذلال فضل كسائه ... كأن الكسائي عنده غير عالم إذا نظر الكراس حرك رأسه ... وصاح: أزيد قام أم غير قائم؟ وقال: المنادى اسم شرط مضارع ... وظرف زمان نحو جاء ابن آدم وجمعك للتكسير اسم إشارة ... كقولك: نام الشيخ فوق السلالم 5- وقد تغنى الشاعر في بعض قصائده بمصر وأمجادها، وإن لم يظهر من الروح الوطنية مثل الذي أظهره رفاعة الطهطاوي، فمن ذلك قوله مادحًا إسماعيل: على أنها من جنة الخلد غيضة ... رياض بها عين وأنت ضياء فأبصرت فردوسًا تدانت قطوفها ... وللنيل فيها كوثر وشفاء ومصر هي الدنيا جميعًا وربها ... عزيز وأهلوها هم النجباء

وكان الساعاتي يدرك أنه مطبوع على قول الشعر، وأنه استطاع أن ينجو ببعض شعره من آفات القول، وأوضار الشعر التي انتشرت في زمانه، وقبل زمانه، ويقول في هذا: فلا تحسبني بالوضيع مكانهً ... في القائلين وما أقول هذاء ويقول: وما أنا إلّا ناظم در فكرتي ... ولم أنتحل فيما أقول وأسرق ويقول: وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسراق كبعض الأعاجم على أن هذا كله لا يعفي الشاعر من أنه أراق ماء وجهه في الطلب؛ حيث يقول مادحًا توفيق باشا: أريد ورودًا من نداكم لأرتوي ... كما يطلب الصادي على البعد موردا فسيرت آمالي دليل قصائدي ... لنيل الأماني علَّ أبلغ مقصدا وأنه كان يرى الشعر ثمنًا للمال، وأن المسألة بيع وشراء، وأخذ وعطاء: مني المدائح والمنائح منكم ... لا غبن إن كليهما آلاء تعتاض من بذل النضار جواهرًا ... هذا بذلك وفي البقاء نماء وأنه أسرف في الصناعات اللفظية، واستعمال المحسنات البديعية, كما يدل على ذلك معظم شعره، وقد نظم قصيدةً كاملةً في مدح الرسول -عليه السلام- معارضًا بها ابن حجة الحموي، والبوصيري، وكل بيت منها يشتمل على محسن بديعيّ، وفيها يقول، وقد بلغ عدد أبياتها مائة وخمسين بيتًا:

براعة استهلال: السفح الدموع لذكر السفح والعلم ... أبدى البراعة في استهلاله بدم التورية: وكم بكيت عقيقًا والبكاء ... بدر، وتوريتي كانت لبدرهم الجناس التام: أقمار تم تعالوا في منازلهم ... فالصب مدمعه صب لبعدهم وأن الشعر عنده -كما كان عند معاصريه- مهارة لفظية، وصناعة خالية من الروح والشعور، ومقدرة على صياغة منظومة, فمن ذلك قوله موريًا: قالوا: اتخذ لك خادمًا، فأجبتهم: ... أنّى يكون لناظم الشعر الرقيق؟ قالوا: التمس لك طيب عيش، قلت: لا ... يرجى لرب اللفظ والمعنى الدقيق وقوله في الجناس، وكل القصيدة على هذا المنوال: أيا من به صار الزمان سعيدًا ... ومن كل وفاه آنس عيدًا أما التأريخ الشعريّ، والألغاز فكثيرة. هذا، وقد شغل الساعاتي عدة مناصب في الدولة، فمن موظف بالمعية، إلى موظف في مجلس الأحكام المصرية "وكان بمثابة هيئة الاستئناف العليا في عهدنا"، وكان يرأسه الأمير إسماعيل في عهد سعيد, ومدح من حكام مصر في العهد السابق سعيدًا، وإسماعيل، وتوفيقًا، ومات في سنة 1298هـ-1880م, قبل أن تندلع الثورة العرابية. 4- عبد الله فكري: وهو يمثل المدرسة الثالثة من المقلدين، تلك المدرسة التي قلد أربابها بلغاء القرن الرابع؛ كالصاحب بن عباد، وابن العميد، وقلدوا كذلك في حياتهم وأسلوبهم وتنميق رسائلهم القاضي الفاضل، وابن مطروح، واستطاعوا بما أوتوا

من تضلع في اللغة، وتمكن من الأدب، وذوق مرهف حساس ألَّا يكونوا صدًى لهؤلاء الكُتَّاب القدامى، بل أضفوا على ما كتبوا طابعهم وشخصيتهم، ومثَّلوا عصرهم بعض التمثيل، فتشعر حين تقرؤهم أنك تقرأ كتابًا في القرن التاسع عشر، وذلك لخوضهم في الموضوعات الحيوية للبلاد، ولتخلصهم في بعض الأحيان من قيود الماضي جملةً، فلا سجع ولا تنميق ولا تزويق ولا محسنات، وإنما يتبعون طريقة ابن خلدون في الترسل, مع متانة نسج, وحسن عرض, وإن كانوا في كثير من الأحيان, ولا سيما حين يحتفلون بكتاباتهم، أو يراسلون عظيمًا أو أديبًا، أو يتحدثون عن لسان السلطان أو الأمير، يعمدون إلى الأسلوب الشعريّ المنثور، بما فيه من خيالٍ وسجعٍ، وفقراتٍ تختلف طولًا أو قصرًا، ويزخرفون كتاباتهم ويرصعونها بشتَّى الحلى اللفظية والمعنوية، وهنا تتضاءل شخصية بعضهم, وتحافظ شخصية آخرين على وجودها في وسط هذه الزينات والتقاليد تبعًا لتمكن الكاتب من موضوعه، وحذقه للغة، ومتانة شخصيته, وتمييز خصائصها. كان لديوان الإنشاء في الدولة العربية منزلةً ساميةً، يتوصل به الكاتب والشاعر إلى أرقى مناصب الدولة، منذ سهل بن هارون، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وابن العميد، والقاضي الفاضل، وابن مطروح، وقد مضى على مصر حين من الدهر استعجمت فيها لغة الدواوين، وسادت التركية، وصدرت بها قوانينها ورسائلها، ووصلت العربية الحضيض، ولم يبق فيها إلّا ذماء يسير، وحاول إسماعيل -كما ذكرنا- بعث اللغة العربية، وترجمة القوانين التي صدرت من عهد محمد علي حتى أيامه من التركية إلى العربية، كي يسهل عليه الانفصال عن الدولة العثمانية حينما تلوح الفرصة، وقد كان لعبد الله فكري يد كريمة في هذا العمل الجليل، فبعث اللغة الديوانية، لا ركيكة ولا سخيفة، بل ممتلئةً رونقًا وقوةً، فصار نموذجًا يحتذى، وأستاذًا يأخذ الناس عنه طريقة الكتابة الديوانية, وتدبيج الرسائل الأدبية.

ولد بالحجاز سنة 1250هـ-1834م, من أب مصريّ1 وأم من بلاد المورة, وعاد به والده إلى مصر بعد عودة جيوش محمد علي من الحجاز، ولكنه توفي ولما يبلغ عبد الله الحادية عشرة من عمره، فكفله بعض أقاربه، ودخل الأزهر, وتلقى العلوم المتداولة على كبار مشايخه، وكان في نفس الوقت يدرس اللغة التركية، فلما حذقها عُيِّنَ في القلم التركيّ في الديوان الكتخدائي، وظل مع اشتغاله بالوظيفة يتردد على الأزهر، والتحق بعدة وظائف ديوانية، ثم عُيِّنَ بمعية سعيد، وتولَّى فيها تحرير الرسائل الديوانية بالتركية والعربية، وظلَّ في منصبه حتى تولى إسماعيل عرش مصر، فأبقاه وقربه وسافر معه مراتٍ إلى الآستانة، ثم عهد إليه بتثقيف أولاده وغيرهم من أمراء الأسرة، فكان يباشر تعليمهم أحيانًا، أو يشرف على المدرسين أخرى, ولما نُقِلَ إلى وزارة المالية, كان له الفضل في جمع الكتب الموجودة بها، وضمها إلى دار الكتب حين أنشأها علي مبارك. وبعد ذلك عهد إليه بترجمة اللوائح والقوانين، وتنقيحها, فأدى هذه المهمة الجليلة على أكمل وجه، ثم عُيِّنَ وكيلًا لديوان المكاتب الأهلية، فرفع مستواها وجعلها صالحةً لتغذية المدراس الأميرية، فوكيلًا لنظارة المعارف مع شغله منصب الكاتب الأول في مجلس النواب، وقد ارتفعت طريقة تعليم العربية على يده, وهجرت طريقة الأزهر، ثم عُيِّنَ وزيرًا للمعارف في وزارة محمود سامي البارودي، ولما استقالت الوزارة بسبب الثورة العرابية، اتهم بممالأته للثوار بعد انتهاء الثورة، وقبض عليه, ولكنه برئ، فأطلق سراحه, وعاقبوه بقطع راتبه، فراح يستعطف الخديوي توفيق، وقال في ذلك قصيدته المشهورة: كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا

_ 1 أبوه محمد بليغ بن الشيخ عبد الله, وكان الشيخ عبد الله، من علماء المدرسين بالأزهر، أما محمد والد عبد الله فكري فكان مهندسًا بالجيش، ووصل فيه إلى رتبة صاغ، وحضر عدة مواقع حربية منها حرب المورة، وفيها تزوج أم عبد الله فكري، وولدته بالحجاز حين ذهبت مع زوجها في الحرب السعودية.

فعفا عنه توفيق، وأعاد إليه راتبه، وقام بعد ذلك بعدة رحلات إلى الحجاز ولبنان، ولقي فيهما كل ترحاب وإجلال لمكانته الأدبية، ولما رأى فيه أهلها من سعة علم وعظيم فضل وحسن حديث. وفي سنة 1888 مَثَّلَ مصر في مؤتمر المستشرقين باستكهلم عاصة السويد, وصحبه نجله أمين باشا فكري، وقام بسياحة عظيمة شهد فيها معظم عواصم أوربا, ولما عاد عكف على تدوين رحلته، ووصف ما شاهد من المناظر في أوربا، وما رأى من آثار الغرب، وكيف استطاع العقل البشريّ أن يسخر الطبيعة ومواردها لخدمة الإنسان، غير أن المنية لم تمهله, فقضى بعد عودته بزمنٍ وجيزٍ، وأتم نجله أمين كتابة الرحلة, وسجلها في كتاب أسماه: "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" في سنة 1892, هذا وقد توفي عبد الله فكري سنة 1307هـ -1889م. ونرى من حياته التي سردنا تاريخها موجزًا، أنه ديوانيّ النشأة والمربى والعمل، فلا بدع إذا تجلّى أثر عبد الله فكري في الكتابة الديوانية، ولما كنا في صدد ذكر الشعراء الذين ظهروا في عصر إسماعيل, والمدارس التي ينتمون إليها، وقدَّمنا أن عبد الله فكري يمثل إحدى هذه المدارس التقليدية، وكان حريًّا بنا أن نذكر نماذج من شعره، على أنه يمثل بكتابته تلك المدرسة التي تظهر فيها شخصية الكاتب والأديب واضحةً أكثر مما يمثلها بشعره، بل إن شعره لينتمي إلى مدرسة علي أبي النصر أو الساعاتي، وذلك لأن عبد الله فكري تفوق في نثره تفوقًا باهرًا, وكان أكثر منه شاعرًا. كان يمثل في شعره مدرسة الصنعة لا مدرسة الطبيعة، يؤرخ لكل مناسبة، ويشطر يقول الألغاز والأحاجي، ويقول كما يقول الندماء في وصف الآنية ومجالس الأنس والأزهار وغير ذلك، ويكثر من المحسنات ينتزعها انتزاعًا، ويحشرها حشرًا شأن المدارس التقليدية، وقلما انطلق على سجيته، وترك نفسه لطبيعتها.

اسمعه يؤرخ زواج الأمير حسين كامل بالأميرة عين الحياة: بشر بأحسن فألٍ ... يقول والقول يصفو أرّخ لنحو حسين ... عين الحياة تزف ويقول في هذه المناسبة: بشرى يطالع سعد ... بالبشر واليمن آتٍ تزف للبدر شمس ... تسموا على النيرات بخير فأل سعيد ... يومي لطول حياة يقول والفأل حق ... عن سيد الكائنات أرخ لنحو حسين ... تزف عين الحياة 94 128 487 130 450 المجموع 1289. ويؤرخ لانتصار الأتراك على الروس، وأخذهم ميناء "سباستبول" بعد تخريب قلاعها سنة 1272هـ, وكل مصراع من المطلع يساوي هذا التاريخ. لقد جاء نصر الله وانشرح القلب ... لأن بفتح القرم هان لنا الصعب وقد ذلت الأعداء من كل جانب ... وضاق عليهم من نفيح الفضا رحب بحرب تشيب الطفل من فرط هولها ... يكاد يذوب الصخر والصارم العضب إذا رعدت فيها المدافع أمطرت ... كئوس منون قصرت دونها السحب تجرع آل الأصفر الموت أحمرًا ... وللبيض في مسود هاماتهم نهب تراهم سكارى، للظبا في رءوسهم ... غناء، ومن صرف المنايا لهم شرب وقد سقنا مع البيت الأول الذي فيه التأريخ بعض أبيات من هذه القصيدة لنرى مدى قوته في وصف الحرب، وقد مرَّ بنا شاعر معاصر له، أو قريب منه، أجاد في هذا الغرض، ألا وهو الساعاتي, إن أثر الصنعة، وضعف النسج، وضحالة الخيال، وتفاهة المعاني، واقتناص المحسنات، كلها محشودة في هذه الأبيات.

وهاك مثلًا آخر يقلد فيه القدماء في معانيهم وأخليتهم, بما لا يناسب قاهريته وحضارته، فتشبيهاتٌ قديمة، وخيالٌ سخيفٌ، وديباجة ضعيفة، وجري وراء المحسنات، وموضوع هذه القصيدة المديح، وقد ابتدأها بالنسيب كما كان يفعل القدماء قال: أزاحت ظلام الليل عن مطلع الفجر ... وقامت تدير الشمس في كوكب دري وهزت على دعص النقا غصن بانة ... ترنح في أوراق سندسه الخضر ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت ... نسيم الصبا بالأملد النام النضر من الترك لم تترك لصب محجة ... إلى الصبر أو نهجًا لعذل إلى العذر وبيضاء سوداء اللحاظ غريرة ... من الغيد ريا الردف ظامئة الخصر ممنعة لا تجتني ورد خدها ... يد اللحظ إلا بين شوك القنا السمر من الروم مثل الريم جيدًا ولفتةً ... ولحظًا ومثل الغص والشمس والبدر فهي لم تترك نصب محجة إلّا أنها من الترك، وهي مثل الريم جيدًا, ولفتة لأنها من الروم، ومالت بها خمر الصبا مثلما انثنت نسيم الصبا بالأملد النضر، وهزت على دعس النقا غصن بانة.. وغير ذلك من هذه العبارات المحفوظة والقوالب المعدة، وذلك الوصف الماديّ الرخيص الذي لا يمثل المرأة إلّا سلعةً. وقد قال في الأغراض التي نظم فيها كتاب الدولة الأيوبية ورؤساء دواوين الإنشاء، فكان يصف الآنية والأزهار، ويشبه بالنفائس على طريقة الظرفاء المقتدى بهم في عصر الأيوبيين وما بعده، خلال المنادمات والمطارحات، فمن ذلك قوله يصف نارًا موقدة في فحم حوله رماد: كأنما الفحم ما بين الرماد وقد ... أذكت به الريح وهنا ساطع اللهب أرض من المسك كافور جوانبها ... يموج من فوقها بحر من الذهب وقال في الورد: كأن وردًا في كمه ... يزهو بثوبي خضرة واحمرار ياقوتة في سندس أخضر ... أو وجنة خط عليها العذار

وكان يقول الشعر في أغراض التظرف مثلما قالوا، وله في هذا بعض المقطوعات الصغيرة، فمن ذلك قوله مجيبًا مليحًا, قال له: كيف أصبحت؟ أصبحت من فرط وجدي فيك ذا شجن ... وكانت الروح كادت أن تفارقني فمذ لقيتك كل الهم فارقني ... وألف الله بين الروح والبدن وقال في مليحٍ رآه أول الشهر مستعملًا الجناس التام: وبدر تبدّى شاهرًا سيف جفنه ... فروع أهل الحب من ذلك الشهر وليلة أبصرنا هلال جبيته ... علمنا يقينًا أنها غرة الشهر وقال يتغزل: كتبت ولولا دمع عيني سائل ... تلظّى جوابي من تلهب أنفاسي وعندي من الأشواق ما لم يبح به ... لسان يراع في مسامع قرطاس ولي من تباريح الهوى وشجونه ... أحاديث تلهي الشرب عن لذة الكأس ولو كنت من دهري أنال مآربي ... لسرت لكم سعيًا على العين والرأس وكتب يعتذر للشيخ عبد الهادي نجا الإبياري عن دعوة وصلته منه متأخرة1. يا من بديع حلاه ... تزري البديع وتنسى وفات عقيلة نظم ... تتلوا فصاحة قس كالبدر لاح سناه ... من بعد مغرب شمس فغادرتني صريعًا ... نشوان من غير كأس فمن بالعفو إني ... منه على غير بأس وإن عتبت فحق ... وما أبرئ نفسي

_ 1 وصلت رقعة الشيخ الإبياري بعد غروب الشمس وفيها يقول: يا نور فكري وسري ... وروح روحي ونفسي لدى شامة شام ... لطيف معنى وحس يود كل أديب ... لقياه رغبة أنس فإن تمن فشرف ... من قبل مغرب شمس

وكتب إلى أحمد فارس الشدياق ردًّا على قصيدةٍ له: تفديك نفس شج عليل آسى ... عز الدواء له وحار الآسى أضناه طول أساه حتى إنه ... يحكي لفرط ضناه ذاوي الآس هزته سارية النسيم، وقد جرت ... بشذا فروق أريجة الأنفاس1 فكأن في طي الشمال، إذا انثنى ... من نشرها طربًا، شمول الكاس2 وكأنها حملت إليَّ رسالة ... غراء جاءت من أغر مواسي كمليحة عذراء وافت صبها ... من بعد طول تعذر وشماسي يفتر مبسمها بحسن حديثها ... عن سحر فاتن جفنها النعاس تدنو فيطمع عاشقيها أنسها ... ويشير عز دلالها بإياس أو روضة فيحاء حياها الحيا ... من صوب محلول العرى رجاس3 ولك هذا الذي رويناه له شعر مصنوع لا يفصح عن طبع وسليقة، أو شعور دفعه إلى القول بما يختج في نفسه، ومن هذا النمط قوله في الحكمة والمواعظ: إذا رمت المروءة والمعالي ... وأن تلقى إله العرش برًّا فلا تقرب لدى الخلوات سرًّا ... من الأفعال ما تخشاه جهرًا وقوله ينصح ولده أمين وهو صغير: إذا نام غر في دجى الليل فاسهر ... وقم للمعالي والعوالي وشمر وخل أحاديث الأماني فإنها ... علالة نفس العاجز المتحير وسارع إلى ما رمت ما دمت قادرًا ... عليه، فإن لم تبصر النجح فاصبر ولا تأت أمرًا لا ترجى تمامه ... ولا موردا ما لم تجد حسن مصدر وعود مقال الصدق نفسك وارضه ... تصدق، ولا تركن إلى قول مفترى ودع عنك إسراف العطاء ولا يكن ... لكفيك في الإنفاق إمساك مقتر ولا تقف زلات العباد تعدها ... فلست على هذا الورى بمسيطر

_ 1 فروق من أسماء استامبولي الشمول: الخمر. محلول العرى: المطر الغزير الذي لا يحجبه شيء، والرجاس: الشديد الصوت.

وهذا من الشعر التعليميّ الذي لا ينبيء عن خيال عميق؛ لأن الحكمة نظم للحقائق المجردة، والحقيقة المجردة منتزعة من صميم الوجود، وقائل الحكمة السائرة عالم بطباع الناس, يضع العالم أمام ناظريه, ويشرف عليه من علٍ، وكأنه ينظر في كفه فيستقري الحوادث والطباع، ثم ينطق بالحكمة تصلح لكل زمان ومكان، من أمثال ما نظم المتنبي وغيره من فحول الشعراء، وأين منهم عبد الله فكري في مواعظه المدرسية هذه؟ على أنها تعد من خير شعره وأسلسه وأوضحه. ومن شعره، وربما كان فيه من الشاعرية، لصراحته وتصويره نفسية امرأة فرنجية تتجر بعرضها, وتتهافت على المال، وما حدث له معها: وهيفاء من آل الفرنج حجابها ... على طالبي معروفها في الهوى سهل تعلقها، لا في هواها مراقب ... يخاف ولا فيها على عاشق بخل إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة ... من الأصفر الإبريز زل بها النعل فلما تعرضنا الحديث تعرضت ... لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل فرحت بها في حيث لا عين عائن ... ترانا، ولا بعل هناك ولا أصل وبت ولي سكران من خمر لحظها ... وراح ثناياها، ومن خدها نقل وقمت ولم أعلم بما تحت ثوبها ... وإن كان شيطاني له بيننا دخل ومن خير شعره قوله: أنسيت ليلتنا وقد خلص الهوى ... منا، وحبل الوصل وهو متين بتنا على فرش العفاف وبيننا ... نجوى ترق لها الصفا وتلين ومن أحسن شعره قصيدته التي يعتذر فيها للخديو توفيق، ويتنصل من اشتراكه في الثورة، ويطلب إرجاع راتبه المقطوع، وإن كانت معانيها مما يخطر لكل شاعر وليس فيها جديد، وهي تنبيء عن تلك الروح الذليلة التي تمثلت في كبار رجال الدولة إبّان عصور الظلم: كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى ... وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا وقف خاضعًا واستوهب الإذن والتمس ... قبولًا وقبل سدة الباب لي عشرا

وفيها يقول: مليكي ومولاي العزيز وسيدي ... ومن أرتجي آلاء معروفة العمرا لئن كان أقوام عليَّ تقوَّلُوا ... بأمر فقد جاءوا بما زوروا نكرا حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالباب والميزاب والكعبة الغرا لما كان لي في الشر باعٌ ولايد ... ولا كنت من يبغي مدى عمره الشرا ولكن محتوم المقادير قد جرى ... بما الله في أم الكتاب له أجرى أتذكر يا مولاي حين تقول لي ... وإني لأرجو أن ستنفعني الذكرى أراك تروم النفع للناس فطرة ... لديك، ولا ترجو لذي نسمة ضرا فعفوًا أبا العباس لا زلت قادرًا ... على الأمر، إن العفو من قادر أحرى أيجمل في دين المروءة أنني ... أكابد في أيامك البؤس والعسرا ولعلنا بعد لك هذا الذي رويناه له, قد أخذنا فكرةً واضحةً عن منزلته بين الشعراء، وقد ذكرنا آنفًا أنه اشتهر بالكتابة، وأنه كاتب أديب أكثر منه شاعر، وشعره في الواقع قليل إذا قيس بما ترك من مقالات ورسائل، وكتب وشروح وغير ذلك. نثره: استطاع عبد الله فكري أن يرتقي بالكتابة الديوانية، وأسلوب الرسائل والمكاتبات إلى منزلة سامية، وأعاد إلى الأذهان عصر رؤساء ديوان الإنشاء في العصور القديمة, واتخذ له خاتمًا {إني عبد الله آتاني الكتاب} ، لأن هذه الآية وافقت سنة ميلاده 1250هـ, كما كان لهؤلاء الرؤساء خواتم. وكان له أسلوبان في نثره: أحدهما: وهو الغالب, وبه كتب أكثر رسائله, هو ذلك الأسلوب الذي يحتفي بعبارته، وموسيقاه, ويختار ألفاظه، وبه خيال شعريّ، ومعانٍ دقيقة معارضًا فيه أسلوب القاضي الفاضل، أو بديع الزمان، أو الخوارزمي، أو ابن العبيد، وثانيهما: أسلوبٌ مرسلٌ سهلٌ يجري مجرى الكلام العاديّ, وهو أسلوب الصحافة في عهده, ولكنه قليل فيما ترك من آثار.

ومن الأسلوب الأول قوله من رسالةٍ لصديق، بَيَّنَ فيها أحوال أهل العلم في عصره, منتقدًا هذه الأحوال، متهكمًا بهم في لهجةٍ ساخرةٍ لاذعةٍ، قال: "كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر، والتبييض والتسويد، والتقييد، والتسديد، والترجمة وكثرتها، والهمة وفترتها، والماهية وقلتها، النفس وذلتها، وراتبي لا يكفي أجرة البيت، ولا يفي ثمن الماء والزيت, وبالأمس وعد الوكيل بالزيادة، واعتذر اليوم بالأصيل على العادة، على أنه لو حصلت زيادة، فلزيد ولعمرو، إلى آخر الزمر، ولله الأمر، أحوال متبددة، ونفوس متبلدة، وأشغال متعددة، وإخوان خُوَّان, وخلان غيلان، ورفاق، وما أجمل الفراق. وقلت: إلام أعاني الصبر والدهر غادر ... وحتى متى أشكو وما لي عاذر ولو أنني أشكو عظائم شدتي ... لميت لرقت لي العظام النواخر وسألت عن فلان وفلان، وهيان بن بيان، ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتظاهر بشعار فضله، ولو كان العلم بلحيةٍ تعظم وتطول، وشوارب تحفّ وتستأصل، وعيون على ما بها من غمضٍ ورمضٍ تكحل، وعمامة تعظم حتى ترذل، وطيلسان يلف ويسدل، وكم يوسع ويسبل، وأحاديث خرافة تقص وتنقل، ومحفظة تفعم وتثقل، وسواك يظهر من العمامة نصفه، وكتاب يخرج من الجيب طرفه، ثم بتشدق في الكلام، وبتباله في المرام، وتعسف في الأفهام، وحرص على الحطام، ثم يقول الإنسان: حضرت درس فلان، وسمعت من لفظه باللسان، وقضيت في العلم كذا سنة من الزمان، فهم أعلم من أقلته الغبراء، وأفقه من أظلته الخضراء، وإن كان للعلم غير هذه الآلات، فما لهم سوى هذه الحالات, غاية الأمر أنهم قضوا أرذل العمر في كتب معدودة، وشروح موجودة، وهم يكررونها ولا يدرونها، ويقررونها ولا يحررونها، ويتداولونها ولا يعقلونها، ولو صرف حماري هذا العمر فيها، لأصبح فقيهًا، وأضحى نبيهًا، والذي يظهر مينهم وشينهم, وعلامة ما بيننا وبينهم, أن يؤمر أحدهم برقعةٍ تكتب لحاجة معهودة،

ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة، فيه بعض كلام العرب وأشعارها، وشيء من وقائعها وأخبارها، فإن كتب فصيحًا, وفهم مليحًا، عرفنا أنه شم عرف العلم وذاق طعم الفهم، وسلمنا إليهم ما يدعون، وتركنا لهم ما يأتون وما يدعون، وإن ارتبك للرقبة، ووقف حمار الشيخ في العقبة، عرفنا حاله وقلنا له: أيها المدعي سليمى سفاهًا ... لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس، يقرأ القطر لابن هشام، ويلحن لحن العوام، ومررت بالأمس بآخر يدرس الكافي في علمي العروض والقوافي يقرر له: قف على دراهم وابكين ... بين أطلالها والدمن فلا وربك ما أقام له وزنًا، ولا عرف له معنى، مع سهولة مبناه وظهور معناه ... إلخ. ومن هذا النثر المسجوع قوله يصف حديقة: ثم خرجت إلى حجة حالية، أعدت فيها فرش عالية، وأدوات غالية، وسطعت بها روائح الطيب والغالية، وقد أكملت وجوه تحسينها، وأتمت أسباب تزيينها، وهي على حديقة ذات أفنان، وأنواع من الزهور وألوان، وثمرات حسان، وقد فاح الطيب من محاجر أزهارها، وصاح خطيب العندليب على منابر أشجارها: رياض كديباج الخدود نواضر ... وماء كسالسال الرضاب برود فجلست أجيل فيها الظر، أتأمل محسان الروض غب المطرن وأطالع ما رقمه الطل في صحائف الغدارن، وأرى خواتم الزهر حين تسقط من أنامل الأغصان:

من قبل أن تشرف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح ومن ذلك الضرب من النثر الذي يذكرنا بكُتَّاب الإنشاء في الدولة الأيوبية وما قبلها, وفيه بعض القوة والعافية في سجعاتٍ قصيرة الفقرات نوعًا قوله من رسالة: سلام يعبر عن الوداد طيب عبيره، ويخبر عن إخلاص الفؤاد لطف تعبيره، وثناء على محاسن تلك الشمائل، أرق من نسمات الشمائل1، وتحية بهية تباهي الخمائل بنفحات أورادها، وأدعية مرضية جعلتها الألسنة خير أورادها، وسؤال عن المزاج الزاهر, وصحة الخاطر الباهر، لا زلتم محل نعمة يتصل على مدى الأيام بقاؤها، ويزيد على مر الشهور الأعوام بهاؤها، ولابرحت ثغور الإقبال إليكم بواسم، ورياح الآمال لديكم مواسم. وبعد، فإني بي من الأشواق، ما تضعف عن حمله إلى حماكم الأوراق، ومن التأسف على ما حرمته من لقياكم، والتهلف إلى مطالعة محياكم, ما يقصر عن وصفه لسان اليراعة، ويقصر دون وصفه بيان البراعة، ويضيق عنه نطاق العبارة، ولا ينفسح له ميدان الإشارة. ومن رسائله التي تذكرنا بأسلوب العصر العباسيّ الثاني, عصر الصاحب بن عباد, والخوارزمي، وابن العميد قوله معزيًا: يعزُّ عليَّ أن أكاتب سيدي معزيًا، أو ألم به في ملمة مسليًا، ولكنه أمر الله الذي لا يقابل بغير التسليم، وقضاؤه الذي ليس له عدة سوى الصبر الكريم، وقد علم مولاي "أجمل الله صبره, ولا أراه من بعد إلّا ما سرَّه, وشرح صدره" أن الله -جل ثناؤه وتباركت آلاؤه- إذا امتحن عبده فصبر, آجره وعوضه بكرمه، كما أنه إذا أنعم عليه فشكر زاده، وضاعف له نعمه، وقد عرف من حال سيدي في الشكر على السراء، ما يستوجب المزيد منها، والظن بحزمه وعلمه أن يكون حاله في الصبر على الضراء ما يستجلب الأجر والتعويض عنها.

_ 1 الشمائل الأولى: الطباع، والشمائل الثانية: جمع شمال.

قد استعمل عبد الله باشا فكري الأسلوب المسجوع في كل بابٍ وغرضٍ، حتى في التقارير الفنية، والمنشورات العامة و"الفرمانات" فمن ذلك صورة "الفرمان" الآتي بتنصيب محافظ: "صدر هذا الفرمان المطاع، الواجب له القبول والاتباع، خطابًا إلى الحكام والعلماء، والقضاة والأعيان، والوجوه والعمد ومشايخ البلدان، وعموم الأهالي المتوطنين محافظة كذا بجهات السودان، ليكون معلومًا لديكم بوصول هذا المنشور إليكم، أنه قد نصَّت إرادتنا تنصيب فلان محافظًا عليكم، لما توسمناه فيه من الدراية, والاستعداد والسلوك في طرق الرشاد، وبذل الهمة في أمور المصلحة ومزيد الاجتهاد ... إلخ". ومن هذه النماذج المتقدمة نرى أن هذا الأسلوب على ما به من سجعٍ، فإنه سهلٌ متين العبارة، تقل فيه المحسنات المتعمدة، ويطرق أغراضًا متعددة؛ منها: الديواني البحت، ومنها: ما يستعمل فيه الشعر, وقد أفاد هذا الأسلوب الكُتَّاب من بعده، وصار لهم قدوةً ولكنه أخر تخلص النثر من طريقة هذه المدرسة الديوانية حتى أوائل عصرنا الحاضر؛ لأن أرباب هذا الأسلوب شغلوا المناصب الرفيعة, فظن الشادون في الأدب أنهم لو قلدوهم لوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فتمسكوا بأسلوبهم أمدًا غير يسير, والحق أن الغرض الأدبيّ المهم يحتاج إلى عبارةٍٍ خاصةٍ يحتفي بها الكاتب بعض الاحتفاء، ويضعها في قالب جميل تناسب الغرض الذي قيلت فيه، حتى لا تذهب بنفاسة الموضوع تفاهة العبارة، وتجويد العبارة محبوب مرغوب فيه على شريطة ألّا يضحي بالمعنى من أجل لفظة, أو سجعة, أو محسنٍ خاصّ. ولقد استطاع عبد الله فكري أن يسترد بأسلوبه هذا للغة العربية مكانتها التي فقدتها عدة قرون، وأن يزيح التركية من أمامها، ويثبت قدميها في الدواوين, وفي لغة الرسائل، واضحة، أدبية، جذابة. أجل! لم يكن عبد الله فكري من هؤلاء الذين طرقوا موضوعات جديدة في كتاباتهم، بل استخدموا مقدرتهم البلاغية في الأغراض القديمة من تعزية وتهنئة، ووصف ومدح, واعتذار وعتاب، ومنشورات على لسان الأمير، وتقارير عن مهمات وكلت إليهم، وغير ذلك من الأغراض المطروقة، ولم يكن للأفكار الجديدة، ولا

للأغراض القومية أي تأثير عليه، وقد زاد نفوذ الأجانب، وقامت الثورة العرابية، ونكبت مصر بالاحتلال، ولم يسمع له كلمة تعبر عن هذه الأحداث، ولم يتألم لألم وطنه وذلته, كما تألم الشدياق، وأديب إسحاق، وعبد الله النديم، وجمال الأفغاني, وغيرهم، وما ذلك إلّا لأنه كان مثال الموظف الديوانيّ المخلص، البعيد عن الاشتغال بالمسائل العامة، والأمور الهامة. ومن الأسلوب المرسل الذي تأثر فيه رجال الصحافة لعهده، ولا سيما أسلوب الجوائب, قوله من رسالة بعث بها إلى المرحوم عبد الله أبي السعود صاحب جريدة "وادي النيل": "قد كنت وعدت فيما حررته سابقًا أني أكاتب حضرتكم بعد بما تيسر على حسب الإمكان، ومساعدة الزمان، والآن أريد أن أخبركم بمحاورة جرت بيني وبين بعض المتورعين من الناس فيما يتعلق بصحيفة "وادي النيل" وكتاب الجغرافية المطبوع في وريقاتها, وذلك أني رأيته ينكر على حضرتكم بعض المباحث المندرجة في ذلك الكتاب؛ ككون الأرض كرة، والقبة السماوية متخيلة، وما قيل في كيفية الكسوف والخسوف, ونحو ذلك، بعد اعتراف منه بأن الكتاب المذكور كتابٌ مناسب في موضوع مهم تدعو إليه الحاجة لمعرفة مواقع البلاد ومحالها, وأقسام الأرض وأحوالها، فإن هذا لا تنكر مزيته وفائدته في السياحة والتجارة وأمور التمدن والحضارة، فقلت له: قد علمت أن منشيء "وادي النيل" ليس مؤلف الكتاب المذكور، وإنما هو مترجم له، والمترجم ناقل ليس عليه عهدة ما ينقله، وإنما يلزمه صحة النقل، وتوفية حق الأداء على صحته، ولا يلزمه ما يترتب على الأصل المنقول عنه من نقدٍ ومؤاخذةٍ بعد عزوه لأصله، ونسبته إلى قائله، فلو سلم أن جميع تلك المباحث مما ينكر, فما عليه شيء من ذلك، فقد قالوا: إن ناقل الكفر ليس بكافر ... إلخ1 وهي رسالة طويلة تقع فيما يقرب من عشرين صفحة. ومن نثره المرسل كذلك قوله في تقريرٍ عن رحلته إلى استوكهلم؛ حيث حضر مؤتمر المستشرقين:

_ 1 راجع الآثار الفكرية 221-222.

"ثم أشير إلي فقمت، وأنشدت قصدةً كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس, فأتممتها في الطريق، وبيضتها في استوكهلم، فابتدأت أقول: اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس نهارها أنوار ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب، وبالجملة لي لما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسنانها في اليوم، وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها, وساورني يطلب نسختها، فأخذها في الحفلة، وخطب بعد ذلك أناس منهم "المسيو شفر" وافد فرنسا، وكانت هذه الحفلة خاصة بعد ذلك ليس في تقديم موضوعات علمية ... إلخ". على أن عبد الله فكري لم يكثر من هذا الأسلوب المرسل، وإنما كان من غواة النثر المسجوع، وهو بأسلوبه يمثل دورًا هامًّا مرَّ فيه النثر العربيّ من مرحلة الغثاثة والركاكة, إلى مرحلة القوة وتوخي الفصاحة وقواعد اللغة، بل والتأنق في الأسلوب، ولم يذهب تقليده لرؤساء ديوان الإنشاء في القديم بشخصيته وطابعه، بل لا يزال يعطينا صورةً عن عصره، ولم يأسره حب البديع ومحسناته, فيذهب بمعانيه بإغراقه فيه. آثاره: وتوفي سنة 1890، وله عدة مؤلفات منها: المقامة الفكرية في المملكة الباطنية، المطبوعة سنة 1289هـ، ومنها الفوائد الفكرية، وشرح بديعية محمود صفوت الساعاتي، ومنها جزء من شرح ديوان حسان بن ثابت، وكتاب "نظم اللآل في الحكم والأمثال" وكتاب "آثار الأفكار ومنثور الأزهار" طبع منه تسع ملازم بروض المدراس"، ومنها الفصول الفكرية للمكاتب المصرية، ورسالته التي كتبها في المقارنة بين الوراد في نصوص الشرع, والمقرر في علم الهيئة الفلكية، وغير ذلك من المراسلات والمقالات، وله أيضًا "إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا" وقد أتمه ولده أمين بعد وفاته, وقد جمعت معظم آثاره في كتاب الآثار الفكرية، وترجم له في أوله المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده.

هذا وقد كان لعبد الله فكري عناية برواية الحديث, وله طرق عديدة وأسانيد سديدة1. 5 - السيد عبد الله الألوسي2: ولد في بغداد من أسرة مشهورة بالعلم سنة 1248هـ-1832م، وتلقى العلم على والده، فعرف شيئًا من النحو ورويّ الشعر، وقرأ القرآن، والتفسير, والحديث, وغير ذلك من العلوم التي كانت تدرس في المساجد، والتي لا تزال تدرس في الأزهر حتى اليوم في الكتب الموروثة3. ولم نترجم للسيد الألوسي، لأنه أديب نابغة، أو شاعر ملهم، وإنما لنعطي صورة عن الأدب في البلاد العربية إبَّان هذه الفترة التي نتحدث عنها، حتى نصدر حكمًا صائبًا عن الأدب العربيّ وتطوره، وأنه لم يكن في بلدٍ أحسن منه في أخرى، وأن النهضة أخذت تدب فيه شيئًا فشيئًا. لم يعمر السيد عبد الله طويلًا، فقد مات سنة 1291هـ-1874م, عن ثلاثة وأربعين عامًا، وقد قضى هذه السنين القصيرة عليلًا سقيمًا، واشتغل بالتدريس حقبةً في بغداد، واشتهر بحسن إلقائه، وتوضيحه لعويص المشكلات العلمية، ولكن الحياة لم تكن ميسرةً له، فمن أسرة كبيرة العدد، وصحة سقيمة، وإلى فقر وعدم تقدير، فعزم على الرحلة، وباع كل ما يملك، ويمم صوب الآستانة، ولكنه لم يصل؛ لأن قطاع الطرق سلبوه كل عتاده، وتركوه عاريًا في الصحراء، ولولا أن الله مَنَّ عليه بمن التقطه وأرجعه إلى بغداد, لقضى جوعًا وعريًا، ورجع صفر الكف من زاد الدنيا، ولم يكن ممن يجيدون التزلف والملق, فساءت حاله, وطالما عرض عليه القضاء قبل هذا فكان يرفضه ورعًا وزهدًا، بيد أنه الضائقة أحرجته, فاضطر إلى قبوله, وتولَّى قضاء البصرة سنتين ثم مات.

_ 1 راجع الآثار الفكرية 9-11. 2 هو ابن السيد محمود الألوسي "أبو الثناء " الذي ترجمنا له سابقًا. 3 راجع أعلام العراق لبهجت الأثري, ص89.

وقد ترك عدة مؤلفاتٍ في علوم اللغة، وله شعرٌ لطيفٌ ومقالات أدبية جمعها ابنه السيد محمود شكري الألوسي، فوقعت في مائة صفحة، ومن نثره يصف مطرًا شديدًا متواليًا، وفيضان نهر دجلة، وهذا النثر يمثل مدرسة الصنعة والسجع والتكلف، أو انتزاع الاستعارات وحشدها ركامًا عجيبًا، وهو دون عبد الله فكري منزلةً ولا ريب من حيث الأسلوب، والفكرة، وتنوع الموضوعات, قال من رسالة بعث بها لأخويه يصف هذا المطر: " ... إنه "المطر" عند غروب شمس الأربعاء، تنفس بفم الشوق الصعداء، ورمى بوجه الأرض حصى من كف السماء، فناداه الليل -وقد تحقق أن الدائرة على الأرض- وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وحاك الدوي بمكوك الريح من سدى البخار ولحمته شققًا سودًا، وصبغها الليل فكانت ظلماتٍ بعضها فوق بعض, وطنَّبها خيمة على أكتاف العراق في الطول والعرض، واشتد الريح والظلام, وشرع جنى الليل يخوف صبي النهار, كلما أحس منه بقيام، حتى سلَّ الفجر قرضًا به الأبيض من غمده الأسود، وأغمد الليل قامة الجوزاء، بعد أن كان بها على النهار يتهدد"1. 6- حسين بيهم2: ولد مسين ببيروت سنة 1249هـ 1813م، وأخذ من العلم المعروف في عصره قسطًا غير قليل، ثم انقطع للتجارة، ولكن حنينه إلى العلم جذبه إليه ثانيةً فنال شهرةً, وتولى عدة مناصب كبيرة؛ كنظارة الخارجية, ورئاسة الأحكام العدلية، ومثَّلَ بلاده في مجلس النواب التركيّ مدةً، ولما عاد ترك الوظائف وتفرغ للأدب، ومن آثاره رواية أدبية وطنية مثلت مرارًا، وقرظها الأدباء, وشعره لا يتميز عن مدرسة أبي النصر والليثي، وقد وفيناه نعتًا عند الكلام عليهما, ومن ذلك قوله يؤرخ إنشاء "التلغراف" في بيروت:

_ 1 راجع أعلام العراق, تجد فيه الرسالة كاملة, ص48-50. 2 أبوه: السيد عمر بيهم, وكان من أعيان بيروت وأدبائهم، ولا تزال أسرة بيهم حتى اليوم ذات مكانة في بيروت.

لله در السلك قد أدهشت ... عقولنا لما على الجو ساق فأعجب الكون بتأريخه ... شبيه برق أو شبيه البراق "1277" وقال مشطرًا: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... وحباكها من فضله الرحمن ناداك طائر يمنها وسعودها ... نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... واملك بها الغبراء فهي سنان واصعد بها العلياء فهي معارج ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان وقال يعزي صديقًا بفقد ماله: لقد غمنا والله والصحب كلهم ... مصابٌ دهاكم بالقضا حكم قادر كأن شرارًا منه طار لأرضنا ... فأحرق أحشاء الورى بالتطاير ولكننا قلنا مقالة عاقل ... يسلم للباري بكل المظاهر إذا سلمت هام الرجال من الردى ... فما المال إلّا مثل قص الأظافر فكن مثل ظن الناس فيك مقابلًا ... لذا الخطب بالصبر الجميل المصابر ولا تأسفن إذا ضاع مال ومقتنى ... فربك يا ذا الحزم أعظم جابر وإن حياة المرء رأس لماله ... سلامته تعلو جميع الخسائر وهو شعر بادي الضعف، كثير العوار، لا يحتاج منا وقفة أو نقدًا.

الفصل الرابع: بعث الشعر العربي

الفصل الرابع: بعث الشعر العربي مدخل ... مَرَّ الشعر العربيُّ منذ عهد امرىء القيس إلى عصر البارودي في أطوار مختلفة: كان في الجاهلية وصدر الإسلام شعر الفطرة والسليقة المنبعثة عن الشعور والإلهام، تَعْرِضُ الحادثةُ أو المنظر للشاعر فينفعل ويتأثر، يلهج لسانه بما يختلج في فؤاده، وقد ينبعث من طيات ضميره لا بوحيً خارجيٍّ، هو في كلتا الحالتين لا يعمد إلى تنميق أو تزويق، أو يعتمد لفظًا بعينه، وإنما اللغة ملك يمينه وطوع لسانه، وكأنها بمفرداتها الزاخرة، ومعانيها المتباينة موضوعة في كفِّه يختار منها ما يكفي لأداء المعاني التي تتجاوب في خاطره، وكثيرًا ما يعمد إلى هذا الأداء بأوجز لفظٍ وأمتنه, دون إسهابٍ أو حشوٍ، ولا سيما إذا كان شاعرًا فحلًا طويل الباع في فن الشعر، وله درايةٌ بوجوه تصريف الكلام، ولذلك جاء الشعر العربيّ القديم صورة صادقة لمن قالوه، ولأمر ما قال نقاده منذ القرن الثاني: "الشعر ديوان العرب", ولم يكن العربيّ الأول يعمد إلى الخيال المجنح الذي يخلق الصور, ويغوص وراء المعاني في أعماق الفكر، وإنما يصور إحساسه وشعوره دون تزيد أو نقصان، ودون فلسفة أو منطق، وقد كان دستورهم في ذلك قول أحدهم: وإنَّ أحسنَ بيتٍ أنت قائلُه ... بيتٌ يقالُ إذا أنشدته صدقا وكأن الشعر العربيّ حينذاك بيت مشيد بالحجارة المتينة العارية عن الزخرف والطلاء، ويروعك بسذاجته وشموخه ومتانته، وفي السذاجة جمال الفطرة. ثم أخذ العرب بنصيبٍ غير قليلٍ من حضارة الأمم التي فتحوا بلادها، وألفوا أنواعًا من العيش، وألوانًا من الحياة ونظام الحكم، لم يعرفوها من قبل، شاهدوا مناظر جديدةً اختمرت في عقولهم زمنًا، واطلعوا على ثقافاتٍ متباينةٍ؛ من يونانية, وفارسية, وهندية, ونبطية, وما شاكل هذا، وكان من الطبيعيّ أن يتأثروا بكل ذلك, كنا ننتظر أن يتطور الشعر العربيّ تطورًا جديدًا, خليقًا بهذا الانقلاب الكبير في حياة الأمة العربية، وأن يحتذي العرب حذو الإغريق مثلًا في ملاحمهم وقصصهم ومسرحياتهم, ولكن ما طرأ على الشعر العربيّ لم يعد الشكل الظاهريّ، وظل البناء القديم، والقالب الموروث تصب فيه المعاني في العصر

العباسيّ, كما كانت تصب في العصر الجاهليّ والإسلاميّ الأول. أجل! لقد رقَّ الخيال ولطف، وتولدت المعاني وابتكرت، وتناول الشعر ألوانًا جديدةً لم يقل فيها السابقون، ولكن ظل البيت الذي شاده الجاهليون، والطريق الذي سلكوه في التعبير عن شعورهم هو المثل الأعلى لشعر العصر العباسيّ, بيد أن مقتضيات الحضارة دعت الشعراء أن يؤثثوا هذا البيت الذي ورثوه عن أسلافهم، فحشدوا فيه أنماطًا شتَّى من المعاني العميقة, والأخيلة البعيدة, والفلسفات والحكم، وكثيرًا من صور الحياة في عصرهم، وابتدءوا مع هذا يدخلون شيئًا من الزخرفة بقدر، وكانت زخرفةً منسجمةً مع الرياش والأثاث, وبدأ الشعر العربيّ في عنفوان قوته وازدهاره وغناه. ثم خلف من بعدهم خلف أضافوا إلى هذا القصر الفاخر كثيرًا من الحلى والزخارف، وكان الضعف ابتدأ يتسرب إلى البناء، ويدب فيه الوهن، وعجز الشعراء عن مجارة الأقدمين في متانة عباراتهم، وتملكهم زمام اللغة، وعجزوا عن مجاراة المولدين في معانيهم العميقة، وأخيلتهم الجميلة، فأكثروا من الزخرف والزينة ليستروا بهما الضعف الشائن، وكانوا على شيءٍ من الإلمام باللغة, وبالأساليب الصحيحة, فلم يستعجم قولهم، وظلَّ في الشعر ذماء يحفظ عليه حياته، وبقي البناء في مجموعة سليمًا. ثم أخذ البناء يتداعى بضعف الأمة العربية، وخضوعها للأعاجم الذين لا يقدرون هذا التراث الجميل، ولا يعرفون لسان أهله, ولا هَمَّ لهم إلّا ابتزاز الأموال من الشعوب المظلومة, دون مقابلٍ من علمٍ أو صحةٍ أو غنًى، فتفشى الجهل، وساد الظلم، واستعجم الشعراء ولحنوا لحنًا فاحشًا، وكانوا أبعد الناس عن الأساليب الصحيحة، والمعاني الواضحة، والشعور السليم، وخانتهم الأداة المعبرة، وأصبح همهم النظم لا روح فيه, ولا معنى له، والذي يساق في عبارةٍ ركيكةٍ غَثَّةٍ، وفي حشدٍ زاخرٍ من الزينات والمحسنات لتستر عواره, وقد كان الشعر يلفظ أنفاسه الأخيرة عيًّا ومرضًا حين ابتدأ العصر الحديث. ابتدأت النهضة الشاملة منذ عصر محمد علي، وقد رأيت شيئًا من معالمها، ورأيت كيف كان الشعر يرتدد بين المرض والعافية، فيصحّ أحيانًا, وينتكس أحيانًا كثيرة, والنهضة سائرةٌ في طريقها في عهد إسماعيل، واللغة يدب فيها شيء منالقوة، والمطابع تدفع بالكتب الأدبية القديمة، والمدارس تبدد سدف الجهل والظلام، والصحافة تكشف الطريق، وتزيل ما به من أوضار وعوائق، ولكن الشعر ظلَّ على حاله من الضعف, لم يقف على قدميه بعد، وكان مُكَبَّلًا بقيودٍ ثقيلة، تحت أنقاض هذا البناء المشمخر الذي تداعى أيام الانحلال. وشاء الله أن يبعث من ينهضه من كبوته، ويقيله من عثرته، ويلقي بهذه الآفات والأوضار بعيدًا، ويعيد للبناء قوته ومجده، وزخرفته الطبيعية الجذابة دفعةً واحدةً، كأنما هي عصا ساحر, قلبت الميت حيًّا, والضعيف قويًّا، والمعدم ثريًّا, كان هذا على يد إمام النهضة الشعرية الحديثة في العالم العربيّ:

محمود البارودي

محمود البارودي: 1255هـ-1322هـ، 183م-1904م: حياته: محمود سامي الباردوي, من أسرة جركسية ذات جاهٍ ونسب قديم1، وتنتمي إلى حكام مصر المماليك، وكان البارودي يعرف هذا النسب ويعتز به. أنا من معشر كرام على الدهر ... أفادوه عزةً وصلاحًا عمرو الأرض مدة ثم زالوا ... مثلما زالت القرون اجتياحًا ويقول: نماني إلى العلياء فرع تأثلت ... أرومته في المجد، وافترَّ سعده وحسب الفتى مجدًا إذا طلب العلا ... بما كان أوصاه أبوه وجده

_ 1 أبوه حسن حسني الباردوي, من أمراء المدفعية، ثم صار مديرًا لبربر ودنقلة, في عهد محمد علي، وجده لأبيه عبد الله الجركسيّ، والبارودي نسبة إلى "إيتاي البارود" بمديرة البحيرة، وكان أحد أجداده ملتزمًا لها، ينتهي نسبه إلى الملك الأشرف "سبرباي" الأتابكي, من المماليك الذين حكموا مصر في ما مضى. "مذكرات عرابي ج1 ص100".

وتيتَّمَ محمود البارودي صغيرًا، وهو في السابعة من عمره، فحُرِمَ بذلك حنان الأب ورعايته، وتلقَّى دروسه الأولى في البيت حتى بلغ الثانية عشرة، ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من الجراكسة، والترك، وأبناء الطبقة الحاكمة, وتخرَّج في المدرسة الحربية سنة 1854, وهو في السادسة عشرة من عمره, في عهد عباس الأول، وكان من المعوقين للنهضة كما مَرَّ بنا، وقد خمدت في عهده روح الحماسة التي شبها محمد علي في الجيش, بل سَرَّحَ معظمه، وقفرت ميادين القتال من ألوية مصر، ولم يكن عهد سعيد أحسن حالًا من عهد عباس، فلم يجد البارودي -كمالم يجد زملاؤه- عملًا يعملونه, أما هم: فقد طاب لهم عيش الرخاء والدعة, وسَرَّهم البعد عن ميادين القتال، ولكنه أحسَّ دونهم بألم ممضٍّ؛ إذ لم يشترك في حربٍ كما اشترك آباؤه، كم كان يود أن يحقق عن طريق الجندية والجيش آمالًا ضخمةً، وأمانيّ عريضة, ودفعه هذا الأمل إلى العوض عن المعارك الحقيقة بمعارك موصوفةٍ مدونةٍ في صحفات التاريخ, فعكف على كتب الأقدمين يلتهمها التهامًا. وكانت ملكة الشعر كامنة في حنايا فؤاده, فراقه من التراث الأدبي شعر الحماسة والفخر، ووصف ميادين القتال، وأعمال الأبطال، ورأى في هذا الأدب تصويرًا للحياة كلها؛ حلوها ومرها, من غزل وفكاهة وحكمة ورثاء, وكل ما يخطر ببال الناس، فازداد شغفه به وحرصه على حفظه وتدوينه، وتحركت نفسه لقول الشعر فقَلَّدَ فحول الشعراء في أروع قصائدهم، وهل على مثله مِنْ بأسٍ أو عارٍ إذا هو قال الشعر؟ إذا وهم هذا معاصروه من أبناء طبقته لجهلهم وخمود قريحتهم ولتقالديهم الموروثة، ولهوان شعراء زمانهم, وضعة شأنهم, فإن البارودي كان على ذكر من أنَّ أمراء كثيرين قبله، أعرق نسبًا، قد برزوا في الشعر العربيّ وسطروا تاريخهم في سجل الخلود، كامرئ القيس، وابن المعتز، والشريف الرضيّ، وأبي فراس, وأضرابهم, فلِمَ لا يكون مثل هؤلاء؟ ولم لا يرتفع بالشعر إلى منزلتهم؟ لن يكون مدَّاحًا متملقًا، أو نديمًا منافقًا، ولكنه سيقول في أغراض شريفة تليق به وبمكانته.

الشعر زين المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذام قد طالما عزَّ به معشر ... وربما أزرى بأقوام فاجعله ما ئشت من حكمة ... أوعظة أو حسب نام واهتف به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي وقدعرف فيما عرف من أدب العرب منزلةَ الشعرِ وعبَّر عنها بعد بقوله: صحائف لم تزل تتلى بألسنة ... للدهر في كل ناد منه معمور يزهى بها كل سام في أرومته ... ويتقي البأس منها كل مغمور فكم بها رسخت أركان مملكة ... وكم بها خمدت أنفاس مغرور والشعر ديوان أخلاق يلوح به ... ما خطه الفكر من بحث وتنقير كم شاد مجدًا، وكم أودى بمنقبة ... رفعًا وخفضًا بمرجوٍّ ومحذور هكذا رأى البارودي الشعر، وما كان له أن يعرض عنه، ولو حاول ما استطاع وفيه طبع شاعر، وقد ملك أداته اللغوية المعبرة. تكلمت كالماضين قبلي بما جرت ... به عادة الإنسان أن يتكلما فلا يعتمدني بالإساءة غافل ... فلابد لابن الأيك أن يترنما فهو مطبوع على قول الشعر مثله في ذلك مثل الهزار أو البلبل، ينطق كلاهما بالغناء فطرةً وجبِّلَّةً، ولكن مصر ضاقت به, أو ضاق بها؛ حيث لم يجد غنية لدى الدولة تحقق آماله، فسافر إلى الآستانة مقر الخلافة، والتحق بوزارة الخارجية، وهناك تعلم التركية والفارسية وتعلم آدابهما, وحفظ كثيرًا من أشعارهما، ودعته سليقته الشاعرة فقال بالتركية وبالفارسية كما قال بالعربية, ومع ذلك لم يهجر لسانه الأول, ولما سافر إسماعيل إلى الآستانة بعد أن تولى أريكة مصر سنة 1863؛ ليقدِّمَ أي: الشكر على توليته, ألحق البارودي بحاشيته، ورأى فيه ما لم يره في غيره, فرجع به إلى مصر.

وابتدأ إسماعيل نهضته بعد عودته، مترسمًا خطا جده، وأعاد للجيش مكانته، ووجد البارودي المجال أمامه فسيحًا، فظل يرقى في مناصب الجيش، وفي فرسان الحرس الخاصِّ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وتحقق له مناه بالاشتراك في معارك جزيرة "كريت" حين ثارت على الدولة, فأسهم إسماعيل بجيشه في إخماد الثورة, وقد فتنت الباردوي مناظر الجزيرة ومناظر المعارك، فسجَّل ذلك كله في شعره، وسمع الناس نغمًا جديدًا في الشعر لم يألفوه منذ عهدٍ طويل، وأخذوا يتطلعون في لفهةٍ وشوقٍ إلى المزيد من هذا النفس العالي، ومن هذا الطراز الجديد في الشعر1. وتقلب البارودي في مناصب الدولة، وكان ذا حظوةٍ لدى إسماعيل، فاتخذه كاتم سره، وسافر في رحلتين سياسيتين إلى الآستانة في مهمةٍ خاصَّةٍ، ومكث اثنتي عشرة سنة بجوار إسماعيل، يرى نشاطه الجم في إحياء مصر وإنهاضها, ويشاركه في عمله المجيد، وفي سنة 1878 أعلنت روسيا الحرب على تركيا، وأرسل إسماعيل جيشًا يعاون الخليفة في حربه مع عدوه، وسافر البارودي مع الجيش، وأبلى في المعارك بلاءً حسنًا، فأُنْعِمَ عليه عليه برتبة "اللواء" وبأوسمة عدة. وكان في ميدان القتال، والمناظر الخلابة، والعالم الذي رآه ما ألهب شاعريته، فوصف المعارك والناس والمناظر بشعر أخَّاذٍ بلغ الذورة في الوصف، وأخذ يهتف باسم مصر، ويحنُّ إلى الأهل والوطن، فانبعث منه الشعر قويًّا مليئًا بالحياة. مولاي قد طال مرير النوى ... فكل يوم مرّ بي ألف عامٍ يقتبل الصبح ويمضي الدجى ... وينقضي النور ويأتي الظلام ولا كتاب من حبيب أتى ... ولا أخو صدق يرد السلام من خلفنا البحر وتلقاءنا ... سواد جيش مكفهر لهام ويقول في قصيدة أخرى: هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرةً يقضي بها حقه الوجد

_ 1 سنتكلم عن شعر البارودي فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله. 2 الخطاب للاديب العالم الشيخ حسين المرصفي, وإليه أرسل هذه القصيدة، والتي تليها.

ومنها يقول: ولكنَّ إخوانًا بمصر ورفقة ... نسوا عهدنا حتى كأن لم يكن عهد أحن لهم شوقًا على أن دوننا ... مهامه تعيا دون أقربها الربد فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا ... ثوت عندكم شهرًا وليس لها رد أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود فلا تحسبوني غافلًا عن ودادكم ... رويدًا فما في مهجتي حجر صلد هو الحب لا يثنيه نأيٌ وربما ... تأجج من مَسِّ الضرام له الند وعاد من حرب البلقان وهو في الأربعين من عمره؛ فعين مديرًا للشرقية، فمحافظا للعاصمة, ثم ساءت أمور مصر أخريات عصر إسماعيل، واضطربت اضطرابًا كبيرًا، وناء الفلاحون بالضرائب الفادحة العديدة، ولنستمع إلى شاهد عيان يصف لنا الهوة التي تردَّى فيها الفلاحون في تلك الحقبة سنة 1875؛ حيث يقول: كان من الأمور النادرة في تلك الأيام أن يرى الإنسان شخصًا في الحقول وعلى رأسه عمامة، أو على ظهره شيء أكثر من قميص.. وغَصَّت مدن الأرياف في أيام الأسواق بالنساء اللاتي أتين لبيع ملابسهن وحليهن الفضية للمرابين "الأروام"، لأن جامعي الضرائب كانوا في قراهن والسوط مشهر في أيديهم، فابتعنا مصوغاتهن الزهيدة, وأصغينا إلى قصصهن، واشتركنا معهن في استنزال اللعان على الحكومة التي جعلتهن عرايا، ولم نكن فهمنا وقتئذ -أكثر مما فهمه القرويون أنفسهم- ذلك الضغط الماليّ الآتي من أوروبا، والذي كان السبب الحقيقيّ في هذا الضيق، وعلى ذلك جاريناهم في إلقاء اللوم كله على إسماعيل باشا وإسماعيل صديق, دون أن يخامرنا شكٌّ في أن الإنجليز أيضًا يقع عليهم جانب من اللوم1.

_ 1 التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر, تأليف ألفريد بلنت, ص12.

وكانت للامتيازات الأجنبية نصيبٌ كبيرٌ في تدهور الحالة بمصر في تلك الأونة؛ حيث قد أصبحت أداةً ينتفع بها شر الطغاة من الأوربيين, وأشباه الأوربيين من متخرجي الشرق الأدنى، وتجسمت في أخريات عهد إسماعيل, حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوربيّ قناص الغنيمة، وسمسار القروض المرهقة، والإغريقيّ صاحب الخان, ومرتهن الأرزاق، واليهوديّ المراب, ي ومن إليهم ممن يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوربية, يمتصون الخزانة العامة, والفلاح والفقير, ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصي على التصديق1". أما الضرائب التي فرضها إسماعيل على الأرض فقد كانت فوق ما يتصور, حتى لقد بلغت الضريبة على الفدان ما يقرب من ثمنه، فكان من الطبيعيّ أن يترك هؤلاء الفلاحين أرضهم وديارهم, وينسحبوا هاربين عجزًا عن أداء الضرائب, وخوفًا من السياط2. عدا ثلاثين نوعًا من الضرائب الصغيرة، أضرَّت ضررًا بليغًا بالصناعات والأعمال التجارية والزراعية3. ناهيك بالسخرة، وما كان يصطحبها من إهانةٍ وأذى وذلة, طوحت بعزة المصريين، وأرهقتهم إرهاقًا شديدًا، حتى جعلت أيام السواد منهم شقاءً وبؤسًا. كانت هذه الأمور من العوامل التي ملأت قلوب المصريين حقدًا وكراهيةً لإسماعيل وحكمه. وزاد الأمور سوءًا أن إنجلترا وفرنسا كانتا تدفعان الحوادث دفعًا نحو التأزم, حتى تتاح لهما الفرصة للتدخل المباشر، وافتراس مصر، ففرضتا على مصر وزارةً فيها وزيران أوربيان برياسة نوبار باشا، "وكانت طبقة الموظفين المسلمين تعده أفاقًا أرمينًا, جمع ثورةً كبيرةً من سمسرته لأصحاب الأموال المستعدين لإعطاء القروض على حساب الجمهور، أما الفلاحون فكانوا يعرفون فيه الرجل الذي أنشأ المحاكم المخطلته التي يمقتونها أشد المقت؛ لاعتقادهم أنها وضعتهم في قبضة المرابين4".

_ 1 Milner: England in Egypt P.15. 2 Cromar: Modern Egypt.36. 3 تاريخ محمد عبده, لرشيد رضا, ج1, ص172. 4 بلنت, ص37.

واشتطت هذه الوزارة في الضرائب وجبايتها، وتأخرت رواتب الموظفين، وعزل الكثيرون منهم، وانقضت سلطة الباقي، وتقرَّرَ فصل عدد كبير من ضباط الجيش, مع أنهم لم يتقاضوا مرتباتهم منذ زمن طويل، فزاد السخط, وقامت مظاهرة من الضباط وطلبة المدرسة الحربية وبعض النواب, في 18 من فبراير 1879، أمام وزارة المالية, احتجاجًا على هذا الظلم, واعتدوا على نوبار, وعلى الوزير الإنجليزي, وعلى رياض باشا وزير الداخلية، ولم يتفرقوا إلّا بعد أن أطلقت النار، ثم سقط الوزارة، واتهم عرابي بتدبير تلك الثورة, وأبعد عن فرقته1. وتولَّى توفيق ولي العهد الوزارة, واشتد الخلاف بينه وبين مجلس النواب الذي رأى تخفيض الضرائب فأبى، وفي هذه الأونة أُلِّفَ الحزب الوطنيّ، وأصدر لائحةً تتضمن مشروعًا ماليًّا لسداد الديون بكفالة الشعب، وطالب فيها بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، ووقَّعَ على هذا البلاغ النواب والعلماء ورؤساء الأديان، وكثير من التجار والموظفين والضباط، ورفعوها إلى إسماعيل, فقبلها على الرغم من احتجاج الوزيرين الأوربيين، ودعا شريف باشا في 7 من أبريل لتأليف الوزارة على مبادئ اللائحة الوطنية, فكانت فرحة الشعب بهذا النصر عظيمة. وبيد أن إنجلترا وفرنسا قابلتا هذه الوثبة الوطنية بالسخط الشديد, فعملتا على خلع إسماعيل؛ فأقلعت به "المحروسة" إلى نابلي غير مأسوفٍ عليه من المصريين الذين لم ينسوا ما فعله بهم, حتى لقد هموا من قبل بقتله والتخلص منه, فيقول عرابي: "خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من عائلة محمد علي بأجمعها؛ إذ لم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وقد اقترح جمال الدين على محمد عبده أن يقتل إسماعيل على جسر قصر النيل"2، ويقول محمد عبده: "وكنت أنا موافقًا الموافقة كلها على قتل إسماعيل، ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة، ولو أننا عرفنا عرابيًّا في ذلك الوقت, فربما كان في إمكاننا أن ننظم الحركة معه2".

_ 1 بلنت ص171. 2 التاريخ السري, بلنت ص347. 3 المرجع نفسه 340.

وتولى توفيق العرش بدل أبيه، وكان المصريون يعلِّقون عليه آمالًا كبارًا؛ لأنه كان من المعجبين بالسيد جمال الدين الأفغاني وآرائه الإصلاحية، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذه المبادئ بعد توليه العرش، وأرجع المراقبة الثنائية، وخاصم الحكم النيابيّ, وحكم البلاد حكمًا مطلقًا، وكان في هذا منفذًا لمشورة الأجانب، مستجيبًا لتدخلهم، فعزَّ ذلك على كثير من رجال مصر، ورأوا لزامًا عليهم أن يضعوا حدًّا لهذا التيار. كان البارودي من المقربين لتوفيق, وولاه وزارة الأوقاف، فأصلح فيها ما وسعه جهده، وكان في الوقت نفسه وطنيًّا متشبعًا بروح الإصلاح, فحار في أمره بين ولائه للعرش، وبين نزعاته الإصلاحية. ثم كانت حركة الجيش، والمطالبة بتولية المصريين المناصب العليا، وقد كانت قبل وقفًا على الجراكسة والأتراك، وكانوا في منتهى الغلظة والقسوة، فثار الجيش في أوائل سنة 1881، حين أصدر عثمان وفقي الجركسي وزير الحربية أمرًا بعدم ترقية المصريين، وبفصل بعض ضباط المتزعمين فيهم، وانتهى الأمر بعزل عثمان رفقي هذا, وإجابة الجيش إلى ما طلب من إصلاح, وتولية البارودي وزارة الحربية مع الأوقاف، وهدأت الأمور في الظاهر، ولكن الجراكسة كانوا يدبرون مكيدةً للضباط المصريين، وتأزمت الأمور, فكانت مظاهرة عابدين في 9 من سبتمبر 1881, يتقدمها "عرابي" وكبار الضباط المصريين، وأطلَّ عليهم توفيق، ومعه وزراؤه وحاشيته وقناصل الدول الأجنبية، وتَقَدَّمَ عرابي إليه بطلبات الجيش والأمة، وهي إسقاط وزارة رياض, وتشكيل مجلس النواب, وزيادة عدد الجيش، وبعد مناقشاتٍ طويلةٍ حادةٍ, تقرر إجابة هذه الطلبات. وكان البارودي وزيرًا للحربية في وزارة رياض، ولما رأى هذا نزعاته الشعبية, وصلته بالوطنيين, دُسَّ عليه لدى توفيق فعزله، ودفعه إلى اعتزال السياسة فترةً من الوقت، فترك القاهرة وجوَّها القلق, وآثر العزلة في الريف, وفي هذا يقول:

صبح مطير، ونسمة عطرة ... وأنفس للصبوح متنظرة فدر بعينييك حيث شئت تجد ... ملكًا كبيرًا وجنة خضرة وخلنا من سياسة درجت ... بين أناس قلوبهم وغره يقضون أيامهم على خطر ... فبئس عقبى السياسة الخطرة خديعة لا يزال صاحبها ... بين هموم وعيشة كدرة فلما سقطت وزارة رياض تحت ضغط الوطنيين عقب مظاهرة عابدين, عاد البارودي وزيرًا للحربية بعد أن ألحَّ عليه توفيق إلحاحًا شديدًا، وانتخب مجلس النواب, وافتتح في ديسمبر 1881, وهدأت الأمور، وسارت وزارة شريف في طريق الإصلاح، ولكن إنجلترا وفرنسا كانتا كارهتين للهدوء والاستقرار، فما أن أخذ مجلس النواب يناقش المادة التي تخوّل له الحق في تقرير الميزانية, حتى قدمتا مذكرةً تحتجان فيها على ذلك، وقبل شريف هذا الاحتجاج، ورفضه مجلس النواب, فاستقالت وزراة شريف، وتولَّى البارودي رئاسة الوزارة في 4 من فبراير 1882، وكان عرابي وزيرًا للحربية في وزارة البارودي. كان البارودي محبوبًا من الشعب ومن الجيش على السواء، وفرح المصريون بوزارته فرحًا عظيمًا، وأخذ مجلس النواب، فوق إصدار الدستور الذي كان صدوره عيدًا للأدب والتاريخ؛ يبحث عدة مشروعاتٍ لمعالجة غلاء الأسعار, وتعميم التعليم الابتدائي، وإصلاح القضاء, وإنشاء خزان أسوان، ثم انتهت دورته, وتابعت الوزارة حركة الإصلاح في خطًا واسعة، ولكن أنى لها الجوَّ الهادئ وتوفيق واقع تحت سيطرة فرنسا وانجلترا، وهما متربصتان بمصر والمصريين الشر، فانتهزتا فرصة الخلاف بينه وبين الوزارة بسبب مؤامرة الضباط الجراكسة على قتل عرابي وأصحابه، وبالرغم من أن هذا الخلاف قد سُوِّيَ، فقد بدأت سفن الأسطولين الإنجليزيّ والفرنسيّ تصل إلى مياه الإسكندرية، وقدمت الدولتان في 25 من مايو مذكرةًَ جديدةً بضرورة استقالة الوزارة, ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض أصحابه بناءً على اقتراح سلطان "باشا" الذي بدأ من ذلك اليوم يناصر الإنجليز, ويخون قضية بلاده، تلك القضية التي طالما ناصرها، وهكذا وقع في الشرك الذي وقع فيه شريف "باشا" من قبل1.

_ 1 بلنت, التاريخ السري 224.

واجتمع الوزراء، وقرروا رفض المذكرة، ولما قبلها توفيق اضطروا إلى الاستقالة. وهاج الشعب على أثر ذلك, واشتد سخطه, وقدموا احتجاجاتٍ قويةً لتوفيق, يطلبون فيها رفض طلبات إنجلترا وفرنسا, والإبقاء على عرابي في الوزارة، وإذا أبى توفيق عُزِلَ عَزْلًا، واضطر توفيق بعد استشارة "قناصل" الدول الأجنبية إلى الإبقاء على عرابي زيرًا للحربية حفظًا للأمن، وبقيت الوزرات الأخرى شاغرة إلى حين. لما طالب الجيش بعزل توفيق راودت البارودي نفسه ونازعته يومئذ إلى المجد المؤمل، وإلى مكان أجداده المماليك الذين حكموا مصر، فخاض الصورة مع الخائضين، ولكنه رأى بعين فراسته أن التيار شديد، وأن انجلترا وفرنسا تتربصان بمصر الدوائر، وأحسَّ بالخطر, وعلم أن لا قِبَلَ له بمواجهته, فنصح لعرابي وإخوانه وصارحهم برأيه، وحاول الاعتزال في مزراعه، ولكن هيهات، وقد جرى مع الضباط شوطًا بعيدًا، ربط حظه بحظهم، وإن لم تعد له الصدارة كما كان. وفي هذا يقول: نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة ... وربما تاح أمر غير مظنون فخالفوني وشبوها مكابرة ... وكان أولى بقومي لو أطاعوني تأتي الأمور على ما ليس في خلد ... ويخطئ الظن في بعض الأحايين حتى إذا لم يعد في الأمر منزعة ... وأصبح الشر أمرًا غير مكنون أجبت إذ هتفوا باسمي ومن شيمي ... صدق الولاء وتحقيق الأظانين وأخفقت الثورة، ونفي مع زملائه إلى "سرنديب" فأقام بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، وظلَّ وزملاؤه سبعة أعوام في "كولومبو", ولما دبت بينهم البغضاء، وألقى كم منهم التبعة على زميله، فارقهم البارودي. وفي المنفى قال القصائد الخالدة، يبثها شكواه، ويحن للوطن، ويصف كل ما حوله، ويراسل الأدباء، ويتلهف على ذكر الوطن ويتتبع أخباره، فيرثي من مات من أهله وأحبابه

وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه, وأويقات أنسه, وما آَلَ إليه حاله، ووجد في الشعر عزاءً أيَّ عزاءٍ، وصار أمامه في العالم العربيّ دون منازع، ولكن طول النفي أورثه السقام والعلل، فكُفَّ بصرُه, وضَعُفَ سمعه، ووهن جسمه، ولست أجد أروع ولا أوفى من قوله يصف ما أصابه: كيف لا أندب الشباب؟ وقد ... أصبحت كهلًا في محنةٍ واغتراب أََخْلَقَ الشيبُ جدتي وكساني ... خلعةً منه رَثَّةَ الجلبابِ ولوى شعر حاجبيّ على عيني ... حتى أطلَّ كالهداب لا أرى الشيء حين يسنح إلّا ... كخيالٍ كأنني في ضباب وإذا ما دعيت حرت كأني ... أسمع الصوت من وراء الحجاب كلما رمت نهضة أقعدتني ... ونية ولا تقلها أعصابي لم تدع صولة الحوادث مني ... غير أشلاء همة في ثياب وزاد أمره بؤسًا أن الموت تخطف ابنته وزوجه الأولى وأصحابه، فابتدأ الفناء يدب إليه، هنالك رأى أول الأمر أن يعود المنفيون إلى أوطانهم، وعاد البارودي معهم "أشلاء همة في ثياب" كما يقول، ولكن جاء وفي يمينه سفر الخلود، وهو ذلك الشعر العلويّ، وكان ذلك في سنة 1900, واستقبل مصر بقصيدته: أبابل مرأى العين أم هذه مصر؟ ... فإني أرى فيها عيونًا هي السحر واستقبلته مصر بكل حفاوةٍ وترحابٍ، وكانت عودته عيدًا للأدب الرفيع، وصارت داره ندوة يؤمها الأدباء والشعراء القدامى والشادون فيه، يأنسون إليه، ويأنس إليهم، وعكف على تنقيح ديوانه، وحذف ما لا يروق له منه، وتدوين مختاراته وترتيبها، وأخيرًا فاضت روحه إلى بارئها، وأسلم هذه الشعلة المتوهجة في ديسمبر 1904م-شوال 1322هـ, إلى الأجيال من بعده, يتلقفها كابر عن كابر, وكلهم يذكر فضله ويمجد ذكره؛ لأنه أورثهم شعلة خالدة.

أخلاقه: شبَّ معتدًّا بحسبه ونسبه، وفي عصرٍ ساد فيه جنسه، وتبوأ أبناء جلدته من الجراكسة والأتراك أسمى مناصب الدولة، ثم تزوَّد من فنون الجندية، ونُشِّئَ تنشئةً عسكريةً, فكان لهذه النشأة وهذا الحسب تأثير عميق في أخلاق البارودي، ولكن الزمن قد حوَّرَ في هذه الأخلاق, ومن يدرس شعره دراسة فاحصٍ مدققٍ يستطيع أن يتبين هذا التغيير أو التحوير في أخلاق البارودي, مجاراةً لزمنه, وعادات الناس الذين يخالطهم إن طوعًا وإن كرهًا, بيد أن كثيرًا من صفات الشباب التي اعتدَّ بها لازمته حتى مماته، ولم تتبدل ولم تتأثر بعوامل الزمن، ومحن الناس. كان البارودي في صباه متوثب العزيمة، واسع الآمال, عزوفًا عن الملاهي, يود أن يعتلي ذورة المجد قفزًا: لهج بالحروب لا يألف الخفض ... ولا يصحب الفتاة الرداحا مسعر للوغى أخو غدوات ... تجعل الأرض مأتمًا وصياحا لا يرى عاتبًا على شيم الدهر ... ولا عابثًا ولا مزَّاحا يفعل الفعلة التي تبهر الناس ... وترنو لها العيون طموحا وظلت نغمة المجد تتردد على أسلة لسانه أنشودةً حلوةً، وكان في نفسه شيءٌ يود تحقيقه ويرجو نيله، ويسعى سعيًا حثيثًا، ولكنه لم يصرح به. وبي ظلمأ لم يبلغ الماء ريه ... وفي النفس أمرٌ ليس يدركه الجهد أود، وما ود أمرئ نافعًا له ... وإن كان ذا عقلٍ إذا لم يكن جد وما بي من فقر لدنيا وإنما ... طلاب العلا مجد، وإن كان لي مجد وما أن عضته الحوادث عضةً داميةً، ونكأه الزمان نكأةً قاسية، حتى تطامن في ملطبه وقال: وكن وسطًا، لا مشرئبًّا إلى السها ... ولا قناعًا يبغي التزلف بالصُّغر

وقال: يود الفتى ما لا يكون طماعة ... ولم يدر أن الدهر بالناس قلب ولو علم الإنسان ما فيه نفعه ... لأبصر ما يأتي وما يتجنب ولكنها الأقدار تجري بحكمها ... علينا، وأمر الغيب سر محجب نظن بأنا قادرون وإننا ... نقاد كما قيد الجنيب ونصحب وإذا كان في صباه قد عزف عن النساء جدًّا منه وتزمتًا، وأبى اللهو والمجانة حتى لا ينصرف عن طلب العلا، فإن الشباب والجاه والمال قد غير نظرته إلى الحياة، وبات ذلك الفارس الذي يدل بشبابه وجاهه على الحسان، ويجري وراء اللهو، ويعب الخمر عبًّا، ويتصيد مجالس الأنس والسمر، ويقول: ودعني من ذكر الوقار فإنني ... على سرف من بغضة الحلماء فما العيش إلّا ساعة سوف تنقضي ... وذا الدهر فينا مولع برماء ويقول: لو حذر المرء كل لائمة ... لضاع منه الصواب والرشد ولو أصخنا لكل منتقد ... فكل شيء في الدهر منتقد واله بما شئت قبل مندمة ... يكثر فيها العناء والكمد فليس بعد الشباب مقترح ... ولا وراء المشيب مفتقد ومن أي شيء يخشى؟ وعلام ينتقده الناس؟ ينتقدونه على أنه ممتلئ بالحياة، مستهين بالتقاليد والعادات. فرحنا نجر الذيل تيهًا لمنزل ... به لأخي اللذات واللهو ملعب مسارح سكري، ومربض فاتك ... ومخدع أكواب به الخمر تسكب

أما الدين فله في النفس حرمته ولكن: إذا ما قضينا واجب الدين حقه ... فليس علينا في الخلاعة من عذر أجل لقد صار فارسًا مرحًا ينهل من اللذات ويعل. فطورًا لفرسان الصباح مطارد ... وطورًا لإخوان الصفاء سمير ويا رب حيٍّ قد صبحت بغارة ... تكاد لها شم الجبال تمور وليل جمعت اللهو فيه بغادة ... لها نظرة تسدي الهوى وتنير عقلنا به ماند عن كل صبوة ... وطرنا مع اللذات حيث تطير أما أخلاقه الطبيعية: فكان كثير الافتخار بها يرددها مرارًا في شعره, فهو مخلص في صداقته: واختبرني تجد صديقًا حميمًا ... لم تغير ودادوه الأهواء صادقًا في الذي يقول وإن ضاقت ... عليه برحبها الدهناء أما الواداد فهو يرعاه، ويعد ذلك من كرم الأصل: ليس يرعى حق الوداد ولا ... يذكر عهدًا إلّا كريم النصاب ولابد أن يتجلى أثر الوداد القلبيّ في أعمال الإنسان، وإلّا كان ودادًا كاذبًا: وإنَّ وداد القلب ما لم يكن له ... دليلٌ على إخلاصه لمريب وكان عالي الهمة, يمثل لك في شعره الفروسية والنجدة، والإباء والأنفة، فيقول: إذا لم يكن إلّا المعيشة مطلب ... فكل زهيدٍ يمسك النفس جابر من العار أن يرضى الدنية ماجد ... ويقبل مكذوب المنى وهو صاغر إذا كنت تخشى كل شيء من الردى ... فكل الذي في الكون للنفس ضائر ويقول: ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب إذا أنا لم أعط المكارم حقها ... فلا عزني خال، ولا ضمني أب خلقت عيوفًا لا أرى لابن حرة ... عليَّ يدًا أغضي لها حين يغضب

أما جوده: فطالما تغنَّى به في شعره؛ وحث الناس على الجود، ووضع من شأن المال والتباهي به فيقول: فلا تحسبنَّ المال ينفع ربه ... إذا هو لم تحمد قراه العشائر فقد يستجم المال والمجد غائب ... وقد لا يكون المال والمجد حاضر ولو أن أسباب السيادة بالغنى ... لكاثر رب الفضل بمال تاجر ويقول: وجد بما ملكت كفاك من نشب ... فالجود كالبأس يحمي العرض والنسبا ولا يقعد البطل الصنديد عن كرم ... من جاد بالنفس لم يبخل بما كسبا وكان يتمدح بصراحته وشجاعته، فهو لا يسكت عن القبيح وإلّا عُدَّ منافقًا، وإذا كان الإنسان على ثقةٍ من أمره، ونفسه حرة, وهو شجاعٌ, فعلام يغضي على القذى, أو لا يصارح الناس بعيوبهم علهم يصلحونها؟ أنا لا أقرُّ على القبيح مهابةً ... إن القرار على القبيح نفاق قلبي على ثقةٍ ونفسي حرة ... تأبى الدني، وصارمي ذلاق فعلام يخشى المرء فرقة روحه ... أو ليس عاقبة الحياة فراق؟ لا خير في عيش الجبان يحوطه ... من جانبيه الذل والإملاق عابوا عليّ حميتي ونكايتي ... والنار ليس يعيبها الإحراق ولكننا نرى البارودي كثيرًا ما ينصح بمداراة الناس، ودفع القسر باللين, والغضب بالحلم, وقد صوَّر جملةً من صفاته ومداراته الناس، ومودته لأصداقائه ووفائه لهم في قوله:

ملكت يدي عن كل سوءٍ ومنطقي ... فعشت بريء النفس من دنس العذر وأحسنت ظني بالصديق وربما ... لقيت عدوي بالطلاقة والبشر فأصبحت مأثور الخلال محببًا ... إلى الناس مرضيّ السريرة والجهر إذا شئت أن تحيا سعيدًا فلا تكن ... لدودًا، ولا تدفع يد اللين بالقسر ولاتحتقر ذا فاقةٍ فلربما ... لقيت به شهمًا يبذ على المثري ولا تعترف بالذل في طلب الغنى ... فإن الغنى في الذل شر من الفقر ودار الذي ترجو وتخشى وداده ... وكان من مودات القلوب على حذر ويقول في غير هذا الموضع: مداراة الرجال وطئًا ... على الإنسان من حرب الفساد يعيش المرء محبوبًا إذا ما ... نحا في سيره قصد السداد ولعل لتجاربه الكثيرة أثرًا في إملائه هذا النصح، وتحوله من الصراحة إلى المدارة, وإذا كانت الحياة قد علمته كيف يداري الناس، ويكون منهم على حذر، فإنها قد علمته كذلك أن المرح والحياة الصاخبة باللذات تورث الأسقام والعلل: ولقد جريت مع الغواية والصبا ... جري الكميت وللغرام سباق ولبست هذا الدهر من أطرافه ... ونزعته وقميصه أخلاق فإذا الشباب وديعة وإذا الفتى ... هدى لفاغرة المنون يساق هذا هو البارودي كما صور نفسه في شعره، وإذا كان صادقًا في تصويره، ولا نحسبه إلّا كذلك، فالأخلاق التي تغنَّى بها تبعث في النفس الإكبار والإعجاب.

ثقافته: أُعِدَّ البارودي ليكون جنديًّا، ولم يُعَدُّ ليكون أديبًا، بيد أنه حين وجد نفسه بعد أن تخرج في المدرسة الحربية متعطلًا, أبت عليه نفسه الطموح أن يستمرئ اللهو والدعة، وعكف على كتب الأولين يقرؤها بشغفٍ ونهمٍ، ولم يقرأ كتابًا من كتب اللغة، ولكنه قرأ كتب الأدب، ويقول الشيخ حسين المرصفي صديقه ومرشده1: "ولم يقرأ كتابًا في فنٍّ من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعاقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع إلى بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهةً يسيرةً هيئات التراكيب العربية، ومواقع المرفعوعات منها والمنصوبات والمخفوضات, حسبما تقتضيه المعاني والتعلبيقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، سمعته مرةً يسكن ياء المنقصوص والفعل المعتقل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك فقال: هو كذا في قول فلان, وأنشد شعرًا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة، ثم استقلَّ بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم, حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها، ناقدًا شريفها من خسيسها, واقفًا على صوابها وخطئها". والحق أن أثر القراءة والحفظ ظاهر في شعر البارودي، ومن يطَّلِع على "مختارات البارودي" يشهد بحسن ذوقه، ودقة اختياره، وتأنقه في غذائه عقله، كما يشهد بكثرة محفوظه، ولا نعجب بعد هذا حين نرى البارودي ممتلكًا ناصية اللغة, يتصرف فيها تصرف الخبير العليم بأسرارها, المطبوع على التَّكَلُّمِ بها، وأغلب الظن أن مختاراته لم تحو كل ما حفظ من جيد الشعر العربيّ؛ لأننا نلمح أثرًا للشعر الجاهليّ في شعره: من كلماتٍ، وعباراتٍ, ومعارضاتٍ, وتشبيهاتٍ، مع أن مختارته لم تحو إلّا شعرًا عباسيًّا.

_ 1 الوسيلة الأدبية, ص474.

كانت عند البارودي الملكة الكامنة، والملكة وحدها لا تكفي، بل لابد لها من عدة تصقلها وتنميها، وتعدها للبروز ناضجةً قادرةً خالقةً، ودراسة البارودي الأدبية قد غذت هذه الملكة غذاءً كاملًا، لا من دواوين الشعراء وحدهم، بل من كتب الأدب وطرائف القصص، وأخبار العرب, وقبائلهم, وشجاعتهم, وعدائيهم, وأمثالهم, وحكمهم، وغير ذلك مما لا يستغني عنه أديب، والأدلة على هذه المعرفة متوفرةٌ في ديوانه1. كانت إذًا قراءة كتب الأدب والتاريخ وحفظ الشعر المنتقى الجيد, هي عماد ثقافته الأدبية، على أن البارودي قد اطَّلَع على آدابٍ أخرى غير الآداب العربية، فقد مر بنا أنه أنه حينما ذهب إلى الآستانة وهو في شبابه، والتحق بوزارة الخارجية, عكف على دراسة التركية والفارسية، ونظم الشعر بهما كما كان ينظمه بالعربية. أضف إلى هذا ما روي من أنه تعلَّم الإنجليزية وهو في منفاه وترجم بعض آثارها، وهذه اللغات المتعددة لها أثرها ولا ريب، في معانيه وأخيلته، وتصويره للحوداث.

_ 1 من مثل قوله: لك عرض أرق نسجًا من الريح ... وأوهى من طليلسان "ابن حرب" وكان ابن حرب أهدى إلى الحمدوني طيلسانًا خلقًا، وكان الحمدوني يحفظ قول أبي حمران السلميّ في طيلسانه. يا طيلسان أبي حمران قد برمت ... بك الحياة فما تلتذ بالعمر في كل يوم له رفا يجدده ... هيهات ينفع تجديد مع الكبر إذا ارتداه لعيد أو لجمعته ... تنكب الناس لا يبلى من النظر فاحتذى الحمودني حذو أبي حمران، وقال في وصف طيلسانه ما يقرب من مائتي مقطوعةٍ من مثل قوله: يا ابن حرب كسوتني طيلسانًا ... مل من صحبة الزمان وصدا طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى ومما يدل كذلك على سعة اطلاع البارودي قوله: إن شوقي إليه أسرع شأوا ... من "سليك والصول في بطء "فند" وأمر سليك بن سلكة معروف، أما فند "بكسر الفاء" فهو مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وكانت قد أرسلته ليأتيها بنار، فوجد ثومًا يخرجون إلى مصر فتبعهم، وأقام بها سنة، ثم قدم فأخذا نارًا, وجاء بعدو, فتعثر وتبدد فقال: "تعست العجلة" فقيل: "أبطأ من فند".

هذا، وقد حفل زمان البارودي بأحداثٍ عظامٍ، فمن نهضةٍ شاملةٍ، وخلق لأمة متمدينة، إلى ثوراثٍ وفتنٍ وحروبٍ ومعارك، ونفيٍ وتشريدٍ، وقد سافر البارودي إلى الآستانة مرارًا، وشهد حرب "كريت" وحرب "روسيا" ورأى علمًا لم يعرفه من قبل، ومناظر جديدة، فتاثر بكل ذلك وانفعلت نفسه له، وهاجت هذه الأحداث شاعريته, فانطلق لسانه يردد خواطره وأحساسيسه, فكانت هذا الشعر الخالد. وإذا أضيف إلى هذه الموهبة العظيمة، والدارسة الواسعة، والتجارب الحافلة, وراثةً في قول الشعر سجلها البارودي بقوله: أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقالة زالت دهشتنا حين نرى البارود قد كملت عدته، وهيأته الأيام ليبعث الشعر من رقدته، وينهض به هذه النهضة السامية. شعره: يقول البارودي في مقدمة ديوانه: "الشعر لمعة خيالية, يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب, فيفيض بلألأئها نورًا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غينًّا عن مراجعة الفكرة، فهذه صفة الشعر الجيد، فمن آتاه الله منه حظًّا، وكان كريم الشمائل، طاهر النفس، فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس، ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلّا تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام, وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق, لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها لذي رغبة مسرح، وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همة مطمح".

وتعريف البارودي للشعر غامض؛ لأنه لفه في ثوبٍ كثيفٍ مزخرفٍ بالمجازات والاستعارات، ولم يحدده تحديد علميًّا، وهو يعني: أنه خطرة ذهنية ينفعل لها الفؤاد، فيتحرك اللسان معبرًا عن خلجاته, والخطرة الذهنية تأتي مثلًا من نظرةٍ إلى شيءٍ جميلٍ، أو شيء يبعث الرثاء والأسى، وقد تكون خطرة ذهنية مجردة عن الأثر الخارجيّ، وهذا التعريف يتمشَّى مع مذهب العرب في الشعر, وهو أنه "لمعة خيالية" تومض إيماضًا، فتأتي هذه الخطرات الخيالية غير متصلة, أو مرتبط بعضها ببعض في حلقة متماسكة، أو قصة محبوكة الأطراف, أو خيال ممتد طويل في ملحمة من الملاحم, أو مسرحية من المسرحيات تتابع حوادثها، وإنما هو ومضات تتألق في أبيات وقصيدة لا تربطها وحدة فكرية. والشعر الجيد في رأي البارودي "ما كان قريب المأخذ سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًّا عن مراجعة الفكرة" وهذه صفة الشعر الغنائيّ, وهي سمة الشعر العربيّ غالبًا، ليس فيه عمق المعنى والتوغل في الخيالات، أو تعقيد الفكرة، وحشد القضايا المنطقية، والفكر المجرد عن الشعور والإحساس، كما ترى ذلك عند أبي تمام والمتنبي أحيانًا, وعند أبي العلاء كثيرًا، وكما نراه مذهبًا من مذاهب بعض شعراء العصر الحاضر، والشعر ليس فلسفةً ولا منطقًا، وقد لا يحتوي البيت كبير معنى، وإنما تطرب له النفوس وتهتز عجبًا، وذلك لأن الشعر غذاء القلوب، وليس مهارة العقول, وهذا ما جعل النقاد قديمًا ينعتون البحتريّ بأنه الشاعر، وأن المتنبي وأبا تمام حكيمان؛ لأن البحتري لم يكن يتكلف في شعره الغوص على المعاني وابتكارها, ولا يستعمل المنطق والفلسفة، بل كان يحذو حذو شعراء الجاهلية والصدر الأول في قرب معانيه, وانسجام ألفاظه بعضها مع بعض، والقائل ردًّا على من عاب عليه بعده عن ثقافة عصره، وعدم أخذه بشيء من الحكمة والمنطلق, وهو يمثل نظرة العرب إلى الشعر: كلفتومنا حدود منطقكم ... والشعر بغنًى عن صدقه كذبه لم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق ... ما نوعه وما سببه1 والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه

_ 1 ذو القروح: امرؤ القيس، ولقب بذلك كما يقولون لأنه أصيب بمرض جلديّ في طريق عودته من لدن ملك الروم, حينما ذهب إليه يستنجد به على قتلة أبيه.

ويرى الباردوي أن وظيفة الشعر: "تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام, وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق". وقد ردَّدَ هذه المعاني في شعره، بيد أن الشعر قد لا يؤدي وظيفةً ما إلّا التعبير عن شعور الشاعر، وهذه مسألة تحتاج إلى بحثٍ مستفيضٍ نقرر فيه نظرة العرب إلى وظيفة الشعر بخاصةٍ والأدب بعامة، ونظرة الغربيين إلى الشعر ومذاهبهم فيه، وهل للأدب وظيفة, أو هو التعبير لمجرد التعبير، أو للفن كما يقولون1؟ ومهما يكن من أمر فإن البارودي لم يفطن إلى كل أغراض الشعر, وما يمكن أن يستخدم فيه، وما قرره في مقدمته من تعريف للشعر ووظيفته يعبر عن مذهبه. والبارودي مطبوعٌ على قول الشعر، لا ينتزعه انتزاعًا, ويتعسف في نظمه, بل يتدفق على لسانه تدفقًا، وتشعر وأنت تقرؤه أنه يجري في رفقٍ وهوداةٍ ولينٍ, غير قلقٍ أو مضطربٍ أو متكلفٍ، وقد كان البارودي يدرك هذه الميزة في شعره يقول: أقول بطبع لست أحتاج بعده ... إلى المنهل المطروق والمنهج الوعر إذا جاش طبعي فاض بالدر منطقي ... ولا عجب فالدر ينشأ في البحر وعلى الرغم من سليقته المواتية، وحافظته الواعية التي تمده بمخزون الآداب ألفاظًا منمقة ومعاني سامية، فإن البارودي كان من المؤمنين بأن الفن تهذيبٌ وصقلٌ، وجهدٌ متصلٌ، وتحسينٌ مستمرٌ، وأن الطبع وحده لا يكفي، ولذلك كان يتعهده بالتهذيب والرعاية، فقد روي أنه رتَّبَ ديوانه بعد عودته من المنفى، وأعاد النظر فيما قاله من قصائد، وحذف الأبيات التي لا ترقه، حتى لا يخلف للأجيال المقبلة إلّا الشعر المصقول لفظًا ومعنًى: لم تبن قافية فيه على خلل ... كلّا! ولم تخلف في وصفها الجمل فلا سناد ولا حشو ولا قلق ... ولا سقوط ولا سهو ولا علل لا تنكر الكاعب الحسناء منطقه ... ولا يعاد على قوم فيبتذل

_ 1 انظر دراستنا للمذاهب الأدبية الغربية في كتابنا "المسرحية".

ولا أدلَّ على هذا التنقيح من اختلاف القصائد كما نشرت في الديوان عن نصها المنشور أول الأمر في الوسيلة الأدبية للمرصفي، خذ قوله في الوسيلة الأدبية: أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم ... أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر فقد صار في الديوان: أقاموا زمانًا ثم بدد شملهم ... ملول من الأيام شيمته الغدر ومطلع قصيدته التي يعارض فيها رائية أبي نواس، فقد كانت في الوسيلة على الصورة الآتية: تلاهيت إلّا ما يجن ضمير ... وداريت إلّا ما ينم زفير وهل يستطيع المرء كتمان أمره ... وفي الصدر منه بارح وسعير ثم صار في الديوان: أبى الشوق إلّا ما يحن ضمير ... وكل مشوق بالحنين جدير وهل يستطيع المرء كتمان لوعة ... ينم عليها مدمع وزفير كما كان يهتف بشعره قبل أن يخرجه للناس، ويصغي إليه ليتبين ما فيه من عيوب في الموسيقى وعدم انسجام الألفاظ بعضها مع بعض، والخلل المعنوي، والقافية القلقة المضطربة، والحشو، وغير ذلك من عيوب الشعر ويقول: واهتف به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي1

_ 1 يقول الشيخ حسين المرصفي في هذا: ونبه بقوله: واهتف به من قبل تسريحه، على أنه لا ينبغي أن يكتفي بالنظرة الأولى, فللنفس خداع وربما تنبهت بعد أن أغفلت، واستقبحت ما استحسنت, ولذلك يقول الأول: لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تبالغ قبل في تهذيبها فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسًا تهذي بها

فجاء والحق يقال شعرًا يأخذ بمجامع القلوب من حيث موسيقاه، وتماسك أبياته وقوافيه, وانسجام ألفاظه، وانتقاؤها انتقاء خبير ملهم: فألق إليه السمع ينبئك أنه ... هو الشعر لا ما يدعي الملأ الغمر1 يزيد على الإنشاد حسنًا كأنني ... نفثت به سحرًا، وليس به سحر كان البارودي يتخير الألفاظ المناسبة للمعاني التي يريدها فيرق ويلطف حين يقضي المقام الرقة واللطف كأن يتغزل أو يعتب، أو يصف منظرًا جميلًا, أو مجلس أنس وسمر، ويجزل شعره يجلجل لفظه، ويشتد أسره حين ينشد في الحماسة والفخر والمديح، وحين يصف البحر الهائج، والريح الزفوف والحرب الضروس. إذا اشتد أورى زندة الحرب لفظه ... وإن رق أزرى بالعقود فريدة إذا ما تلاه منشد في مقامه ... كفى القوم ترجيع الغناء نشيده فجاء شعره مما يلذ للإنسان حقًّا إن ينشده بصوت مرتفع، يترنم به ليطرب, ويتأمل في نغمه وموسيقاه فيلتذ ويعجب، فلا بدع أن قال: ولي كل ملساء المتون غريبة ... إذا أنشدت أفضت لذكر بني سعد2 أخف على الأسماع من نغم الحدا ... وألطف عند النفس من زمن الورد كان البارودي يعلم أنه سيخلد بشعره لا بحسبه ونسبه، وإذا كان قد أخفق في بلوغ مناه وتحقيق آماله في هذه الدنيا، فإنه أدرك الغاية من السعي في الحياة العمل الصالح والمجد المؤثل، ألَا وهي الخلود بعد الموت, وترديد اسمه عطرًا على كل لسان، وفي ذلك يقول في شعره:

_ 1 الغمر: مثلثة الغين، ومعناها الذي لم يجرب الأمور. 2 بنو سعد: بطن من هوازن، ومنهم حليمة السعدية مرضعة النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان بنو سعد من أفصح العرب، ولذلك أرسل رسول الله إليهم كي ينشأ على الفصاحة واللسن، ويريد البارودي أن شعره يذكر الناس بأفصح العرب.

سيبقى به ذكري على الدهر خالدًا ... وذكر الفتى بعد الممات خلود يقول: سيذكرني بالشعر من لم يلاقني ... وذكر الفتى بعد الممات من العمر هذا، وفي شعر البارودي هنات، وعليه مآخذ قليلة, سنذكرها في موضعها من هذا الفصل، بيد أنها تزري به ولا تغض من شأنه؟ حسبه أنه سما بالشعر العربيّ إلى الذروة، وأنه حلَّق في السماء التي جاب آفاقها من قبل بشار وأبو نواس والبحتريّ وأبو تمام والمتنبي وأبو فراس وأضرابهم، بعد أن وصل الشعر العربيّ قبيل عهده إلى الحضيض, وكاد يلفظ أنفاسه الواهية. والآن، علينا أن نتعرف على هذا الشعر الذي مدحه وافتخر به، وصقله وهذبه، لنرى أمحقٌّ هو في الثناء عليه، أم هو غرور شاعر زَيَّنَ له خياله الباطل حقًّا، والسيء حسنًا؟ ولنرى القديم والجديد في شعره، ومنزلته في موكب الأدب العربيّ، وهل كان صدًى للشعراء الذين عارضهم وجاراهم في مضمارهم, أو أنه استقلَّ وابتكر وخرج على المألوف، وتكونت له شخصية يذكره التاريخ غير معتمدة على سواها؟ وهل هي شخصية قميئة هزيلة؟ أو شخصية قوية فارعة ذات مزايا واضحة؟ أ- القديم في شعره: 1- لم يجدد البارودي في أغراض الشعر التي عرفها شعر العصر العباسيّ, فهو يمدح ويصف، ويهجو، ويرثي، ويعتب، ويفتحر..إلخ ما هناك من أغراض معروفة مألوفة، ويا ليته وقف عند هذا، فقد تكون الأغراض قديمة والمعاني جديدة، ولكنه حاكى القدماء أحيانًا في أسلوبهم, كما حاكاهم في أغراضهم، وقد بلغ به التقليد حدًّا نسي معه أنه في مصر, وأنه بعيدٌ عن نجد ورباها ووديانها وآرامها وخمائلها، فقال: يا سعد قل لي فأنت أدرى ... متى رعان العقيق تبدو1 أشتاق نجدًا وساكنيه ... وأين منِّي الغداة نجد

_ 1 العقيق: الوادي, وكل ميل شقه ماء السيل، مواضع بالمدينة والطائف واليمامة ونجد، والمقصود هنا عقيق نجد. ورعان: جمع رعن "بفتح فسكون"وهو أنف يتقدم الجبل.

وقال: أين ليالينا بوادي الغضا ... ذاك عهد ليته ما انقضى1 كنت به من عيشتي راضيًا ... حتى إذا ولى عدمت الرضا أيام لهوٍ وصبًا كلما ... ذكرتها ضاق عليّ الفضا 2- وقد وقف على الأطلال والدمن، وأتى بشعر جاهليّ الروح والمعنى، والوجه والزيّ، ولا يمتُّ إلى عصره وعصر الحضارة بصلة، وهو لم يقله لأنه مقتنع بأن ذلك هو الأسلوب الواجب اتباعه، والنهج الذي عليه أن يسلكه، ولكنه يريد أن يمتحن شاعريته، وهل في استطاعته أن يحاكي القدماء حتى وقوفهم على الأطلال والدمن؟ وليس أمامه أطلال ودمن تهيج شاعريته، وتثير عبرته, فإذا استطاع أن يقول مثلما قالوا فهو شاعر فحل، ولا شكَّ أن هذا النوع من الشعر خالٍ من العاطفة, وفيه كثير من الصنعة والتكلف، استمع إليه يقول: ألا حيٌّ من أسماء رسم المنازل ... وإن هي لم ترجع بيانًا لسائل خلاء تعفتها الروامس والتقت ... عليها أهاضيب الغيوب الحوافل فلأيًا عرفت الدار بعد ترسم ... أراني بها ما كان بالأمس شاغلي غدت وهي مرعًى للظباء وطالما ... غنت وهي مأوًى للحسان العقائل إلى أن يقول: فيا ليت أن العهد باقٍ وأننا ... دوارج في غفل من العيش خامل تمر بنا رعيان كل قبيلة ... فما يمنحونا غير نظرة غافل صيغرين لم يذهب بنا الظن مذهبًا ... بعيدًا ولم يسمع لنا بطوائل نسير إذا ما القوم ساروا غدية ... إلى كل بهم راتعات وجامل3 فأي أطلال، وأي رسومٍ رآها البارودي فوقف عندها؟ وأين رأي الظباء وهو يعيش في أحضان القاهرة المتمدينة؟ وأين مرت بهما رعيان القبائل؟

_ 1 الغضاء: شجر، وخشبه من أصلب الخشب جمع غضاة، ووادي الغضاء, مكان بنجد. 2 الطوائل: جمع طائلة وهي الوتر، والذحل والمعنى: لم نقترف إثمًا. 3 البهم: جمع بهمة, وهي صغار المعز والضأن, والجامل: الإبل.

وما هذه البهم والجمال السائمة؟ اللهم إنه التقليد ورياضة القول, وإظهار المقدرة على النظم في مثل هذه الأغراض، وعلى هذا النمط كما فعل القدماء. 3- ونراه في النسيب ووصف المرأة يعمد إلى التشبيهات القديمة المحفوظة، فهي تحكي الظبي في كناسه، والبدر في سمائه، وهي مهاة، وألحاظها سيوف باترات، وقدها غصن يتثنى ... إلخ هذه القوالب الموروثة. إذ نظرت أو أقبلت، أوتهللت ... فويل مهاة الرمل، والغصن والبدر ويقول: أيها الساهرون حول وسادي ... لست منكم أو تذكروا لي نجدًا لا تخوضوا في غيره من حديث ... فهو حسبي، وأي ماء كصدا1 ويتغزل: غصن بانٍ قد اطلع الحسن فيه ... بيد السحر جلنارًا ووردًا ما هلال السماء؟ ما الظبي؟ ما ... الورد جنيًا؟ ما الغصن إذ يتهدى؟ هو أبهى وجهًا وأقتل ألحاظًا ... وأندى خدًّا، وألين قدّا ويصف المرأة بقوله: كالورد خدًّا، والبنفسج طرة ... والغصن قدًّا، والغزالة ملفتًا ويصفها وصفًا ماديًّا كما كان يفعل القدماء، كأنها تباع وتشترى: خفت معاطفها، لكن روادفها ... بمثل ما حملتني في الهوى رجحت ويلاه من لحظها الفتاك إن نظرت ... وأهٍ من قدِّها العسال إن سنحت كالبدر إن سفرت والظبي إن نظرت ... والغصن إن خطرت والزهر إن نفحت

_ 1 صدًّا بالقصر ضرورة من صداء: اسم عين يستعذبها العرب, وفي أمثالهم. "ماء ولا كصداء".

ويقول: وا لوعة القلب من غزلان أخبية ... تكاد تكسر من أحداقها الراح من كل مائسة كالغصن قد جمعت ... بدائعًا كلها للحسن أوضاح فالعين نرجسة، والشعر سوسنة ... والنهد رمانة، والخد تفاح 4- نرى البارودي الذي حاكى فحول الشعراء حتى الجاهليين منهم، يقلد شعراء الصنعة، وعصر الضعف، فيؤرخ أحيانًا في شعره كما أرخوا -وإن كان قليلًا ما فعل حتى لا يكاد يذكر- فمن ذلك قوله يؤرخ عودة "إسماعيل باشا" خديو مصر من دار الخلافة العلية سنة 1289هـ. ورجع الخديو لمصره ... وأتت طلائع نصره وتهللت بقدومه ... فرحًا أسرة عصره فلتبتهج أوطانه ... بحلوله في قصره وليشتهر تأريخه ... رجع الخديو لمصره وقال في تنهئة الخديو عباس الثاني بعيد الفطر: أمولاي دُمْ للمُلْكِ ربًّا تسوسه ... بحكمة مطبوع على الحلم والباس ولا زالت الأعياد تجري سعودها ... عليك وتحظى من علاك بإيناس فلولاك ما فازت يد القطر بالمنى ... ولا نشأت روح العدالة في الناس وهذا لسان الشكر يدعو مؤرخًا ... حوى العيد أنواع الفخار بعباس 1314هـ 24، 155، 128، 219، 135 5- واستعمل البارودي المحسنات البديعية أحيانًا، ولا سيما الطباق في مثل قوله: يموت قلبي ويحيا حيرةً وهدىفي عالم الوجد إن صدت وإن جنحت ... وقوله: وبنفسي حلو الشمائل مر الهجر ... ويحيى وصلًا، ويقتل صدًّا ما على قومه وإن كنت حرًّا ... إن دعتني له المحبة عبدا

6- أما معانيه فكثير منها قديم, والقليل فيه جدة, وهو مقلِّدٌ في المعاني كما هو مقلد في الشكل، ولا أستطيع أن أحصي المعاني القديمة لكثرتها, ولكن أدل على نوعها ببعض الأمثلة كقوله في الغزل: طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوى بشيمتي الزجر1 كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة مما يضن بها التجر صريع هوى يلوى بي الشوق كلما ... تلألأ برق أو سرت ديم غر إذا مال ميزان النهار رأيتني ... على حسرات لا يقاومها صبر يقول أناس إنه السحر ضلة ... وما هي إلّا نظرة دونها السحر ويقول مفتخرًا في هذه القصيدة بقومه: لهم عمد مرفوعة ومعاقل ... وألوية حمر وأفنية خضر ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر ويقول في القصيدة من الحكمة: ل عمرك ما حيٌّ وإن طال سيره ... يعد طليقًا والمنون له أسر وما هذه الأيام إلّا منازل ... يحل بها سفر ويتركها سفر فهذه أغراض ثلاثة في قصيدة واحدة لم يأت فيها بجديدٍ من المعنى، ففي الغزل يقول: إنه استخفه الطرب والشوق على حدة قول أبي نواس. حامل الهوى تعب ... يستخفه الطرب إن بكى يحق له ... ليس ما به لعب وحاكى الأقدمين في ذكره البرق والسحب، فهذه الأشياء كانت مقبولة في الشعر القديم لأنها تصف البيئة العربية، والغيث والبرق كان فيهما حياة العرب القاطنين بالجزيرة، فإذا لمع البرق أو هطلت السحب هلل الناس وفرحوا، وإذا ذكر

_ 1 المخيلة: الظن, والمراد ذكريات الماضي، وبلوى به: يذهب به.

المحب محبوبته في ذلك الوقت فكأنه يريد أن يشاركها سرورها، أو تشاركه سروره، والسرور من الأشياء التي لا تتم إلّا إذا اقتسمها الإنسان مع سواه, أما في بيئة البارودي فليس لهذه الأشياء من التأثير والاهتمام ما يدعو لذكرها، بل قد يسبب المطر من المضايقات لأهل القاهرة الذين يعتمدون على النيل، ولأهل الريف في ضرر زرعهم ما يذكرونه بشرٍّ، ولكنه التقليد القديم، وقوله: "على حسرات" يعني به: أنه حين تغيب الشمس تكثر همومه، وكأنه يتقلب على حسرات؛ لأن الليل مصدر للذكريات لفراغ الإنسان من الشواغل والأعمال، وقديمًا قال النابغة: وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب ويقول النابغة كذلك: فبت كأن العائدات فرشن لي ... هراسًا به يعلى فراشي ويقشب وتشبيه نظرات المحبوبة بالسر تشبيه قديم معروف. وفي الفخر ترى البارودي يذكر العمد المرفوعة وهو في القاهرة، ويذكر النار على عادات البدو، ولا سيما في الجاهلية إذا كانوا يشبونها على يفاعٍ من الأرضي كي يهتدي بها الساري، ويلجأ إليها الجائع ويطلب القرى، ورحم الله حاتمًا حين قال لغلامه: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر1 معل يرى نارك من ير ... إن جلبت ضيفًا فأنت حر وقوله في الحكمة: إن الإنسان لا يعد طليقًا في حياته وهو في أسر المنون, مأخذو من قول طرفة بن العبد: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكا لطول المرخى وثنياه باليد2

_ 1 قر: بارد، وصر: شديد البرودة. 2 الطول: الحبل.

وبيت طرفة أحسن وأمتن؛ حيث شبه الإنسان بدابة، وحبلها بيد الموت يرخي لها فيه, وإذا شاء جذبها إليه فتقضي العمر, وأما أن الأيام منازل، وأنا فيها على سفر فمعنًى قديم مطروق، وقد تكررت في الأحاديث النبوية، وفي أقول الزهاد والوعاظ. وهكذا إذا أخذت أي قطعة للبارودي تجده يردد فيها كثيرًا من المعاني القديمة المعروفة المشهورة, ولا يعني هذا أن البارودي لم يجدد في شعره وفي معانيه، بل له تجديد ملحوظ في شعره سنذكره فيما بعد. وإذا كان البارودي قد طرق أبواب الشعر العربيّ الموروثة, ولم يجدد في أغراضه، فإنه كان واضح الشخصية في كثير من هذه الموضوعات المطروقة, فتراه يمثل نفسه، وزمنه، وبيئته، في قصائد شتَّى. فالبارودي ذاق حلو الزمان، ومره، وارتفع في مناصب الدولة حتى رئاسة الوزارة, ثم شُرِّدَ ونُفِيَ، وقضى زمنًا طويلًَ يتحرق فيه شوقًَا إلى وطنه وأهله، ويتحسر على أيامه الخاليات، ويندب فيه حظه، ويَنْعى على الأصدقاء الكاذبين خياناتهم وغدرهم، ويذم الحياة ويكيل لها السباب، وهو في كل ذلك صادق الشعور يصف ما به على طبيعته, فبرزت شخصيته واضحةً لا لبس فيها ولا غموض. وإذا كان البارودي قد قلَّدَ القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضعات وفي أسلوبهم، وفي معانيهم، فإن له مع ذلك جديدًا ملموسًا في شعره؛ من حيث التعبير عن شعوره وعن مشاهداته، وله معانٍ جديدة، وصور لهم يسبق إليها، وإذا أردنا أن ننصفه, فعلينا دراسة الجديد في شعره حتى يكون حكمنا عليه عادلًا، ونستطيع أن نضعه في منزلته الجديرة به في موكب التاريخ والأدب والنهضة. ب- الجديد في شعره: 1- الوصف: ولا تعجب إذا عددنا الوصف جديدًا عند البارودي، وإن كان قديمًا منذ أن كان الشعر العربيّ، وما من شاعر إلّا له في الوصف أبياتٌ وقصائدٌ, ولكن الجديد في وصف البارودي أنه أفرد له قصائد بعينها, ولم يأت به عرضًا في ثنايا القصائد.

كان يصف لمجرد الوصف، ولأن شاعريته، وحواسه المرهفة، وتذوقه الحاد للجمال, كانت تدفعه إلى قول الشعر، وإلى وصف مشاهداته لا كما هي في الطبيعة، ولكن يخرجها ملونةً بشخصيته وشعوره وأفكاره. كان البارودي مفتونًا بالطبيعة, يرى شعرها لا ينضب منه معين الإلهام، ويرى في كل سطرٍ من هذا الشعر آيةً من آيات الجمال عليه أن يترنَّمَ بها، ويظهر محاسنها للأجيال من بعده، ويترجمها للناس حتى يعجبوا بها كما أعجب. وديوان البارودي غاصٌّ بالموصوفات وبقصائد الوصف، وما دام الشاعر قد انصرف عن المديح, وعن أن يكون شعره مظهرًا للنفاق والخداع والاستجداء، والوقوف بأبواب الملوك والأمراء، فقد أصبح شعره طوع يده, يسجل به مشاعره الخاصة، وشعراء العربية الوصافون -أي الذين أكثروا من الوصف- قليلون؛ لأن المديح وللأسف قد ألهاهم عن قراءة محاسن الكون، ويُعَدُّ البارودي من أكثر شعراء العربية وصفًا، بل يعد في الطليعة، وشعره الوصفيّ يفخر به الشعر العربيّ, ويستطيع أن يباهي به خير ما عند الغرب من شعرٍ وصفيٍّ، وموصوفات البارودي كما ذكرنا عديدة ومنوعة، فمنها: 1- مظاهر الطبيعة، فيصف الليلة العاصفة المطيرة, ويجعلك تحس معه هزيم الرعد، وعزف الريح، وتواصل المطر وشدته، وترى سوادها ووحشتها، ويصف الليلة الحالية بالنجوم فتلمس جمالها، ويصف السحاب الممطر والبرق والرعد وأثرها في الإنسان والأرض، ويصف البحر الهائج الغاضب، والريح الزفوف تعلو بالموج فتحيله جبالًا سامقة الذرى, وتنخفض به إلى وهادٍ عميقة الأغوار، ويصف الجبل والغابة وغير ذلك. وهو في وصف الطبيعة مصوّرٌ ماهرٌ، بل هو دقيقٌ بارعٌ في كل ما يتناول من وصف، وهو في وصف الطبيعة قد يغرب في لفظه، ويأتي بتشبيهاتٍ جديدةٍ منتزعةٍ من بيئته أحيانًا, وأحيانًا يردد معاني القدماء وأخيلتهم، استمع إليه يصف ليلةً مطيرةً حتى مطلع الفجر.

وليلة ذات تهتان وأندية ... كأنما البرق فيها صارم سلط1 لف الغمام أقاصيها ببردته ... وأنهل في حجرتيها وابل سبط2 بهماء لا يهتدي الساري بكوكبها ... من الغمام ولا يبدو بها نمط3 يكاد يجهل فيها القوم أمرهم ... لولا صهيل جياد الخيل واللغط يطغى بها البرق أحيانًا فيزجره ... مخرنطم زجل من رعدها خمط4 كأنما البرق سوطٌ والحيا نجب ... يلوح في جسمها من مسه حبط5 كأنه صارم يرفض من علق ... بالأفق يغمد أحيانًا ويخترط6 مزقت جلبابها بالخيل طالعة ... مثل الحمائم في أجيادها العلط7 وقد تخلل خيط النور ظلمتها ... كما تخلل شعر اللمة الوخط كأنها وصديع الفجر يصدعها ... من جانب أدهم قد مسه نبط8 ومربع لنسيم الفجر هيمنة ... فيه وللطير في أرجائه لغط كأنما القطر در في جوانبه ... يكاد من صدف الأزهار يلتقط وللنسيم خلال النبت غلغلة ... كما تغلغل وسط اللمة المشط والريح تمحو سطورًا ثم تثبتها ... في النهر لا صحة فيها ولا غلط وللسماء خيوط غير واهية ... تكاد تجمع بالأيدي فترتبط كأنها وأكف الريح تضربها ... سلوك عقد تواهت فهي تنخرط وفي هذه القطعة أبيات يسمو فيها البارودي بإحساسه وبراعة تصويره، وإدراكه للأمور الدقيقة، كوصفه النسيم وهو يتخيل النبت، أو وصفه خيوط المطر وهي نازلة، وقال يصف النجوم:

_ 1 أندية: ج ندى, وهو البلل، وسلط: لا نتوء في نصله. 2 حجرتاها: ناحيتاها، وسبط: شديد متدارك. 3 النمط: الطريق. 4 مخرنطم: وهو اسم فاعل من اخرنطم الرجل, أي: رفع أنفه واستكبر وغضب، وزجل: عالي الصوت, ومن رعدها: بيان لزجل, وخمط: غضوب ثائر. 5 الحياء: المطر، والنجب: كرام الخيل والإبل وعتقها وجيادها المفرد نجيب، ومن مسه: أي: بسبب مسه وأناه، والضمير يعود على السوط, والحبط: آثار السياط بالبدن أو الآثار الوارمة التي لم تشقق. 6 كأنه: أي: البرق، يرفض: يسيل ويقطر، والعلق: الدم، يخترط: يسل ويجرد من غمده. 7 العلط: ككتب جمع علاط ككتاب, وهو من الحمامة طوقها في صفحتي عنقها بسواد. 8 النبط: بياض في بطن الفرس، وصديع الفجر: أي: طلوعه؛ لأنه يصدع الليلة, أي: يشقها.

أرعى الكواكب في السماء كأن لي ... عند النجوم رهينة لم تدفع زهر تألق بالفضاء كأنها ... حبب تردد في غدير مترع وكأنها حول المجر حمائم ... بيض عكفن على جوانب مشرع وترى الثريا في السماء كأنها ... حلقات قرط بالجمان مرصع بيضاء ناصعة كبيض نعامة ... في جوف أدحى بأرض بلقع وكأنها أكر توقد نورها ... بالكهرباءة في سماوة مصنع1 والليل مرهوب الحمية قائم ... في مسحة كالراهب المتلفع2 متوشحٌ بالنيرات كباسلٍ ... من نسل حامٍ، باللجين مدرع حسب النجوم تخلفت عن أمره ... فوحى لهن من الهلال بإصبع3 3- ويصف مناظر الريف ويصورها تصويرًا بديعًا، فيصف القطن, والسفن في النيل, والساقية, والمزروعات, والطيور وهي تحوم على صفحة النهر, وحركات الطيور، والنحلة وهي تنتقل من زهرةٍ لزهرةٍ، كل هذا في حساسية غريبة، وشغف بالطبيعة وحب لها, كأنه يعيش معها. فمن قوله يصف القطن: والقطن بين ملوز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلى فكأن عاقده كرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروا4 دبت به روح الحياة فلو وعت ... عنه القيود من الجداول قد مشى فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا لم يسر فيه العقل مذهب فكرة ... محدودة إلّا تراجع بالمنى واسمعه يصف الريف المصريّ إبَّان الربيع في أرجوزة:

_ 1 المصنع: القصر العظيم. 2 مسحه: مسوحه, أي: لباسه الأسود, كمسوح الراهب. 3 وحي: أشار. 4 عاقده: ما انعقد من اللوز قبل أن يفتح، الرِّوا: مقصور الرواء، وهو الحسن والبهاء.

عم الحيا واستنت الجداول ... وفاضت الغدران والمناهل وازَّيَّنَت بنورها الخمائل ... وغردت في أيكها البلابل وشمل البقاع خير شامل ... فصفحة الأرض نبات خائل1 وجبهة الجو غمام حافل ... وبين هذين نسيم حائل تندى به الأسحار والأصائل ... كأنما النبات بحر هائل وليس إلّا الأكمات ساحل ... وشامخ الدوح سفين جافل2 معتدل طورًا مائل ... تهفو به الجنوب والشمائل والباسقات الشمخ الحوامل ... مشمورة عن ساقها الذلاذل3 ملوية في جيدها العثاكل ... ممعقودة في رأسها الفلائل4 للبسر فيها قانئ وناصل ... مخب كأنه الأنامل كأنه من ذهب قنادل ... من المرادين لها سلاسل للمجنون بينها الأزامل ... تخالها محزونة تسائل5 لها دموع ذرف هوامل ... كأنها أم بنين ثاكل في جيدها من ضفرها حبائل ... من القواديس لها جلاجل تدور كالشهب لها منازل ... فصاعد ودافق ونازل ففي هذه القصيدة يصور مناظر الريف تصويرًا سريعًا دون تعمق أو طويل وقوف على المشاهدات، ومعانيه قريبة، وتشبيهاته واضحة غير متكلفة، وخياله دان لا إغراب فيه ولا شرود. ومما يدل على دقة حسه، وتدفق شعوره، وأنه مصور بارع، أن الأمور التي لا تسترعي نظرة جمهرة الناس يجد فيها ما يثير عاطفته، ويحرك شاعريته, قوله يصف طائرًا: تحرك فأيقظه من سنته، ويتبع حركاته بدقة، فأعطى صورة واضحة عنه.

_ 1 خائل: ذو خيلاء معجب بنفسه. 2 جافل: مضطرب. 3 الباسقات: يريد النخل والذلائل، الأطراف، ويريد أن ساق النخلة عارٍ من الجريد والعسف. 4 العثاكل: ج عثكول، وهو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم، والفلائل ج فليلة: وهي الشعر المجتمع. 5 المنجنون: دولاب الساقية التي يُسْقَى بها الزرع, وأزامل: ج أزمل "كجعفر" وهو الصوت المختلط.

نبأة أطلقت عيني عن سنة ... كانت حبالة طيف زارني سحرًا فقمت أسال عيني رجع ما سمعت ... أذني، فقالت: لعلي أبلغ الخبرا ثم اشرأبَّت فألفت طائرًا حذرًا ... على قضيب يدير السمع والبصرا مستوفزًا يتنزى فوق أيكته ... تنزي القلب طال العهد فادركرا1 لا تستقر له ساق على قدم ... فكلما هدأت أنفاسه نفرا يهفو به الغصن أحيانًا ويرفعه ... دحو الصوالج في الديمومة الأكرا2 ما باله وهو في أمن وعافية ... لا يبعث الطرف إلّا خائفًا حذرا إذا علا بات في خضراء ناعمة ... وإن هوى ورد الغدران أو نقرا فأنت تراه يتتبع الطائر في أقل حركة له، ويحاول أن يستشف دخيلة قلبه الصغير ليعرف سر فزعه، وترقبه، ويتعجب لهذه الحياة القلقة المضطربة, مع أن ظاهر الأمر ينبئ أنه في نعمة وعافية، وهذه لعمري خطرات شاعر مرهف الإحساس جياش العاطفة. واستمع إليه يصف غيضة احتلها في "قندية" أيام حرب كريت: ومرتبع لذنا به غب سحرة ... وللصبح أنفاس تزيد وتنقص3 وقد مال للغرب الهلال، كأنه ... بمنقاره عن حبه النجم يفحص4 رقيق حواشي النبت، أما غصونه ... فريا، وأما زهره فمنصص5 إذا لاعبت أفنانه الريح خلتها ... سلاسل تلوى، أو غدائر تعقص6 كأن صحاف الزهر والطل ذائب ... عيون يسيل الدمع منها وتشخص7 يكاد نسيم الفجر إن مر سحرة ... بساحته الشجراء ولا يتخلص كأن شعاع الشمس والريح رهوة ... إذا رد فيه سارق يتربص8 يمد يدًا دون الثمار، كأنما ... يحاول منها غاية ثم ينكص

_ 1 مستوفزًا: غير مطمئن, قد تهيأ لوثوب، ويتنزى: يثب. 2 دحا اللاعب الكرة: دفعها ورماها بيده، والديمومة: الأرض المستوية. 3 المرتبع: المكان الذي يرتبع فيه القوم، أي: يقيمون زمن الربيع. 4 في هذا البيت إشارةٌ إلى أن الليلة التي يصفها كانت في آخر الشهر العربيّ، وحبة النجم: أي: النجم الشبيه بالحبة. 5 رقيق: صفة لمرتبع، منصص: ظاهر مرتفع بعضه فوق بعض. 6 الغدائر ج غديرة، وهي الذؤابة من الشعر إذا كانت مرسلة، غير ملوية ولا معقوصة، وتعقص: تضفر. 7 تشخص: تنفتح ولا تطرف. 8- الرهو: الرقيق، ورد فيه: أي: إذا تردد الشعاع في المرتبع.

ا3- وإذا أردت أن تعرف متى يحلق البارودي في الوصف، فاقرأ أوصافه في الأشخاص, إنه لا يقل عن أمهر مصور، بل أين منه المصور؟ وهو لا يستطيع أن يبرز على "لوحته" دخائل النفوس، وأسرار القلوب والحركات والإشارات، وكذلك أوصافه للمعارك وميادين القتال وأدواته، وإذا كان وصف الحروب من الموضوعات القديمة التي تناولها قبله الشعراء، فإن تصوير الأشخاص من الموضوعات النادرة التي مر فيها قلةٌ من فحول الشعر العربيّ كابن الرومي، واسمعه يصف البلغار في بلادهم, حين ذهب مع الحملة المصرية لحرب الروس: بلاد بها ما بالجحيم، وإنما ... مكان اللظى ثلج بها وجليد تجمعت البلغار والروم بينها ... وزاحمها التاتار، فهي حشود إذا راطنوا بعضًا سمعت لصوتهم ... هديدًا تكاد الأرض منه تميد قباح النواصي والوجود كأنهم ... لغير أبي هذا الأنام جنود سواسية ليسوا بنسل قبيلة ... فتعرف آباء لهم وجدود لهم صور ليست وجوهًا وإنما ... تناط إليها أعين وخدود يخورون حولي كالعجول، وبعضهم ... يهجن لحن القول حين يجيد فهو يصف رطانتهم وعجمة ألسنتهم، وقبح وجوههم ورءوسهم, حتى كأنهم ليسوا من البشر، وأن وجوههم متشابهةٌ لا تستطيع التفريق بينها، بل لا يريد أن يعترف بأنه لهم وجوهًا, إنما هي صور وضعت فيها أعين وخدود، ويخورون حوله كالعجول، وإذا حاول بعضهم النطق بالعربية أفسدها.

ومن قوله يصف حرب إقريطش "كريت": في كل مربأة وكل ثنية ... تهدار سامرة وعزف قيان1 تستن عادية، ويصهل أجرد ... وتصيح أجراس، ويهتف عاني2 قوم أبى الشيطان إلّا خسرهم ... فتسللوا من طاعة السلطان ملئوا الفضاء، فما يبين لناظر ... غير التماع البيض والخرصان3 فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان4 والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان وضعوا السلاح إلى الصباح، وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت ... عينان بين ربى وبين مجان فإذا الجبال أسنة، وإذا الوهاد ... أعنة والماء أحمر قاني فتوجست فرط الركاب ولم تكن ... لتهاب، فامتعنت على الأرسان5 فزعت فرجعت الحنين، وإنما ... تحنانها شجن من الأشجان ذكرت مواردها بمصر، وأين من ... ماء بمصر منازل الرومان ومن المقطوعات اللطيفة في وصف الأشخاص قول البارودي يذم شخصًا ويصفه بالنهم والجشع.

_ 1 المربأة: مكان المراقب، والتهدار: التصويت وقرقرة الحمام، والقينة: المغنية وجمعها قيان. 2 استن الفرس: عدا إقبالًا وإدبارًا، والأجرد: الحصان القصير الشعر, وهو من أمارات العتق والأصالة، والعاني: المتعب. 3 الخرصان: الدرع والرماح. 4 الأشكل: الذي يضرب بياضه في حمرة. 5 الفرط: الفرس السريعة الخيل، وامتنعت على الأرسان: حرنت وصارت لا تقاد بالأرسان.

وصاحب لا كان من صاحب ... أخلاقه كالمعدة الفاسدة أقبح ما في الناس من خصلة ... أحسن ما في نفسه الجامدة لو أنه صور من طبعه ... لكان لعمري عقربًا راصده يصلح للصفع لكيلا يرى ... في عدد الناس بلا فائدة يغلبه الضعف ولكنه ... يهدم في قعدته المائة يراقب الصحن على غفلة ... مكن أهله كالهرة الصائدة كأنما أظفوره منجل ... وبين فكيه رحى راعده كأنما البطة في حلقه ... نعامة في سبسب شارده تسمع للبلع نقيقًا كما ... نقت ضفادي ليلة راكدة كأنما أنفاسه حرجف ... وبين جنبيه لظى واقدة 4- وقد وصف البارودي كثيرًا من الأشياء كالسجن، والقطار، والخمر, وغير ذلك، وربما كان وصفه للقطار أول وصفٍ من نوعه في اللغة العربية؛ لأن السكة الحديدية دخلت مصر في أخريات أيام سعيد، ولم يفطن شعراء عصره له, أولم يهتموا بوصفه، ويقول فيه -وإن لم يصفه بدقة: ولقد علوت سراة أدهم لو جرى ... في شأوه برق تعثر أو كبا يطوي الفلا طيّ السجل ويهتدي ... في كل مهمة يضل بها القطا يجري على عجلٍ فلا يشكو الوجى ... مد النهار، ولا يمل من السرى لا الوخد منه، ولا الرسيم ولا يرى ... يمشي العرضنة أو يسير الهيدبى1

_ 1 الوخد: سعة الخطو، والرسيم: سير الإبل قريب من الهرولة دون الجري، والعرضنة، نوع من السير يمتاز بالخفة والسرعة والنشاط، والهيدبى: مشي للخيل فيه جد.

ويقول وفي وصف السجن: فسواد الليل ما أن ينقضي ... وبياض الصبح ما أن ينتظر لا أنيس يسمع الشكوى ولا ... خبر يأتي، ولا طيف يمر بين حيطان وباب موصد ... كلما حركه السجان صر يتمشى دونه حتى إذا ... لحقته نبأة مني استقر كلما درت لأقضي حاجة ... قالت الظلمة: مهلًا، لا تدر أتقرى الشيء أبغيه فلا ... أجد الشيء ولا نفسي تقر ظلمة ما إن بها من كوكب ... غير أنفاس ترامى بالشرر وهذه القطعة فيها أبيات من الشعر الواقعيّ التي تغني بتصويرها الحقيقة العارية عن أي خيالٍ مهما عمق وملح. 5- وهذا وقد وصف البارودي بعض آثار مصر القديمة، وفتح بذلك الطريق لشوقي وغيره، وهو وإن لم يتعمق في وصفه، ويستعرض التاريخ المجيد كما أفعل شوقي من بعده, إلّا أنه برهنَ على أنه شاعر يرى الجمال والعظة فيما حوله من مناظر، وأن شاعريته حساسة مرهفة؛ لأن مثل هذا الوصف لا تحفزه إليه رغبة في صلة, أو تَقَرُّبٌ من أمير، وإنما هو إشباعٌ لرغبةٍ فنيةٍ تجيش في صدره, وتحاول شاعريته الإفصاح عنها، ولذلك عد باب الوصف من خير أبواب الشعر؛ لأنه فضلًا عن نشره ما طوى من آيات الجمال، أو ما خفي على عيون الناس منها, فإنه يدل على نفسية الشاعر، وقدرته وخياله، وهو خير محكٍّ للتمييز بين الشعراء، ومن ذلك قوله يصف الهرمين: سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت وهما أعجوبة العين والفكر

تلوح لآثار العقول عليهما ... أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر رموز لو استطلعت مكنون سرها ... لأبصرت مجموع الخلائق في سطر فما من بناء كان، أو هو كائن ... يدانيهما عند التأمل والخبر يقصر حسنا عنهما "صرح بابل" ... ويعترف "الإيوان" بالعجز والسحر كأنهما ثديان فاضا بدرة ... من النيل تروي غلة الأرض إذ تجري وبينهما "بلهيب" في زي رابض ... اكب على الكفين منه إلى الصدر2 يقلب نحو الشرق نظرة وامق ... كأن له شوقًا إلى مطلع الفجر وليست هذه القصيدة الوحيدة التي أشاد فيها بالأهرام، وبقدماء المصريين, فله قصيدةٌ أخرى فيها مطلعها: أيُّ شيء يبقى على الحدثان ... والمنايا خصيمة الحيوان وله ثالثة مطلعها: بقوة العلم تقوى شوكة الأمم ... فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم وفيها يقول: فانظر إلى الهرمين الماثلين تجد ... غرائبًا لا تراها النفس في الحلم صرحان ما درات الأفلاك منذ جرت ... على نظيرهما في الشكل والعظم ....................... ... ...................... ولاح بينهما لهيب متجهًا ... للشرق يلحظ مجرى النيلب من أمم

_ 1 البهر: مصدر بهره, من باب: قطع, أي: غلبه وفاقه، والإيوان: إيوان كسرى أنوشروان, وقصره الأبيض, وكان يعد من عجائب الدنيا، وكذلك صرح بابل الذي بناه بختنصر. 2 بلهيب: أبو الهول.

ب- الشعر السياسي: ومن الأغراض القديمة التي خلع عليها البارودي لباس الجدة، وظهرت فيها شخصيته واضحةً مجليةً تفصح عن نفسه الأبية المتمردة على الظلم والطغيان، المحبة للعدالة والشورى والمساواة بين الناس، ذلك الشعر السياسيّ الوطنيّ الذي دفعه إلى مركز الصدارة بين أبناء شعبه، وجعل منه زعيمًا محبوبًا، ولذلك أُلْقِيَ به في غيابة السجن، ورُمِيَ به بعيدًا عن وطنه، ويا ليته كفَّ عن مثل هذا الشعر وهو يتجرع غصص النفي والتشريد والمرض، بل زفر زفرات حارة كادت تحرق الطاغين المعتدين بشواظها الملتهب، ولذلك طالت غيبته عن دياره, وخالف أولو الأمر من عودته حتى لا يعيدها جذعًا مشبوبة الضرام، ولما هدأت ثائرته، وكسرت حدته وخفت شرته، واشتكى ما به من ضعف وهزال، ودَبَّ إلى جسمه دبيب الفناء، أمنوا جانبه, فأعادوه إلى وطنه. كان البارودي طموحًا، يعتلج في حنايا صدره أمل كبير يود أن يجدد به مجد أسلافه، وقد رزق العقل الذكيّ، والفؤاد الأبيّ، والعلم والبصيرة، فلِمَ لا يصل إلى ما لا يريد؟ ولكن ما كل ما يشتيه الإنسان ويأمله يسهل نواله، وقد وقفت في سبيل البارودي عقبات شتَّى, وظل الأمل يساروه على الرغم من هذه الصعاب. ويلاه من حاجة في النفس هام بها ... قلبي، وقصر عن إدراكها باعي أسعى لها وهي مني غير دانية ... وكيف يبلغ شأو الكوكب الساعي؟ ويعترف بهذه العراقيل التي تعترض طريقه، ولولاها لنال ما تمنى. وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسطوته البدو المغيرة والحضر وهذا من أصرح الأبيات التي أشار فيها إلى ما يهيم به فؤاده، وإن كان قد ساقه في معرض الفخر بالشجاعة واقتحام ميادين القتال, وقد أخفق البارودي في تحقيق آماله, واعتذر عن هذا الإخفاق كما مر بنا.

ويلوح لنا أن البارودي كان بطبعه محبًّا للحرية, ومتمردًا على الظلم، شأن كل شجاعٍ شريفٍ، ولعل للوراثة، وللنشأة أثرًا في هذا؛ ولقد غذاهما ما حفظه من شعر الحماسة والقوة عند العرب، وهم أبطال الحرية في فيافيهم الواسعة، وقد تغنوا بحروبهم وشجاعتهم وانتصاراتهم وأنفتهم، وكان شعرهم سجلًّا وافيًا لمكارم أخلاقهم، وقد قرأه البارودي وهو بعد شاب غرير، فرسخت هذه الصفات في ذهنه، وشَبَّ مطبوعًا عليها يتمثلها نماذج يحتذيها، يرددها في شعره, ويود أن يحققها عملًا في الحياة، ويقول: لا عيب في سوى حرية مَلَكَت ... أعنَّتِي عن قبول الذل بالمال تبعت خطة آبائي فسرت بها ... على وتيرة آداب وآسال1 ويقول: دع الذل في الدنيا لمن خاف حتفه ... فللموت خير من حياة على أذى ولقد صوّر البارودي الفساد الذي شاع أمره في مصر، واضطراب أحوالها, والفزع الذي ملأ قلوب الناس، وتنبأ بالثورة الدامية قبل حدوثها، مما يدل على أنه كان على صلة بزعمائها، وأن الناس قد ضاقوا ذرعًا بهذا الفساد وبرموا به, ولابد من سبيل إلى الإصلاح، وذلك حيث يقول: تنكرت مصر بعد العرف واضطربت ... قواعد الملك حتى ريع طائره فأهمل الأرض جر الظلم حارثها ... واسترجع المال خوف العدم تاجره2 واستحكم الهول، حتى ما يبيت فتى ... في جوشن الليل إلّا وهو ساهره3 ويلمه سكنًا، لولا الدفين به ... من المأثر ما كنا نجاوره أرضى به غير مغبوط بنعمته ... وفي سواه المنى لولا عشائره

_ 1 آسال: شبه وعلامات، ويقال فلان يسير على آسال من أبيه, أي: شبه منه، ولا واحد لها. 2 جرا الظلم: من جرائه وبسببه. 3 جوشن الليل: وسطه أو صدره.

يا نفس لا تجزعي فالخير منتظر ... وصاحب الصبر لا تبلى مرائره لعل بلجة نور يستضاء بها ... بعد الظلام الذي عمت دياجره إني أرى أنفسًا ضاقت بما حملت ... وفي الجديدين ما تغنَّى فواقره شهران أو بعد شهر إن هي احتدمت ... وفي الجديدين ما تغني فواقره فإن أصبت فمن رأي ملكت به ... علم الغيوب، ورأي المرء ناظره وقد ذكرنا فيما سبق كيف أن البارودي كان من زعماء الثورة، وأنه كان يطمع في الانقلاب، ولكن لما رأى التيار عنيفًا، وتدخلت فرنسا وإنجلترا، أحجم وتردد ونصح لقومه فلم ينتصحوا، ولم يكن بدًّا من السير في الشوط حتى الغاية، وللبارودي في إبَّان الثورة، وبعدها شعر ملتهب حمية وحماسة وتمردًا على الظلم، أنصت إليه وهو يحرض المصريين على الثورة, ويهيب بهم ألا يستكينوا للحاكم المستبد، ويصور لهم نفوسهم العاجزة الضعيفة بقوله: فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع أصبرًا على مس الهوان وأنتم ... عديد الحصى؟ إني إلى الله راجع وكيف ترون الذل دار إقامة ... وذلك فضل الله في الأرض واسع أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع؟ فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا ... إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجة ... إليّ، ولباني الصدى، وهو طائع فلم أدر أن الله صور قلبكم ... تماثيل لم يخلق لهن مسامع فلا تدعوا هذي القلوب، فإنها ... قوارير محنيٌّ عليها الأضالع

ويقول معرضًا بالحاكم المستبد: يأيها الظالم في ملكه ... أغرك الملك الذي ينفد اصنع بنا ما شئت من قسوة ... فالله عدل، والتلاقي غد وكان من الداعين إلى نظام الشورى، وقد مدح توفيقًا لما تولّى أريكة مصر, وظن المصريون أنه سيحقق آمالهم الوطنية, ويلبي دعوتهم إلى الأخذ بالشورى؛ حتى لا يستبد الحكام، ولا يقعوا في أخطاء تجلب عليهم وعلى قومهم المصائب كما حدث لإسماعيل: سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد هي عصمة الدين التي أوحى بها ... رب العباد إلى النبي محمد فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلّا جنى بهما ثمار السؤدد جمع يكون الأمر فيما بينهم ... شورى، وجند للعدو بمرصد هيهات يحيا الملك دون مشورة ... ويعز ركن المجد ما لم يعمد ويقول فيها مادحًا توفيقًا: أطلقت كل مقيد وحللت كل ... معقد وجمعت كل مبدد وتمتعت بالعدل منك رعية ... كانت فريسة كل باغٍ معتد ويحرِّضُ الأمة على اليقظة والقوة، حتى لا يستهين السلطان بأمرها: وكذلك السلطان إن ظن بالأمة ... عجزًا سطا عليها وشدا ولما أخفقت الثورة وتخاذل الثوار، وخان بعضهم بعضًا، ترك هذا الإخفاق، وذياك الخذلان في نفسه مرارة ظل أثرها في لسانه مدةً، فأخذ يلفظ بشعرٍ مريرٍ, فيه أثر الموجدة والغضب من مثل قوله:

كنا نود انقلابًا نستريح به ... حتى إذا تَمَّ ساءتنا مصايره ويقول ذامًّا للثورة والثوار، ويحاول أن يتنصل من تبعاتها، وأن ما ناله كان بسبب ما دب بينهم من الشحناء، وأنهم غدورا به: صبرت على ريب هذا الزمان ... ولولا المعاذير لم أصبر فلا تحسبني جهلت الصواب ... ولكن هممت فلم أقدر ثنت عزمتي ثورة المفسدين ... وغلت يدي فترة العسكر وكنَّا جميعًا فلما وقعت ... صبرت وغادرني مشعري ولو أنني رمت أعناتهم ... لقلت مقالة مستبصر ولكنني حين جد الخصام ... رجعت إلى كرم العنصر وحاول البارودي أن يبرئ نفسه, ويعلل هزيمته, ويصف حنث الثوار في أيمانهم ومواثيقهم وتخاذلهم، ويتندم على زعامته: دعوني إلى الجلى فقمت مبادرًا ... وإني إلى أمثال تلك لسابق فلما استمرَّ الجد ساقوا حمولهم ... إلى حيث لم يبلغه حاد وسائق1 فلا رحم الله أمر أباع دينه ... بدنيا سواه، وهو للحق رامق على أنني حذرتهم غب أمرهم ... وأنذرتهم لو كان يفقه مائق2 وقلت لهم كفوا عن الشر تغنموا ... فللشر يوم -لا محالة- ماحق فظنوا بقولي غير ما في يقينه ... على أنني في كل ما قلت صادق فتبًّا لهم من معشر ليس فيهم ... رشيد ولا منهم خليل يصادق ظننت بهم خيرًا فأبت بحسرة ... لها شجن بين الجوانح لاصق فيا ليتني راجعت حلمي ولم أكن ... زعيمًا وعاقتني لذاك العوائق ويا ليتني أصبحت في رأس شاهق ... ولم أر ما آلت إليه الوثائق هم عرضوني للقنا، ثم أعرضوا ... سراعًا، ولم يطرق من الشر طارق وقد أقسموا ألّا يزلوا فما بدا ... سنا الفجر، إلّا والنساء طوالق

_ 1 ساقوا حمولهم: كناية عن تخاذلهم. 2 مائق: أحمق.

ثم يصف فزعهم وفرارهم من المعركة بقوله: مضوا غير معذورين لا النقع ساطع ... ولا البيض في أيدي الكماة دوالق1 ولكن دعتهم نبأة، فتفرقوا ... كما انقض في سرب من الطير باشق2 فكم آبقٍ تلقاه من غير طارد ... وكم واقف تلقاه والعقل آبق إذا أبصروا شخصًا يقولون: جحفل ... وجبن الفتى سيف لعينيه بارق أسود لدى الأبيات بين نسائهم ... ولكنهم عند الهياج نقانق3 إذا المرء لهم ينهض بقائم سيفه ... فيا ليت شعري، كيف تحمي الحقائق؟ وقد اتهم البارودي بأنه يطمع في الملك، وأنه يحاول ثل العرش، وخلع توفيق، فقال منكرًا هذه التهمة، معللًا ثورته بعد أن نُفِيَ إلى "سرنديب". يقول أناس إنني ثرت خالعًا ... وتلك هنات لم تكن من خلائقي ولكنني ناديت بالعدل طالبًا ... رضا الله، واستنهضت أهل الحقائق أمرت بمعروف وأنكرت منكرًا ... وذلك حكم في رقاب الخلائق فإن كان عصيانًا قيامي فإنني ... أردت بعصياني إطاعة خالقي وهل دعوة الشورى على غضاضة ... وفيها لمن يبغي الهدى كل فارق؟ بلى! إنها فرض من الله واجب ... على كل حي من مسوق وسائق وكيف يكون المرء حرًّا مهذبًا ... ويرضى بما يأتي به كل فاسق؟ فإن نافق الأقوام في الدين غدرة ... فإني بحمد الله غير منافق على أنني لم آل نصحًا لمعشر ... أبى غدرهم أن يقبلوا قول صادق رأوا أن يسوسوا الناس قهرًا فأسرعوا ... إلى نقض ما شادته أيدي الوثائق فلما استمر الظلم، قامت عصابة ... من الجند تسعى تحت ظل الخوافق وشايعهم أهل البلاد فأقبلوا ... إليهم سراعًا بين آتٍ ولاحق يرومون من مولى البلادج نفاذ ما ... تألاه من وعد إلى الناس صادق

_ 1 دلق السيف: أخرجه من غمده. 2 النبأة: الصوت, ويريد الخبر الكاذب، والباشق: من الطيور الجارحة. 3 ج نقنق "بكسر فسكون" وهو الظليم، ذكر النعام, ويضرب به المثل في الجبن.

وإذا كان البارودي قد أنكر هذه التهمة هنا ونفاها عن نفسه، ففي شعره ما يثبتها ويدل على أنه كان يطلب من الثوار أن يولوه عليهم حاكمًا، ويمدح نفسه، ويطري حكمه، ومن البديهيّ أنه لم يرد رئاسة الوزارة, فقد كان رئيسًا للوزارة، ولكنه يريد ما هو أعلى منها، وتراه يذم هؤلاء الذين يقفون في سبيله ويكيدون له: من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضًا ويلفظه الديوان من ملل ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول إلى أن يقول: بئس العشير وبئست مصر من بلد ... أضحت مناخًا لأهل الزور والخطل أرض تأثل فيها الظلم وانقذفت ... صواعق الغدر بين السهل والجبل وأصبح الناس في عمياء مظلمة ... لم يخط فيها امرؤ إلا على زلل أصوحت شجرات المجد أم نضبت ... غدر الحمية حتى ليس من رجل؟! لا يدفعون يدًا عنهم ولو بلغت ... مس العفافة من جبنٍ ومن خزل1 فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ... ولا تزول غواشيكم من الكسل فبادورا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل وقلدوا أمركم شهمًا أخًا ثقةً ... يكون ردءًًا لكم في الحادث الجلل ماضي البصيرة غلاب إذا اشتبهت ... مسالك الرأي صاد الباز بالحجل إن قال بر، وإن ناداه منتصر ... لبى، وإن هم لا يرجع بلا ثقل يجلوا البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل ولا تجلوا إذا ما الرأي لاح لكم ... إن اللجاجة مدعاة إلى الفشل هذي نصيحة من لا يبتغي بدلًا ... بكم وهل بعد قوم المرء من بدل؟

_ 1 الخزل: من الانخزال وهو الظلوع في المشي من أثر شوكة أو شبهها, مشي فيه تثاقل وتراجع.

فهذا الشعر السياسيّ، وهذه النفس المتوثبة الطموح، وهذه الثورة المتأججة التي انتهت بصاحبها إلى النفي والتشريد, هي من الجديد في معاني البارودي وشعره، وهي جديدة حتى في الأدب العربيّ كله، وإن كان المتنبي قد حاول من قبل ملكًا وثار على الدنيا التي مكنت للعبيد والخصيان والعلوج في الأرض يسوسون شعوبًا ضعيفة, وجعل يقول: في كل أرض وطئتها فُدُم ... ترعى بعبد كأنها غنم فإنه اكتفى بالإشارة والتلميح والزفرة الحارة، وبملامة الدهر ومحاربته في مطلبه، ولكن البارودي كان يطلب شيئًا آخر: كان يطلب الحرية لقومه, والعدل والمساواة، كان يطلب العيشة الهنية في ظلال الحرية، ولا عليه إذا طلب بجانب هذا ملكًا عضوضًا ليحقق لقومه آمالهم، وهَبْ البارودي قَلَّدَ المتنبي في بعض معانيه، فهل كان اقتحامه نار الثورة تقليدًا؟ أو ليس شعره هذا وليد الحوادث وصدى لها؟ وهل فترت عزيمته، ووهنت قوته، وذلت نفسه وهو يقاسي ألم النفي والتشريد، ما دام يدب في جسمه شيء من العافية؟ كلا! وإذا شئت برهانًا فاستمع لهذه الكلمات التي كانت يخشى بأسها على البعد حكام مصر؛ كأنها جيش لهام يبدد سعادتهم. أبى الدهر إلّا أن يسود وضيعه ... ويملك أعناق المطالب وغده تداعت لدرك الثأر فينا ثعالة ... ونامت على طول الوتيرة أسده فحتَّام نسري في دياجير محنة ... يضيق بها عن صبحة السيف غمده؟ إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت ... عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده ومن ذل خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤده وأقتل داء رؤية العين ظالمًا ... يسيء، ويتلى في المحافل حمده علام يعيش المرء في الدهر خاملًا ... ويفرح في الدنيا بيوم يعده؟ يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعه ... كذى جرب يلتذ بالحلد جلده

عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلًا يحمي الحقيقة شده من العار أن يرضى الفتى بمذلة ... وفي السيف ما يكفي لأمر يعده وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قده أبت لي حمل الضيم نفس أبية ... وقلب إذا سيم الأذى شب وقده وربما قيل: إن البارودي كان ذا أثرة، وأنه كان يسعى سعيه لتحقيق أمله, وأنه لم يكن مخلصًا في دعوته لمحابة الظلم, وسواء كان هذا صحيحًا أو غير صحيح، فالذي نلمسه هو أن البارودي كان يتغنى بمصر وأهلها ويظهر محبته لها، وحرصه على خيرها ونفعها، بما لم نسمعه قبل من شاعر، إنها الروح القومية الجديدة سرت في شعوب الأرض, وجعلتهم يطالبون بالحرية والاستقلال، ويشيدون بأوطانهم, ويتغنون بمآثر قومهم, وقد تمثلت هذه الروح في البارودي على غير انتظار, وعلى غير سابقة من شعراء وطنه وزمنه، أصغ إلى القطعة التالية، والمس ما بها من حرارة الصدق والمحبة؛ لتعرف أكان البارودي مخلصًا في دعواه أو مداجيًا؟ فيا مصر مد الله ظلك وارتوى ... ثراك بسلسالك من النيل دافق ولا برحت تمتار منك يد الصبا ... أريجًا يداوي عرفه كل ناشق فأنت حمى قومي، ومشعب أسرتي ... ومعلب أترابي، ومجرى سوابقي بلاد بها أهلًا كرامًا وجيرةً ... لهم جيرة تعتادني كل شارق هجرت لذيذ العيش بعد فراقهم ... وودعت ريعان الشباب الغرانق إننا لانستطيع أن نحكم على البارودي وشعره ينطق بوطنيته، بأنه منافق خداع، إنه كان يحب وطنه، وفي سبيله شرد ونفي.

ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب لم أقترف زلة تقضي عليّ بما ... أصبحت فيه، فماذا الويل والحرب؟ فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلمًا وأغترب؟! لقد كان يحب مصر حبًّا ملك عليه شغاف قلبه، وهو القائل فيها: بلد نشأت مع النبات بأرضها ... ولثمت ثغر غديره المتبسم فنسيمها روحي ومعدن تربها ... جسمي وكوثر نيلها محيا دمي فإذا نطقت فبالثناء على الذي ... أولته من فضل عليّ وأنعم هي جنة الحسن التي زهراتها ... حور المها، وهزار أيكتها فمي ما إن خلعت بها سيور تمائمي ... حتى لبست بها حمائل مخذمي إن هذه النغمة الوطنية جديدة -كما ذكرنا- في الشعر العربيّ, وحسب البارودي فخرًا أنه من أوائل من تغنَّى بأمجاد وطنه في العصر الحديث, ولقد كاد يقضي أسى وهو يغادر مصر إلى منفاه، وزفر زفرة ملتهبة ينفس بها عن جواه: ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن أهبت بصبري أن يعود فبزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن وما كنت جربت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن ولكنه سرعان ما يثوب إلى رشده، ويكفكف من دمعه، ويتجلد أمام خصومه, ويظهر سمات الرضا، وأنه يؤثر أن يبرح أرضًا يغشيها الظلم، تصك أنات الجور مسمعيه، وتؤذي رؤية وجه الغدر ناظريه.

فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما ... جرت سنحا طير الحوادث باليمن فقد تورث الأغصان بعد ذبولها ... ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن وكيف مقامي بين أرض أرى بها ... من الظلم ما أخنى على الدار والسكن1 فسمع أنين الجور قد شاك مسمعي ... ورؤية وجه الغدر حل عرى جفني ولقد زاده النفي حبًّا في وطنه وتعلقًا به، وترديدًا لمحاسنه، ويتمثله على البعد جنةً دانية القطوف, عبقة الشذى، فمن ذلك قوله وهو بالمنفى, ويتشوق إلى أيام لهوه التي حرمها، وإلى الأرض الطيبة التي أبعد عنها، ويصف جزيرة سرنديب وصفًا جميلًا، وفيه تصوير دقيق، يدل على حسٍّ مرهف، وذوق فنان عبقريٍّ. لبيك يا داعي الأشواق من داعي ... أسمعت قلبي وإن أخطأت أسماعي مرني بما شئت أبلغ كل ما وصلت ... يدي إليه فإني سامع واعي إني امرؤ لا يرد العذل بادرتي ... ولا تفل شباة الخطب إزماعي2 أجري على شيمة في الحب صادقة ... ليست تهم إذا ريعت بإقلاع3 للحب من مهجتي كهف يلوذ به ... من غدر كل امرئ بالشر وقاع يا حبذا جرعة من ماء محنية ... وضجعة فوق برد الرمل بالقاع ونسمة كشميم الخلد قد حملت ... ريّا الأزهير من ميث وأجراع4 يا هل أراني بذاك الحي مجتمعًا ... بأهل ودي من قومي وأشياعي وهل أسوق جوادي للطراد إلى ... صيد الجآذر في خضراء ممراع منازل كنت منها في بلهنية ... ممتعًا بين غلماني وأتباعي فاليوم أصبحت لا سهمي بذي صرد ... إذا رميت، ولا سيفي بقطاع5

_ 1 السكن: السكان. 2 البادرة: ما يبدر من الإنسان عند حدة غضبه, والمراد بالبادرة هنا: شدة العزم وقوة الإرادة. الإزماع: العزم. 3 ريعت: أخفت: والإقلاع، الترك والكف. 4 الميث: جمع ميثاء, وهي الأرض السهلة اللينة من غير رمل، والأجراع: جمع جرع "كجبل" هو الأرض الرملية السهلة. 5 صرد: مصدر صرد السهم, أي: أصاب ونفذ.

أييبت في قنة قنواء قد بلغت ... هام السماك وفاتته بأبواع1 يستقبل المزن ليتيها بوابلة ... وتصدم الريح جنبيها بزعزاع2 يظل شمراخها يبسًا وأسفلها ... مكللًا بالندى يرعى به الراعي إذا البروق ازمهرت خلت ذروتها ... شهمًا تدرع من تبر بأدراع تكاد تلمس منها الشمس دانية ... وتحبس البدر عن سير وإقلاع أظل فيها غريب الدار مبتئسًا ... نابي المضاجع من هَمٍّ وأوجاع لا في "سرنديب" خل أستعين به ... على الهموم إذا هاجت ولا راعي يظنني من يراني ضاحكًا جذلًا ... أني خلي، وهمي بين أضلاعي ولا روبك ما جدوى بمندرس ... على البعاد ولا صبري بمطواع لكنني مالك حزمي، ومنتظر ... أمرًا من الله يشفي برح أوجاعي أكف غرب دموعي وهي جارية ... خوف الرقيب وقلبي جد ملتاع فإن يكن ساءني دهري، وغادرني ... رهن الأسى بين جدب بعد إمراع فإن في مصر إخوانًا يسرهم ... قربي، ويعجبهم نظمي وإبداعي ويقول من قصيدة أخرى وهو في المنفى يتشوق إلى مصر: يا "ورضة النيل" لا مستك بائقة ... ولا عدتك سماء ذات أغداق3 ولا برحت من الأوراق في حلل ... من سندس عبقريِّ الوشى براق يا حبذا نسم من جوها عبق ... يسري على جدول بالماء دفاق بل حبذا دوحة تدعو الهديل بها ... عند الصباح قماري بأطواق مرعى جيادي، ومأوى جيرتي، وحمى ... قومي، ومنبت آدابي وأعراقي أصبوا إليها على بعد، ويعجبني ... أني أعيش بها في ثوب إملاق

_ 1 قنواء: عالية مرتفعة، الأبواع: جمع باع. 2 الليتان: صفحتا العنق مثنى ليت, زعزاع: شديدة تزعزع الأشياء. 3 البائقة الداهية: لا عدتك: لا تجاوزك، والمراد بالسماء السحب والأمطار.

ج- النسيب: وقد مَرَّ بنا أن البارودي قد قلَّدَ القدماء في الوقوف على الأطلال والدمن، وفي الأوصاف الموروثة، وفي الوصف الماديِّ للمرأة والنظرة إليها نظرة السلعة، ولكنه مع هذا قد تحلَّلَ أحيانًا من كل تلك القوالب القديمة، وترَفَّعَ في نظرته إلى المرأة، فحسبه منها نظرة: إني لأقنع من هواك بنظرةٍ ... وأعدها صلةً إذا لم تمنعي هذي مناي وحبذا لو نلتها ... عن طيب نفسٍ فهي أكبر مقنع1 وهو يمتدح بعفته في حبه, ويبين مذهبه في الوداد بقوله: إني امرؤ ملك الواد قيادتي ... وجرى على صدق العهود وفائي لا أستريح إلى السلو، ولو جنى ... خِلِّي عليَّ، ولا أشين ولائي لا ذمتي رهن الفكاك ولا يدي ... تلقى أزمة عفتي وحيائي ويقول: على أنني لم آت في الحب زلة ... تغض بذكري في المحافل أو تزري ولكنني طوفت في عالم الصبا ... وعدت ولم تعلق بفاضحة أزري ويقول: والعشق مكرمةٌ إذا عفَّ الفتى ... عمَّا يهيم به الغويّ الأصور2

_ 1 المعنى قديم, طرقه من قبلُ جميل في قوله: وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله بلا، وبألا أستيطع وبالمنى ... وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالعام بنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله ولكن البارودي كان في عصر ماديٍّ لا يفطن إلى هذا، وقد سبقه آلاف الشعراء منذ جيلٍ لم يقنعوا قناعته. 2 الأصور: المنحرف عن الهدى والرشاد من الصور وهو الميل.

يقوى به قلب الجبان ويرعوي ... طمع الحريص، ويخضع المتكبر وقد يفطن أحيانًا إلى أن المرأة بها من أنواع الجمال غير هذه السمات المادية فقال: تركتني من غمرات الهوى ... في لُجِّ بحر الردى زاخر أسمع في قلبي دبيب المنى ... وألمح الشبهة في خاطري وقد وُفِّقَ البارودي في البيت الثاني أيَّمَا توفيق، على أن معظم نسيب البارودي من الشعر القديم، وقد وفيناه نعتًا فيما سبق. د- الهجاء: والهجاء نوعان: شخصي وهو ما درج عليه معظم شعراء العربية، واجتماعي، ويراد به ذلك الهجاء التهكمي الذي يقصد إلى تجسيم عيبٍ من عيوب المجتمع وتصويره في أبشع صورة رغبةً في الإصلاح، وقد يتمثَّل هذا العيب الاجتماعيُّ في شخص من الأشخاص؛ فيهجوه الشاعر, ويبرز ذلك العيب فيه بشكلٍ يسترعي انتباه القارئ أو السامع، وليس الشخص مقصودًا لذاته في مثل هذا النوع من الهجاء، وإنما المقصود هو هذه السوأة الاجتماعية، وقد لجأ شعراء الغرب إلى التمثيل يصورون فيه هذه المثالب الإنسانية العامة، ويجسِّمون العيوب تجسيمًا يحمل الشعب على الاشمئزاز منها والبعد عنها؛ كما فعل شكسبير في رواياته الكثيرة, وكما فعل موليير في هزلياته. وقد وُجِدَ في شعر البارودي نوعا الهجاء: الشخصي والاجتماعي، وأَكْثَرَ من النوع الاجتماعيِّ على غير عادة شعراء العربية، فهو يشكو الناس ونفاقهم وظلمهم وغدرهم، ويصور قومه ويعدد عيوبهم، ويحرضهم على إصلاح تلك العيوب, وقد مرت بنا نماذج من النوعين؛ فقصيدته التي يدعو فيها لنفسه ويعدد محاسنه وينعى على مواطنيه صفاتهم وخمولهم والتي يقول فيها:

بئس العشير وبئست مصر من بلد ... أضحت مناخًا لأهل الزور والخطل أرض تأثل فيها الظلم وانقذفت ... صواعق الغدر بين السهل والجبل من نوع الهجاء الاجتماعي، والمقطوعة التي ذمَّ فيها النهم والجشع من الهجاء الشخصي, وإن لم يظهر فيها أمرًا شخصيًّا, أو عداوةً خاصةً على هجائه, وإنما ذمه بعيب عامٍّ, وهو الجشع والنهم. ومن النوع الاجتماعي: قوله يذم زمانه وينعى على معاصريه تلونهم وعدم وفائهم في صداقتهم، ولا سيما وقد خذوله وآذوه: أنا في زمانٍ غادرٍ ومعاشر ... يتلونون تلون الحرباء أعداء غيب ليس يسلم صاحب ... منهم وأخوة محضر ورخاء أقبح بهم قومًا بلوت إخاءهم ... فبلوت أقبح ذمة وإخاء قد أصبحوا للدهر سبة ناقم ... في كل مصدر محنة وبلاء وأشد ما يلقى الفتى في دهره ... فقد الكرام وصحبة اللؤماء شقي ابن آدم في الزمان بعقله ... إن الفضيلة آفة العقلاء فهو هنا لا يذم شخصًا بعينه لعداوةٍ خاصةٍ بينه وبينه، وإنما يذم عيبًا اجتماعيًّا متفشيًا، ولو تناول هذا العيب شاعر غربيٌّ لأظهر لنا شخصية المنافق في مسرحية شائقة, ولأوسعه سخريةً وتهكمًا, ولكن البارودي أوجز في وصفه على عادة العرب؛ على أن له قطعًا تصويرية جميلة في هذا النوع الاجتماعيّ, اسمعه مثلًا يصور جارة تكثر من الصخب والضوضاء، ولها أولاد يتشاجرون كثيرًا، ويملئون الجوَّ صراخًا وعويلًا، لا تراعي هذه الجارة حرمة الجيران، ولا تعبأ براحة سواها، ومن العجيب أن هذا العيب لا يزال متنشرًا في كثيرٍ من بلدان الشرق بدعوى الحرية الكاذبة، فترى الجار يقلق راحة جاره بشتَّى الوسائل؛ فتارةً بالمذياع، وأخرى بمكبرات الصوت أو بالمشاجرة مع أهله وأولاده.. إلى آخر ما هنالك من أنواع المضايقات، والبارودي أديب ومفكر، وقد ابتلاه الله بجارةٍ مقلقةٍ للراحة تبدد ضوضاؤها، وجلبتها أفكاره وخيالاته, فلا بدع إذا سخط عليها وبرم بها:

إلى الله أشكو طول ليلي وجارة ... تبيت إلى وقت الصباح بإعوال لها صبيةٌ لا بارك الله فيهم ... قباح النواصي لا ينمن على حال صواريخ لا يهدأن إلّا مع الضحى ... من الشر في بيت من الخير ممحال ترى بينهم -يا فرق الله بينهم- ... لهيب صياح يصعد الفلك العالي كأنهم مما تنازعن أكلب ... طرقن على حين المساء برئبال فهجن جميعًا هيجة فزعت لها ... كلاب القرى ما بين سهل وأجبال فلم يبق من كلب عقور وكلبة ... من الحيّ إلَا جاء بالعم والخال وفزعت الأنعام والخيل فانبرت ... تجاوب بعضًا في رغاء وتصهال فقامت رجال الحيّ تحسب أنها ... أصيبت بجيش ذي غوارب ذيال فمن حاملٍ رمحًا ومن قابضٍ عصًا ... ومن فَزِعٍ يتلو الكتاب بإهلال ومن سبية ريعت لذك ونسوة ... هوائم دون الباب يهتفن بالوالي فيا رب هب لي من لدنك صبرًا ... على ما أقاسيه وخذهم بزلزال ومن هجائه الشخصيِّ الذي ينهش فيه العرض، ويذم الشخص بصفات خاصة فيه حتى تؤذيه، قوله: وهو من أخف أهاجيه: هجوته لا بالغًا لؤمه ... لكنني كفكفت من غربه فإن أكن قد نلت من عرضه ... فإني دنست شعري به فلا يلومن سوى نفسه ... من سلط الناس على ثلبه وقوله: وقد تكوَّن من لؤم ومن دنس ... فما يغار على عرضٍ ولا حسب يلتذ بالطعن فيه والهجاء كما ... يلتذ بالحك والتظفير ذو الجرب

ولقد كان مولعًا بهجاء رياض "باشا"؛ إذ كان يرى فيه معولًا هدَّامًا للحركة الوطنية، وعدوًّا للشعب، ونصيرًا للاستبداد والظلم، ولم يغفر له البارودي وشايته به لدى توفيق حين رأى ميوله الشعبية, فأخرجه من الوزارة ولم يعد إلّا بعد أن ترضاه توفيق. ومن أهاجيه المقذعة في رياض قوله: إن ملكًا فيه رياض وزير ... لمباح للخائنين وبل1 أهوج أحمق ستيم لئيم ... أغتم أبله زنيم عتل صغرت رأسه وأفرط في الطول ... شواه وعنقه فهو صعل أبرزت قدرة الطبيعة فيه ... شكل لؤم إن كان للؤم أهل ليس تغني الألقاب عن كرم الأصل ... فمجد الفتى عفاف وعقل أنت من عنصر لو اتكأ الذر ... عليه لآده منه حمل نازعتك اليهود واختلفت فيك ... النصارى فأنت لا شك بغل2 وقد هجاه البارودي بقصيدةٍ أخرى مطلعها: ما لي بودي بعد اليوم إلمام ... فاذهب فأنت لئيم العهد نمام على أن البارودي لم يكن هجَّاء، وأهاجيه الشخصية قليلة إذا قيست بشعره كله، ولكن سخطه على الناس وتبرمه بأخلاقهم وعيوبهم كثيرٌ نوعًا ما، وهو يدل على النزعة الإصلاحية عنده, ويدل على أنه قد أوذي ولقي من قومه محنًا كثيرة، وأنه كان يضيق بأخلاقهم ذرعًا, فهذا الهجاء الاجتماعي جديد في شعر البارودي، إنه صوَّرَ به عصره وناسه تصويرًا ملونًا بشعوره الخاص، وحسبنا من الشاعر

_ 1 بل: مباح، يقال: حل وبل. 2 هناك من يدعي أن رياضًا من أصل يهوديٍّ, راجع كتاب الثورة العرابية للرافعي, ص32، 38، وراجع كذلك Yonng: Egypt, P.104.

أن يصور ما يختلج في صدره من عواطف وأحاسيس, وأن ينقل إلينا مشاعره الخاصة، لا أن يستتر وراء سدف كثيفة مصطنعة من المجاملات والنفاق الاجتماعي، والمدح الكاذب. هـ- المخترعات الحديثة: حفل القرن التاسع عشر بكثيرٍ من المخترعات الحديثة التي ذللت الطبيعة وأرضختها لخدمة الإنسان, وجعلت أمور الحياة هينةً أمامه, وقد أخذت مصر بنصيبٍ من هذه المخترعات, فانتشر فيها مثلًا استخدام الكهرباء وآلة التصوير، وعرفت في أواخر أيام البارودي الطائرات، وما شاكل ذلك، وكان البارودي حريصًا على أن يستمد تشبيهاته من هذه المخترعات الحديثة رغبةً في الطرافة، وتمثيل عصره، فيقول مثلًا: تعرض لي يومًا فصورت حسنه ... ببلورتي عينيِّ في صفحة القلب ويقول: فالعقل كالمنظار يبصر ما نأى ... عنه بعيدًا دون لمس باليد ويقول: شفت زجاجة فكري فارتسمت بها ... عليك من منطقي في لوح تصوير1 ويقول: جسم برته يد الضنى حتى غدا ... قفصًا به للقلب طير يصفر لولا التنفس لاعتلت بي زفرة ... فيخالني طيارة من يبصر

_ 1 ارتسمت: يريد رسمت غير موجودة بالمعاجم.

قد يبدو على بعض هذه الأبيات شيءٌ من التكلف، ولكن البارودي ما كان ليستطيع أن يبتعد عن استخدام هذه المخترعات في شعره، وهو الولوع بالتجديد في الشعر, الحريص على أن يمثِّلَ زمانه تمام التمثيل. ج- نظرة عامة: رايت مما سبق أن البارودي حاول أن يجدد في الشعر العربي من حيث الموضوعات التي تناولها، ولا سيما في الوصف، وفي الشعر السياسي، ورأيت أن الوصف قد تناول نواحي عدة: من وصف للطبيعة، والأشخاص، وميادين القتال، والأشياء، وأن وصف البارودي كان في الغالب وصفًا حسيًّا يقف عند التصوير المشوب بشيءٍ من العاطفة دون أن يتعمق فيه، ويحلل ويوازن ويتخيل، وأن موصوفاته كانت كذلك من المشاهدات غالبًا، ولم يحاول وصف الأمور المعنوية والنفسية إلّا قليلًا؛ ومع ذلك, فالبارودي بإفراده قصائد خاصة بالوصف, وبمحاكاته الطبيعة في شعره، وإتيانه بالأدب الواقعيّ المجرد من العواطف والأخيلة إلّا القليل، قد فتح فتحًا عظيمًا في الشعر العربيّ، ونفض عنه غبار السنين الطويلة، وعرض القديم عرضًا جديدًا شائقًا جذابًا، ومهَّدَ الطريق لمن أتى بعده من الشعراء، ناهيك بأسلوبه الفخم الجزل، وبعده عن الزخارف والحلى التي تطغى على المعنى وتذهب ببهاء الشعر، وتدعو إلى التكلف والتعسف. ومن أهم مزايا الباروديأنه كان بعيدًا عن التكلف، بل كاني ينطلق في سجيته، ويظهر كل ما في نفسه، ويصور مشاعره السارة والحزينة دون إخفاء أي شيء منها، وقد يغلبه التقليد للقديم أحيانًا فيخالف طبعه، ويسير على غير سجيته، ويتكلَّف القول محاكيًا القدماء، وتلمس أثر هذا التكلف واضحًا ليس عليه طابع البارودي ولا شخصيته، وقد مر بنا عند الكلام على القديم في شعره نماذج من هذ الطراز. وهناك أغراض تقليدية قال فيها الشعراء منذ عصر امرئ القيس، وقال فيها البارودي كذلك مثل: الرثاء والمدح والحكمة وما شاكل هذا. ولا نستطيع أن نختم الكلام على البارودي قبل أن نرى موقفه من هذه الأغراض.

الرثاء: ولم يرث البارودي إلّا صديقًا أو قريبًا، فلم يكن رثاؤه مفتعلًا أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثًا عن عاطفةٍ صادقةٍ، وقد تمثَّل في رثائه كل ما يخطر ببال الراثي، من تفجع وشكوى من الزمن والحياة وسخط عليها, وإظهار لمحاسن المرثيّ، وبعض الحكم يتأسَّى بها الشاعر أو يعظ بها غيره، ويقدِّمُ العزاء أحيانًا لأهل البيت، وإن لم يحاول الوقوف على سر الحياة الأخرى، وأن يستشف ما بعد الموت كما كان يفعل شوقي, وقد يأتي الباوردي ببعض المعاني القديمة في قصائد الرثاء؛ كأن يدعو الله أن ينزل الغيث على جدث الميت, وما شايع هذا من الصيغ التقليدية المعروفة، وهو يظهر الجزع والحزن الشديد دون مبالغة جارفة في النعوت التي يضفيها على الميت، وجزعه وحزنه لا يدلان على عاطفة مشبوبة وقلب وفيٍّ، ولا سيما وقد قال معظم مراثيه وهو في المنفى, فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن، وحرمانه التزود من الميت بنظرة أو حديث، ودعاه هذا إلى توجيه الخطاب للشامتين به في نكبته ومحنته, وأن يظهر لهم التجلد في أخريات قصائده، وأنه ما زال صلب العود ولا سيما إذا كان الميت من ذوي قرابته. ومن أحسن مراثيه قوله في ولده عليِّ: كيف طوتك المون ويا ولدي؟ ... وكيف أودعتك الثرى بيدي؟ وا كبدي، يا عليُّ بعدك لو ... كانت تبل الغليل وا كبدي!! فقدك سَلَّ العظام مني ورَدَّ ... الصبر عني وفت في عضدي كم ليلة فيك لا صباح لها ... سهرتها باكيًا بلا مدد دمع وسهد، وأي ناظرة ... تبقى على المدمعين والسهد؟! لهفي على لمحة النجابة لو ... دامت إلى أن تفوز بالسدد ما كانت أدري إذ كنت أخشى عليك ... العين أن الحمام بالرصد فاجأني الدهر فيك من حيث لا ... أعلم ختلًا والدهر كالأسد لولا اتقاء الحياة لاعتضت بالحلم ... هيامًا يحيق بالجلد

لكن أبت نفسي الكريمة أن ... أثلم حد العزاء بالكمد فليبك قلبي عليك، فالعين لا ... تبلغ بالمدع رتبة الخلد1 إن يك أخنى الردى عليك، فقد ... أخنى أليم الضنى على جسدي عليك مني السلام توديع لا ... قال، ولكن توديع مضطهد ومن رثائه الذي يَنُمُّ عن عاطفةٍ صادقةٍ، ويظهر فيه الأسى واللوعة، وعظيم التفجع من غير مواربة أو تحفظ، رثاؤه لزوجته، وقد ورد إليه نعيها وهو بسرنديب، وعلى الرغم من أن رثاء الشعراء لزوجاتهم قليل في الأدب العربي، فإن قصيدة البارودي هذه تعد من عيون قصائد الرثاء، وهي تدل على الوفاء والمحبة, وعلى فرط حساسيته، ويقول في مطلعها: أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرأت أية شعاعة بفؤادي ومنها: لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي ... تقوى على رد الحبيب الغادي يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي؟ إن كنت لم تحرم ضناي لبعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي أفردتهن فلم ينمن توجعًا ... قرحى العيون رواجف الأكباد يبكين من وَلَه فراق حفية ... كانت لهن كثيرة الإسعاد فخدودهن من الدموع ندية ... وقلوبهن من الهموم صوادي أسليلة القمرين! أي فجيعة ... حلت لفقدك بين هذا النادي؟ أعزز عليَّ بأن أراكِ رهينةً ... في جوف أغبر قائم الأسداد أو أن تبيني عن قرارة منزل ... كنت الضياء له بكل سواد لو كان هذا الدهر يقبل فدية ... بالنفس عنك لكن أول فاد

_ 1 الخلد: القلب، أي: أن العين مهما بكت لا يصل حزنها إلى منزلة حزن القلب.

ثم يذكر وفاءه لها، ولعله بذلك يسوغ رثاءه لها على الرغم من شهرته بالجلد والشجاعة, ولأنه لم تجر العادة بأن يرثي الشعراء زوجاتهم إلّا في النادر؛ ولعل ظرف البارودي، وبعده في المنفى عن أهله وأولاده، ورعاية هذه الزوجة لهؤلاء الأولاد هو الذي حَزَّ في نفسه، وتذكَّرَ أيامه الطيبة السعيدة في عش الزوجية بوطنه الحبيب، كما أنه كان يتخيل أن كل كارثةٍ تحلُّ بهم تشمت به الأعداء فيزيد ذلك من لوعته, قال: جزع الفتى سمة الوفاء، وصبره ... غدر يدل به على الأحقاد ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعي التجلد وهو غير جماد وإذا عددت مراثيه وجدته رثى أصدقاؤه الأدباء الذين كانت بينهم وبينه آصرة محبة ووداد، وتقدير وتفاهم، مثل: أحمد فارس الشدياق، وعبد الله فكري، وحسين المرصفي, ووجدته رثى أولاده، وزوجته، ورثى والده، وإن كان قد توفي وهو صبي كما عرفنا، ولذلك جاء رثاؤه لوالده خاليًا من العاطفة فيه كثير من الفخر، ليس فيه تفجع الحزين، ولا حسرات الفراق، وبه كثير من المبالغات غير المقبولة، وفيه يقول: لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي ... طاح الردى بشهاب الحرب والنادي مات الذي ترهب الأقران صولته ... ويتقي بأسه الضرغامة العادي جف الندى، وانقضى عمر الجدى وسرى ... حكم الردى بين أرواح وأجساد المدح: واقتصر في مدحه على ولاة مصر: إسماعيل، وتوفيق، وعباس، وهو في مدحه لا ينسى مصر وموقف الوالي منها، وما قَدَّمَ لها, أو ما يرجى على يديه من خيرات لمواطنيه، فيمدح توفيقًا لعزمه على الأخذ بالشورى والعدل، ويستطرد إلى مدح النظام الشوري, وأنه من تعاليم الإسلام، والأمة التي لا تأخذ به مصيرها إلى

الانهيار، والملك الذي لا يتبعه ملك غير عادل، وملكه سرعان ما يدب إليه الضعف؛ وهو في مدحه لعباس يذكر عدله وأريحيته، وما يرجى على يديه من نفع، وقد مدح عباسًا لأنه عفا عنه وأعاده إلى وطنه، فكان لزامًا عليه حين يمدحه أن يذكر له هذه اليد الكريمة، أما إسماعيل: فقد مدحه حين وُلِّيَ على أريكة مصر، وقدم نفسه لإسماعيل وأطراها، وأظهر استعداه لخدمته، وخدمة وطنه، وهذا ولم يغفل أن يثني على كل ممدوحيه وينعتهم بكرم الأصل وحب الخير والعدل, وأنهم ذوو هيبةٍ وشمائل كريمة ... إلخ هذه الصفات المعروفة والمعاني المطروقة، وقد مرَّت بنا بعض أبيات من مدحه لتوفيق وعباس، وهاك بعض ما قاله في إسماعيل حين ولي أريكة مصر: طَرِبَ الفؤاد وكان غير طروب ... والمرء رهن بشاشة وقطوب ورد البشير، فقلت من سرف المنى ... أعد الحديث عليَّ فهو حسيبي خبر جلا صدأ القلوب فلم يدع ... فيها مجال تحفز لوجيب فلتهن مصر وأهلها بسلامة ... جاءت لها بالأمن بعد خطوب بالماجد المنسوب، بل بالأروع الـ ... مشبوب، بل بالأبلج المعصوب1 رب العلا والمجد "إسماعيل" مَنْ ... وضحت به الأيام بعد شحوب وَرَدَ البلادَ وليلها متراكب ... فأضاءها كالكوكب المشبوب برويَّةٍ تجلو الصواب وعزمة ... تمضي مضاء اللهذم المذروب2 ويقول فيها: وأعاد مصر إلى جمال شبابها ... من بعد ما لبست خمار مشيب فتنعمت من فيضه في غبطة ... وتمتعت من عدله بنصيب

_ 1 المنسوب ذو النسب، والأورع: من يعجبك بحسنة وجهارة منظره أو بشاعته, والمشبوب: الحسن الوجه والبلجة -بضم فسكون: الضوء, ونقاوة ما بين الحاجبين، ويقال للرجل الطلق الوجه أبلج، والمعصوب: المتوج. 2 المذروب: المحدد المسنون.

ويقدم نفسه لإسماعيل بقوله: فاسمع مقالة صادق لم ينتسب ... لسواك في أدب ولا تهذيب أوليته خيرًا, فقام بشكره ... والشكر للإحسان خير ضريب فاعطف عليه تجد سليل كرامة ... أهلًا لحسن الأهل والترحيب ينبيك ظاهره بود ضميره ... والوجه وسمة مخلص ومريب وإليك من حوك اللسان حبيرة ... بغنيك رونقها عن التشبيب حضرية الأنساب إلّا أنها ... بدوية في الطبع والتركيب ولم يكن البارودي شاعرًا مدَّاحًا مكتسبًا بشعره, كما درج على هذه العادة معظم الشعراء في الأدب العربي، ولكنه كان أميرًا فارسًا عفيفًا, يقول الشعر للتعبير عن خلجات فؤاده, وقد قال: الشعر زينا المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذام وهو إذا مدح لم يقصد بمدحه العطاء، وإنما للتعريف بمنزلته، أو الشكر على يدٍ أسديت إليه، أو حثٍّ على مكرمة، ومديحه خالٍ من المبالغات المذمومة والنعوت الموهومة، وهذا طبيعيٌّ ما دام لم يقصد بمدحه صلة أوعطية؛ لأن الشعراء إنما لجئوا إلى هذه المبالغات ظنًّا منهم أنها تزيد في عطائهم، وأن نفس الممدوح تسر لها فيغدق عليهم جزيل الهبات. فخره: وقد افتخر البارودي كما عرفت بنسبه وحسبه، وافتخر كذلك بشجاعته وفروسيته, وقد أكثر من القول في هذا المعنى, وله فيه مبالغات سخيفة؛ فمن ذلك قوله يفتخر ببأسه ونجدته, وأنه مَلَكَ أَزَّمةَ الفصاحة والبيان، وأن الزمان لو تقدَّم به لبذ الشعراء الفحول, ولسطر اسمه على جبين التاريخ بالفخر إلى آخر هذه المعاني المعروفة من مثل قوله:

ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة ... ترد لهام الجيش وهو يمور إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها ... مراد لمهردي المعاقل دور فلا عجب إن لم يصرني منزل ... فليس لعقبان الهواء وكور وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير إذا صلت كف الدهر من غلوائه ... وإن قلت غصَّت بالقلوب صدور ملكت مقاليد الكلام وحكمة ... لها كوكب فخم الضياء منير فلو كنت في عصر الكلام الذي انقضى ... لباء بفضلي "جرول" و"جرير" ولو كنت أدركت الواسي لم يقل ... "أجارة بيتينا أبوك غيور" وما ضرني أني تأخرت عنهم ... وفضلي بين العالمين شهير فيا ربما أخلى من السبق أول ... وبذ الجياد السابقات أخير ويسود هذا النوع من الفخر شعر البارودي، ويبين أنه محسود المكانة، وأنه فريد عصره وواحد دهره, كما يقول: فإن أكن عشت فردًا بين آصرتي ... فهأنا اليوم فرد بين أندادي بلغت من فضل ربي ما غنيت به ... عن كل قارٍ من الأملاك أو باد فما مددت يدي إلّا لمنح يد ... ولا سعت قدمي إلّا لإسعاد الزهد: ولعل قوله في الزهد يرجع إلى تلك الحالات النفسية التي غلبة فيها اليأس على أمره؛ وهو وحيد شريد يعاني غصص الفراق والنفي, وإلا فهذه النفس الطموح التي خاطرت وغامرت وتطلعت إلى الملك, وتلذذت ونعمت بالحياة, كانت بعيدةً عن الزهد في الحياة، ولعلها لم تزهد إلّا مرغمة، وعلى كلٍّ فما قاله في الزهد قليل, مما يدل على أنه أثر لنوباتٍ كانت تعتريه؛ فيتشاءم من الدنيا ويتذكر الموت، والموت يذكره بالعمل الصالح والإقلاع عن الغواية والجهل، ويذكّره بمن ماتوا قبله من ملوك أمراء وأصحاب عروش وضياع, ذهبوا وذهبت دنياهم

الحافلة باللذات, وعمرت منهم القبور؛ ولم يذد عنهم الموت مالهم ولا جاههم, إلى آخر هذه المعاني التي استنفدها من قبل أبو العتاهية، وصالح بن عبد القدوس, وأضرابهما, من مثل قوله: كل حي سيموت ... ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ... ثم يتلوه خفوت وكلام ليس يحلو ... بعده إلّا السكوت أيها السادر قل لي ... أين ذاك الجبروت؟ كنت مطبوعًا على النطق ... فما هذا الصموت؟ ليت شعري أهمود ... ما أراه أم قنوت؟ أين أملاك لهم في ... كل أفق ملكوت؟! زالت التيجان عنهم ... وخلت تلك التخوت ومما يتصل بهذا الموضوع مدحه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدةٍ طويلةٍ يتوسل فيها بجاهه ويطلب شفاعته، ويرجو الرحمة والمغفرة من الله بسببه, ويقول: هو النبيُّ الذي لولا هدايته ... لكان أعلم من في الأرض كالهمج أنا الذي بِتُّ من وجدي بروضته ... أحنُّ شوقًا كطير البانة الهزج هاجت بذكراه نفسي فاكتست ولهًا ... وأي صب بذكر الشروق لم يهج يا رب بالمصفى هب لي وإن عظمت ... جرائمي -رحمةً تغني عن الحجج ولا تكلني إلى نفسي فإن يدي ... مغلولة، وصباحي غير منبلج ما لي سواك وأنت المستعان إذا ... ضاق الزحام غداة الموقف الحرج

الحكمة: وقد أكثر البارودي من قول الحكم، ومعظمها حكم مبتكرة, وقع عليها السابقون, وصاغها البارودي صياغةً جديدةً بأسلوبه الجزل الفخم, وقد وردت له كثير من الأبيات السائرة التي صارت كأنها أمثال كقوله: ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب وقوله: وقليلًا ما يصلح المرء للجد ... إذا كان ساقط الأجداد وقوله: لعمرك ما في الدهر أطيب لذة ... من اللهو في ظل الشبيبة واليسر وقوله: إذا ساء صنع المرء ساءت حياته ... فما لصرف الدهر يوسعها سبا ومن أبيات الحكمة التي اشتهر بها قوله: والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر ... وإنما صفوه بين الورى لمع لو كان للمرء فكر في عواقبه ... ما شان أخلاقه حرص ولا طبع1 وكيف يدرك ما في الغيب من حدث ... من لم يزل بغرور العيش ينخدع دهر يغرُّ، وآمال تسر وأعمار ... تمر، وأيام لها خدع يسعى الفتى لأمور قد تضر به ... وليس يعلم ما يأتي وما يدع يأيها السادر المزور من صلف ... مهلًا فإنك بالأيام منخدع دع ما يريب، وخذ فيما خلقت له ... لعل قلبك بالإييان ينتفع إن الحياة لثوب سوف تخلعه ... وكل ثوب إذا ما رَثَّ ينخلع

_ 1 الطبع: الشين والدنس والعيب.

وهي حكم قريبة مأخوذة من تجارب عادية, ليست فيها فلسفة عميقة، ولا تدل على مذهب في الحياة ومصيرها ومصدرها، أو على نظرة عامة شاملة للكون، وإنما هي نظرات عابرة ليس فيها تحليل دقيق، ولا سبر لأغوار الحياة والمجتمع ونفسيته، ولكنها حلوة الصياغة خفيفة على الألسنة متقنة السبك. وبعد، فهذه معظم الموضوعات التي تكلم فيها البارودي, وقد عقَّبْنَا على كل موضوع بكلمة موجزة، وعرفنا إلى أي حَدٍّ مشى البارودي في ظل القدماء, وإلى أي حَدٍّ تميَّزَت شخصيته، وبرزت خصائصه، وفي شعر البارودي هنات. هنات: وهذه الهنات قليلة لا تقدح في منزلته, ولا تغض من شأنه، وبعض هذه الهنات ترجع إلى: 1- لغويات: فاستعمل البارودي كلمات كثيرة غير موجودة في المعاجم, ولا يعين عليها الاشتقاق الصرفي من مثل قوله: "همامة نفس" فهذا المصدر بالمعنى الذي يريده, أي: قوة العزم, غير موجود في المعجمات التي بين أيدينا، وقد يلتمس له تخريج بعيد، فيه كثير من التعسف، ومن مثل قوله: "يكفيك منه إذا استحس" يريد أحس، ومثل قوله: شفت زجاجة فكري فارتسمت بها ... علياك من منطقي في لوح تصويري فارتسمت بمعنى: رسمت, غير موجودة بالمعجمات، ومعناها في المعاجم امتثل؛ ومثل قوله: فكم سلموا عينًا بها تبصر العلا ... وشلوا يدًا كانت بها راية النصر والفعل شل لازم، ويتعدى بالهمزة, فيقال: أشل الله فلانًا, واستعمله الشاعر متعديًا بنفسه، وقد يوجد له تخريج بعيد.

ومن مثل قوله: "تمديدًا نحو السماء خضيبة" وخضيب على وزن فعيل بمعنى: مفعول, أي: مخضوبة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث إن تبع الموصوف, ولهذا قالوا: كَفٌّ خضيبٌ وامرأة خضيبٌ, فاستعمال خضيبة خطأ. ومثل قوله: فما أبصرته الخيل حتى تمطرت ... بفرسانها واستتلعت كي تخلص وليس بالمعجمات استتلعت، وإنما بها تعلت, بمعنى: مدت أعناقها، وقد يقال: إن زيادة الهمزة والسين والتاء للطلب, قياسية عند بعض الصرفيين. 2- وقد يخطئ البارودي في الأساليب العربية في مثل قوله: إذا راطنوا بعضًا سمعت لصوتهم ... هديدًا تكاد الأرض منه تميد والفصيح إذا راطن بعضهم بعضًا ولكن هذا قليل في شعره؛ لأنه على قول الفصيح لكثرة محفوظه من كلام العرب الخلص. 3- ومن المآخذ التي كثيرًا ما يعير بها البارودي اتهامه بسرقات شعرية تأتي في صورة أبيات أو أنصاف أبيات من مثل قوله: على طلاب العز من مستقره ... ولا ذنب لي إن عارضتني المقادر وهو من قول أبي نواس: على طلاب العز من مستقره ... ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب ومثل قوله: نميل من الدنيا إلى ظل مزنة ... لها بارق فيه المنية تلمع

فالشطر الثاني مأخوذٌ من قول أبي العتاهية. لها عارض فيه المنية تلمع. وقول البارودي: قد يظفر الفاتك الألوى بحاجته ... وليس يدركها الهيابة الخلط مأخوذ من قول الشاعر العباسي: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج قوله: وما الحلم عند الخطب والمرء عاجز ... بمستحسن كالحلم والمرء قادر مأخوذ من قول المتنبي: كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لا جيء إليها اللئام وهناك أبيات كثيرة تدل على نظرته إلى أشعار القدماء؛ وقد ذكرنا آنفًا أن البارودي لم يسرق، ولم يتعمد أخذ هذه الأبيات والسطو عليها، وإنما كثر محفوظه، وتأثر به كل التأثر، ولا سيما إذا كان يعارض قصيدةً لشاعر مجيد، فإنه يجاريه حتى لقد يختلط شعره بشعره, وتتعذر التفرقة بينهما، وذلك لجودة محاكاته وسلامة طبعه، وقد ترد على لسانه كلمات أو أبيات من أشعار القدماء دون أن يدرك؛ لأنها من محفوظه, وقد عرفنا أنه لم يتعلم قواعد اللغة والصرف وغيرهما, وإنما صار يقرأ الشعر يحفظه حتى مرن لسانه على قوله, وتملك أزمة اللغة، وطُبِعَ على الفصاحة، كل هذه الهنات التي ذكرناها مصدرها اعتداده بنفسه, واعتماده على ذاكرته, وعدم دراسته المنظمة؛ ولكنها تفاهةٌ لا تغض من شعره أو تضير منزلته بشيء. 4- هذا وللبارودي مبالغات سقيمة من مثل قوله: وما زاد ماء النيل إلّا لأنني ... وقفت به أبكي على الأحباب

ويكرر هذا المعنى في قوله: وكفكفت دمعًا لو أسلت شئونه ... على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر ومن مثل قوله: إذا تنفست فاضت زفرتي شررًا ... كما استنار وراء القدحة اللهب على أنها تغتفر له, فإنها خيالات شاعر. منزلته: يدين الشعر العربي الحديث للبارودي بأنه النموذج الحيّ الذي احتذاه الشعراء من بعده, وساروا على نهجه في أسلوبه وأغراضه، وذلك لأنه أتى -كما رأيت- بشعر جزلٍ رائق الديباجة, عذب النغم, في حقبة ساد فيها شعر الضعف والصنعة وضحالة المعنى وعقم الخيال، ثم إنه مثَّل عصره أتمَّ تمثيلٍ, وكان صدًى لحوادث بيئته, فكان قدوةً لمن جاء على أثره في التجديد. أضف إلى ذلك أنه علمهم كيف يتجهون إلى الأدب العربي في أزهى عصوره, ويغترفون من ذخائره؛ بحيث لا تفنى شخصياتهم، فيقوى أسلوبهم, وتشرق ديباجتهم, ويبعدون عن الحلى المتكلفة، وبذلك سار الشعر من بعده إلى الأمام, ولم يجرع أبدًا إلى عصور الضعف والركاكة. وممن تتلمذ على البارودي واقتفى أثره عدد كبير من شعراء العربية, اتخذوه إمامهم غير مدافع؛ كشوقي وحافظ والرافعي وصبري وعبد المطلب والجارم والكاظمي والرصافي وأحمد محرم والكاشف ونسيم والزين وغيرهم، وعلى تباينٍ بينهم في حظِّ كلٍّ منهم من التجديد والتأثر بثقافة الغرب ومذاهبه الأدبية. وعلى الرغم من قيام مدرسة مجددة نشيطة يتزعمها مطران وشكري والمازني والعقاد وأبو شادي، فلا يزال كثيرون في البلاد العربية بعامة وفي

مصر بخاصة، يحنون إلى ديباجة البارودي وموسيقى مدرسته, مع الأخذ بطرفٍ من التجديد في المعاني والأخيلة والصور. وحسب البارودي فخرًا أنه أحيا الشعر بعد مواته, على غير مثالٍ سبق من معاصريه. ونقول مع هيكل: إنه كان مجددًا في كل بيت من أبياته, حتى في معارضاته للقدماء, والنهج على منهجهم. هذا وقد حاول البارودي التجديد في الأوزان؛ فنظم قصيدةً من تسعة عشر بيتًا على وزن جديد هو مجزوء المتدارك، ولم يسبق للعرب أن نظموا منه، وإنما ورد المتدارك عندهم كاملًا أو مشطورًا, تلك هي القصيدة التي يقول في أولها: املأ القدح ... وعص من نصح واروغلتي ... بابنة الفرح فالفتى متى ... ذاقها انشرح وقد نظم شوقي من هذا الوزن الذي اخترعه البارودي قصيدته التي مطلعه: مال واحتجب ... وادعي الغضب ليت هاجري ... يشرح السبب

الفصل الخامس: نهضة النثر

الفصل الخامس: نهضة النثر موضوعاته ... نهضة النثر: عرفت فيما سبق كيف أن الصحافة في عصر إسماعيل نهضت بلغة الكتابة، وحررت النثر من السجع المتكلف، والإمعان في طلب المحسنات البديعية، وأنها تناولت موضوعاتٍ شتَّى مما يَمُسُّ الحياة العامة ومشكلات الشعوب، بيد أن نظرتها ثمة كانت عابرة، لم تقف طويلًا للتعرف على خصائص هذا النثر ومميزاته الفنية، والموضوعات المتباينة العديدة التي خاض غمارها، والعوامل الكثيرة التي تضافرت على النهوض به، والتي اتخذت من الصحافة منبرًا يذيع على الناس فكرًا جديدًا. ورأيت أن المدرسة الديوانية التي مثلها: عبد الله فكري, لم تتناول السياسة والاجتماع والإصلاح، وأن موضوعاتها لم تتعد الأمور الشخصية, أو الأدبية البحتة؛ كرسائل التعزية والتهنئة والاعتذار والرجاء، أو وصف منظر جميل, أو أنية أنيقة الصنع ... وما شاكل ذلك مما يكون مبعثه الشعور الشخصي. ولقد شهدت أخريات عهد إسماعيل، وعهد توفيق لونًا جديدًا من النثر، وأدبًا ينبض بالحياة وبالحرارة, رأينا نتفًا منه قبل1 وآن لنا نخصه بنظرة واسعة. 1- موضوعاته: أما موضوعات هذا النثر فكانت واسعة الأفق، وتناولت مشكلات الحياة وما يهم الشعوب, وما يبعث على اليقظة والنهضة ممثلة في: 1- الدافع عن الشعوب المظلومة التي ظلت تئن تحت نير العبودية والعسف قرونًا مديدة، لا تعرف كيف تراجع الحاكم في حكمٍ أبرمه ولو كان ظالمًا، ولا كيف تثور وتشكو وتئن وتتوجع وتسمع شكاتها للعالم، والحاكم سادر في غلوائه، يمتص دماءها، ويسخرها لأهوائه وشهواته؛ ولا يفكر في نفعها إلا بمقدار ما يعود عليه من الفائدة، استمع للأستاذ الإمام محمد عبده كيف يصور لك حال مصر قبل أن يشيع هذا الأدب الجديد والفكر الجرئ في أرجائها.

_ 1 راجع ما كتبناه عن الشدياق وأديب إسحاق فيما تقدم.

"إن أهالي مصر قبل سنة 1293هـ كانو يرون شئونهم العامة بل والخاصة, ملكًا لحاكمهم الأعلى، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله, أو خيانته وظلمه؛ ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيًا يحق له أن يبديه في إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيها صالحًا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم. وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى, سواء كانت إسلامية أو أوروبية, ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية إيام محمد علي باشا الكبير, وإبراهيم باشا, لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارف, ومع أن إسماعيل باشا أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283، وكان من حقه أن يعلم الأهالي أن لهم شأنًا في مصالح بلادهم, وأن لهم رأيًا يرجع إليه فيها، لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن لهم ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية؛ لأن مبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل، ولو حدث إنسانًا فكره السليم بأن هناك وجهة خيرٍ غير التي يوجهها إليه الحاكم لما أمكنه ذلك؛ فإن بجانب كل لفظ نفيًا عن الوطن، أو إزهاقًا للروح، أو تجريدًا من المال". وكان الأدب صدى لهذه الحياة البئيسة التي تقبر فيها الحريات وتغل العقول، ويتغنى بما قام به هذا الحاكم الظالم من أفعال وضيعة، ويصور سيئاته حسنات، وسخافاته آيات، وحماقاته معجزات، ولكن الأدب الجديد ينظر إلى هذه الشعوب، ويجعل خيرها غايته, فيجمعهم على من اعتدى عليها، ويبين للناس سوء حالهم, ومواضع بؤسهم وأدوائهم، وطرق علاجها، ويقف للحكام بالمرصاد، يذيع سيئاتهم ومظالمهم وينقدهم في غير هوادة أو رفق، ويشجع أفراد الأمة على المطالبة بحقوقهم، وألّا يخشوا بأس الحاكم وجبروته؛ لأنه مدين بقوته لهم، وبغناه وضياعه لكدهم وكدحهم. واستمع كذلك إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده كيف يحرض الأمة على خلع نير العبودية، والحد من سطوة الحاكم الغاشم، وينعى عليه جهله وسفالته:

"إن الأمة التي ليس لها في شئونها حلٌّ ولا عقدٌ، ولا تستشار في مصالحها, ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكمٍ واحدٍ؛ إرادته قانون, ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال خيرها وشرها، فهو تابع لحال الحاكم، فإن كان حاكمها عالما حازمًا أصيل الرأي، عالي الهمة، رفيع المقصد، قويم الطبع، سَاسَ الأمة بسياسة العدل, ورفع فيها منار العلم، ومهَّدَ لها طرق اليسار والثروة، وفتح لها أبوابًا للتفنن في الصنائع والحذق في جميع الوازم اليحاة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة، وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة؛ من الشهامة والشجاعة، وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليًّا من العزة، ووطَّأَ لهم سبل الراحة والرفاهة وتقدم بهم إلى كل وجهٍ من وجوه الخير. وإن كان حاكمها جاهلًا، سيئ الطبع، سافل الهمة، جبانًا, ضعيف الرأي أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة، أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران، وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليها غائلة الفاقة والفقر، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبوابًا للعدوان؛ فيتغلب القويّ على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفض الكلمة, ويغلب اليأس؛ فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة، عند ذلك, إن كان في الأمة رمق من الحياة، وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله بها خيرًا، اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها, وتعانوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة، واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها، وأجزاءها السامة القاتلة بين جموع الأمة فتميتها, وينطقع الأمل من العلاج1". بمثل هذا الأدب أخذ المصلحون ينادون الشعوب المستكينة للذل, ويوقظونها من سباتها العميق, وينددون بما عليه أبناؤها من جبن وخور، فلا يغضبون لكرامة امتهنت، ولا يثورون لعفاف ثلم، وشرف دنس:

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام, الجزء الثاني, ص331, والعدد الرابع عشر من مجلة العروة الوثقى.

"الجبن هو الذي أوهى الممالك فهدم بناءها، هو الذي قطع روابط الأمم فحل نظامها، هو الذي وهن عزائم الملوك فانقلبت عروشهم، وأضعف قلوب العالمين فسقطت صروحهم، هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين, ويطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين، يسهل على النفوس احتمال الذلة, ويخفف عليها مضض المسكنة، ويهون عليها حمل نير العبودية الثقيل, ويوطن النفس على تلقي الإهانة بالصبر والتذليل بالجلد، ويوطن الظهور الجاسية لأحمال من المصاعب أثقل مما كان يتوهم عروضه عند التحلي بالشجاعة والإقدام، والجبن يلبس النفس عارًا دون القرب منه موت أحمر عند كل روح زكية, وهمة علية، ويرى الجبان وعر المذلات سهلًا، وشظف العيش في المسكنات رفهًا ونعيمًا". من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام1 وإذا جاوز الحاكم حده، طغى وبغى واستبدَّ، وباع بلاده للأجانب الطامعين، والمستعمرين الغاصبين، ونكَّلَ بالأحرار المفكرين؛ كما فعل نوبار باشا مثلًَا حين طلب إبعاد الزبير باشا من مصر، وحين حارب كثيرًا من المصلحين، وحين مكَّن للإنجليز في وادي النيل، فإن زعماء الإصلاح لا يترددون في التحريض على قتله، وتخليص الأمة منه". "وإني أتعجب، وكل ذي إحساس يتعجب، من سكان الديار المصرية من المصريين والأتراك والحجازيين واليمانيين، ألَا يوجد بين هؤلاء فتًى يشمِّر عن ساعده ويتقدم بصدره، ويخطو خطوةً إلى هذا الوزير الأرمنيّ فيبطل هذه الصفقة, وينقض هذه البيعة، ويكشف له وللمغرورين من أمثاله حقيقة الوطنية، ويرفع الحجاب عن واجبات الملية؟ لا حول ولا قوة إلّا بالله! إن المولعين بحب الحياة يقضونها من خوف العبودية في العبودية، ويتجرعون مرارات سكرات الموت في كل لحظة خوفًا من الموت, لا يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية تدفعهم إلى ما به فخار الإنسان"2.

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام, ج2 ص328. 2 مجلة العروة الوثقى, القسم الثاني, ص147.

وأنصت إلى السيد جمال الدين الأفغاني كيف يثير في النفوس الحمية، ويريدها متمردةً على الطغيان والعسف والهوان، وينعى على المصريين خورهم واستكانتهم إلى كل من يحكمهم؛ فقد روى سليم عنحوري عن السيد جمال الدين قوله: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرونٌ منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتسنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم معرضون، فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة، وتناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر, وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم ... اصحوا من سكرتكم ... عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداء1. بل كان السيد جمال الدين في غاية الجرأة يحرِّضُ على الثورة علانيةً في كلماتٍ ملتهبة تثير الهمم الخامدة، وتحيي العزائم الميتة، وتحرك العقول الجامدة، من مثل قوله من خبطة له بالإسكندرية قبيل خلع الخديو إسماعيل: "أنت أيها الفلاح المسكين, تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك"2.

_ 1 سليم عنحوري, تاريخ محمد عبده, لرشيد رضا, ج1 ص46. 2 مذكراتي في نصف قرن: أحمد شفيق, ص108.

ومن الكلمات التي تتلظى لهبًا, وتتقد غيرة وحماسة حين تصور بؤس المصريين, وكيف يسومهم حكامهم العسف والخسف, تلك الكلمة التي كتبها أديب إسحق وهو مريض بباريس, تحت عنوان: "نفثة مصدور" ويوازن فيها بين الحياة النيابية الحرة في فرنسا وحياة الاستبداد بمصر, فيقول: "وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة، بين أهل الحرية أسمع ألحانًا في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوع الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجًا بسواد القلب, فأكتب إليهم: يا قوم ظلمتم غير معذورين، وصبرتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين, فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلًا، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حليًّا، وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم: ما هؤلاء بشر, إن هم إلّا آلة سخرت للناس، يفلحون بها الأرض ويزرعون، يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون, كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون. رأيت فلاحهم في حقله الصغير, يتناول الطعام أكلًا مريئًا, وينام القيلولة نومًا هنيئًا، يأوي إلى البيت فيأكل بين عياله, ويتلو عليهم صحيفة النهار, ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم؛ لتجتمعوا على القصعة السواداء فتلتهموا فتات الشعير، وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، لتنصرفوا إلى أكواخٍ باليةٍ تشبه قبورًا توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم الصغار لا تعرف أبدانهم الوقاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالبًا، والشيخ غاضبًا، والمدير ناهبًا، فأنتم في بلاءٍ مستقرٍّ، وعناء مستمرٍّ، وتحصدون البُرَّ ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون"1.

_ 1 الدرر ص70.

بل استمع إليه يحرض على الثورة جهرةً في كلمته التي كتبها تحت عنوان: "التردد", وهو فيها لا يقل حميةً وحماسةً عن جمال الدين، ساقها في أسلوبٍ شعريٍّ يهيج العواطف, وذلك حيث يقول: "قد بليتم بما يذيب الشحم, ويفري اللحم، وينقي العظم, وأنتم صابرون؛ ومنيتم بما وفَّرَ النقم وغير النعم, وأهلك النعم وأنتم صامتون، ورزقهتم بما جلب المصاب، وهتك الحجاب، وأبرز الكعاب وأنتم خاشعون، فما الذي تخافون؟ تقولون: لا نرضى بهذ الخسف، ولا نقوى على احتمال الذل، فقد صار تاجرنا عاملًا، ونبيهنا خاملًا، وعالمنا سائلًا، فلم يبق فينا غير الأجير والتابع والشحاذ والزارع، والجندي منخفض الجانب، والشرطيّ منقطع الراتب، بل زارعنا الذي يدفن مع الحبة قوة يمينه، ويسقي الغرس بماء جبينه, نزيلٌ في دار أبيه، وغريب في أرض ذويه، يحصد مما زرع ولكن لسواه، ويجني مما غرس ولا يذوق جناه. وكأني بكم عصابة، من أهل الهمة الإصابة، ترفعون الأصوات في طلب الحق المسلوب، وتمدون الأكف لالتماس المال المنهوب، وتجعلون الأبدان للوطن سورًا يرد عنه العدو مذعورًا، وأنتم الكلمة المتحدة, والقوة المجتمعة هي أقوى من العدد الكثير إلّا أنكم تترددون. فيا حليف الصبر, ويا نضو العناء، نداء مشارك في بلواك، وسامع لنجواك، دع التردد إن أردت النجاح والنجاة، وأقدم، فرب حياةٍ تكون في طلب الموت، ورب موتٍ يجئ من طلب الحياة"1 وهي كما ترى كلمة تحمل روح جمال الدين، وتحض على الثورة علانيةً، بتنبيه المصريين لمهاوي الذلة التي تردوا فيها، وحثهم على استخلاص حقهم بالقوة من ظالميهم.

_ 1 الدرر ص72.

2- الدعوة إلى الأخذ بنظام الشورى في الحكم، حتى تشعر الأمة أن مقدراتها بيدها، وحتى تأمن جانب الحكام وعبثهم بكنوزها وأزراقها، بل مقامرتهم على استقلالها وحريتها، وحتى لا تدع للأجانب حجة يتكئون عليها في إشرافهم على الحكومة وإدارتها. وقد رأيت طرفًا مما قاله البارودي الشاعر في الشورى، وقد كانت هذه الروح التي تجلَّت في شعر البارودي قبسًا من نار مشتعلة في نفس جمال الدين الأفغاني وصحبه وحوارييه من أمثال محمد عبده وعبد الله نديم، وأديب إسحق، استمع إلى هذا الحوار بين توفيق باشا وبين جمال الدين الأفغاني, وقد طلبه للمثول بين يديه في قصر عابدين: قال توفيق: إني أحب كل المصريين، ويسرني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقيِّ والفلاح، ولكن من الأسف أن أكثر الشعب خامل جاهل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدورس والأقوال المهيجة، فيلقون بأنفسهم في تهلكة. فأجاب جمال الدين: "ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحريةٍ وإخلاصٍ: إن الشعب المصريّ كسائر الشعوب, لا يخلوا من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصريّ ينظر إليكم، وإن قبلتم نصح هذا المخلص، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى فتأمرون بإجراء انتخابات نواب الأمة, لتسن القوانين وتنفذها باسمكم وإرادتكم, يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم"2. ويقول الأستاذ الإمام الشيح محمد عبده، مبرهنًا على أن الأمة المصرية بلغت حدًّا من النضج يؤهلها لأن تتولى أمورها بنفسها.

_ 1 خطرات جمال الدين لمحمد باشا المخزومي.

"ومما تقدَّم سرده تعلم أن أهالي بلادنا المصرية دبت فيهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم على مدارك الرأي العام، وأخذوا يتنصلون من جرم الإهمال، ويتسيقظون من نومة الإغفال، وقد مرت عليهم حوادث كقطع الليل، ثم تقشَّعت عنهم فطالعوا من سماء الحق ما كحَّل عيونهم بنور الاستبصار، حتى اشرأبت مطامحهم إلى بثِّ أفكارهم فيما يصلح الشأن, ويلم الشعث, ويجمع المتفرق من الأمور؛ ليكونوا أمة متمتعة بمزاياها الحقيقية، فهم بهذا الاستعداد العظيم أهلٌ لأن يسلكوا الطريق الأقوم, طريق الشورى والتعاضد في الرأي"1. 3- محاربة الاستعمار، وإثارة الحمية الوطنية في نفوس الشعوب المستذلة التي غُلِبَتْ على أمرها, وقادها ملوكها وزعماؤها إلى الدمار والبوار، بينما العدو يتربص بهم الدوائر, فلما لاحت الفرصة انقض على الفريسة كالوحش الكاسر يوسعها نهشًا وعضًّا، حتى خرت تحت قدميه دامية الجسد، هامدة الفكرة، تنظر بعينين ملؤهما الرعب والذلة. وقف هذا الأدب يصرخ في هذه الشعوب صرخاتٍ مدويةً علها تفيق من سباتها؛ تنهض لمحاربة عدوها، وتنبه الختل والغيلة، والغدر والحيلة، وشتَّى الوسائل الزائفة التي عمد لها الطامع الجشع من وعودٍ مصيرها الخلف، ومواثيق غايتها النقض، وأيمان يتبعها الحنث، كلذلك حتى يمكِّنَ لنفسه في البلاد؛ فيمتص دماء أهلها, ويسخرهم لطاعته عبيدًا غير مأجورين, وفَعَلَةً غير مشكورين. "بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته, ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، وخصوصًا في المسلمين منهم، فملوك أنزلوا عن عورشهم جورًا، وذوو حقوق في الإمرة حُرِمُوا حقوقهم ظلمًا، وأعزَّاء باتوا أذلاء، وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصحَّاء أضحوا سقامًا، وأسود تحولت نعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلّا وقد مسَّها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصًا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها الأراضي المصرية نحو

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ج2, ص217-218.

خمس سنواتٍ بأيدي ذوي المطامع فيها، حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة؛ ليهيئوا بكل ذلك وسيلةً لنيل المطمع, فكانت الحركة العرابية, فاتخذوها ذريعةً لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب، بل طوفان المصائب على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب, ولكن أخطأ الظن وهموا بما لم ينالوا1". واستمع لهذه الفئة المصلحة اليقظة كيف تتنبه لمكايد الإنجليز وصنائعهم في مصر، وتفضح حيلهم: "نوبار باشا ساعٍ إلى أمر مهمٍّ, وهو ما ذكرناه في العدد السابق، ونشرته بعدنا جريدة "الدبّا" وسائر الجرائد الإنجليزية، وهو أن يكون ولي القاصر "عباس" بعد خلع أبيه, فينال بسطةً في السلطة، وإطلاقًا في الأمر والنهي، وعلم أن هذا وقت الفرصة لحرص الحكومة الإنجليزية على تملك مصر، وهي محتاجة في ذلك إلى من ليس له وطن ولا دين ولا جنس في مصر، فهي في شدة الاحتياج لنوبار باشا، وتوفيق باشا قبةٌ جوفاء لا يرجع منها إلّا صدى الأصوات، إن قلت: لا، فلا، أو قلت: نعم، فنعم، فهو في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه، فعلم نوبار أن خديويًّا مثل هذا, يمكن أن يكون واسطةً في تمكين الإنجليز من مصر من حيث لا يشعر، بتقديمه هذه الخدمة لهم يبني لنفسه من العزة قصرًا شاهقًا"3. واستمع كذلك إلى أديب إسحق, تلميذ جمال الدين الأفغانين, وأحد الألسنة التي أطلقها تندد بالاستعمار وحيله، وكيف ينبه المصريين إلى خداع الإنجليز، وتخديرهم المصريين بتخفيض الضرائب حتى يمدحوا أيامهم، ويوازنوا بينهم وبين حكامهم المتعسفين, فيرجحون في كفة العدالة، وقد أشارت بعض الصحف بما قدم الإنجليز من عملٍ فثارت ثائرته وقال:

_ 1 افتتاحية مجلة العروة الوثقى. 2 مجلة العروة الوثقى, ج2 ص146.

"فهل خفي عن تلك الصحف أن من شفقة الصياد على الطير إلقاءه الحب بين يديها؟ أولم تعلم أن القائل بهمجية المصريين، المعتقد بانحطاط مدراكهم، لا يطعمهم هذا الفتات إلّا ليسهل على الإنجليز هضم قوتهم والتهام ثروتهم! كلَّا! إن الجرائد المصرية لا تجهل حقيقة الأمر، ولكنها لا تستطيع التصدي، علمًا بأن اللصَّ العازم على سرقة الحقوق الوطنية يكره النور، فإذ حاولت الجرائد إظهاره سارع إلى إطفائه بتعطيلها وإلغائها. يا أهل مصر: إني محدثكم حديثًا غريبًا, إذا كان امراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياءكم, وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطانها، وإذا كان أمراؤكم شراركم, وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم, فبطن الأرض خير من ظهرها". 4- السعي في إصلاح المفاسد الاجتماعية، فالفقر الذي يذوي الشباب الغض, والإهاب النضر, ويذل النفس الأبيّة، ويطوح بالأنفة والكبرياء بعيدًا حين تصرخ المعدة الجائعة صرخةً تنهار على أثرها النفس المتجلدة, قد جثم على صدور كثير من أبناء الشرق، يكدون ويكدحون لفئةٍ قليلةٍ من الأغنياء، يبعثرون على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وهم يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسبغة والفاقة, ويتضورون من الجوع والعُري، ويتلوون من السقام والأوصاب، والجهل الذي بنى أعشاشه في رءوس الجمهرة من أبناء الشرق، وباض وفرخ وملأ الدينا خرافات وخزعبلات, يجب أن يحارب, وتفتح لأبناء الأمة مغاليق الأمور حتى يعيشوا كالأناسي. إن الفلاح المسكين كان نهبًا للمرابين والمستغلين يأكلون ظلمًا وعدوانًا ما سعى لتحصيله بكدِّ النهار وسهر الليل. استمع لعبد الله نديم يصور هذا الجهل بالحساب، ووقوع هذه الفلاح البائس في أحابيل شياطين الفرنجة من المرابين والأفاقين، وكيف يضاعفون ديونه ظلمًا، وينهبون ماله جهرًا، وهو لا يدري من الأمر شيئًا, كأنه سائمة ترعى, وقد ساق عبد الله نديم هذه المحاورة بين الفلاح

والمرابي باللغة العامية حتى يبين للفلاحين خداع هذا اللص الكبير، وسذاجة هذا الجاهل الغر "ذهب المزراع إلى المرابي ليقترض مائة جنيهٍ بفائدة قدرها عشرون في المائة، فقال المرابي: حسن! سأخصم من المائة عشرين فتستحق ثمانين، وأضيف الفائدة وقدرها عشرون فيكون الدين مائة وعشرين"، ووافق الفلاح لجهله بالحساب، وبذلك أخذ ثمانين جنيهًا ليسددها مائة وعشرين، وحين السداد جاء بكل ما أنتجته أرضه فاشتراه المرابي بأبخس الأثمان، وخرج الفلاح بعد بيع محصوله الكبير ميدينًا بمبلغ مائتي جنيه, في حين أن المرابي لو قدر المحصول كما يجب لسدد الفلاح دينه، ودفع له المرابي فوق ذلك مائة جنيه، ولكنه الجهل والغش. ويحارب المصلحون زبرج المدنية الخلاب، ولأولاءها الخداع، والفتنة التي أوقعت المصريين في شباكها، فراحوا يلتقطون في نهم بالغٍ نفايات الحضارة الأوروبية العفنة, يحسبونها تمدينًا، ونسوا دينهم وأخلاقهم الكريمة وعاداتهم الطيبة. لقد جهد المصلحون والمفكرون أن ينيروا للأمة سبيلها, ويبصروها عاقبة السير في ظلماء الجهالة، ويحثون على التعليم, بل يشيدون المدارس، ويخطبون في كل مكانٍ علَّ الأمة تستجيب لندائهم، فتمرق من شرك الجهل، وأحابيل الضلالة. ونمت في الشعوب الجاهلة التي ظلت قرونًا تخضع لسيطرة العتاة الجبارين صفات رديئة كالنفاق، والرشوة، والكذب، والخداع، والتراخي في العمل. إلى آخر هذا التثبت الشنيع من نقائص الأمم المغلوبة على أمرها، حتى ماتت فيها روح الكرامة والعزة، وكثير من المحامد التي لا تستطيع النمو في جوٍّ خانقٍ بعثير الظلم ودخانه؛ ولذلك عمد الكُتَّاب المفكرون في هذه الحقبة إلى التشنيع على هذا الرذائل وتبشيعها لدى أفراد الشعب كي يقلعوا عنها. وهكذا امتد أفق الكتابة إلى جميع الأغراض السياسية والاجتماعية، وكانت الصحف خير معوانٍ بثَّ هذه الآراء الجريئة، والإرشادات النافعة، والنصائح الثمينة التي حركت الهمم, وأثارت العزائم، ومهدت الطريق لنضج الشعوب العربية والإسلامية.

وكان بجانب هذه الأغراض السياسية والاجتماعية موضوعات أدبية بحتة، من وصف وتعزية وتهنئة، وتحدث عن الأمور المعنوية كالجمال، والعاطفة, والذوق، والسعادة, وما شاكل هذا, وقد حاول بعض الكُتَّاب أن يرشد الناس إلى ما تقتضيه صنعة الكتابة من أمور، وما تطلبه من جهود؛ كأديب إسحق، وقد بَيَّنَ في مقالاته1 شروط الكتابة السليمة وأنواعها، وكان ذلك ضروريًّا في هذه الحقبة، ويقول الشيخ خليل اليازجي في الإنشاء: "الإنشاء مَلَكَةٌ راسخةٌ في النفس, يعين عليه سلامة الذوق وطول المزاولة، والناس فيها طبقات متفاوتة, مرجعها في الأكثر إلى بداهة الخاطر وذكاء البصيرة وغزارة المادة، وله أحكام إذا راعاها المجيد نبغ فيها، وإذا راعاها الضعيف استأنس بها، فأعانته على الجري فيها"2. ومن أمثلة النثر الأدبي رسالة لعبد الله نديم يشكر صديقًا على كتاب وصله منه3: "لبيك كوكب الصبح، دام نداك، وسعد بك نسيم الصبا، طاب شذاك، وأهلًا بك يا نور النهار، ومرحبًا بك نَوْر البهار، فإني أرقت للقاء منذ سمعت بالإسراء، ومازلت أسأل عن ركبكم من منازل البدر، وأستفهم منه ركبان النجوم حتى مطلع الفجر، فالشعرى تقول: تركتهم بتلك الرحلة، وعطارد يقول: تقدمتهم بمنزلة، والمريخ يقول: أناخوا ركابهم، والمشترى يقول: أثاروا نجائبهم، والدجى تقول: ليلهم قمري، والزهر تقول: هم أولاء على أثري, وكل ذلك وأنا هائم كحاطب بليلٍ, حتى طلع على جانب السحر سهيل، فهممت بتقبيله فأبى، وارتفع عني ونبا، فأشرت له بتلطفٍ, وأنشدته بتعطف:

_ 1 مجالي الغرر ج3 ص5, وص100 من هذا الكتاب. 2 مجالي الغرر ص10 ج3. 3 سالقة النديم ص45.

سهيل انعطف وانزل بساحة مغرم ... يراك بعين طول ليلتها عبرى عسى يأخذ الأخبار منك عن الألى ... سيصلى بهم جمر الغضا ولك البشرى ومن أمثلة النثر الأدبيّ كذلك ما كتبه السيد مصطفى نجيب1 يصف الحاكي "الفوتوغراف": "مثال القوة الناطقة، من غير إرادة سابقة، يقتطف الألفاظ اقتطافًا، ويختطف الصوت اختطافًا، مطبعة الأصوات، ومرآة الكلمات، ينقل الكلام من ناحيةٍ إلى ناحيةٍ, نقل كلام عمر -رضي الله عنه- إلى سارية، وأشد من الصدى وفعله، وفي إعادة الصوت إلى أصله، كأنه الحرف في يد الطابع، والوتر في يد الضارب، والقصب من فم القاصب2، يحفظ الكلام ولا يبديه، ومتى استعدته منه يعيده، من غير أن يبقي لفظًا في صدره، أو يكتم شيئًا من أمره، كأنما حفظ الوديعة في نفسه طبيعة، فلو تقدَّم به الوجود في مرتبة الزمن لما احتجنا في الأخبار إلى عنعنة، ولا في الدعاوي إلى بينة، بل كان يسمعنا كلام السيد المسيح في المهد؛ وصوت عازر من اللحد، وكانت استودعته الفلاسفة حكمتهم، وأنشدوه كلمتهم، فرأينا غرائب اليونان، وبدائع الرومان، وربما سمعنا خطب سحبان، وشعر سيدنا حسان بذلك اللسان، وأصبح وجود الإنسان غير محدود بزمنٍ من الأزمان. لله دره من تلميذٍ يستوعب ما عند المعلم ويستخلصه في لحظة، معيدًا لقوله ناقلًا صوته ولفظه. لقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانًا قائلًا فقل نديم ليس في هفوة النديم، وسمير لا ينسب إليه تقصير، تسكته وتستعيده، وتذمه وتستجيده، وهو في كل هذه الأحوال، راضٍ بما يقال، لا يكلُّ من تحديث، ولا يمل من حديث، نمام كما ينم لك ينم عليك، وينقل لغيرك كما

_ 1 كان كاتبًا إدرايًّا بديوان الخديو، ومنه تحول إلى وزارة الداخلية، وكان أديبًا عذب النثر, سهل الشعر, وله كتاب "حماة الإسلام", توفي سنة 1899. 2 القصب: المزمار، والقاصب هو الذي يزمر فيه.

ينقل إليك، فهو المصوِّرُ لكل فنٍّ، والمتكلم بكل لغة، المحدِّث بكل لسانٍ، المؤرِّخُ لكل زمان، الشاعر الناثر، المغني العازف، لا تعجزه العبارة، ولا تجهده الإدارة، ولا يضيره اختلاف شكل، ولا تباين أصل". ومن أمثلة النثر الاجتماعي غير ما تقدَّم عرضه, قول قاسم أمين في كتابه عن "المرأة الجديدة": "إن كل تغيير يعرض على الأنظار في صورة مشروع يلتمس قبوله، ولم يكن بدأ الناس فيه من قبل، هو في الحقيقة فكر سبق أوانه وقت عرضه، ولهذا لا يفهمه ولا يقدِّره حق قدره إلّا العدد القليل، ممن يمتد نظرهم إلى ما يكنه المستقبل من الحوداث, انظر إلى حالة مصر، فقد عاشت الأمة المصرية أجيالًا في الاستعباد السياسيّ، فكانت النتيجة انحطاطًا عامًّا في جميع مظاهر حياتها: انحطاطًا في العقول، وانحطاطًات في الأخلاق، وانحطاطًا في الأعمال، وما زالت تهبط من درجة إلى أسفل منها، حتى انتهى بها الحال إلى أن تكون جسمًا ضعيفًا، عليلًا ساكنًا يعيش عيشة النبات أكثر من عيشة الحيوان، فلما تخلصت من الاستعباد، رأت نفسها أول الأمر في حيرة لا تدري معها ما تصنع بحريتها الجديدة، وكان الكل لا يفهم لهذه الكلمة معنًى, ولا يقدر لها قيمةً, وكان الناس يستخفون ويهزءون بالحرية, بل ويتألمون منها، وينسبون إليها اختلال عيشهم، وعلل نفوسهم، فكم من مرة سمعنا بآذاننا أن سبب شقاء مصر هو تمتعها بالحرية والمساواة, ثم اعتاد القوم شيئًا فشيئًا على الحرية، وبدءوا يشعرون بأن اختلال عيشهم لا يمكن أن يكون ناتجًا عنها, بل له أسباب أخرى, ثم تعلق بنفوس الكثير منا حب الحرية, حتى صاروا لا يفهمون للوجود معنًى بدونها، ولنا الأمل في أن أولادنا الذين يشبون على حب الحرية يجنون ثمراتها النفيسة التي أهمها تهيئة نفوسهم للعمل، وعند ذلك يعرفون جيدًا أن الحرية هي أساس كل عمران، وقد دلت التجربة على أن الحرية هي منبع الخير للإنسان، وأصل تربيته وأساس كماله الأدبيّ، وأن استقلال إرادة الإنسان كانت أهم عامل في نهوض الرجال، فلا يمكن إلّا مثل هذا الأثر في نفوس النساء".

ومن أمثلته النثر السياسي غير ما تقدَّم, ما كتبه الشيخ علي يوسف في المؤيد, تحت عنوان: "لا تعصب في مصر". "التعصب بالمعنى المعروف في الغرب عن الشرق، وبعبارةٍ أخرى: من المسيحيين عن المسلمين، وهو انبثاث روح العداء والبغضاء من الآخرين ضد الأولين، انبثاثًا يحمل على الاعتداء عليهم حينًا بعد حين، أو هو التوحش الذي يفتك بنفوس الأبرياء كلما ثار ثائره، فهو أشبه شيءٍ بالغول الكاسر الذي يندفع بعماية فيفترس كل ما في طريقه من نفوس البشر، وبهذا المعنى رذيلة من الرذائل التي ينهى عنها الدين الإسلاميّ، والقوانين الاجتماعية، نعوذ بالله أن ترزأ أمة بهذا البلاء العظيم. قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبًا دينيًّا، ومعنى هذا عندهم، أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهةً عمياء, ويعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية، كلما سنحت لهم فرصة, أو استفزهم صائح، ولكن كيف وفي البلاد من قديم الزمان أديانٌ مختلفةٌ يتجاور أهلوها في المنازل، ويتشاركون في المرافق، ويتنافسون في الأعمال، فلم يكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة، ولو كانت في فطرة المسلمين أو فطرة الفريقين للاشت الأكثريةُ الأقليةَ في عصورٍ مضت, وخصوصًا في عصورٍ كانت الجهالة فيها سائدة، وكان بعض الحكام من المسلمين وغيرهم, يبذورون بذور البغضاء بين الفريقين لا لخدمة دينية إسلامية، بل لأغراضٍ منشؤها الشهوات والمطامع، ولكن التواريخ تدل على أن الفريقين عاشا على الوئام والسلام في كل الظروف أو أكثرها. وقد وفد على القطر المصريّ وفودٌ من كل الطوائف المسيحية، غربية وشرقية، ومن أرمن وأروام وسوريين وفرنساويين وأرثوذكس، وغير ذلك، من علماء وتجار وصناع وعمال وهمل متشردين، فلقي الكل في مصر صدرًا رحبًا، وكان منهم الموظفون في كل مصلحة، حتى تولى نوبا باشا الأرمنيّ رياسة

النظار في مصر، وكان قائم مقام خديوي، ورئيسًا للاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية المسالمة مثل هذا التساهل الذي يرأس فيه احتفالًا دينيًّا رجل غير مسلم. وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمفتشون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي أساتذة من غير دينها تعد متعصبة، وكان التجار على ما يحبون من الرحب والسعة وحسن القبول، فضربوا في البلاد بمتاجرهم من غثٍّ وسمين، وجيدٍ ورديء, وخالص ومغشوش، حتى صارت مصر من أوسع أسواق متاجر أوربة ومعالمها التي وجدت إقبالًا من الأمة هائلًا. وهؤلاء بعض الأجانب يقيمون الأكواخ الصغيرة الحقيرة لبيع الخمور الرديئة في كل قريةٍ من قرى القطر مهما سحقت وقل عددها، أو يربون الخنازير ويثرون شيئًا فشيئًا, حتى يكون الصعلوك منهم في بضع سنواتٍ صاحب القرية ومزارعها ومداين أهليها وسيدهم، فهل هؤلاء هم المتعصبون الذين يُخْشَى من شرهم في وادي النيل على الأوربيين؟ كيف يكون عند المصريين تعصب ديني وهؤلاء بينهم تتسع معاملاتهم معهم، وكثيرًا ما تنتهي هذه المعاملات بمصادرات المدينين في أملاكهم، ولا يخطر على بال مسلم خاطر سوء من ناحيتهم، لعلمه أن دينه ينهاه عن ذلك، حيث لا تكفي القوانين النظامية في زجر النفوس المتعصبة؛ لأن للاعتداء ضروبًا شتَّى وطرقًا خفيَّةً أكثر منها ظاهرة، وهذه تعديات الأهالي على بعضهم تعد بالألوف، في حين أن تعدياتهم على غيرهم لا تكاد تذكر في جانب تعديات الأجانب على بعضهم في هذه البلاد. فكيف تعمى أعين الناظرين عن هذه الشمس المشرقة العامة بأسعتها على أرجاء القطر, ويقوم مفترون يزعمون أن في المصريين تعصبًا ثائرًا يكاد يفتك بالأوربيين لمجرد كونهم مسيحيين، أيها المدعون راقبوا الله في أمة رزئت بالإهمال في شئونها، حتى انحلَّتْ عرا الجامعة بين أفرادها، وذهبت منها ريح العصبية في كل شيءٍ, حرام عليكم مع هذا الانحلال أن تتهموها بالتعصب في أشد حالاته".

ومن هذه النماذج التي سقناها إليك هنا, وفي غير هذا الموضع, تستطيع أن تدرك إلى أيِّ حدٍّ وصل النثر الفني في هذه الحقبة التي نتحدث عنها؛ بل إنه سار إلى سبيل الكمال حثيثًا حتى يومنا هذا، لم يرجع القهقريّ منذ تكونت هذه المدرسة الإصلاحية, ومنذ أثمرت نهضة إسماعيل العلمية والأدبية، بل تراه قد زاد فنونًا، وتنوعت موضوعاته، وتعددت نظراته إلى الأشياء؛ لكثرة ما قرأ الكُتَّاب من الأدب القديم، وما اطلعوا عليه من آداب الغرب، ولهذا النثر مميزات وخصائص وطابع يعرف بها، ويختلف عما شاهدناه من الكتابة الديوانية.

مميزاته

ب- مميزاته: إذا كانت الأحداث السياسية وتقلباتها الكثيرة، والثورات العنيفة، ويقظة الشعوب الشرقية والإسلامية، قد وضعت أمام الكُتَّاب مادةً خصبةً غزيرةً، وجعلتهم يخوضون في شتَّى الموضوعات؟ وإذا كانت الحال الاجتماعية، وما عليه الناس من فقرٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ قد دعت زعماء الإصلاح الاجتماعي إلى تشخيص الداء ووصف الدواء، وحَثّ الهمم على التخلص من تلك الرذائل, فإن ثمة عوامل أخرى نهضت بالنثر من حيث أسلوبه وألفاظه، وقد مر بنا ما قدمته حكومة إسماعيل للنهضة الأدبية من وسائل: كالمدارس والمكتبات العامة، وانتشار الصحف، وتشجيع المطابع على إيحاء تراث الآباء والأجداد، والقيام بترجمة شيء من أدب الغرب، وقد أضفى كل هذا على النثر طابعًا خاصًّا، فخلصه في الغالب من المحسنات البديعية التي كانت شائعةً في الكتابة الديوانية, وصرف الأدباء همهم إلى العناية بالمعاني لا إلى الألفاظ، اللهم إلّا في الموضوعات الأدبية البحتة، وخلا النثر من المبالغات الممجوجة, والأخيلة السخيفة، وانصرف عن المقدمات الطويلة التي كثيرًا ما تستهلك جهد الكاتب والقارئ جميعًا دون بلوغ الغرض الذي سيق له الكلام. وكان من أثر هذا كذلك تغير طريقة الكتابة تبعًا لتغير طريقة التفكير: من تقصير الجمل، وفصل العبارات، وحبس كل واحدة منها على أداء معنًى واحد، واعتماد لون طريف في ترتيب الكلام وتبويبه، وسوق المقال في الغالب لأداء فكرة واحدة، واستحداث صيغ جديدة لأداء معانٍ جديدةٍ، والتجويز بكثير من المفردات لإصابة ما لا تطوله بأصل الوضع اللغوي. ولقد رأيت من النماذج التي سقناها إليك أن موضوع هذا النثر، اجتماع، أو سياسة, أو أدب، ولقد تميز كل نوع من هذه الموضوعات بسماتٍ عامَّةٍ اقتضاها روح الموضوع وطريقة علاجه.

أنواعه

أنواعه: 1- فالنثر الاجتماعي يتطلب صحة العبارة، وبالضرورة البعد عن الزخرف والزينة، ووضوح الجمل، وترك المبالغات, وسلامة الحجج, وإجراءها على حكم المنطق الصحيح؛ لأن الغرض منه معالجة الأمر الواقع، فلا ينبغي استعمال أقيسة الشعرية، ولا الخيال المجنح، اللهم إلّا في المقامات التي تقتضي استفزاز الجماهير، وإثارة عواطفهم، وتحميسها للإقلاع عن خلةٍ فاسدةٍ، أو التظاهر على الاضطلاع بنفعٍ عامٍّ، على أن يكون ذلك بقدر، فإن الأغراض الاجتماعية إنما تجري في حدود الحقائق الواقعة على كل حال. وقد رأيت أن هذا النوع من النثر قد خلا من السجع المتكلف؛ لأن الاهتمام باقتناص السجعة قد يفوت على الكاتب الغرض الذي يرمي إليه، وقد يذهب بالمعنى في سبيل سجعة متكلفة، بل حمل بعض الكتاب في هذا العصر على هذا السجع, فقال أديب إسحاق -مع أنه كان ممن يسجعون كثيرًا, وممن يحتفي بأسلوبه لأنه كان أديبًا بطبعه. "ولم يدخل هذ السجع كلام القدماء في الجاهلية وصدر الإسلام إلّا ما كان منه عفو القريحة، فواصل غير مقفاة، أو ما يعزى إلى الكهان والمشعوذينن مما يراد به الإيهام والإبهام، فلما استولت العجمة على الألسن، وضعفت قوة الاختراع في الأذهان, سرى داؤه في المكاتبة إلى هذا العهد، فعدل الكتاب عن الكلام

الفحل, واللفظ الساذج, والأسلوب الطبيعي, إلى هذه الأسجاع الملفقة البالية، يتناقلونها خلفًا عن السلف، ويطيلون بها الكلام بلا طائلٍ سترًا لقصورهم في ابتداء المعاني، وإيضاح وقائع الحال من طريق البلاغة والإيجاز"1. والانصراف عن السجع والزخرف في هذ النوع من النثر بدهي؛ لأن الفكر منصرف إلى تفتيق المعاني، وسوق الحجج، وضرب الأمثلة لا إلى الجري وراء كلمة أو سجعة. 2- النثر السياسي أو الصحفي، ويمتاز بالسهولة والوضوح؛ بحيث يكون معناه في ظاهر لفظه؛ لأن الصحف تخاطب الجماهير، ويقرؤها الخاصة والعامة، وتتحدث إلى الجهال كما تتحدث إلى المتعلمين, هذا إلى أن قراءها إنما يبغونها للساعة، فلا محل للارتفاع بعبارتها, والتعمق في معانيها, مما يقتضي من القارئ كَدَّ الذهن، وإرهاق العصب. وإذا كان النثر الاجتماعي ينبغي أن يجري الاحتجاج فيه على الأقيسة المنطقية؛ لأنه يعتمد على القضايا العلمية والحقائق الواقعة، فإن النثر الصحفي لا يلتزم فيه ذلك، بل يلجأ إلى الأدلة الخطابية؛ لأنها أنفقذ في إقناع الجماهير من سواها؛ إذ تقوم النزعات السياسية في الغالب على الفروض والاعتبارات والميول الوجدانية أكثر مما تقوم على الحقائق العلمية. وليس في هذا النثر احتفاءٌ بالأسلوب، أو تخيرٌ للألفاظ، أو جنوحٌ إلى الخيال، أو تعمقٌ في المعنى, وإنما هو التصوير السريع، وليس فيه تحقيقٌ للغرض المقصود بها؛ من تعلم العلم, وترقية الآداب، ولا يقبل على قراءة مثل هذه المجلات إلّا المتعلمون. 3- النثر الأدبي، وهو أشد أنواع النثر حاجة غلى تخير اللفظ، والتأنق في النظم، حتى يخرج الكلام مشرقًا منيرًا، لطيف الموقع في النفوس، حلوة النبرة في الآذان؛ لأن للموسيقى اللفظية أثرًا كبيرًا في الأذهان، وهو أدنى أنواع النثر إلى

_ 1 مجالي الغرر ص8 ج3.

الشعر؛ ولهذا لا ينكر منه البديع، على ألّا يكون من الكثرة بحيث يستهلك ذهن القارئ, وبحيث لا يستكره على النظم استكراهًا، ولا تساق الجملة لمجرد اصطياده، بل إن خيره ما جاء عفوًا. ويقضي التأنق في اللفظ، جودة السبك، وتفتيق المعاني، معرفةً بأسرار اللغة، ووفرة محصولٍ من المفردات، وخبرةً بالكلام الجيد، واستظهار كثير من المنثور والمنظوم، هذا إلى طبيعة مواتية، وحسٍّ مرهفٍ، وذوقٍ، وفطنةٍ إلى مواطن الجمال. وعلينا بعد أن سقنا إليك أمثلة من أنواع النثر، وعرفناك بخصائصه ومميزاته، أن نطلعك على سير موجزة لأعلام البيان في هذا العصر، وما برز منهم غير هؤلاء الذين ترجمنا لهم آنفًا؛ أمثال: الشدياق وأديب إسحق.

جمال الدين الأفغاني

1- جمال الدين الأفغاني: وإذا أردت أن تقف على الروح التي تكمن من وراء هذا الأديب الحيّ، والتي بعثت في الشرق الإسلاميِّ كله حيويةً دافقةً، وهزته هزةً عنيفةً أيقظته من نومه الطويل، وعرَّفته كيف يطلب حقه من الأقوياء العتاة، وكيف يدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت في السيد جمال الدين الأفغاني: من يدين له الشرق الإسلاميّ بيقظته القومية والفكرية في العصر الحديث. رجل فرد، استطاع بما أوتي من عزيمةٍ جبارةٍ تنهار أمامها العروش, وتزلزل الممالك، وتتقوض الحصون، وبما أوتي من فكرٍ نيِّرٍ مشرقٍ ملهمٍ, ينقشع أمام ضوئه الوهاج حندس الجهل وغياهب الظلم، وبما أوتي من لسان ذرب طلق، حادٍّ مطواع، يدفعه شعورٌ متقدٌ، وعاطفةٌ متأججةٌ، وإحساسٌ مرهفٌ، وحماسةٌ عارمةٌ, فيلهب بهذا اللسان، وذاك الشعور كل ما ينصت إليه، فيحيل البليد نشيطًا، والجبان جريئًا، والخامل مقدمًا؛ استطاع هذا الرجل وحده بهذه القوة أن يخلق قادةً وزعماء، وأن يكوّن جيلًا من الناس يسيرون بأممهم إلى حيث أمل السيد وصوب، فكان بعمله أقوى من الحكومات القومية الفتية.

وهكذا يأبى الله إلّا أن يضرب للناس أمثلةً على بالغ قدرته، وعظيم إعجازه في كل جيل, وقد مَرَّ بك ما قاله الشيخ محمد عبده عن حالة مصر قبل أن يهبط واديها جمال الدين، وكيف أن بعثات محمد علي وإصلاحاته ونشاط إسماعيل وتقديراته، واطلاع بعض شباب مصر وشيوخها على حضارات الأمم الأوربية وغيرها لم يؤت ثمره، ولم يبعث في الأمة هذه الروح المتوثبة، ولم يحرك خامد العزائم، وينصب المثل العليا أمام الشعوب تهدف إليها في سيرها, وتحث الخطى نحوها، وإنما وجد ذلك كله على يد جمال الدين، فأي رجل كان هو؟ شعلة متقدة من الذكاء، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة, شديد الرغبة في الإصلاح، وإنهاض الأمم الإسلامية، وتحطيم الأغلال والقيود التي جعلتها في مسغبةٍ ومذلةٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ، كان ثورةً عنيفةً على الظلم، والطغيان والجبروت؛ قابله السلطان عبد الحميد الطاغية في "يلدز" فطلب منه أن يكف عن هجماته على شاه العجم، فال السيد: "إني لأجلك قد عفوت عنه"، فيرتاع السلطان لهذه الكلمة الجريئة، عفا "السيد" عن الشاه ذي الحول والسلطان، أجل؟ فالسيد أقوى منه بأسًا, وأعظم قدرًا, وأقدر على النكاية، إنه حربٌ شعواء تطوح بالتيجان, تدك العروش. ويجلس جمال الدين بحضرة عبد الحميد، وهو يداعب مسبحته غير حافلٍ بمن تعودت الأبصار أن تخشع في مجلسه، وتطأطئ الرءوس فرقًا ورعبًا منه, ونبهه إلى هذا كبيرٌ من رجال الحاشية بعد مغادرة عبد الحميد للمجلس, فقال له: "إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء؟ " فيرتاع الرجل، ويهرب من سماعه هذه الكلمة التي لا يجرؤ أي إنسان أن يرفع بمثلها, أو بما هو أقل منها صوتًا في البلاد الإسلامية.

وُلِدَ السيد جمال الدين في قرية "أسعد أباد" من قرى "كندر"1 ببلاد الأفغان, سنة 12454هـ-1839م, من أسرةٍ شريفةٍ تنتسب إلى الإمام الترمذي المحدث المشهور، وترتقي إلى الإمام الحسين بن علي -رضي الله عنهما، وانتقل به والده إلى "كابل" وهناك تلقى تعليمه، فدرس مبادئ العلوم العربية والتاريخ، وعلوم الشريعة، والعلوم العقلية؛ من منطق, وحكمة عقلية سياسية، وفلسفة، وكذلك العلوم الرياضية؛ من حساب, وجبر, وهندسة, وفلك، ودرس نظريات الطب والتشريح، ثم سافر إلى الهند، وهو في الثامنة عشرة من عمره، واطَّلَع على علوم الرياضة في الطرق الحديثة، وقَدِمَ الحجاز للحج، وقضى في رحلته إلى مكة سنة، فأفادته الرحلة خبرةً بالشعوب الإسلامية، وأحوالها الاجتماعية، ثم رجع إلى بلاده، واشترك في مؤامرة سياسيةٍ مكنت بعض الأمراء من التغلب على عرش الأفغان، فعظمت مكانته لدى هذا الأمير، ولكن عصفت الأحداث بأميره هذا، وحاول خلفه الانتقام من السيد جمال الدين، ففطن لمكايده, وغادر بلاده إلى الهند فمصر، ومكث بمصر أربعين يومًا، ومن ثَمَّ يمم نحو الآستانة, فذاع صيته بها، وعلت مكانته, حتى انتخب بعد مدة وجيزة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، ولكن آراءه الإصلاحية الجريئة، وأفكاره الحرة التي لم يألفها الناس في عصره, بعثت في نفوس رجال عبد الحميد الهلع، وتألب عليه كثير من علية القوم، ولا سيما شيخ الإسلام، فجاءه الأمر بمغادرة البلاد خشية أن يشعل في عرش عبد الحميد الحريق. فقدم السيد جمال الدين مصر، ودخلها في مارس سنة 1871، ومكث بها ثماني سنوات, كانت خير السنين بركةً على مصر وعلى الشرق العربي والإسلامي، فقد حاول جمال الدين من قبل أن يغرس تعاليمه, وينفخ في الشعوب الشرقية من روحه؛ ولكن وجد أرضًا مجدبة، وشعوبًا ميتة لم تسمع لندائه, وما أن نزل مصر حتى فتحت له ذارعيها، وحببت له الإقامة به، والتف حوله لفيف من

_ 1 هكذا روى جمال الدين عن ولادته، أما الفرس: فيدَّعون أنه وُلِدَ بالقرب من حمدان بإيران, ويرجع تفضيله الانتسباب إلى الأفغان، كما يقول الأستاذ بروان "الثورة الفارسية ص 402. هامش" إلى أن جمال الدين كان سنيًّا عربيًّا, وأنه أراد الهروب من الجنسية الفارسية الشيعية التي كان يشك في قيمتها.

أبنائها، من كل تواق للحرية، محب للعلم, حريص على نفع وطنه وإنهاض قومه، وتجاوبت روحهم وروحه, ووجدوا فيه المعلم الفَذّ, والمفكر الجريء, وصاحب العقل المستقيم، ووجد فيهم بررة، وعقولًا خصبة، ونفوسًا تتحرق شوقًا للحرية والعدل. كانت هذه السنوات الثمان مليئةً بالأحداث، فقد غرقت مصر في ديونها التي اقترضها إسماعيل، وبدت مطامع إنجلترا وفرنسا جليّة، فأنشىء صندوق الدَّيْنِ, وفرضت الرقابة الثنائية, واستحالت هذه الرقابة إلى مشاركةٍ في الحكم، إذ دخل وزارة نوبار باشا وزيران أوربيان؛ أحدهما فرنسيّ, والآخر إنجليزيّ، يشرف الفرنسيّ على وزارة الأشغال, ويشرف الإنجليزي على وزارة المال1، وأيُّ احتلال أبشع من هذا؟ إن الذي يصرف المال قوَّام على شئون الدول، ومن يتولى الأشغال مهيمن على تقدم الأمة، فكان عجبًا ألا ينغمس السيد جمال الدين في السياسة من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، وهو الذي حاول من قبل أن يثل عرشًا، وينصب ملكًا، ويصلح من شئون عبد الحميد المستبد الطاغية. جاء جمال الدين مصر وهذه ظروفها، ووجد من إسماعيل صدرًا رحبًا؛ لأنه رأى فيه العالم المشهور بفلسفته وعلمه، فوجوده بمصر ربحٌ لا يقدر، وهو في نظره أجل وأنفع من بعض المعاهد العلمية التي أنشأها؛ لأنه معهدٌ حيٌّ حنَّكَتُه التجارب, وأنضجته الحوادث، ولم يكن السيد قد عُرِفَ بآرائه السياسية المتطرفة, بل غلبت عليه الصبغة العلمية، ولم يكن إسماعيل يخشى على حكمه أحدًا، وهو الحاكم الذي لا يرجع في حكم، والذي يتصرف في أقدار البلاد دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس الشوى آلةً مطواعةً في يده، لا يجهر باعتراضٍ، أو يجرؤ على مخالفة، ثم إن إسماعيل كان يتحدَّى الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ويتوق جهده إلى الاستقلال بأمر مصر، وقد رأى أن الآستانة قد ضاقت رحابها بالسيد جمال الدين, وخافت من آرائه وتعاليمه، فلتبرهن مصر على أنها أقوى من تركيا وأكرم نفسًا، وأقدر على هضم آراء جمال الدين من أي بلد في الشرق، ولم يكتف إسماعيل بهذا الترحاب, بل أجرى على السيد راتبًا شهريًّا زيادةً في إكرامه.

_ 1 عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي ج2 ص90.

وأخذ هذا العقل المنظم الجبار يشع النور في كل مكان يحله صاحبه، فدروس منظمة يلقيها في بيته على صفوة مختارة من حوارييه, أمثال: محمد عبده, وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، وكانوا جميعًا طلبةً بالأزهر حينذاك، وكانت هذه الدروس: منطقًا وفلسفةً وتصوفًا وهيئةً، مثل كتاب "الزوراء" في التصوف, و"شرح القطب على الشمسية" في المنطق، و"الهداية" و"الإشارات" و"حكمة العين"، و"حكمة الإشراق" في الفلسفة، و"تذكرة الطوسي" في علم الهيئة القديمة، وهي كتب تمثل علمًا قديمًا دوَّنَها أربابها في العصور الأولى للدولة العربية، ولكن الروح التي درس بها جمال الدين هذه الكتب، والطريقة التي عرض بها هذه المباحث، والتعليقات التي كان يفيض بها عقب كل مقالة أو بحث، والاستطرادات التي تدعو إليها مقتضيات العصر وظروفه, هي التي حبَّبَت هذه الدورس وتلك الكتب لهؤلاء التلاميذ الأذكياء، وجعلت من دروس جمال الدين نبعًا صافيًا يغترف منه الطلبة علمًا وفلسفةً، ووطنيةً واجتماعيةً وحججًا قويةً لرد المارقين عن جادَّة الدين، ووجدوا فيه شخصية لا تترد في إصدار الأحكام العامة على القضايا المعروضة. وبجانب هذه الدورس المنظمة, كان للسيد مجلس آخر بأحد المقاهي القريبة من حديقة الأزبكية، حيث يلتف حوله أنماط شتَّى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، ويجلسون إليه, ويطرحون عليه أسئلة في مختلف الموضوعات، وهو يجيب إجابات العالم المحقق "لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة, مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة, والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستقيظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطرافٍ متعددةٍ من البلاد, خصوصًا في القاهرة1".

_ 1 من ترجمة الإمام الشيخ محمد عبده, له.

وفي هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحًا مشعةً تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة، وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبد السلام مويلحي, وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحق، وغيرهم, وفي هذه المدرسة العامة استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وأدواؤها ودواؤها، وانتقدت الحكام، وبثت التعاليم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شئون البلاد, مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد. كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه أخصاء تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئًا على عصاه إلى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيماوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء من الليل. ولم يكتف جمال الدين بهذه المدرسة العامة, ولا بالدورس الخاصة، بل حاول أن يسيطر على الحياة السياسية، فانضم إلى جماعة "الماسون" وبها الطبقة الممتازة من أبناء الأمة؛ لعله يسيتطيع أن يريهم النور، ويبصرهم حقيقة ما هم فيه، وما عليه بلادهم, وكيف يتسطيعون نفعها بمالهم وجاههم؛ ولكن وجد المحفل الماسوني يأبى أن يقتحم ميدان السياسية، ويتعرض للمسائل العامة، والقضايا الهامة، فثارت ثائرته, وأخذ ينقد اعضاءه نقدًا لاذعًا، ويتهكم بهذه الكلمات الجوفاء التي اتخذوها لهم شعارًا مثل: "الحرية والمساواة ومنفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق" فكيف تتحقق معاني هذه الكلمات إذا لم يشغل المحفل "الماسوني" بالسياسة، ولما أخفق في بعث هذه النار في نفوسهم الميتة استقال، وكوَّن محفلًا آخر للشرق الفرنسيّ، وأخذ الأعضاء يزيدون حتى بلغ عدد ثلاثمائة عضو من نخبة الفكرين، ونظمهم شعبًا مختلفة: فشعبة للعدل، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجيش، وهكذا، حتى تدرس أحوال البلاد جميعها, وتعرف وجوه النقص، وما يتطلبه الإصلاح من أعمال.

وبذلك أراد جمال الدين أن يسيطر على عقول العلماء في بيته، على أفئدة المتعلمة غنيها وفقيرها بآرائه وتعاليمه، ويدفعها في الطريق التي رسمها. أثره بمصر: 1- أراد في درسه النظاميّ أن يعوّدَ الطلبة حرية البحث، ويطلعهم على آفاقٍ جديدةٍ من التفكير وفهم العالم، وأن يُوجِدَ شخصياتٍ تبحث وتنقد وتحكم، وألَّا تقف عند حدّ هذا النص بعد ذلك، فإذا هو واضح كل الوضوح, وعلى العكس من ذلك كانت طريقة الشيخ محمد عبده، إذ كان يقرأ النص أولًا، ثم يعلق عليه بعد ذلك. 2- وأراد في مدرسته العامة أن يعلِّمَ الشعب كيف يسترد حرتيه المفقودة وكرامته المهدرة، وكيف يحاسب حكامه حسابًا عسيرًا على تصرافاتهم، وكيف يتنبه إلى دسائس المستعمرين الجشعين ونواياهم، وكيف يعيش هذا الشعب عيشةً تليق بالأناسي. 3- وأراد في ميدان السياسة أن يغيِّرَ هذا الحكم المطلق الذي يستبد فيه الحاكم بأمته ويستهين بشعبه، ويتصرف في أموالهم وأرواحهم تصرُّفَ السيد في حر ماله وعبده، وأراد أن يشترك الشعب في حكم نفسه بنفسه، وأن ينوب عنه ممثلون نيابيون يَرْعَوْنَ مصالحه, ويسهرون على إسعاده. وقد كان له في السياسة كذلك مقصدٌ أسمى من هذا، وعنه عَبَّرَ الشيخ محمد عبده بقوله: "إنه كان يسعى لإنهاض إحدى الدول الإسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام بشئونها، حتى تلحق بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه, وللدين الحنيف مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنجليز شئون يطول بيانها1".

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام, ج1 ص34.

4- وقد استعان على تحقيق هذه الأهداف -وإن لم تتحقق كلها, ولا سيما السياسية منها- بتكوين جماعةٍ من الكهول والشبان حبب إليهم الكتابة، ورسم لهم خطتها، وأوحى لهم بالمعاني الجديدة التي يكتبون فيها, وشجعهم على إنشاء الجرائد، ويكتب فيها بنفسه, ويطلب إلى من يتوسم فيه المقدرة والمنفعة أن يكتب فيها، ومن مقالاته في جرائد أديب إسحاق, ما كان يوقعه باسم "مظهر بن وضاح". وطلب إلى الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني وغيرهما أن يشتركا في تحرير جريدة "التجارة" التي أنشأها أديب إسحق، وفي هذه الجريدة كتب السيد جمال الدين مقالين؛ أحدهما: "الحكومات الشرقية وأنواعها", والثاني بعنوان: "روح البيان في الإنجليز والأفغان"، وكان لهذين المقالين صدًى بعيد، ولكن جريدتي أديب إسحق "مصر والتجارة" ضايقتا رياض باشا بروحهما الجديدة وأسلوبهما الملتهب، وأفكارهما الجريئة, فأغقلهما كما مر بنا1. وقد تدخل كذلك في تحرير "الوقائع المصرية"، وطلب إلى الكُتَّاب أن يدبجوا مقالاتهم في موضوعات معينة تمس حياة الأمة في صميمها، فيقول الشيخ محمد عبده: "إن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، ولا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته إلّا نصح الأمة له بالقول والفعل". وتراه يحرض الصفحيّ اليهوديّ "يعقوب بن صنوع" على إصدار جريدته التهكمية "أبي نضارة" ويشجعه على الاستمرار في النقد الذي يلدغ به إسماعيل. وقد كان لهذه المقالات أثران؛ أحدهما: تنبيه الأذهان إلى المسائل الحيوية, وتعويد الناس الجرأة على الحكام, ومطالبتهم بالنصفة والعدل، وتبيان مكايد الأجانب وجشعهم، وثانيهما: تكوين جيل من الكُتَّابِ متمكن من اللغة, قدير على الإسهاب وشرح المعضلات, من غير لجوءٍ إلى المحسنات والزخارف، وخبير بتفتيق المعاني وتوليد الأفكار، متحرر من السخافات والجمود، ومتبعًا في ذلك سنن أستاذه جمال الدين الذي يقول عنه الشيخ محمد عبده: "له سلطة على دقائق

_ 1 راجع ص92 من هذا الكتاب.

المعاني وتحديدها وإبرازها في الصورة اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها, كل مضوع يُلْقَى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صُنْعُ يديه, فيأتي على أطرافه, ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع". ويقول في موضع آخر: "كان أرباب العلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف إلّا عبد الله باشا فكري، وخيري باشا، محمد باشا سيد أحمد -على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على تخصص فيه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شكالها، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري، لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلّا أخذ عنه, أو عن أحد تلاميذه, أو قَلَّدَ المتصلين به". وقد مر بك ما تميز به أسلوب هذا النثر في موضوعات الثلاثة: الاجتماع، والأدب، والسياسة. جمال الدين والثورة: لم يكن جمال الدين على وفاقٍ مع إسماعيل في أخريات أيامه، بل كان ناقمًا عليه لاستبداده وإسرافه، وتمكينه بسياسته للأجانب في البلاد، وكان يتوهم الخير في توفيق؛ إذ كان يجتمع به وهو وليٌّ للعهد، ويرى ميله للأخذ بنظام الشورى، ونقده لسياسة أبيه وإسرافه، وقد اجتمعا في محفل الماسونية، وتعاهدا على إقامة النظام النيابي.

يد أن توفيقًا لم يف بعهدٍ بعد أن تولى الحكم، وسرعان ما تنكر لمبادئه ولأصدقائه, فلم يدخل نظام الشورى، ولم يحسن معاملة السيد جمال الدين الأفغاني، بل استمع لأقوال الوشاة من الإنجليز وسواهم؛ إذ حرضوه على إخراجه من مصر1 فاستجاب لهم، ولم يكن كريمًا في معاملة هذا العبقريّ الشريف, بل استعمل معه غاية الغلظة والقسوة والجفاف، فسيق إلى دار الشرطة بليلٍ بعد انصرافه من مقهاه بغير غطاء أو فراش، وبات ليلته كما يبيت اللص الأفَّاق على أرض المخفر، ثم هرب إلى السيوس حيث رحلت به سفينة إلى الهند، وهكذا حرمت مصر مصدر خير كبير لها، وجازت هذا النابغة على فضله جحودًا وجفوة. ومن العجيب أن يضم مجلس الوزارء الذي أصدر أمره بنفيه بحجة أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعةً على فساد الدين والدنيا" اثنين أعجب بهما وتوسم فيهما الخير: توفيق باشا، والبارودي، وكان ألمه بالغًا غايته للنكسة التي أصابت البارودي، وقد كان يؤمِّلُ فيه كل خير، ويعده ليومٍ عصيبٍ في تاريخ مصر، وقد ظلت هذه الآلام تَحِزُّ في نفسه حتى آخريات حياته, فقد زاره الأمير شكيب أرسلان وهو بالآستانة، ويدور الحديث حول ما روى من أن العرب عبروا المحيط الأطلسي قديمًا, وكشفوا أمريكا بدليل الأهرام الموجودة ببلاد المكسيك، فيقول السيد: "إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه: إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعشاوا في خيال ما فعل آباءهم، غير مفكرين بأن مكان عليه أباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من خمولٍ وضعةٍ، إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان أباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالًا، ولكنكم أنتم أولاد كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلّا أن تفعلوا فعلهم؛ إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم، وهذا محمود سامي الباودي عاهدني ثم نكث معي, وهو أفضل من عرفت من المسلمين".

_ 1 المنار ج8 ص 404 وانظر كذلك The persian: F.G. Browne p.8 وتاريخ الإمام ج1 ص70.

والحق أن موقف البارودي من السيد جمال الدين لا يمكن الدفاع عنه، وإذا كانت مصر قد حرمت شخص جمال الدين, فقد ظلَّت تعاليمه وروحه الثورية مشتعلة، قد انتقل منها قبس إلى كل من اتصل به، يتطلعون إلى نظامٍ جديدٍ في الحكم, حتى قامت الثورة العرابية، وكثير من أقطابها مدينون بأفكارهم وحماستهم للسيد جمال الدين. أقام السيد جمال الدين بحيدر أباد بعد أن خرج من مصر، وهناك ألَّفَ كتابه في الرد على الدهريين، وفيه يثبت أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران، ويبطل فيه مذهب "داروين" في النشوء والارتقاء؛ لأن هذا المذهب قد أثار موجةً من الإلحاد والزندقة كادت تودي بالحياة الروحية بالشرق, وهي كل ما بقي له من تراث السلف، بعد أن نال منه الدهر غايته، وبَيَّنَ في هذه الرسالة كذلك, أن الدين أكسب عقول البشر ثلاث عقائد, وأودع نفوسهم ثلاث خصال؛ كلٌّ منها ركن لوجود الأمم, أما العقائد: فالأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضيّ وأنه أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم, وكل مخالف له فعلى ضلالٍ وباطلٍ، والثالثة: يقينه بأن الإنسان جاء إلى الدنيا كي يكْمُلَ كمالًا يهيئه للعروج إلى عالمٍ أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، وأما الخصال الثلاث: فهي الحياء والأمانة والصدق. ويبين أن الإسلام يتميز على غيره من الأديان بمزايا عديدة؛ منها: صقل العقول بالتوحيد, وتطهيرها من لوثة الأوهام، ومخاطبة العقول حتى تؤمن, فلا يقبل الاعتقاد بدون دليل، وحرصه على تعليم الأمة ذكورًا وإناثًا. ولما أخفقت الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر, أبيح له أن يذهب أنَّى شاء في غير بلاد الشرق فاختار أوربا، وزار لندن, ثم انتقل إلى باريس، ووافاه إليها تلميذه الأكبر محمد عبده، وكان منفيًّا ببيروت, وهناك أصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى".

جريدة العروة الوثقى: وهي دليلٌ أخر على أن عزيمة السيد لا تفتر، وعلى أن اليأس لم يبلغ في نفسه مبلغًا يثنيه عن أداء رسالته، وقد كان من رأي الشيخ محمد عبده أن هذا الجيل من المسلمين، الذين يدعونه للرشاد واليقظة جيلٌ فاسدٌ ولا رجاء فيه، وأن الأولى أن تنشأ مدرسة يُربَّى بها عددٌ محدودٌ من خيار الشباب يقودون الأمة فيما بعد لما فيه خيرها ونفعها، ولكن هذه الفكرة لم ترق للسيد، ورأى فيها تثبيطًا للهمم، وكأني به يتعجل قطف الثمرة لههذه الغراس التي أودعها المتصلين به، وأصَرَّ على أن يوجِّه الدعوة إلى الجيل الحاضر من الناس في صورة جريدة "العروة الوثقى"، يكون له فيها الفكر المدبِّر والعقل المسيطر، وللشيخ محمد عبده القلم المحرر واللسان المعبر، ولميرزا محمد باقر الترجمة من الصحف الأوربية، ونقل كل ما يهم إلى الشرق والإسلام1, وصدر من الجريدة ثمانية عشر عددًا، وكان شعلةً ملتهبةً متوجهةً من الحماسة والآراء الحرة الجريئة، وكانت حربًا شنَّهَا جمال الدين وزميلاه على الاستعمار الجشع، وكان طبيعيًّا أن يحاربها الاستعمار خشية أن تفسد عليه تفرده بالغنيمة, وقتله الشعوب التي وقعت في قبضته، فمنعها من دخول الهند ومصر2. ولما شعر السيد وزميلاه أن الأعداد لا تصل إلى أصحابها إلّا في النادر، وأنه قد حيل بينهم وبين وصول صوتهم إلى آذان الناس في مصر والشرق عطلوها، وإن لم يمت أثرها حتى اليوم. عود إلى الرحلة: لما عطلت الجريدة، وانفرط عقد هذه الجماعة الصغيرة المجاهدة، ورجع الشيخ محمد عبده وميزرا باقر إلى بيروت، وطلب شاه العجم السيد جمال الدين فلَبَّى دعوته علَّه يجد ميدانًا صالحًا للجهاد، وأرضًا خصبةً لغرس تعاليمه، ومَلِكًا شهمًا مستنيرًا ينفذ آراءه, فيكون هو الأمل المنشود، ولكن هيهات وملوك ذاك الزمان ما ألفوا أن يشاركهم في سلطانهم أن جاههم أحدٌ، ولذلك سئم الشاه "نصر الدين" صحبة السيد، ودبت في نفسه الغيرة منه، ولما أحسَّ جمال الدين أنه أخذ

_ 1 تاريخ الإسلام ج2 ص229، والمنارج8 ص255. 2 المنار ج8 ص 462, مشاهير ج2 ص57.

يتنكر له, استأذن في الرحيل، ويَمَّمَ صوب روسيا، حيث قضى بها ثلاث سنوات, يحرك روسيا ضد إنجلترا، ويشن هجمات متتالية شديدة على شاه الفرس كي يقر النظام الشوري، ولما سأله القيصر عن سبب عدواته للشاه, أجاب بأنه نظام الشورى الذي لا يرضيه، والذي لا أنفك أدعو إليه ما حييت، فقال القيصر: إن الشاه على حق، فكيف يرضى مَلِكٌ أن يتحكم فيه فلاحو مملكته، فقال السيد: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خيرٌ للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص، فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وكان من الطبيعيّ ألَّا يعجبه وهو المستبد الذي لا ينازعه سلطته منازع، ولذلك عمل على إبعاده من روسيا1. ومن ثَمَّ توجه السيد إلى باريس، وفي طريقه إليها تقابل مع الشاه مرةً ثانيةً واعتذر للسيد عما حدث، ووعده أن يمهد له طريق الإصلاح إن هو عاد معه، وتمنَّع السيد جمال الدين، ولكن رغبته في الإصلاح وحرصه عليه جعلته يقبل الرجوع إلى طهران، وفيها أخذ يُعِدُّ العدة للإصلاح وإقامة العدل، هو ومن التفَّ حوله من العلماء والعظماء، والشاه يظهر استعداده لتقبل هذا الإصلاح، ولكن الصدر الأعظم في تركيا خشي إن تمكن نظام الشورى في فارس أن تسري عدواه، فوسوس للشاه، ونفَّرَه من هذا الإصلاح بدعوى أن ذلك يحد من سلطانه، ويتركه إمعةً لا رأي له في بلده، فتجهم للسيد جمال الدين، ولكن هذا لجأ إلى ضريح وليٍّ في بلاده "شاه عبد العظيم" وهو حرمٌ من دخله كان آمنًا، ووافاه جم غفير من العلماء والزعماء ولقنهم دعوته، وملأ قلوبهم إحنًا وبغضًا للشاه ونظامه، فاغتاظ هذا, وأرسل جنده إليه، واقتحموا عليه الضريح غير مبالين بحرمته، ولا بمرض السيد، وفي ذلٍّ يقول: "سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوانٍ وصغار وفضيحةٍ لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة ... ثم حملتني زبانية الشاه وأنا مريض -على برذون، مسلسلًا، في فصل الشتاء, وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية, وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين" ومنها سافر إلى البصرة, وهو في أشد حالات المرض، وكاد يقضى عليه لولا رحمة الله به2.

_ 1 The Persian Revolution, p.LL.70. 2 Persian Revolution.p11. وتاريخ الإمام ج1 ص55.

ولكن هذا المكافح أبى أن يتقبل هذه الإهانة, وأقسم ألّا يكفَّ عن الشاه حتى يسقطه عن عرشه, وقد بَرَّ بقسمه، وذلك بتحريضه العلماء والزعماء, وتعديده مساوئ الشاه وتجسيمه أخطاءه، ولا سيما تعاقده مع شركة إنجليزية للدخان، واضطر الشاه إلى فسخ العقد, ودفع تعويض مالي كبير، فكان ذلك أول خطورة في الانتقام. وأخيرًا ذهب السيد إلى لندن, وأصدر مجلةً شهريةً سماها: "ضياء الخافقين" بالعربية والإنجليزية، وكان يكتب بها مقالاتٍ بإمضاء "السيد الحسيني". خاتمة المطاف: ثم رأى السلطان عبد الحميد أن يدعو إليه جمال الدين خشية أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة فيزيد قوته، وأرسل عبد الحميد رجاله يغرون السيد بالسفر إلى الآستانة, ويمنونه الأمانيّ الحلوة حتى استجاب لدعواه, فكان بها كأنه في قفص من ذهب، ويحصون عليه حركاته وأقواله، وإن لقي من السلطان حظوةً عالية. بيد أن الحاشية ولا سيما أبو الهدى الصيادي, ذلك الداهية المحتال الذي أتقن فن الدس والمؤمرات, وتمكَّن من قلب السلطان حتى أصبح قوَّةً غلابةً، وقد أفسدوا السلطان عليه، وما لبث عبد الحميد أن اصطدم بآراء السيد وجرأته، ولم يدع السيد فرصةً إلّا حرَّضه فيها على الإصلاح، وإقصاء الخونة والجبناء عن حاشيته, ولكن لم يستجب لشيءٍ من هذا. ولما قُتِلَ شاه العجم سنة 1896 على يد أحد تلاميذ السيد, اشتدت الريبة في جمال الدين, وضُيِّقَ عليه حتى صار محبوسًا في قصره، ولما أراد الرحيل ترضَّاه السلطان خشيةَ أن يشنها عليه حربًا شعواء في الخارج، وهو تحت سمعه وبصره أهون، ثم مرض السيد بالسرطان في فمه ومات، وشاعت الأقوال بأنه مات مسمومًا، أو أن الطبيب أهمل في علاجه عمدًا1, وكانت وفاته في 9مارس سنة 1898، ودفن في قبرٍ حقيرٍ كما يدفن أقل الناس، وطُمِسَت معالم هذا القبر إلى أن قَيَّضَ الله رجلًا أمريكيًّا يبحث عنه, حتى وجده فجدده، وبنى عليه حاجزًا حديديًّا, وشاده بالرخام, وكتب على أحد وجوه

_ 1 راجع حاضر العالم الإسلامي, ج1 ص204.

الرخام اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر العبارة الآتية: "أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم, الخيِّر الأمريكانيّ, المستر "شارلس كرين" سنة 1926" وهكذا خمدت هذه الشعلة المتوهجة، وإن ظلت آثارها حتى اليوم في نفوس من خالطوه وأخذوا عنه، وفي نفوس تلاميذه وأتباعهم والأجيال التي تأثرت بهم. نبذة من آرائه: 1- مر بك في ثنايا هذه الترجمة الموجزة شيءٌ من آراء السيد جمال الدين، وهناك بعضٌ من أفكاره وتعاليمه ونظراته إلى الحياة جديرةٌ بالنظر، فقد كان في أول حياته طموحًا، ذا خيال واسع، وأمل عريض, شمل الإنسانية جمعاء، حتى دعاه ذلك التفكير في السبب الذي يدعو الناس إلى الاختلاف والخصام، ويدعو الدول إلى الحروب والعداء، وهداه تفكيره إلى أن السبب الأول: هو تعصب رجال الدين في كل ملة, وسوء توجيههم للشعوب، وشحن قلوبهم بالحقد والبغضاء لكل مَنْ خالف دينهم، وفي هذا يقول: "ورجعت إلى أهل الأرض وبحثت في أهم ما فيه يختلفون فوجدته الدين، فأخذت الأديان الثلاثة، وبحثت فيها بحثًا مجردًا عن كل تقليدٍ, منصرفًا عن كل تقيد, مطلقًَا للعقل سراحه" ووجد أن الأديان الثلاثة تتفق في الغاية والمبدأ وأنه "إذا نقص في الواحد شيء من أوامر الخير المطلق استكمله الثاني, وإذا تقادم العهد على الخلق، وتمادوا في الطغيان، وساءت الكهان فهم الناموس, أو أنقصوا من جوهره أتاهم رسول فأكمل لهم ما أنقصوه، وأتم بذاته ما أهملوه" وإذا كانت الأديان متفقةً في المبدأ والغاية, فما الذي يحول بين أهل هذه الأديان وبين الاتحاد؟ إن اتفاقهم ووحدتهم تكفل لهم السعادة للبشرية، وبعد ذلك يقول: "وأخذت أضع لنظريتي هذه خططًا وأخط أسطرًا، وأحبِّرُ رسائل للدعوة، كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب، ولا تعمقت في أسباب اختلاف حتى أهل الدين الواحد، وتفرقهم فرقًا وشيعًا وطوائف".

_ 1 أحمد أمين بمجلة الثقافة العدد 288.

ولكن سرعان ما أدرك أن دون هذا الاتحاد أهوالًا وأهوالًا، ولقد نسي قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وأن من يتعرض لهذه الدعوة يُرْمَى بالكفر والإلحاد، والخروج عن جادة الدين، وقد رُمِيَ بذلك فعلًا, ولهذا باء بالإخفاق: "انقلبت أفراحي بالخيال أتراحًا، ورجعت عن نظريتي والفشل ملء إهابي وجبتي"1. وتطامن من أهدافه، ووجد أن الشرق المسكين أولى بالرعاية والعناية، وأن إصلاح العالم كله محال، ولذلك عكف على جهاده في سبيل هذا الشرق، وكان متألمًا لبعض الخلافات الدينية بين أبناء الملة الواحدة؛ كالسنة والشيعة. 2- كان يرى أن لا موجب لسد باب الاجتهاد في الدين، وعلى المسلمين إذا أرادوا التقدم أن يستعملوا عقولهم، ويتسنبطوا كما اسنبط أسلافهم أحكامًا تتمشى مع زمنهم وبيئاتهم، ويقول: مامعنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيِّ نصٍّ سُدَّ؟ ومن قال: لا يصح لمن بعدي أن يجتهد لبيتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث, والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا, ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلّا فطرةً، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده2". وإذا تأملت أهداف جريدة "العروة الوثقى" التي ذكرها في المقال الافتتاحيّ, أدركت إلى حدٍّ ما بعض آراء جمال الدين في إصلاح الشرق، وقد عرفت أن جمال الدين كانت له الفكرة التي يعبر عنها محمد عبده في الحرية، وهاك بعض هذه الأهداف والآراء: أ- بيان الواجبات على الشرقيين التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، ويستتبع ذلك بيان أصول الأسباب ومناشئ العلل التي أفسدت حالهم، وعمت عليهم طريقهم، وإزاحة الغطاء عن الأوهام التي حلت بهم.

_ 1 قدري طوقان, جمال الدين: أراؤه وأثره في نهضة الشرق, ص20. 2 خاطرات: محمد باشا المخزومي.

ب- إشراب النفوس عقدية الأمل في النجاح، وإزالة ما حلَّ بها من اليأس. ج- دعوتهم إلى التمسك بالأصول التي كان عليها أسلافهم, وهي ما تمسكت به الدول الأجنبية العزيزة الجانب. ج- الدفاع عما يُرْمَى به الشرقيون عمومًا والمسلمون خصوصًا من التهم, وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون في المدنية ما داموا متمسكين بأصول دينهم. هـ- تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، وتمكين الألفة بين أفرادها, وتأمين المنافع المشتركة بينها، ومناصرة السياسة الخارجية التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين. وكان جمال الدين يعتز بشرقيته وبلغته، ويشمئز من هؤلاء الذي يتنكرون لقوميتهم ولغتهم؛ فإن هذا التنكر يساعد المستعمر, بل هو أثر من آثار تعاليمه يرمي بها إلى الحطِّ من شأن كل ما هو شرقيّ, ولإضعاف لغة القوم، والتدرج بقتل التعليم القوميّ، وتنشيط القائلين من الشرقيين بأن ليس في لسانهم العربيّ أو الفارسيّ أوالأرديّ أو الهنديّ آداب تؤثر، ولا في تاريخهم مجد يذكر": لقد بلغ ببعضهم السفه "أن ينفروا من سماع لغتهم، وأن يتتباهوا بأنهم لا يحسنون التعبير بها، وأن ما تعلموه من الرطانة الأعجمية هي منتهى ما يمكن الوصول إليه من المدركات البشرية". وقد عرفت فيما سبق كفاحه في سبيل حرية الشعوب، ومطالبته بنظام الشورى, ووقوفه أمام الحكام المستبدين كالجبل الأشمِّ في جرأةٍ وعزة نفسٍ، واستنهاضه الهمم، كي تقوى دولةٌ إسلاميةٌ تكون النواة التي يلتف غيرها حولها, وبذلك يعاد مجد الإسلام قويًّا أمام مطامع الغرب وعسفه. ولقد كان جمال الدين عالمًا ومفكرًا وفيلسوفًا ومصلحًا اجتماعيًّا، أشرب قلبه حب بلاده ودينه، وأرسله الله في هذه الحقبة من التاريخ ليبدد دياجير الجهل ويبعث الحمية في النفوس.

ولقد أرغم خصومه على احترامه بصراحته وجرأته، ولقد رأيت كيف ضاقوا به ذرعًا في كل مكان؛ لأنه كان حربًا على الجهل والظلم والقسوة والطغيان، ولقد أقرَّ له الغربيون بالفضل, حتى لقد قال عنه "رينان" وهو من هو في كراهته للمسلمين: "ولقد يخيل إليَّ من حرية فكر الأفغاني ونبالة شيمه وصراحته -وأنا أتحدث إليه- أني أرى أحد معارفي من القدماء وجهًا لوجه، وأني أشهد ابن سينا وابن رشد, أو واحدًا من العظام الذين ظلوا قرونًا عدة يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار". أسلوبه في الكتابة: لم يكن جمال الدين مفطورًا على اللغة العربية مطبوعًا على أساليبها الفصيحة؛ لأنها ليست لغته الأولى، وإنما تعلمها تعلمًا، ولم يكن حظه من آدابها كثيرًا، ولم يتذوق منازع بلاغتها بقدر كبير، ولكنه أفادها فائدةً جليلةً بإرشاد تلاميذه إلى التحرر من القيود الثقيلة التي كانت ترسف فيها الكتابة الإنشائية من محسنات بديعية مختلفة، وسجعٍ متكلَّفٍ ممقوت، واستعاراتٍ غريبة, وغير ذلك مما أفسد المعنى وستر الأفكار عن الوضوح والجلاء؛ كما أرشدهم إلى تجنب المقدمات الطويلة؛ وطبعي أن يصرفهم إلى الاهتمام بالمعاني؛ لأن هناك أشياء كثيرة يريدون الإبانة عنها، والإفاضة فيها، ولا يتسع هذا النثر المقيد لكل تلك المعاني, ولا يستطيع إيضاحها كاملة, ولقد رأيت فيما سبق نماذج من هذا النثر دبجها تلاميذه، مثال: محمد عبده وأديب إسحاق، وقد قال أديب عن أسلوبه الذي تاثَّر فيه بتعاليم جمال الدين: "رأيت أن أصرف العناية والاجتهاد إلى تهذيب العبارة، وتقريب الإشارة؛ لتقرير المعنى في الأفهام، ومن أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق، متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا أو مبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داء إذا سرى في القراء والمطالعين أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة يقضي بإماتة اللغة وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم".

هذا الوصف الذي ذكره أديب إسحق لنثره, هو أثر من تعاليم جمال الدين, وسترى من النموذج الذي سأعرضه عليك من نثره أن جمال الدين -وإن لم يكن من المطبوعين على أساليب العربية الجميلة، إلّا أنه كان ينتزع البلاغة انتزاعًا, فترى لقلمه سطوةً لا تراها لكثير من الأقلام، وقد مر بك ما قاله الشيح محمد عبده في قدرته على تفتيق المعاني والاحتفال بها، ومن مزايا أسلوبه كثرة الجمل الاعتراضية، والفصل بين فعل الشرط وجوابه, أوالمسند والمسند إليه بفواصل طويلة، وهذا ناشئ من ترتيب فكره, وتعوده على الأساليب الفارسية الأعجمية، كما كانت لديه جرأة في استعمال القياس في اللغة, فيأتي بمجموعٍ لم يعرفها العرب, وصيغ لم تسمع في لغتهم, وكان من مستلزمات كتابته, وأثر عجمته, إدخال "الـ" على الأعلام. هذا وقد وفينا موضوعات النثر في ذلك العصر حقها من الكلام، وبينَّا الأسلوب الذي تميَّزَ به كلٌّ منها، فألق عليها نظرة لتقف على أسلوب جمال الدين، فقد كان المرشد للكُتَّاب، وإن لم يكتب هو إلّا القليل، ومن هذا القليل الرسالة الآتية التي بعث بها إلى عبد الله باشا فكري يعتب عليه، وقد بلغه أن رجلًا ذمه أمام الخديو على مسمعٍ من فكري باشا, فسكت ولم يدفاع عنه، وهي من النوع الأدبيّ, ولذلك احتفى بأسلوبها أيما احتفاء، وفيها تتجلى خصائص أسلوبه عامة. "مولاي. إن نسبتك إلى هوادة في الحق وأنت -تقدست جبلتك- فطرت عليه، وتخوض الغمرات إليه، فقد بعت يقيني بالشك، وإن توهمت فيك حيدانًا عن الرشد, وجورًا عن القصد, وأنا موقنٌ أنك ما زلت على السداد غير مفرطٍ في الحق ولا مفرط، فقد استبدلت علمي بالجهل, ولو قلت: إنك من الذين تأخذهم في الحق لومة لائم، وتصدهم عن الصدق خشية ظالم، وأنت تصدع به غير وانٍ ولا ضجر، ولو ألب الباطل الكوراث المردية، وأرى عليك الخطوب الموبقة لكذبت نفسي وكذبني من يسمع مقالتي؛ لأن العالم والجاهل، والفطن والغبي كلهم قد أجمعوا على طهارة سجيتك, ونقاوة سريرتك, واتفقوا على أن الفضائل حيث أنت، والحق معك أينما كنت, لا تفارق المكارم ولو اضطررت، وأنت مجبول على الخير لا

يحوم حولك شر أبدًا، ولا تصدر عنك نقيصة قصدًا، ولا تهن في قضاء حقٍّ, ولا تني عن شهادة صدق، ومع هذا وهذا وذاك, أنك مع علمك بواقع أمري، وعرفانك بسريرتي وسري، أراك ماذدت عن حق كان واجبًا عليك حمايته، ولا صنت عهدًا كانت عليك رعايته, وكتمت الشهادة، وأنت تعلم أني ما أضمرت للخديو ولا للمصريين شرًّا، ولا أسررت لأحد في خفيات ضميري ضرًّا، وتركتني وأنياب النذل اللئيم "فلان" حتى نهشني السبع الهرم والعظام، ضغينةً منه على السيد إبراهيم اللقاني، وإغراء من أعدائي أحزاب "فلان". ما هكذا الظن بك, ولا المعروف من رشدك وسدادك, ولا يطاوعني لساني -وإن كان قلبي مذعنًا بعظم منزلتك في الفضائل، ومقرًّا بشرف مقامك في الكمالات- أن أقول عفا الله عما سلف، إلّا أن تصدع بالحق، وتقيم الصدق، وتظهر الشهادة؛ إزاحةً للشبهة وإدحاضًا للباطل، وإخزاءً للشر وأهله، وأظنك قد فعلت أداءً لفريضة الحق والعدل. ثم إني يا مولاي أذهب إلى لندن ومنها إلى باريس مسلمًا، وداعيًا لكم، والسلام عليكم وعلى أخي الفاضل البار أمين بك". 8 صفر سنة 1300 جمال الدين الأفغاني.

الشيخ محمد عبده

2- الشيخ محمد عبده: وإذا كان جمال الدين قد أبعدته ظروفه القاسية، وجنود الغدر والاستعمار عن مصر وهي أحوج ما تكون إليه، فقد ظلت بها روحه الوثابة، ومصر في ذياك الوقت قلب الإسلام النابض، وأمل العروبة الغض؛ لأن تركيا -وهي مقر الخلافة- كانت عجوزًا مشولة الأطراف، جافة الفؤاد يابسة العود، وتعتلج في أحشائها الوساوس والدسائس، ويسيطر عليها خلفاء شبعوا من اللذائذ المادية حتى بشموا، وانغمسوا في حمأة الشهوات حتى شرقوا، والشام قد هجرها المستنيرون الأحرار، واستوطنوا مصر هربًا بنفوسهم الأبية أن يذلها الظلم، ويجرحها الحيف والاضطهاد, وبقية أقطار العروبة في سباتٍ عميق، أو يقظةٍ قريبةٍ من الوسن، قد أعدتها تركيا بأدوائها، فهي تترنح تحت فكتات الأمراض الاجتماعية وآلامها المبرحة, وتكاد تسلم الروح إعياء وهزالًا.

أجل, قد بقيت روح جمال الدين بمصر ترفرف على واديها في شخص محمد عبده1 وهو شيخ من صيم ريف مصر، وأرسله أبوه إلى الجامع الأحمدي ليتعلم كما يتعلم كثير من الناس بعد أن حفظ القرآن، ولكنه تمرد على هذ التعليم بعد سنة ونصف, حاول فيها أن يفك طلاسم "الأجرومية" فأعيته الحيل، فأيقن أنه غبيّ، وأنه غير مستعدٍّ لتلقي العلم, وصمَّمَ على العمل في الحقل كما يعمل إخوته وأهله؛ بيد أن والده أكرهه على الاستمرار في طلب العلم, فهرب إلى أحد أخوال أبيه هو: الشيخ دوريش: والشيخ دوريش من الشخصيات التي أثَّرت في عقل محمد عبده وفي نفسه وفي خلقه, وحددت له أهدافه في الحياة، ولا يذهبن بك الظن، فتتخيل أن الشيخ دوريشًا هذا فيلسوف أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأنه عالم من علماء التربية الأفذاذ, فلم يكن -علم الله- إلّا شيخًا صوفيًّا سليم العقيدة، نَيِّرَ البصيرة, على حظٍّ قليل من العلم وكثيرٍ من التجارب، فقد تتلمذ على السنوسي بطرابلس، وجاب بعض الأقطار يتلقى على رؤساء الصوفية طريقة الدعوة وسياسة النفس. جاء الشيح محمد عبده إلى الشيخ دوريش هاربًا2 من العلم, وكان في الخامسة عشرة من عمره فتيًّا قويًّا مغرمًا بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيح دوريش تلقَّاه كما يتلقى الطبيب المريض, وعالج هذه العقدة التي كونتها "الآجرومية" في نفس الفتى، وأعطاه كتابًا سهلًا في المواعظ

_ 1 ولد محمد عبده بقرية "شنرا" بمدرية الغربية سنة 1266هـ-1849م, وانتقلت به أمه إلى بلدة أبيه "عبده خير الله" محلة نصر بمديرية البحيرة بعد ولادته بقليل، وكان أبواه ذا مكانةٍ ملحوظةٍ في قريته, يمتاز بقوة الجسم وصحته ,بشيء من سعة الرزق والكرم والاستنارة، وقد ورث عنه محمد عبده كل هذا. وقد ترك محمد عبده ترجمة حياته في وثيقتين؛ إحداهما كتبها استجابةً لصديقه الشاعر الرحالة الإنجليزي "ولفرد سكاون بلنت" وفيها شيء عن أصل أسرته, وجزء من تاريخ حياته W.S.Blunt Secret Hisstory Of Egypt, London 1907. والثانية ما نقله عنه الشيح رشيد رضا إجابةً على أسئلة وجهها إليه. انظر المنار 8 ص405 وما بعدها. 2 مع العلم أنه كان قد تزوج وصمم على المكث بالبلدة، ولكن والده أمره بالذهاب إلى طنطا بعد أربعين يومًا من زواجه.

والأخلاق, ولم يكن للفتى صبرٌ على القراءة, وسرعان ما مل المجلس، ولكن الشيخ درويشًا أخذه برفقٍ وتؤدة, وكان يفسِّرُ له ما يقرأ, فوجد الفتى فيما قرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول في ذلك: "وطلبت منه يومًا إبقاء الكتاب معي، فتركه، ومضيت أقراؤه، وكلما مررت بعبارةٍ لم أفهمها وضعت علامةً لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وهوًى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عمَّا لم أفهمه, فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة, والميل إلى الفهم, ولم يأت اليوم الخامس إلّا وقد صار أبغض شيءٍ إليَّ هو ما كنت أحبه من لهوٍ وفخفخةٍ وزهوٍ، وعاد أحب شيءٍ إليّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم"1. وهكذا استطاع الشيخ درويشًا أن يحل العقدة النفسية، ويعيد للفتى ثقته بنفسه وفي ذكائه، ويرغبه في العلم, وقد أفاد الفتى من ذلك درسًا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجةٍ إلى الإصلاح الشامل في كتبه التي تدرس, وفي المعلمين الذين يقومون بالتدريس, وكان هذا أحد أهدافه في الحياة كما سترى. وقد أفاد من الشيخ درويش درسًا آخر وقر في نفسه, وبدَّلَ من قيم الأشخاص والناس عنده, فلم يعد يهتم بالتفوق الماديّ والغنى والجاه، بل علمه أن الإنسان الكامل في هذه الحياة هو من أمن وعمل صالحًا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وعلمه كذلك أن الإسلام الصحيح يتنافى مع الأخلاق المنحلة والفساد؛ لأنه عقيدة وعمل، لا ألفاظ تقال، ثم عَلَّمَه كذلك أن الإسلام دينٌ سهلٌ سمحٌ، وأن مصدره الذي يجب أن يؤخذ منه هو القرآن وحده2. ظلت هذه الدروس التي تلقاها في صباه تنمو وتترعرع في نفسه, حتى صارت مبدأ يسعى إليه وغاية يصبوا إلى تحقيقها.

_ 1 وبهذا برهن الشيخ درويش في قريته على أنه أقدر من علماء الأزهر في هداية الطلاب وتحبيبهم في القراءة, ولقد كان مشايخ الصوفية في الماضي رسل هداية وتبشير, وعلى أيديهم أسلم كثير من وثنيي السودان وزنوج غابات إفريقية، وهم الذين نشروا الإسلام في كثير من بقاع الأرض, فأين منهم متصوفة زماننا الذين لا هَمَّ لهم إلّا ملء البطون وكنز الأموال. 2 كان الشيح درويش تلميذًا للسنوسيين كما رأينا، وهؤلاء كانوا يتبعون مذهبًا شبيهًا بالمذهب الوهابي، وهو الرجوع بالإسلام إلى بساطته الأولى، متجنبين البدع وتفسيرات المتأخرين وزياداتهم في العقائد والفروع.

وليس هذا كل ما فعله الشيخ درويش من توجيه لتلميذه، بل كان يلقاه في الإجازات الصيفية بعد عودته من الأزهر، ويلومه على عزلته وعدم الاختلاط بالناس ودراستهم وإفادتهم بما عرف، وكان يغشى به المجالس, ويحمله على أن يتحدث إلى الناس ويجيب عن أسئلتهم ويكون لهم مرشدًا؛ لأن العلماء الذين يعنون بعلمهم على الناس لا خير فيهم، وقد بقي الشيخ محمد عبده حتى مات وهو يعمل بهذ النصيحة، ويرشد الناس كبارًا وصغارًا, رعيةً وساسةً، فرحم الله الشيح درويشًا, لقد أدى للإسلام ولمصر وللشرق خدمة جليلة. في الأزهر: وتحول الشيخ محمد عبده من الجامع الأحمديّ إلى الأزهر، وكان الأزهر في ذلك الوقت على حالة من الفساد لا تطاق، وبحسبك أن تقرأ تقريرًا وضعه الشيخ عبد الكريم سلمان1 عن هذا المعهد وحال أساتذته وطلبته، ومدة الدراسة فيه2 وحال العلم، فإن الكتب التي كانت تدرس به من نتاج العصور المتأخرة, يدرسها أساتذة لا يفهمون الغاية منها، ولا يستطيعون كتابة أربع جمل صحيحة3، وكان به كثير من ضيقي الفكر الذين يرمون الناس بالزندقة والكفر جزافًا؛ مثل: الشيخ عليش، ولكن كان به مَنْ هيأتهم الظروف لأن يتسع أفقهم بعض السعة كالشيخ البسيوني، والشيح حسن الطويل، وكان ذكيًّا حكيمًا له نظرات في الحياة صائبة، يقرأ الفلسفة فيُرْمَى بالزندقة.

_ 1 لم يحمل التقرير اسم الشيح عبد الكريم, ولكن اشتهر بأنه له, وفيه أعمال مجلس إدارة الأزهر من ابتداء تأسيسه سنة 1321هـ, وهي مدة اشتغال الشيح محمد عبده في مجلس الأزهر. 2 كانت إجازات الطلاب كثيرة, ففي مولد السيد البدوي، والدسوقي، ويوم عاشوراء, والمولد الحسيني، ومولد الشافعي، والعفيفي, والشرقاوي، وهذا عدا الأعياد الإسلامية, والمولد النبوي, ورمضان, والأعياد الرسيمة, ولم تكن مدة الدراسة تزيد عن ثلاثة أشهر ونصف, يخرج منها الخميس والجمعة من كل أسبوع. 3 وقد مَرَّ بك وصف عبد الله فكري لهم في ص157 من هذا الكتاب, وقد كان الشيح أحمد الرفاعي يدرس في ذلك الوقت كتاب "المطول في البلاغة" ويعترف أنه لا يحسن أن يكتب خطابًا ولو غير بليغ؛ لأن هذا عمل تلاميذ المدرسة المدنية "أحمد أمين بمجلة الثقافة العدد 388" واعتذر أحد أكابر العلماء وهو الشيخ الإمبابي عن حضور وليمةٍ في رمضان؛ فكتب رسالة الاعتذار على ورقةٍ من أوراق العطار, وأخطأ فيها عشرة أخطاء نحوية، "محمد عبده لمحمد صبيح ص65، وتقرير الشيح عبد الكريم سليمان".

كانت هذه حال الأزهر العلمية حين وفد إليه محمد عبده، ناهيك بالقذارة التي كانت تلوث المسجد وصحنه، ودورة مياهه وأروقته، والفوضى الخلقية التي كانت سائدةً بين طلابه, وأخذ الشيح محمد عبده يدرس العلوم المتداولة بالأزهر حينذاك؛ من نحو وفقه وتفسير، وأما العلوم الحديثة فلم يكن يسمع عنها الأزهر ورجاله، ومن يتعرض لها فهو كافرٌ في عرفهم, مارق عن جادة الدين. وكان الشيح درويش حينما يعود الطالب الفتى يسأله عمَّا درس بالأزهر في عامه, بعد أن يستمع إليه قليلًا يسأله: ما درست المنطق؟ وما درست الحساب؟ وما درست الهندسة؟ فيجيب الشيح محمد عبده بأن هذه الدروس لا يرى الأزهريون تعليمها, فيقرر له هذا الصوفيّ المنزوي في قريته بأن كل العلوم يجب أن تعلم، وعلى الطالب أن يسعى إليها في كل مكان، ويقول له: "إن الله هو العليم الحكيم, ولاعلم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء الحكيم هو السفيه! وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، لا شيء من الجهل بمحمود لديه إلّا ما يسميه بعض الناس علمًا، وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر, والشعوذة, ونحوهما, إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس, فأي رجل كان الشيح درويش هذا؟ وعلى أي حال من الجهل كان الأزهر؟ التمس الشيح محمد عبده بعض هذه الدروس التي وجهها إليه مرشده عند الشيح حسن الطويل1، بيد أن هذه الدروس لم تشبع نهم نفسه، على الرغم من طرافتها، وذكاء مدرسها, وسعة مداركه، وإنما كانت مثيرة لنفس الشيح محمد عبده، تبعث فيها الرغبة إلى الاستقراء والتعمق والوصول إلى الحقائق الواضحة

_ 1 وكان الشيح حسن الطويل من الشخصيات الفذة في عصره، ذا ذكاء حادٍّ ومعرفةٍ بالرياضيات، وكان مدرسًا بدار العلوم، وقد بلغ من مهارته في الرياضيات أن كان يحل لطلبتها ما أشكل عليهم من تمرينات الهندسة، وكان على معرفة بكتب الفلسفة القديمة, وبالدنيا والسياسة, وكان ذا شجاعة في الكلام بما يعتقد لو حرم منصبه بدار العلوم، وزهد في الدنيا, حتى لا يهمه منها شيء، يلبس ثيابًا رخيصة، ويأكل قليلًا, ويدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول, ويزهد فيما عداه، ويطرد من دار لعلوم لكلامه في السياسة, فنيفق عليه صاحب مقهى بلدي، فلما عاد إلى عمله سلمه الشيح حسن الطويل مرتبه لينفق كما كان يفعل وهو مطرود، وكان يدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق.

بدون تردد أو التواء، وأن تستشف ما وراء هذه الألفاظ القديمة، وأن تصل هذا العلم القديم بالحاضر الجديد، وتحل مشكلات الحياة بعامة، ومشكلات مصر بخاصة، ولم يكن ذلك ميسورًا عند الشيح حسن الطويل، وإنما تهيأ لمحمد عبده أن يدرك هذه الغاية عند أستاذه الأكبر جمال الدين الأفغاني حين وفد على مصر وقد تحابَّا وتصادقَا، ووجد جمال الدين في محمد عبده التربة الخصبة التي تحيل تعاليمه عملًا صادقًا قويًّا لا ينقص منه شيء, بل يزيد على مرور الأيام نماءً، ووجد محمد عبده في جمال الدين الأستاذ الذي كمل له ما كان يشعر به من نقص؛ فإذا كان الشيح درويش قد لقنه شيئًا من التصوف سابقًا, فقد كان تصوفًا خياليًا, تحوَّل على يد جمال الدين إلى تصوفٍ عمليٍّ، وإذا كان الشيخ درويش قد بعث فيه الجرأة لمواجهة الناس والتحدث إليهم وبث تعاليمه بينهم، فقد مكنه جمال الدين من اختيار الموضوعات الصالحة التي يتكلم عنها، وأفسح أمامه أفق الإصلاح, فتعددت شعبه وميادينه؛ من دينية وخلقية واجتماعية، ثم إن جمال الدين حرضه على استخدام سلاحٍ آخر في ميدان الدعوة، غير الخطابة والمشافهة، ألا وهو سلاح القلم؛ حتى تسير دعوته مشرقة ومغربة، فتشمل القريب والبعيد، وحتى تكون متقنةً رائعةً تغذيها التؤدة والفكر الناضج والمنطق, وقد فتن محمد عبده بجمال الدين وبدروسه وبروحه المتوجهة وحماسته العارمة، ونشاط فكره, ونظراته للحياة، ووجد فيه ما لم يجده عند حسن الطويل, فلا بدع إذا رأيناه يكتب بخط يده على نسخة من كتاب قديم: "وكان الفراغ من قراءته وتقريره عند لسان الحق، وقائد الخلق إلى جناب الحق، خلاصة من تحلى بالحكمة، ومنقذ الضالين في تيه الجهالة والغمة، ومحيى الحق والدين, أستاذنا السيد جمال الدين" وكان يلقبه "الحكيم الكامل". وكان جمال الدين يبادل محمد عبده حبًّا بحبٍّ, وإعجابًا بإعجابٍ، فقال عندما رحل من مصرسنة 1879: "تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالمًا". وهى كلمة تدل على مبلغ اعتقاد هذا المصلح الكبير في تلميذه, وقدرته على تنفيذ تعاليمه, والقيام بالدعوة إليها من بعده, وقد روى المخزومي في خاطراته أن جمال الدين لم يذكر اسم محمد عبده إلّا مقترنًا بكلمة "الصديق" أو "صديق

الشيخ"، ولما اعترض عبد الله نديم على ذلك وقال له ذات يوم: "أيها السيد, ما غفلت مرةً عن إضافة لفظ الصديق إلى الشيخ محمد عبده, كأنه لم يكن بين الناس صديق غيره؛ إذ تراك تنعت من سواه بلفظ صاحبنا أو فلان من معارفنا، أجاب جمال الدين بقوله: وأنت يا عبد الله صديق، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ محمد أنه صديقي على الضرَّاء، وأنت صديقي على السراء، ويعترف محمد عبده بأنه مدينٌ بالشيء الكثير لجمال الدين ويقول: "إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها "أخواي" علي ومحروس, والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين" وقد مرت بك كلمته في قدرة جمال الدين على تفتيق المعاني, وكيف يتكلم في كل فنٍّ كأنه من كبار أساتذته. ومنذ اتصل محمد عبده بجمال الدين ابتدأ اتصاله بالحياة العامة، والجهاد في سبيل إصلاحه الأمة, وهو بعد طالب في الأزهر، ولم ينل شهادةً تجيز له التدريس, فقد كتب في "الأهرام" في السنة الأولى من صدورها بعض مقالاتٍ دلَّت على روحه وجرأته مثل: "الكتابة والقلم" و"المدبر الإنساني والمدبر الروحاني" "والعلوم الكلامية الدعوة إلى العلوم العصرية"1. ولخص بعض دروس أستاذه في الفلسفة بجريدة "مصر" التي كان يصدرها أديب إسحق، وكان من الطبيعيّ أن يثير هذا ضجةً حول ذلك الشيح الأزهريّ الجرئ, فمن معجب به ومن حاقد عليه، ومن جامدٍ ساخطٍ يرميه بالزندقة. وأخيرًا تقدم الشيح محمد عبده لنيل شهادة العالمية، وقد تآمر الممتحنون عليه قبل مثوله أمامهم، وعزموا على ألّا يمنحوه العالمية، بيد أنه خيب أملهم بعلمه ومهاراته في تصريف الكلام, وسعة اطلاعه, وسرعة بديهته، ووجد من الشيخ العباسي المهدي عطفًا، واستطاع الشيح العباسي أن يقنعهم بوجوب منحه الشهادة, ولكن أصروا في عنادٍ على أنه لن ينالها من الدرجة الأولى, واكتفوا بإعطائه الدرجة الثانية2 في غرة رجب 1294هـ-1877م.

_ 1 انظر تاريخ الشيخ محمد عبده لرشيد رضا ج27-57, وسنتكلم عن هذه المقالات فيما بعد من حيث قيمتها الأدبية. 2 وقد رجع الأزهر فيما بعد ذلك بست وعشرين سنة عن هذا القرار, ومنح الشيح محمد عبده في سنة 1904 العالمية من الدرجة الأولى، وكان شيخ الأزهر إذ ذاك الشيخ علي الببلاوي.

وتصدَّى الشيخ محمد عبده بعد ذلك للتدريس بالأزهر، وأثار حوله ضجةً كبيرةً, فالشيخ عليش يهم بضربه؛ لأنه رجَّحَ مذهب المعتزلة في مسألة من مسائل على مذهب أهل السنة، وتراه يتحدى علماء الأزهر جميعًا بإعطاء مائة جنيه لمن يبرهن على "أن الله واحد" وينظرهم إلى الغد، ويفتتح الدرس ويسأل الحضور -وقد توفادوا أفواجًا- عن العالم الذي يريد مائة جنيه, ويقرر في حجج دامغة وحدانية الله، ويسود الصمت، وتضطرب القلوب، وتتقلب الأبصار مدةً غير وجيزةٍ, ثم يبدأ هذا العالم الصغير درسه غير تاركٍ شبهةً إلا وضحها, ولا حجةً إلا أوردها، ولا عويصًا إلا حله، فترك في بعض القلوب فرحة، وفي كثير من القلوب غصة. وكان يخص بعض مريديه بدروس في منزله تختلف نوعًا عن دروس الأزهر, فيدرس لهم "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ لهم كتاب "التحفة الأدبية في تاريخ تمدين الممالك الأوربية" للمؤلف الفرنسيّ "جيزو" وقد عربه "حنين نعمة خوري". ثم عُيِّنَ الشيخ محمد عبده في أواخر سنة 1878 مدرسًا للتاريخ بدار العلوم؛ إذ توسط رياض باشا في هذا التعيين، ولم يدرس ملخصًا من ابن الأثير أو الطبري أو ما شاكلهما من الكتب القديمة, ولكن عمد إلى "مقدمة ابن خلدون" يبسط في درسه آراء هذا النابغة في أصول المدنية والاجتماع، وألف كتابًا في "علم الاجتماع والعمران" فُقِدَ ولم يعثر عليه1، وعُيِّنَ محمد عبده في نفس الوقت مدرسًا للعلوم العربية بمدرسة الألسن، وكان همه -سواء كان في الأزهر أو دار العلوم أو الألسن- هو إيجاد نابتة من المصريين تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوم عوج الحكومة"2:

_ 1 أحمد أمين في مجلة الثقافة العدد 389, والمنار ج8 ص403-404. 2 المنار ج8 ص404.

محرر الوقائع المصرية: ثم درات الأيام دورتها وعزل إسماعيل عن العرش، وتولى توفيق, ونُفِيَ السيد جمال الدين كما عرفت من قبل، وتسلم محمد عبده راية الإصلاح بعد أستاذه, ووجد في رياض باشا مشجعًا وحاميًا, فعينه محررًا للوقائع المصرية، وجمع الشيخ حوله بعض النابهين من الشباب1, وأنشأ بالجريدة "الرسمية" قسمًا أدبيًّا تنشر به المقالات الإصلاحية والاجتماعية، وقد كانت الجريدة تفرض على أعيان البلاد وموظفي الدولة, ويجدون بها قرارات جافة ركيكة العبارة, وأراد رياض باشا أن يجعل للجريدة الرسمية قيمةً في ذاتها, تحمل الناس على طلبها رغبة فيها؛ ليقفوا على ما تتضمنه من الأوامر واللوائح، فيكونوا على بصيرةٍ مما تريده الحكومة بهم ومنهم من غير إكراه، وكان قد أحس بتوجيه الأفكار إلى طلب شيء من طلاوة العبارة، ووفرة المعنى, وحسن الانتقاد"2. ووضع الشيخ "لائحة" للجريدة الرسمية, وجعلها مشرفة على كل ما يصدر في البلاد من كتب وصحف، وحق إنذار هذه الصحف عربية أو أجنبية، ومعاقبتها بالتعطيل الدائم أو المؤجل كي يلزمها الوقوف عند حدود الوقار فيما تكتب, مع إطلاق الحرية لها في تبيين الحقائق وكشف وجوه الخطأ والصواب بدون خوف, كما أعطت هذه اللائحة لرئيس تحرير الوقائع الحق في انتقاد جميع إدارات الحكومة حتى وزارة الداخلية التي يتولاها رياض باشا؛ وذكر السيد رشيد رضا أن "أول ما بدأت الجريدة بانتقاده طريقة التحرير التي كانت متبعة في

_ 1 أمثال سعد زغلول، وعبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي، ومحمد خليل والسيد وفاء. 2 من كلام الشيخ محمد عبده قبل أن يتولى رئاسة تحرير الوقائع: المنار ص406 وما بعدها.

النظارات والإدرات، فأخذت تبين وجه الخلل بها, وإضرارها بفهم المعاني المطلوبة، ثم ترسم الطريقة المثلى التي يجب السير عليها، فلم تمض أشهر قليلة حتى ظهر فضل ذوي الإلمام باللغة العربية من موظفي الحكومة، وحضهم رؤساؤهم على مكاتبة الجريدة الرسمية سترًا لعيوب الإدارات؛ واضطر الجاهلون باللغة والتحرير إلى استدعاء المعلمين, أو المبادرة إلى المدارس الليلية ليتعلموا كيفية التحرير"1. وبهذا صار محمد عبده مشرفًا على الأداة الحكومية جميعها، تراجعه جميع الإدارات في كل ما لديها من الأعمال الهامة والتي تنوي عملها، وقد اشتدت حملته على وزارة المعارف وتبيان ما بها من خلل وفوضى وسوء إدارة، فأدى ذلك إلى إنشاء مجلس أعلى لها, واختير به عضوًا، وكانت الوقائع المصرية منبرًا تذاع منه تعاليم جمال الدين في العدل والتربية الخلقية والإصلاح الاجتماعي، فيتكلم عن الفقر ومشكلته, وعن "وخامة الرشوة" وعن "العفة ولوازمها" وعن "القوة والقانون" وعن"منتدياتنا العامة وأحاديثها"2 وغير ذلك من المقالات الاجتماعية والإصلاحية, بيد أنه لم يخض في المسائل السياسية، ولعل ذلك لأن رياض باشا هو رئيس الوزارة، وله عليه يد لا تنكر، أو لأنه كان يتعمد مذهب رياض في التدرج وعدم الطفرة, وظل بمنصبه هذا إلى أن قامت الثورة العرابية.

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام, الجزء الأول، هذا وقد أنذر محمد عبده مرة مدير جريدة مشهور بتعطيل جريدته إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة معينة، فأسرع مدير الجريدة إلى تنفيذ ما أراد رئيس تحرير الوقائع، وتعقبت الجريدة مرةً مدير بني سويف وانتقدته انتقادًا مرًّا, فأصدر أمره بعدم دخولها, وراجع وزارة الداخلية في أمرها فنصرت الجريدة عليه, ونشرت فعلته في منشور عام. 2 تاريخ الأستاذ الإمام, الجزء الثاني, ص68 وما بعدها إلى ص225.

محمد عبده والثورة: كان محمد عبده يختلف مع جمال الدين في طريقه الإصلاح، فبينما الأول يريد أن تقفز الأمة قفزًا، وتتمتع بالشورى والحرية على يد مجلس نيابي يشرع لها القوانين, وتكون الحكومة مسئولة أمامه، كما تكفل في ظله حرية الفرد الشخصية؛ إذ بمحمد عبده وأصحابه يرون أن الإصلاح لا ينتج إلّا إذا تربت الأمة وتعلم أبناؤها كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم, وأن يسير الإصلاح تدريجًا في كل ناحية، حتى في العادات، "وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها, ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة, فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلّا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون1. وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادلٍ يحكمه خمس عشرة سنة, يصنع فيها ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا, مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يجملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلّا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه, وإن هذا رأي رياض باشا. وانقسمت الأمة فريقين، فريق النهضة السريعة والإصلاح العاجل, ويتزعمه شريف باشا, وهو كما صوره محمد عبده "من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة" في رأيه، ومن ألسنة هذا الفريق وأسلحته البتارة أديب إسحق، وفريق يود النهضة البطيئة المتدرجة, ويتزعمه رياض باشا, ويناصره في رأيه محمد عبده2.

_ 1 من مقالة الأستاذ الإمام تحت عنوان "خطأ العقلاء". انظر تاريخ الأستاذ الإمام, ج2 ص123. 2 كتب محمد عبده مقالات في الشورى, وقد كانت من وحي جمال الدين, ولم يكن مؤمنًا بها, بل كان يرى أن تنشأ أولًَا المجالس البلدية, ثم بعد سنتين تأتي مجالس الإدارة لا على أن تكون آلات تدار, بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار, ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية.

ولما قامت الثورة على يد العسكريين, وتزعم عرابي مطالب الذين يريدون المجلس النيابي، وانضم إليه كثير من زعماء الأمة, وفي مقدمتهم سلطان باشا، وعبد الله نديم، وامتزجت مطالب الجنود بمطالب الأهالي، وطلب العدالة بين الضباط بطلب الحكم النيابي بإلغاء الاستبداد، لم يكن محمد عبده من المحبين لهذه الثورة أو العاملين فيها؛ لأنه كان يكره عرابي باشا، ويعتقد أنه شهم في الكلام, ضعيف في الحرب، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة، ويقول فيه: "كان أحمد عرابي ينظر إلى رؤسائه من الجراكسة نظر العدو إلى عدوه، وكان يحتقرهم في نفسه لاعتقاده إنهم دونه في المعرفة، ويرى أنه أحق منهم بالرتب العالية التي كانوا يتمتعون براتبها ونفاذ الكلمة فيها، وربما لم يكن مخطئًا في الكثير منهم، وكان أجرأ إخوانه على القول وأقدرهم على إقامة الحجة" ونسي محمد عبده أن عرابي كان يبادل هؤلاء الجراكسة احتقار باحتقار، لأنهم كانوا ينظرون إلى المصريين دونهم في كل شيء, وحرمهم المناصب العالية، وأنهم السادة وهم الخدم. ولكذلك كان مناوئًا للثورة في أول الأمر, ويعترف بذلك صراحة فيقول: "كنت معروفًا بمناوأة الفتنة واستهجان ذلك الشغب العسكري، وتسوئة رأي الطالبين لتشكيل مجلس النواب على ذلك الوجه، وبتلك الوسائل الحمقى.. مررت ببيت "طلبة" ثالث يوم عيد الفطر فسمعة جلبة، ورأيت بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانبٍ إلى آخر من البيت, فدخلت للزيارة فوجدت عرابي، وجمعًا غفيرًا من الضباط، ووجدت معهم أحد أستاذة المدرسة الحربية، فجلست واستمر الحديث في وجهته، وكان موضوعه: الاستبداد والحرية وتقييد الحكومة بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح والأموال إلّا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية, فأخذت طرفًا من البحث، فأقمنا على الجدل ثلاث ساعات، كان عرابي والأستاذ في طرف والكاتب في طرفٍ وهما يقولان: إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، وتقرير حكومة شورية، والكاتب يقول: علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين, وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن

نستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد يفسد المال، ويفضي إلى التهلكة"1. فأنت تراه يسمي الثورة فتنةً وشغبًا عسكريًّا، ووسائل حمقى، ويعارض في قيام حكومة دستورية، ويرى أن الأمة غير مستعدة للحياة النيابية في ذلك الحين. لم يكن محمد عبده مشايعًا للثورة في أول الأمر؛ لأنه لم يكن معتقدًا بها ولا في صلاح الأمة لأن تتولى أمورها بيدها، وأخذ يناهضها ويقول: "ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر في التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد" ويقول مرة أخرى، وكأنه كان يتكلم بلسان القدر: "إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنًى، فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالًا أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى اليوم القيامة"2. ولم يكن محمد عبده من الموالين لتوفيق باشا حتى يُتَّهَمَ بأنه ناهض الثورة من أجله، ولكنه كان مستقل الرأي، وبعد مدةٍ لم يستطع أن يقف مسلوب اليد والأمة كلها في صف واحد، وهو وفئة قليلة في صف، ورأى المسأة تتعلق بكرامة الأمة, بعد أن تدخل المواثيق ويحرر بيانات الثورة للشعب وللدولة، ويحض قومه للتجنيد ويحمسهم للقتال، ولا يدخر في سبيل ذلك وسعًا، وكان يستعين بالوقائع "وهي الجريدة الرسمية" على نشر أفكار الثورة3, وصار يرى أن مصر أصحبت صالحةً لحكم نفسها بنفسها, وأن الثورة قد علَّمت الناس الاتجاه نحو المنافع العامة, فلم يعودوا في حاجة إلى تربية وتعليم".

_ 1 مذكرات محمد عبده عن الثورة العرابية وتاريخه, رشيد رضا ج1 ص217. 2 المنار ج7 ص412 وما بعدها. 3 المنار ج8 ص416.

وأخيرًا أخفقت الثورة وسجن محمد عبده مائة يوم، وحُقِّقَ معه, وحكم عليه بالنفي, فاتخذ بيروت ملجأً1. بعد الثورة: وفي بيروت التف حوله العلماء والأدباء, ودرَّسَ بالمدرسة السلطانية, وكانت أشبه بمدرسة أولية، فارتفع بها حتى صارت مدرسة عالية, ولكن مقامه بها لم يطل؛ إذ طلب إليه أستاذه جمال الدين أن يلحق به في باريس فلبى دعوته3 وأصدرا معًا مجلة "العروة الوثقى" وقد مر بك شيء كثير عنها ونبذ من مقالاته بها. وهنا تعجب كيف تغيرت لهجة الشيخ محمد عبده في "العروة الوثقى" ولم يعد ذلك المصلح المتأني الذي يأخذ الأمور بالرفق، ويسعى للإصلاح في هوادةٍ, بل نراه ثورة متأججة وذا قلم عنيف، كما اتسع غرضه، ولم ينظر لمصر وحدها, بل شمل العالم الإسلامي كله، والحق أن الشيخ محمد عبده في "العروة والوثقى" لم يستطع أن يقاوم تأثير جمال الدين عليه، وناهيك بجمال الدين قوةً وحماسةً ونارًا مشبوبة. وعُطِّلَت "العروة الوثقى" بعد ثمانية عشر عددًا، وسافر جمال الدين إلى إيران.. وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت، وقد أخفق مرتين: أخفق في الثورة العرابية، وأخفق في استمرار العروة الوثقى, فالتف حوله مريدوه، وشرح لهم نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان، وأخذ يفسر لهم القرآن الكريم على النحو الذياتبعه بمصر, من غير أن يتقيد بكتاب أو تفسير خاص، بل اتخذ آيات القرآن مجالًا لوصف أدواء المسلمين وعلاجها، ودرس الفقه على المذهب الحنفي بالمدرسة السلطانية، وهناك ألَّف رسالة التوحيد، وصار يكتب بعض المقالات في جريدة "ثمرة الفنون" مشاهبةً لمقالاته في "الوقائع المصرية"3.

_ 1 تاريخ محمد عبده جـ2 ص217. 2 لم يتجاوز سنة حينذاك أربعة وثلاثين سنة، المنار جـ8 ص455. 3 ووضع في هذه الأثناء لائحتين: واحدة في إصلاح التعليم الديني بمدراس المملكة العثمانية, ورفعها إلى شيح الإسلام بتركيا، وفيها يقر أن ضعف المسلمين سببه سوء العقيدة والجهل بأصل الدين, وأن ذلك أضاع أخلاقهم وأفسدها، ووضع لائحةً أخرى رفعها إلى والي بيروت, تتضمن إصلاح سوريا, ووصف سوء حالها بانتشار المدارس الأجنبية بها، واقترح تعميم المدارس الوطنية وإصلاح التعليم الديني والعناية به، وهكذا برهن على أنه مصلح في كل مكان يحل به "تاريخ الإمام ج3 ص339 وما بعدها".

كان محكومًا عليه بالنفي ثلاث سنوات، ولكنه مكث ببيروت ست سنوات, وذلك لأن توفيقًا كان غاضبًا عليه1، وكان يجهر بخطيئة توفيق في حق الوطن ويقول2: "إن توفيق أساء إلينا أكبر إساءة، لأنه مهَّدَ لدخولكم -أي: الإنجليز- بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا أيام الحرب لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، ومع هذا, إذا ندم على ما فرط منه, وعمل على الخلاص منكم, ربما غفرنا له ذنبه, إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية". فكان من العسير أن يعود في عهد توفيق، بيد أن رياض باشا عاد إلى الوزارة، وكان من الذين يجلون الأستاذ الإمام, ويتعقدون فيه النفع والخير لمصر، فما لبث أن سعى لدى توفيق هو وبعض ذوي النفوذ1 حتى عفا عنه، وكان عفوًا قريبًا من الاعتذار. بعد العودة من المنفى: عاد محمد عبده إلى مصر, فوجد الأمور قد تغيَّرَت, وصار الحل والعقد بيد الإنجليز، ولم يعد الخديو صاحب الأمر والنهي كما كان من قبل، ورأى لزامًا عليه وهو المصلح ذو المشروعات الحية في النهوض بالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية أن يعتمد على سلطةٍ تؤيده وتهيئ له الاستمرار في إصلاحاته، فسالم الخديو -على الرغم منه- واستعان بالإنجليز على الإصلاح المنشود، ولا تعجب بعد هذا إذا صار جمال الدين حانقًا عليه, ويرى فيه الرجل الذي تنكَّر لمبادئه ومَدَّ يده لأعذاه يهادنهم ويسالمهم, ورث محمد عبده من جمال الدين آراءه الإصلاحية الاجتماعية، وورث عبد الله نديم وسعد زغلول ومصطفى كامل آراءه السياسية.

_ 1 لأن محمد عبده جاهر بخلع توفيق أثناء الثورة "مشاهير الشرق ج2 ص282". 2 من حديث له مع مكاتب "البول ميل جازيت" وهو بإنجلترا. 3 المعروف أن من الذين توسطوا في طلب العفو عنه الأميرة نازلي, وكانت ذات مكانة، والغازي مختار باشا، ثم اللورد كورمر, وقد كان له الفضل الأكبر في عودته والعفو عنه، وفي الواقع لم يعف عنه توفيق إلّا بضغط الإنجليز, فأي صلة كانت بين محمد عبده تلميذ جمال الدين والإنجليز؟ - يظهر أن أصحاب محمد عبده حين طلبوا عودته إلى مصر تعهدوا بألّا يشتغل بالسياسية، ثم إن كرومر وهو الداهية السياسيّ رأى أن يجذب نحوه هذا العالم الجليل ويأمن شره ما دام لن يشتغل بالسياسة، وهذا ما جعل جمال الدين يحنق عليه ويلومه أشد اللوم، حتى قطعت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه؛ لأنهما اختلفا في الوسيلة "راجع المنار ج8 ص467".

وقد ظل محمد عبده متمسكًا بسياسة التقرب من الإنجليز والاستعانة بهم حتى آخر حياته، وكان هذا مثار الطعن فيه والغض من شأنه، ولكنه كان يصدر فيه عن عقيدة وجرأة، فقد استُفْتِيَ مرةً في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه "قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة المسلمين" ونسي قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} . وأمل محمد عبده بعد عودته أن يرجع إلى التدريس بدار العلوم ويتصل بالنشء، ويربي طائفة من الشباب يعدهم للغد، يحملون بعده راية الإصلاح؛ ولكن أبى عليه توفيق ذلك1، وعُيِّنَ قاضيًا أهليًّا، ثم مستشارًا في محكمة الاستئناف، ووجد نفسه في بيئةٍ غريبةٍ عنه, تدل بمعرفتها للغة الفرنسية والقوانين الأجنبية, فدفعته نفسه الطموح إلى أن يكمل هذا النقص، وبدأ يتعلم الفرنسية3 وهو في سن الأربعين أو ما قاربها، وقد استطاع بعد مدة أن يتقنها, وترجم منها كتاب التربية لسبنسر بعد أن نقل من الإنجليزية إلى الفرنسية، وروى لطفي السيد أن محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض عن عبارات الفيلسوف "تين" في كتابه المشهور عن "الذهن". وقد رأى الأستاذ الإمام فائدة تعلم اللغة الأجنبية ولمسها, وفي ذلك يقول: "ثم إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته، ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي, إلّا إذا كان يعرف لغة أوربية, كيف لا! وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتكبة مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم, أو للخلاص من شر الشرار منهم؟ "

_ 1 المنار ج8 ص467, وتاريخ الأستاذ الإمام ج3 ص242. 2 روى أن المعلم أتى له بكتابٍ في قواعد اللغة الفرنسية فقال له: ليس عندي وقت لأن أبتدئ، وإنما عندي وقت لأن أنتهي": قال ناول المعلم كتاب "لألكسندر ديوما" وقال له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلام, وما عدا ذلك فهو عليّ، والنحو يأتي في أثناء العمل, وهكذا أتممت الكتاب، وكتابًا بعده وثالثًا عقبه، وكنت أطالع وحدي بصوتٍ مرتفعٍ كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا, فتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية، وحصلت منها ما يمكنني من القراءة والفهم, ولكن ما كنت أستطيع الكلام".

واشتهر محمد عبده بعدله في القضاء، ونظره إلى روح القانون، وعدم تقيده بالقالب والألفاظ، وقد ساعدته دراسته للشريعة الإسلامية في هذا كل المساعدة. إصلاح الأزهر: مات توفيق وتولى عباس سنة 1892م, وقد عاد لتوه من أوربا فتًى ممتلئًا حماسةً وغيرةً وحبًّا للخير ورغبةً في إنهاض مصر من كبوتها وتخليصها من الاحتلال، فغيَّرَ رجال الحاشية, وجمع حوله أقوياء الرجال حتى ضاق الإنجليز, فأخذوا يكيدون له، ورأى محمد عبده أن يستفيد من حماسة عباس، فتقرب منه وبسط آراءه في الإصلاح، وهو إصلاحٌ يتناول جهات لا تهم الإنجليز في شيءٍ, وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وليكن البدء بالأزهر، وارتاح الخديو للشيخ, وكلَّفَه بوضع تقرير مشروع للإصلاح، وسرعان ما وافق عليه وكوَّنَ مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي, وعُيِّنَ محمد عبده، وعبد الكريم سليمان عضوين به، وهكذا أتيحت للشيح الفرصة التي طالما نشدها للإصلاح, ولكن هل استطاع الإصلاح؟! إنا نقول كما قال أحمد أمين1 "يالله وإصلاح الأزهر! ما حاوله أحد ونجح ولا الشيخ محمد عبده، لأن كل المحاولات كانت تتجه إلى هامش الموضوع لا أساس الموضوع، وكانت عن سبيل استرضاء أهله, والخوف من أي قلق واضطراب، وهم يتزعمهم طائفة ألفت القديم حتى عدته دينًا، وكرهت الجديد حتى عدته كفرًا، وعاشت إلى المغارات فلم تر ضوءًا, وأفنت عمرها في فهم لفظ، وتخريج جملة, وتأويل خطأ، فلم تر حقائق الدنيا، فإذا أتى المصلح سمم أهله الجو حوله، واحتموا بالدين يخيفون به الحكومة، ويكسبون به عامة الشعب. المشكل لا يحل إلّا بالعلاج الحاسم، وهو أن يتبع الأزهر الحكومة تبيعة الجامعة، ويستقل استقلالها ويخضع في نظمه لما ترشد إليه علوم التربية الحديثة, ويرقى برقيها، ثم ينفذ ذلك من غير خشية".

_ 1 مجلة الثقافة العدد 392.

وأضيف إلى هذا بالأزهر اليوم وفي كل حين ثروة معنوية عظيمة تضيع هباءً وتوجه وجهةً خاطئةً، ولا تفيد منها الأمة شيئًا، ولو حولت هذه الجامعة الأزهرية إلى جامعة مدنية ينفق عليها من الأموال الموقوفة على الأزهر، ويتعلم الطلبة فيها بالمجان, لما حرمت الأمة من الثروة العظيمة، ولنبغ من أبنائها الطبيب النطاسي، والمهندس الفذ، والرياضي القدير، والصيدلي الماهر، أما الدين فتخصص له طائفة، تسد الفراغ وتلي شئونه من وعظ وإمامة وغير ذلك، لقد اتجه الأزهريون اليوم إلى الوظائف ولم يعودوا يطلبون العلم لذاته كما كان يفعل أسلافهم، فوجب على الأمة والحكومة أن تعدهم الإعداد الصالح لهذه الوظائف, وتتولى شئون الأزهرن بحزم, وتنهض به نهضة تليق باسمه وتاريخه، فيتعلم أبناءه اللغات الأجنبية, فإذا جادلوا في الدين جادلوا بالحجة القوية, وعرفوا مواطن الضعف عند سواهم، وإذا درسوا الفلسفة والمذاهب الحديثة تفتح أمامهم سبل الاطلاع, على أن تتجه جمهرتهم إلى التعليم المدني, وبذلك تفيد الأمة من هذه الثروة المعنوية الضائعة، ومصر بحاجة إلى أكثر من جامعة. حاول الإمام محمد عبده إصلاح الأزهر، فلم يصلح سوى الشكل من زيادة مرتبات العلماء ووضع لائحة كَسَى التشريف، والامتحان, ومساكن الطلبة، ولكن حين ابتدأ ينظر إلى الدارسة وطرقها والكتب التي تدرس والمناهج, وجد العقبات أمامه جمةً, وأخفق في محاولاته, ونفض يده من الإصلاح، لقد كان كارهًا للطريقة الأزهرية في معالجة الدرس والشروح والحواشي والتقارير وعلك الألفاظ، وقد عرفنا أنفًا كيف كادت هذه الطريقة أن تحرم مصر إمامها ومصلحها، ولقد قال له يومًا الشيخ البحيري مدافعًا في مجلس إدارة الأزهر عن هذه الطريقة: "إننا نعلم الطلاب كما تعلمنا" فقال له الشيخ محمد عبده: "وهذا ما أخاف منه"، فقال البحيري مستنكرًا: "ألم تتعلم أنت في الأزهر, وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت في العلم الفرد؟! " فأجاب الإمام: "إن كان لي حظٌّ من العلم الصحيح الذي تذكره، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة1".

_ 1 من تقرير الشيخ عبد الكريم سلمان من التعليم في الأزهر.

وهذه كلمات دل على مرارة وألم، وعلى أن الشيخ لم ير في الأزهر وعلومه ورجاله ما يبشر بالنجاح، فليت شعري هل تغير الأزهر كثيرًا منذ محمد عبده حتى اليوم؟! وتولى محمد عبده منصب الإفتاء في يولية 1899، وأضفى عليه وجاهةً دينيةً وجلالًا, وكان في منصبه هذا جريئًا، يصدر الفتاوى التي يرى فيها الجامدون زندقة وإلحادًا، وهو يراها اجتهادًا وتجديدًا وتمشيًا مع روح العصر بما لا يخالف حقيق الدين وجوهره1، ولم تكن العلاقة بينه وبين الخديو عباس طيبة؛ لأن عباسًا يراه مسالمًا للإنجليز مستعينًا بهم, وفي ذلك جرح لوطنية الخديو والتجاء إلى خصومه، وكان الشيخ محمد عبده يعتقد في مهادنة الإنجليز والاستفادة منهم، ويرى في عباس رأيًا آخر, وهو أنه جشعٌ محبٌّ لجمع المال ولو من دماء رعاياه, وقد اصطدم به مرتين؛ أولاهما: حين أراد استبدال أراضي وقف فأبى عليه الشيخ ذلك, ورأى أن هذا الاستبدل ليس في مصلحة الوقف، وحمل مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلّا أذا أُعْطِيَ للوقف عشرين ألفًا من الجنيهات تعويضًا لهم، وثانيهما: حينما أراد الخديو منح بعض رجال حاشيته "كسوة تشريفة" ولم يكن هذا المنح منسجما مع اللوائح، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ أمر الخديو وإعطائها للمستحق، ولما اجتمع العلماء لدى الخديو, وأخذ يؤنب شيخ الأزهر على ذلك, انبرى له الشيخ محمد عبده، وطلب منه إذا أراد التنفيذ أن يغير اللائحة, وينسخ القانون السابق، فاستشاط عباس غضبًا ووقف

_ 1 من ذلك فتوى "الترسنفال" وهي إجابة على ثلاثة أسئلة: أحدها: بقر يضربه النصارى على رأسه بالبلطة حتى تضعف مقاومته, ثم يذبح قبل أن يموت بدون تسمية الله عليه، فهل يجوز أكل لحمه، فأفتى الشيخ بحل هذا اللحم، وكانت للفتوى ضجة؛ لأن علماء الأزهر يقولون هي الموقوذة التي حرَّم الله أكلها, والشيخ يقول: إن الموقوذة التي ضربت بشيء غير محدد كالحجارة والخشب حتى ماتت, وهذه ذبحت قبل موتها، وثانيهما: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال يلبسون القبعات لقضاء مصالحهم، وتمكنهم القبعة من جني بعض الفوائد، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأفتى الشيخ بالجواز, ورأى أن لبس القبعة إذا لم يقصد به الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا، وإذا كان اللبس لحجب الشمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه وتيسير مصلحة لم يكره ذلك، وقد أثارت عليه هذه حملات شديدة من الجهلة وخصومه السياسيين، والثالث: يصلي الشافعي خلف الحنفية بدون تسمية، ويصلون خلفهم العيدين فهل تجوز الصلاة؟ ولم يكن لهذا السؤال ضجة كغيره. راجع تاريخ الأستاذ الإمام ج3 ص84، 167، 179, والجزء الأول ص 267, وتجد نص الفتوى في تاريخه ج1 ص646 وما بعدها.

إيذانًا للعلماء بالانصراف، وقد كان لهذا كله أثر في الحملات الشديدة, والمكايد التي دبرها عباس للشيخ وإيعازه للصحافة بالتشهير به, وانتهاز فرصة فتاويه الجريئة ورميه بالكفر والإلحاد، وكلما هَمَّ الخديو بعزله من منصب الإفتاء صرَّح كرومر بأنه لا يوافق على عزله, ومهما كانت الأحوال ما دام موجودًا. كل هذا ومحمد عبده ماضٍ في مشروعاته الإصلاحية بالأزهر والمحاكم والأوقاف, وكان الحزب الوطني يناوئه ويحمل عليه بشدةٍ لأنه كان يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وكان الإمام يرى أن مصطفى كامل مخطئ في صلته بالخديو؛ لأن عباسًا لم يكن مخلصًا في وطنيته, ولا هَمَّ له إلّا جمع المال وإيداعه بالمصارف الأجنبية خشية أن يعزله الإنجليز فجأةً، وقد قال محمد عبده في وصف مقالات مصطفى كامل: "إنها مجموعة نوبات عصبية بعضها شديد وبعضها خفيف". والحق أن التباين كان شديدًا بين عقلية الإمام وعقلية الزعيم الشاب؛ من حيث طريقة التفكير واتخاذ الوسيلة، ولا نستطيع أن ندافع عن موقف الشيخ محمد عبده من الإنجليز واعتماده عليهم, إلّا أن الخديو هو الملوم في ذلك؛ لأنه لم يمكِّنْ هذا المصلح الكبير من السير في إصلاحاته، ولأنه أراد أن يلتهم مال الوقف بدون مبرر؛ وفي مال الوقف قسم كبير جدًّا للأزهر، كلما حاول عباس أن يعبث وقف له محمد عبده بالمرصاد، وحب المال ضعف بشري عام، وكان في عباس أضعف شيء فيه، ولكن دفاعنا هذا لا يسوغ لجوء الشيخ إلى خصوم وطنه وخصوم دينه مهما كان الإصلاح المنشود وقيمته، وما كان له أن يستعين بهم حتى لو ظل الأزهر على ما هو عليه، وهل بعد هذه التضحية استطاع أن يصلح الأزهر؟ كلّا! وقد اعترف بإخفاقه. ولكن هل تقضي هذه الزلة السياسية على كل ما لمحمد عبده من مجد؟ اللهم لا، فقد شاركه في رأيه السياسي حينذاك كثير من زعماء الأمة؛ كسعد زغلول، وفتحي زغلول، وحسن عاصم، ومحمو عاصم، ومحمود سليمان، وسلطان وغيرهم، إلا أنه تعرض للهجمات أكثر منهم؛ لأن الخديو رأى فيه قوة واعتدادًا بالنفس، وعقبةً في سبيل مطامعه؛ فألَّبَ عليه العلماء الرجعيين, والصحافة المأجورة هزلية وجدية.

وأخيرًا اضطر محمد عبده إلى الاستقالة عقب خطبةٍ ألقاها عباس عند توليته الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر، وهي تدل على عظم حنقه وسخطه على محمد عبده وتعريضه به، وجاء في هذه الخطبة: "إن الأزهر أُسِّسَ على أن يكون مدرسةً دينيةً إسلاميةً تنشر الدين في مصر وجميع الأقطار العربية.. ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا, ولكن من الأسف رأيت فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين، ويكثرون من أسباب القلاقل.. وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر, والشغب بعيدًا عنه، فلا يشغل علماؤه وطلبته إلّابتلقي العلوم النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء" ثم ذكر أنه قبل استقالة السيد علي الببلاوي رعايةً لصحته، وأنه مستعد لقبول كل استقالة من سواه, وممن "يحالون بثَّ الشغب بالوساوس والأوهام, أو الإبهام بالأقوال" ويرى أن مثل هذا الشخص يجب أن يكون بعيدًا عن الأزهر. لم يكن محمد عبده صنيعة الإنجليز، أو مما يتناول أجرًا منهم، أو ممن يستعدونهم على قومهم، ويشجعونهم في أطماعهم الاستعمارية1، وإنما كان يرى أنه مصلح, ولابد له من عضد يسنده في إصلاحه ويشجعه على السير قدمًا في طريق الكمال، ولم يجد في عباس هذا العضد؛ لأنه كان مشغولًا بنفسه, وبجمع المال, وبأهوائه الخاصة، فلجأ إلى الإنجليز، وهذا اجتهاد منه أخطأ فيه, بيد أنه لا يطوح بكل ماضيه وآرائه، فالعظيم لا ينظر إليه من ناحية واحدة, بل لابد من رؤية جميع خصائصه وميزاته، وقد كان محمد عبده إمامًا في الإصلاح الاجتماعي, ورائدًا فذًّا من رواد النهضة الفكرية. لقد كان ممكنًا أن يلتقي عباس ومحمد عبده ومصطفى كامل2، وينهض الثلاثة بمصر وبالإسلام وبالشرق العربي كله، ولكن لم يتم هذا، كما لم يتم

_ 1 كما فعل سلطان باشا، وعمر لطفي، وكان يكرهما لموقفهما هذا. 2 كان مصطفى كامل يعتمد أول الأمر على عباس ماليًّا فكان من دعاته، ولعل هذا مما عاق اتصال الشيخ بالزعيم الشاب، وروى رشيد رضا "أن الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل التقيا على باخرة حملتهما إلى أوربا, وقال الزعيم للإمام: إذا قبلتني من مريديك فإن خدمتك للإسلام ومصر تكون مضاعفة, وأهدى له كتبًا بالفرنسية, وأخذ يرزوه بعد عودته إلى مصر, ولكن الاتصال لم يدم بينهما, كما أن مصطفى كامل قطع صلته بعباس بعد ذلك.

اجتماع محمد علي والسيد عمر مكرم ومحمد بن عبد الوهاب من قبل، واضهد محمد علي الزعيم الروحي لمصر عمر مكرم, والمصلح الديني الكبير محمد بن عبد الوهاب, وحاربه في نجد، وهكذا تكررت المأساة على يد أحد أحفاده بعد خمسين سنة. وفاته: استقال محمد عبده من الإفتاء وقد آمن بعجزه عن إصلاح الأزهر عجزًا تامًّا، ولم يلبث بعد ذلك مدةً وجيزةً حتى أحسَّ بالمرض، فعزم على السفر إلى أوربا طلبًا للشفاء, ولم يحل مرضه بينه وبين ما يقوم به من أعمال جليلة في مجلس الشورى وفي الجمعية الخيرية الإسلامية وامتحان دار العلوم، وإعداد مشروع القضاء، وإعداد مشروع الجامعة المصرية, بيد أن المرض ألَحَّ عليه, واختلف فيه الأطباء، هل هو المعدة؟ أو الكبد؟ ثم ظهر أنه السرطان الذي مات به من قبل أستاذه جمال الدين، فأشاروا إليه بعدم السفر, وفي يوم 11 من يولية سنة 1905, انطفأ هذا المصباح الوهَّاج, عن ست وخمسين سنة برمل الإسكندرية، واحتفل بتشييع جنازته رسميًّا، وكان حفلًا رائعًا لم تشهد مصر مثله من قبل, وكان عباس متغيبًا عن مصر فلما عاد وسمع بعظم الحفل واشتراك الحكومة فيه أنَّبَ كل من أسهم في هذا. أثره في النثر: لا نريد أن نتعرض هنا لآرائه الاجتماعية والسياسية والخلقية بالتفصيل، وقد مر بنا ما يعطينا عنها فكرةً واضحةً، وإنما الذي يعنينا حقًّا هي آثاره في الكتابة والنثر، وقد عرفنا أنه ابتدأ يكتب في الصحف، وهو بعد طالب في الأزهر، وقد طرأ على أسلوبه الكتابيِّ تغييرٌ كثير منذ المقالة الأولى التي أرسلها لجريدة "الأهرام"1 حتى انتقل إلى جوار ربه، ولمحمد عبده أثر عظيم في النثر العربي, سواء في أسلوبه هو, وجعله مثلًا يحتذى به في الأعمال الجليلة التي قام بها لخدمة النثر والكتابة.

_ 1 العدد الخامس الصادر في 2 سبتمبر سنة 1876.

1- أما أسلوبه فتراه يعنى به عنايةً زائدةً, وإذا قرأت ما كتبه في جريدة الأهرام، تجده متأثرًا بالكتب الأزهرية وخاصة ما أُلِّفَ في الفلسفة الإسلامية؛ من حيث الموضوع وطريقة علاجه، ونجده كذلك لا تفوته سجعة، وإن تكلف في سبيلها المشاق، ويقدم موضوعه بمقدمات طويلة تجهد نفس القارئ وتسئمه، وهاك مثلًا على هذا الأسلوب من مقالة "الكتابة والقلم": "ولما انتشر نوع الإنسان في أقطار الأرض، وبعد ما بينهم في الطول والعرض، مع ما بينهم من المعاملات، ومواثيق المعاقدات، احتاجوا إلى التخاطب في شئونهم، مع تنائي أمكنتهم، وتباعد أوطانهم, فكان لسان المرسل إذ ذاك لسان البريد, وما يدريك هل حفظ ما يبدء المرسل وما يعيد، وإن حفظ هل يقدر على تأدية ما يريد, بدون أن ينقص أو يزيد، أو يبعد القريب أو يقرب البعيد، فكم من رسول أعقبه سيف مسلول، أو عنق مغلول، أو حرب تخمد الأنفاس، وتعمر الأرماس، ومع ذلك كان خلاف المرام, ورمية من غير رام.. فالتجئوا إلى استعمال رقم القلم, ووكلوا الأمر إليه فيما به يتكلم". وهذا النوع من النثر قد وفيناه بحثًا فيما سبق. ثم لما اتصل بجمال الدين، ورأى منه قدرته على تصريف المعاني، وعلى ابتداع أفكارٍ جديدةٍ, وقرأ معه بعض كتب الفلسفة والمنطق, وخاض في الموضوعات الاجتماعية والسياسية, تدفعه إلى الكتابة عاطفة جياشة وشباب فتيّ, وأثر متقد من نفس أستاذه جمال الدين, لم يجد وسيلة إلّا أن يتخلص من السجع والكلف به وأن يتجنب المقدمات الطويلة، وأن يرتِّبَ الموضوعات ترتيبًا منطقيًّا، ويكثر من استعمال الأقيسة والبراهين، يقلب الفكرة على شتَّى وجوهها؛ ويرى في كلامه قوةً وحرارة إيمان بما يكتب، وهذا النوع من النثر يتجلى في مقالات "الوقائع المصرية" وقد تدرج في إصلاح أسلوبه حتى اشتد وقوي، ثم بلغ درجةً عظيمةً من المتانة, وبرزت فيه هذه المزايا التي ذكرناها في مقالات "العروة الوثقى", فمن نثره في "الوقائع المصرية" قوله في التربية بالمدارس: "من المعلوم البيِّنِ أن الغرض الحقيقي من تأسيس المدارس والمكاتب، والعناية بشأن التعليم فيه إنما هو تربية العقول والنفوس, وإيصالها إلى حدٍّ يُمَكِّنُ المربي من نيل كمال السعادة أو معظمها ما دام حيًّا, وبعد موته، ومرادنا من تربية العقول إخراجها من حيز البساطة

الصرفة والخلو من المعلومات، وإبعادها من التصورات والاعتقادات الرديئة إلى أن تتحلى بتصورات ومعلومات صحيحة تحدث لها ملكة التمييز بين الخير والشر, والضار والنافع، ويكون النظر بذلك سجية لها، أي يكون لنور العقل نفوذ تامٌّ يفصل بين طيبات الأشياء وخبائثها". وهو أسلوب المصلح الاجتماعي, وقد عرفت خصائص هذا النوع من النثر قبل، ولم يكن يعمد فيه الشيخ محمد عبده إلى تفخيم الألفاظ وانتقائها، وحبك الجمل واستوائها، وقد يستعمل أحيانًا كلمات عامية أو دخيلة للتعبير عما يريد إذا لم تسعفه الكلمة العربية. أما مقالات "العروة الوثقى" فقد مرت بك نماذج كثيرة منها, فلا داعي لذكر جديد. ثم مرن أسلوب الشيخ محمد عبده واشتدَّ قلمه، من كثرة ما كتب، وما تناول من موضوعات, وما تأثر به من تجارب وقراءة، وبلغ أسلوبه غايته في مقالته التي يردُّ بها على "هانوتو" وكان وزيرًا لخارجية فرنسا، وقد بحث في كلمته الأسباب التي تدعو المسلمين إلى النفور من الحكم الأجنبي، وهل من وسيلة لتحبيبهم في فرنسا؟ وقد تعرض للإسلام, ولماذا كان المسلمون غير مسيحيين؟ ووازن بين الإسلام والمسيحية، وتعصَّب لدينه ونشرت جريدة "المؤيد"1 مقالته, فرد عليه الشيخ محمد عبده ردًّا مفحمًا, تجلت فيه نصاعة الفكرة، وصدق العاطفة ومتانة الأسلوب، وقوة الحجة، وسلامة البرهان، مع بساطة في التركيب، وسهولة في الألفاظ، وطالت المساجلة بين "هانوتو" والشيخ محمد عبده، وانتصر فيها الإمام انتصارًا بالغًا, وكان من الأسباب التي مكنت له مقامه بمصر بعد عودته من المنفى، ووضعته في مركز الصدارة من مفكري الأمة والذادة عن الدين.

_ 1 تاريخ الإمام ج2 ص382، مقال "هانوتو" ص 382-395, ورد محمد عبده عليه ص 395-411, انظر التفاصيل في تاريخ الإمام ج2 ص289 وما بعدها.

ويقول في إحدى هذه المقالات: "إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها, وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها عدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم, في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة". هذا وقد كانت للشيخ في رسائله الإخوانيه أسلوب يحتفي فيه، بعبارته، وتصوير مشاعره تصويرًا فنيًّا يدل على ذوق أدبي، وتمكن من اللغة والأدب، وعلى أنه ذو موهبة شعرية تمده بالخيالات الطريفة والصور البيانية الجميلة، وقد ذكرنا فيما سبق خصائص هذا الأسلوب, وضربنا عليه أمثلةً من كتابة أديب إسحق، وعبد الله نديم، وعبد الله فكري. وهاك مثلًا من رسالة للشيخ محمد عبده إلى أحد إخوانه وهو في سجن القاهرة بعد أن اتهم بالاشتراك في حوادث الثورة العرابية، وذلك في 9 من المحرم سنة 1320, الموافق 20 من نوفمبر سنة 1881م. عزيزي: تلقدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم هذه حالتي: اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر، فأخذت صخوره فمن مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعترضت ما بين المشرق والمغرب, وامتد إلى القطبين، فاستحجرت في طباع الناس! إذا تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كالحجارة أو أشد قسوة, فتبارك الله أقدر الخالقين. رأيت نفسي اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلة داجية، غطى فيها وجه المساء بغمام سوء، فتكاثف ركامًا؛ لا أرى إنسانًا، ولا أسمع ناطقًا، ولا أتوهم مجيبًا.

أسمع ذائابًا تعوي، وسباعًا تزأر، وكلابًا تنبح، كلها يطلب فريسةً واحدةً وهي ذات الكاتب، والتف على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكل، وتحكم فيها سلطان الجوع، ومن كان هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين. تقطع حبل الأمل، وانفصمت عروة الرجاء، وانحلت الثقة بالأولياء, وضل الاعتقاد بالإصغاء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء والناس أجمعين. سقطت الهمم، وخربت الذمم, وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، ومزقت الشرائع، وبدلت القوانين، ولم يبق إلّا هوًى يتحكم, وشهوات تقضي, وغيظ يحتدم, وخشونة تنفذ، تلك سنة الغدر، والله لا يهدي كيد الخائنين. ذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية, ينوسون لطب أصداف من الشبه, ومقذوفات من التهم, وسواقط من اللم, ليموهوها بمياه السفسطة, ويغشوها بأغضية من معادن القوة؛ ليبرزوها في معرض السطوة, ويغشوا بها أعين الناظرين، لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لحقٍّ خفيٍّ فيظهرونه، أو خرق بدا فيرتقونه، أو نظام فسد فيصلحونه، كلّا كلّا بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين"1. ولعلك تلمس في تلك الشكوى المرة من الخيانة والغدر وعدم الوفاء، وتحكم الأهواء, وهي التي سمعتها من قبل على لسان البارودي بعد أن غدر به أصحابه، وأخفقت الثورة, وزج به في غياهب السجن، ولقد كان الشيخ في نثره شاعرًا جياش العاطفة, بارع التصوير لحاله ولآلامه ولمرارة السجن. هذا ولم يعن محمد عبده بأسلوبه فحسب, بل حاول أن يحمل الكُتَّابَ على العناية بكتاباتهم, وله في هذا المضمار، وفي النهوض بالكتابة آثار منها: 1- مكَّنَ له منصبه في "الوقائع المصرية" من الإشراف على الجرائد والمجلات, ومراجعة ما يحرره كتبة الدواوين في شئون الحكومة، وقد مر بك كيف أنذر

_ 1 تاريخ الأستاذ الإمام ج2 ص521-522 طبعة أولى سنة 1374 بالمنار.

صاحب إحدى الجرائد بالتعطيل إن لم تغير أحد كتابها, أو تحمله على تحسين أسلوبه, وقد التَفَّ حوله فريق من طليعة كتاب مصر والشرق، وأفسح لهم في "الوقائع المصرية" يدبجون المقالات الاجتماعية والأدبية والسياسية بإرشاده، وكان يرى أن اللغة العربية هي أساس الدين1 وأن حياة المسلمين بدون حياة لغتهم من المحال2. 2- وفي بيروت شرح نهج البلاغة ليسهل على الناس قراءته والإفادة منه، وشرح مقامات بديع الزمان الهمذاني ونشرها حتى تكون زادًا يتغذَّى به طلاب الأدب، ومن ينشدون قوة الأسلوب وسلامة التعبير. ولما عاد إلى مصر كانت دروسه في البلاغة تختلف عن تلك الكتب التي أفسدتها عجمة مؤلفيها، واختار من كتب البلاغة دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وكان السبب في نشرهما لينتفع الناس بهما وقد نشرهما المنار. وأنشأ جمعية لإحياء الكتب العربية, نشرت "المخصص" لابن سيده، وفي نشره تيسير على طلاب اللغة؛ لأنه من معجمات المعاني، فقد يكون بذهنك المعنى, ولكن يعوزك اللفظ المعبر عنه فتلتمسه في "المخصص" وفي أمثاله من المعجمات، وقام بتصحيح "المخصص" العالم اللغوي الشهير الشيخ محمد محمود الشنقطي, وقد حماه الشيخ محمد عبده، وشجعه على الإقامة بمصر، ولولاه ما بقي3. كما شرع في طبع "الموطأ" للإمام مالك بعد أن جاء بنسخ خطية له من تونس وفاس وغيرهما4. 4- وعهد إلى الأستاذ سيد بن علي المرصفي في تدريس كتب الأدب بالأزهر, أمثال: "الكامل" للمبرد، و"ديوان الحماسة" لأبي تمام، وكانت هذه الدروس غريبة عن الأزهر, ولا عهد له بها، وقد تتلمذ على المرصفي عدد كبير من أدباء مصر البارزين اليوم, أمثال: المنفلوطي، وطه حسين، والزيات، والزناتي, وغيرهم, فهم أثر من آثار توجيهه وإرشاده.

_ 1 تاريخ الإمام ج3 ص259. 2 المنار ج8 ص491. 3 بروكلمان ج1 ص309. 4 المنار ج8 ص491.

وبهذه الوسائل استطاع محمد عبده أن يقدم للنثر العربي خدمة جليلة، ويوجه الكُتَّاب إلى العناية بما يكتبون، غير مقيدين بذلك السجع السخيف, ومنصرفين إلى المعاني وتفتيقها, ودراسة الموضوع دراسة جيدة تفيد القارئ وتجدي على الأمة. هذا ما كان من أثره في النثر، ولا يسعنا ونحن نختم هذه العجالة عن محمد عبده إلّا أن نقرر أنه أيقظ في مصر الشعور الديني، والرغبة في الإصلاح الاجتماعي، وأن الأولى بالمسلمين أن يعتمدوا في الإصلاح على أنفسهم, ويدعوا الفخر بماضيهم؛ ودعا إلى أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل، وكما دعا إلى الاجتهاد، وعدم الوقوف بالتشريع وبمسائل الدين عند الحد الذي قُرِّرَ من قرون عديدة، وذلك لكي نواجه المسائل الجديدة بتشريعٍ دينيٍّ سليم, قبل أن نغلب على أمرنا، وكان يرى أن أكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر مقوم للأخلاق ومهذب لها هو الدين، والدين الإسلامي لحسن الحظ يتشمى مع العقل، ويحض على مكارم الأخلاق، ويفسح صدره للعلم. لقد خلف محمد عبده تلاميذه ببررة تأثروا بتعاليمه, وظلوا ردحًا طويلًا من الزمن يفتخرون بانتسابهم إليه وبالأخذ عنه، ومنهم سعد زغلول، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم المويلحي، والهلباوي، ومصطفى صادق الرافعي بمصر، وإبراهيم اليازجي، وأحمد الحمصاني بسوريا, وعدد كثير سواهم ممن حملوا لواء الإصلاح بعده, وكان لهم الأثر البالغ في أوطانهم ونهضتها، وإن كان قد صبغهم في أثناء حياته بطابعه السياسي الخاص، ووجه ميولهم صوب الإنجليز، فهادونهم، وتعانوا معهم في كل شيء، فلما تُوفِّيَ الشيخ محمد عبده, أسرع بعضهم إلى جبهة الوطنيين مثل حافظ إبراهيم، وتأخر الزمن قليلًا ببعضهم عن ذلك المضمار, ولكن ما لبث بعضهم حتى صار زعيم الوطنية بمصر كسعد زغلول.

عبد الله نديم

3- عبد الله نديم: أعجوبة من أعاجيب عصره، يقف وحده في كل ما تميز به من سجايا، لا يدانيه فيها امرؤ من أهل زمانه؛ ويخيل إليك وأنت تقرأ سيرته أنك أمام رجل من رجال الأساطير, يروعك بذكائه الخارق، وقوة عارضته، ومتين حجته، وشجاعته الفائقة، وبحياته المليئة بالأحداث، وبما بلغ من شهرة، وبما حارب من أبطال، وبما أفزع من دول, ولم يكن في حسب جمال الدين وعلمه، ولم يدرس ما درس محمد عبده, وإنما نشأ في بيئة فقيرة1 فعانى البؤس وشظف العيش؛ ولكن الله الذي يهب العبقرية لمن يشاء أودع حظًّا كبيرًا منها في رأس عبد الله النديم، وزوَّدَه بنفس شجاعة، ويد سخية، وكانت هذه الخلال رأس ماله الذي واجه به الحياة, وقد استطاع أن يسجِّلَ اسمه لامعًا في سجل الخلود. دراسته وتجاربه: لم يرق لعبد الله العلم الذي وجده بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وهو عِلْمٌ شيبه بما كان يدرس في الأزهر حينذاك، ووجد في جفاف العلوم، وعقم الطريقة، ورداءة الكتب وركاكة عبارتها, ما نفره من الأزهر المصغر، وحُبِّبَ إليه نوعٌ آخر من الدارسة تهواه نفسه، وينسجم مع ما أودع فيها من مواهب؛ فغشي مجالس الأدباء يسمع شعرًا وزجلًا، ونوادر وقصصًا, فتهتز نفسه طربًا، ويتمنى أن يكون أحد هؤلاء الشعراء أو الزجالين؛ وكانت له ذاكرةٌ حادةٌ تلتقط كل ما تسمع فوعى كثيرًا. وقد كان لهذا أثرٌ كبيرٌ في حياته الأدبية، ولا سيما وقد خالط أبناء الطبقة الفقيرة, وجمهرة الشعب, ووقف على عاداتهم وأمثالهم ونوادرهم وظروفهم وسرعة بديهتهم، فتاثرت بذلك نفسه الحساسة وذوقه المرهف.

_ 1 كان أبوه مصباح إبراهيم نجارًا في أول أمره، ثم خبازًا، ويحصل من مخبزه على الكفاف من العيش، ويعول أسرة كبيرة العدد، يعيش في مسكن متواضع، وقد أرسل ابنه عبد الله إلى المكتب, ثم إلى مسجد الشيخ إبراهيم باشا في الإسكندرية، وغاية ما يرجوه أن يتعلم قليلًا منه ثم يعود إليه ليعاونه.

ولكن هيهات أن يرضى أبوه بهذه الدراسة غيرة المنتظمة وهو رجل يكد ويتعب لينال الكفاف, وكان يؤمل أن يرى ابنه عالمًا كبيرًا كهؤلاء الذين يرى الناس يقبلون أيديهم, أو على الأقل يساعده بما تعلَّم من حساب ولغة، فلما بدت هذه النزعة نفض منه يده، وأخذ عبد الله يعول نفسه، وتعلم في الإشارات "التلغرافية"، وأتيح له بعد أن أتقن هذا الفن أن يشغل وظيفة بقصر والدة الخديو إسماعيل بالقاهرة، فشاهد الغنى والجاه، وألوانًا من الحياة والعيش لم يرها من قبل؛ شاهد العز في أوجه، كما عرف الفقر في أبشع صوره من قبل. وعاوده بالقاهرة حنينه إلى مجلس الأدباء والشعراء, فصار يَجِدُّ في البحث عنهم، فتارةً يذهب إلى الأزهر ويطَّلِعُ على ما أخذ رفقاءه1, وأحيانًا يغشى منازل الأدباء ويتعرف عليهم ويستفيد منهم، فتوثقت صلته بالبارودي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، ومحمود صفوت الساعاتي، والشيخ أحمد الزرقاني، وحمد بك سعيد بن جعفر مظهر باشا الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ2, وغيرهم من الأدباء أو محبي الأدب، فاتسعت ثقافته الأدبية بهذا الاختلاط، وعرف مزايا كلٍّ منهم، ووقف على فنه، وشاركهم في مجلس أنسهم وطريقتهم ومطارحتهم, فأضاف إلى خزينة أدبه ما وعاه في هذه المجالس من طرفٍ وملحٍ وروايةٍ. ولكن مقامه بالقاهرة لم يطل؛ إذ زَلَّ قلمه وهو في الوظيفة, فأغضب خليل أغا3 المشرف على القصر، وناهيك به في ذاك الوقت جبارًا، لا يرد له أمر، وبذلك فقد عبد الله وظيفته، وضاقت عليه القاهرة بما رحبت، فضرب في البلاد هائمًا على وجهه حتى وصل إلى "بدواي" بمديرية الدقهلية، وأخذ يعلم أبناء عمدتها القراءة، لكن هذا العمدة ضَنَّ عليه بالأجر، فثارت ثائرة عبد الله نديم، وأخذ يصوغ في هجاء هذا العمدة ألوانًا مقذعةً من الهجاء, كانت أول ما عرف من أدبه، واكتشف نفسه أديبًا ذا سطوةٍ في القول، حادَّ اللسان, عنيف الخصام, حاضر البديهة.

_ 1 وكان من رفقائه الخلصاء الشيخ حمزة فتح الله. 2 وقد دبج عبد الله نديم مقالًا في هؤلاء الأدباء, أتى فيه عليهم, ووصف كلًّا منهم ببعض النعوت والمدائح، راجع سلافة النديم ج21 ص34. 3 وهو خصي, كان ذا حظوةٍ عظيمةٍ لدى إسماعيل وأمه، وكانت إشارته حكم, وطاعته غنم, كأنه كافور الإخشيدي أو يزيد.

ثم نراه في المنصورة يتجر في "العصائب" ويجمع حوله الأدباء والشعراء, فأكل الربح رأس المال الذي جاد به عليه أحد الكرماء، ووجد نفسه بعد مدةٍ في دكانٍ مملوء بالشعراء, خلو من السلع، فهام على وجهه مرة أخرى بالبلاد حتى وصل إلى طنطا إبان مولد السيد البدويّ, واتصل بشاهين باشا كنج1، وكان رجلًا ذا جاه يجتمع حوله الأدباء والظرفاء, وله ببيته منتدى يضم أنماطًا شتَّى من ذوي اللسن والنكتة والفكاهة، وقد مكث عبد الله نديم في ضيافته مدةً ينعم بكرم وأدب وراحة، وكان واسطة العقد يبهر الناس بأدبه وطلاقة لسانه وسرعة بديهته، وكان يتحداه الأدباء، ويحاولون تعجيزه ولكنه بهرهم بمواهبة؛ وقد روي أن بعضهم اقترح عليه أن يعارض دالية المتنبي المشهورة التي مطلعها:

_ 1 وقد وقع له مع شاهين باشا حادثة تدل على مبلغ بديهة عبد الله نديم واستعداده الأدبي, فقد قال هو عن نفسه: "كنت بمولد السيد البدوي ومعي السيد علي أبوالنصر والشيخ علاوة, وجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب وقف يناظر آخر، فلما فطن أحدهم لانتقادنا عليهما استلفت أخاه إلينا، وخصنا بالكلام، فأخذا يمدحاننا واحدًا فواحدًا, إلى أن جاء دورهما إليّ, فقال أحدهما يخاطبني: أنعم بقرشك يا جندي ... وإلا اكسنا أمل يا أفندي ولا أنا وحياتك عندي ... بقي لي شهرين طول جوعان فقلت على سبيل المزاح: أما الفلوس أنا مديشي ... وأنت تقول لي ما امشيشي يطلع على حشيشي ... أقول أمص لك لودان ولما بلغ شاهين باشا ذلك وأني غلبت هؤلاء "الأدباتية" طلب شيخهم، ووعده إن غلبوني يعطهم ألف قرش. وإن غلبتهم يضرب كل واحد من عشرين "سوطًا" واجتمع لذلك حشد من الناس كبير, وابتدأ كبيرهم فقال: أول كلامي حمد الله ... ثم الصلاة على الهادي ماذا تريد يا عبد الله ... قدام أميرنا وأسيادي فقلت: إني أريد أحمد ربي ... بعد الصلاة على المختار وإن كنت تطمع في أدبي ... أسمعك بعض الأشعار فقال: دعنا من الأدب المشهور ... وادخل بنا باب الدعكة ندخل على أسيادنا بسرور ... ونغنم الخير والبركة فقلت: ها احتكم في البحر وشوف ... فن النديم ولا فنك دقولت أسمع يا متحوف ... أحسن أدب وحياة دقنك وهكذا استمر عبد الله نديم يشاجل هؤلاء الأدباتية حتى أفحمهم, وتجد ثبتًا لا بأس به بمجلة الأستاذ, كتبه بنفسه، ونقله أحمد باشا تيمور في كتابه "تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر".

أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد وادعى المفترح أنه لا يتأتى لشاعر أن يعارض المتنبي في قوله بهذه القصيدة: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًا له من صداقته بد فقبل النديم التحدي، وأنشأ قصيدة مطلعها: سيوف الثنا تصدا، ومقولي الغمد ... ومن صار في نصري تكلفه الحمد ومنها يعارض بيت المتنبي: ومن عجب الأيام شهم أخو حجا ... يعارضه غر ويفحمه وغد ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما ... لتحفظ أعراض تكفلها المجد وليس هذا شعرًا صادرًا عن عاطفة أو فكرة، وإن هو إلّا مهارة لسانية، وإظهار لمقدرة كلامية، وقوة عارضة، وتوقد خاطر، وأثر الصنعة باد عليه، ولكن الشعر في عصر عبد الله نديم كان كذلك. ثم عاد إلى الإسكندرية في سنة 1879، بعد أن غاب عنها طويلًا, ووجد الأمور والأحداث قد بدلت حديث الناس وسمرهم, ولم يعد الشعر وروايته والأدب ودرايته هي ما يشغل المستنيرين بمصر عامة، والإسكندرية بخاصة، وإنما كان يشغل الناس حينذاك إسراف إسماعيل وتهوره، وتدخل الأجنبيّ في شئون البلاد وتجبره, ووجد بالإسكندرية جمعية سرية تسمى: "مصر الفتاة" تنقد إسماعيل وأعماله صراحة، وتعبر عن آلام الأمة وآمالها، ووجد الصحف قد تغيرت لهجتها، وصارت بفضل تعاليم جمال الدين ميدانًا، فيه الأقلام المرهفة الحادة على الظلم والعنفوان والاستبداد والقسوة, وتطلب الشورى وإنصاف الشعب، ورأى عبد الله نديم أن هذا الأدب الجديد ينسجم مع نفسه, فألقى بها في هذا التيار، تيار السياسة القوي, حتى صار من قواد الأمة السياسيين، ورائدًا من رواد الوطنية الأوائل، فأخذ يغذي الصحف بمقالاته السياسية، وحَوَّلَ هذه الجمعية السرية إلى جمعية علنية تعمل في ضوء النهار، وسماها الجمعية

الخيرية الإسلامية، وقد مر بك شيء عنها, وكان من أغراضها تأسيس معاهد العلم يربى فيها النشء تربيةً وطنيةً، ويلقنون العلم بطرق حديثة تحببه إليهم، وتغرس في نفوسهم المثل العليا، وتعودهم قيادة الأمة وإرشادها, ولذلك عمد إلى تشيجع تلاميذ المدرسة على الخطابة، ولم يكتف بهذا, بل كان يؤلف روايات تمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه أمام جمهور المتعلمين بالمدينة؛ كرواية "الوطن وطالع التوفيق" و"العرب", وقد حضرها الخديو توفيق تشجيعًا، ولقي نجاحًا ملحوظًا أثار عليه حسد بعض الناس. ولم يلبث أن ترك الجمعية الخيرية ومدرستها حين ظهر بها خلل نسب إليه، فتفرغ للصحافة وأنشأ جريدة "التبكيت والتنكيت"1، يدبج فيها مقالات ظاهرها هزل, وباطنها جد, يصور فيها عيوب المجتمع المصري تصويرًا شائقًا بأسلوب تهكميٍّ لاذعٍ، ويطلب من القراء أن يعاونوا في تحريرها بقوله: "كونوا معي في المشرب الذي التزمته, والمذهب الذي انتحلته، أفكار تخيلية، وفوائد تاريخية, وأمثال أدبية, وتبكيت ينادي بقبح الجهالة وذم الخرافات؛ لنتعاون بهذه الخدمة على نحو ما صرنا به مثلة في الوجود من ركوب متن الغواية, واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل". وسنتعرض لنهجه أو طريقة كتابته بها فيما بعد، وحسبنا أن نقول الآن: إن أسلوب هذه الجريدة والموضوعات التي عالجتها، والحرارة التي كتبت بها هذه الموضوعات، والجرأة الأدبية التي تمثلت في صراحتها, وهجماتها على كثيرٍ من قلاع الفساد بمصر, حببها إلى جمهرة القراء، وبغضها إلى المنافقين وأدعياء الوطنية. ثم قامت الثورة العرابية في الظروف التي علمتها من قبل، وصادفت هوًى في نفس النديم؛ لأن مبادئها كانت تنادي بالإصلاح السياسي والاجتماعي الذي طالما دعى إليه في جريدته، ووجد الثوار أنفسهم في حاجة إلى خطيب ذلق اللسان، حاضر البديهة، وجياش العاطفة, مصري غيور على وطنه، يكون لسانهم الناطق

_ 1 صدر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298، 6 يونيه سنة 1881.

وداعيتهم المحبوب، فلم يجدوا خيرًا من عبد الله النديم, فألحوا عليه حتى شايعهم, فكان معهم كما أردوا وزيادة، وطلب منه عرابي أن يغير اسم جريدته1 ويسميها "الطائف" تيمنًا باسم طائف الحجاز، وتفاؤلًا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب الشدياق. وابتدأ الطائف قويةً عنيفة اللهجة, تنقد إسماعيل نقدًا مرًّا، وتشرح للناس كيف أسرف، وكيف استولى على الأراضي، وتصوّر بؤس الفلاحين في السخرة -أيام إسماعيل2, والعذاب المهين الذي يصبه الرؤساء على الناس, ويلهبون ظهورهم بالسياط في سبيل الجباية ودفع الضرائب، ويضيف إلى كل ذلك ما رآه بنفسه من مشاهد دامية، وقلوب قاسية, ورؤساء يزدادون غلظةً طمعًا في الترقية، وما لجأ عبد الله نديم إلى كل هذه الموضوعات إلّا ليسوغ طلب الثور الحكم النيابي ضمانًا للعدالة، وجبًّا للاستبداد وعهوده؛ وطلب الثوار من وزارة الداخلية أن تعتمد "الطائف" لسانهم المعبر فوافقت على ذلك، وصارت "الطائف" مقياسًا لتطور الثورة، فتارةً تذم الأروبيين وتحمل عليهم حملاتٍ شعواء لتدخلهم في شئون البلاد، وآونةً تصب نقمتها على توفيق؛ لأنه مَكَّنَ لهم في مصر، وغَضَّ الطرف عن ازدياد نفوذهم, وكان النديم في "الطائف" يدلس في أخبار الثورة والقتال تهدئةً للناس, فيصور الهزيمة نصرًا حتى تمت الهزيمة، وأسقط في يد الثوار. ولم يكن "الطائف" وحده الذي يدعو إلى الثورة ويحرض عليها، ويشجع الناس على التطوع والتبرع، بل خطبه المؤثرة وحماسته المتدفقة، وقدرته على تصنيف الكلام، ومخاطبة كل طائفة بالأسلوب الذي تفهمه، من أشد العوامل على إشعال نار الثورة، وازدياد لهيبها3.

_ 1 وكان آخر عدد صدر من التنكيت في 23 ذي القعدة سنة 1298هـ, وصدر منها ثمانية عشر عددًا. 2 لأن من حسنات رياض التي تذكر له أنه ألغى السخرة في أوائل عهد توفيق؛ كإقامة الجسور على النيل أيام الفيضان، وحفر الترع من غير أجر، وكان كثير من الملاك يسخرون الفلاحين في أرضهم بدون أجرة, فمنعهم رياض من ذلك منعًا باتًّا, فأثار حفيظتهم؛ ولعل ذلك ما جعل محمد عبده ينظر إليه دائمًا بأنه المستبد العادل الذي يجب أن يحكم البلاد خمش عشرة سنة حتى يصلح شئونها. 3 كان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته, والجيش وجنوده، وفي حفلات الأفراح, فما يكون مجتمع إلّا ويطمع أن يكون فيه عبد الله نديم خطيبًا هو وجماعة من تلاميذه.

كان عبد الله نديم يمثل الروح المصرية أتم تمثيل، ويعرف عادات البلاد وصفات أهلها أتم المعرفة، ويحس بشعورهم وآلامهم، وما يعانونه من جور وقسوة على يد حكامهم، ولا بدع فقد خالطهم، ونشأ بينهم، وتشرَّبَ بمشربهم، وعانى مثل ما عانوا, وتربى في أحضان الفقر والفاقة، واختلط بشتَّى الطبقات، وكثرت تجاربه في الحياة, ولذلك كان يحترق شوقًا إلى الحرية، وإلى رفع الظلم عن كواهل مواطنيه، ورفع مستواهم الاجتماعيّ والثقافيّ, وأن يعيشوا في بحبوحة من العيش. وكانت موهبته الحقة في لسانه، ويعرف أن دعوته إلى الإصلاح وإلى الثورة وإلى التعبئة القومية أيام الثورة العرابية لن تصل إلى أسماع العامة وقلوبهم إلّا عن طريق الخطابة، لفشو الأمية، ولتاثر الناس بالسماع والمشاهدة. وقد أوتي فصاحة للسان، وقوة الحجة والبيان، ومعرفةً عميقةً بنفسية الشعب, وكيف يهيجه بعذب الكلام، استمع إليه يحث الناس على مجاهدة الإنجليز وحربهم, بعد أن نزلوا الإسكندرية، وبدا منهم الغدر والعدوان، بذلك الأسلوب الساحر القصير الفقرات, الذي يمزجه بآيات القرآن، وأبيات الشعر فيزاد قوة ورونقًا وتحميسًا: أيا نخوة الإسلام هزي رجالنا ... لحرب بها عز البلاد يدوم يا بني مصر: هذه أيام النزال، هذه أيام الذود عن الحياض، هذه أيام الذب عن الأعراض، هذه أيام يمتطي فيها بنو مصر صهوات الحماسة، وغوارب الشجاعة، ومتون الإقدام لمحاربة عدو مصر بل العرب، بل عدو الإسلام، الدولة الإنجليزية خذلها الله ورد كيدها في نحرها, فقاتلوهم قتال المستميتين، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. قوم نفضوا العهود، ونكثوا الأيمان، وهموا بإخراج أهل الحكم، وهم بدءوكم أول مرة: أتخشونهم, فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.

يا أهل مصر!: إنما الإنجليز نجس فلا يقربوا البلاد بعد عملهم هذا، وإن خفتم ضعفًا فتعاونوا وتأزروا ينصكرم الله عليهم, إن الله قوي عزيز، كيف إن يظهروا عليكم لا يراقبوا فيكم إلًّا ولا ذمة, يذبحون أبناءكم، ويستحيون نساءكم، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم". لقد صحب الثورة العرابية من أول يوم هبت شعلتها، والتقت روحه بأرواح زعمائها، وعدوه لسانهم الناطق، وكان يصحبهم في كل مكان؛ كان مع الجيش في يوم ثورة عابدين يشد أرزهم، ويثبت قلوبهم، يقول عرابي: "فجال صديقي الأعز الهمام، صاحب الغيرة والعزم القوي, السيد عبد الله نديم, بين الصفوف ينادي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فكان ثاني اثنين في حفظ قلوب الرجال من الزيغ والارتجاف، وأخذ يردد هذه الأية الكريمة كأنهم لم يسمعوها إلّا من فمه في تلك الساعة"1. ولما سافرت فرقة عبد العال حلمي إلى دمياط في أول اكتوبر عام 1881, خطب النديم في جموع المودعين بمحطة القاهرة محييًا الجنود، وداعيًا الناس إلى الالتفاف حولهم قائلًا: "حماة البلاد وفرسانها! من قرأ التاريخ وعلم ما تولى على مصر من الحوادث والنوازل, عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات، فقد ارتقيتم ذورة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها لاحق، ألا وهي حماية البلاد، وحفظ العباد، وكف يد الاستبداد عنا، فلكم الذكر الجميل، والمجد المخلد، يباهي بكم الحاضرين من أهلها، ويفاخر بمآثركم الآتي من أبنائنا، لقد حيي الوطن حياة طيبة، بعد أن تبلغت الروح التراقي, فإن الأمة جسده والجند روحه، ولا حياة للجسم بلا روح، وهذا وطنكم العزيز يناديكم ويقول:

_ 1 كشف الستار، ص266.

إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم إذا لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم1 كان النديم يرتجل خطبه ولا يزورها، وإنما هي كلمات ملتهبة تعبر عن عواطف جياشة تتحرك في صدره، تصوّر آلامه وآلام أمته، كما تصوّر آمالهم وأحلامهم، وما مثله يحتاج إلى التحضير والتحبير وقد أوتي اللسان المطواع الذرب، وملك أعنَّةَ الكلام؛ ولقد تراه يخطب في المحفل الواحد خمس مرات، فما يكرر كلامًا قاله، ولا يتردد أو يتلعثم، وكان يجوب القرى والدساكر فيخلب قلوب الفلاحين بسحر بيانه وعذب لسانه ورائع خطبه، يحرضهم على الإباء والكرامة، والغضبة للوطن المكلوم، حتى عُرِفَ بخطيب الشرق، وكان يدعى بالبرق إلى الإسكندرية وغيرها ليخطب فيلبي الدعوة زميعًا، "ويرتجل من حُرِّ القول البليغ القوي القويم الحجة ما يترك الألباب سكارى من غير مدام"2. ولعلك لاحظت أنه لم يكن يتكلف السجع في خطبه أو غيره من المحسنات، ومع ذلك تحس لكلامه أسرًا وقوة، ورصانةً وموسيقيةً أخاذةً، وأنه كان يعمد إلى التهويل والمبالغة والتزيد حتى يقنع ويهيج العواطف، ويلجأ إلى الإيحاء والدفع، ويكثر من الشعر والحديث والاقتباس، من آي الله الحكيم، ويؤيد بها حجته، ويعلي كلماته، وليكون كلامه أعظم تأثيرًا وأقوى بيانًا. وكانت كتابته خطبًا مكتوبة من حيث الموضوع والأسلوب، ولا سيما تلك التي كتبها في أيام الثورة العرابية، وفي إبَّان الحرب بين مصر وإنجلترا في جريدة "الطائف"؛ فكان لها فعل السحر في النفوس، ورفع الروح المعنوية، وتثبيت القلوب الواجفة, والأفئدة المضطربة الخائفة.

_ 1 مصر للمصريين ج4 ص91، وكشف الستار ص259. 2 سلافة النديم ج1 ص19.

فلا بدع إذا وجد في أثره الطلب حين أخفقت الثورة؛ إذ رأى فيه توفيق والإنجليز المحرِّضَ الأكبر للثوار وناشر آرائهم، بقلمه ولسانه، ولكنه اختفى من وجه السلطة فلم يعثر عليه؛ لأنه كان يعلم جد العلم أنه لن يغفر له ذنب، أو تقال له عثرة إذا أسر، ولن يجديه الإنكار فتيلًا؛ فأقواله مأثورة، وخطبه مشهورة، والطائف خير شهيد، وسيكون العقاب صارمًا أليمًا، لقد ذل كثير من كبار الثوار والتمسوا الرأفة؛ ولكن عبد الله نديم آثر التشرد والاختفاء على إحناء الرأس، وذلة الطرف، وهو إنما خاض الثورة عن إيمان وعلم. وقصة اختفاء النديم وحيله التي ضلل به السلطة على الرغم من المكافآت التي رصدتها لمن يأتي به، جديرة بأن توضع في رواية تمثيلية, وستكون رواية غاية في القوة؛ لأنه أجادج التنكر إجادةً يعجز عنها أمهر الممثلين اليوم في بلاد "الخيالة" واسمعه يصف بإيجاز هذا التنكر الذي دام تسع سنين وهو بمصرلم يبرحها, ويمر بين رجال الحكومة، وصنائع الإنجليز دون أن يدركوه، أو يعرفوه1: "خرجت من مصر مختفيًا فدرت في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباسٍ مخصوص، وأتكلم في كل قريةٍ بلسان يوافق دعواى التي أدعيها، من قولي إني مغربيّ أو يمنيّ أو مدنيّ أو فيوميّ أو شرقاويّ أو نجديّ، وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر

_ 1 فتارة اسمه الشيخ يوسف المدني، وتارةً الشيخ محمد الفيومي، وأحيانًا سي الحاد على المغربي, وكان إذا ادعى أنه مغربيّ تكلم بلسانٍ مغربي محكم، أو مدني فكذلك, وادعى مرة أنه عالم يمني, وكان بالقرشية عند أحمد المنشاوي، وأذاعت شهرته حتى بلغت رياض -وهو الرجل الذي يطارده, ويضع له الأرصاد من كل طريق، ويقف المال في سبيل أسره إرضاء لتوفيق- فأرسل سعد زغلول ليسأله عن مثل ورد ذكره في بعض الجرائد لم يفهمه، فقابل سعد علي أنه عالم يمني وفسره له. وقد استعان على تضليل الحكومة بإشاعة سفره إلى خارج القطر على لسان صديقٍ فرنسيٍّ كان يثق به، ونقلت كل الجرائد خبر سفره هذا, فصدقت الحكومة, وعنفقت رجال الأمن على إهمالهم وتمكينهم له من الهرب، وقد وجد عطفًا زائدًا من كثير من الناس فأعانوه على الاختفاء، وأمدوه وخادمه بالمال، فقد أتى مرةً عيد الأضحى وهو في "برية" يسكن الحقول، لا أحد معه إلّا زوجته، ولا يجد القوت الضروريّ ويأتيه خادمه يشكو البؤس والفاقة، وإذا رجل من أهل البِرِّ والمرؤءة يملأ بيت النديم قمحًا وعسلًا وسمنًا وثيابًا من أطلس, وحرير للزوجة, وللخادم وزوجته. =

عند دعوى السياحة -مثلًا- وأبيِّضُهَا في بلد, وأحمِّرُهَا في قرية، وأسوِّدُها في عزبة, وتغيرت الأسماء التي انتحلتها، والناس في عجب من أمره, فالقدرة مقدرة النديم، ولكنه يختلف عنه في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له". وقد أتيح له من الفراغ وهو في اختفائه هذا ما مكنه مواصلة دراسته، وشغل نفسه بالتأليف وقرض الشعر، وقد ألَّف في كثير من العلوم، وفي هذا يقول من رسالةٍ لصديق له: "تارةً أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة بما تعظم به لله المنة، وحينًا أشتغل بنظم فرائد في صورة قصائد، ووقتًا أكتب رسائل مؤلفة في فنون مختلفة، وآونةً أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمانًا أكتب في العادات والأخلاق وجغرافية الآفاق، ومرةً أطوف الأكوان على سفينة تاريخ الزمان، ويومًا اشتغل بشرح أنواع البديع في مدح الشفيع, وقد تَمَّ لي الآن عشرون مؤلفًا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف يجعل أيام المحنة وسيلة المنحة والمنة، أتراني كنت أكتب هذه العلوم في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين، وفي حجرها ثالث، وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع".

_ = ولكن مرت عليه من ذلك أيام حالكة السواد, مليئةً بالمصائب، فقد اختفى مرةً في قاعةٍ مظلمةٍ لا يتوصل إليها إلّا من سرداب طويل مظلم، ويرشح الماء من أرضها لقربها من ترعة, ولا يتمكن من القراءة والكتابة إلّا على مصباحٍ صغيرٍ به ذبالة تملأ الحجرة دخانًا، وقد مكث بهذا السرادب ستة أشهر, وكان إذا أراد الكتابة صنع المداد من سناخ السراج مع قليلٍ من قرظ السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء, كل هذا وهو صابر لا يشكو ولا يتململ، وكان في أول مرة شديد الحنين لأمه وأبيه وأخيه, لا يعرف ما صاروا إليه, فلما خف عنه الطلب، ويئست الحكومة من العثور عليه، تمكَّن من الاتصال بأهله اتصالًا منتظمًا, وكان حريصًا على ما خلفه في بيته بالإسكندرية من كتب ومؤلفات، ولكنها ضاعت بالسكة الحديدية حين وضعها أبوه في صناديق وهو مهاجر من الثغر بعد ضربه بالمدافع الإنجليزية، فلما اشتد الزحام بالقطار عمد رجال السكة الحديدة إلى التخلص من البضائع ليفسحوا المجال للناس؛ فألقوا بهذه الصناديق المملوءة كتبًا وهم لا يعلمون قيمتها عند عبد الله النديم.

وانتهى به المطاف إلى بلدة "الجميزة" فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن أحد جواسيس الحكومة عرفه؛ فوشى به طعمًا في المكافأة1، وأطبق عليه رجال الشرطة، ولم يستطع النجاة بحيله المعهوده، فسلَّم نفسه2 ومن حسن حظِّه لم يفحصوا عن أوراقه؛ إذ كان في بعضها هجاء مقذع لتوفيق، ولو تنبهوا لذلك لكان أمره غير ما عرفنا، ثم أرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان المحقق قاسم بك أمين؛ فأكرمه وواساه وأمدَّه بالمال من عنده, ثم صدر أمر توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر، فاختار "يافا" دار إقامة، وطوَّف ما شاء له هواه في فلسطين, وعرف كثيرًا من بقاعها2. ولما مات توفيق وتولى عباس عفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر؛ فرجع إليها سنة 1892 وأنشأ جريدة "الأستاذ" فكانت صحفةً مجيدة في تاريخ الجهاد القوميّ؛ لأن علاقة الخديو عباس بالإنجليز كانت سيئة أول الأمر، وكان يجمع حوله الوطنيين وكبار المفكرين كما علمت آنفًا، وأخذ النديم يناصر عباسًا بكل ما أوتي من قوة، وكان في استطاعته أن يجنح للسلم ويهادن الإنجليز، ويُعيَّنَ في أعظم المناصب بالمعارف أو الأزهر، وهو كفء أديب, ولكن أبت عليه نفسه العفة، ووطنيته المتقدة أن يلين لعدوه مهما كانت الأيام قد حاربته في الماضي، ولقي إبَّان اختفائه من عنتٍ وآلام. شهر قلمه في وجه الإنجليز غير مبالٍ بهم وبسلطانهم القويّ بوادي النيل، فآثار بذلك حفيظتهم, وخافوا إن تركوه وشأنه أن يتسع الخرق، ويفسد الأمر

_ 1 كان اختفاؤه في سنة 1299هـ, والقبض عليه في سنة 1309هـ. 2 وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة,؛ لما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقباء واعتمَّ بعمامةٍ خضراء إشارةً إلى الشرف، ولكن كثيرًا من ذوي الخبرة ينكرون هذا النسب، ولعل هذا الأدعاء لشعوره بضعة نسبه؛ فأراد أن يستره بهذه الصلة. 3 وقد ودع قراءه في آخر عدد صدر من مجلة الأستاذ في 13 من يونيه سنة 1893 بكلمة مؤثرة قال فيها: ما خلقت الرجال إلّا لمسايرة الأهوال ومصادمة النوائب؛ والعاقل يلتذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرًا في أعين الواقفين عند الظواهر, وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا: أودعكم والله ويعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم وما عن قلي كان الرحيل وإنما ... دواعٍ تبدت فالسلام عليكم

ويعيدها جذعًا فأفوقفوا مجلته، ورحَّلُوه إلي يافا3 منفيًّا بعد أن منحوه أربعمائة دينار, وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا عليه ألّا يكتب شيئًا بشأن مصر، ولم ينفعه الخديو ويحول بينه وبين النفي؛ لأنه كان مغلول اليد, والسلطة كلها بيد الإنجليز. ولم يكن بيافا أسعد منه حظًّا وهو بمصر؛ إذ وشى به جماعةٌ لدى السلطان عبد الحميد فأمر بإبعاده، فعاد إلى الإسكندرية في حيرةٍ من أمره بعد أن لفظته بلاد الدولة العثمانية، بيد أن الغازي مختار باشا تشفَّع له عند السلطان عبد الحميد حتى سمح له بالسفر إلى تركيا, وهناك التقى بأستاذه الأكبر جمال الدين، وكان كلاهما في أسرٍ وإن اختلف القفصان، فجمال الدين في قفص من ذهب ينسجم مع حسبه ومكانته، والنديم في قفص من حديد يليق بمقامه. وعُيِّنَ النديم مفتشًا للمطبوعات, وهي وظيفةٌ اسميةٌ تكفل له راتبًا مقداره خمسة وأربعون مجيديًا، وطبعي أنه لم يزاول العمل بمهنته تلك، وهي أبعد الوظائف عن طبعه وحريته، وفي الآستانة عادى أكبر قوةٍ بها في ذياك الوقت, وهو أبو الهدى الصيادي1, ولعله تأثر في عداوته له بجمال الدين، وقد عرفت من أمرها معًا بعض الشيء, أو لعل الصياديّ -وهو الأرجح- كان عدوًا لكل حرٍّ كريم، ولم يعبأ النديم بسطوة الصيادي وجاهه وقدرته على الانتقام، وهو رجل كانت له في كل مكان عيون تنقل له الأخبار؛ وقد اصطنع بمعروفه كثيرًا من عظماء الدولة؛ فهم طوع يديه ورهن إشارته، وقد سخَّر كل ما بتركيا لخدمته, وكم نفذ أمره وأبطل أمر السلطان, وكم تدلل على عبد الحميد فبالغ في استرضائه. ولكن النديم لا يهمه الصياديّ ولا عبد الحميد, وأخذ يخوض في سيرته بلسانٍ حادٍّ بذئ، ووضع فيه كتابًا سماه "المسامير"؛ كله هجوٌ مقذعٌ فاحشٌ لا يشرف الصيادي، ولا يشرف النديم، وحاول الصيادي أن يعثر على هذا الكتاب، وهرَّبه "جورج كرتشي" الذي كان متصلًا بجمال الدين وعبد الله نديم إلى مصر، ثم طبعه.

_ 1 الصادي سوري من حلب, فقير من المال والحسب, دفعته المقادير إلى الآستانة, وكان ماهرًا ذكيًّا وسيم المحيا، وماضي العزيمة, استطاع أن يتغلب على السلطان عبد الحميد ويخضعه لمشيئته، بأحلامه وتفسيراته والطرق ومشيختها، وربط نسبه بأعلى نسب, وادعى أنه قرشيٌّ هاشميٌّ، وحياته وأعماله تمثل دورًا هامًّا أشبه بدور راسبوتين عند قياصرة الروس.

وأصيب النديم بالسل بعد ذلك بقليل، واشتدت عليه العلة؛ فمات في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314هـ، العاشر من أكتوبر سنة 1896، ودُفِنَ بتركيا, وهو في الرابعة والخمسين من عمره. آثاره وأثره: ولعلك قد أدركت من هذه السيرة أن النديم قد جرَّب كثيرًا من شئون الحياة، وعرف حلوها ومرها، وخالط الفقراء والأغنياء، وعاشر أصنافًا شتَّى من مختلف الأجناس, وعرك الدهر حتى استحصدت مرته، وقويت شكيمته، وإني أدعه يسرد تجربته بنفسه؛ فستعيننا في تعرف أدبه، قال: "أخذت عن العلماء، جالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة, وأدركت ما هم فيه من جهالة، وممن يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرًا من متفرنجة الشرقيين, وألممت بما انطبع في صدروهم من أشعة الغربيين، وصاحبت جمعًا من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب ممن ثبتت أقدامهم في وظيفتهم، وعرفت كثيرًا من الغربيين, ورأيت أفكارهم عاليةً أو سافلةً فيما يختص بالشرقيين والغاية المقصودة لهم، واخلتطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة، وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسًا ووطنًا ودينًا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بقراءة الجرائد مدةً، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنًا، واتجرت برهةً، وفلحت حينًا, وخدمت الأفكار بالتدريس وقتًا, وبالخطابة والجرائد آونةً، واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا القصد الذي وصلت إليه بعناءٍ, وكساني نحول الشيخوخة في زمنٍ بضاضة الصبا, وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء، فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلّا تسعة وثلاثين". ولو عاش النديم -مع تجربته هذه التي قلما تتاح لأديب، ومع ذوقه المرهف, ومواهبه العديدة, وقدرته على التعبير- في عصرنا هذا، وعرف ألوان الأدب، وفنونه، واطَّلَع على طريقة الغرب وأساليبه من قصة ومسرحية، وأفكار، لكان

أديبًا عالميًّا ممتازًا, تفاخر كل أمة بانتسابه إليها، ولكنه كان متعلقًا إلى حدٍّ كبير بأذيال الماضين؛ يكتب بأسلوبٍ مقيدٍ بصنوف عديدة من الأغلال، ولم تكن كنوز المعاني قد حطمت أغلالها, ولا ألوان الأدب الغربيّ العديدة قد عرفت ودرست, ومع ذلك فالنديم يُعَدُّ في الطليعة من رواد الأدب الحديث. أما آثاره: فيحدثنا أحمد سمير مترجم حياته، بأن النديم "لما كان في يافا أول مرةٍ بعث إليَّ محررًا يكلفني به أن أطلب ديوان شعره الصغير من صديقه المرحوم عبد العزيز حافظ, فلما قصدته وجدته مصابًا في قواه العقلية بما لم يدع للطلب مجالًا, ثم كتب إليّ كتابًا ثانيًا بأن ديوانه الأوسط عند "م.ن" فطلبته منه، فاعتذار بأنه ضاع، فلما أنبأت المترجم بذلك أرسل إليَّ في مكتوبه الثالث أنه إنما طلبهما لحيقرهما براءةً منهما ومن أمثالهما؛ لأنه فيها هجوًا كثيرًا، وختم المكتوب بهذه العبارة: "قد خلعت تلك الثياب الدنسة، ولبست ثوب {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . وهذه قصة تذكرنا بما كان من الشيخ علي الليثي من قبل, وبمكانة الشعر عند هؤلاء القوم، وفي الواقع أنه لم يكن شعرًا بالمعنى الذي نعرفه اليوم، ولكنه كان -كما ذكرنا من قبل- نظمًا تظهر به المقدرة على التعبير والمهارة اللسانية، وتصريف الكلام, وسنرى نماذج من هذا الشعر فيما بعد، وقد بقي لنا قليل ينبيئ عن نوع هذه الدواوين التي لم يعثر عليها. 1- أما نثره: فقد كتب مقالاتٍ شتَّى في "التنكيت والتبكيت"، وقد وعدنا بالرجوع إليها لننظر في موضوعاتها وقميتها، وحسبنا أن نتصفح العدد الأول منها؛ وقد حرره النديم بقلمه, فنجد مقالاتٍ شتَّى تمس حياة الأمة وتعالج مشكلاتها. فمقال عنوانه: "مجلس طبي لمصاب بلإفرنجي" وهي قصة شاب قوي الجسم, سليم البنية، جميل الطلعة، لطيف الشكل, نشأ تحوطه العناية وتكلؤه الرعاية, يدلله أهله ويحمونه حتى لا تصل إليه يد عدو، ولا حلية محتال، ولكن استطاع دجالٌ ماهرُ أتقن فن الخداع والحيلة أن يتسلل إليه، وأن يوهم أهله أنه

من ذوي الورع والتقوى، فأمنوا جانبه، وأسلموه له؛ فأخذه يعرضه في الأسواق والطرقات, وجلب له من الغواني الحسان من تعارض الشمس بحسنها, وتكسف البدر بنورها, يغازلن أهله بحركات تحرك الجبان، فانصر الأهل إليهن، وتركوا مراقبة الفتى المليح؛ فانفرد به ذلك المحتال الخداع، وأغرى به الفتيات الملاح، فتمنع حيناً, وعصمه حياؤه وطهر نشأته زمانًا طويلًا، ولكن رأى أن الإغراء شديد، والخصم عنيد، وأن لا قبل له بهؤلاء الشياطين, ولا سيما وقد وجد أهله عاكفين على التزلف لهؤلاء النسوة، والتدله في حبهن، فسار في الطريق التي رسمها من قبل هذا المنافق الدجال, فما هي إلّا شرفة كأس حتى أصيب بالداء الإفرنجي "الزهري"؛ فاصفرَّ لونه, وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، وغارت عيناه, وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وفطن إليه بعض أهله, فلما رأى ما به بكى وانتحب، وأخذ يذرف العبرات ويصعد الزفرات، ويلفظ الحسرات، وجمع له الأطباء يشخصون داءه، ويركبون الدواء عله يبرئه من علته, ويقف سريان الداء، وأقبل أهله متلهفين لسماع نصح الأطباء ورأيهم, فطلبوا إليهم الهدوء والسكون، ومساعدتهم في خدمته، وتنظيف محله, وتطهير أعضاءه وحفظه حتى لا يقربه غريب, ولا يمكن أجنبي من الوصول إليه فيفسد العلاج, ويسعى في إتلافه أكثر مما صنع هو وقومه، وأخذ أهله يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في وقايته وصيانته". وهذه قصة رميزة تصوِّرُ ما كان من إصابة مصر على يد إسماعيل وإسرافه، وتدخل الأجانب في شئونها، والمراقبة الثنائية، وصندوق الدين، وتصور كذلك ألم الناس من هذه المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة بسعي العقلاء وتفكير المستنيرين، وتوريته "بالإفرنجي" عن هذه المصائب التي حلت بالبلاد تورية بارعة. وترى بالعدد الأول من "التنكيت والتبكيت" مقالًا آخر بعنوان: "عربيٌّ تَفَرْنَجَ" وهي قصة شاب من صميم الريف, أبوه فلاح مسكين، لم يستطع أن يعلمه، بل تركه جاهلًا يساعده في حقله ويأكل البصل، ولا يرى اللحم إلّا في العيد، ثم مرَّ

به أحد التجار, فأغراه على أن يدفع به إلى المدرسة، ولما أتمَّ تعليمه بمصر أُرْسِلَ إلى أوربا, وعاد إلى بلاده متنكرًا لأهله، مستقبحًا عادات قومه، مهجنًا طريقتهم في التحية، ومستفهمًا بقحة عن اسم البصل الذي أكله؛ لأنه نسي الاسم العربيّ، ولم يعد يتذكر إلّا الاسم الفرنسيّ1, ولما شكى أبوه إلى أحد النابهين قال له: "ولدك لم يتهذب صغيرًا, ولا تعلم حقوق وطنه، ولا عرف حقَّ لغته، ولا قدر شرف أمته، ولا ثمرة الحرص على عوائد أهله, ولا مزية الوطنية، فهو وإن كان تعلم علومًا إلّا أنها لا تفيد وطنه". وهذا داء استشرى في مصر بعد النديم، وحاكى كثير ممن درسوا في بلاد الغرب أوربا في كل شيء, حتى هجنت عاداتنا وتقاليدنا، وفقد شبابنا كثير من مقومات الوطنية الصادقة، وإن كانت هذه الفتنة قد ابتدأت تخف وتتنبه الأمة إلى التمسك بلغتها وعاداتها ومزاياها، وتعتز بها. ويلي ذلك قصة جماعة من الموسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، ودخل عليهم فوجدهم مبهوتين صامتين لا يتكلمون ولا يتحركون، ولا يرفعون أبصارهم, فظنَّ أول الأمر أن ربَّ الدار قد رزئ بخطب فادح، وقد أتت هذه الجماعة لتواسيه، وعقد الحزن ألستنهم، وران على قلوبهم, فتركهم واجمين، ولكن خاب ظنه هذا، فسأل: هل ثمة معضلة عويصة عرضت لكم وأنتم تبحثون تقدم أوربا في الصناعات، وانتشار تجارتها, وكيف تصل مصر إلى هذه المنزلة، فأجابوا بالنفي، فقال: ربما تفكرون فيما يزيد ثروتكم, ويعود بالنفع والخير عليكم وعلى أمتكم, فقال رب الدار: هذا أمر لا يهمنا, فإن البلاد إذا تقدمت أو تأخرت لا تفيدنا شيئًا أحسن مما نحن فيه، وأما عن ثروتنا وزيادتها فعندنا من الثروة الكفاية؛ وهكذا صار يسألهم وهو في حيرةٍ من أمرهم حتى اكتشف أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي "الكيف"، والمنبهات وغير ذلك، وعللوا لاجتماعهم هذا بأن: "الكيف" لا يفرح إلّا إذا تعاطاه الإنسان في مجالس، ويختم النديم هذه القصة التي سماها

_ 1 وقد ساق النديم هذه القصة بطريقة الحوار بين هذا الشاب المغرور الذي أسماه "زعيط" وبين والده، وذكر فيها كثيرًا من الكلمات العامية حتى يعطي اللون الخاص الذي يريده، وكان يذكر بطريقة تهكمية لإذعة هذه الكلمات الفرنسية التي يلوكها هذا الدعيّ مثل كلمة "بون أريفي" عمد التنبيه و"أنيون" يريد البصل, وهكذا.

"سهرة الأنطاع" بقوله: هكذا تكون حال من لم يتهذب صغيرًا, فإنه يخرج أسير شهواته, بعيدًا عن إدراك المعاني, جبانًا بليدًا غبيًّا". ثم يتعرض في كلمة أخرى لهؤلاء الذين يلتفون حول القصاص بالمقهى يسمعون قصة عنترة, ويتجادلون ويتحزَّبون لأبطال القصة: ولما رآهم القصاص منصتين إليه أخذ يفتري عباراتٍ ينسبها إلى عنترة، وكلماتٍ يعزوها إلى عمارة، وكل فريق يرشه حتى ينتصر له بتلفيق كلام يصف فيه حزبه، وأخيرًا انتهت الليلة بأسر عنترة، فقام من الجمع رجل قدَّم للقصاص عشرة جنيهات ليخلص عنترة من أسره فأبى، فانهال عليه شتمًا وسبًّا، وتذكر أن عنده قصة عنترة ولكنه أميّ، فذهب إلى ابنه قبيل الفجر وأيقظه، وهو في مصيبته التي لحقته تلك الليلة، حتى ظنَّ الولد أن أمه قد ماتت، أو أحد أخوته توفي، أو تجارة أبيه صودرت، فلم علم أن الأمر يتعلق بعنترة أخذ يهوّن على والده الأمر، ويصف القصة بالتلفيق والكذب، فانهال عليه والده ضربًا بالعصا وطرده من البيت. ثم يقص أمر المزراع والمرابي، وقد ذكرناها آنفًا، ويتبع ذلك بقصة غنيٍّ كبيرٍ بنى بيتًا واعتنى بأثاثه ورياشه، ثم دعا فريقًا من أصدقائه لزيارته، ولما وصلوا إلى المكتبة سأله أحدهم عن الكتب التي يهواها، فأجاب بما يدل على الجهل، وأنه لا علم له بالكتب وما تحتويه، وكل ما في الأمر أنه زار أحد العظماء ووجد في بيته خزانة كتب، عليها ستارة خضراء، وبجانبها منفضة من الريش، والخادم يسح زجاجة الخزانة كل يوم, فظن أن هذا طرازٌ جديدٌ في تأثيث البيوت؛ فحاكاه فيه دون أن يعرف شيئًا عن الكتب وما تحتويه, فدل على عظيم جهله, وعلى أن التقليد الأعمى مضر بالإنسان مزر بمكانته. أجل! ضم العدد الأول من المجلة كل هذه الموضوعات التي تصور عيوبًا شائعةً لا يزال بعضها متفشيًا، وتصف الدواء لهذه العلل الاجتماعية، ولكن بأسلوب الوعظ والإرشاد, وإن كان ممزوجًا بكثير من التهكم الاذع والسخرية المرة، والكلمات القارصة، وقد فطن النديم إلى أن التعليم والنقد عن طريق القصة يحمل القارئ على متابعة القراءة, ويرى مصير أشخاص القصة فيتعظ بهم،

وبذلك يجدي النقد ويؤتي ثمرته، ولذلك أكثر منه، ولم يضع هذه القصص في عباراتٍ منمَّقَةٍ مزوقةٍ بليغة متخيرة الألفاظ، ولكن ساقها في أسلوب سهلٍ, وكثيرًا ما عمد إلى اللغة العامية يعبر بها عن مراده، ولعلمه أن في الناس الجاهل والعالم, والعامة والخاصة، ولكل أسلوب يلائمه، فموضوع: "الداء الإفرنجي" موضوع سياسيّ رمزيّ لا يفهمه إلّا الخاصة، ولذلك صيغ صياغةً أدبيةً سليمةً، أما موضوع: "المرابي والمزراع"، وموضوع: "سماع القصص" فمكتوبان للعامة، ولذلك لجأ إلى اللغة العامية يعبر بها حتى يفهمها هؤلاء فيتعظوا. إن النديم في هذه الموضوعات قدير على الحوار، وتراه يبالغ حتى يستفز شعور القارئ, ويجعله يشمئز من هؤلاء الجهلة الذين يصور حالتهم، وتراه كذلك يستنفد المعاني ويستقرئ الأسباب، حتى يكون الحكم، أو النهاية بالغة العظة، ولو فطن النديم إلى المسرحية الهزلية وصور هذه الشخصيات فيها لكان "موليير" العرب؛ لأن عنده المقدرة على التصوير، وخلق الشخصيات والتهكم عليها, والمبالغة في تبشيع المثالب والعيوب، وهذه كلها تعده لأن يكتب ملهاة متقنة. 2- ومن الموضوعات التي كتب فيها بمجلته فيما بعد موضوع "الخطابة، وأثرها في تاريخ الإسلام"، وفائدتها في تهذيب الشعب وتربيته، ورأى أن خطب الجمعة ميتةً لا تمت إلى الحياة التي يحياها الناس بصلة, وتتكلم في أمور بعيدة عن مشكلاتهم الاجتماعية والخلقية والسياسية كل البعد1، واقترح أن يحضر خطب الجمعة فئة من ذوي الفكر السديد والرأي الرشيد، وتوزعها الحكومة على خطباء المساجد, وتبرع هو فوضع نموذجًا لخطبة منبرية، ضمنها الحثَّ على الاهتمام بشئون البلاد والمحافظة على حقوقها, والدعوة إلى الائتلاف للتغلب على الخصم الأجنبيّ، وعلى الأخطار التي تحدث بالوادي، والاتحاد بين المسلمين والأقباط، والتذكير بمجد مصر السابق، ومعاملة الأجانب بالحسنى حتى لا تتخذ

_ 1 من العجيب أن تسعين في المائة من خطباء المساجد اليوم لا يزالون على الحال التي وصفها النديم وخطبهم بعيدة عن التأثير؛ لأنها لا تمس الحياة في صميمها, ولا تعالج مشكلات الناس، وكل جمعة أحس بضيق وحرج من جراء ما أسمع من خطب ميتة.

سوء معاملتهم ذريعةً للتدخل الأجنبيّ، وغير ذلك من الأمور التي يرى أن الحاجة ماسَّةً إلى التكلم فيها لأول عهد توفيق، ومن قوله في أثر الخطابة وفائدتها: "ألسن الخطباء تحيي وتميت، وحكمة إذا عقلت معناها وقفت على سر الخطابة حكمة حدوثها، وعلمت أنها للعقول بمنزلة الغذاء للبدن، وكانت الخطابة في الأعصر الخالية غير معلومة إلّا في أمتيّ العرب واليونان، فكانت ساحتها في جزيرة العرب عكاظًا، ومنابرها ظهور الإبل، وهذه الساحة كانت معرضًا للافكار, تجتمع فيه الخطباء والبلغاء والشعراء وأمم كثيرة من المجاورة للجزيرة؛ فيرقى الخطيب ظهر ناقته, ويشير بطرف ردائه، وينثر على الأسماع دررًا وبدائع، ثم يباريه آخر, ويعارضه غيره, فتتضارب الأفكار, وتتنبه الأذهان, وتحيا الهمم، وتتحرك الدماء، ويرجع كبار القبائل وأمراؤها لما يشير إليه الخطيب إن صلحًا وإن حربًا، ولم يقتصروا في خطباتهم على مسائل الحرب والصلح، بل كانوا يخوضون بحار الأفكار, فلا يتركون مَلَمَّةً إلّا شرحوها، ولا يذورون فضيلةً إلى حثوا عليها، حتى إنهم كانوا يحفظون أسماء الحكماء منهم, وأهل المآثر فيذكرونهم في هذا المعرض إحياءً لتذكارهم, وتخليدًا لأسمائهم؛ لئلَّا يجهل الآتي سيرة الماضي فتفتر الهمم، وتخمد الدماء, وتتغير الطباع". 3- وأما مقالاته بالأستاذ فكانت صرخةً أخرى مدويةً, حاول بها إيقاظ مصر كي تتنبه لما يحدق بها من أخطار، وعالج في هذه المقالات موضوعات اجتماعية وسياسية وخلقية لم تخطر على بال أحد من قبل، فتراه يتكلم عن التعليم وأثره في الحضارة والعمران, وما يجلبه الجهل من الآفات الاجتماعية والعلل الخلقية, ويعدد هذه المثالب, ويبين أثرها في تأخر الأمة، وتارةً يحث أبناء مصر على الاتحاد والتآزر والالتفاف حول الوطن والأمير والسلطان, والتنكر للأجانب مهما كان شأنهم، والتحذير من غواياتهم، وهو أول من دعا إلى أن مصر يجب أن تكون للمصريين لا لتركيا ولا للأوربيين، فكانت لفتةً وطنيةً لا تخرج إلّا من قلبٍ عامرٍ بحب بلاده، ولا سيما في ذلك الزمان الذي لم تفكر فيه أية دولة عربية في هذا المعنى، وإنما كانت الفكرة الوطنية عندها عاطفة غامضة تربط مصيرها بمصير

تركيا، ولم تكن الفكرة جلية -كما يجب- عند النديم، ولكنها خطرات الوطنيّ المتحمس, جعلته يفكر مثل هذا التفكير، وإن كنا نراه أحيانًا يشايع الرأي السائد، ويدعو للسلطان والالتفاف حوله من مثل قوله: "هذه يدي في يد من أضعها؟ أضعها في يد وطنيك، وأعقد خنصريكما على محبة أمير البلاد، مرتبطة هذه المحبة بمحبة أمير المؤمنين، وإلّا فقطعها خير من وضعها في يد أجنبيٍّ يستميلك إليه بوعود كاذبة وحيل واهية، ويظهر لك سعيه في صالحك وحبه لتقدمك، ورميك بأوهام لا توجد إلّا بينك وبينه، ويغرك بدعوى انفراده بالسلطة عليك، وبعد الدول عنك، ويضللك بنسبة أمرائك للقصور، وحكامك للجهل والظلم، ويصور لك الأباطيل في صورة حقٍّ يخدعك به، ويحوِّلُ أفكارك الشرقية إلى أفكار غربيةٍ تأخذها وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك وإذلال إخوانك، واسترقاق أهلك, وانتزاع سلطة أميرك وسلطانك, وأنت لا تشعر بشيء من هذا". وقد يفسر كلام النديم بدعوته للسلطان والحض على الولاء له، بأنه ولاءٌ دينيّ، بينما الولاء لأمير البلاد ولاء وطنيّ، وهذا ما أرجحه، فإن النديم اشتهر بدعوته الجريئة "مصر للمصريين" وكان دعوة "عرابي" كذلك، وإذا تعارض الدين والوطنية، فضَّل الوطنية على الدين؛ لأنه جاذبية الوطن عنده أقوى من جاذبية الدين، ويعلل لذلك تعليلًا فلسفيًّا في مقالة نفيسة بالأستاذ هي "تجاذب الجنسيات والأديان" يقول فيها: "لو وقعت حرب بين عربيّ وعجميّ تماثلا دينيًّا, هربت الطباع إلى الجنسية, فترى عربيًّا في أقصى الأرض يفرح بانتصار مثيله على العجميّ والعكس بالعكس" ويعلل لاتحاد الأقباط والمسلمين بمصر, ومحبة كل فريق للآخر بقوة الرابطة الجنسية، فإن كثيرًا من مسلمي مصر أقباطٌ أسلموا، فنداء الدم بليغ، وفي هذا يقول: "وأقرب الأماكن إلينا مصر التي نحن فيها، فإنها بلاد إنسانية مختلطة بقليل من الأقباط الذين تجذبهم الجنسية إلى كثير ممن تولدوا ممن أسلم من سابقيهم، وتدفعهم الوطنية إلى التلاصق بالمجموع بجاذبية الوطنية والألفة وطول المعاشرة"، وهذه خطرات وطنية صادقة العاطفة, عميقة الفكرة، بعيدة النظر، ولقد قال وليّ الدين يكن عن عبد الله نديم:

"وإنما أحدث بيننا الخلاف أنه كان عدوًّا للعثمانيين, وهو من قدماء من يقولون "مصر للمصريين، ونحن نقول مصر للعثمانيين". لقد جهر عبد الله نديم بندائه هذا، ولم يجاره في دعمته زعماء السياسة من بعد، فهذا مصطفى كامل وهو في مناوأته للإنجليز, وبعثه للشعور الوطنيّ, ومحاربته للاحتلال الأجنبيّ, لم تنضج عنده الفكرة الوطنية كما نفهمها اليوم، فلم يقل: إن مصر للمصريين, بل قال: "حقًّا إن سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها، فضلًا عن الأسباب الداعية لهذا التقريب, فإن العدو واحد ولا يليق بنا أن نكون في فشل وشقاق في وقت يعمل أعداؤنا على تجزئة دولتنا، ولا غرو إن كنا نتألم لآلام الدولة العلية, فما نحن إلّا أبناؤها المستظلون بظلها الوريف, المجتمعون حول رايتها، وقصارى القول أن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن يجتمع حولها، ولا تتحقق وحدتنا بغير الاتحاد والائتلاف, فلنتحد قلبًا ولسانًا"1 ولكنه رجع عن هذا الرأي فيما بعد, وفسره في خطبته بالإسكندرية2. استطاع النديم في جريدة "الأستاذ" أن ينبه الأفكار إلى موضوعات حيوية, وأن يجادل ويناقش ويثير العقول ويخلق الرأي العام, ويدعو زعماء الثورة العرابية الذين أذلهم الاحتلال، وغلبهم الخوف منه إلى البروز والعمل في سبيل مصر، ويدعو إلى تأليف الأحزاب حتّى يكون لكل جريدة حزبها الذي تنافح عنه، ولكل حزب منهجه في الإصلاح، وقد وقف من الأجانب بعامةٍ ومن الإنجليز بخاصة موقفًا صريحًا لا لبس فيه ولا غموض، أما الإنجليز: فهو عدوهم اللدود، ويصورهم صورًا منكرة، ويدعو الشعب لتأييد توفيق والالتفاف حوله، وأما سواهم من المرتزقة الذين هاجروا في سبيل القوت أو الثروة, فينصح بعدم الأمان لهم، وبالبعد عنهم، إلّا إذا برهنت التجربة على إخلاصهم "فعليك بمن إذا حلت المصائب وآب النازحون إلى مقارهم فرارًا من مشاركتك في هموك كان قسيمك

_ 1 مصطفى كامل باشا, الطبعة الأولى "1928", ج1 ص198. 2 راجع تفصيل ذلك في كتابنا "الأدب الحديث" ج2 ص84 الطبعة الرابعة.

في النكبات، يتناول معك حمل الخطوب، ويحملك إذا ضعفت, ويبرك إذا احتجت، ويعودك إذا مرضت، وينصرك إذا خذلت، ويدفع معك عدوًّا يحاربك، ويحفظ معك وطنًا لزمته، ويصون لك عرضًا تبذل الروح في حمياته، والجمهرة من الأجانب في نظره متسولون؛ إذا أعطيتهم مدحوك، وهم يمدحونك طالما يجدون عندك نفعًا" ومن كانت هذه صفته يصدفه عنك الغير بلقمة يريدها، فإذا زاده دينارًا على أن يقذفك ويهجوك أضحك الناس بما يفتريه عليك". الحق أن النديم في "الأستاذ" كان معلمًا جليلًا للوطنية المتطرفة كما يفهمها جيله، وكان مخلصًا في نصحه، وثابتًا على مبدئه منذ الثورة واندلاعها, لم يلن للخطوب, أو يطأطيء الرأس لعدوٍّ؛ فكان أكبر مثل يحتذيه الزعماء من بعد. 4- وله رسائل أدبية، ومقالات في موضوعات شتَّى, احتفي بأسلوبها احتفاء زائدًا, وقد جمع منها أحمد سمير في سلافة النديم مقدارًا صالحًَا للحكم عليها من حيث منزلتها الأدبية؛ فمن ذلك رسالة: "لواء النصر في أدباء العصر" وفيها يصف من تعرف عليهم من أدباء مصر أمثال: البارودي, وصفوت الساعاتي، وعبد العزيز حافظ، وعبد الله فكري, وسواهم. ومنها رسالة: "التنور المسجور" في المفاخرة بين السفينة و"الوابور"، ومنها الرسائل المتبادلة بينه وبين بعض الأدباء في أمور خاصة. أسلوبه: 1- التزم عبد الله نديم في مطلع حياته الأدبية ذلك الأسلوب المسجوع المتكلف، يكثر فيه من ألوان البديع ولا سيما الجناس، ويظهر فيه مهارته اللغوية, وقدرته على تأليف الكلام، في جملٍ قصيرة الفواصل، كثيرة المترادفات, ويعمد في أغلب الأحيان إلى الخيال والمبالغات المرذولة، وأحيانًا يأتي يجملٍ لا معنى لها, ولكن اقتضاها السجع, مثل قوله في مطلع رسالته يصف كلامه: "حديقة معاني، ونادي مغاني، وبستان أفكار" فهذه جمل مترادفة، والجملة الوسطى لا معنى لها.

ومن الجمل المترادفة والجناس المتكلف قوله من الرسالة السابقة: "فكاهة نفوس، وزينة طورس، هزلها أدب, وجدها طرب، وإن سئلت أوجزت، وإن سألت أعجزت، لو أقمت لها حكمًا، وجدها كلها حِكَمًا". ومن المبالغات السخيفة، والوصف المتكلف قوله يصف أديبًا: "رامي نبال وعظه إلى الأحشاء، ومفوق سهام بديعه إلى الإنشاء، حامل لواء العلوم العقلية، وقائد جيوش الفنون النقلية، مطلع شمس الأماني، ومبارز فرسان المعاني، إن ألف لم يتكلف، بل يجعل الانسجام زينة الكلام، وإن نثر كَرَّ بهجومٍ على سرايا النجوم". فهذا الأديب في حربٍ دائمةٍ يرمي الأحشاء بنبال وعظه، يفوق سهام بديعه إلى الإنشاء، ويحمل لواء العلوم العقلية، واللواء يقتضي الجيوش، وهكذا تراه يحمل معدات الحرب ويستعملها، وكثيرًا ما يعمد إلى هذا الأسلوب، ويكرر هذا المعنى كقوله: "وكيف لا يكون لساني قوس البديع، وكلامي السهم السريع، وأنت باريه وراميه؟ أم كيف لا يكون مقامي الحصن المنيع, وقدري العزيز الرفيع، وأنت معليه وبانيه؟ ". وله في مطلع حياته كذلك رسائل التزم فيها ما لا يلتزم من ألوان السجع إظهارًا لبراعته, وعرضًا لقدرته ومهاراته، فتارةً تراه يأتي بمجموعة من السجعات؛ كل اثنتين متشابهتين في القافية، وفي ختامها سجعة من قافية مختلفة، ثم يكرر هذه القوافي بالترتيب الذي ساقها به أولًا، وتارةً يأتي بمجموعة من السجعات بعض خمس أو ست على الترتيب الأول، وأحيانًا يلتزم في السجعة الثانية أن تكون آية من آيات القرآن، ومن النوع الأول قوله: "لعبت به الأشواق في مصارع العشاق, لعب الراح بالأرواح في مجلس الأنس، وجرت به الأتواق1 في ميادين الأذواق, جري السحاب والأرواح في حومة الشمس".

_ 1 تاق إليه توقًا بفتح فسكون: اشتاق.

ومن الثاني قوله: منحتنا اللهم سلامة الروح, فلله الحمد على هذه المنحة حمدًا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان, فلله الشكر على هذه الصحة شكرًا بلا حدِّ، يلوح بدره، ويفوح عطره، وروح هو عين الحياة، ومدد العقل، ولب هو منطق للشفاه، وسند النقل، طال عمره وجال أمره". ومثل النوع الثالث الذي يأتي فيه بسجعةٍ قرآنيةٍ تكمل المعنى قوله من رسالةٍ كتب بها إلى صديقه المرحوم عبد العزيز حافظ تنبيهًا له حينما رآه يجتمع ببعض المغاربة, ويشتغل معهم بخرافاتٍ باطلة: "لا حول ولا قوة إلّا بالله اشتبه المراقب باللاه، واستبدل الحول بالمر، وقدم الرقيق على الحر، وبيع الدر بالخزف، والخز بالحشف، وأظهر كل لئيم كبره, إن في ذلك لعبرة، سمعًا سمعًا؟ قالوشاة إن سعوا لا يعقلوا, ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فكيف تشترون منهم القار في صفة العنبر, وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر؟ وكيف تسمع الأحباب لمن نهى منهم وزجر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر" إلى أن يقوله له: "وأنت يا عزيز العليا, ووحيد الدنيا، قد بينت لك فعلهم, فبما رحمة من الله لنت لهم؛ ولكنهم طمعوا في عميم قولك، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك، أتراهم يعقلون كلام أو يفهمون، لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون". ومعظم رسائله الأدبية من هذا الطراز الذي يكثر فيه ألوان البديع, ويلتزم السجع, ويفتن في عرضه، ونراه لا يمدح رسالةً وصلت إليه إلّا بأن البديع قد كمل نظمه، والسجع قد لطف من مثل قوله: "إذا قرأت لفظه، وسمعت وعظه, ورأيت ما فيه من المرقص والمطرب، والمنعش والمعجب، وتلوث ما فيه من الرقائق، ونظرت ما حاز من الدقائق، علمت أنه معجزة المتنبي, وإن تأخر زمانها، وفطنة المعري، وإن بعد مكانها, وكيف لا وعطر نرجس بلاغته أزرى بطيب الريحانة، وحسن دمية بيانه نبه على ضيق الخزانة، وانسجام رقائق كلماته أغنى عن البديعات، ورقة لطف سجعاته تأهت على الأرتقيات1".

_ 1 نسبة إلى الدولة الأرتقية, وأول من أسس الدول الأرتقية معين الدولة سقمان بن أرتق, بعد أن استولى على حصن "كيفا" سنة 385هـ من الأمير موسى التركماني، وكان أرتق جد معين الدولة مملوكًا من مماليك السلطان ملكشاه السجلوقي، وأحد قواده، والأرتقيات القصائد والمدائح, كان يقولها الشعراء لملوك هذه الأسرة, واستمرت الأسرة الأرتقية حتى القرن التاسع الهجري.

وهذا النوع من النثر بما فيه من تلاعبٍ وافتنانٍ في الازدواج والفواصل والسجعات, تقليد لمقامات الحريري وما ورد على مثالها من الرسائل، ومما يؤيد هذا الاتجاه عند النديم أنه كتب رسالة على لسان أحد أصدقائه يطلب إليه فيها أن يراسله، ويشترط أن تكون رسائله مشتملة على أفانين خاصة من البديع وغيره، وينفذ النديم الشرط, فيضع عدة رسائل منفذًا بها شروط صديقه التي ذكرها في قوله: "أحب أن تتواصل إليّ رسائلك, وتسامرني وسائلك، بشرط أن تكون أسطرها عشرين فما فوق، وأن يكون بعضها في غزل وعشق, وبعضها نكتًا أدبية, وبعضها فوائد عربية، هذه محاورة، والأخرى مسايرة، تارةً طرائف خمرية, ومرةً لطائف عمرية، وهكذا تشرف من كل دن، وتسطع في كل فن، على أن تكون بحكايات ما طرأت على الأفكار، ولا خرجت من الأوكار, تلتزم الجناس في الفقر, وألَّا تأخذ شعر غيرك إلّا بيتًا أو بيتين" وقد استجاب النديم لهذا الطلب فوضع عدة رسائل متكلفة لا معنى لها، وقد أثبت منها "أحمد سمير في السلافة"رسالتين. والشعر الذي يرصع به الرسائل وأمثالها -وهو كثير بحيث لا تخلوا منه رسالة- شعر يمثل هذا التعمل من مثل قوله يتلاعب بلفظ النوى: لست الملول مع التدلل والنوى ... إن لم يكن روحي على هجري نوى ما دام يرضي منيتي فقد استوت ... عند الإقامة في شبين أو نوى أطعمته أثمار ودي كلها ... وغذيت من ثمر المحبة بالنوى ويأتي النديم أحيانًا بتعبيراتٍ غريبةٍ شاذةٍ متكلفة الاستعارات؛ كقوله: "وطلاؤه مرمر بالدبر معجون بليلة القدر" وأحيانًا يأتي بتعبيرات في منتهى اللطف كقوله: "واختلسنا النوم من جفون الزهر" أو قوله: أورق من خفر في بكر". وشعر النديم الموجود قليل، وهو كنثره الأدبيّ مصنوع متكلف، يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ شعر أبي النصر وعلي الليثي، مع فارقٍ واحدٍ هو قوة السبك، ولكنه لا يختلف عن شعرهما في الصياغة والزخرفة والمعاني، ومن أحسن ما روي له قوله في الغزل:

سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ... وكفوا إذا سل المهند حاجبه وعودوا إذا نامت أراقم شعره ... وولوا إذا دبت إليكم عقاربه ولا تذكروا الأشباح بالله عنده ... فلو أتلف الأرواح منذا يطالبه أراه بعيني والدموع تكاتبه ... ويحجب عني والفؤاد يراقبه فلا حاجة تدني الحبيب لصبه ... سوى زفرة تثني الحشا وتجاذبه فلا أنا ممن يتقيه حبيبه ... ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة ... سفيرًا لقلبي ما توالت كتائبه وتراه يستعمل التأريخ الشعريّ؛ كقوله يؤرخ موت توفيق وهو بيافا, من قصيدة أرسلها إلى مصر يرثيه على الرغم من أنه نفاه: فملائك الجنات قالت أرخوا ... توفيق في عز النعيم السرمدي 1309 ومن شعره قوله من رسالةٍ كتبها لأحد أصداقائه أيام أن كان بالمنفى, وفيها يظهر أمله ويندب سوء حظه: يا صاحبي دع عنك قول الهازل ... واسمع نصيحة عارف بالحاصل اجهل تجد صفو الزمان فإنه ... من قصمة الفدم الغبي الجاهل ودع التعقل بالغفل يستقم ... أمر المعاش فحظه للغافل وارض البلادة تغتنم من بابها ... مالًا وجاهًا بعد ذكر خامل وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق ... بحروب دهر لا يميل لفاضل قلب تواريخ الألى سبقوا تجد ... دنياك ما قيدت بغير الباطل أحسبنا إذا قلنا بلينا ... بلينا، أن يروم القلب لينا نعم؟ للمجد نقتحم الدواهي ... فيحسب خامل أنا دهينا تناوشنا فنقهرها خطوب ... ترى ليث العرين لها قرينا

إلى أن يقول: ولسنا الساخطين إذا رزينا ... نعم يلقى القضا قلبًا رزينا فإنا في عداد الناس قوم ... بما يرضى الإله لنا رضينا إذا طاش الزمان بنا حلمنا ... ولكنا نهينا أن نهينا وله قصيدة طويلة من رواية الوطن التي مثلها أمام الخديوي توفيق، وفي هذه القصيدة يبكت المصريين على افتخارهم الدائم بآبائهم, بينما هم في خمول وتقصير فتركوا الصناعات والعلوم، واستمرءوا الصفات التي تذل الشعوب وتضعها، وقد قال القصيدة معارضة لنونية ابن زيدون المشهورة، وفيها يقول: هذه معالمنا تبكي وتنشدنا ... قول ابن زيدون إذ قامت تعزينا "بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا" قل للنفوس التي ماتت بلا أجل ... أين القلوب التي كانت تجارينا؟ أين العلوم التي كانت توصلنا ... باب السعود فصارت من أعادينا؟ أين الصنائع أين العارفون بها؟ ... أين الديار التي كانت لأهلينا كانت وكانوا وصار الكل في عدم ... واستعبدتنا بما نهوى أمانينا إذا سمعنا خطيبًا ذاكرًا حكمًا ... قلنا له: عزة الآباء تكفينا1 وحسبنا هذا القدر من شعره, فهو يعطينا صورةً عن منزلته في الشعر وعن فهمه له. 2- أما مقالاته في "التنكيت والتبكيت" وأسلوبه الكتابيّ في هذه الصحيفة، فقد ذكرنا آنفًا أنها احتوت موضوعات للخاصة, يكتبها بأسلوب أدبيّ محرر من السجع ومن ألوان البديع، ويتوخى فيها السهولة، "ليست منمقة بمجاز واستعارات, ولا مزخرفة بتورية واستخدام, ولا مفتخرة برقة قلم محررها، وفخامة لفظه وبلاغة عبارته، ولا معربة عن غزارة علمه وتوقد ذكائه، ولكنها

_ 1 وهنا ترديد لما قال السيد جمال الدين من قبل, راجع 343 من هذا الكتاب.

أحاديث تعودنا عليها، ولغة ألفنا المسامرة بها، لا تلجئك إلى قاموس الفيروزآبادي، ولا تلزمك مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافية, ولا تضطرك لترجمانٍ يعبر لك عن موضوعها، ولا شيخٍ يفسر لك معانيها، فهي في مجلسك كصاحبٍ يكلمك بما تعلم، وفي بيتك كخادمٍ يطلب منك ما تقدر عليه، ونديم يسامرك بما تحب وتهوى". ومن أمثلة موضوعات الخاصة مقالته المشهورة "مجلس طبي على مصاب بالإفرنجي" وفيها يقول: "كان المصاب صحيح البنية قويّ الأعصاب جميل الصورة لطيف الشكل، وما رآه فارغ القلب إلّا صبًّا، ولا سمع بذكره بعيد إلّا طار إليه شوقًا، نشأ في العالم روضة، ودار به أهله يحفظونه عن الأعداء، ويدفعون عنه الوشاة والرقباء، وقد مات في حبه جملة من العشاق الذين خاطروا في وصاله بالأوراح والأموال، وكلما وصل إليه واحد سحره برقة ألفاظه وعذوبة كلامه، وسلب عقله ببهجة يحار الطرف فيها، وعزة لا يشاركه فيها مشارك" وأنت ترى أسلوبًا خاليًا من السجع ليفرغ كتابه إلى المعاني التي يريدها، ويسير في سهولة ووضوح. وهناك موضوعات للعامة كتبت باللغة العامية الدارجة بمصر حتى يفهموها، ويعملوا بها كموضوع المزراع والمرابي، وكموضوع "عربي تفرنج" ويقول في الأخير: "وُلِدَ لأحد الفلاحين ولد فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل حتى صار يقدم على تسريح الجاموسة، فسرحه مع البهائم إلى الغيط, يسوق الساقية ويحول الماء, وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد يقدم له اليخني ليمتعه بأكل اللحم والبصل". وأما أسلوبه في "الأستاذ" فهو أسلوب صحفيّ أدبيّ يمتاز بالسهولة والتدفق، والخلو من السجع والبديع والمجاز، وقد مر بك نماذج منه. ويلاحظ أن النديم يستعمل الأسلوب الخبريّ الممتزج بالخطابيّ في معظم كتابته، وهو أسلوب يصلح للوعظ، وتراه كثير التهكم والسخرية في موضوعاته الاجتماعية، يلجأ إلى الحوار في الموضوعات التي كتبها للعامة وكان

ينطلق كل شخص بما يوافق طبعه وصنعته ودرجة علمه، مماي دل على خبرة واسعة بالناس وطباعهم ولغة حديثهم، وله مقالات اختار لها عناوين من العامية الدارجة, تدل على تمكنه عن تفهم البيئة الفقيرة ولغتها، وعلى روح الفكاهة والسخرية عنده مثل: "الشنة والرنة في أولاد مصر الزنة" ومثل: "حاوريني يا طيطة في الطربوش والبرنيطة" و"شد الدبلاق في أكتاف أهل بولاق" وإن كانت المقالات نفسها مفقودة مع دواوين شعره. منزلته: واشتهر عبد الله النديم بالخطابة، وتملكه لناصية القول، فكان لسان الأمة في عهده بخطبه المملوءة حماسة وقوة وصراحة، يذيعها في كل مجلس بكل مكانٍ, لا يكلُّ ولا يملُّ، وقد استطاع بهذا أن ينشر آراءه في أكبر عدد ممكن من الأمة, وأسهم في تكوين رأي عام -سواء بخطبه أو بقلمه- يؤمن بحكم الشورى، ويثور ضد الأجانب، ويتطلع إلى إصلاح المفاسد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذا كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني, فعبد الله نديم أوتي المقدرة واللباقة على أن يبسط آراء جمال الدين ونظريات الإصلاح المنشود في كل نواحي الحياة، حتى يفهمها العامة؛ من الفلاح في حقله, والتلميذ في مدرسته، والصانع في دكانه. وقد شهد بمقدرته على الحديث والخطابة وبراعته في تنميق الكلام كثيرٌ من ذوي الخبرة بوجوه الكلام، فهذا جمال الدين الأفغاني، وهو من عرفت ذكاء وقوت عارضة، ومقدرة على الحديث يقول: "إن ما رأى مثل النديم طول حياته في توقد الذهن وصفاء القريحة، وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعًا محكمًا بإزاء معانيها إن خطب أو كتب"1. وأحمد تيمور العالم المحقق يقول في الترجمة التي كتبها له2: "كان شهيّ الحديث، حلو الفكاهة, إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقاماته

_ 1 سلافة النديم ص17. 2 تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر, لأحمد باشا تيمور, ص77.

بمصر، فرأيت رجلًا في ذكاء إياس, وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ، أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا". ويقول عنه جورجي زيدان1: "أما أخلاقه فإنه كان برًّا بوالديه وذوي قرابته وقصاده, ولو لم يكن يعرفهم، فما أقرض أحدًا شيئًا وطالبه به، ولا ردَّ يومًا سائلًا، ولا خضع لعظيم قط، وإنما كان يلين ويتواضع لصغار الناس وأوساطهم، وكان ذكيًّا فطنًا قويَّ الحافظة, فصيحًا جريئًا شاعرًا مطبوعًا، وكاتبًا ثائرًا". ويقول عنه عبد الرحمن الرافعي2: "وهو الزعيم الوحيد بين العرابيين الذي استمر في جهاده السياسيّ ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال، وهي ميزة كبرى انفرد بها دون بقية الزعماء الذين أثرت فيهم الهزيمة؛ فوهنت لها روحهم المعنوية، وانطفأت فيهم شعلة الأمل والحماسة والجهاد, وهذا وحده يدلك على مبلغ علو نفسه، وقوة شخصيته؛ إذ لم تنل منه الشدائد، ولم يضعف إزاء المحن والكوارث، ولم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلًا". ويقول عنه الأستاذ أحمد أمين3: "طالما غذى الناس بقلمه، وهيجهم بأفكاره, وأضحكهم وأبكاهم، وحيّر رجال الشرطة، وأقلق بال الساسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حلّ، وعلى أي حالٍ كان، حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر، ومهما أخذ عليه فقد كان عظيمًا، وكانت جريدة "الأستاذ" هي الأستاذ لمصطفى كامل, تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف". ويقول الأستاذ العقاد4: "ولقد كان عبد الله النديم خطيبًا مطبوعًا، ومحدثًا ظريفًا من الطراز الأول, كما شهد له عدوه وصديقه، وكان إذا كتب فكأنما

_ 1 مشاهير الشرق, ج2 ص111. 2 الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي, ص527. 3 مجلة الثقافة العدد 279. 4 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي, ص93-96.

يرتجل الخطابة لسهولة منحاه وتدفق كلامه، وتناسق عباراته، إلّا حين يكتب الخطب المنبرية, أو المقامات المصنوعة.. على أنك قد تقول ما بدا لك في شعر عبد الله نديم وفي خطبه وفي كتاباته وفي تحقيقه العلمي وملكاته الأدبية، ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه أنه كان أعجب نموذج من نماذج الشخصيات في تاريخ الأدب المصري الحديث". أما نحن فقد أصدرنا حكمنا عليه في هذه الترجمة، ووفينا أدبه درسًا، وبينَّا خصائصه كما ظهر لنا من آثاره القليلة التي أبقى عليها الزمان.

أحمد عرابي

4- أحمد عرابي: إذا كان جمال الدين الأفغاني قد أثَّرَ في مصر بتعاليمه وفلسفته ووحي تجاربه التي أفادها من رحلاته الكثيرة، وإذا كان قد قصد إلى إيجاد قطرٍ قويٍّ من أقطار الإسلام يكون نواةً لوحدة إسلامية كبرى، ويعيد للمسلمين سالف مجدهم وغابر عزهم، وإذا كان قد مهَّدَ للثورة العرابية, وهيأ النفوس لها؛ فإن أحمد عرابي لا يقل عنه خطرًا ولا أثرًا، وأغلب الظن أنهما لم يلتقيا، وإن اتفقا في كثير من الأمور, واختلفا في الغاية والوسيلة. أما الغاية: فإن أحمد عرابي كان همه الأول تخليص المصريين من العذاب والذل والاستبداد والسخرة والاستغلال, واستصفاء مصر لأهلها ينعمون بخيرها وبرها، ويعيشون فيها أحرارًا على قدم المساواة مع هؤلاء الذين شاءت الأقدار أن يكونوا حكامًا لها، ولم يكن يهدف إلى تكوين وحدة إسلامية، بل لم يكن متعصبًا تعصبًا دينيًّا ألبتة، وأما الوسيلة: فإنه لجأ إلى عامة الشعب لا إلى الخاصة من المثقفين، ولم يكن يميل إلى العنف, وإنما اضطر إليه اضطرارًا ردًّا للعدوان، ودفاعًا عن الحقوق المهضمومة والنفوس المظلومة. ولم يكن تلاميذ جمال الدين وعلى رأسهم محمد عبده, راضين عنه أول الأمر، بل كانوا ينظرون إليه بازدراء، ويعدونه زعيم غوغاء، وإن أرغمتهم الحوادث والشعور الوطنيّ الجارف على أن ينضووا تحت لوائه، ويخوضوا معه غمار الثورة.

في أحمد عرابي يتمثل العنصر المصري الأصيل بصفاته الجسمية والخلقية، وفيه تركزت آمال الأمة وآلامها، وتعد ثورته أول ثورة مصرية واعية على الظلم الذي طال أمده، وتعد ثورة شعب لا ثورة فرد، ولم يكن أحمد عرابي إلّا لسان ذلك الشعب يعبر عن أحساسيسه، ويترجم عن أماله وآلامه، فاكتسب بذلك عداوة الخديو وآل بيته، وعداوة الأرستقراطية الكاذبة التي مكن لها بمصر، والتي كانت تتمثل في المماليك والجراكسة والأتراك، هؤلاء الذين كانوا ينظرون إلى الفلاح المصريّ بعين الزراية والاحتقار، وهم ينعمون بكده وثمرة شقائه، وعداوة الإنجليز الذين حاربهم, وأظهر خبث طويتهم وسوء نيتهم، والذين كانوا يتربصون بمصر الدوائر، ويدبرون لها المكايد منذ أن هزموا في معركة رشيد سنة 1807. نشأته وشخصيته: تضافرت عدة عناصر على تكوين شخصية عرابي، وجعلته أصدق مَثَلٍ للفلاح المصريّ المكافح المضطهد، الذي يشعر بالظلم، ويأنف منه، ويطالب بالحرية والكرامة في قوة وصرامة. ولد بقرية "هرية رزنة" بالقرب من الزقازيق سنة 1841, من أسرة تنتسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وتعتز بانتسبها إليه، وكان والده محمد عرابي على شيءٍ من العلم والدين, معروفًا بالتقوى, وكان فقيه القرية, يقرئ أطفالها القرآن, ويعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وعلى يديه تعلم ابنه أحمد حتى حفظ القرآن، ثم دخل الأزهر, ومكث به أربع سنوات، وعاد بعدها ليكدح في الحقل كما يكدح ذووه. ثم شاء الله أن يعده لشيء آخر، حين أراد "سعيد" أن ينهض بالجيش، وأن يجند أبناء العمد والمشايخ وأعيان الفلاحين, وكان يميل إلى المصريين, ويعدهم أساس مصر, ولا سبيل إلى نهضتها إلّا بهم، فجند أحمد عرابي، وسرعان ما ظهر تفوقه، وترقى بسرعةٍ خاطفةٍ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وهي رتبة لم

يصل إليها فلاح قبله, وذلك بفضل ذكائه وطموحه، ويقول عن نفسه في تلك الأيام: "وكنت أطمع إلى منصب عالٍ يماثل منصب مديريتنا"1. بيد أنه مكث في هذه الرتبة تسعة عشر عامًا, أي: طوال حكم إسماعيل كله، وذلك لأن إسماعيل كان على النقيض من سعيد, يؤثر الجراكسة بالترقية، ويزدري المصريين، وأحسَّ عرابي بالظلم, وابتدأ يطالب بحقه2 فاضطهد، وكان رئيسه خسرو كما يقول عرابي "رجلًا جاهلًا، متعصبًا لجنسه الجركسيّ تعصبًا زائدًا على حد المعقول، متفانيًا في الحقد على إقصائي من مركزي3" وفصل عرابي من الجيش ظلمًا وتعسفًا، ولكنه لم يستكن للضيم، وظلَّ يطالب بحقه, فعين في وظيفةٍ مدنيةٍ قام بشئونها في همةٍ وأمانةٍ, وجوزي عليها بالتقاعد من غير معاش "فيالله من أمر, وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة، وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة"4. وثار عرابي، ولم يهدأ حتى أعيد للجيش، وشعر بمرارة الظلم وقسوته، زاده شعورًا باضطهاد المصريين اشتراكه وزملائه في حملة الحبشة، حيث لمسوا من قوادهم ضعفًا وخيانةً, ولم يجد هو وزملاؤه عطفًا من أولي الأمر, بل اضطهادًا لهم, ومحاباة للأجانب الذين اصطفاهم الخديو بالرتب والنياشين والجواري الحسان، والأراضي الواسعة الخصبة, والبيوت الرحبة، وحباهم بالأمور الكثيرة, والحلى الثمينة من دم المصريين المساكين وعرق جبينهم"5. كانت نشأته الريفية، وتربيته الدينية، وإحساسه بالاضطهاد؛ لأنه فلاح مصريّ, من أهم العناصر التي كونت شخصيته، أضف إلى ذلك أنه تأثر بكتاب أهدي إليه عن نابليون والثورة الفرنسية، وبقراءته في التاريخ العربيّ، وبخطبة ألقاها "سعيد" يشيد فيها بالمصريين وضرورة تربيتهم حتى ينفعوا بلادهم،

_ 1 من تاريخه الذي قدمه إلى بلنت، التاريخ السري, ص344. 2 الرافعي: الثورة العرابية, ص78. 3 كشف الستار لأحمد عرابي, ص21. 4 نفس المرجع, ص22. 5 نفس المرجع, ص49.

ويتسغنوا عن الأجانب, ويقول عرابي: إنه اعتبر هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام "مصر للمصريين"1 وكان ياورًا لسعيد، ورافقه في رحلته للحجاز, وتأثر بآرائه في "المساواة بين الطبقات، وفي الاحترام الواجب للفلاح باعتباره العنصر الأساسيّ المجد في الجيش المصري3". وبدأ عرابي منذ عودته عن حرب الحبشة يعمل على توحيد صفوف الضباط المصريين في الجيش والتفافهم حوله، وإشعارهم بالظلم الواقع عليهم, وحرمانهم الترقية, بينما يتمتع بها سواهم من الأجانب. ومن الصفات المميزة لشخصية عرابي شدة إيمانه، فلم يعرف عنه أن هذه الصفة فارقته حتى في أشد ساعات الضنك والشدة، وكان شديد التدين، حتى عرف بين الجند حنيئذ بالشيخ أحمد عرابي، ويقول عنه محمد عبده، وكان دائم الزراية به. ما كان أحسنه شيخًا بزاوية ... يغشى النساء بوعظ كان يمليه3 كانت العاطفة الدينية قوية جدًّا في نفسه، ولكنه لم يكن متعصبًا، وهذه العاطفة الدينية من خصائص الفلاح المصريّ، ولا سيما في تلك الأزمان، وكان عرابي يمجد الإنسانية عامةً, لا يتعصب تعصبًا أعمى، يقول بلنت بعد أن ذكر تمجيد عرابي للورد بيرون؛ لدفاعه عن حرية أهل اليونان: "وقد عنيت بذكر هذه النقطة لدلالتها على عطف عرابي على الإنسانية كلها، وعدم تفريقه في ذلك بين الأجناس والأديان4. وكان بلنت يعد هذه الإنسانية في عرابي أحد عيوبه، وسببًا من أسباب إخفاقه في حرب الإنجليز5, وإليها أشار "جريجوري" في حديثه معه، ومن الأسس التي أقام عليها "برودلي" دفاعه عن عرابي "مروءته وتطرفه في الإنسانية6".

_ 1 نفس المرجع, ص15. 2 بلنت: التاريخ السري, ص98. 3 تاريخ محمد عبده لرشيد رضا, ج1 ص14. 4 بلنت: ص284. 5 بلنت: ص99، 114، 128 وما بعدها. 6 نفس المرجع ص232.

ومن مظاهر هذه الإنسانية أنه بعد أن أطلق الجند سراحه عنوة من سجن قصر النيل الذي حسبه فيه الجراكسة، وهموا بالفتك بهم، ولكن عرابي حمى هؤلاء الذين آذوه وسجنوه ولولاه لكانت مذبحة. ومن سمات شخصية عرابي صفاته الجسمية، فقد كان طويل القامة، عظيم الهامة، ثقيل الأطراف، بطيء الحركة نوعًا، كأنه يمثل تلك القوة العظيمة التي اشتهر بها الفلاح العامل1، وكان شديد البنية متين التركيب، تلوح على وجهه أمارات الشهامة العسكرية، وسمات الهيبة والوقار، والجد مع القوة والبأس. كان عرابي كثير الاهتمام بالتاريخ، قرأ سيرة نابليون والثورة الفرنسية كما ذكرنا آنفًا، ويوجه إليها اهتمامًا كبيرًا، وقرأ قدرًا كافيًا من تواريخ الدول, وعظماء الأمم في الشرق والغرب، كما كان يقرأ كثيرًا في نهج البلاغة, ومنه استمد قدرته الخطابية والتعبيرية، ويقول بلنت عن آراء عرابي: "إنها تعتمد على العلم بالتاريخ، وعلى تقاليد الأفكار العربية الحرة الموروثة من أيام حرية الإسلام". كما كان يعرف كثيرًا عن إيطاليا وجهادها في سبيل وحدتها واستقلالها، ويعجب أشد الإعجاب بـ "غريبالدي"، ويمكن أن نقول: إن ثقافة عرابي كانت دينية أدبية تاريخية في حدود مطالعاته العربية. لقد نال قدرًا ضئيلًا من الثقافة، ولكنها خصوبة ذهنه أحالت هذه البذور القليلة أشجارًا ضخمة مثمرة، وأتت أكلها وطنيةً دافقةً، وفهمًا للحرية والديمقراطية والمساواة، وتقديرًا للحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام2. يقول العقاد3: "ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها, كما يمتحن بنعمتها وفضلها، على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي الخصوبة الذهنية، وهي أن يثمر الذهن محصولًا وافرًا من بذور قليلة، وقد كانت الدروس التي تلقها عرابي في صباه قسطًا مشتركًا بينه وبين كل صبيٍّ من صبيان القرى, حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام, فيتمثل أمامنا حظٌّ وافرٌ من الفهم والمعرفة, لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.

_ 1 التاريخ السري ص 104، Broodely: How we Defended. pp. 62. 2 بلنت: ص129. 3 العقاد: 11 يوليو ص107.

عرابي الخطيب الزعيم

عرابي الخطيب الزعيم: لقد أجمع الذين شهدوا عرابي خطيبًا، وحادثوه على أن جودة الكلام أهم مزاياه، وأنه كان محدثًا لبقًا ذا خلبةٍ وسيطرةٍ على النفوس، وأنه كان خطيبًا فصيحًا ذا تأثير كبير على سامعيه، وأن ذلك كان أكبر مقومات شخصيته. يقول ماليت: "كان لحديثه أحسن وقع في النفوس"1، وكان مراسل التيمس يسميه: "الداعي الفصيح إلى الحرية العربية2"، ويرى بلنت "أنه كان فصيحًا قادرًا على شرح آرائه باللغة التي يفهمها مواطنوه ويحبونها, ومن ثَمَّ كان له نفوذ كبير3"، ويقول جريجوري: "ويظهر في بادئ الأمر أنه ثقيل، إلى أن يتأثر فتتقد عيناه، ويتكلم بشهامة، وأخبرني الذين يعرفون اللغة العربية أن فصاحته أشهر من أن تنكر4". أما الشيخ محمد عبده: فكان يزدريه ويقول عنه في قصيدته التي هجاه بها: وقائد الجند شهم في مكالمة ... أشل قلبًا إذا الهيجا تناديه ومع ذلك يشهد له بأنه "كان أجرأ إخوانه على القول، وأقدرهم على إقامة الحجة5". وعلى الرغم من أن الرافعي قد أنكر بعض مزاياه، فلم يسعه إلّا أن يعترف بقدرته الخطابية حيث يقول: كل ما امتاز به هو لسان ذلق، وصوت جهوريّ

_ 1، 2 تاريخ المسألة المصرية, تيودور روتشين ترجمة العبادي وبدران ص142. 3 التاريخ السري, ص99. 4 الوطن: العدد 214. 5 تاريخ محمد عبده لرشيد رضا, ج1 ص192.

وترسل في الحديث، فقد كان خطيبًا فصيحًا، وأقوله كانت تقع من نفوس الضباط والسامعين موقع الاقتناع1". ترك عرابي طائفة من الآثار نتبين منها جهاده في سبيل مصر قولًا وعملًا وكتابةً، تتمثل في مجموعة كبير من أحاديثه وخطبه ورسائله إبان الثورة، ويلحق بها ما قاله في أثناء محاكمته، ثم المذكرات التي تركها قبيل وفاته وسماها: "كشف الستار" وتاريخه المختصر الذي كتبه بعد عودته، وهو مثبت في آخر التاريخ السري. ابتدأ عرابي دعوته سريةً في داخل الجيش وخارجه، وقد اختاره زملاؤه الضباط زعيمًا لهم؛ لأنه كان أشد المجتمعين إحساسًا بالظلم، وأقدرهم على التعبير عنه، وأجراهم في مهاجمة الظالمين, وقد كان للباقته وفصاحته في الكلام واستشهاده ببعض الأحاديث النبوية الشريفة والحكم والماثورة تأثير كبير في نفوس الضباط، واجتذبهم إليه ومال بهم إلى تلبية ندائه، والاستماع لنصحه والاقتناع بآرائه"2. ثم تخرج الدعوة إلى النور، ونرى جماعةً من الضباط يذهبون إليه في بيته ليناقشوه في الأوامر التي أصدرها عثمان رفقي, وأنهم يريدون الاحتجاج على ذلك، وقد اختاروه ليمثلهم؛ فيحاول أن يثنيهم بالرفق أو يختاروا غيره، ولكنهم أصروا على اختياره، فقال لهم: إن من يتصدى لزعامة هذا الأمر هالك لامحالة، فأقسموا له على أن يفدوه من كل شر, فكتب الاحتجاج ووقعه معهم وقد جاء فيه " إن عثمان رفقي يعامل ضباط الجهادية بالذل والاحتقار, ويسعى فيما يوجب لهم الحرمان والإضرار, كأننا الأعداء الألداء، وكأن الله -سبحانه وتعالى- يطلب منه ظلم المصريين والإجحاف بحقوقهم" ويقدمها إلى رياض، ويدور بينهما الحوار الآتي: رياض: إن أمر هذه "العريضة" مهلك.

_ 1 عبد الرحمن الرافعي: الثورة العرابية, ص82. 2 المرجع السابق ص8.

عرابي: إننا لم نطلب إلّا حقًّا وعدلًَا، وليس في طلب الحق من خطر، وإننا لنعتبرك أبًا للمصريين، فما هذا التلويح والتخويف؟ رياض: ليس في البلاد من هو أهل لأن يكون عضوًا في مجلس النواب. عرابي: إنك مصريّ وباقي النظار مصريون، والخديو مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم عقمت؟ كلّا! فإن فيها العلماء والحكماء والنبهاء، وعلى فرض أن ليس فيها من يليق لأن يكون عضوًا في مجلس النواب، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد من معارفكم, ويكون كمدرسة ابتدائية تخرج لنا بعد خمسة أعوام رجالًا يخدمون الوطن بصائب فكرهم, ويعضدون الحكومة في مشروعاتها الوطنية1". ويقبض الجراكسة على عرابي, ويسجن في قصر النيل, فيقتحمه الجند ويطلقون سراحه, ويهمون بذبح الجراكسة لولا تدخل عرابي؛ حيث وقف فيهم خطيبًا ونصح لهم "بالّا يمدوا يدًا بسوءٍ إلى أحد من الجراكسة ولا إلى غيرهم؛ لأنهم إخواننا, ولئن آثروا أنفسهم علينا, فإنا لا نريد إلّا النصفة والمساواة2". ويسير عرابي إلى عابدين في مظاهرة عسكرية صاخبة، وتعدَّل القوانين، ويقام لذلك حفل في قصر النيل أقامه البارودي وزير الحربية, وحضره الوزارء يخطب عرابي قائلًا: "إننا لا نريد إلّا الإصلاح وإقامة العدل على قاعدة الحرية والإخاء والمساواة, وذلك لا يتمُّ إلّا بإنشاء مجلس النواب وإيجاده فعلًا، ونحن مطيعون للحكومة, بل نحن الآلة المنفذة لأوامرها العادلة"3. ثم عُزِلَ البارودي, وتولى مكانه داود, الذي قسا على الضباط, فاجتمعوا لدى عرابي واستحلفهم على السيف والمصحف، أن تكون أرواحهم موقوفة على حفظ الوطن من شر الأعداء, والاحتراس على موارد إيراده من أيدي الطمع, وبأن يكونوا جميعًا على قلب رجل واحد، وأعلمهم بأنه قد اجتمعت الكلمة على أن

_ 1 كشف الستار, ص155. 2 سليم نقاش: مصر للمصريين, ج4 ص126، وتاريخ محمد عبده, ج1 ص202. 3 الكافي: لميخائيل شارويم, ج4 ص243.

يتولى الزعامة1، وأخذ يرسل إلى القرى والمدن ينشر فيها دعوته ويبين لأهلها "أن الوزارة الرياضية قد ركبت متن الشطط وعدلت عن الصراط المستقيم، وليس لها من نية سوى العمل على ما فيه اضمحلال البلاد وتلاشيها بما هو جارٍ من بيع الأراضي للأجانب, وتسليم أغلب مصالح الحكومة لهم, وإعطائهم الرواتب الفادحة المثقلة على أكتافهم، وإن سكوتنا وإضرابنا عن هذه كله يُعَدُّ من الجبن والعجز والتفريط في وطننا2" وطلب منهم في النهاية أن ينيبوه عنهم في كل ما يتعلق بأحوال البلاد، وأن يوقعوا على ذلك. وبهذا هيأ عرابي لثورة 9 سبتمبر 1881، وقد دار بينه وبين توفيق في ذلك اليوم حوارٌ بدا هادئًا ثم اشتد، قال عرابي ثائرًا "ولقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فوالله الذي لا إله إلّا هو, إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم" فهرب توفيق وترك الأمر لبعض حاشيته، وقد سلَّم توفيق لعرابي بكل ما طلب. وألف شريف الوزارة الجديدة، وذهب عرابي مع وفد من الضباط لتهنئته، وخطب خطبة ضافية أكد فيها حقوق البلاد، وقبل أن ينقل إلى الزقازيق مع فرقته, وقد وقف في محطة القاهرة يودع الألوف التي جاءت لتحيته, وارتجل هذه الخطبة "سادتي وإخواني! بكم ولكم قمنا وطلبنا الحرية، وقطعنا غرس الاستعباد، ولا ننثني عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها, وما قصدنا بسعينا إفسادًا ولا تدميرًا, ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلالٍ واستعبادٍ، ولا يتمتع في بلادنا إلّا الغرباء, حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة. ومن قرأ التواريخ يعلم أن الدول الأوربية ما تحصلت على الحرية إلّا بالتهور وإراقة الدماء، وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبنها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم, أو نخيف قلبًا, أو نضيع حقًّا, أو نخدش شرفًا. وما أوصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلّا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد..

_ 1 المرجع السابق ص236، ومصر للمصريين, ج4 ص90. 2 عبد الله نديم: "التنكيت والتبكيت" العدد 17، ومصر للمصريين ج4، وكشف الستار ص362.

نحن الآن في نعمة جليلةٍ وعزةٍ جميلةٍ, وقد فتحنا باب الحرية في الشرق، ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة, ويجانب حدوث ما يكدر صفو الراحة، ونحن قائمون إلى رأس الوادي، ليعلم الجميع أن قيامنا كان لطلب الحقوق لا للعقوق، وأن الطمأنينة عادت كما كانت، وعدنا إلى ما نشأنا عليه من طاعةٍ، وأحض إخواني في الجهادية بحفظ وحدة الاتحاد، وعدم الإصغاء إلى الوشاة والحساد، فإنكم تعلمون أننا جاهدنا في هذا الأمر أعوامًا طوالًا حتى ربطنا القلوب، وألَّفْنَا النفوس، وبيننا مِن الأعداء مَنْ يسعى في تفريق كلمتنا, وإضرام نار الفتنة بيننا، فاردعوهم بلسان التقرع، واحفظوا لنا ما عاهدناكم عليه، فالبلاد محتاجة إلينا، وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات، وإلّا ضاعت مبادئنا، ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه.."1. وأنت تراه هنا حريصًا على الحرص على المبادئ التي دعا إليها، وعلى أن يؤكد أنه رجل سلام لا رجل شغب، وعلى أنه يعد نفسه أحد زعماء الشرق، وقد سنَّ له القدوة الحميدة في المطالبة بالحرية, وأنه حريص كذلك على وحدة الصفوف، متنبه إلى كيد الأعداء ووشايتهم وحسدهم. وخطب في الزقازيق عند وصوله، كما خطب في حفل أقامه أمين الشمسي لتكريمه, وجاء فيه: "وأنتم الآن مهيئون للانتخاب، فلا تملككم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم, ويدفعون المظالم عنكم, ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا، فلا تأخذكم الأراجيبف، واطمئنوا في بلادكم، والتفتوا إلى أشغالكم، ومصالحكم، وكونوا على يقين من حفظ البلاد"2. ثم يرسل إليه نوبار يشكره على إنقاذ البلاد، ويعرض عليه عودته لتولي الحكومة، ويقول عرابي: "فعجبنا لذلك وأجبناه بأن مبدأنا هو أن مصر للمصريين, وللنزلاء عندنا حسن الضيافة ومزيد الإكرام"3 وهي الكلمة التي رددها فيما بعد الزعيم مصطفى كامل "أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا".

_ 1 كشف الستار, ص368. 2 المرجع السابق, ص269. 3 التاريخ السري, ص154.

ويعود إلى القاهرة, ويقابله كثير من مراسلي الصحف الأجنبية, ويؤكد لهم عدم التعصب الديني، وأنه إنما يتحدث باسم الأمة، وأنه سيقاوم كل اعتداء أجنبيٍّ على البلاد، ثم يتولى وزارة الحربية, ويستقبله "بلنت" ويتحدث معه في مشروعات كثيرة يقوم بتنفيذها، وطالما فخر بها فيما بعد لورد كرومر، ويقول بلنت: "عزي للموظفين البريطانيين في عهد الاحتلال، وادعى لورد كرومر أنه مبتكر كثير منها, فمن ذلك: إلغاء السخرة التي كان يفرضها الباشاوات الترك على الفلاحين, واحتكار بيع الماء في مدة الفيضان، وحماية الفلاحين من المرابين واليونانيين، وإنشاء بنك زراعي تشرف عليه الحكومة، وهذا هو البنك الذي باهى به كثيرًا اللورد كرومر، وكذلك تنقاشنا في الإصلاحات القضائية, وفي نظم تربية الذكور والإناث، وفي طريقة الانتخاب للبرلمان الجديد وفي مسألة الرقيق"1. غدر وخيانة: ولكن أنى الأمور أن تسير كما قدر عرابي؟ وكيف يمكن من الإصلاح، وينشر الوعي في البلاد، وينهض بمصر، والإنجليز والفرنسيون يريدونها متأخرة، بل يريدون اغتصابها، وامتصاص دمها، ولذلك أرسل مذكرة إلى توفيق بنفي عرابي, وإبعاد رفيقه, واستقالة الوزارة، وقد قبل توفيق المذكرة، واجتمع على أثر ذلك كثير من الضباط والنواب بمنزل سلطان باشا، وخطب فهيم عرابي، وأخذ يعدد مساوئ الخديو ومعايب أسلافه, وما جلبوه على البلاد وأهلها من المظالم والمغارم, وغير ذلك من أنواع البلايا والرزايا، واشتد الهرج فصاح عرابي: "ما بالكم لا تسمعون، وكأنكم خشب مسندة، وإن كنتم لا تنادون بخلعه، فنحن قد خلعناه، فصاح عند ذلك سائر العسكر قد خلعناه ثلاثًا"2. ويصل وفد من تركيا، ويحاول إغراء عرابي بالذهاب إليها فيرفض عرابي، وترفض الأمة ويقول لهم: "ليقل الناس ما يشاءون, فإني ولدت في بلاد الفراعنة، وستظل الأهرام الخالدة قبري"3.

_ 1 التاريخ السري, ص154. 2 ميخائيل شاروبيم: الكافي, ج4 ص296. 3 التاريخ السري, ص432.

وتحدث مذبحة الإسكندرية وتتوالى الأحداث، وهو دائمًا يوجه، ويثبت القلوب الخائفة، وحينما دارت الحرب لم يفقد أعصابه، وقد انتصر في موقعة كفر الدوار انتصارًا ساحقًا، وارتدَّ الإنجليز إلى الأسكندرية, فطاردهم الجيش إلى تفتيش "سيوف" وأوقع بيهم, بَيْدَ أنهم انتهكوا حرمة القناة، ولم يكن عرابي يقدر أنهم سيهاجمونه من الشرق، وقد طلب إليه أن يردم القناة، فخشي مغبة هذا العمل، وتألب الدول عليه، ثم يهزم عرابي في التل الكبير بسبب الخيانة التي دبت في صفوف الجيش, وقد حاول جهده أن يثبت الفارين, ولكنهم أبو الاستماع إليه، وفي ذلك يقول عرابي في مرارة وأسى: "دعوناهم للهجوم معنا فامتنعوا ودهشوا، فذكرناهم بحماية الدين والعرض والشرف والوطن, فلم يجد كل ذلك نفعًا، ولأن الرعب كان قد أخذ من قلوبهم كل مأخذ"1. محاكمة: ويحاكم عرابي، فلم تلن قناته، ولم يجبن عن مصارحة المحكم بالحق، وعن الأسباب التي دعته للثورة، سألوه عن الماضي كله، لماذا قام بمظاهرة عابدين، ولماذا أحاط الجيش بالقصر فقال: "إن الأسباب التي دعت إلى ذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات، وشأن البلاد التي لم يكن فيها قوانين، ويقص عليهم بعض ما كان يلقاه المصريون من ظلمٍ وإجحافٍ وإهدارٍ للكرامة، ثم يقول: "فاجتمعت إذن أفكار الناس على أنه لا مخلِّصَ لهم من تلك المظالم إلّا وجود مجلس نيابي, من شأنه حفظ الأرواح والحقوق والأموال, مع قوانين عادلة تكفل لهم حقوقهم، فاجمعوا أمرهم على ذلك، ولخوفهم من البطش بهم أنابوني مع إخواني الضباط في عرض طلباتهم، ولكوننا إخوانهم وأبناؤهم، وهم أهلونا، يضرنا ما يضرهم، وينفعنا ما ينفعهم، وأن البلاد التي ليس بها مجلس نيابي يحفظ للأمة حقوقها في كافة ممالك الأرض, يحصل فيها أكثر من ذلك، بحيث يسفك فيها كثير من الدماء، وهذا لا يخفى على كل متذكر؛ لأن الحاكم المستبد لا يقبل الشورى بسهولة، فمن أجل ذلك الظلم, ولشمولنا مع أهلينا بحقوق واحدة, حصل ما تقدم ذكره بدون أن تفسك شعرة واحدة من رأس أي إنسان".

_ 1 مخطوط عرابي.

ولما سئل عن خطبته في القدح والذم في توفيق والمناداة بخلعه، لم يتجللج لسانه، ولم ينكر ما حدث وقال "ما كان من الممكن قبول هذه اللائحة، ولو أدّى ذلك لخلعه, وكنت أنا وكل الناس على هذا الرأي"1. ويُحْكَم على عرابي بالسجن, ونراه في سجنه أشجع زملائه، ويردُّ بمقالٍ قويٍّ على اتهام الجوائب له ولزملائه بأنهم عصاة مارقون، وتنشر له جريدة "التيمس" رده هذا, وفي آخره يقول: "إننا كنا ندافع عن وطننا بطريقة تقرها شريعة الله والإنسان، وكل من يقول غير هذا كائنًا من كان, فهو عبد للهوى والمال. يا دعاة الحق! أمن العدل أن يحرم أبناء الوطن من كل وظيفة، ويأخذ الأجانب أماكنهم، ومن حضر إلى مصر من الشراكسة والألبان والبلقان؟.. ولكننا سنجد بين حماة الإنسانية من يدافعون عن الحق في وجه طغيان هذا العهد الذي يسود منه وجه الإنسان"2. ونراه حين يجرد من ألقابه وأمواله يقول: "لا أعبأ بآلامي ولا بالسجن، ولا بالسباب ولا بأي شيء يوجه إلي بعد ذلك, ما دمت قد وقفت نفسي على حرية بلادي، ولا شيء يهمني الآن إلّا أن أنقذ بلادي من هذه الهوة المملوءة بالأفاعي السامة، وأن أنتشلهم من مخالب هذا التنين الفظيع. وإني لا أعبأ بهذه الألقاب العارضة التي لم أكن أرغب فيها في أي وقت من الأوقات، وإني مكتفٍ بشرفي الشخصيّ الذي سوف يلازمني ما حييت، ويبقى بعدي إذا مت، وسوف يرضيني دائمًا أن أنادى بأحمد عرابي المصري فقط, وبغير ألقاب"3. ثم ينفى عرابي فما جزع حين ترك مصر، ولا تضعضع في المنفى، بل كان أهل سرنديب ينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال, ويعده المسلمون هناك من زعماء الإسلام والأبطال، وكان يرد على الصحف المصرية والأجنبية التي تتهجم عليه

_ 1 نصوص المحاكمة في مخطوط عرابي, وفي الجزء السابع من كتاب "مصر للمصريين". 2 أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه, ص506. 3 التاريخ السري, ص412.

وعلى إخوانه بلسانٍ عذبٍ، وحجةٍ قويةٍ، وقد نشرت له جريدة "التميس" كتابًا طويلًا يدافع فيه عن ثورته ويبين أسبابها1. ويعود عرابي من المنفى وهو في الستين من عمره، وقد وصف عودته منذ أن ودعه أهل سيلان حتى رست به الباخرة على شواطئ مصر وصفًا مؤثرًا2. وقد ألف بعد عودته كتابه "كشف الستار" وقد عُنِيَ فيه بالحركة الأدبية إبان الثورة العرابية، حتى مقالات هؤلاء الذين تجنوا عليه ومفترياتهم، وقد دحضها وردَّ عليها، فمن ذلك تعليقه على ما كتب حمزة فتح الله, الذي كان يدعو إلى الهزيمة والتسليم، ويعد عرابي وإخوانه خونة مارقين عن طاعة الخديو، ويجب أن يفسحوا المجال للإنجليز كي يعيدوا الأمن والطمأنينة للبلاد، فيقول عرابي: "من الأقوال المأثورة ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تعلموا أولاد السفلة العلم"، وهو قول حكيم؛ لأنهم يتخذون العلم ذريعةً لتضليل العامة، وآلةً للتلبيس على الناس، ينصرون الباطل على الحق ابتغاء حطام يسير، أو ابتسامة أمير، أضلهم الله على علم فهم لا يهتدون، ومصداق ذلك أن الشيخ حمزة فتح الله, أنشأ مقالةً مفتراةً نشرتها جريدة "الاعتدال" التي أنشئت إذ ذاك, ضمنها من الأكاذيب ما يعجز عنه مسيلمة الكذاب" ويوردها عرابي ويعلق على بعض أجزائها بقول: "يريد الشيخ تسليم البلاد للعدو بلا قتال، لقد باع دنياه وآخرته بثمن بخس، ولا رعى الله الغني من سبيل الخيانة والتزلف، وحبذا الفقر مع الأمانة والقناعة، وكل إناء بما فيه ينضح ... إلخ"3. ويذكر بعض الرسائل والقصائد التي كتبها أهل سرنديب, ويختم كتابه بدعوة الناشئة المصرية أن تجدَّ وتجتهد, وتعمل ليلًا ونهارًا على استرداد مجدها واستقلالها وحريتها المسلوبة منها, ومطالبة الإنجليز بالجلاء حتى ينكشف هذا البلاء.

_ 1 مخطوط عرابي, ص259. 2 نفس المرجع, ص342. 3 مخطوط عرابي, ص342. 4 مخطوط عرابي, ص712.

وهكذا ظلَّ عرابي وطنيًّا حتى آخر كلمة سطرها، وفيًّا لبلاده ولمبدئه, على الرغم من المحن التي توالت عليه، وقد ظلمه التاريخ، وتجنَّى عليه الكُتَّابُ تملقًا للأسرة الحاكمة, حتى شوقي قال يستقبله عند عودته من المنفى: صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل شأنك يا عرابي حتى مصطفى كامل كان من المتجنيين عليه عقب عودته. ولكنه اليوم استرد مكانته الحقة في التاريخ، وأنه كان ممثلًا لشعب بأكمله، ويتكلم بلسانه, ويشعر بشعوره, وإذا كانت الأيام قد آذته, والتقدير قد أخطأه, فما يغض ذلك منه ولا من ثورته, وقد استجاب شباب مصر لندائه, وحررت على أيديهم البلاد، وطُرِدَ الإنجليز, وأُذِلُّوا أيما إذلال، كما طردت الأسرة الظالمة شر طردة، وكانت ثورة 1952 امتدادًا لثورته، وإن تأخر بها الزمن، إلّا أنها جاءت محكمة قاضية موفقة. تعقيب: رأيت أن عرابي كان خطيب الثورة، ولا يقل شأنًا عن عبد الله نديم، وإن اختلفا أسلوبًا ومنهجًا، لقد كان عرابي قدوةً للمصريين في جرأته ومطالبته بالحرية والعدالة وإنصاف الفلاحين الكادحين، وأن يعيش المصريون مكرمين في ديارهم لا مستغلين ولا مهانين، وأن تكون خيراتهات لهم لا للأجانب وأفاقي الأرض. ولذلك كان شعاره "مصر للمصريين" أجل! كان قدوة لعبد الله نديم، ومصفطى كامل, وسعد زغلول وجمال عبد الناصرن, وضرب لهم المثل وهو الفلاح المصري في كيف يجابهون السادة المتألهين، وكيف يدمغونهم بالظلم، وكيف يثورون لكرامتهم، وكيف يحافظون على هذه الكرامة حتى في أحلك الأوقات وأشدها يأسًا، وكيف يتمسكون بحقوقهم لا يلينون, ولا يضعفون أمام جبروت الطغاة.

ولقد رأيت من خطبة أنها كانت من وحي العاطفة المتأججة في حنايا صدره، وأنها كانت هادئةً في قوةٍ؛ إذ لم يكن عصبيًّا ولا حادَّ المزاج، ولا مهيجًا، على النقيض من عبد الله نديم, ولم يكن متمهلًا ولا جامدًا شأن الذي يقرأ درسًا من الدروس, بل متحمسًا في رزانة ووقار، وبدا في كلامه الإيمان بالحق الصريح والإثارات العميقة المتأصلة. وكان كلامه مؤثرًا في نفوس السامعين, كما أقرَّ ذلك كل من سمعه, لا لخلابةٍ فيه وتزويق، ولكن لأنه صادر عن إيمانٍ وعاطفةٍ جياشة؛ ولأنه ينبعث من نفسٍ طيبةٍ صهرتها الأحداث، وأحست بما تحسُّ به ملايين القلوب على ضفاف النيل منذ زمن قديم، فوجدت كلماته صدًى عميقًا في نفوس مواطنيه؛ لأنها عبَّرت في وضوح عما يختلج في كل صدر، ويعتمل في كل قلب. ولم يكن صاحب صنعة في خطبه أو كتاباته، فلم يتكلف أيّ لونٍ من ألوان البديع، ولم يكن يقصد غير الوضوح، ومع هذا تحس أن فيه صفة الخطيب الجيد، فجمله قصيرة الفواصل, ترتاح عندها النفس, وتستوعبها الآذان، ولها جرس موسيقي خلاب، وأنها تتدفق في يسر وقوة، ومشحونة بالعاطفة والصدق، وقلما اقتبس من الشعر والحكم والأمثال، وإذا أتى بشيء منها كان موفقًا كل التوفيق، ولكنه كان يكثر من الاستشهاد بآي الله الحكيم وبالحديث الشريف، وقضايا الدين وحوادث التاريخ الإسلاميّ، وبخاصةٍ زمن الحرب لضرورة الإقناع والتأثير. وكانت ألفاظه سليمةً ليس فيها من العاميّ المبتذل إلّا القليل، وإذا راعينا ظروفه وظروف عصره غفرناها له، ولم يك يعرف أصول المنطق والجدل، ويأتي بالمقدمات الطويلة، كما كان يفعل جمال الدين ومحمد عبده، وذلك لأنه لم يكن فيلسوفًا، ولا متعلمًا عميق الغور، وإنما كان زعيمًا شعبيًّا يطالب بحق بسيط صريح، وهو الحرية والعدالة والمساواة. وقد غلب عليه الأسلوب الخطابيّ حتى في كتاباته، وكان واقعيًّا في تعبيراته، فلم يكن يعمد إلى الخيال الأدبيّ ولا إلى العبارة المحلاة، ولم يكن رجل أحلام وأوهام، بل رجل واقع وتجارب، وهو رجل مثل عليا، كما فصلنا ذلك عند الكلام على مبادئه وشخصيته.

لقد كان من آثار الثورة العرابية في الأدب أن ألهمت الناس الحماسة، وجَرَّأتهم على الخطابة, فظهر عشرات من الخطباء إبان الثورة، إذا عرفنا أن الخطابة باللغة العربية كانت قد ماتت قبل الثورة، وأن خطباء المساجد كانوا يرددون خطبهم من كتبٍ ويقرءونها على الناس، أدركنا مدى ما دَبَّ في اللغة من قوة، وفي الخطابة من حياة على يد الثورة العرابية؛ لأنها كانت ثورةً شعبيةً عامةً، وقد وجد الناس مجال القول فسيحًا، ووجدوا في قائد الثورة خطيبًا مفهوهًا فقلدوه، ولقد كانت الثورة في حاجة إلى الخطباء أكثر من حاجتها إلى الشعراء، حتى تنتشر الدعوة، ويفهم جمهور الشعب مبادئها، ويعضد الثورة ويثبت في الميدان، ولا يسمح للخيانة والغدر بالتسلسل إلى صفوفه. ولا بدع إذا كان مصفطى كامل وسعد زغلول فيما بعد من الخطباء المقاويل, واعتمدوا في تجميع شعور الأمة على الخطابة. هذه بعض آثار عرابي وثورته في الأدب، لقد خرج الأدب إلى ميدان الحياة والكفاح، بعد أن كان أدبًا شخصيًّا، ولا يعرف سوى التملق والدهان والرياء، وقد فصلنا ذلك في مقدمة هذا الفصل.

الفصل السادس: الاتصال بالأدب الأجنبي

الفصل السادس: الاتصال بالأدب الأجنبي الترجمة والتأليف ... الفصل السادس: الاتصال بالأدب الأجنبي مَرَّ بك في الفصول السابقة شيء عن الترجمة في عهدي محمد علي وإسماعيل، وكيف أن الاتجاه في عهد محمد علي كان علميًّا بحتًا لحاجة النهضة إلى العلوم، وأن الآداب لم يكن لها إلّا نصيب ضئيل، ثم جاء عصر إسماعيل وزاد الاهتمام بالآداب، وترجمت بعض الكتب الأدبية في عصره، ولكن منيت مصر بعد ذلك بالاحتلال الإنجليزي، وازداد نفوذ الأجانب، وفرضت اللغة الإنجليزية فرضًا على تلاميذ المدراس المصرية، واتصل الأدب العربيّ والفكر العربيّ اتصالًا مباشرًا بالفكر الغربيّ، وقد كان لهذا أثر في الاتجاه الذي سلكه الأدب العربيّ حتى يومنا هذا، وسنرى إلى أيِّ حدٍّ أثَّرَ الأدب الغربيّ في الفكر العربيّ في ألوان الأدب واتجاهاته وأساليبه شعرًا ونثرًا، وإن كان هذا الفصل لا يتسع لكل هذا؛ لأن الأدب الأجنبيّ لا يزال حتى اليوم يغذي أدبنا العربيّ، وظهرت منذ الثورة العرابية حتى الحرب العالمية الثانية آثار عديدة لعشراتٍ من الكتاب والشعراء, يتضح في كثير منها ذلك الأثر الأجنبيّ في صور شتَّى, وستكون دراسة هذه الآثار، وترجمة أصحابها, في الأجزاء التالية -إن شاء الله، وحسبنا هنا أن نسجل الخطوات التي دفعت بالأدب العربيّ إلى هذا النهج، وأن ندرس بعض الألوان الجديدة التي قدمت للقارئ العربيّ في أخريات القرن التاسع عشر, وأوائل القرن العشرين. 1- الترجمة والتأليف: راينا آنفًا أن الثقافة الأجنبية التي نهلت منها مصر منذ عصر محمد علي كانت الثقافة الفرنسية، وأن مدرسة رفاعة من التراجمة والمعربين لم يهتموا بالثقافات الأجنبية الأخرى إلّا قليلًا، وكان معظم رجال البعثات في عصري محمد علي وإسماعيل يذهبون إلى فرنسا, ويعودون متشبعين بالفكر الفرنسيّ وبالثقافة الفرنسية، ولكن كان كل شيء ينقل إلى اللغة العربية؛ من طبٍّ, وهندسةٍ, وعلومٍ رياضيةٍ وعسكريةٍ, وما شاكل هذا، فاتسعت اللغة العربية، وزادت ثروتها بما بذل المعربون في سبيل مدها بالكلمات الجديدة، أو إحياء الكلمات القديمة التي تحقق غرضهم، ولو استمرت النهضة العلمية في هذ الاتجاه، وحمل العلماء والأدباء ورجال الفن والقانون الذين يلجأون إلى الثقافات الأجنبية المختلفة

ويتزودون من معينها، وينقلون من آثارها، على تعريب كل ما يفيدهم، لأصبحت اللغة العربية اليوم من أقوى اللغات على تمثيل الحضارة الحديثة, وإبرازها في صورها المتباينة، ولأخذت الكلمات المعربة صبغًا عربيًّا خاصًّا على مر السنين، وتركزت معانيها بكثرة استعمالها، وسهل على الجامعات العربية تدريس شتَّى العلوم وأحدث النظريات باللغة العربية. ولكن واأسفاه؛ أبى الإنجليز حين دخلوا مصر إلّا أن يرغموها على تعلم لغتهم في مدارسها الابتدائية والثانوية والعالية, وصار حظ اللغة العربية من اليوم المدرسي ضئيلًا، ولم يفعل الإنجليز ذلك دفعةً واحدة، وإنما مهدوا له تمهيدًا بطيئًا.. دخل الإنجليز مصر في سنة 1882، بعد أن ازداد نفوذ الأجانب، وقويت شوكتهم, وعظمت شركاتهم، وبعد أن فرضت الرقابة الثنائية, ودخل الوزارة المصرية وزيران أجنبيان، شعر المثقفون المصريون بتغلغل الأجانب في كل مصالح مصر، ورأوهم معتدين بلغاتهم وبجنسياتهم, وأن مدارسهم وإرسالياتهم تَجِدُّ في تدريس اللغات الأجنبية، ومن يتخرج فيها يكون له التفوق في ميادين الاقتصاد والسياسة، فأدى كل هذا إلى اهتمام مصر -حتى قبل الاحتلال الإنجليزي- بتعليم اللغات الأجنبية في مدراسها، وقد تقدَّم على إبراهيم ناظر المعارف في سنة 1880 يطلب إنشاء مدرسة تُسَمَّى "دار العلوم التوفيقية" لتخرج مدرسين في اللغات الأوربية, وسائر العلوم الغربية، على غرار دار العلوم العربية؛ وكانت مدرسة الألسن لا تزال موجودة، ولكن ضعف التعليم فيها؛ إذ ألغيت منها اللغة التركية والألمانية، واقتصر على تعليم الإنجليزية والفرنسية والعربية، وفي سنة 1881 تقرر إنشاء مكتب للترجمة والتحرير, تولى إدارته حينئذ أديب إسحق الكاتب المشهور، ثم تحول هذا المكتب إلى مدرسة المعلمين الخديوية في سنة 1889؛ كي تخرج مدرسين مصريين لتعليم اللغة الإنجليزية بالمدارس الابتدائية.

ولما ألغيت مدرسة الألسن أنشئ بدلها مدرسة الإدارة والحقوق سنة 1886 -وكان غرض الإنجليز جعل الثقافة المصرية ثقافة ديوانية بحتة- وقد ظلت كذلك طويلًا, حتى بعد أن كفوا أيديهم عن التدخل في وزارة المعارف؛ لأن المشرفين على نظم التعليم بمصر كانوا متشبعين بمبادئ المدرسة الديوانية، ولذلك صار الموظف المصري عبدًا لوظيفته, إذا فقدها أو إذا خرج إلى ميدان الحياة، صار كالسمكة التي جفَّ من حولها الماء، وإنما اختطَّ الإنجليز هذا النهج حتى لا يفطن المصريون إلى الأعمال الحرة, والنهوض ببلادهم عن سبيل التجارة والاقتصاد، وينفرد بها الأجانب بعامةٍ والإنجليز بخاصة، وبحسب المصريّ أن يوفِّرَ لهؤلاء الدخلاء الطمأنينة والرفاهية والنظام، وله من الأجر لقيمات تقيم صلبه, وحياة دونها حياة الخدم والأجراء، أما الربح الوفير، والعيش الرغيد, والعربات الفارهة، والقصور الشامخة, والتجارة العالمية, فهي وقف على هؤلاء الأفاقين الذين دخلوا ديارنا ضيوفًا, فاستبدوا بثروتها المادية والمعنوية، وتبجحوا في معاملاتهم لأبناء البلاد، يمشون في تيه وخيلاء وصلف وكبرياء, حتى تنبهت مصر لهم، وكفت من غلوائهم، وألغت امتيازاتهم. أجل! كان هذا بعض ما رسمه الإنجليز للشعب المصريّ، وأشرفوا على تنفيذه، فإن مدرسة الحقوق حينما أنشئت، قسمت قسمين: ابتدائي وعالي، يعد الابتدائي والمحضرين والمترجمين، وأصناف الموظفين لأقلام الكتاب والنيابة بجميع المحاكم، وأقلام الحكومة والوزارات، وشتّى المصالح التي تحتاج لأشخاص عندهم معلومات قانونية، ويعد القسم العالي لوظائف الكتاب في الدرجة الأولى والثانية, ووكلاء النيابة وما شاكل هذا. ولم يفكر المستعمرون -طبعًا- في إنشاء المدراس التي تُعِدُّ شبان مصر لميدان الحياة العلمية؛ من تجارةٍ وزراعةٍ وهندسةٍ وصناعةٍ, وغيرها، وليتهم حافظوا على لغة البلاد، وهي مصدر عزتهم، ورمز وطنيتهم وقوميتهم، وإنما عمدوا في سنة 1888 إلى الغض من شأنها، والحدِّ من تعليمها، وإفساح المدى أمام اللغات الأجنبية، وهاك ما أورده أمين باشا سامي في كتابه "التعليم في مصر خاصًّا

بهذا التحول الخطير, وهو في صورة تقرير مقدَّم من وزارة المعارف إلى الخديو: "إن تعليم اللغات الأجنبية التي لها في هذا العصر من الأهمية ما لا يخفى بمصر خاصَّةً، لم يأت إلى الآن في مدارسنا بالنتائج المطلوبة، وليس ذلك لتقصير من المعلمين، أو فتور في همتهم، فإنهم في الواقع أهلٌ لما عُهِدَ إليهم من الوظائف، غير أن الوقت المخصص لتعليم هذه اللغات غير كافٍ، حتى تكتسب التلامذة ملكة استعمال اللغة، ويسهل عليهم التكلم بها، وهو أمر لا يمكن الحصول عليه إلّا بعد تمرينٍ طويلٍ مستمرٍ، فلتلافي هذا الأمر بقدر الإمكان, تقرر أن مواد العلوم الجاري تدريسها للآن باللغة العربية, تعلم من الآن فصاعدًا بمعرفة مدرس اللغة الأجنبية, إما باللغة الفرنسية، وإما باللغة الإنجليزية، فإذا درس التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية بلغات أجنبية, وضم هذا إلى تعليم اللغة المقصودة بالذات سهل نيل المقصود". ثم ألغيت بعد ذلك اللغة الفرنسية من المدارس الأميرية الابتدائية، وحلَّت محلها اللغة الإنجليزية، وإن بقي للفرنسية بعض القوة والانتشار لكثرة المدارس التبشيرية التي تتخذها أساسًا للتعليم بمصر. وفي سنة 1898 رأت الحكومة -أو رأى المستعمر- أن يغير منهج مدرسة الطب، وأن يحول بينها وبين الرسالة العظيمة التي اضطلعت بأدائها منذ عصر محمد علي، ألا وهي نقل الطبِّ الغربيِّ الحديث إلى اللسان العربي المبين؛ فعين لها مدير إنجليزيّ, أدخل بعض الإصطلاحات فيها، واشترط لنجاحه في مهمته أن تكون لغة التدريس بالمدرسة هي الإنجليزية, فأجيب إلى طلبه، وعطلت الترجمة، وصار كل الأساتذة من الإنجليز وظلت الإنجليزية هي لغة الطب بمصر حتى يومنا هذا. وإذا كانت اللغة العربية قد حوربت في كل معهد، واشتد ساعد اللغات الأجنبية, ولا سيما الإنجليزية، فقد استطاعت بما كمن فيها من قوةٍ أن تقف أمام المحنة، وأن تسترد سلطانها المفقود بعد لأي، وأن ترغم العدو الغاصب على الاعتراف لها بالحيوية، وأنه ليس من السهل القضاء على لغة ذات تاريخ مجيد، وتراث تليد، ودين سماويٍّ مكين كاللغة العربية.

ظهرت سطوتها أول الأمر حينما اضطرت المحاكم الأهلية إلى تعيين المترجمين بين القضاة الأجانب، وبين الأهالي والمترافعين لأول عهدها سنة 1883؛ إذ لم تجد الحكومة من بين المصريين أكفاء يلون شئون القضاء، ولقد أدى إنشاء المحاكم المختطلة سنة 1876، وإنشاء المحاكم الأهلية بعد ذلك إلى نهضة قانونية قوية بمصر؛ فوضعت القوانين، وكثرت عليها شروح العلماء1. وترجمت كتب كثيرة من الفرنسية في هذا الباب مثل: أصول النواميس والشرائع, لبنتام, نقله فتحي زغلول2 وهو في الخامس والعشرين من عمره، وحقوق الملل, ومعاهدات الدول, للأمير أمين أرسلان، والطعن في الحكام بطريق النقض والإبرام, ترجمة عزيز خانكي سنة 1900. ووضعت المعاجم القضائية لتيسر على المشتغلين بالقضاء والمحاماة الاطلاع على المواد اللازمة أو الأوامر العالية، ومن أشهر هذه المعاجم: قاموس الإدارة والقضاء, لفيليب جلاد, في ستة مجلدات سنة 1899، والقضاء المصري الأهلي, لإبراهيم الجمال, وهو معجم للقواعد القانونية المأخوذة من أحكام المحاكم الأهلية.

_ 1 من ذلك: 1- توضيح المشكلات في شرح قانون المرافعات, لأحمد عفيفي.2- شرح قانون التجارة, لعبد العزيز كحيل، ويوسف وهبة 1885. 3- ورسالة في قوة الأحكام المدنية لعبد العزيز كحيل 1889. 4- طلبة الراغبين في بيان حقوق الدائنين, لعبد العزيز محمد ومحمد توفيق نسيم 1893. 5- شرح الأموال على القانون المدني, لمراد فرج 1893. 6- شرح باب إثبات الديون, وإثبات التخلص منها, لعلي ذو الفقار 1973. 7- رسالة في تزوير الأوراق, لفتحي زغلول سنة 1895؛ وغير ذلك كثير, راجع تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان, ج4 ص 362. 2 ولد سنة 1863 بمصر، ودرس الحقوق بها، واشتغل بالقضاء حتى وصل إلى وكيل لوزارة العدل، قال فيه المنفلوطي: "إنه نابغة الأمة العربية علمًا وفضلًا، ونادرتها ذكاءً وفهمًا, وأقدر كتابها على الترجمة الصحيحة التي لا يضيع فيها معنى، ولا يضطرب فيها لفظ، وما انتفعت هذه الأمة في عصرها الحاضر بعلم أحد من علمائها انتفاعها بمؤلفاته ومترجماته, ويمتاز في كتاباته بالبيان والإيضاح والدقة في وضع الألفاظ بإزاء المعاني، فلا يتجوز إلّا قليلًا، ولا يتخيل إلّا نادرًا, ولا يغرب، ولا يتندر بحالٍ من الأحوال" مختارات المنفلوطي ص111، وقد ترك أحمد فتحي زغلول ثروةً علميةً عظيمةً من التأليف والتعاريب في القانون والإدارة والاجتماع؛ فترجم: روح الاجتماع لجوستاف لوبون، وتطور الأمم لجوستاف لوبون، وسر تقدم الإنجليز السكسونيين لأدمون دومولان، وشرح القانون المدني، وكُرِّمَ من أجله "1913", وله كتاب المحاماة 1905، وتوفي فتحي زغلول سنة 1914.

وصدرت مع هذه التراجم العديدة، والمؤلفات الكثيرة، مجلات قضائية؛ من أشهرها: مجلة "الحقوق" لأمين شميل، ثم آلت لإبراهيم الجمال، ومجلة "الأحكام" لنقولا توما، ومجلة "القضاء" للشراباتي وغيرها. إن هذه النهضة القانونية قد أفادت اللغة كثيرًا، وأضافت إلى المعجم العربيّ عشرات الكلمات الاصطلاحية، ولبى العلماء دعوة فتحي زغلول حين أهاب بهم أن يهيئوا لغتهم للحياة الجديدة، ورسم لهم الطريق بقوله: "عليكم بالتقدم, فادخلوا أبوابه المفتحة أمامكم ولا تتأخروا, فلستم وحدكم في هذا الوجود، ولا تقدم لكم إلّا بلغتِكم، فاعتنوا بها وأصلحوها وهيئوها, ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك أو التجوز، ثم لا تقفوا بها موقف الجمود، وأقيموا في وجه هذا السيل الجارف سدًّا من الاشتقاق المعقول, والترجمة الصحيحة, والتعريب عند الضرورة, لتكونوا من الناجحين"1. ومع هذه الفائدة الجليلة التي أحرزتها اللغة العربية بهذه النهضة القانونية, فإن من المؤسف حقًّا أن تهمل الشريعة الإسلامية وأحكامها، وأن يغلبنا الأجانب على أمرنا، ويتمكنوا من حملنا على التنكر للقانون السماويّ الذي يتمشى مع الغرائز الإنسانية، والطبيعة البشرية, وبرهنت الأيام على أنه أعدل القوانين وأقواها وأرحمها؛ إن القوانين الوضعية، ولا سيما القوانين التي وضعت لأناسٍ سوانا؛ لهم عادات وتقاليد وبيئة غير ما نحن عليه، لم تصلح المجتمع المصريّ بل أفسدته، ولو حاول المصلحون في مصر تنظيم أحكام الشريعة الإسلامية ووضعها في موادٍّ حسب أبواب القانون، ووازنوا بينها وبين غيرها من القوانين, واجتهدوا في استنباط الأحكام, ووصلوا الماضي التليد بالعهد الجديد، لبرهنوا على أنهم من أمة لها كرامة، وبها حرص على تراثها، والسير بنهضتها في السبيل المستقيم، أما عملهم هذا, فهو مسخ وتشويه للأمة، وتقليد سخيف، وهو عنوان الضعف، والشعور بالخزي أمام الأجانب، وعدم القدرة على الدفاع عن مقومات شخصيتنا.

_ 1 مختارات المنفلوطي ص "11" من مقالٍ لفتحي باشا زغلول, بعنوان: "ماهية اللغة".

ولقد حاول بعض العلماء في ذاك الوقت ممن كان لهم شعور صادق بهذه الكارثة أن يبرهنوا لهؤلاء الأجانب على أن الشريعة الإسلامية تستطيع أن تنهض بالمجتمع المصري كل النهوض، وأن بها من الأحكام ما يجعل الأمم الإسلامية في غنًى عن قانون نابليون, أو القانون الروماني، وهاك عمر لطفي1 يضع باللغة الفرنسية بعض مواد الشريعة الإسلامية؛ ليدحض دعاوى هؤلاء المغرورين بمدنيتهم الزائفة, ومن لف لفهم ممن لم يعرفوا حقيقة الشريعة الإسلامية, ومن هذه المؤلفات التي قدمها عمر لطفي بالفرنسية للموازنة. 1- الدعوى الجنائية في الشريعة الإسلامية، وقد أعجب به الفرنج أيَّمَا إعجاب. 2- حرمة المساكن. 3- حق المرأة. 4- وحق الدفاع. إن الاتجاه الذي سلكه العراق منذ سنوات, حين انتدب الدكتور عبد الرازق السنهوري لوضع قانون للمحاكم العراقية مستنبط من الشريعة الإسلامية, والاتجاه الذي اتجته سوريا في دستورها قبل الوحدة اتجاه سليم يدل على يقظةٍ وإدراكٍ صحيحٍ لقيم التراث الإسلاميّ، وحرص على عدم المسخ والفناء في الأمم الأجنبية. وظهرت قوة اللغة العربية كذلك، وأنها تستطيع أن تتحدى الاستعمار، وتسير في النهج العريض الذي خطه محمد علي وعبدته حكومة إسماعيل، على الرغم من العقبات التي أقامها الإنجليز أمامها؛ في رغبة العلماء والأدباء في أن يعرفوا أبناء أمتهم كثيرًا من أسس الحضارة الغربية، لعلمهم أن الاستعمار مهما كان جامحًا عنيفًا, لا يستطيع أن يستولي على إرادة العلماء ويمنعهم من

_ 1 أصله من أسرة مغربية، ولد بالإسكندرية سنة 1867، وتعلم بها، ثم جاء إلى القاهرة, ودرس الحقوق, وتقلَّب في مناصب الدولة حتى صار وكيلًا لمدرسة الحقوق، وكان له نشاط بارز في ميدان الحياة, فأنشأ كثيرًا من النقابات الزراعية وغيرها؛ وأنشأ نادي المدارس العليا, وله في هذا الباب كتاب إنشاء شركات التعاون، ومن أشهر مؤلفاته غير ما ذكرنا كتاب الامتيازات الأجنبية, وكان أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، وتوفي عمر لطفي سنة 1912.

الاستمرار في تغذية اللغة العربية بهذه النفائس، وقد شملت الترجمة في هذا العصر الذي نؤرخ له ألوانًا جديدة من الفكر الغربيّ، فهناك "الاقتصاد السياسيّ"، وكان العرب يطلقون عليه المعاش, ومن الكتب التي وضعت أو ترجمت في هذا الموضوع: 1- كتاب الاقتصاد السياسي, أو فن تدبير المنزل, لخليل غانم 1879. 2- أصول الاقتصاد السياسي, لرفلة جرجس 1889، وهو مقتبس من كتب إفرنجية عديدة. 3 كتاب الاقتصاد السياسي, لجيفرنس, نقلته جمعية التعريب سنة 1892. 4- مبادئ الاقتصادي السياسي, تأليف محمد حسين فهمي. 5- الموجز في علم الاقتصاد لـ "بول لروابوليه", نقله حافظ إبراهيم وخليل مطران في خمسة أجزاء بأمر حشمت ناظر المعارف سنة 1913. وهناك "علم الاجتماع" وقد مرَّ بك كيف بدأ هذا العلم على يد جمال الدين ومدرسته, وكيف شخصت أدواء الأمة الاجتماعية، ووصف لها الدواء على يد أديب إسحاق وعبد الله نديم ومحمد عبده، ولكن ما كتبه هؤلاء لم يبن على أصول علمية ثابتة، وقواعد مقررة، وإنما كان وليدة الخبرة والملاحظة والتجربة، وكان لا بُدَّ للنهوض بهذا العلم من دراسته عند علماء الغرب, ونقل أجلّ آثاره، مع تطبيق نظرياته على المجتمع المصريّ وعاداته وتقاليه وشرائعه وبيئته. وليس علم الاجتماع غريبًا عن اللغة العربية، فإن ابن خلدون في مقدمته, قد وضع له أسسًا متينةً, ونظرياتٍ سليمةً بنى عليها مونتوسكيو1 وسواه

_ 1 سبق ابن خلدون بنظرياته الاجتماعية علماء الغرب, فنظرية التقليد الاجتماعيّ مثلًا التي قال بها، وملخصها انتقال العادات والطباع بين الأجيال والأمم المختلفة؛ لميل النفس إلى اعتقاد الكمال فيمن تنقاد إليه, كما بين الأبناء وآبائهم، والتلاميذ وأساتذتهم، بنى عليها "جبريل تادر" كتابه "قوانين التقليد"، وفي كتاب مونتسكيو "روح القوانين" Esprit des lois تجد أثر ابن خلدون واضحًا كقوله بضرورة الحكومات، وأثر البيئة في الناس وعاداتهم، وكقوله بتقسيم الناس إلى طبقات حسب مكانتهم الاقتصادية، وقد شابه الاشتراكيين في قوله بأن "الطبقات تسعى لاستثمار بعضها بعضًا استنادًا إلى ما لها من السلطة الاجتماعية والسياسية, فإن كل طبقة من طباق أهل العمران؛ من مدينة أو إقليم, لها قدرة على من دونها من الطباق، والجاه داخل على الناس في جميع أبواب المعاش, فإذا كان الجاه متسعًا كان الكسب الناشئ عنه كذلك.

أبحاثهم، ثم تطور هذا العلم واتسعت موضوعاته، ونظمت أبحاثه، وقد فطن لذلك علماء مصر, فترجم فتحي زغلول -كما مرَّ بك- كتابي روح الاجتماع، وتطور الأمم لـ "غوستاف لوبون" ونقل كذلك تقدم الإنجليز السكسونيين، وهو من الكتب الممتعة التي قرأناها بشغف، ونقل محمد زكي صالح نشوء الاجتماع لـ "بنيمامين كد". ومن الكتاب الاجتماعيين الذين أفادوا هذا العلم، وحاولوا إصلاح الأمة عن طريق الدرس والتمحيص والتحليل، والاستقراء والاستنباط، السيد عبد الرحمن الكواكبي1 ومن كتبه النفيسة التي بهرت جيله، وصار لها أكبر الأثر في اليقظة القومية بالشرق: 1- طبائع الاستبداد. 2- أم القرى. وقد وضع كتبه في شكل روائي، وفهيا تحليل دقيق للأمراض الاجتماعية والسياسية, وفيها حملات شديدة على الحكومة العثمانية، وفيها علاج إيجابي سليم لأدواء المسلمين, وامتاز الكواكبي في كتابته بالذكاء والتخصص والتعمق والرزانة، ولو أتيح له أن يعرف لغة أجنبية فيطلع على أبحاث علم الاجتماع عند الغربيين لكان له -مع غزارة فكره وصدق نظره- في تقدم هذا العلم وتطوره شأن يذكر.

_ = وإذا أردت المزيد من آراء ابن خلدون الاجتماعية, والموازنة بينها وبين آراء علماء الغرب, ومن معرفة مكانت لدى الغربيين فارجع إلى: 1- ابن خلدون: منتخبات لجميل صليبا، وكامل عياد. 2- فلسفة ابن خلدون الاجتماعية للدكتور طه حسين. 3- ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربيّ, القرن الرابع عشر, للعلامة: فون فيسندنك, وترجمة: محمد عبد الله عنان. 4- كتاب روبرت فلنت في تاريخ التطور العلمي Rober, Flint. 1 من أسرة حلبية مشهورة، نشأ ميَّالًا للعلم شغوفًا بالسياسية، وحرر مدةً في جريدة الفرات الرسمية, ثم أنشأ جريدة "الشهباء" وتقلب في مناصب الحكومة، ولما رأى ما فيها من فسادٍ أخذ ينقد رجال الدولة العلية، فاضطهدوه ففرَّ إلى مصر، ورحل إلى بلاد كثيرة كزنجبار والحبشة وأواسط جزيرة العرب والهند، ثم عاد إلى مصر, واستقرَّ بها حتى توفي سنة 1902، راجع مشاهير الشرق ص35 ج1 "طبعة ثانية", ومجلة الثقافة العدد 307.

ومن المشكلات الاجتماعية التي أثيرت في هذه الفترة، وكان لها دويٌّ عظيمٌ مسألة الحجاب والسفور، ومركز المرأة في المجتمع، ولقد أدّى اختلاطنا الشديد بالأجانب، وتطعلنا إلى محاكاتهم في كل شيء، والسير على نهجهم في مدنيتهم إلى ظهور هذه المشكلة، وكان بعض المفكرين يرى سفور المرأة المسلمة ومساواتها بالرجل في كل شيءٍ مغالاةً منهم في المحاكاة, ولكنهم لم يجرءوا على الجهر بآرائهم أمام جمهور المسلمين في ذاك الوقت؛ لتمكن عادة الحجاب من النفوس، حتى ظهر قاسم أمين1, فنشر كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، وقد كان لهما أثر بليغ في الحياة المصرية، وإن لم يظهر هذا الأثر سريعًا، بل ظلت المرأة مدة يتجاذبها السفور تارةً والحجاب تارةً، حتى خلعته أخيرًا, ولم يعد له أثر إلّا في بيئات محدودة. أما "الأدب" وهو الذي يعنينا في كتابنا هذا أكثر من سواه، فقد اشتدت فيه حركة التعريب، ولا سيما الروايات والقصص، وقد عرفت فيما سبق أن الكلية الأمريكية ببيروت أسست سنة 1860, ثم أسست الكلية اليسوعية بعدها بقليل، وقد كان لهاتين الكليتين أثرٌ بارزٌ في توجيه النشء إلى القصة الغربية، ولما هاجر كثير من نصارى لبنان إلى مصر؛ حيث الحرية والشهرة والثورة, أخذ هؤلاء المهاجرون يترجمون القصص الأوربيّ ويذيعونه في الناس، وكانت بيروت قد شهدت من قبل قيام "مارون نقاش" يؤلف بعض المسرحيات أو يقتبسها من الأدب الغربيّ؛ مثل مسرحية: "البخيل" لـ "موليير"، وكان يدعو فنه هذا "الذهب الإفرنجي المسبوك" وكان لمارون ابن أخٍ اسمه سليم نقاش, رحل بعد موت عمه إلى مصر، وسعى فيها حتى أنشأ مسرحًا وفرقةً، وظهر بمصر في ذلك الوقت رجل يهوديّ اسمه "يعقوب صنوع", أسس مسرحًا عربيًّا بالقاهرة ترجم له عشرات

_ 1 من أصل كردي, نزح أبوه إلى مصر في عهد إسماعيل، وانتظم في الجيش المصريّ, وارتقى إلى رتبة أميرلاي؛ وولد قاسم بمصر, ودرس القانون، وتولَّى مناصب القضاء, حتى صار مستشارًا بالاستنئاف, وتوفي سنة 1908, والمرأة الجديدة مدينة إليه بالشيء الكثير, فهو الذي شقَّ لها طريق التحرر كما تريد, وإن لم يكن أول من نادى بذلك، فقد عرفنا أن رفاعة الطهطاوي نادى بتحرير المرأة وتعليمها، ولكن الزمن والبيئة والأمة كانت كلها غير متسعدة لتلبية دعوته حينذاك, فلما أتى قاسم أمين وجد من المسلمين من يستجيب له، وقد سارت المرأة في سفورها شوطًا بعيدًا أكثر مما قَدَّرَ قاسم أمين أو أراد.

الروايات الفرنسية الغرامية بلغة عامية ركيكة, وقد تقدم الكلام عنه1، وظل المسرح منذ ذلك الوقت يعتمد على الرويات الأجنبية الممصرة، وأحيانًا يضع له بعض المؤلفين مسريحاتٍ لا تمثل الحياة المصرية في شيء، وبها كثير من عادات الغرب وتقاليده, ولم يتجه المسرح وجهة إصلاحية إلّا نادرًا, مثل ما مر بك من روايات عبد الله نديم وأضرابه2. على أن الاهتمام بالمسرح وبالتمثيليات لم يكن كبيرًا، وإنما عُنِيَ المترجمون بنقل القصص الغربيّ بأنواعه وألوانه؛ ومن أقدم الذين اشتغلوا بترجمة القصص نجيب حداد اللبناني3؛ فنقل إلى العربية رواية صلاح الدين تأليف "ولترسكوت" ورواية السيد Cid تأليف كروني Corneille وسماها: "غرام وانتقام", رواية "هير ناني" تأليف هوجو، وسماها: "حمدان", ورواية رميو وجوليت, تأليف سكسبير, وسماها: "شهداء الغرام"، ورواية البخيل لـ "موليير" ورواية الفرسان الثلاثة, تأليف إسكندر دوماس في أربعة أجزء, طبعت لأول مرة سنة 1888. وفي أواخر القرن التاسع عشر "يونيو سنة 1897", حضر إلى مصر كلٌّ من نقولا زرق الله، وخليل مطران، وطانيوس عبده، واشتغلوا بالصحافة، ثم التحق نقولا بجريدة الأهرام، وعكف على ترجمة الروايات بأسلوب سهل جذَّاب، وفي سنة 1904 ترجم رواية "سقوط نابليون الثالث" في أكثر من ألف صفحة، وقد استهوت هذه الروايات الناشئة في مصر والبلاد العربية، فأقبلوا عليها إقبالًا شديدًا، وأخذ بعض المسلمين يقلد هؤلاء المترجمين, حتى لقد أنشأ أحدهم مجلة باسم "مسامرات الشعب" يحشد فيها كثيرًا من القصص الرخيص، وأخرج نقولا رزق الله4 "سلسلة الروايات الجديدة" وكان العدد يحتوي على شذرات من الشعر القديم، وقصصًا قصيرة, إلى جانب الرواية الرئيسية، وأنشأ طانيوس عبده مجلة "الراوي" وفيها أخذ في تعريب الروايات الشهيرة مثل: "فوست" و"الملكة إيزابو".

_ 1 راجع ص99 من هذا الكتاب. 2 وقد ذكرنا في كتابنا "المسرحية" تاريخ المسرحية المصرية بالتفصيل, وسقنا ثمة نماذج عليها. 3 ولد سنة 1876, واشتغل بالصحافة, فحرَّرَ في جريدة الأهرام إلى سنة 1884, ثم اعتزلها وأنشأ "لسان العرب، بالإسكندرية سنة 1889". 4 توفي نقولا رزق الله في مارس 1905.

وترجم فرح أنطون1 "الكوخ الهندي"، "بول وفرجين" و"أتلا" وغيرها من الروايات، كما ترجم خليل مطران كثيرًا من روايات شكسبير التمثيلية. وكان من الطبيعيّ بعد أن كثرت هذه الرويات في أيدي الشباب والرجال, أن يبدأ الأدباء في محاكاتها، وكان أول المقلدين وأنشطهم جرجي زيدان2, فنحا في تأليف الروايات منحى "ولترسكوت" الإنجليزي، واستمد من التاريخ العربيّ قصصه وأبطاله، وغيَّرَ في حقائق التاريخ وبدَّلَ حتى يدخل عامل التشويق والتتابع القصصي, وأخرج عددًا كبيرًا من هذه القصص التاريخية؛ منها: فتاة غسّان، وأرمانوسه المصرية، وعذارء قريش, وغادة كرباء، والحجاج، وفتح الأندلس، وشارل وعبد الرحمن، إلخ هذه السلسلة الطويلة التي بلغت ثماني عشرة قصة مستمدة من التاريخ الإسلاميّ، وأربع قصص أخرى مكتوبة كلها بأسلوب صحفيّ، خالية من التحليل النفسي، والنظريات الفلسفية, وما هي إلّا تاريخ في قالب قصة لم تكمل شروطها الفنية، وتاريخ لم يحافظ فيه على الحقائق، وإن كانت الحقائق التاريخية ليست شرطًا في القصة التاريخية, كما نرى عن "سكوت"، وكما نرى عند شكسبير في "أنطوني وكليوباترة", "يوليوس قيصر" وغيرهما من الروايات والمسرحيات التاريخية، ولكن هذه القصص فيها نفحة الأديب، وخيال الشاعر، وعبقرية الفنان، وليست سردًا تاريخيًّا مكتوبًا بأسلوب صحفيّ، ومثل زيدان في هذا سليم البستاني2 في رواية "زنوبيا وبدور" وغيره ممن سلكوا هذا النهج التاريخي، وزيدان أسلم من سواه عاقبة، ثم ظهرت بعد ذلك، وللأسف قصص رخيصة تتملق النزعات الدنيا عند الشعوب، وتقرأ لقتل الوقت، وتمثل كثيرًا من وجوه الحياة الإنسانية المخزية، فالإجرام

_ 1 توفي فرح أنطون في 1922. 2 ولد في بيرت سنة 1861، ودرس اللغة الإنجليزية في مدرسة ليلية مدة خمسة عشر شهرًا، وفي سنة 1881 خطر له أن يدرس الطب, ولكنه لم يتم دراسته بالكلية الأمريكية، ونال شهادة من الخارج في الصيدلة, ثم أتى مصر، وتولى تحرير جريدة الزمان سنة، ورافق الحملة النيلية إلى السودان سنة 1884 مترجمًا بقلم المخابرات، ثم رجع إلى بيروت عضوًا في المجمع العلميّ الشرقيّ, فدرس العبرية والسريانية, وزار انجلترا في سنة 1886؛ وتردد طويلًا على "المتحف البريطاني" بلندن، ثم عاد إلى مصر, وساعد في تحرير المقتطف، ولكنه استقال بعد مدة، واشتغل بالتدريس سنتين, وفي سنة 1892 أنشأ الهلال, وتوفي سنة 1914. 3 توفي سنة 1894, وبذلك سبق زيدان في تأليف القصص التاريخية, وله كذلك قيس وليلى والإسكندر.

بأنواعه وطرقه، والعشق السافل, وما شاكل ذلك من نواحي الضعف الإنساني، ولا سيما وهي في المدنية الغربية المسمومة قد زحفت في صورة قصص مزرية بالأدب, مطوحة به في مهواة سحيقة، مضللة عقول النشء، ومفسدة لأهوئهم وأخلاقهم، وباعثة منازع الشر والإجرام على طريقة رعاع باريس, وغوغاء لندن، وصعاليك برلين, وشطار نيويورك وشيكاغو، من أمثال: "اللص الشريف" و"جونسون"، و"ملتون توب" و"طرزان": وغير ذلك مما لا يخرج عما كان متداولًا في مصر إبَّان عصور الضعف من قصة "أحمد الدنف" "ودليلة المحتالة" ومغامرات العيارين والشطار، وإن اختلف اللون والزمان والحوداث، ولكن الفكرة واحدة، والنهج متشابه، والغاية السلوى وقتل الوقت، وتملق النزعات الدنيا. وأين هذا من الأدب؟ وظل هذه الفيض من السخف يغمر المطابع العربية حتى قامت الحرب العالمية الأولى، واستمر بعدها ولا زال للآن، ولكنا نكتفي بتتبعه عند هذا الحد، ولنا في الكلام عن القصة ومنزلتها في الأدب عودةً قبل أن نفرغ من هذا الفصل -إن شاء الله، وحسبنا أن نقول هنا كلمةً طالما رددناها في هذا النوع من الاتجار بعقلية الجماهير: لقد تفتحت أعيينا في الصبا, فإذا نحن في بيداء موشحة, نخبط في دروب ملتوية, ونعرج يمنة ويسرة, بعيدين عن جادة الحق، وأبواق الثقافة الدخيلة يقودون القافلة إلى مصرعها الوخيم، وينفثون فيها السموم المخدرة حتى تستكين لهم وتسلم قيادها, وهي في غفلة عما انطوت عليه جوانحهم، جاءوا وهي ترزح تحت أصفاد الجهل والانحلال، وأرادوا مسخها وتشويهها، حتى تتناسى ماضيها, وتفقد ما كمن فيها من عزة وأنفة. جاءوا بقصص خليع يثير الشهوة، ويقتل الحياء، ويلطم وجه الفضيلة والشرف، يوحي بالإجرام والفسق، وجاءوها بمهازل تمثل على المسارح باسم الفن، وأدب موبوء يزلزل العقيدة، ويخدش وجه العفاف, ويعرض على الناس باسم القصة، إنه أدب نغل، ورود آسن, وغذاء عفن, التقطه من يتجرون بعقلية الجماهير، ومن وقعوا وقوع الذباب على الفضلات الفاسدة من نفايات الحضارة الأوربية, وقدموه لقونهم في شكل زريّ.

إن النفوس المريضة، والعقول الهزيلة, هي التي يخلبها الزيف، وتغويها المظاهر الخداعة، والقلوب الخالية من الإيمان هي التي تهيم بالأباطيل فتعتسف الطريق، وتنفذ في سراديب البهتان، وإذا أرادت أمة أن تنهض وتنشيء جيلًا طموحًا فتيًّا صدفت وعفت عن هذه الآداب المرقعة، والقصص الهزيلة، وجدَّت في تثقيف الجمهور وتهذيبه, فلا تترضاه أو تتملقه، أو تناشد عواطفه الجامحة النابية طمعًا في ثروة زائلة، وجاهٍ مؤقت، وعليها أن تقود هذا الجمهور الساذج إلى المعين العذب؛ فتشذب خلقه، وتروض نفسه، وتطبعه على الخير, وتزوده بما ينهض به. لم نعرض أدواء الأمم الأجنبية ومثالبها على جمهور قرائنا، وقد وضع هذا القصص الغريب لبيئة غير بيئتنا، وليعالج مشكلات لا وجود لها عندنا؟ إن القصة سلاح ذو حدين، واستعماله يحتاج إلى مهارة وخبرة، وقد أساء المترجمون استعماله؛ فطعنوا قومهم ومجتمعاتهم الطيبة في الصميم، وجنوا عليها جناية لا تغتفر. وقد انتشر هذا اللون من القصص بأوربا في أخريات القرن التاسع عشر باسم الواقعية, وقد لخصنا السمات العامة للمذهب الواقعيّ في كتابنا "المسرحية", ولا يزال الأدب الأوروبيّ والأمريكيّ واقعًا تحت تأثير المذهب الواقعيّ، ولقد جنى على بعض الأمم الغربية جنايةً فظيعةً, وأشاع فيها التحلل والضعف، ولذلك أخذ كثير من أدباء الغرب يناهضونه. ولعلك أدركت مما سبق كيف أن الأدب الأجنبي قد طغى تياره واشتد، فالمدارس تفرض فيها اللغة الإنجليزية في كل الدروس، ولا يعفى إلّا درس العربية والدين، والأدب أخذ يغرف من بحور الغرب دون تَحَرٍّ أو تدقيق، وجمهرة المثقفين تَجِدُّ فيم ينقل إليها صورًا من حياة الغرب لم تعهدها، والغرب هو المتملك القاهر، والنفوس تشرئب لمعرفة عاداته, وسر قوته, وكثير من ألوان حياته. ظلت المدارس المصرية خاضعة لهذه السيطرة الأجنبية حتى تولى سعد زغلول وزارة المعارف في سنة 1906، ونازع المستشار الإنجليزي "دانلوب" في سطوته وجبروته، وألزمه حده لا يتعداه، وذلك بتشجيع الجمعية التشريعية التي

أصرت على إرجاع اللغة العربية، وعمل جاهدًا على غسل هذه الوصمة، والرجوع بلغة التدريس إلى اللغة العربية، فكان لها ما أرادت، وكانت حسنةً لا تنسى له وللجمعية التشريعية؛ لأنها أعادت التيار إلى مجراه القديم، وأخذ العلم الحديث يتدفق في هذا المجرى كتبًا طريفة التأليف، بارعة العرض, جذابة الأسلوب, وسار نهر العربية زخارًا صوب الكمال حتى يومنا هذا. وبقي درس اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي درسًا أصيلًا في المدراس، يقف منه الشباب على لون من التفكير الأوروبي، وكان لهذا أثره العميق في التفكير العربيّ والنتاج الأدبي فيما بعد، وسنعود إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل في مقدمة الجزء الثاني إن شاء الله.

المستشرقون

ب- المستشرقون: ومن أهم العوامل في النهضة الأدبية الحديثة, والاتصال بالفكر الأوربيّ بجانب الترجمة, ما قام به المستشرقون من جهدٍ في سبيل اللغة العربية وآدابها, وبحث العقيدة الإسلامية ومذاهبها، ونشر ما عفت عليه الدهور، وأغفلته يد النسيان من كنوز اللغة العربية. اتصل الغرب بالمشرق بادئ الأمر حينما كان الشرق في عنفوان صولته، وقمة مجده, يغص بالمدارس الجامعة، ويزخر بالكتب الثمينة، ويشمخ بعلمائه وفلاسفته ورياضييه، وكانت أوربا لا تزال في سِنَةٍ من النوم, حينما فرغ الشرق أو كاد من يقظته الطويلة وجهاده العنيف في سبيل العلم والمدينة، ولما استيقظت أوربا قليلًا، تلفتت فوجدت شعبًا غريبًا يعمر جزءًا خصبًا من قارتها، وقد أحاله جنةً فينانةً ترف فيها العلوم والفنون والآداب، فتطلع أهله إلى الأندلس منذ ذلك الحين، يرمقونها بعيون دهشة، وأفواه فاغرة، وبودهم أن يعرفوا بعض ما عليه أهلها من علم. وطئت أقدام العرب كثيرًا من أرض القارة الأوروبية, وعبرت بعضها عبور المسافر أو المغامر أو التاجر، ووقفت في بعضها وقفة الفاتح القادر، فعبروا فرنسا عبورًا سريعًا, وامتد طوفانهم إلى أودية "بوردو"، وتألب عليهم أوشاب أوربا من فرنسيين وألمان, وسواهم, حتى انحسر طوفان العرب عن فرنسا غب معركة

"بواتييه" أو بلاط الشهداء، بيد أن مقامه قد طال نوعًا في جنوب فرنسا من جهة البحر الأبيض المتوسط، وتركوا ثمة آثمارًا في صميم الحياة الفرنسية تدل على طول المكث والعشرة, ولا سيما في مقاطعة "بروفانس" وقد امتد نفوذهم منها حتى سويسرا عبر جبال الألب. وأقاموا بصقلية قرنين ونصف قرن من الزمان، وتركوا من المساجد والآثار في "بالرمو" ما يشهد بعزهم وثروتهم وحضارتهم, ولم يكن من السهل التخلص من ثقافتهم وآثارهم حتى بعد جلائهم عن بعض تلك البلاد والثغور، لا أدل على ذلك من صقلية, فقد ظلت العربية في بلاط ملوكها, وعلى ألسنة أهلها بعد نزوحهم عنها بقرون, وقد بلغ من سلطانهم أن ملوك صقلية تزيوا بزي العرب، ورأس وزاراتهم, وقاد جيوشهم, وأشرف على أمورهم عرب أقحاح ممن تخلف الجزيرة بعد نزوح جمهرتهم، وهاك ابن جبير يقول في رحلته المشهورة حين زار صقلية سنة 1187, في عهد الملك غليوم: "وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين.. وهو كثير الثقة بهم, وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله، حتى إن الناظر في مطبخه رجل من المسلمين، وعليهم قائد منهم.. ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وشعاره على ما أعلمنا أحد المختصين به، الحمد الله، حق حمده". ولا عجب فالعرب في ذياك الوقت قد بلغوا شأوًا عظيمًا من الحضارة، وكان أهل أوربا في أشد الحاجة لمعونتهم وثقافتهم، وهاك "دوزي" يؤكد أن بعد أن وقف بالدرس على كنه الحضارة العربية في الأندلس: "أنه لم يكن في كل الأندلس أميّ يوم لم يكن في كل أوربا مَنْ يعرف القراءة والكتابة إلّا في الطبقة العليا من القساوسة" وصارت جامعة طليطلة قِبْلَةَ الطلاب من كل بقاع أوربا في القرن الثاني عشر, حتى بعد أن تقلص ظل الملك العربي عن معظم بلاد الأندلس، وبقيت العربية لغة الثقافة والمعاملات والعقود حتى سنة 1580، وظلت بعض قرى بلنسية تتكلم العربية حتى القرن التاسع عشر، ولسنا الآن في صدد تبيان

_ 1 نزح العرب عن صقلية 1072م.

أثر العرب في الحضارة الأوربية وآدابها وغنائها وموسيقاها، وبحسبك أن تعلم أن الفلسفة الإسلامية ظلت تدرس في جامعات أوربا حتى سنة 1650, وأن أرسطو لم يكن يفهم إلّا بشروح ابن رشد، وأن طب ابن سينا كان غاية كل مشتغل بالطب في أوربا أمدًا طويلًا، وأن مئات الكلمات العربية التي تنبيء عن الحضارة والعلم قد دخلت اللغات الأوربية واستعجمت؛ من مثل: قيثارة, وقطران, وأميرال, وشراب, وزعفران، وكافور, وقرمز, وصك, ورزمة، وإكسير، وكيمياء، وجبر، وساقية, وما شاكل ذلك، وهم الذين علموهم صناعة الحرير والغلائل الموشاة، وصناعة السلاح والخز المذهب, والفسيفساء والبلور والورق والأصباغ والأدهان، والمعادن، وعلم الجبر والحساب بأرقامه1. واتصل الغرب مرةً أخرى بالشرق إبَّان الحروب الصليبية التي شنها متعصبة المسيحيين, حينما أَنِسُوا في عرب الأندلس ضعفًا، وظلَّت نحو قرنين وطوفان جنود أوروبا يتكسر على صفاة حماة الإسلام، ويرتد، ثم يعود أشد مما كان بأسًا، فتقابله صدمات تخفف من غلوائه، وهكذا حتى خمد، ولكن خلف هذا الاتصال الطويل آثارًا بعيدة الغور في كل من المغاربة والمشارقة، أما المغاربة فدهشوا من حضارة العرب في بلادهم, ووجدوا أشياء كثيرة لا عهد لهم بها، فقلدوا المشارقة في لبس الدروع الخفيفة المنسوجة, وفي استخدام الموسيقى العسكرية؛ واصطنعوا السيوف والرماح، وأخذوا عنهم فن بناء الحصون وحفر الخنادق، وإقامة الاستحكمات, واستعملوا النار لنقل أخبارهم في الليل, والحمام الزاجل بالنهار، وأخذوا كثيرًا من أصول الهندسة وتأسيس المنازل بالطنافس والنماذج والسجاد والأواني الخزفية وغيرها، وإن الفلسفة اليونانية التي يعتز بها الغرب، وعليها بنى حضارته وثقافته، إنما وصلت إليه عن طريق العرب، فهم الذين حفظوها وشرحوها وعلقوا عليها, وأضافوا إليها فلسفتهم وآراءهم, فلما استيقظت أوربا وجدت الطريق ممهدًا فسارت في المدنية بخطى واسعة.

_ 1 راجع: تراث الإسلامن, وراجع كذلك غزوات العرب في أوربا للأمير شكيب أرسلان, وأثر الشرق في الغرب, ترجمة الدكتور فؤاد حسنين، وكتابنا الفتوة عند العرب، الفصل الخاص بالموازنة بين الفتوة العربية والفروسية الغربية.

كان هذا استشراقًا غير منظم، نشأ عن الاختلاط ولم ينتج عن الدرس، أما الاهتمام بالعلوم العربية ودراستها فقديمٌ يرجع إلى القرن العاشر الميلادي, واهتم ملوك أوروبا بآداب العرب وعلومهم، وأول من فعل ذلك فرديريك الثاني ملك صقلية سنة 1350، ثم ألفونس ملك قشتالة, فقد جمع الأخير المترجمين كما فعل المأمون من قبل، أمر بترجمة كتب العرب, وكانوا ينقلونها إلى الإسبانية ثم إلى اللاتينية, وشاع خبر هذه التراجم فحاكه كثير من ملوك أوربا, ومضت القرون الوسطى والثقافة العربية من طب وهندسة وفلسفة وجبر وحساب وكيمياء وصناعة وأدب1 هي عماد الثقافة الأوربية، ولكن ما لبثت أوربا أن تخطت دور التعلم، ومهرت في شتّى أنواع العلوم، وبنت على هذا القديم الذي نقلته ومحصته ودرسته دراسة عميقة, علمًا جديدًا لا يزال في نموٍّ واطراد، وهو عماد الحضارة الغربية اليوم، ومع أن أثر العلوم والآدب العربية لا يجحد, فإن هذا الأثر قد ضعف على مر الأيام2 واستقلت العلوم والآداب الأوروبية، وصارت مرجعًا ومعينًا، وتراثًا شائعًا للإنسانية، ومع كل هذا فقد تجدد نشاط الغرب في الاستشراق خلال العصور الحديثة، وظهر هذا النشاط في صور عدة:

_ 1 بلغ ما ترجم من الكتب العربية في القرون الوسطة أكثر من 300 كتاب؛ منها 60 في الفلسفة والطبيعيات، و70 في الرياضيات، والنجوم، 60 في الطب، 400 في الفلك والكيمياء. 2 لا مراء في أن الأدب الأوربي قد تأثر بالأدب العربي خلال العصور الوسطى، وظهر هذا الأثر في صور شتّى؛ فنرى الشعر الغربي يقتبس القافية من الشعر العربي, بعد أن لم تكن معروفة في الشعر اليوناني أو اللاتيني Legacy of Islam p. 373،والطروبادور نوع من الشعر الغنائي الغزلي الرقيق، وقد ظهر في جنوب أوربا في القرون الوسطى، وهو يشبه إلى حد كبير في أوزانه وقوافيه ومعانيه وحرارته الشعر الغزلي العربي، ولا سيما الغزل العذريّ, وكلمة "طروب" عربية لا شك فيها, والقصص العربية والخرفات والأمثال والنوادر كان لها أكبر الأثر في الأدب الأوربي حينذاك؛ ومن أهم الكتب التي ترجمت: كليلة ودمنة في القرن الثالث عشر، وكان النواة التي نشأ من حولها أدب قصص عن الحيوان والطير، وإذا وزانت بين أشعار "لافونتين" وبين قصص كليلة ودمنة, تجد الاقتباس واضحًا, وقصص بوكاشيو "دي كاميرون" عليها طابع عربيّ ظاهر، ولما ترجم ألف ليلة سنة 1704 احتفى به الأدباء الأوربيون احتفاءً شديدًا واقتبسوا منه، ونسجوا على منواله، وظهرت قصص أوربية مشهورة, فيها النفحة العربية والخيال الشرقي، خذ مثلًا "زاديج" لفولتير أو "الكوميديا الإلهية" لدانتي, فإنك تلمس أثر رسالة الغفران قويًّا في الملحمة الإيطالية، ولم يكن التشابه مجرد مصادفة، بل الأمر أعمق من هذا. ومن أشهر الآثار التي تتسم بالطابع الشرقي العربيّ ديوان الشاعر العالمي "جيته" المسمى "ديوان الشرق والغرب", ومسرحية كورني "السيد" ومسرحية راسين "باجازيت أي بايزيد" من أثر هذا الاتصال الثقافي.

1- الجمعيات الأسيوية: وهي جمعيات أنشأها المستعمرون أول الأمر لدراسة شئون الدول التي يحكمونها، وتعرف لغاتهم وآدابهم ونفسياتهم، حتى يكون حكمهم مبنيًّا على أسس متينة، ومن أقدم هذه الجمعيات تلك التي أنشئت في بتافيا عاصمة جاوا سنة 1781، ومن أشهرها الجمعية الأسيوية الملكية بلندن، وقد أسست سنة 1723, ونظيرتها الفرنسية 1820, ولكلٍّ من الجمعيتين مجلة مشهورة تعنى بالأبحاث الشرقية والإسلامية والعربية, وتقوم أحيانًا بطبع كتب لم تنشر من قبل, أو إخراجها بتعليقات قيمة، ومن ذلك نشر المجلة الأسيوية الإنجليزية لمقامات الحريري، وترجمان الأشواق لابن عربي "ترجمها نيكلسون"، وقد اعتنى الفرنسيون بخاصة في مجلتهم بالمذاهب الإسلامية؛ فبحثوا في الدروز والشيعة والإسماعيلية والوهابية والنصيرية, وماشاكل ذلك. وحذا كثر من الدول حذو إنجلتزا وفرنسا في إنشاء الجمعيات الأسيوية, فصار لأمريكا الجمعية الشرقية، ولألمانيا الجمعية الأسيوية، وفي إيطاليا والنمسا كذلك. 2- المؤتمرات: ومن مظاهر نشاطهم المؤتمرات التي يعقدونها في إحدى مدنهم المشهورة, ويؤمها المستشرقون من كل دولة، وكثير من الأدباء والعلماء في الدول الشرقية، وتلقى فيها البحوث, وينتاقش المؤتمرون في شتَّى المسائل, ويطلعون على ما قام به كل من الخدمات في سبيل الاستشراق، وأول مؤتمر عقده المستشرقون هو مؤتمر باريس سنة 1773، وتكررت بعد ذلك المؤتمرات حتى زدات في القرن العشرين، وقد أخذت مصر في العصر الحديث تشترك في هذه المؤتمرات, ومن أول من اشتركوا فيها عبد الله فكري، وحمزة فتح الله، وحفني ناصف وأحمد شوقي الشاعر. 3- المكتبات: ومن العجب أن كثيرًا من نفائس الفكر العربي والإسلامي ليس في البلاد

العربية، وإنما اكتنزه الغربيون في مكاتبهم، وقد جمعوا كثيرًا من هذا التراث في خلال العصور الماضية، وأيام محن المسلمين بالأندلس وصقلية وفرنسا وإيطاليا, وأيام الحروب الصليبية, وأيام أن دخلو غزاة فاتحين، أو تجارًا مستعمرين، وحرصوا على اقتناء النسخ النادرة والكتب الثمينة؛ حتى تجمع في هذه المكتبات ما يزيد عن مائتين وخمسين ألف مجلد، ومن أشهرها: مكتبة برلين، وباريس، ولندن، وليبزيج، وليدن، وأكسفورد، وأدنبرة، وليننجراد، ومدريد. وقد عز على كثير من أدباء العرب وعلمائهم أن يظل هذا التراث النفيس غريبًا محتبسًا في مكاتب أوربا، فأخذوا منذ تنبهوا يغشون هذه المكتبات وينقلون بعض المخطوطات القيمة، أو يصورنها؛ وقد اهتمت بذلك جامعة القاهرة, ورصد لهذا العلم الأموال, وبعثت العلماء لهذه الغاية، وقد جدت الجامعة العربية في نقل كثير من هذه المخطوطات وتصويرها, حتى تهيأ لها عدد غير يسير منها, سيلقى ولا شك كثير من الضوء على الحقائق العلمية والأدبية والتاريخية المتداولة. على أننا ما زلنا نطمع في المزيد, وأن تنقل كل هذه الكتب وترد صورها على الأقل إلينا, فنحن أولى بها من سوانا, ولا سيما وقد نشأت بين ظهرانينا طائفة من العلماء المحققين الذين أجادوا إخراج هذه الكتب إخراجًا علميًّا صحيحًا، ومن أشهر الذين اهتموا بهذا وجلبوا عشرات الكتب النادرة أو صورها؛ المرحوم أحمد تيمور والمرحوم أحمد زكي. 4- معاهد اللغات الشرقية: وفي العواصم الكبرى بأوربا، مدارس للغات الشرقية، يرد مناهلها طلاب أوربيون يدرسون اللغات كي يتمكنوا من العيش ببعض بلاد الشرق تجارًا أو موظفين أو سياحًا أو مستعمرين, كما يؤمها اليوم كثير من أبناء البلاد الشرقية والعربية، ويتزودون من علم كبار المشتشرقين، ويأخذون عنهم طرق البحث، والاستنباط، ومن أشهر هذه المعاهد مدرسة اللغات الشرقية بلندن وباريس وبرلين، وكل مدرسة تحوي مكتبة قيمة، تعنى بدارسة اللهجات وتسجيل الأصوات، ويدرس بمدرسة اللغات الشرقية بلندن ما يزيد عن ثلاثين لغة.

5- أشهر المستشرقين المحدثين: 1- دي ساسي الفرنسيّ, توفي سنة 1838: منشئ الجمعية الأسيوية الفرنسية، وكان من أعظم المسشترقين وأصبرهم على الدرس, وخلَّفَ عدة آثار تشهد بفضله، من ترجمةٍ لكليلة ودمنة، ومقامات الحريري، ورحلة عبد اللطيف البغدادي، وألفية ابن مالك, والبردة، وكتاب النقود للمقريزي، وكتاب الزاجل لابن الصباغ، وترجم كثيرًا من أشعار العرب كقصيدة الطغرائي: يا خالي البال، وله مؤلف في تاريخ العرب أيام الجاهلية، وآخر عن ديانة الدروز، وهو الذي أنشأ مع تلامذته المجلة الأسيوية Jourral Asisique. 2- كاترمير Quatremere 1857: وهو من تلاميذ دي ساسي الفرنسي، ومن أعماله: نقل تاريخ المماليك للمقريزي, وطبع مقدمة ابن خلدون في ستة أجزاء بالعربية والفرنسية، ونشر منتخبات من أمثال الميداني متنًا وترجمةً، وترجم المعلقات السبع، ومن أبحاثه المشهورة بالمجلة الأسيوية ماكتبه عن النبطيين والعباسيين، وكتاب الأغاني, والفاطميين، وذوق الشرقيين, وغير ذلك من الأبحاث المفيدة التي تدل على نشاط جَمٍّ، وصبر بليغ. 3- مونك Muuk 1867: وهو ألماني يهودي, درس على ساسي، وقدم مصر فجمع مخطوطات كثيرة منها تاريخ الهندي للبيروني, ومن آثاره: تأثير اللغة العربية في اللغة العبرية بعد التوراة, وبحث ونقد في ديانة الدروز, ومجموعة في الفلسفة العربية واليهودية "وهو كتاب نفيس". 4- دي برسفال De Perecval 1871: وهناك أب وأبن بهذا الاسم، وكلاهما اشتغل بالعلوم الشرقية، وإنما نعني بهذا التاريخ الابن، وقد قام برحلة إلى لبنان، ومكث به ثلاث سنوات، وعُيِّنَ أستاذًا للعربية العامية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ثم للفصحى في معهد

فرنسا, ومن آثاره: المعلقات السبع "وباكورة تاريخ العرب" في ثلاثة مجلدات, وقد طبع مرارًا. 5- رينان Renan: وقد درس اللاهوت في أول نشأته، وتعمق في اللغات الشرقية، وقام برحلة في بلاد الشرق العربيّ، ومن مؤلفاته: تاريخ اللغات السامية, في جزأين, كتاب ابن رشد, وقد علق عليه بقوله: "ولولا ابن رشد لما فهمت فلسفة أرسطو وتاريخ فينيقية" وقد اشتهر بتعصبه الذميم ضد العرب والمسلمين، وفي كتابه تاريخ اللغات السامية مطاعن كثيرة على العقلية العربية سنرد على بعضها عما قليل. 6- دي فو De Vaux: واشتهر بأبحاثه الرياضية والفلسفية، ومن أحسن كتبه: مفكرو الإسلام, في خمسة أجزاء، وكتاب الفلسفة المشرقية، وترجم قصيدة ابن سينا في النفس، وترجم تائية ابن الفارض. 7- Massignon: وهو من المستشرقين المعاصرين: وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية بمصر، ومن أكثر المستشرقين نشاطًا، وأطولهم باعًا، وقد كان أستاذًا لتاريخ الفلسفة في الجامعة المصرية، وتتلمذ أول أمره في الجزائر وتونس وفاس، ورحل إلى العراق، جاب كثيرًا من الأقطار العربية، ومن آثاره المهمة: أخبار الحلاج, والصوفية، والأمثال البغدادية للطالقاني، وكتاب مراكش في القرن السادس عشر، وله بحوث طيبة في دائرة المعارف الإسلامية. 8- لفي بروفنسال Provencol: وهو كذلك من المستشرقين الفرنسيين المعاصرين، ولد بالجزائر سنة 1894، وقد انتدب أستاذًا زائرًا بجامعة القاهرة، ومن أشهر آثاره: أسبانيا المسلمة في القرن العاشر, والحضارة العربية في أسبانيا، وثائق غير منشورة عن تاريخ الموحدين، وتقويم للسير الأندلسية في القرن الثالث عشر، وقد عاون في طبعة الذخيرة لابن بسام, من مطبوعات جامعة القاهرة.

أما المستشرقون الإنجليز فمن أشهرهم: 1- كارليل, توفي سنة 1805, وهو صاحب كتاب الأبطال المشهور. 2- إدوارد لين Lane: وقد قدم مصر سنة 1825, ودرس عاداتها دراسة طيبة، حتى لقد لقبه أصدقاؤه بمصر بمنصور أفندي؛ لكثرة تقليده للمصريين في معيشتهم, ومن أجَلِّ آثاره: معجمه المشهور سواء العربي أوالإنجليزي، ومعجمه العربي نموذج احتذاه من قام بعمل المعاجم بعده، ومن آثاره كذلك: كتاب عن أخلاق المصريين وعاداتهم، وهو تحفة جميلة، وقد ترجمه أخيرًا الأستاذ عدلي نور بالرسالة, ثم نشر على حدة. 3- وليم رايت Wright 1896: ترجم رحلة ابن جبير ونقدها وعلق عليها، ومن أشهر كتبه وأعمها نفعا: كتابه في النحو, وقد طبع مرات، وله كتاب جيد في الموازنة بين اللغات السامية Comparative Grammer، واشترك مع "دوزي" في إخراج نفح الطيب للمقري، ونشر كتاب الكامل للمبرد، وكتاب تلقيب القوافي لابن كيسان، وكتاب أخبار الرواد، وترجم كليلة ودمنة، وهو صاحب أبحاث الأدب السوري في دائرة المعارف البريطانية. 4- إداورد بروان T.BVrowne: وكان أستاذًا بجامعة كمبردج للعربية والفارسية، ومن آثاره: الطب عند العرب، وتاريخ الأدب الفارسي, ونشر كتاب مذكرة الشعراء لدولتشاه، وكتاب نهاية الأرب في أخبار الفرس والعرب, والصحافة والشعر في إيران الحديثة. 5- السير توماس أرنولد Arnold: وهو أول أساتذ بمدرسة اللغات الشرقية بلندن، ومن مؤلفاته العظيمة ذات الأثر الجليل كتابه الدعوة إلى الإسلام، وقد ترجم إلى كثير من اللغات، وقمنا بترجمته ونشر جزء كبير من هذه الترجمة بمجلة الرسالة سنة 1939، ولكن

حالت دون نشره عوامل مختلفة، وقد تمت ترجمته إلى العربية, ونشر في هذه السنة على يد بعض الأساتذة، وفيه يظهر توماس أرنولد دون تحيز سر الإسلام وعظمته. 6- مرجوليوث، وقد اكتسب شهرة كبيرة في البلاد العربية, ونشر معجم الأدباء لياقوت الحموي، ونشوار المحاضرة، وديوان ابن التعاويذي، وحماسة البحتري, وترجم فصولًا من التمدن الإسلامي لجورجي زيدان. 7- نيكلسون: وهو كذلك من أشهر المستشرقين وأبعدهم صيتًا، ولا سيما في أبحاثه عن التصوف الإسلامي، وله في ذلك كتاب في ثمانية مجلدات، ونشر ترجمان الأشواق لابن عربي، وترجم لابن الفارض في المجلة الأسيوية، وفكرة الشخصية في الصوفية، وله كتاب مشهور في تاريخ الأدب العربي, وتوفي نيكلسون من أمد وجيز. 8- جب Gibb: وهو من أشهر المسشترقين الإنحليز, وقد درسنا عليه بمدرسة اللغات الشرقية بلندن, وكان عضوًا بمجمع اللغة العربية بمصر, وله عناية فائقة بالأدب الحديث في مصر والشام, ونشرت في مجلة معهد اللغات الشرقية بلندن من سنة 1927-1930, وله كتاب موجز عن تاريخ الأدب العربي، ومن أحدث كتبه وأنفعها كتاب "الميول الحديثة في الإسلام" غير أنه شديد العناية بتركيا وتطورها، وله أبحاث عن الفتوحات العربية في آسيا الوسطى وعلاقتها ببلاد الصين، وصار محررًا لدائرة المعارف الإسلامية، وهو أستاذ بجامعة "هارفرد" بأمريكا، وله خبرة واسعة ببلاد الشرق العربي. أما المستشرقون الألمان, فقد كان الحافز لهم على الاستشراق في مبدأ الأمر الاشتغال بالمسائل الدينية وترجمة التوراة, فاضطروا إلى دراسة العبرية ثم العربية، وبعد ذلك حفزته عوامل سياسية وتجارية إلى الاهتمام باللغات الشرقية، وإن لم يتهيأ لهم أن يكونوا مستعمرين لهم أملاك واسعة وإمبراطوريات شرقية مترامية الأطراف كالفرنسيين والإنجليز, ومع هذا فقد نبغ منهم عدد أفادوا الدراسات الشرقية والإسلامية فائدة لا تنكر، ومن أشهرهم:

1- فريتاخ, توفي سنة 1861: وتعلَّم على دي ساسي في باريس، واشتغل بالتدريس في جامعة "بون"، ومن آثاره ديوان الحماسة لأبي تمام مع شرح التبريزي وبترجمة لاتنية, وأمثال لقمان، وأمثال العرب, وأمثال الميداني بترجمة لاتينية، وفاكهة الخلفاء لابن عربشاه؛ وله معجم عربي لاتيني في أربعة أجزاء، وطَبَعَ معجم البلدان لياقوت مع فهارس قيمة وتذييل. 2- فلوجل, توفي سنة 1870: ومن آثاره: نشر كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة, مع ترجمة لاتينية في سبعة مجلدات، ودراسة عن الكندي الفيلسوف العربي، ونشر كتاب التعريفات للجرجاني, وأتبعه بدراسة عن ابن عربي, ومدارس العرب النحوية حتى القرن العاشر، ونشر الفهرس لابن النديم كذلك. 3 فليشر, توفي سنة 1888: مؤسس الجمعية الشرقية الألمانية، وقد نشرت هذه الجمعية كثيرًا من الكتب القيمة؛ مثل: معجم البلدان تصحيح "وستنفلد" وشرح المفصل لابن يعيش, تصحيح "بان"، وكتاب الآثار الباقية للبيروني, تصحيح "سخو". ومن آثاره: ترجمة ألف ليلة وليلة في تسعة مجلدات, وتفسير القرآن للبيضاوي, وعجائب المخلوقات للقزويني. 4- وستنفلد, سنة 1899: ومن آثاره: مختلف القبائل ومؤتلفها, لمحمد بن حبيب، وتاريخ مكة للأزرقي، وأخبار قبط مصر للمقريزي، وجغرافية مصر للقلقشندي، وتاريخ الخلفاء الفاطميين، وتاريخ أطباء العرب، وديوان علقمة الفحل، وكتاب الاشتقاق لابن دريد، ومعجم البلدان لياقوت في جزأين، وآثار البلاد للقزويني، وطبقات الحافظ للذهبي، وغير ذلك من الكتب القيمة, وكلها تدل على نشاط وافر، ورغبة صادقة في خدمة الأدب العربيّ والتاريخ الإسلامي.

5- نولدكه, توفي سنة 1931: ومن آثاره: قواعد اللغة العربية، وتقارب اللهجات، وتاريخ القرآن، ودراسة عن المعلقات، وتاريخ عرورة بن الورد، وتاريخ الفرس والعرب، والعرب في عهد الساسانيين, وله مختارات شعرية من العصر الجاهلي والإسلامي الأول، وجمعت مقالاته في مجلد؛ فبلغت خمسائة مقالة. ولم يقتصر الاستشراق على علماء هذه الدول، بل نرى في معظم البلاد الأوربية وفي أمريكا مستشرقين لهم باعٌ طويلٌ في نشر الكتب وتصحيحها, وترجمة بعضها إلى لغاتها, حتى لو لم يكن لهم مطمع استعماري، أو مقصد تجاري أو تبشيري، ومن هؤلاء المستشرقين: 1- كراتشوفسكي الروسي1: "ولا يزال حيًّا" وقد عُنِيَ عنايةً خاصةً بالأدب العربي الحديث، وانتدب أستاذًا بجامعة القاهرة، ومن آثاره التي يقال إنها لا تقل عن الثلاثمائة؛ بين مصنف ومترجم ومفسر: الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر، نشر مخطوطتين مجهولتين عن الجغرافية وعلم الفلك في الحبشة وأسبانيا المسلمة والمتنبي وأبي العلاء، وطبع كتاب البديع لابن المعتز بتفسير وتعليق ومقدمة في ثمانين صفحة. 2- دوزي الهولاندي, توفي سنة 1883. ولد بليدن، وهي من أشهر المدن اهتمامًا بنشر الكتب العربية, ومن أشهر مؤلفاته: تاريخ الإسلام في إسبانيا في أربعة أجزاء، بدأه بدرس القبائل العربية في العصر الجاهلي, ثم عهد النبي -عليه السلام، ثم عصر الأمويين، وتخلص إلى الأندلس, فأرخها من سنة 711 إلى 1110، وله كتاب "كلام كُتَّاب العرب في دولة العباديين" في ثلاثة أجزاء، ومن أجل آثاره: ملحق المعاجم العربية, ذكر فيه الألفاظ التي لم ترد بها, ويقع في جزأين، ومما نشره تاريخ ابن زبان، وتاريخ المعجب للمراكشي، وجغرافية الإدريسي.

_ 1 راجع ترجمته بالتفصيل إذا شئت في كتب "المستشرقون" لنجيب العقيفي ص132 وما بعدها, وقد اعتمدنا في الكلام عن المستشرقين على هذا الكتاب، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان, وتاريخ الآداب العربية للأب لويس شيخو, وعلى صلاتنا ببعض هؤلاء المستشرقين, ولا سيما المعاصرين منهم.

3- دي جويه De Goeje المتوفي سنة 1909, وهو هولندي, وقد اشتهر بنشر المؤلفات العربية الهامة بعد تصحيحها وضبطها، فمما نشره: فتوح البلدان للبلاذري، وديوان مسلم بن الوليد، والمكتبة الجغرافية العربية في ثمانية مجلدات، وتاريخ الطبري الكبير في خمسة عشر مجلدًا مع فهارس قيمة، وغريب الحديث لأبي عبد الله القاسم بن سلام "وهو أقدم المخطوطات العربية بأوربا بعد القرآن"، ونشر كذلك رحلة ابن جبير، والمسالك والممالك لابن حوقل، وأحسن التقاسيم للمقدسي البشاري, والأعلاق النفيسة لابن رستة، وجزء من تجارب الأمم لابن مسكويه، وجغرافية الأصطخري، ورسالة حي بن يقظان، والتمدن الإسلامي لجرحي زيدان، وسيرة الرسول -عليه السلام- لابن هشام، وعشرات الكتب والمخطوطات القيمة. 4- جولد زيهير المجري, وتوفي سنة 1929: وهو إسرائيلي تبحر في اللغة العربية، والشريعة الإسلامية، وله فيهما أبحاث تدل على سعة اطلاع، وطول باعٍ، ومن أشهر آثاره: العقيدة الإسلامية في الإسلام, وقد ترجم أخيرًا إلى العربية، وكتاب آداب الجدل عن الشيعة، والفقه العربي، التقية في الإسلام, ونشر كتاب المستظهري في الفضائح الباطنية وفضائح المستظهرية للغزالي، وغير ذلك من الكتب التي تدل على اهتمامه بالعقائد والمذاهب. وهذا وقد اشتهر في كثير من الدول بعض أفراد المستشرقين مثل: سانتلاتا، ونيلنو، وجويدي الكبيرن وجويدي الابن في إيطاليا1، والبارون كريمر, والدكتور مونر في النمسا، وفنديك، وماكدونالد, وشارلز آدمس في أمريكا، وكريمرسكي في بولندا, وبول كراوس في تشكوسلوفاكيا2، وبركلمن في ألمانيا، وكتابه في تاريخ الأدب العربي من أهم المراجع المعتمدة, ولا سيما تلك الملاحق التي

_ 1 وكل هؤلاء المستشرقين كانت لهم صلات وثيقة بمصر، وقد درسوا في جامعة القاهرة، وفي الجامعة المصرية القديمة، واشتهر سانتلانا بأبحاثه الفلسفية, ونلينو بأبحاثه الفلكية والتصوف, وجويدي الكبير بالأدب والتاريخ واللغة الحبشية والحميرية, وجويدي الابن بأبحاثه في الأدب وفقه اللغة والعقائد والمذاهب الإسلامية. 2 انتدبته الجامعة المصرية للتدريس بها من 1936, حتى انتحاره في سنة 1944, واشتهر بأبحاثه عن الفرق الدينية وتراجم رجاله، وقد اعترف له كثير من المستشرقين بالفضل والدأب.

الملاحق التي يضيفها إليه في كل عام، وقد قام بترجمته زميلنا المرحوم الدكتور عبد الحليم النجار. أثر المستشرقين: تفرغ المستشرقون للبحث، ومنحتهم أممهم المال والوقت، وتحت أيديهم المكاتب العامرة بالأبحاث وبالمخطوطات النادرة، وكلهم يعرف عدة لغات عربية وشرقية، فكان من الطبيعيّ أن تتسم آثارهم بسمات التحقيق والمثابرة والاطلاع والموازنة ومراجعة الأصول أو المخطوطات ووضع الفهارس, وغير ذلك مما كان مفقودًا في الكتب العربية. ولقد مهَّدوا السبيل أمام الباحثين بنشرهم المخطوطات الثمينة في طبعات أنيقة مصححة، مزودة بتعليقات نفيسة، وبفهارس تيسر الاطلاع وتجمع الأشخاص والأماكن، والموضوعات، واشتهروا بتحقيقاتهم اللغوية، وبأبحاثهم في أصول اللغات، وفقه اللغة، والساميات، وباكتشافاتهم الأثرية في بلاد العرب، وقد غيرت هذه الاكتشافات كثيرًا من نظريات التاريخ وحقائقه المتداولة، وامتازت أبحاثهم بحسن العرض، وبالتدقيق العلميّ، وبالنظرات الشاملة، وأهم أثر للمستشرقين يتضح في الكتب العربية التي ألفت على نمط كتبهم، ولا يهولنك هذا، فهم كما ذكرت لك قد أتقنوا طرق البحث في لغتهم، وطبقوها على الدراسات الشرقية التي يضطلعون بها، وعندهم من الوقت والمال ما يمكنهم من حسن الإخراج وجمال الأداء. إن الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب بصورته التي نعرفها اليوم, هي أثر من آثار المستشرقين, وحسنة من حسناتهم؛ ولا تعجب, فالكتب العربية منذ طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي, وما أتى بعده من كتب التراجم؛ كمعجم الأدباء لياقوت، ووفيات الأعيان لابن خلكان, لم تبحث في الأسباب والعلل والنتائج والبيئة والظواهر السياسية والاجتماعية، وتفاعل الأديب وعصره, كما نرى اليوم في الدراسات الأدبية، وإنما كان الأديب وحدة منفصلة لا تربطه بغيره روابط.

ومن الكتب التي ظهرت في هذه الحقبة التي نؤرخ لها -أي: أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- وتجلَّت فيها آثار المستشرقين وطريقة بحثهم, بل وكثير من آرائهم وأحكامهم وأبحاثهم: 1- كتاب تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان، وقد اعتمد فيه على بروكلمن الألماني في كتابه تاريخ الأدب العربي، ولم يقف بروكلمن عن القرن التاسع عشر, بل أصدر ملاحق عديدة يسجل فيها تطور الآدب العربية في عصرنا هذا، وينقد معظم الأدب الذي تصدره المطبعة العربية ويتتبع الأديب منذ نشأته، ويسجل تطورات أدبه. 2- كتاب الأدب لويس شيخو في الأدب العربي إبان القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وكتابه هذا محاولة أولية لمحاكاة المستشرقين في كتاباتهم، وفيه كثير من طرق البحث القديمة، ويمنك أن تدرك الفرق بين ما يكتب اليوم وما كتبه الأب شيخو منذ ربع قرن. 3-وتاريخ أدب العرب, لمصطفى صادق الرافعي، وهو من الكتب التي تدل على غزارة علم وسعة اطلاع، وبذل كثير من الجهد، ولكنه لم يبلغ في بعض أحكامه وطريقة عرضه ما بلغته الأبحاث الأدبية بعد، ويعد في الطليعة من الكتب التي ألفت على الطريقة الحديثة، وقد وفق فيه مؤلفه لكثير من اللمحات والأحكام الصائبة، مع أن الرافعي لم يكن يعرف إلّا القليل من اللغات الأجنبية. 4- وآداب اللغة العربية في العصر العباسي, للشيخ أحمد الإسكندري. 5- وبلوغ الأرب في أحوال العرب, للسيد محمود شكري الألوسي البغدادي1:

_ 1 صاحب هذا الكتاب السيد محمود شكري الألوسي البغدادي, ولد سنة 1273هـ-1856م, ودرس على الطريقة الأزهرية الكتب اللغوية والدينية، ولكن كتابه هذا يعد للآن كتابًا قويًّا في مادته, يدل على علم صاحبه وقدرته على التأليف، وهو من المراجع القيمة في أحوال عرب الجاهلية، وقد احتل كتابه هذا مكانته اللائقة به في عالم التأليف. ولا يزال حتى اليوم حجة في موضعه، وينتفع به كثير من من طلاب الأدب على الرغم من أن البيئة التي نشأ بها المؤلف كانت متأخرة، هذا وقد توفي السيد محمود شكري الألوسي سنة 1342هـ-1942م ببغداد، وحسبه هذا الكتاب ذكرى طيبة وعملًا صالحًا, راجع تاريخ حياته, وبقية آثاره وأشعاره في أعلام العراق, للسيد محمد بهجت الأثري.

6- وعلم الأدب لحفني ناصف. 7- والاشتقاق والتعريب لعبد القادر المغربي. وكانت هذه الكتب بواكير الدراسات الأدبية التي نحا فيها الكتاب العرب منحى المستشرقين وتأثروا بهم في منهج أبحاثهم، ولكن لم تر الجامعة المصرية القديمة، ولا جامعة القاهرة عقب إنشائها غناءً عن المستشرقين، فأخذت تنتدبهم للقيام بالتدريس فيها، ونشر طرقهم السديدة في البحث بين طلاب الأدب، ولقد ظهر هذا الأثر جليًّا واضحًا في الأبحاث التي تلت ذلك، وما زلنا سائرين في هذا الطريق، نعتمد على أنفسنا مرة، ونستأنس بآرائهم مرةً، والبحوث الأدبية تكثر وتتنوع, ويظهر عليها أثر التحقيق العلمي السليم. ولعلك تسأل: أترى المستشرقين أعلم منا بلغاتنا وبأصول عقائدنا وفرقنا الدينية، وهل هم معصومون من التعصب والخطأ؟! في الحق إن كثيرًا من المستشرقين على حظٍّ كبير من العلم والمعرفة، ولكن الأمر الذي يهمنا نحن ليس العلم، وإنما المنهج وطريقة الاستقراء والاستنباط والدرس وتكوين الحكم بعد الموازنات، ومراجعة الأصول والمخطوطات, وكل ما قيل حول الموضوع، ولقد ذكرت لك آنفًا أن مكتبات أوربا تحوي مائتين وخمسين ألف كتاب عربيٍّ بين مخطوط ومطبوع، وهذه الثروة الهائلة حرية أن تتيح لمن يعيش معها, وقد كلفت له أسباب البحث الأخرى أن يتسع اطلاعه ويعمق نظره، ويقرب حكمه من الصواب، فلا بدع إذا كان بعض المستشرقين حجة في أبحاثهم التي تصدوا لها. أجل! إننا لا نبرئ كثيرًا منهم من التعصب، ولا سيما في المسائل التي تتعلق بالدين والعقيدة والجنس، وهيهات أن يكتب أحد عن الإسلام أو عن العرب دون أن ينزع في كتاباته إلى ما ينم عن تعصبه, وقليل منهم مَن استطاع أن يتجرد من عواطفه ونزعاته حين البحث؛ مثل: "السير توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام".

أما عن الأدب فلا داعي للتعصب, اللهم ما أشاعوه عن أسطورة العقلية السامية والآرية حين كلامهم عن خلوِّ الأدب العربي من القصة، وتعليلهم لهذا بذلك التعليل السخيف، وهو عقم الخيال العربي وإجدابه1، ولعلك لم تنس الضجة التي أثيرت حول كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين, وما ثبت من أنه تأثر فيه برأي "مرجوليوث" وأخذه آراءه هذا المستشرق قضية لا جدال فيها، فأنكر قصة إبراهيم وإسماعيل, وشك مثله في معظم الشعر الجاهلي2, وقلَّ منهم من خلا من التعصب الديني أو الجنسي. وللمستشرقين أخطاء كثيرة، يرجع بعضها إلى جهلٍ بالمصلطحات العربية وعدم معرفة معانيها الصحيحة، وتدعوهم إلى استنباطاتٍ فاسدة، فكازانوفا مثلًا يترجم كلمة أمي بشعبيّ، وكازميرسكي يترجم قوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} باعبدوا آدم, وأحيانًا يبالغون في التحليل والتعليل والتأويل، ويحاولون أن يجدوا شيئًا لم يوجد قط، فيضلون سواء السبيل، فترى كازانوفا مثلًا عند بحثه في "إخوان الصفا" يقع على نص في رسائلهم، ويجتهد في أن يستنبط منه تاريخ تأليفهم الرسائل بطريقة مضحكة أبعدته عن الصواب كل البعد2. وعلى الرغم من كل هذا، فأخطاؤهم العلمية قليلة، وهي مغتفرة لهم إذا راعينا أنهم يبحثون في ديانات غيرهم ولغتهم وآدابهم وأخلاقهم، وأخطاؤنا نحن أكثر من أخطائهم وأشنع، ولا نستطيع أن نغمطهم حقهم، وننكر أياديهم على الأدب العربي والأبحاث الإسلامية واللغوية والاجتماعية، ونشرهم مئات الكتب والمخطوطات الثمينة التي أتاحت لنا معرفة ما كان عليه أسلافنا حق المعرفة، إننا لا زلنا نتلقى عنهم الكثير، وسوف نظل كذلك إلى أن يتاح لنا نقل صورة صحيحة من المخطوطات النادرة الموجودة لديهم، ونسخ الكتب القيمة التي تعوزنا في البحث، وإلى أن يتفرغ منا العلماء للبحث الطويل الشاق دون مراعاة الزمان والجهد كما يفعلون، وحينئذ نستطيع أن نجاريهم في مضمارهم، لهم فضل السبق.

_ 1 سنخص القصة بكلمة في هذا الفصل باعتبارها لونًا من ألوان الأدب لم يكن موجودًا لدى العرب. 2 راجع كتاب النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي, تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، ومقدمة الأمير شكيب أرسلان له. 3 راجع "إخوان الصفا" لمؤلف هذا الكتاب, ص68 وما بعدها.

أثر الاتصال بالأدب الأجنبي

أثر الاتصال بالأدب الأجنبي ... جـ- ثر الاتصال بالأدب الأجنبي: كان من الطبيعيّ أن يتأثر الشرق العربيّ، ولا سيما مصر، ولبنان، بهذا الاتصال المباشر بالأدب الأجنبي، ففي مصر يجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر الوادي الخصيب، ويشتد نفوذ الأجانب من كل دولة، يفدون أفواجًا ينشدون الغنى والسعادة في هذه البلد المضيافة والأرض البكر، وتفرض اللغة الإنجليزية على تلاميذ المدراس المصرية، ويعمد الأدباء اللبنانيون والسوريون الذين يمموا صوب مصر هربًا بحرياتهم إلى الأدب الغربيّ ينقلون منه ألوانًا شتّى إلى اللغة العربية. ولا أريد في هذه العجالة أن أتقصَّى أثر الفكر الغربي في العقل العربيّ والنتاج الأدبيّ, فإن هذا الامتزاج بين الثقافتين لم تظهر آثاره الحقيقية إلا بعد فترة طويلة من الحقبة التي نؤرخ لها، حين شبَّ جيلٌ من الأدباء في هذه البيئة التي تلتقي فيها تعاليم محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ووطنية عبد الله نديم، وأدب حسين المرصفي والسيد بن علي المرصفي بقصص هوجو وفولتير وراسين وكورني وشكسبير وعشرات من قصاص فرنسا وإنجلترا وغيرهما، ولكن كانت السمة الغالبة على أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هي ازدياد نفوذ الأدب الأجنبيّ وإعجاب أبناء البلاد العربية به، فتمنَّى الشعراء أن يجددوا في الشعر، وأن ينسجوا على منوال شعراء الغرب، بل كان منهم من يود التحرر من قيود الشعر العربيّ, ويأخذ بحرية الشعر الفرنجي، فهتف حافظ بقوله: آن يا شعر أن نفك قيودًا ... قيدتنا بها دعاة المحال فارفعوا هذه الكمائم عنا ... ودعونا نشم ريح الشمال ويقصد بالشمال بلاد الغرب، وإن عجز حافظ عن فك القيود ولم يستطيع أن يخرج خروجًا تامًّا على الصور القديمة مهما كانت روحه التجديدية

راغبة في ذلك1, ولكن مما لا ريب فيه أن كثيرًا من المعاني الجديدة والصور الغربية والخيال الاوربي قد ابتدأ يتسرب إلى أفكار الشعراء وأخيلتهم، وإن لم يظهر أثره إلّا بعد مدة، وفي جيلٍ غير هذا الجيل الذي شهد زحف الآداب الغربية أول الأمر, وكم كان بودي أن أقف هنا وقفةً طويلةً لأبين هذا الأثر، ولكن موعدنا به في الجزء التالي إن شاء الله. أما النثر فقد كان التأثير فيه شديدًا، لانطلاقه وعدم تقيده بقوالب وأوزان وقوافٍ، ولأن النثر الغربي المترجم كان الكثرة الغالبة, ولا سيما القصة كما رأيت2، وهنا يجدر بنا أن نتأنى قليلًا، فإن القصة قد صار لها في عالم الأدب العربي شأن كبير، وكانت الحقبة التي نؤرخ لها هي حقبة الحضانة التي نمت فيها القصة، وأخذت بعد ذلك تتفتح وتزدهر وتجري على الألسانة والأقلام، والقصة هي أكثر أنواع الأدب شيوعًا في الغرب، بل إن الأدب الغربي يتسم بأنه أدب القصة، وليس كذلك الأدب العربي، فلم كان هذا؟ وهل ما يدعيه بعض النقاد الغربيين، ويتبعهم في ذلك كثير من الكتاب العرب -من أن العقلية العربية مجدبة, عقيمة الخيال, ادعاء صحيح؟؟ -إن هذا الموضوع يتطلب منا كلمة موجزة قبل أن نفرغ من هذه الكتاب؛ لأن النثر -وهو كما قلنا قد تأثر بالأدب الغربي أكثر من الشعر- قد صار له ثوبان يظهر فيهما: القصة والمقالة. 1- القصة: وموضوع القصة موضوع طويل وشائق، فهناك تاريخ القصة ونشأتها في العالم، وأنواع القصة من: خرافة ومثل، وحكاية, وأقصوصة, ورواية, ثم ألوان الرواية من: واقعية أو خيالية أو تاريخية أو نفسية, إلى آخر هذه الأبحاث، ثم هناك شروط القصة وكيفية بنائها, وما يشترط في المقدمة والحوادث والعقدة والجو والحل، وهل تخالف القصة القصيرة في تركيبها وإنشائها الرواية؟ وبعد ذلك كله

_ 1 الإسلام والتجديد لدكتور شارلس أدمس ص209. 2 راجع في تأثر النثر العربي الحديث بالقصة العربية, كتاب الدكتور إسماعيل أدهم عن "توفيق الحكيم الفنان الحائر" حلب سنة 1939.

هناك القصص الأوربي، والقصص العربي، وهل الأدب العربي كما يزعم بعض الباحثين مجدب من القصة؛ كل هذه موضوعات كنا نود البحث فيها، وإيفاؤها حقها1, ولكنها كما ترى طويلة وتحتاج إلى كتاب خاصٍّ نتناول فيه القصص منذ نشأته إلى اليوم، يتعرض للقصص العربي بالتفصيل مبتدئًا بالعصر الجاهلي, والموازنة بين خرافات الجاهلية وأساطير اليونان والرومان؛ ثم يتكلم على قصص القرآن، ثم القصص الإبداعي في العصر الأموي, أي: قصص الحب العذريّ، ثم تأثر الأدب العربي بالآداب الأجنبية، ولا سيما الأدب الفارسي, وظهور كليلة ودمنة، وقصص ابن عبدوس الجهشياري، والصادح والباغم, ثم ظهور المقامات، وبعد ذلك كله ظهور ألف ليلة وليلة, ومقدار ما به من فن، ومنزلته في عالم الأدب، ويتعرض الباحث في الأدب العربي حين يكتب في كل هذا للأثر العربي الخالص في هذه القصص، وللتأثير الأجنبي فيها؛ ليستخلص من كل ذلك حكمًا على العقلية العربية، وعلَّك قد رأيت من إثارة هذه الموضوعات أمامك أنها تحتاج إلى كتاب خاص، يتكلم عنها بإسهاب ويوفيها حقها من البحث والتمحيص، ولعل ذلك يكون قريبًا. أما الآن فإني أتعرض للقصة من ناحية واحدة، دعاني إليها كثرة ما ترجم من أدب الغرب وقصصه في أخريات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ودعوى الغربيين بأنها نتاج يصعب على العرب إخراج مثله؛ إذ ينقصهم الخيال المبتكر والعقل الخالق. يدعي هؤلاء أن السبب في فقدان القصة من الأدب العربي هي البيئة التي عاش فيها العرب دهورًا طويلة في صحرائهم المجدبة، التي قلما يطرأ على بساطها تغير، فشمسها ضاحية, وهواؤها راكد، لا غابات فيها تشق أشجارها أجواز الفضاء، وتتلون أوراقها ألوان مختلفة تبعًا لتغير فصول السنة، ويشعر من يغشاها برهبة تملأ جوانحه، وقشعريرة تسري في بدنه، ولا كهوف فيها تتحدث عن شعوب اتخذتها مسكنًا أمدًا غير يسير، ثم هجرتها، بعد أن تحضرت، وخلفت

_ 1 راجع دراسات أدبية ج1 المؤلف, ففيه فصل ضافٍ عن أدب القصة.

فيها آثارًا لا تزال ناطقة, ولا سماء صاخبة متقلبة مزمجرة هادرة، ولا جبال يكسوها الثلج فيخطف البصر ويظهر جبروت الطبيعة؛ فلا بدع إذا جاء الخيال الساميّ صورة من هذه الصحراء، وعلى العكس من ذلك البيئة التي عاش فيها الآريون قبل أن يدخلوا إلى أوربان وهي شمال بلاد الهند، فإن الطبيعة فيها قاسية قسوة عارمة، والمناظر متنوعة، والغابات كثيفة دكناء, والجو متلقب لا يستقر على حال, فالرعود القاصفة، والريح العاصفة, والمطر الهطال, والبروق الخطافة, والسحب تتراكم في السماء كأنها جيوش يدفع بعضها بعضًا, وقد بثت هذه الطبيعة في نفس الإنسان الذي عاش في أحضانها شيئًا من الخشية والرعب وألهمته الأساطير والخرافات، فكان ذلك بدء القصة، وقد اختزن العقل الأوربي من صور هذه الحياة الأولى شيئًا غير قليل، وكان له بهذا الخيال المجنح والعقلية الخصبة، والنظرة الفاحصة، وهذه المواهب هي القصة. فالقصة في نظرهم الصورة المثلى التي يتجلى فيها الخيال وتظهر العبقرية، وخلوّ الأدب العربي منها فيما يزعمون دليل على ضعف العقلية العربية، وقد جاراهم في هذا بعض أدبائنا غير مدركين ما في هذه الدعوى من خداعٍ وأخطاء، استمع إلى الأستاذ أحمد أمين وكيف يجعل قلمه صدًى لهذه الفكرة الخاطئة فيقول عن العربي: "إن خياله محدود وغير متنوع، وقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف المثل الأعلى، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، قلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنًى جديدًا, ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب": ويقول في موضوع آخر: "والمزاج العصبي يستتبع عادة الذكاء، وفي الحق إن العربي ذكي يظهر ذكاؤه في لغته, فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة، والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلّا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بالجواب الحسن، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى

الواحد على أشكالٍ متعددة فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل: إن لسانه أمهر من عقله"1. هذا هو ما يقول الأستاذ أحمد أمين، ويقول مثله توفيق الحجيم2 وعباس العقاد في الفصول3 ونسي الأستاذ أحمد أمين حين أنكر أن العرب عرفوا المثل الأعلى, أو أشاروا إليه, قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 4 وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 وأما أن المثل الأعلى كلمة واحدة أو كلمتان, فهذا لا يقدم في القضية ولا يؤخر، فلا الكلمة الواحدة تدل على عمق الخيال ولا الكلمتان تدلان على تقصيره، وهذا الكلام -وللأسف- صدًى لما يفتريه الشعوبيون على العرب، وما يقدمونه للانتقاص منهم والغض من شأنهم قديمًا وحديثًا. ولنعد إلى القصة وإلى هذه الخرافة -خرافة العقلية السامية والعقلية الآرية- فالقصة الفنية لم تعرف في الأدب العربي إلى سنة 1740م؛ حيث ألف "رتشردسن" قصته "باملا"6، وعدها النقاد قصة فنية, بل عدوها القصة الأولى، واشترطوا في القصة الجديرة بهذا الاسم شروطًا أهمها أن تكون واقعية، وفرقوا بين القصة وبين الشعر في هذا الباب بقوله: "الشعر صوت ينطق بما هو خارق للمألوف، وبما هو أسمى من مجرى الحياة المعهودة, وبالإحساس النادر الذي لا يلم بالإنسان إلّا قبسات متباعدة، فهو على الجملة يتحرك في مجال أعلى من مجال الحياة الواقعية، أما النثر فهو -على نقيض ذلك- أداة تعبر عن كل هذه الأشياء تعبيرًا أدق وأوفى مما يستطيع الشعر.. من هنا كان النثر أداة ملائمة للتعبير عن حوادث الحياة اليومية التي تجري على المألوف، ولا تكون عظيمة

_ 1 راجع فجر الإسلام, ص46-47. 2 في كتابه تحت شمس الفكر, ص63-84. 3 راجع كتاب: الفصول للعقاد, وما نقله عنه Widmer في راسته عن محمود تيمور القصاص المصري ص15, وانظر كذلك خليل مطران في المقتطف م82ج, إبرايل 1933 ص500. 4 سورة 16 الآية 62. 5سورة 30 الآية 26. 6 راجع: Encyclopedia Britanica:

المغزى, ولما كانت القصة حكاية تروي بالنثر وجهًا من أوجه النشاط والحركة في حياة الإنسان، فخير لها إذا أن تقص قصة عادية عن الإنسان العادي الحقيقي, كما تجري حياته في عالم الواقع المتكرر كل يوم". "الحكاية النثرية المثلى" -أي القصيدة- هي التي تشتمل كل ما للنثر من قدرة على التعبير، وقد علمت أن النثر من شأنه أن يعالج الواقعي المألوف، وإذًا فروعة القصة وبراعتها أن تروي حكاية الحوادث المألوفة الواقعية الجارية.. ولا يمكن لقصة بمعناها الصحيح أن تنشأ إلّا إذا اهتم الناس أولًا بأجزاء الحياة وتفصيلاتها اهتمامًا يحول التافه إلى شيء ذي وزن وشأن، وإلّا إذا أخذوا يستمتعون بمطالعة أوجه الحياة المألوفة كما تقع كل يوم". "على أن القصة الفنية الصحيحة تختار بطلها رجلًا عاديًّا ممن أهملتهم صحائف التاريخ ووقائعه، إذًا ليست القصة بحاجة إلى الرجوع إلى الماضي لانتقاء أبطالها من أعلام التاريخ, وأولى لها أن تقصد إلى تصوير هؤلاء الناس الذين نعيش بينهم. أضف إلى ذلك أن معرفة الدقائق التي أحاطت بحياة البطل التاريخي متعذرة أو مستحيلة"1 هذه هي القصة في عرف النقاد الغربيين تعنى بالوقائع وبالجزئيات وبالتفاصيل, وتبعد عن الخيال كل البعد، وإذا كان الأمر يحتاج إلى خيال وإلى مثلٍ أعلى, فالشعر هو وسيلة التعبير، وهذا الرأي الذي قررنا هو رأي المدرسة الواقعية في الأدب, والتي ابتدأت تتجه نحو واقع الحياة منذ القرن الثامن عشر، ولها اليوم السيطرة على الأدب الغربي كله، وقد فصلنا الكلام عن المذهب الواقعي في كتابنا "المسرحية" وأظنك أدركت الغرض الذي من أجله سقنا لك رأي نقاد الغرب في القصة؛ لأن العرب إذا لم يبرزوا في هذه القصة بمعناها الفني عند الغربيين فذلك لسببين: "إلى قوة الخيال عند العرب، وسطوة ذلك الخيال، فهو دائمًا مجنح يسبح في عالم المثل العليا -لا كما يقول الأستاذ أحمد أمين- ويأبى أن يعنى بالتوافه وبالحياة الواقعية وبالتفصيلات والجزئيات، وبالرجل العادي الذي أهمله التاريخ,

_ 1 راجع فنون الأدب تأليف تشارلتن, وتعريب الدكتور زكي نجيب محمود, من ص115 إلى 140.

والذي لا يأبه له الناس, وإنما يعمد دائمًا إلى ما هو أسمى من ذلك وأجل شأنًا، ولذلك كان الشعر أعلى صور البيان عند العرب، ومفخرة أدبائهم. ومن العجب أن يرجع الأستاذ توفيق الحكيم عن تعظيم شأن القصة، ويفرق بينها وبين الأدب بقوله: الفرق بين الأدب وبين القصة؛ كالفرق بين المناطق العليا في الإنسان والمناطق الأخرى, وإذا كانت القصة تصور الإنسان في حياته، فإن الأدب يصور الفكر في حياة الإنسان، ذلك أن الإنسان ليس مجرد شخصية تتحرك في محيط البيئة المادية من ريف أو حضر أو منزل أو مقهى أو مكان عمل, مما درج القصاصون على تسميته بالحياة الواقعية، ولكن الإنسان أيضًا فوق ذلك وأكثر من ذلك عقل يتحرك في عوالم فكرية مرتفعة، وهي روح يسبح في معانٍ شعرية سامقة، فالعناية بحياة هذا الجزء الأعلى من الإنسان هو من اختصاص الأدب، ولكن انتشار القصة باعتبارها مطالعة سهلة, قد دفع الكثيرين إلى اختصار الطريق، والهرب من الجهد، واتخاذ القصة مركبًا هينًا، لا يكلف أكثر من سرد حوادث محلية، وحبك مواقف، ووصف أشخاص، ورسم مناظر من الحياة الجارية بأي أسلوب اتفق، ليطلق على هذا العمل الزهيد، بعدئذ اسم الأدب المبتكر والخلق الأصيل1". إذًا فالقضية على عكس ما يدعي الشعوبيون، ومن انخداعٍ بأقوالهم، ويؤيد قولنا هذا أن العربيّ لما اتصل قديمًا بآداب الفرس والهند لم يعجبه منها إلّا النوع الخياليّ المجنح الذي ينطق الحيوان، ويشخص الجماد، ويحلق بعيدًا عن مستوى الحياة الواقعية وأفعال الناس وأقوالهم، وقد أخذ العرب يحاكون هذا النوع من القصص حتى برعوا فيه، وعد ابن النديم في الفهرست من كتب الأسماء والقصص التي ألفها العرب على نمط كليلة ودمنة والصادح والباغم لابن الهبارية مائة وأربعين كتابًا. ولما ترجمت المجموعة الأولى من كتاب ألف ليلة وليلة، كانت تحتوي ألف خرافة فارسية وتسمى "هازار إفسانه" غير فيها العرب وبدلوا، وأضافوا إليها

_ 1 من مقال للأستاذ توفيق الحكيم بجريدة الأخبار بتاريخ 28/ 3/ 1948.

أشياء كثيرة, حتى خرج من كل ذلك كتاب ألف ليلة وليلة، وهو ما هو عند الغربيين في الخيال الغريب والتأليف العجيب، والأجواء الساحرة، والافتنان في تصوير الشخصيات, وأنواع الملذات, فصار مضرب المثل، ومنبعًا ينهل منه كل من يريد أن يوصف بسعة الخيال، وشروده وجموحه، وقد أثر هذا الكتاب كثيرًا في الأدب الغربيّ منذ ترجم إلى اليوم -كما مر بك، مع أن جمهرة أدباء العرب لا يعترفون بسمو أدبه، ولا يقرون بعبقرية فنه، بل يعدونه أدبًا شعبيًّا يصلح للعامة في أسمارهم، والنساء في أويقات سرورهن، والأطفال في لهوهم وأحاديثهم، وفي العصر الحديث حين اتصل العرب بالأدب الغربيّ لم يرقهم منه إلّا الأدب الإبداعي "الرومانطيقي1" الذي يصور الأبطال، ويغرب في الخيال, ويترجم عن العواطف الجياشة, وظلوا حتى اليوم يعربونه ويحاكونه معرضين عن الأدب الواقعي إلّا القليل، مع أن الغربيين قد نفضوا أيديهم من هذا اللون الأدبي منذ مائة سنة، وعمدوا إلى الأدب الواقعي التحليلي كي يعالجوا به مشكلاتهم الاجتماعية المعقدة، وقد حاولت مدرسة لطفي السيد الأدبية أن تدخل الأدب التحليلي الواقعي، وظهرت لذلك آثار لم ترق بعد إلى المرتبة التي وصل إليها المنفلوطي أو الزيات في الأدب الرومانطيقي2". كل هذا يدلنا على أنه ليس الخيال العربي، وعدم عمقه هو الذي حال بين العرب وبين القصة الواقعية التي لا يعترف النقد الحديث في أوربا بسواها, بل الخيال العربي المجنح وما به من عمقٍ هو الذي ربأ بالعرب عن أن ينزلوا إلى هذا القصص الواقعي. وثمة أمر آخر حال بين العرب وبين هذ اللون من الأدب، وهو أن الأدب الواقعي يعالج مشكلات اجتماعية وأخلاقية، ويتخذه المفكرون والمصلحون الاجتماعيون مطيَّةً لبثِّ أفكارهم، وعرض مقترحاتهم في المشكلات القائمة بمجتماتهم، ويعرضون حلولًا يعتقدون أنها تذلل هذه المشكلات، وتنير لأولي الأمر السبيل حين يشرعون أو يطبقون القوانين، ويعمدون أحيانًا إلى المسرحية

_ 1 راجع الدكتور إسماعيل أدهم في كتابه عن توفيق الحكيم الفنان الحائر ص14-25. 2 المصدر نفسه.

ويظهرون الشخصيات التي تمثل الناس في حياتهم المألوفة، وأحيانًا يلجأون إلى القصة الواقعية أو الأقصوصة, ويدعون الشخصيات التي يصورونها تتحدث كما هي في الحياة من غير أن يظهر المؤلف عواطفه أو يبرز شخصيته، حتى تكون قصته أقرب إلى الحقيقة وأدنى من الواقع, ولم يكن المجتمع الإسلامي في العصر الذهبي للأدب العربي أيام العباسيين, وأيام أن عرفوا شيئًا من القصص الفارسي وغيره بحاجة إلى من يحل له مشكلاته الاجتماعية والخلقية, ويشرع له القوانين ويبين له كيف يطبقها، فقد كان الشرع الإسلاميّ قائمًا, وهو تشريع من عند الله, يعتقد الناس أنه الحق والعدل، وأنهم في غنًى عن سواه من القوانين، وأن كل قضاياهم تحل على ضوئه، ولا يجوز لأحد أن يقترح تشريعًا مخالفًا أو حلًّا لا يوافق الشرع، ولذلك بطلت حاجتهم إلى مثل هذا القصص الواقعي الذي يصور الرجل العادي في حياته المألوفة ويحل مشكلاته ومشكلات مجتمعه. إن أسطورة العقل الآري وفضله على العقل السامي, التي طالما رددها أدباؤنا من غير أن يفطنوا إلى ما فيها من شعوبية كامنة، ومن غير أن يتبينوا وجه الصواب بعد أن غشى عليهم الحق ما عليه الشعوب العربية من هوان وضعف، فاعتقدوا باطلًا أن الحق مع القوة, وأن العقلية الآرية لابد أن تكون متفوقة ما دام أصحاب هذه العقلية هم المسيطرون على شعوب الأرض, إن هذه الأسطورة تنم عن تعصبٍ مكينٍ في نفوس قائليها, وعلى مغالطة ظاهرة، فهذا "أرنست رينان" وهو من غلاة الشعوبيين وأشدهم قسوةً على العرب ودينهم, والساميين وعلقليتهم, يقرر ما أورده أحمد أمين, ويحقر من العقلية السامية1 ويقول: "يبدو أن التفكير الفلسفيّ للبحث عن الحقيقة كان وقفًا على الجنس المسمى بالهندي الأوربي, أو الآري الذي يمتد من الهند إلى أقصى الغرب, وإلى أقصى الشمال، والذي كان يبحث منذ أقدم العصور إلى الآن في تفسير الله والإنسان والعالم تفسيرًا عقليًّا, وقد ترك وراءه في كل مراحل تاريخه آثارًا فلسفية خاضعة لنواميس تطور منطقي، أما الساميون فإنهم بدون تفكير أو تدليل -أي بدون

_ 1 راجع Historire Generale et Systeme Compare, des Langues Semitiques par Ernest Renan. p. 1/ 18.

فسلفة- وصلوا إلى أصفى وأنقى صورة دينية عرفها التاريخ.. والساميون تنقصهم الدهشة التي تدعو إلى التساؤل والتفكير؛ لأن اعتقادهم في قدرة الله يجعلهم لا يدهشون لشيء". ثم ينتقل إلى الخصائص الأدبية التي ميزت العرب بالشعر, ووصمت غيرهم بالقصة, فيقول: "والتوحيد أثر أيضًا في الشعر العربي؛ لأن الشعر العربي يعوزه الاختلاف، فموضوعات الشعر -أي: أغراضه- محدودة، قليلة العدد جدًّا عند الساميين، والشعر العربي الذي تمثله القصيدة يعبر عن إحساس شخصي، وعن حالة نفسية خاصة, والأبطال في هذه الشعر نفس منشئيه، وهذه الصفة الشخصية التي تجدها في الشعر العربي والشعر الإسرائيليّ ترجع إلى خاصية أخرى من خصائص النفس السامية، وهي انعدام المخيلة الخالقة، ومن هنا لا نجد عندهم أثر للشعر القصصي أو التمثيلي"1. ولقد أردت بهذا النص الذي سقته لك من "رينان", أن أبين التعصب الذميم الذي يوحي إلى هؤلاء الشعوبيين مثل هذا الكلام، فيسلبون أممًا قويةً لها مجدها التاريخيّ والأدبيّ كل الفضائل العقلية -وهم في ذلك على باطل- ويتبعهم وللأسف فئة من أدبائنا، فيكونون حربًا على قومهم، ليس ثمة فرق -كما رأيت- بين كلام "رينان" وكلام "أحمد أمين", إن رينان ينعى على العقلية السامية أنها لم يكن لها "ميثولوجيا" أي: خرافات دينية كما عند اليونان، وليس أبعث على الضحك من التنويه بعظم العقلية اليونانية وما رزقته من عبقرية؛ لأنها آمنت بالخرافات، وألَّهَت الأشخاص والأبطال، والتمست الطريق إلى الحقيقة فضلت سواء السبيل، وأمعنت في الأساطير دون أن تصل إلى الله2 لقد جعل

_ 1 ويقول رينان في موضع آخر: "الجنس السامي أدنى من الجنس الآري إذا قورن به، ذلك أن الجنس السامي ليست له هذه الروحانية التي عرفها الهنود والألمان، وليس للجنس السامي هذا الإحساس بالجمال الذي بلغ حد الجمال عند اليونان، وليس له هذه الحاسية الرقيقة التي هي الصفة الغالبة عند الكلتيين "سكان فرنسا وبعض البلجيك" وإنما يختص الساميون بالبديهة الحاضرة، ولكنها بديهة محدودة, وهم يفهمون الوحدة بشكل غريب، فالتوحيد هو أهم خصائصهم، وهو الذي لخص ويفسر جميع صفاتهم، ففخر الساميين في كونهم أول من عرف التوحيد، وعنهم أخذ العالم الديانات، والصحراء هي ملهمة الواحدانية لمنظرها الواحد المتشابه". 2 راجع في أسباب تعدد الآلهلة عند اليونان القدماء: The Martyrdom Of man. y. Winwood Read, 144

هؤلاء الباطل حقًّا، وأشادوا باليونان لأنهم أخفقوا في الاهتداء إلى وحدانية الله التي آمن العالم بها فيما بعد على يد موسى وعيسى ومحمد -عليهم السلام, والتي أمنت بها أوربا الآرية، وكفرت بآلهة "الأولب" وميثولجيا اليونان. ولعلك تعجب إذا قررنا لك أن المدنية الأوربية الحديثة بنظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وحياتها العلمية هي من أثر العقلية السامية قديمًا؛ حين تتلمذوا على العرب وشروحهم للفلسفة اليونانية والطب والكيمياء والجبر والهندسة وغيرها، وحديثًا ممثلةً في بني إسرائيل الذين نزحوا إليها من مئات السنين بعد أن عاشوا طويلًا في الصحراء، ولو كانت البيئة الصحراوية لا تنتج إلّا عقولًا مجدبة وخيالات ضحلة، وفكرًا غير قادر على الخلق والابتكار، ونفسًا لا تعرف الفلسفة ولا تقدرها, لظل اليهود كذلك في رحلتهم الدائمة بأوربا مهما تغيرت بهم البلاد والبيئات، ولكنا نرى الأوربيين في كثير من الأحيان يعترفون للتوارة بالفضل، وللشعب الإسرائيلي وليد الصحراء بالعبقرية والنبوغ، والعقلية السامية متكافئة في اقتدارها وعالميتها، واللغة العربية والعبرية توأمان نشأتا من أصل واحد, وهذا "رينان" يقول: "ليس في ماضي النوع الإنساني ما يثير اهتمام الفكر الفلسفيّ سوى تاريخ ثلاث شعوب، تاريخ إسرائيل، والتاريخ الإغريقي، والتاريخ الروماني". وما بالنا نقص عليك أقوال الأوربيين، ولا نسوق لك الأمثلة الحية الصادقة على أن اليهود هم الذين أسسوا الحضارة الأوربية الحديثة، وهم قادة الفكر فيها حتى اليوم، على الرغم من أنهم قلة مضطهدة. إن الفلسفة في ألمانيا ابتدأت من القرن التاسع عشر حين ظهر فيها الفيلسوف اليهودي باروخ "سبونزا"1 في أمستردام، بعد أن درس ما جاء به فلاسفة قومه من أمثال ابن ميمون، وابن عزرا، وفلسفة ابن جبريل الصوفية،

_ 1 سبونزا Spinoza 1632م -1677, ولدة من أسرة برتغالية يهوية هاجرت إلى هولندا بسبب الاضطهاد الديني الذي لقيه اليهود بعد أن رحل العرب عنها، ومات سبونزا في سن الأربعين بعد أن لاقى في سبيل فلسفته عناء كبيرًا، راجع قصة الفلسفة الحديثة ج1 ص28.

وموسى القرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس، وهو الذي يقول فيه هيجل الفيلسوف الألماني "لن تكون فيلسوفًا إلّا إذا درست سبونزا أولًا"1. وكما بدأ سبونزا الفلسفة الحديثة في ألمانيا، وبنى على نظرياته أو حاول الرد عليها من أتى بعده من فلاسفة الألمان؛ أمثال: "كانت، وهجل، وشوبنهور، ونتيشه" فإن كارل ماركس 1818، وماكس نوردو 1849 اليهوديين قد توجا هذه الفلسفة النظرية التي ابتدأت تؤتي ثمارها في القرن العشرين, فهيجل الألماني وكارل ماركس اليهودي- واضع كتاب رأس المال, ومنشء أول جمعية شيوعية ثورية، ومؤسس جماعة العمل الدولية، ومؤلف المتن الاشتراكي في السياسة الاقتصادية -قد بعثا الشيوعية، وفي كارل ماركس اليهودي يقول برناردشو الفيلسوف الإنجليزي المعاصر: "لا يدعي نبي الشيوعية عيسى أو محمدًا أو لوثر أو أغسطين، ولكنه يسمى كارل ماركس، وتبتدي فلسفتهم بالفيلسوف الألماني هيجل، وفيورباخ، ويتوجها كتاب كارل ماركس: رأس المال، وهو توراة الطبقة العاملة وإنجيلها، ويصفونه بأنه ملهم ومعصوم، ومحيط بكل شيء خبرًا"3 ولم يتجرد كارل ماركس -الذي اعتنقت روسيا بأسرها وعشرات الملايين في العالم تعاليمه، من يهوديته، فقد كان عضوًا بالجمعية اليهودية بباريس، وما نورد صاحب كتاب "لانحلال" فكان في بودابست من أكبر أعوان "تيودر هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية في آواخر القرن التاسع عشر، ووضع خطة إنشاء الدولة اليهودية بفلسطين. وإذا أردنا أن نعد فلاسفة اليهود ومفكريهم الذين أثروا في الحركة الفكرية بأوربا أعجزنا الحصر، ولكن لا ننسى "فرويد" واضع فكرة التحليل النفسية، وصاحب نظرية العقل الباطن، وناهيك بما لها اليوم من مكانة في عالم الفكر، ولا ننسى "برجسون" اليهودي الفرنسي شيخ الفلسفة الحديثة وصاحب نظرية

_ 1 قصة الفلسفة الحديثة ج1 ص 128. 2 راجع The Interligent Woman's Guide to Socialism, Sovictiem And Fascism. by G.B.

مقاومة المادية في أوربا1, وبرنادشو أشهر الفلاسفة المعاصرين مدين بفلسفته وآرائه لأستاذه اليهودي "صمويل بتلر" صاحب المبادئ العائلية الثورية، التي نادى فيها بإعطاء أفراد الأسرة من: الأم والفتيات والغلمان حق التصرف حسب أهوائهم على الرغم من إرادة الأبوين. و"أينشتين" صاحب نظرية النسبية، وأكبر علماء العصر الحديث يهودي قح، و"توماس مان" و"إميل لودفج" الكاتبان الألمانيان المشهوران من نبغاء اليهود في العصر الحاضر. إن جامعات أوربا تغص بالأساتذة الإسرائيليين، ويسيطر اليهود على شئون المال والاقتصاد والطب وصناعة الأفلام وإخراجها, والصحافة بأنواعه، حتى لا تخلو صحيفة في أوربا وأمريكا من نفوذٍ يهوديٍّ إما في رأس المال أو التحرير، وهكذا يستولي اليهود اليوم وقبل الحرب الأخيرة، وفي القرن الماضي على عقلية الشعوب الأوربية؛ فيقرءون ما يريد اليهود، ويشاهدون في الخيالة ما يخرج اليهود، وهذا هو السر في أن هذه الفئة القليلة من الناس هي التي تتحكم في سياسة أوربا وأمريكا، وتخضعها لمشيئتها، وهذا هو السر في انتصار أوربا لهم في القضية الفلسيطينية، وذلك لشدة سيطرتهم على الرأي العام الأوربيّ والأمريكي على السواء. فهل بعد ذلك يفخر الجنس الآري بالخلق والابتكار, وهو خاضع لسيطرة أدنى العنصرين الساميين؟ ولو كانت المسألة ترجع إلى البيئة الأولى التي خرج منها الجنس السامي, ما كان لهؤلاء اليهود شأن يذكر في قيادة الفكر الأوربي، وقيادة الشعوب الغربية وإخضاعها لسلطانها، على الرغم من قلة عددهم وهوان أمرهم2.

_ 1 قصة الفلسفة الحديثة, ص560. 2 لامني بعض الأصدقاء عند ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب على كتابة هذا الفصل عن اليهود وإظهار سلطانهم الفكري على أوروبا، ولقد سقت هذه الأمثلة، كما يرى القارئ لدحض تلك الفرية -فرية السامية - التي يتغنى بها الأوربيون المتعصبون. وإذا كان اليهود علماء ومفكرين, فهذا لا يمنع أنهم من أردأ شعوب الأرض أخلاقًا، ولطالما حملت عليهم حملات شعواء على صفحات مجلة الرسالة في سنوات عديدة.

وأما المثل الأعلى الذي يدعي الشعوبيون أنه مفقود عند العرب, فحسبنا أن نقول في الرد على دعواهم: إن الحياة العربية في الجاهلية كانت مليئة بأمثلة الوفاء والكرم والشجاعة، كانت الفضائل والذكر الحسن هي الغاية التي يصبو إليها كثير من أبناء الصحراء, وكلها مُثُلٌ عليا, لو سارت عليها الإنسانية لسعدت1، ولقد برهنت لك على أن الكلمة موجودة في اللغة العربية وفي القرآن الكريم الذي نزل على عرب الجاهلية، ولو لم يعرف العرب هذه الكلمة ويفهموا مدلولها ما نزل بها القرآن الكريم، على أن الغرب لا يعرف في لغة من لغاته كلمات كثيرة تملأ الحياة العربية، وتفخر بها الإنسانية فكلمات "العرض" و"المروءة" و"النجدة" ليس لها ما يقابلها في الأعجمية. وإذا عدنا إلى الناحية الأدبية وجدنا الشعر العربي -وهو مفخرة العرب ومجتلى بيانهم- تكثر فيه ألوان الحكمة مصوغة صياغة متقنة، وما الحكمة إلّا حقيقةً مجردة تدل على تفهم لأسرار الوجود، وعلى الخيال الشامل الذي ينتظم طبائع البشر وأحوالهم, ويصدر عليهم حكمًا يصلح لكل زمان ومكان, وينطبق على كثير منهم مهما اختلفت عصورهم وبيئاتهم. وبعد فلنسأل سؤالًا آخر وهو: أحقًّا توجد فوارق عقلية أصيلة بين الشعوب، يمتاز أحدها بالذكاء الغالب، والعقلية الخالقة، والخيال المبتكر، وتسلب الطبيعة أحدها, فهو فدم في جملته بطئ التفكير، ليس له قدرة على الخلق والابتكار وإن أجاد التقليد؟؟ وإذا وجدت الفروق العقلية بين الشعوب كما يدعي المتعصبون لأجناسهم، والمنساقون وراء عواطفهم، فهل هذه الصفات لازمة للشعب لا تتغير بتغير البيئة والزمان؟ وعلى أي أساس وجدت هذه الفروق العقلية؟ أهي نتيجة للبيئة الطبيعية أم البيئة الاجتماعية؟ يقول سرل برت C.Burt في كتابه كيف يعمل العقل2: إن هذه التعميمات التي تشغف بها بعض الجهات لتفضيل ما يسمونه الأجناس الآرية

_ 1 راجع كتابنا "الفتوة عند العرب" فقد وفينا هذا الموضوع بحثًا ثمة. 2 الجزء الثاني, ترجمة الأستاذ محمد خلف الله, ص165.

على السامية، والشعوب البيضاء على الصفراء والسوداء, لا يمكن الأخذ بها على علاتها، حقيقةً إن ذكاء الزنجيّ المتوسط في الاختبارات التي طبقت إلى الآن لا يبلغ إلّا تسعة أعشار المتوسط من الشعوب البيضاء, ولكن الصينيين واليابانيين لا يقلون عن مستوى الغرب، وقد قام اثنان من طلبتي باختباراتٍ أثبتا بها أن ذكاء اليهود أعلى من ذكاء غيرهم.. ونتائج الباحثين في الولايات المتحدة تؤيد هذا, على أن هذه الفروق بين الأجناس مهما تميزت وتحددت فإنها ليست قط على درجة من العظم، فما لاحظناه قبل بين الذكور والإناث ينطبق هنا أيضًا على الأجناس المختلفة، فالفروق الواسعة في الذكاء بين الأفراد المنتمين إلى شعب واحد أوسع وأبعد مدى من الفروق بين شعب وآخر, فإذا أردنا فروقًا بينةً بين قوم وآخرين, فلنبحث عنها في الطبع أو المزاج؛ وهنا لا نجد مقاييس علمية نستعين بها، ولكنا نعتمد على الملاحظة، وما تكونه من فكرة عامة وهما دليلان غير مأمونين". ويقول بعد استعراض أجناس أوربا المختلفة، وما بينها من خلافات في شكل الجمجمة وتركيب الأجسام ولون الشعر والعيون، وما يوصف به رجل الشمال من أنه مخلوق عمليّ، ورجل وسط أوربا بميله إلى الحقيقة، ورجل الجنوب بميله إلى الجمال: "ولكن العالم المدقق لا يكاد يسمع مثل هذه الدعاوى العريضة حتى يبدو عليه القلق والحذر، فإن حقائق الطبيعة الإنسانية قلما تخضع لمثل هذا التقسيم الحاد"1. وبعد دحض هذه الآراء المبنية على التعصب الجنسي والفخر الكاذب؛ كدعوى الألمان أنهم "من الشعوب الآرية أنبل الناس جميعًا" قال: "والآن أظن أن النقطة التي نستطيع التسليم بها هي أنه لا الجنس وحده، ولا البيئة الجغرافية وحدها بمستطيعة تعليل التفاوت البيِّن بين المدنيات المتعاقبة2".

_ 1 كيف يعمل العقل ج2 ص167، وراجع بحثًا لنا في مجلة "نهضة أفريقية" 14 فبراير 1909 عن الفروق العقلية بين الأجناس. 2 نفس المرجع ص180.

لقد أقرَّ من طعنوا في الأجناس السامية وانتقصوا عقليتهم بذكاء هذه الأجناس, فـ "رينان" يقر للعربي بالذكاء وحضور البديهة كما مر بك، وأحمد أمين يعلل لهذا الذكاء بأن العربيّ عصبي المزاج، "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة, كما يظهر في حضور بديهته1" وقد رأيت منذ لحظة ما أثبتته اختبارات "برت" وتلاميذه من ذكاء اليهود وتفوقهم في ذكائهم. "والذكاء العظيم هو الركن الأساسي في النبوغ في أيِّ ميدان من ميادينه، وليس من الضروري أن نفترض أن موهبة الخلق الأدبي، أو الاستمتاع بالأدب تتوقف على ملكة أخرى خارقة أو خارجة عن حياته العادية" هذه هي النتجية التي وصل إليها وارتضاها "برت" في بحثه لطرائق سلوك العقل في الفن, فقال: "كل هذه النواحي من البحث أدت إلى نتيجة واحدة، فالفنان -من حيث موهبته على خلق العمل الفني- كالمقدرة على تذوقه, لا تتوقف على ملكة إضافية خارجة عن مجرى حياتنا اليومية، وهي في درجاتها العليا ليست إلّا إحدى ثمرات الحياة العقلية الطبيعية2". فإذا تقرر أن الأجناس السامية على نصيب كبير من الذكاء، وأن الذكاء العظيم أساس النبوغ في أيِّ ميدان من ميادينه، وأن موهبة الخلق الأدبيِّ لا تتوقف على ملكة أخرى خارقة، فالعربي بفطرته ومواهبه مهيأ للخلق الأدبي والنبوغ، وليس من الضروري أن يكون النبوغ هو ذلك القصص شعرًا ونثرًا, وقد عرفت منزلة القصص وأيّ لون من ألوان الأدب هو، وأدركت أن القصة لا تتطلب خيالًَا جامحًا محلقًا عميقًا، وأن العرب صدفوا عنها لما وهبوه من خيال واسع، ولأن دينهم أغناهم عن النظر في حلول المشكلات الاجتماعية التي تعنى بها القصة, وقد مهر العربي في ألوان أخرى من الأدب، بل في أعلى أنواع التعبير وأسماها وهو الشعر. وليست القصة إلّا أحد مظاهر الخيال كله، "فالفخر

_ 1 فجر الإسلام ص44 طبعة ثانية. 2 راجع "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" للأستاذ محمد خلف الله ص33.

الحماسة والغزل والوصف والتشبيه والمجاز, كل هذا ونحوه مظهر من مظاهر الخيال1, والخيال كما نعلم هو وضع الأشياء في علاقات جديدة، وهو نوعان: تفسيري وابتكاري، ويتمثل التفسيري في تلك الصيغ البيانية العددية، أما الابتكاري فيتثمل في خلق أشياء ومناظر وشخصيات ليس لها وجود، وكلا النوعين يغص به الأدب العربي على طريقته الخاصة، وقد أفضت في بيان ذلك في غير هذا الكتاب2, ومع ذلك فالشعر العربي في كل عصوره مليء بالقصص المحبوكة العقدة الرائعة الخيال3, ولا يمنع أنه من الشعر الوجداني, فقد مرت بأوربا فترة ساد فيها الشعر الوجداني, ولا تزال له السيطرة, وبطل عهد الملاحم والمسرحيات الشعرية. ثم هناك سؤال آخر علينا أن نسأله قبل أن ندع الكلام في هذا الموضوع، وهو: أحقًّا تبتدئ الحضارة الإنسانية بعلوم اليونان وثفاتهم، لم يسبقهم في ذلك سابق، وأن هذه الديانات والميثولوجيا والقوانين والفلسفة هي كلها من ابتكار اليونان، وحدهم وبذلك احتلوا هذه المكانة السامية في التاريخ، وبهم تميزت الشعوب الأورةبي وفاقت غيرها؟ كثير من الناس الذين لم يبحثوا الموضوع أو بحثوه بحثًا سطحيًّا, يقولون في غير تردد: أجل! هذه المدنية والثقافة والفلسفة التي رويت عن اليونان هي من ابتكارهم، والإنسانية مدينة لهم بالشيء الكثير في هذا المضمار. ولكن هناك من شك في ذلك, بل هناك من أثبت بأدلة يقينة أن اليونان في دياناتهم، آلهتهم، وأسماء بعض هذه الآلهة، وما تتطبه الديانة من طقوس, ثم في قوانينهم، وفي آدابهم تتلمذوا على المصريين القدماء وأخذوا عنهم وأثبت أن

_ 1 فجر الإسلام, ص43. 2 راجع كتابنا الفتوة عن العرب. 3 خذ مثلًا قصيدة الحطيئة التي مطلعها: وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ... ببيداء لم يعرف بها ساكن رسمًا وقصيدة زهير في الصيد: "وغيث من الوسمى حو تلاعه" وقصيدة امرئ القيس ويومه بدارة جلجل ومعلقة عمرو بن كلثوم، ومعظم شعر ابن أبي ربيعة ولا سيما قصيدته الرائية "أمن أل نعم أنت غاد فمبكر" وقصيدة البحتري في الذئب كلها من الشعر القصص.

هوميروس في الإلياذة اقتبس كثيرًا من القصص المصرية بأشخاصها وخيالاتها وأجوائها، بل أخذ قصصًا مصرية معينة وأدخلها في ملحمته، وليس هؤلاء العلماء الذين قاموا بهذه الأبحاث من المتجنين على اليونان أو المبغضين لهم، بل على العكس هم من المعجبين بهم والمعنيين ببحث آثارهم وترجمتها إلى لغاتهم وشرحها والتعليق عليها، ولكن اطلعوا على أشعار مصرية, وآثار قديمة, وقرءوا المصرية التي عثروا عليها فوجدوا التشابه بل التطابق. ومن هؤلاء العلماء فيكتور بيرار Victor Berard الفرنسي مترجم الإلياذة وشارحها، ثم جولنيشيف M.W.Golenicheff الروسي أحد علماء المصرولوجيا، وقد أثبت عبد القادر حمزة باشا1 النصوص المصرية القديمة التي عثر عليها هذان العالمان، والتي لها مشابه في الإلياذة، كما أورد الأدلة القاطعة التي لا يأتيها الشك على تلمذة اليونان للمصريين، ومن علمائهم ومشريعهم وأدبائهم ومؤرخيهم أتى مصر وتأثر بما فيها من علوم ومعارف, ودرس على أساتذتها وكهنتها, وهو فصل ممتع حقًّا ولولا خشية الإطالة للخصناه تتمة للبحث، ولكن هذا الجزء أوشك على الانتهاء وهناك بعض نقط تحتاج إلى نظرة قبل أن نفرغ منه، وحسبنا أن نقول كما قال الأستاذ العقاد2 في بدعة السامية والآرية واختلاف العقليتين، وكيف ظهرت هذه البدعة: "ونشأت في إبَّان ذلك بدعة الآرية والسامية، وهي تلك البدعة التي تقضي للآريين بالسبق والرجحان في كل فضيلة من فضائل الأمم أو فضائل الأفراد، وقد ظهر بطلانها الآن، أو ظهر على الأقل أن الحاجز الذي أقامه مبتدعوها بين أجناس الشعوب مصطنع ملفق لا يسلم من ثغرة شك هنا أو ثلمة ضعف هناك، بل هو ينعكس في أحوال شتّى, فتصبح المزية للساميين من حيث أرادها القوم للآريين، ولكن البدعة قد خدعت أناسًا كثيرين في إبان نشأتها, فتحدثوا عنها كتحدث الناس بالغرائب والملح المستطرفة، ومازالت تجني على الأفكار، حتى أوغل فهيا بعض الغلاة من دعاتها

_ 1 في كتابه على هامش التاريخ المصري القديم, ج1 ص 125-171. 2 في كتاب سعد زغلول سيرة وتحية, لعباس العقاد, ص13-14 في فصل عن العقلية المصرية وطبيعتها.

فاستخرجوا منها دليلًا على رجحان بعض الأمم الأوربية على بعض، واستئثار جماعة من تلك الأمم بشرف السيادة والابتكار, وشعائر الحضارة والثقافة دون الجماعة الأخرى, فتصدى لها يومئذ من الأوربيين من ينكرها ويزيفها ويبالغ في السخر بها, بعد أن كانوا يتفقون على تروجيها، والإغضاء عنها حين كانت معرفتها لاصقة بالشرق وحده موقوفة عليه دون غيره". وبحسبي الآن ماسقته من أدلة1 على أن أسطورة العقلية السامية والآرية لا تثبت أمام الأدلة العلمية، وأن القصة، على الرغم من وجودها في الأدب العربيّ كما هي موجودة عند كل الأمم، وإن لم تأخذ القالب الفني الذي لم يظهر بالقصص الأوربي إلّا في أواسط القرن الثامن عشر, لا تحتل هذه المكانة الممتازة في عالم الأدب، ولا يوصف من لم ينبغ في تأليفها بعقم الخيال وجمود العاطفة وضحالة الفكر. وكم كان بودي أن أفيض في أدب القصة, وأبين أصولها وكيفية إنشائها, ولكن هذا يحتاج إلى كتاب قائم بنفسه, وإنما دعاني إلى الخوض في القصة على هذه الطريقة إقبال المترجمين في العهد الذي نتحدث عنه عليها إقبالًا زائدًا، وتأثر الأدب العربي الحديث بها بعد ذلك تاثرًا بالغًا، حتى دعا ذلك إلى القول بأنها لم يكن موجودة عند العرب, وأن العقلية السامية لا تستطيع إنتاج القصة لما بها من فقر في الخيال, وقد مر بك قبل عند كلامنا على الترجمة الجهود التي بذلت في سبيل ترويج القصة الغربية، وأن هذا الطور هو طور النقل والتمثيل, ولم يكن قد بدأ بعد طور التقليد والمحاكاة, ولا سيما في الرواية, وإن ابتدأ في المسرحية مبكرًا نوعًا ما, وسنعود إلى الكلام في توسع عن القصة في الأدب المصري الحديث في الأجزاء التالية -إن شاء الله, أما المسرحية فقد أفردنا لها كتابًا خاصًّا هو الآن بين أيدي القراء.

_ 1 إذا أردت المزيد فاقرأ مقالة مجلة الأنصار بالعدد 46 السنة الرابعة، شوال 1363، وكتابنا "النابغة الذبياني" فقد تكلمت فيه عن موضوع القصة من زوايا جديدة, وأضفت إلى ما نفقده هنا براهين أخرى, ثم كتابنا "الفتوة عند العرب" وفيه فصل ضافٍ عن ميزة العقل العربيّ وتفوقه, مدعوم بالحجج العلمية القوية.

2- المقالة والصحافة: وإذا كان القرن التاسع عشر قد انقضى، ولم تحتل فيه القصة العربية الموضوعة مكانها في عالم الأدب، وكان أغلب القصص التي تطبع مترجمة من شتّى اللغات، فإن المقالة منذ بدأت الصحافة العربية بإنشاء الوقائع المصرية، ثم روضة المدارس، ثم الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، وقد صارت عماد الكُتَّاب والأدباء والقالب المعتاد الذي يصبون فيه أفكارهم، وينشرونها بين الناس. وليست المقالة غريبةً عن الأدب العربي القديم، وإن تغيرت صيغها وشروطها، فعبد الحميد الكاتب حين تكلم عن الشطرنج أو الصيد أو الكتابة, كان يكتب شيئًا قريبًا من المقال، والفصول الأدبية التي أنشأها الجاحظ في كتبه: البخلاء, والمحاسن, والأضداد، والحيوان, والبيان والتبيين، مقالات مطولة تنقصها شروط المقالة الحديثة، وإن كان هذا القول لا يرضي بعض النقاد، بل إنهم لا يوافقون على المقالة الأدبية التي يدبجها الكتاب اليوم إذا قاسوها بمقاييس النقد الأجنبية، ويتطلبون من المقالة أن تكون "على غير نسق من المنطق، وأن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الوحشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة" ويحتجون بتعريف "جونسون" ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذورة العليا للمقالة الأدبية بـ "أنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم، ولم يتم هضمها في نفس كاتبها"1 ويطبقون هذا القول على المقالة الأدبية في مصر؛ فيرون ألا يكون لها نقط ولا تبويب ولا تنظيم. وهذا لعمري شرط لا يوافق عليه الأدباء في كل أنحاء العالم, فقد تغيرت المقالة منذ عهد "جونسون" في القرن الثامن عشر حتى اليوم, ومنذ أن قال "بيكون" يصف مقالاته: "إنها ملاحظات مختصرة كتبت من غير اعتناء" واشترط النقاد في المقالة شروطًا أخرى غير تلك التي سار عليها "جونسون أو بيكون" ورأوا أن الكاتب ملزم بالتفكير فيما يريد أن يكتب قبل أن يتناول القلم.

_ 1 الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه أدب المقالة.

ثم السير في موضوعه سيرًا منطقيًّا متجنبًا الفضول، ومركزًا فكره في النقط الرئيسية، على أن يكون لموضوعه وحدة تربط بين أجزائه، وأن يكون واضحًا في تعابيره، ومنتخبًا لكلماته، ولأسلوبه طلاوة, وعليه جمال, وقد يحتاج المقال إلى مقدمة, وقد لا يحتاجها، ولكن لا بد له من نتيجة أو خاتمة، ولابد من تنسيق الأفكار؛ فالأفكار غير المنسقة تدعو إلى اضطراب الكاتب في كتابته، وعدم فهم القارئ لما يكتب، وليست هذه الشروط -كمات يقال سخرية- هي شروط الإنشاء المدرسي، وشتان بين هذا وبين المقال الأدبي، فإن الفكرة التي يراد التعبير عنها سواء كانت في نفس طالب مبتدئ, أو كاتب نابغ, محتاجة إلى الوضوح وإلى التمهيد لها؛ ثم إلى عرضها عرضًا جيدًا منطقيًّا يفهمه القارئ بيسر، لا أن تكون مشعثة غامضة تسير في غير اتساق ونظام، فإن ذلك قد يؤدي إلى عدم فهمها فضلًا عن أنه لا يتفق مع البلاغة في شيء1. هذا وقد تكون المقالة: 1- إخبارية تقص حادثة ما، أو مجموعة من الحوادث، وهي حينئذ قريبة من الأقصوصة تتخذ شكلًا قريبًا من شكلها، وفيها ما يثير الشوق، وياسر الانتباه, ويدعو إلى التقصي والتتبع، ومن المقالات الإخبارية التراجم.

_ 1 راجع: Essay Writing and Rhetoric by Egerton Smith طبعة جامعة أكسفورد سنة 1913 المقدمة والفصل الأول. وراجع مقدمة English Eassays by. J.H. Lobban. وراجع لنخبة من كبار الأدباء Modern literary Essays.

2- وقد تكون وصفًا لحادثة أو شخص أو شيء, تعطي تقريرًا كاملًا تفصيليًّا عنه وعن محيطه. 3- وقد تكون معرضًا لفكرة وتوضيحًا لها حينما تكون الفكرة غامضة، والموضوع معنويًّا ومهمة العرض أن يفسر لماذا حدث هذا الشيء، أو كيف يمكن أن يحدث ذلك الشيء، والفرق بين العرض وبين الوصف أن العرض لا يأبه بالتفصيلات, ولكن يعنى بالصفات العامة وبالمبادئ، والميزات التي تخص نوعًا ما؛ وقد تذكر بعض التفاصيل أثناء العرض، ولكنها لا تحتل المكانة الأولى، بل تذكر لإيضاح فكرة, أو تضرب مثلًا على قانون عام، فقد تصف صورة ما، ولكن الكلام عن التصوير عرض، وقد تصف مسجدًا ما، ولكن الكلام عن هندسة المساجد يحتاج إلى عرض. 4- وهناك المقالة الجدلية التي تناقش فكرة ما، وتبين ما بها من خطأ وصواب، وصدق وكذب، وقد يكون الموضوع عادة سؤالًا يناقشه الكاتب ويجيب عنه بما يراه؛ كسؤالنا مثلًا عن الحرب وهل هي معقولة؟ أو عن الكذب وهل ثمة ما يسوغه في الحياة؟ أنتصدق على الشحاذين؟ وهذه الصور هي التي تظهر فيها المقالة في الأدب الغربي1، ونرى مثلها في الأدب العربي الحديث2؛ لأنها صورة طبيعية يلجأ إليها كل كاتب، وقد بينت لك فيما سبق الفرق بين أسلوب المقالة الصحفية والمقالة الاجتماعية. والكلام عن المقالة يدعونا حتمًا إلى الكلام عن الصحافة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ لأن المقالة لم تظهر إلّا في الصحف، ونحن قد تتبعنا الصحافة في عصر إسماعيل وأوئل عهد توفيق, أما الصحافة في عهد الاحتلال فقد تكلمنا عنها آنفًا عن مجلة الأستاذ عبد الله نديم التي أنشئت في سنة 1893، وكيف كانت حربًا عوانًا، ونارًا مضطرمة على الاحتلال والأجانب، ولكن هؤلاء ضاقوا به ذرعًا فأغلقوا جريدته ونفوه من البلاد.

_ 1 راجع 19، 25، Eassy Writing Rhetoric and Prosody by Egerton Smithp. 2 راجع كتابنا نشأة النثر الحديث وتطوره, ففيه بحث مستفيض عن تطور المقال الأدبي.

وإذا كان عبد الله نديم قد ترك مصر، وعطلت جريدته الوطنية الحرة، فإن الأسباب التي تدعو إلى ظهور مثلها في حرارتها وصدق لهجتها ومحاربتها الاستعمار الإنجليزي كانت قائمة، على الرغم من أن سياسة الإنجليز في أوائل عهد الاحتلال كانت ترمي إلى كم الأفواه، وقتل الروح الوطنية في نفوس دعاة الحرية، وإن تظاهروا بأنهم أطلقوا للصحافة العنان وتركوها حرةً تقول ما تشاء1؛ لأن كرومر ممثل الاحتلال بمصر لم يكن يأبه للصحافة وما قد تثيره من سخط, وتحت إمرته جيش إنجليزي جاثم على صدر الوادي يبطش بكل من تحدثه نفسه بالشغب، وعلى أن الصحافة في رأي كرومر كانت من الهوان والضعف بدرجة لا تدعو إلى القلق والاضطراب؛ وإذا بدر من إحدى الصحف ما يسيء إلى الإنجليز, أو يشوه سمعتهم بمصر, عاجلوها بالتعطيل, ولقد مرَّ بك كيف حاربوا مجلة العروة الوثقى ومنعوها من دخول مصر، وعطلوا جريدة الأهرام شهرًا2 لتنديدها بالسياسة الإنجليزية في سنة 1884، وتبطش يد الاستعمار بكثير من الجرائد لأتفه الأسباب فتعطل جريدة الوطن مع أنها موالية لهم، وتلغي الزمان، ومرآة الشرق لأنهما من محاربي الاحتلال. وتاريخ الصحافة في هذه الحقبة متاثرة بعدة عوامل: 1- فتركيا كانت -على الرغم من ضعفها، وإذعانها للأمر الواقع في مصر- تحاول إثارة النفوس ضد الاحتلال الإنجليزي، ضنًّا بمصر الغنية أن تفلت من يدها إلى الأبد، وكان كثير من المصريين يدين لتركيا بالولاء، وهو ولاء ديني مبعثه وجود الخلافة العثمانية، والمسلمون مكلفون شرعًا بطاعة الخليفة، وكانت هذه النزعة تتملك قلوب الجمهرة الغالبة من المصريين وبعض السوريين المقيمين بها، وقد ظهر من الجرائد التي تحمل لواء هذه السياسة وتنفث الحمم

_ 1 وفي ذلك يقول جورد يونج G. Young في كتابه مصر Egypt مشيرًا إلى تقرير اللورد "دفرين" ونصحه لسلطة لاحتلال بمصر أن ترخي العنان للصحافة، وإن نصيحته قد وجدت أذنًا صاغية حتى "أهمل قانون سنة 1881 إهمالًا تامًّا, ونالت مصر حرية صحفية لا عهد لشمال أفريقية أو غرب أسيا بها" انظر ص 108-178. 2 كانت جريدة الأهرام في ذلك الوقت تحارب الإنجليز؛ لأنها كانت تعمل لحساب الفرنسيين، وفي ذلك تقول جريدة الشعب "8مايو 1912" تصف الأهرام وسياستها: "إن سياستها عثمانية مصرية تدافع عن صالح فرنسا في مصر؛ سواء كانت اقتصادية أو سياسية, وأحيانًا تشتد في نقدها كأكثر الصحف الوطنية تطرفًا".

ملتهبًا، والسم ناقعًا ضد الإنجليز وسياستهم الاستعمارية جريدة "المؤيد, ثم جريدة "اللواء". 2- وهناك الاحتلال البريطاني، وهو احتلال تديره سياسة محنكة يصفها اللورد كرومر بقوله: "يجب أن تكون السياسة الاستعمارية قائمة على قواعد التبصر والحكمة، ويجب أن تكون أصول أحكامنا -التي هي الصلة بيننا وبين جميع الشعوب الداخلة في حكمنا، من حيث الاعتبار السياسي والاقصادي والأدبي- قواعد صحيحة سليمة منزهة عن الشائبة والنقص، هذا هو حجر الزاوية في بناء الإمبراطورية، إن المبرر الأكبر للاستعمار يجب أن يظهر جليًّا في حسن التصرف بما في أيدي هذه الإمبراطورية من القوى1" وأراد الاحتلال أن يجتثَّ نفوذ تركيا من الأساس، ويقتلع من النفوس هذا الولاء، وقد استطاع أن يجد لسياسته هذه أنصارًا ومؤيدين, وأن يجتذب قلوبًا عزيزة المنال تدافع عنه أو تسكت عن مخازيه، وجد الاستعمار أنصاره بين بعض السوريين المسيحيين الناقمين على تركيا استبدادها وغلظتها وسوء تصرفها معهم في ديارهم، وتفريقها بين عناصر الأمة، فرأوا في الإنجليز من يحميهم ويعطف عليهم؛ فأنشئوا جريدة المقطم2 تشيد بسياستهم، وتلهج بأعمالهم، وقد صرَّح أصحابها بأن غرضهم السياسي من تأسيسها معلوم ظاهر في كل صفحة من صفحاته، "وهو تأييد السياسة الإنجليزية التي لولاها ما كان في الشرق بلد يستطيع أن يعيش فيه ويجاهر بآرائه وأقواله3 ومن هؤلاء الذين شرعوا أقلامهم في محاربة الترك وتأييد الإنجليز: سليم سركيس صاحب جريدة "المشير" ويقول من مقالة، بعنوان "هل مصر عثمانية؟ "4: "لم أجد قي حياتي، ولا قرأت في مطالعاتي عن أمة تريد الانتقال من الاستقلال إلى ظلمات العبودية إلّا هذا القسم من الأمة المصرية الذين يريدون التمسك بأذيال العرش العثماني"، ومن شعره في التنديد بظلم الأتراك قوله5:

_ 1 حاضر العالم الإسلامي ج4 ص10. 2 14 فبراير سنة 1889. 3 مجلة الجامعة لفرج أنطوان ج1 ص82. 4 المشير عدد 103. 5 العوامل الفعالة في الأدب العربي الحديث لأنيس المقدسي ص8.

نرجو صلاح الترك قد ... خابت أمانينا الكواذب هي دولة ظملت وليس الـ ... عدل عن ظلم بذاهب فانشد معي قولًا ترد ... ده المشارق والمغارب ليس العجيبة فقدها ... بل عيشها إحدى العجائب وقد وجد الإنجليز بجانب هؤلاء أقلامًا أخرى تناصرهم لنفورهم من الظلم التركي؛ مثل: ولي الدين يكن، مع أنه كان تركيًّا صميمًا لا يبغي بتركيا بديلًا، ولكنه كان يحب الإنجليز لحمايتهم -فيما يزعم- الأحرار، وقد مر بك كيف اجتذبوا إليهم الشيخ محمد عبده، وإن لم يكن من صنائعهم، ولكنه كان من المحتمين بهم, المستظلين بظلهم, وقد استطاعو أن يطلفئوا تلك النار الملتهبة التي يصبها عليهم الشيخ علي يوسف وشيعته في المؤيد، وأن يسكتوا تلك الأقلام القوية التي تصور في جرأة وقوة فظائعهم, وتملأ القلوب إحنًا وبغضاء عليهم1، ولكن لم يستطيعوا مع كل هذا أن يجعلوا من المؤيد بوقًا يدعو لهم, وسنعود إليه بعد قليل. وبذلك انقسمت الصحافة قسمين؛ قسم يشايع تركيا, وفي الغالب يدعو للخديو ويناوئ الإنجليز، ويندد بالاستعمار, إما مدفوع بالولاء الديني، أو الكراهة للإنجليز, أو بتحريض دولة أجنبية؛ مثل: الأهرام وفرنسا، وقسم يدافع عن الإنجليز ويذيع مساوئ العهد التركي، ويترنم بنعمة الاحتلال، وينتقص المصريين وعلى رأسهم الخديو، ويتمثل في جريدة المقطم, وفي بعض الأقلام التي فتنها بريق الحرية الكاذبة التي لوح بها الإنجليز.

_ 1 وقد قال في هذا التغير حسين شفيق المصري صاحب "المباحث السياسية": "المؤيد الذي يقرأ الآن غير المؤيد الذي كان المصريون يحبونه, والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الحاضر غير الشيخ علي يوسف الذي حمل على الأعناق بعد حكم قضية التلغراف المشهورة, فقد تغيرت الحال مع الصحيفة وصاحبها، والبون بعيد بين اجتماع الوطنيين لتوقير أم الصحف وأبي الصحفيين, وبين إجماعهم للنداء بإسقاطهما في الحضيض الأسفل، وليس الإقرار بهذه الحقيقة من الأمور التي تسر الوطنيين" راجع تاريخ الصحافة العربية "للفيكونت فيليب دي طرازي" ج3 ص38.

وأكبر ظاهرة تستحق منا العناية قبل أن نفرغ من هذا الجزء ظهور جريدتين إسلامتين كان لهما شأن عظيم في تاريخ مصر، وفي توجيه الحركة والإصلاح الاجتماعي, وقد أشرنا إليهما فيما سبق إشارات عابرة, ولكن سنخص المؤيد هنا بكلمة؛ لأن الصحافة اليومية المشهورة بمصر كانت إلى ظهور المؤيد واللواء سورية تتحكم فيها نزعات وأهواء متباينة، وأما اللوء فله شأن آخر, وموعدنا به في الأجزاء التالية -إن شاء الله؛ لأنه أنشيء في السنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، والكلام عنه يطول. المؤيد: والفضل في ظهور المؤيد يرجع إلى سياسة الإنجليز واصطناعهم أصحاب المقطم، فإن هذا أثار حفيظة الوطنيين، فتقدم الشيخ علي يوسف1 صاحب مجلة الآداب لإخراج المؤيد, جريدة وطنية مصرية, وشجعه رياض باشا وكثير من زعماء مصر2، وغدت المؤيد ميدانًا تتألف فيه الأقلام الوطنية الجريئة, تثيرها حربًا شعواء على الاستعمار الإنجليزي وعلى الأجانب الذين يناصرونهم، ونازلت المقطم نزالًا عنيفًا مرًّا، فما لبثت أن راجت حتى صارت أقوى جريدة عربية في الشرق العربي كله، وفسحت صدرها لمصطفى كامل ولفئة صالحة من كتاب الشباب، وتلاميذ جمال الدين ومحمد عبده3, وعنيت بالمسائل الوطنية في جميع نواحيها، وبالأمور الإسلامية، ولم يستطع الإنجليز أن يعطلوها كما عطلوا

_ 1 الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ولد بقرية بلصفورة بمدينة جرجا سنة 1863, من أسرة شريفة أخنى علهيا الدهر، ودرس في الأزهر مدةً إلّا أن ميله الأدبي صرفه عن إتمام دروسه به، وأنشأ في سنة 1887 "مجلة الآداب" أسبوعية في ثماني صفحات، ولكنها اهتمت بالدراسات القديمة، وحررت بأسلوب يعلو على جمهرة القراء، فتعثرت في خروجها، ثم أسس جريدة المؤيد في أول ديسمبر سنة1889، فكانت أول جريدة مصرية يومية كبيرة، وراجت رواجًا عظيمًا, وفي سنة 1913 أسند للشيخ علي ييوسف مشيخة السادة الوفائية، فاستقال من جريدته، ومات بعد ذلك في سنة 1913, وكان الشيخ "علي " قوي العزم, أديبًا متلافًا وقد أثار زواجه من بنت السيد عبد الخالق السادات ضجةً عظيمةً؛ لأن السيد عبد الخالق عده دونه في الحسب والنسب، وشغلت الصحف بذلك وقتًا طويلًا، وقد رمي بالتعصب الديني، ولكنها تهمة يشيعها من لم يفهموا سياسة ذلك الوقت, والعوامل التي حركت الصحافة, والدوافع التي جعلت من بعض المسلمين متعصبين, وسنخصه بترجمة مطولة في أحد الأجزاء التالية -إن شاء الله, على أننا ترجمنا له ترجمة وافية بمجلة الكتاب, عدد يولية 1948, وفي كتابنا "دراسات أدبية". 2 راجع تطور الصحافة لإبراهيم عبده ص152. 3 من كتاب المؤيد المشهورين بجانب صاحبه، جميل مدور، وعبد الحميد الزهراوي، والشيخ عبد القادر المغربي، ومحمد كرد علي، ومحب الدين الخطيب، والمنفوطي، وحافظ عوض, ومحمد أبو شادي، وإمام العبد وسليمان فوزي "صاحب الكشكول".

الأستاذ لعبد الله نديم لقوتها وكثرة قرائها، ولكن تمكنوا بعد مدة من استمالة الشيخ علي يوسف إليهم، ولعل صحبته لمحمد عبده قد أثرت فيه؛ فنهج منهجه في مسالمتهم. لقد كانت المؤيد أمل المصريين، ومدرسة تخرَّج فيها عدد كبير ممن قادوا الأمة في الصحافة بعد ذلك، وكانت غنية منتشرة في العالم الإسلامي كله، وهي أول جريدة استعملت مطبعة كهربائية في الشرق، وقد احتلت منزلةً كبيرةً في نفوس الناس, حتى اعترف لها بهذه المكانة العدو والصديق، ولذلك عزَّ على المصرين وقوفها موقفًا سلبيًّا من الاستعمار الإنجليزي بعد أن كانت من أكبر خصومه، وإن لم تفقد قراءها، لسابق فضلها وقوة تحريرها، ولسياستها الإسلامية، ولحسن الدعاية لها، وفي المؤيد وصاحبه يقول حافظ إبراهيم حين أخرج المؤيد في ثماني صفحات سنة 1906. أحييت ميت رجائنا بصحيفة ... أثنى عليها الشرق والإسلام أضحت مصلى للهداية عندما ... سجدت برحب فنائها الأقلام فعلى مؤيدك الجديد تحية ... وعلى مؤيدك القديم سلام ويقول ولي الدين يكن عنه: "الشيخ على يوسف سهل التأليف، شديد المضاء، وهو في بيانه أقرب إلى العامة منه إلى الخاصة، وإذا غلب بصورته دون روحه، صحافي محنك، وليست الكتابة من عمله: كأنما يراعه سوطه ... يضرب إن جد ولا يكتب لا تدع العجمة أسلوبه ... فليس في أسلوبه معرب ولعلك أدركت أن ولي الدين ليس ممن يحبون الشيخ، وقد كانا على طرفي نفيض في سياستهما كما مر بك.

وفيه قال يوسف البستاني: "أنظر إليه بعين الصحافي فأراه عظيم البراعة في تقليب اليراعة, وشديد الحصافة في ميدان الصحافة، ولو وجد قلمه من عواطفه دعامة لرفعه بيينا إلى مقام الزعامة، ولقد زاد فضله أنه من الطبقة العصامية وجهال اللغات الأجنبية"1. ويقول تشارلز آدمز "أما الشيخ علي يوسف فقد كان صحفيًّا ماهرًا، وله دهاء يشوبه المكر أحيانًا، وقد رفع المؤيد إلى مقام الصدارة في العالم العربي"2. وحسبنا هذه الكلمة الموجزة عن الصحافة في أخريات القرن التاسع عشر, ولنا إليها عودة في الأجزاء التالية -إن شاء الله؟ لأن كثيرًا من الصحف التي ظهرت في هذه الحقبة ازدهرت ونمت في القرن العشرين، وتأثرت بعوامل سياسية واجتماعية كانت وليدة أحداث في أوائل هذا القرن.

_ 1 تاريخ الصحافة العربية - الفيكونت فيليب دي طرازي, ج3 ص40. 2 الإسلام والتجديد, تعريب عباس محمود ص218.

المراجع

المراجع: براهيم عبده 1- تطور الصحافة المصرية. 2- أعلام الصحافة. ابن إياس الجركسي: بدائع الزهرو في وقائع الدهور. أحمد أمين: 1- قصة الفلسفة الحديثة جزءان. 2- فجر الإسلام. 3- مجلة الثقافة, مقالات عن زعماء الإصلاح الاجتماعي. أحمد تيمور: أعيان القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. أحمد سمير: سلافة النديم. أحمد صبري: مجلة الأنصار. أحمد عرابي: كشف الستار "محطوط بدار الكتب رقم 1542" ومنه جزء مطبوع بمطبعة مصر. أحمد فارس الشدياق: منتخبات الجوائب. أحمد الإسكندري وآخرون: 1- المنتخب. 2- المفصل. إسماعيل أدهم: توفيق الحكيم الفنان الحائر الجود: " The fransit of Egypt P.G Elgood" إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد إسماعيل "جزءان". أمين باشا سامي: تقويم النيل, الجزء الثاني والثالث. أنيس المقدسي: العوامل الفعالة في الأدب العربي الحديث. برت "C.Burt": كيف يعمل العقل، الجزء الثاني, ترجمة محمد خلف الله. برودلي: "How we defeadrd Arabi "A.M. Broadley بروكلمان: "Gsschichte Derarabischen litteraturre "Carl Brockelmann محلق الجزء الثاني. "The person Revolutien "A.G.Broadley بطرس البستاني أدباء العرب الجزء الثالث بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر، ترجمة البلاغ. تشارلتن: فنون الأدب, تعريب زكي نجيب محمود. تشالس آدم: الإسلام والتجديد, ترجمة عباس العقاد.

توفيق الحكيم: 1- تحت شمس الفكر. 2- مقالة في مجلة أخبار اليوم 27/ 3/ 1948. جاك تاجر: حركة الترجمة بمصر. جب "Bulletin of the school of Oriental Studies "H.R. Gibb الجبرتي "الشيخ عبد الرحمن": عجائب الآثار في التراجم والأخبار. جميل صليبا: ابن خلدون - منتخبات. جورجي زيدان: 1- تاريخ آداب اللغة العربية, الجزء الرابع. 2- تراجم مشاهير الشرق, جزءان. جومار: Journal Asiatque عدد أغسطس 1828. حسن قويدر: نيل الأرب في مثلثات العرب. حسين المرصفي: الوسيلة الأدبية. خليل مطران: المقتطف إبرايل 1933. رفاعة الطهطاوي: أ- تخليص الإبريز في تلخيص باريز. ب- مناهج الألباب. ج- المرشد الأمين. د- مواقع الأفلاك. روتشين - تيودور: تاريخ المسألة المصرية, ترجمة عبد الحميد العبادي. رينان: "Histire General et System Cemopare des Langues Stemitiques "Renan زكي نجيب محمود: 1- قصة الفلسفة الحديثة, جزءان. 2- مقدمة كتاب أدب المقالة. ستودراد: حاضر العالم الإسلامي, أربعة أجزاء, ترجمة عجاج نويهض. سليم خليل نقاش: مصر للمصريين. سليم سركيس: جريدة المشير. سميث "Essay writing and Rhetoric The Intelligent Woman's Guide. "Egerton Smith شكيب أرسلان: 1- تعليقات على هامش حاضر العالم الإسلامي. 2- مقدمة النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي. صالح مجدي: حلية الزمان في وصف مناقب خادم الوطن "مخطوط".

طه حسين: أ- فسلفة ابن خلدون الاجماعية, تعريب محمد عبد الله عنان. ب- في الأدب الجاهلي. ج- حافظ وشوقي. عباس العقاد: أ- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي. ب- سعد زغلول سيرة وتحية. ج- الفصول. د- 11 يوليو وضرب الإسكندرية. عثمان أمين: محمد عبده في سلسلة أعلام الإسلام. عبد الرحمن الرافعي: 1- الحركة القومية. 2- عصر إسماعيل, جزءان. 3- تاريخ الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي. 4- مصطفى كامل. عبد القادر حمزة: على هامش التاريخ المصري القديم ج1. عبد الله فكري: الآثار الفكرية. عبد الله نديم: الأستاذ والتنكيت والتبكيت. علي أبو النصر: الديوان. علي مبارك: الخطط التوفيقية. عمر الدسوقي: 1- إخوان الصفا. 2- الفتوة عند العرب. 3- المسرحية. 4- دراسات أدبية. فرح أنطوان: مجلة الجامعة. فون فسينديك: ابن خلدون مؤرخ الحضارة العرابية, ترجمة محمد عبد الله عنان. فيليبدي طرازي: الصحافة العربية, أربعة أجزاء. قدري طوقان: جمال الدين أراؤه وأثره - محاضرة. كلوت بك: لمحة عامة إلى مصر. لوبان "English Essays "J.H. Lobban ويس شيخو: أ- تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر, جزءان.

لويس شيخو: ب- مجلة الشرق. مارون عبود: مجلة الكتاب, فبراير 1948. محمد بهجت الأثري: أعلام العراق. محمد حسين هيكل: مقدمة لديوان البارودي. محمد الخضري: محاضرات في التاريخ الإسلامي "الدولة العباسية". محمد خلف الله: من الوجهة النفسية في دراسة الأدب. محمد رشيد رضا: أ- تاريخ الأستاذ الإمام, ثلاثة أجزاء. ب- المنار. محمد صبري: La Gense de l.htm'Esprit National Egyptiona. محم صبيح: محمد عبده, كتاب الشهر. محمد عبده: 1- الوقائع المصرية. 2- مجلة العروة الوثقى. محمد عثمان جلال: العيون اليواقظ. محمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي. محمد كرد علي: خطط الشام, الجزء السادس. محمد المخزومي: خاطرات. محمود سامي البارودي: الديوان. محمود صفوت الساعاتي: الديوان. محمود الخفيف: أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه. مصطفى لطفي المنفلوطي: 1- مختارات المنفلوطي. 2- ترجمة للساعاتي في الديوان. مخائيل شاروبيم: الكافي في تاريخ مصر. نجيب العقيقي: المستشرقون. يونج: "Egypt "G, Young

الفهرست

الفهرست ... الفهرس: الصفحة الموضوع 3 مقدمة الطبعة الأولى. 9 مقدمة الطبعة السابعة. 11 الفصل الأول - البعث. 13 قبيل البعث. 17 البعث. 20 البعثات. 24 الترجمة. 25 رفاعة الطهطاوي. 28 أعماله بعد عودته. 33 رفاعة والقانون. 33 رفاعة والمرأة. 34 وفاته. 34 صفاته. 39 الطباعة والصحافة. 41 الصحافة. 45 الأدب في عهد محمد علي. 45 الشيخ حسن العطار. 47 الشيخ حسن قويدر.

الصفحة الموضوع 50 السيد علي الدرويش. 52 المعلم بطرس كرامة. 53 الشيخ ناصيف اليازجي. 57 الشهاب الألوسي. 61 التأليف في عصر محمد علي. 67 الفصل الثاني: النهضة. 69 التعليم. 73 الجمعيات العلمية. 75 الصحافة. 76 أحمد فارس الشدياق. 85 مجلة اليعسوب. 86 مجلة روضة المدارس. 89 أديب أسحاق. 101 الطباعة. 103 الترجمة والتأليف. 103 محمد عثمان جلال. 114 النهضة في بلاد الشام. 119 الفصل الثالث - الأدب في عصر إسماعيل: 121 المدارس الأدبية في هذا العصر.

الصفحة الموضوع 124 السيد علي أبو النصر. 128 الشيخ علي الليثي محمود صفوت الساعاتي. 133 عبد الله فكري. 144 السيد عبد الله الألوسي. 160 حسين بيهم. 163 الفصل الرابع - بعث الشعر العربي. 167 محمود البارودي. 167 حياته. 178 أخلاقه. 183 ثقافته. 185 شعره. 190 القديم في شعره. 196 الجديد في شعره. 196 الوصف. 207 الشعر السياسي. 219 النسيب. 220 الهجاء. 22 المخترعات الحديثة. 225 نظرة عامة.

الصفحة الموضوع 226 الرثاء. 228 المدح. 230 فخره. 231 الزهد. 233 الحكمة. 234 هنات. 237 منزلته. 239 الفصل الخامس - نهضة النثر: 241 موضوعاته. 258 مميزاته. 259 أنواعه. 261 جمال الدين الأفغاني. 267 أثره بمصر. 272 العورة الوثقى. 275 نبذ من آرائه. 278 أسلوبه في الكتابة. 280 الشيخ محمد عبده. 283 في الأزهر. 290 محمد عبده والثورة.

الصفحة الموضوع 293 بعد الثورة. 294 بعد العودة من المنفى. 396 إصلاح الأزهر. 301 وفاته. 310 أثره في النثر. 308 عبد الله نديم. 312 في غمار الثورة. 321 آثاره وأثره. 330 أسلوبه. 337 منزلته. 339 أحمد عرابي. 340 نشأته وشخصيته. 344 عرابي الخطيب الزعيم. 350 محاكمته. 355 أسلوبه وأثره. 357 الفصل السادس- الاتصال بالأدب الأجنبي: 356 أ- الترجمة والتاليف. 363 النهضة القانونية. 365 كتب الاقتصاد السياسي.

الصفحة الموضوع 366 كتب الاجتماع. 367 الكواكبي. 369 النهضة الأدبية. 369 المسرح. 370 القصص المترجمة. 371 التأليف في القصة. 373 ب- المستشرقون: 377 الجمعيات الأسيوية. 377 المؤتمرات. 377 المكتبات. 378 معاهد اللغات الشرقية. 379 أشهر المستشرقين. 290 ج- أثر الاتصال بالأدب الأجنبي. 391 القصة. 392 السبب في عدم اهتمام العرب بالقصة. 394 مناقشة مزاعم المستشرقين. 409 المقالة والصحافة. 410 شروط المقالة. 410 أنواع المقالة.

الصفحة الموضوع 412 الصحافة الحديثة. 415 المؤيد. 419 المراجع.

المجلد الثاني

المجلد الثاني مقدمات مقدمة الطبعة الأولى ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين مقدمة الطبعة الأولى: إن الحقبة التي نؤرخ لها في هذا الجزء من كتاب "الأدب الحديث" حقبة غنية بمن ظهر فيها من الأدباء والكتاب والشعراء، وفيها عظم اتصال الشرق بالغرب، وكثر النقل والتعريب من الأدب الغربي نثرًا وشعرًا. وزادت المدارس الأجنبية على اختلاف لغاتها بمصر، وعظم نفوذ الإنجليز بها إبان الاحتلال، وفرضوا لغتهم على المدارس فحذقها التلاميذ، وعرفوا كثيرًا من آثارها الأدبية. وأتت نهضة مصر في القرن التاسع عشر بعض ثمارها الشهية، فكثر المطبوع والمقروء من الأدب العربي، وتنبه الناس بمصر إلى أن ثمة آدابًا أرقى معًا عرفوا في مستهل ذلك القرن. وقد ضرب البارودي نموذجًا حيًّا قويًّا بمحاكاته لأساليب فحول شعراء العربية. ونهض جمال الدين الأفغاني وتلاميذه: محمد عبده، وسعد زغلول، وعبد الله نديم، واللقاني، والمويلحي بالنثر نهضة قوية، وحرروه من قيوده التي كبل بها طويلًا، وسخروه لخدمة المجتمع المصري. وأذكى الاحتلال الإنجليزي، وما جلبه من ذله وبغي نار الحماسة الوطنية في قلوب الصفوة الممتازة من أبناء الأمة، فشنوها حربًا شعواء لا هوادة فيها على المستعر الغاصب، وكان عمادهم الخطابة الصريحة الجريئة، والكتابة الملتهبة القوية، يقودهم مصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وعلي يوسف، وأضرابهم، على المنابر تارة، وفي الصحف تارة أخرى.

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، واصطلى العالم بسعيرها أربع سنوات كاملة، وما أن وضعت الحرب أوزارها، واستراح الناس من ويلاتها، حتى هبت الشعوب المغلوبة تطالب بحقوقها في ثورات عنيفة بمصر وأيرلندا وغيرهما؛ وخلفت الحرب آثارًا كثيرة بمصر تتمثل في الغلاء الذي يرزح تحت وطأته جمهرة بنيها، وفي شدة الإقبال على المدينة الغربية بخيرها وشرها، وفي نضج الفكرة القومية وتحديد أهداف البلاد.. إلى آخر ما هنالك من آثار كان لها في الأدب شأن عظيم. ومن العسير علينا أن نلم في هذا الجزء بكل ألوان الأدب شعرًا ونثرًا، بجميع البلاد العربية، فالدراسة المنتجة هي التي تتناول موضوعًا خاصًّا، في بلد بعينه، وتوفيه حقه من البحث، وقد آثرت أن أقصر هذا الجزء على: "الشعر بمصر بعد البارودي". وموضوع الشعر بمصر ليس موضوعًا هينًا، فمنذ أن ظهر البارودي بزعامته القوية، ومصر توقد الطريق في هذا الميدان، ويتلقف الراية شاعر بعد شاعر، ويتباين تأثرهم بالثقافة الغربية قوة وضعفًا، كما يتباين حظهم في تقليد الأدب العربي القديم؛ ولذلك تعددت مدارسهم، وتنوعت موضوعاتهم، وغزر نتائجهم. وصار الدارس للشعر في العصر الحديث لا يجد أمامه مندوحة من العكوف على بيئة خاصة، ويتعرف فيها على التيارات المختلفة التي أثرت في الشعر وعملت على تعدد مذاهبه وألوانه، وبذلك يكون قد أدى بعض ما يجب عليه نحو عصره وبيئته. وإذا كنت قد اكتفيت بالكلام على الشعر في مصر بعد البارودي. فليس ذلك إهمالًا أو إغفالًا لشعراء العربية في الأقطار الشقيقة، وقد نبغ منهم فحول زينوا عصرهم وخلدوا أسماءهم، ورفعوا ذكر بلادهم من أمثال: الزهاوي، والرصافي، والشبيني بالعراق، وبشارة الخوري، وشبلي الملاط، وإلياس أبي شبكة، وأنور العطار، وعمر أبي ريشة، وسعيد عقل بسوريا ولبنان. ولكن التعرض لشعراء العربية في مخلتف بيئاتهم إن تيسر لنا أداؤه فلن يكون ذلك دفعة واحدة وفي كتاب واحد، وإلا جاء ناقصًا مبتورًا لا قيمة له، ولا

جدوى منه؛ إذ سيكون عرضًا خاطفًا لا عمق فيه، ولا تحليل ولا موازنة. وليس ذلك هدفنا من دراسة الأدب الحديث. بل إننا نقصد إلى تحديد معالمه، وتعرف مدارسه والفحص عن العوامل المتباينة التي شكلته وألهمته وأثرت فيه، ولا يتأتى هذا إلا بالتخصص في الدراسة، ولا سيما إذا شفعت بتراجم وافية لكبار الشعراء. ولذلك رأيت من الخير لنفسي وللأدب الحديث أن أتكلم عن الشعر في مصر، ولعل من أبناء العروبة من يتطوع لدراسة الشعر في العراق، وآخر في الشام، فيعطينا فكرة قوية واضحة، وبحثًا مستفيضًا عن بيئته ومجتمعه وألوان الشعر ثمة. فالبلاد العربية على الرغم من اتحاد اللغة والاشتراك في الأمال والأماني والتاريخ والدين تتباين في كثير من الأمور: في طبيعة أرضها واختلاف مناظرها، والعوامل السياسية والاقتصادية التي طرأت عليها، وحظها من الاتصال بالحضارة الغربية، ونهضتها التعليمية والأدبية، وفي مجتمعاتها. إلى غير ذلك وليس الأدب إلا صورة من البيئة التي نبت فيها، وأوحت به، ولو كان أدبًا عالميًا تنجذب إليه كل نفس، ويهفو إليه كل عقل. وإذا كنت قد سلكت في الجزء الأول من "الأدب الحديث" غير هذه الطريق؛ فذلك لأن جمهرة الأدباء من شعراء وكتاب كانوا من أتباع المدرسة التقليدية ولم يتميز أحدهم عن الآخر إلا في الأداء، وقد تشابهوا موضوعًا وصورًا. وليس الحال كذلك اليوم بعد أن خطونا في نهضتنا شوطًا طويلًا، وعظم اتصالنا بالثقافة الغربية والأخذ منها. ورأيت لزامًا عليّ قبل أن أخوض في موضوع الشعر أن ألقي نظرة فاصحة إلى المجتمع المصري، ومدى تأثره بالثقافة الغربية التي وفدت إلينا وتأثرنا بها، من إبداعية "رومانتيكية"، وواقعية رمزية وسواها. وخصائص كل مدرسة في الأدب الغربي، وكيف طبقها شعراؤنا على أدبنا، وإلى أي حد اقتبسوا منها: ومدى تمسكهم بالأدب العربي القديم أسلوبًا، وقالبًا، وموضوعًا. ثم أتحدث بعد هذا عن المدارس الشعرية في مصر: من محافظة مقلدة ومجددة محترسة في تجديدها تجمع بين القديم والجديد، إلى مجددة متبرمة

بالأدب القديم، إلى أخرى ثائرة غارقة في التجديد، خارجة على كل ما يمت إلى القديم بصلة. وهذا يتطلب مني الترجمة لكبار شعراء كل مدرسة، ودراسة آثارهم، ومعرفة خصائصهم، وهو عمل ضخم أرجو الله أن يعينني على إنجازه وإتقانه. لقد نقد النقاد المفكرون بمصر الشعر، وتكلموا عنه، ووجهوا الشعراء إلى ما يريدون وقد استجاب بعضهم للنقد والتوجيه، واستعصى آخرون عليهم. وظهرت تراجم موجزة لكبار الشعراء، ولكنها تسير على المنهج القديم في البحث، لا تنفذ إلى المؤثرات العامة والخاصة في حياة الشاعر، وتتعرف على مزاجه الأدبي، وألوان ثقافته، وتدرس آثاره دراسة مستفيضة. وكتبت مقالات مبتورة عن المدارس الأدبية الغربية، ولكنها الغربية، ولكنها لم تتعرض للشعر المصري وإلى أي حد تتلمذ على هذه المدارس. وربما كان كتاب الدكتور إسماعيل أدهم عن خليل مطران أول كتاب يتعرض لشاعر معاصر على طريقة علمية صحيحة. ولكن أسلوب الدكتور أدهم أسلوب فيه بعض الغموض؛ لأنه غريب عن العربية، وطريقته في البحث قد جنحت إلى الحقائق العلمية الجافة، وطبق في كتابه المنهج العلمي أكثر مما يجب، فجاء الكتاب محدود الفائدة. ثم إنه ترجمة لشاعر واحد وإن كان شيخ المجددين بمصر. ولم يظهر حتى اليوم كتاب يضم أشتات هذا الموضوع، ولذا أشعر بضخامة هذه الدراسة، وصعوبتها وأرجو أن أوفق في بحثي هنا، وأقدم للمكتبة العربية ما تسد به ذلك النقص. ولست أزعم أني في هذا الجزء سأوفي الموضوع كل حقه، وأترجم ترجمات مسهبة لكل شاعر، فذلك فوق ما أطيق، ويطيقه هذا الجزء ذو الصفحات المحدودة مهما كثرت، ولهذا اقتصرت فيه على تبيان المؤثرات العامة في الشعر بعد البارودي وعلى بعض رجال المدرسة التقليدية. وأعترف أن ما قدمته ليس إلا محاولة لدراسة الشعر في العصر الحديث على طريقة علمية، تحتاج فيما بعد من الدرس والتمحيص وأن بها قصورًا كثيرًا

عن الغاية التي أصبوا إليها، ولذلك أتقدم بالمعذرة للقراء سلفًا: راجيًا أن يكون منهم من هو أشد مني مُنة، وأقوى براعًا، وأطول باعًا، وأوفى دراسة، وأنفذ بصيرة فيكمل هذا النقص ويوفي الموضوع حقه من البحث، والله هو الموفق للصواب. عمر الدسوقي

مقدمة الطبعة السادسة

مقدمة الطبعة السادسة: على الرغم من أننا نعيش في عصر توفرت فيه وسائل النشر، وأصبح الكتاب العربي سهل التناول، كثير التداول، وعلى الرغم من أني أؤرخ أدب العصر الحديث في مصر، فإني أشعر بأن المهمة شاقة، وأن الأدب العربي في عصوره الماضية أيسر تأتيًا، وأقرب منالًا: ولذلك ما زالت منذ أن صدرت الطبعة الأولى لهذا الجزء يجد لي في كل يوم جديد، وتتبدى لي في كل حين فكرة. وما ذاك إلا لأن الأبحاث التي تعرضت لهذه الحقبة لم تلم أشتات الموضوع، وتجمع مادته في الأضابير والمخطوطات والمجلات والصحف السيارة، والكتب المطمورة، ولهذا أخذت نفسي يتقصى مصادره، والبحث عن مادته ما وسعني الجهد حتى أبلغ بالكتاب الغاية التي أرجوها له، والتي يتطلبها مني البحث العلمي الدقيق. وهأنذا أتقدم لقراء العربية بالطبعة السادسة لهذا الجزء وفي كل باب من أبواب الكتاب زيادات كثيرة وتنقيحات لم أر منها بدًا. ولست أزعم أن الكتاب قد بلغ الكمال أو قاربه، فما زالت هذه الحقبة في حاجة ملحة للدرس والتمحيص. وإنني أعد القارئ العربي الكريم -الذي أدين له بفضل التشجيع- أن أبذل في الاستزادة من الأدب الحديث ومصادره غاية جهدي حتى يصل الكتاب إلى ما نصبو إليه، ولا يسعني إلا أن أقابل تشجيع قرائي من أبناء العروبة بالشكر الوافر، والعمل المتصل، والله أسأل أن يوفقني إلى إرضاء العلم وجمهور الأدباء وطلاب البحث، إنه نعم الموفق للصواب. عمر الدسوقي

الفصل الأول: المؤثرات العامة في الشعر الحديث الثقافة الأجنبية

الفصل الأول: المؤثرات العامة في الشعر الحديث الثقافة الأجنبية ... الفصل الأول: المؤثرات العامية في الشعر الحديث الثقافة الأجنبية تحدثت في الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث1 عن الاتصال بالأدب الأجنبي، في إيجاز، وعرض سريع، وأعود هنا إلى الموضوع بشيء من البسط، لندرك الصراع العنيف بين فرنسا وإنجلترا على تثبيت كل منهما نفوذها الأدبي بهذه الديار. يرجع اتصال مصر الحديثة بالثقافة الغربية إلى الحملة الفرنسية، وقد وفينا موضوع الحملة الفرنسية حقه من البحث في الجزء الأول من هذا الكتاب. وجاء محمد علي فاتجه صوب فرنسا يستخدم علماءها وقواد جيشها وأطباءها في نهضة مصر، ويرسل البعثات العديدة إلى فرنسا، بل ينشئ مدرسة للطلبة المصريين بباريس. وقد عاد هؤلاء الطلبة إلى مصر وتولوا زعامة حركة الإصلاح بها، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك. ولكن عباسًا الأول كان من النافرين كل النفور من الثقافة الأجنبية ولا سيما الفرنسية. فألغى نظام التعليم الذي وضع على النهج الفرنسي، ولم يرسل إلى فرنسا سوى ثلاثة من الطلاب في حين أرسل خمسة وأربعين طالبًا إلى الدول الأخرى، وفي موقف عباس الأول إزاء الثقافة الفرنسية يقول الأمير عمر طوسون2: "شعرت فرنسا بانصراف هذا العاهل "عباس الأول" عن الاتجاه إليها، خصوصًا بعد ما نحي عن مناصب الحكم في بلاده أكثر الأجانب وبخاصة الفرنسيين، فجاء ذكره على ألسنة مؤرخيها مشوبًا بالقدح خاليًا من المدح". وغضب عباس على هؤلاء المصريين الذين حذقوا الفرنسية وعملوا على نشرها، فنفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، وأغلق مدرسة الألسن. إلخ ما عرفت في الجزء الأول من كتابنا هذا. ولكن فرسنا المستعمرة لم تكن ترضى بهذا، وإن فاتها الغزو الحربي فعزيز عليها أن يفوتها الغزو الأدبي، والتمكين للغاتها وأدبها بأرض مصر، فتفيد نفوذًا وتجارة، ولعلها تجد فرصة مواتية

_ 1 راجع الفصل السادس من كتاب الأدب الحديث ج1. 2 البعثات العلمية في عهد محمد علي، ثم في عهد عباس الأول وسعيد للأمير عمر طوسون ص 418.

فتتدخل في شئون مصر، ولذلك حثت علماءها على تأدية الرسالة التي اضطلع بها المجمع العلمي المصري1، وشجعت الفرنسيين على الإقامة بمصر، وحثت الأثرياء على دفع الأموال الطائفة في القروض التي أصدرتها الحكومة المصرية، وفي إنشاء قناة السويس، وتأسيس المصارف العقارية إلى غير ذلك: وبهذا خضعت مصر اقتصاديًّا لفرنسا، ولم تنس نشر الثقافة الفرنسية بمصر، ونظرت إلى هذه المسألة في جد بالغ. استمع إلى ما يقوله أحد دعاتها في هذا الموضوع: "إن العقل المصري وهو يتهيأ للأفكار الجديدة لا يزال مملوءًا بتقاليد الماضي، ويجب علينا أن تغيير نفوس هؤلاء القوم. ونعلم هذه العقول التي جففتها الشمس طريقة التفكير، وأن نستميل بالحب هذه القلوب التي لم تعرف إلا الجشع ونهب الأجانب، وأن نجبر مصر الدهشة المذهولة على أن ترفع رأسها فوق الصحاري والبحار. إن هذا عمل جسيم يحتاج إلى كثير من الصبر والتضحية وعدم الأثرة، كما يحتاج إلى وقت طويل ومجهود شاق ومحبة عظيمة". "لقد اجترأ شعب واحد على تقدير هذا المجهود، وتعهد بإنجازه، ألا وهو شعب فرنسا، ولكنها ليست فرنسا الغازية التي اجتاحت البلاد، بل فرنسا "ديلسبس"، و"فرير أتدريان"، وفرنسا "ماريت" و"ماسبيرو"2. "إن عمل فرنسا بمصر كالخميرة تمتزج بالعجين فيرتفع، فقد تغير المصريون وتحركوا بتأثير أفكارنا وتعليمنا وأمثلتنا، ومنح المصريون في مدارسنا النهوض والانتعاش، ووجدوا في رءوس الأموال الفرنسية ما ساعدهم على بناء نجاحهم الزراعي، واتخذت مصر من قناة السويس مركزًا وسطًا تجبي فيه الضرائب على السلع التجاربة والعقلية بين الشرق والغرب، وأخيرًا ستستمر مصر مدينة لعظمة فراعنتها الذين أرجعهم علماؤنا الأثريون المتحمسون إلى الضوء من أجداثهم3".

_ 1 راجع الفصل السادس من كتاب الأدب الحديث ج1. 2 ديليسبس هو المهندس الفرنسي الذي صمم مشروع قناة السويس ونفذه، وفرير أدريان من كبار المبشرين الفرنسيين، وماريت وماسبيرو من علماء الآثار الذين احتلوا مكانة كبيرة في مصر. 3 iulien leopold "semailles francias" le magazine egyption cairo. may 1926. وراجع رسالة الأستاذ الطيب حسن عن أثر الثقافة الغربية في الأدب المصري الحديث ص 45- مخطوط.

عمدت فرنسا لبسط نفوذها الثقافي بمصر إلى الإرساليات التبشيرية والتعليمية وقد أسس الآباء العزاريون أول مدرسة فرنسية بمصر سنة 1844، ثم جاء الفرير وأسسوا أول مدرسة لهم سنة 1845، وقد اعترفت الحكومة بخدماتهم التعليمية للبلاد فوهبتهم بعد خمسة أعوام من قدومهم إلى مصر قطعة فسيحة من الأرض شيدوا عليها مدرستهم1. ثم جاء راهبات المحبة "منشئات أخوية الراعي الصالح" وأسسن مدرسة لتربية البنات سنة 1846. وحذا حذوهن الراهبات الفرنسيسكان وأنشأن مدرسة بالقاهرة سنة 1859 بالقرب من الأزبكية، وأخرى ببولاق سنة 1898، وغيرها بالمنصورة سنة 1872. وقد أم هذه المدارس كثير من الطلبة والطالبات من كل جنس حتى بلغ عددهم في عهد إسماعيل ما يربو على ثلاثة آلاف طالب وطالبة، على الرغم من أن الغرض الأساسي لهذه البعثات كان نشر الدين الكاثوليكي، وخدمة الاستعمار الفرنسي، والتمكين لنفوذ فرنسا الأدبي بمصر، وفي ذلك يقول اللورد كرومر: "إن الفرنسيين قد قضوا نصف قرن قبل الاحتلال البريطاني ينشرون لغتهم بكل ما لديهم من وسائل، في حين ظلت الحكومة البريطانية متعطلة لا تبذل أي جهد في تعليم المصريين"2. وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تسودها روح الإلحاد فإنها شجعت رجال الدين الذين ينشرون الثقافة الفرنسية في الخارج، وأرسلت البعثات "العلمانية" إلى مصر، فأسست عددًا من المدارس، ونوه المسيو "هريو" رئيس مجلس النواب الفرنسي، ورئيس البعثات العلمانية في الشرق بمنهج هذه المدارس، وأنها تعمل على احترام جميع العقائد ونشر الثقافة الفرنسية، والاهتمام بالروح الوطنية في البلاد، وأظهر أن البعثات العلمانية لا تسير في هذا المنهج إلا على ضوء التقاليد التي اشتهرت بها فرنسا، وهي الدفاع عن حرية الشعوب وكرامتها الشخصية"3.

_ 1 تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل -ج1 ص 218. 2 earl comers mod4ern egyt. p. 236. 3 خطبة مسيو هربو في افتتاح مدرسة الليسيه بمصر الجديدة، الأهرام 4 سنة 1938.

وقد زاد عدد تلاميذ المدارس الفرنسية بمصر حتى صار في سنة 1926 أكثر من اثنين وأربعين ألف تلميذ وتلميذة، يربو هذا العدد على ضعف مجموع الطلاب الذين يتعلمون في المدارس الأجنبية الأخرى بمصر سواء كانت إيطالية أو أمريكية أو إنجليزية أو يونانية1. ولعلك تدرك الآن السر في انتشار اللغة الفرنسية بمصر، وتمسك الأجانب عامة بها، وجعلها لغتهم الأولى في معاملاتهم. لقد ساعد ذلك على انتشار الأدب الفرنسي، حتى برع فيه بعض المصريين وأخذوا ينمون الشعر ويؤلفون الكتب باللغة الفرنسية، بيد أننا لا ننسى أن هؤلاء الذين يتعلمون في مدارس أجنبية وبخاصة المدارس الفرنسية، لا يعرفون شيئًا من اللغة العربية، والحق أن فرنسا لو مكن لها أن تستعمر مصر كما استعمرت الجزائر وتونس وسوريا ولبنان. وقضت بها أمدًا طويلًا كما قضت بتلك البلاد لضعف شأن العربية، وانحط الأدب العربي أيما انحطاط، فقد عملت فرنسا في كل بلد احتلته على محو اللغة الأصلية محوًا تامًّا بمحاربتها، وعدم العناية بها، ونشر اللغة الفرنسية، وصبغ الأهالي بالصبغة الفرنسية في كل شيء. حتى يمسخوا ويشوهوا، وتفنى شخصيتهم ومقومات وطنيتهم في فرنسا كما حدث لأهل الجزائر وتونس، وكما أوشك أن يحدث لأهل لبنان لو لم يكن أمد الاحتلال الفرنسي بها قصيرًا. ومع كل هذا فقد كان لنشر الثقافة الفرنسية بمصر أثر واضح في الأدب العربي الحديث أشرنا إلى بعضه في الجزء الأول2، وسنعود للحديث عنه فيما بعد.

_ 1 تقرير وزارة المعارف سنة 1931- 1932. 2 الفصل السادس.

هذا ما كان من سعي فرنسا في نشر لغتها، وتقوية نفوذها بمصر! أما إنجلترا فقد أدركت أهمية مصر منذ أن غزاها نابليون ووثقت من أن دولة قوية مثل فرنسا تستطيع أن تحول بينها وبين مستعمراتها في الشرق الأقصى إذا استقرت بوادي النيل: ولذلك عملت إنجلترا جهدها على إخراج نابليون وجنده من مصر، وكانت موقعة أبي قير المشهورة. وكم تمنت إنجلترا بعد ذلك أن تبسط سيادتها على هذه الديار الغنية. التي تتوسط العالم، وأرادت بادئ الأمر أن تكسب ثقة تركيا بها، وأن تعمل على أن يستقل المماليك بشئون البلاد، وتتولى هي حماية شواطئها الطويلة، بيد أن هذه المحاولة باءت بالإخفاق. ولما لم تجد بدأ من القوة لتحقيق بغيتها غزت مصر سنة 1807 بقيادة "الجنرال" "فريزر"، ولكن الشعب المصري وأهل رشيد تصدوا لهذا الغزو الذي لا مسوغ له إلا الجشع الاستعماري، وهزم الإنجليز هزيمة منكرة برشيد في تلك السنة، وبذلك استراحت مصر من الإنجليز وطمعهم خمسة وسبعين عامًا1. حين دخلوها بعد الثورة العرابية متذرعين بأسباب سخيفة بادية الضعف والطمع. وظنت إنجلترا حين منيت بهزيمة رشيد أنها تستطيع أن تنشر نفوذها عن طريق الإرساليات التبشيرية والتعليمية كما فعلت فرنسا، وأن تمهد لها الإرساليات سبيل التدخل السافر في شئون مصر، كما مكنت لها شركاتها التجارية غزو الهند واحتلالها، فأرسلت أول بعثة تبشيرية إلى مصر سنة 1840، وجاءت البعثة الإسكتلندية البروتستانتية وفتحت لها مدرسة بالإسكندرية، وتلتها بعثة أخرى سنة 1860 برئاسة "مس وتلي" كريمة رئيس أساقفة "دبلن"، ووهبت هذه الفتاة حياتها ونشاطها للمهمة التي اغتربت من أجلها وسعت جهدها للنجاح في تعليم الفتاة المصرية، وأسست مدرسة بالقاهرة لهذه الغاية ولاقت صعوبات جمة، وعناء شديدًا في حمل المصريات على الاستجابة لندائها، ولكنها صابرت وثابرت، من غير أن تعرف التبرم والسخط والملل عشر سنوات كاملة

_ 1 تاريخ مصر السياسي لمحمد رفعت "باشا" جـ 1 ص 92- 93.

بدت لها بعدها تباشير النجاح، فغص معهدها بالتلميذات، وشجعها الخديو إسماعيل بأن وهبها قطعة أرض رحبة بالفجالة وأمدها بالمال اللازم لتشيد هذه المدرسة فصارت من أرقى مدارس مصر وأقبل عليها الفتيات المصريات والأجنبيات، ولا سيما بعد أن فتح إسماعيل المدرسة السنية سنة 1873 تشجيعًا على تعليم البنت، ووضعها تحت رعاية إحدى زوجاته. ولم تكن المدارس الإنجليزية وحدها مصدر الثقافة الإنجليزية بمصر، بل ساعدها في ذلك الميدان مجيء أول بعثة أمريكية في الشرق سنة 1855، في عهد سعيد، وكان ميالًا بطبعه للأجانب، يمنحهم تشجيعه ومساعدته. واتخذت البعثة الأمريكية مقرها بالقاهرة، ودأبت في جد وحرص على نشر رسالتها في جميع أرجاء مصر والشرق العربي، تؤيدها الأموال الأمريكية الطائلة، والأسباب التربوية الحديثة، ولم تدع عاصمة من عواصم القطر، بل ولا مركزًا مهمًا من مراكزه إلا أسست فيه فرعًا ومدرسة تنشر تعاليمها، حتى وصل عدد مدارسها في سنة 1932 إلى ما يزيد على اثنين وأربعين مدرسة، بها ما يربو على 6994 تلميذًا وتلميذة1. وعلى الرغم من كل ذلك فقد ظل نفوذ الإنجليز الأدبي والثقافي بمصر محدود الأثر، لا يستطيع مغالبة النفوذ الفرنسي، إلى أن جاء عهد الاحتلال على أثر الثورة العرابية في سنة 1882؛ وقد أفضنا في الحديث عن هذه الثورة وكيف دخل الإنجليز مصر وذكرنا الأسباب الواهية التي حاولوا أن يسوغوا بها هذا التدخل الذميم أمام مصر، وأمام دول الغرب التي كانت تقف لهم بالمرصاد2. وما أن استقر الإنجليز بمصر حتى نشطوا لتثبيت أقدامهم بها، فأرسلوا في سنة 1883 عددًا غير قليل من غلاة المستعمرين وذوي الخبرة في إذلال

_ 1 إحصاء قسم التسجيل والامتحانات بوزارة المعارف العمومية سنة 1931- 1932. 2 راجع الفصل الخامس من كتاب الأدب الحديث ج1.

الشعوب واستغلالها، وعلى رأسهم ذلك الداهية السير "إدفالين بارنج" الذي عرف فيما بعد باسم "اللورد كرومر"، والذي حكم مصر أربعة وعشرين عامًا إلى أن أخرج منها سنة 1907. كانت مصر ترزح تحت وطأة الديون الثقيلة التي أرهقها بها إسماعيل، والتي اتخذها الغربيون ذريعة لبسط نفوذهم المالي عليها وقد جاء "كرومر"، ومصر في عجز عن تسديد ديونها، فأحكم تدبير المال، وأخذت مصر في سنة 1889 تسدد أقساط تلك الديون التي جعلت للأجانب امتيازات بهذه الديار صيرتهم السادة المترفين، وأصحاب الجاه والسلطان وجعلت أهلها أدنى من الإجراء والخدم، أذلاء مضطهدين. ولم تستطع مصر أن تتخلص من هذه الديون على الرغم من عبقرية "كرومر" المالية إلا في سنة 1942. وكما كانت حال مصر المالية بالغة السوء، فإن أحوالها الاجتماعية كانت أشد سوءًا. وقد ذكر "كرومر" في كتابه مصر الحديثة "Modern Egypt" ما قدمه لمصر في هذا الميدان، وهاك طرفًا من قوله يمن به على مصر والمصريين: "لقد سرت بالتدريج روح جديدة إلى سكان مصر، وتعلم الفلاح كيف يمعن النظر في حقوقه، وتعلم الباشا أن لمن يجاوره من الفلاحين حقوقًا يجب احترامها، وعلى الرغم من أن السوط كان لا يزال معلقًا على جدار المديرية فإن المدير لم يجرؤ على رفعه واستعماله فوق ظهر الفلاح. وقد اختفت السخرة البغيضة من مصر، وذهب الرق عمليًّا من الوجود، وانقضى أجل الأيام السعيدة التي كان يتمتع فيها المرابون باستنزاف دماء المصريين، وأصبح للقانون الكلمة العليا في كل مكان بعد أن كان القضاء يباع ويشترى، وابتدأ المصريون يحبون أرضهم ويعملون بها بعد أن كانوا يحتقرونها؛ لتمنحهم هباتها وخيراتها فاستجابت لدعوتهم كريمة معطاءة. وقد أحكم توزيع مياه النيل بالعدل والقسطاس المستقيم بين أرض الأمير الكبير والفلاح الصغير، ونظمت وسائل النقل واتسع نطاقها وأصبح المرضى

يعالجون في مستشفيات جيدة الإدارة، ولم يعد المجرمون والمجانين يعاملون الآن معاملة الوحوش الضاربة، بل إن الحيوان الأعجم قد مسته يد الرفق فوجد من يعني به"1. وفي اعتقادي أن بعض ما ذكره "كرومر" صحيح، وبعضه قد بالغ فيه، فإن الإصلاح قد ابتدأ على يد محمد علي، وذهب عهد الأتراك والمماليك، المليء بالمآسى الدامية، والسخرة المقيتة، وشعرت مصر بشيء من العزة الاستقلال في عهد محمد علي وإسماعيل، ولولا ما أراده إسماعيل من الطفرة لمصر في نهضتها لسارت قدمًا في سبيل الرقى، غير متخلفة، أو محتاجة إلى أي مساعدة أجنبية، وقد ذكرنا في الجزء الأول ما قام به عرابي في هذا الشأن، وكان من الممكن أن يتم ما بدأه لو لم ينف عن مصر ويحتلها الإنجليز2. أجل؛ إن الإنجليز قد أحكموا توزيع المياه بالعدل، ورفعوا عن كاهل الفلاح كثيرًا من الضرائب المرهقة التي نفرته من الأرض، ودفعته إلى الهرب منها. ولم يكن غرض الإنجليز -فيما أعتقد- هو خدمة الفلاح محبة فيه، ورغبة في إسعاده لوجه الخير، ولكن كان غرضهم الأول هو خدمة بلادهم. فمصر الغنية الهادئة، الرخيصة الخصبة، تستطيع أن تعين إنجلترا المعوزة في المحصولات الزراعية بما تغله من خيرات، الفلاح الذي يمثل جمهرة الأمة وسواد الشعب، إذا شعر بشيء من الطمأنينة والراحة تغني بمأثر الإنجليز، وسخط على سادته وكبرائه، وفي هذا تمكين لقدم المستعمرين، وتكأة يعتمدون عليها في تسويغ مقامهم غير الحميد بمصر، واستعمار أهلها. ولا أدل على أنهم لم يقصدوا بهذه الإصلاحات نهضة مصر، أو رقى أهلها، من سياساتهم التعليمية بهذه البلاد، فقد نهجوا فيها نهجًا استعماريًّا بغيضًا، ورجعوا بتقدمها العلمي الذي أحرزته على يد محمد على وخلفائه، ورجال البعثات

_ 1 EARL CROMERS MODERN EGYPT. VOL II.P 55- 7 2 راجع الجزء الأول من الأدب الحديث طـ السابعة ص 349.

المصريين سنين طويلة إلى الخلف، ولقد شهد بذلك أكثر من مؤرخ إنجليزي منصف، أو ناقد متبرم من إخفاق الإنجليز في نشر نفوذهم الأدبي والثقافي بمصر1. رأى كرومر بعد أن خطا في إصلاحاته المالية والاجتماعية والداخلية خطوات واسعة، أن عليه واجبًا نحو نشر الثقافة الإنجليزية بمصر، وقد راعه ذلك البنيان الضخم من الثقافة الفرنسية، الذي شيدته همم الإرسالات، وعززته الحكومة الفرنسية, ورجال الاقتصاد والأعمال الفرنسيون، هالته كثرة المدارس الفرنسية في مصر، وحماسة هؤلاء الذين تعلموا بها -أو في فرنسا ذاتها- لنشر الثقافة الفرنسية، ورأى أن الفرنسيين قد بذلوا غاية جهدهم لمساعدة هؤلاء الذين يتخرجون في مدارسهم، فاشترطوا على الإنجليز أن يظل لهم النفوذ الأول ببعض المصالح الحكومية كما كان شأنهم قبل الاحتلال البريطاني، فاستأثروا بمصلحة الآثار المصرية -وظلت إلى أن جاءت الثورة في أيديهم- ونظارة مدرسة الحقوق، واستولوا بأموالهم وقروضهم وشركاتهم ومؤسساتهم التجارية على أكثر من نصف المصالح الاقتصادية والأموال المنقولة بمصر، ووجد الشبان المصريون والأجانب الذين يتخرجون في مدارسهم متسعًا للعمل بهذه الشركات والمؤسسات، وصارت اللغة الفرنسية لغة التعامل والتداول والتجارة بين الأجانب بمصر، وبينهم وبين المصريين. حتى اضطرت المحاكم المختلطة أن تصدر تسعة أعشار أحكامها باللغة الفرنسية، فضلًا عن الموظفين العديدين الذين وجب عليهم إتقان اللغة تلبية لجمهرة المتقاضين أمام المحاكم المختلطة. وعلى الرغم من الاحتلال الإنجليزي وطول أمده فلا تزال اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى في السوق المصرية حتى اليوم، وهي لغة التخاطب بين الأجانب

_ 1 See: Goerge Young: Egypt. and Sir Valentine Chirol: The Egyptian Problem. See also Lord. Lioyd: Egypt Since Cromer.

المختلفي الجنسية، لقد استجابت فرنسا والفرنسيون لنصيحة نابليون التي يقول فيها: "علموا اللغة الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن الحقيقية". رأى كرومر كل هذا، وأن الشعب المصري لا يمكن أن يقبل الاستعمار الإنجليزي إلا إذا أقبل على الثقافة الإنجليزية، وقدم له الإنجليز عملًا مجديًا في سبيل تعليمه، ولكن هل كان كرومر جادًّا في تعليم المصريين؟ أو أن غايته هي بسط نفوذ الاستعمار، ولو أدى ذلك إلى الرجوع بالتعليم إلى الوراء؟! لقد وضع كرومر سياسة تعليمية سار عليها أمدًا طويلًا، وجاء "دانلوب" في سنة 1906 وورثها عنه ولقنها منه، وعمل على تنفيذها: وتتلخص هذه السياسة في الأمور التالية: 1- نشر التعليم بين الفتيات المصريات، ولعله تأثر في ذلك بما قدمته "مس ونلي" من خدمات في هذا المضمار، وظن أن تعليم البنت وتلقينها الثقافة الإنجليزية يهيئ الفرصة لوجود جيل من الأبناء يحبهم ويعطف عليهم. 2- العمل على محو الأمية بين الفلاحين والطبقات الفقيرة بمصر، وذلك بتعميم مدارس القرى في الريف، ومدارس المساجد في المدن. 3- إعداد فريق من الشبان المصريين لتولي الأعمال الكتابية والإدارية، والفنية المتواضعة في الحكومة. 4- مناهضة الثقافة الفرنسية، واللغة العربية في المدارس وإحلال اللغة الإنجليزية محلها. وقد أخفق كرومر في هذه السياسة كل الإخفاق؛ لأنه لم يكن خبيرًا بشئون التعليم؛ ولأنه قاوم الحركة الوطنية التي بدأت سيرها منذ عهد محمد علي، والتي نهضت باللغة العربية، وساعدت على انتشار اللغة الفرنسية؛ ولأنه لم يفهم نفسية المصريين على حقيقتها، وظن أنه حين ينهض بتعليم الفتاة يجد إقبالًا على سياسته تلك، ونسي أن الحجاب كان ذا سيطرة قوية حينذاك، وأن المصريين

نظروا إلى اللغة الإنجليزية على أنها لغة المحتل الغاصب، فانصرفوا عن مدارسه، ومما عمل على شدة إخفاق سياسته في ميدان التعليم ذلك المستشار الإنجليزي الذي وضعه بوزارة المعارف يسير أمورها، وهو لا يعرف من شئون التربية قليلًا أو كثيرًا، ألا وهو المستر "دوجلاس دانلوب" الذي خدم وزارة المعارف من سنة 1906 إلى 1919. اجتمعت في دوجلاس دانلوب سوأتان، فهو قسيس إسكتلندي، وقد اشتهر أهل إسكتلندا بغلوهم الاستعماري، ونظرتهم إلى الشعوب الملونة نظرة ازدراء، واعتقدوا أنهم لا يصلحون لإدارة أمورهم بأنفسهم، وأنه لا بد لهم من قيادة غربية حتى تستقيم أمورهم. وقد جاء دانلوب خير مثل يضرب لضيق الأفق، ونقص الثقافة، والتعصب الذميم لرأيه، وأصدق ما وصف به هذا الذي نكتب به مصر بعامة، ووزارة المعارف بخاصة ما قاله عنه وعن سياسته البغيضة في التعليم "السير فالنتين تشرول" في كتابه المسألة المصرية: "لقد كانت سياستنا التعليمية تفتقر إلى الروح المعنوية، والإلهام القوي؛ لأننا تركناها في يد مستشار وزارة المعارف مستر دانلوب. وكان دانلوب حسن النية، دءوبًا على الجد والعمل، غير أن أراءه في التربية لم تتعدَ ما كانت توحي به تلك الدروس التربوية التي تلقاها في حداثته". "ومهما امتاز دانلوب من صفات محمودة فإنه كان ضيق الفكر، قصير النظر يؤمن بالكمية لا بالنوع. أي كثرة المواد الدراسية لا نوعها، وكان وهو متربع في كرسي مكتبه بوزارة المعارف يصدر الأوامر والنظم والقوانين المتعددة كما تتصورها عقليته، وقلما كان يأبه لرأي سواه. أما نصح المصريين له فكان -بالطبع- لا يجد منه أذنًا مصغية ولا يتسع له صدره"1.فلا بدع إذا أخفق كرومر في سياسته التعليمية بمصر وهذه عِدده

_ 1 sir valentine chirol. the egyptian problem, pp. 231- 232

ووسائله، لقد أتى كرومر مصر ونسبة تعليم البنات بها ثلاثة في الألف1 في سنة 1883 وخرج من مصر سنة 1907 ونسبة تعليم البنات ثلاثة في الألف2 كذلك، وأي إخفاق أعظم من هذا في أول مشروع في منهجه التعليمي!!. وإذا قيل: لقد امتحن كرومر بتعليم البنت، وأبت مصر المحافظة التي كان للدين بها أثر كبير أن تدفع فتياتها إلى ميدان التعليم ولا سيما وميدان العمل لم يكن قد فتح أمام الفتاة كما هو الشأن اليوم، ولعله كان أكثر نجاحًا في مشروعه الثاني وهو محو الأمية؛ لأنه تعليم للذكور وتعليمهم استمرار للنهضة التي وضع أسسها محمد علي ونماها إسماعيل. لقد بذل كرومر في تعليم الذكور جهدًا كبيرًا، وأعان مكاتب القرى بالمال، وأنشأ مجالس المديريات، وأعطاها سلطة فرض ضرائب محدودة لتستعين بها على محو الأمية، ومع كل هذا جاءت النتيجة عكس ما قدر "كرومر". فقد ابتدأ عهده في سنة 1883 ونسبة المتعلمين3 من الذكور 16% ورحل عن مصر سنة 1907 ونسبة المتعلمين4 لا تزيد عن 8%، ومعنى ذلك أن عدد المتعلمين قد تضاءل إلى النصف، فهل يعد هذا نجاحًا، أم إخفاقًا ذريعًا؟ ولعل من أسباب هذا الإخفاق وإحجام كثير من المصريين عن التعليم ما نهجه كرومر من فرض اللغة الإنجليزية على المدارس الابتدائية والثانوية، وعدم تشجيع التعليم العالي كما سنذكر بعد قليل، فلم يجد المصريون أمامهم إلا طريقة معقدة تتنافى ودينهم ولغتهم كما وجدوا مستقبلهم معتمًا لا يشجعهم على دفع أبناءهم إلى المدارس المصرية التي صبغت بصبغة إنجليزية، ولقد كانت جمهرتهم متدنية، ونظرت إلى هذا النوع من التعليم على أنه شيء ليس فيه ما يرضى الله أو الدين أو الوطن، ولم يقبل على المدارس المصرية إلا القليل من أبناء المدن

_ 1 Yacoub Artin Pasha. L'Instruction Publique on Egypte Appendex A. P. 151. 2 الإحصاء الحكومي العام سنة 1907. 3 Yacoub Artin Pasha; L'Instruetion Publique on Egypt. Appendex A. P. 152. 4 الإحصاء الحكومي العام سنة 1907.

والذي يعنينا هنا أثر هذه السياسة في الأدب: فقد نقص عدد القراء في عهد الاحتلال الإنجليزي نقصًا زريًّا، لمن ينتج الأدباء؛ وأي تشجيع يجدونه من أمتهم؟ أو من ولي الأمر فيهم، وهو إنجليزي اللسان والحكم. وإذا كنا للآن وبعد أن مضى أكثر من نصف قرن، تغيرت فيه نظم التعليم ونالت مصر فيه حريتها، وكثر فيها المتعلمون كثرة نسبية، وعظم الاعتناء باللغة العربية -إذا كنا للآن نشكو من قلة عدد القراء، وعدم الاستبجابة، أو الرغبة في قراءة الكتب الأدبية، فما بالك بما حدث في عهد كرومر من هذه النسكة المريعة من ثقافة الشعب، وتعليم جمهرة بنيه؟ لا يسعنا إلا أن نقول كما قال الأستاذ "جب"1 في هذا: "من أن مصر التي بدأت فيها النهضة منذ قرن من الزمان على يد محمد علي، والتي كانت النموذج الذي احتذته تركيا، وهي الدولة صاحبة السيادة الاسمية على مصر، قد أصيبت في آدابها، وتأخرت عن تركيا، ولا سيما في فن القصة، وقد مضى القرن التاسع عشر -على الرغم من أن بعض القصص الأدبية قد نقلت إلى اللغة العربية، ولم يتقدم مؤلف واحد بقصة كاملة استوفت شروط القصة الحديثة، اللهم إلا شبه قصة هي: حديث عيسى بن هشام، للمويلحي الصغير". ولولا أن الصحف والمجلات، قد أوت الأدباء وأفسحت لهم ميدان الكتابة، لما وجد هؤلاء سبيلًا للنتاج الأدبي أو شبه الأدبي ولقضي على أقلامهم، ولانصرفوا لاحتراف شيء آخر غير الأدب، يصيبون منه بعض ما يقوم برزقهم ورزق أولادهم وأسرهم. ولقد كان لذلك تأثير آخر في الاتجاه الأدبي الحديث؛ لأن الكتاب جودوا المقالة، وراجت سوقها، بيد أن الصحف السيارة ليست ميدانًا للتجويد الأدبي؛ لأن جمهرة قرائها من غير الأدباء؛ ولأنها تعني بالأخبار والحوادث قبل أن تعني بالمقالة الإنشائية، أو يجب أن يكون كذلك على الأقل، فيجب على الكاتب أن يراعي

_ 1 H.R. gibb. B.S o.s vol 5 pps 314

مستوى الجمهور الذي يكتب له، ورغباته اليومية؛ ولهذا نزل الكاتب من عليائه إلى المستوى الذي يتطلبه الجمهور، في أسلوبه وموضوعه، وطريقة عرضه. وثمة شيء آخر هو أن الكاتب لم يكن حرًّا فيما يختار من موضوعات؛ لأن الصحف سياسية قبل كل شيء تهتم بالسياسة الخارجية والداخلية، وهي تمثل لونًا معينًا من هذه السياسة، وقد كان بمصر حينذاك أحزاب مختلفة، حزب الخديو، وحزب الإنجليز، وحزب الوطنيين، ولكن حزب ألسنة من الكتاب والصحف تدافع عن سياسته، وتحصي على الآخرين أخطاءهم، وتفند أقوالهم، ولذلك كله اضطر الكتاب إلى خوض غمار المعارك الحزبية والسياسية، ولم يعد للأدب الخالص، أو الموضوع الذي تشبعت به نفس الكاتب وامتلأت مشاعره مجال في الصحف إلا قليل. وقد عاد كل هذا على الأدب بالضرر، فكسدت سوقه، وخمدت قرائح الكتاب، وتعطلت أقلامهم الرفيعة، وسنعود إلى الحديث في توضيح هذا بعد قليل إن شاء الله. أما ما قصده "كرومر" من إعداد طائفة من الشبان المصريين لشغل بعض وظائف الدولة غير ذات الخطر، فقد نجح فيه أيما نجاح واستطاع أن يخرج ألات صماء، ليس عندهم شيء من الجرأة وحرية الرأي، والقدرة على الابتكار، ثقفوا ثقافة محدودة، فبعضهم اكتفى بالتعليم الابتدائي وآخرون زادوا قليلًا فنالوا الشهادة الثانوية، وقد ملئت أدمغتهم بمعلومات كثيرة غير مفيدة في حياتهم الفعلية، وكان الغرض الأول أن يظلوا مرءوسين للإنجليز الذين غصت بهم مصالح الدولة، لا يتطلع أحدهم إلى منصب كبير، وليس في مكنته أن يشغل هذا المنصب الكبير إذا تطلعت نفسه إلى ذلك؛ لأنه لم يعد الإعداد الواجب لشغل مثل هذا المنصب. ومما يؤسف له أن سياسة "كرومر ودانلوب" في التعليم قد ظلت أمدًا طويلًا -بعد أن نالت مصر حريتها، وتخلصت من الإنجليز في التعليم- وهي السياسة المتبعة في مصر، وصار المنصب الحكومي هو غاية ما يتطلع إليه الشباب

في مصر، والأمل الذي يجمع له كل قواه. وفي ذلك يقول مستر: "مان" في تقريره لوزارة المعارف: "ليس في العالم على الأرجح قطر يتمتع فيه موظف الحكومة بمنزلة كبيرة بين الأهلين كالتي يتمتع بها الموظف بمصر؛ وقد لا يوجد في أي بلد آخر آباء يصحون بالشيء الكثير في سبيل جعل أبناءهم موظفي حكومة بأي شكل كان"1. ولم تكن هذه الغاية وحدها هي كل ما جناه الإنجليز على التعليم بمصر، بل إن مستر دانلوب، الذي أسلمه كرومر قيادة التعليم في مصر سنة 1906 قبل أن يغادرها، قيد التعليم بقيود شنيعة من القوانين الصارمة، لا يحيد عنها، ولا يعرف سواها، وأكثر من حشو أدمغة التلاميذ بشتى المعلومات المفيد منها، وغير المفيد وصار المعلم في المدارس آلة صماء أمام القانون، وصار التلميذ آلة في يد المعلم، وفقد كلاهما شخصيته وصارت المدارس أشبه بالسجون، والهم الأكبر الذي يشغل التلميذ، والمدرس، وناظر المدرسة، ووزارة المعارف وعلى رأسها "مستر دانلوب" هو نجاح التلميذ في الامتحان. أما أن تعني وزارة المعارف، وتعني المدرسة معها بشخصية التلميذ، ودراسة مواهبه واستعداده، وتحسس ميوله، وتصقل خلقه، وتنمي ملكاته العليا فذلك أمر لا يخطر لوزارة المعارف، ولا لمستر دانلوب ببال، ولو كان خطر له ما قدم عليه؛ لأنه كان يريد إخراج جيل مشوه التعليم، لا يصلح للحياة الحرة الكريمة. لقد قيد مستر دانلوب المعلمين بقيود سخيفة وضعها في قانون نظام المدارس، وهذا دليل على أنه لم يكن يثق في هؤلاء المعلمين، وأول ما يجب على المهيمن على شئون التعليم أن يثق بالمربي والمعلم، فإن لم يعفل هذا، وأبى إلا أن يندس بين المعلن وتلميذه في كل لحظة، ويشعره بأنه من ورائه يقيد أنفاسه ويحصي أخطاءه منها ما صغر منها وما كبر، أفسد عليه أمره، وأفسد التعليم كله، وصار المعلم ينظر إلى هذا المهيمن على التعليم نظرته إلى الحاكم المستبد

_ 1 مستر "مان" خبير إنجليزي في التعليم استقدمه الأستاذ على الشمسي وزير المعارف كما استقدم مستر "كلاباريد" السويسري الخبير بشئون التعليم، وقدم كل منهما تقريرًا لوزارة المعارف سنة 1928.

الذي يدفع إليه أجرًا ويتقاضاه عملًا، فصانعه وخادعه، وقامت التهمة بينه وبين رئيسه مقام الثقة، وقام الخوف والشك بينهما مقام الأمن واليقين: ولم يعد ينظر إلى التلميذ على أنه أمانة قد أؤتمن عليها، ووديعة قد كلف حمايتها وحياطتها، وفرد من أفراد الشعب قد كلف تربيته وتنميته، وتعهده بالرعاية والعناية، حتى ينمو ويزكو ويصير رجلًا، وإنما ينظر إليه على أنه مادة للعمل الذي يعيش منه، وموضوع للنشاط الذي يكسب منه القوت، فيعامله معاملة المادة الجامدة الهامدة، لا معاملة الكائن الحي، ولا معامة الإنسان الناطق"1. ويصوغ هذه المادة كما يجب أن يكون هذا الرئيس لا كما يجب أن تكون. ويصبح هذا المعلم آلة من الآلات، وأداة من الأدوات في هذا المصنع العقيم السخيف الذي نسميه المدرسة. وإليك ما يقوله مستر "بويد كاربنتر": "على المستر دانلوب" تقع تبعة فساد التعليم المصري، والرجوع به القهقرين وإخراج موظفين جل اعتمادهم في أثناء دراستهم على الاستظهار والحفظ، لا على القوى العقلية السامية الأخرى: من التعقل والموازنة، والابتكار، والاستنباط. وقال: إن الطالب المصري يعتمد في تحصيله على ذاكرته، وعلى التكرار الآلي للحقائق المحفوظة، لا على ذكائه وتفكيره، فينشأ عن ذلك ضيق أفقة، وجهله بالحوادث المعاصرة، وحاجته الشديدة للمعلومات العامة وللسرور والإقبال على ما يدرس2. لم يكن "دانلوب" مخلصًا لمصر، بل كان استعماريًّا من النوع الذي يسيئ لبلده وللبلد المحكومة على السواء، فسياسته التعليمية لم تكن هي التي تنتهجها إنجلترا في تعليم أبنائها، وتربية شبابها؛ لأن الإنجليز قد اشتهروا بنوع من التربية فيه كثير من المزايا، التي تبعث في الشباب الحرية في العمل والتفكير، والاعتماد على النفس، والمغامرة في الحياة وارتياد مجهولاتها؛ وبفضل هذه التربية الاستقلالية التي لا تجدها نظم مدرسية صارمة، ولا قوة قوانين ظالمة ولا مناهج غاصة بالتافه من المعلومات، وإنما عمادها الطبيعة، طبيعة الوجود، وطبيعة

_ 1 مستقبل الثقافة في مصر للدكتور طه حسين ص 170- 171. 2 تقرير م مستر بويد كاربنتر BOYED CARPENTER رئيس التفتيش بوزارة المعارف سنة 1918.

الطفل، ودراسة ميوله وغرائزه، وتنمية ملكاته إلى أقصى حد تستطيع أن تصل إليه، استطاعوا بفضل ذلك كله أن يكونوا في طليعة الأمم، وأن تتسع إمبراطوريتهم وتجارتهم، ولم يرضوا بالحياة الضنكة في ديارهم إذا قتر عليهم في أرزاقهم، بل جابوا البحار، والصحاري، والغابات، واستوطنوها واستغلوها، ثم لما كثرت مصالحهم طالبوا دولتهم بحمايتهم، فبسطت سلطانهم على كثير من بقاع الأرض. ولقد كانت التربية في إنجلترا موضع تقدير من مفكري أوربا، ولا سيما فرنسا التي يعامل فيها الطفل منذ حداثته معاملة الرجال، فيغشى مجالس الرجال، ويستمع إلى أحاديثهم التي يجدر به ألا يسمعها، والتي لا يصح أن يستمع إليها، ويقضي معهم سهرته في الوقت الذي يجب أن يأوي فيه إلى فراشه، ويلبسه أهله السراويل الطويلة تشبهًا بالرجال، وهو في أمس الحجاة إلى الهواء والشمس، وعلى العموم لا يعاملونه معاملة طفل ينمو، له رغباته التي يجب أن تحترم في حدود المعقول، ويجب أن توجه برفق إلى الخير، ولا يتركونه للطبيعة يتملى من محاسنها، ومفاتنها، ويتلقى عنها دروس الحرية والكرم والشجاعة1، وإنما يعاملونه معاملة رجل مثلهم. كانت التربية الاستقلالية هذه معمولًا بها في إنجلترا على الرغم من أن إنجلترا لم تشتهر بعلماء التربية والنظريات التربوية كما اشتهر سواهم من الأمم. ومما يدل على تقدير المفكرين لتربية النشء في بلاد الإنجليز ما قاله العلامة: "جوستاف لوبون" من: "أن المبدأ الأساسي في التربية التي يسير عليها الإنجليز هو أن يقضي النشء زمن الدراسة في المعاهد والمدارس والكليات، لا ليؤديه سواه، ولكن ليتعلم إلى الحد الذي يمكنه من أن يستخدم استقلاله الذاتي استخدامًا نافعًا، فالنشء لديهم يؤدب نفسه بنفسه وبذلك يتصف بهذه الخلة الحميدة ألا وهي ضبط النفس، وهي مصدر الحكم الذاتي"2، وعلى العكس من ذلك كله كانت سياستهم التعليمية في مصر.

_ 1 انظر كتاب "التربية الاستقلالية" أو إميل القرن التاسع عشر، ترجمة عبد العزيز محمد وراجع سر تقدم الإنجليز السكسون ترجمة فتحي زغلول. 2 GUSTAVE LE BON, PSYCHOLOGIE DU SOCALISME P. 197

وظلت سوءات الإنجليز في تعليم الشعب المصري تؤتي ثمارها البغيضة، حتى بعد أن تولى المصريون شئون التعليم، إذ لم يكن من الميسور أن نتخلص من أوضار هذه العهد دفعة واحدة، وقد ظل أكثر من ثلاثين عامًا، وسادت نظمه وقوانينه جميع مراحل التعليم؛ لأن الجيل الذي تربى على أيديهم صار يملك قيادة المصريون في التعليم، ويوجههم تلك الوجهة التي تربى عليها في صغره؛ لأن الفساد كان أعظم من أن يزول في سنوات معدودات، ولذلك ظلت آثامه ردحًا غير قليل من الزمن تسيطر على المدرسة المصرية، وفي ذلك يقول الدكتور طه حسين: "وهناك التعليم الرسمي المدني تنشئه الدولة وتقوم عليه، وقد كان إلى الآن متواضعًا هين الأمر، يقصد به أغراض متواضعة هينة، وقد رسم له الإنجليز طريقة محدودة ضيقة، فأفسدوه وأفسدوا نتائجه وآثاره أشد الفساد ونحن نبذل منذ أعوام جهودًا مختلفة مضطربة لإصلاح ما أفسد الإنجليز، فلا نكاد نوفق في بعض الأمور، حتى تعدو العاديات فتردنا إلى الإخفاق والخذلان"1. وشكت الجامعة مر الشكوى من أن طلبتها ليسوا في مستوى ثقافي يمكنهم من الدراسة الجامعية الصحيحة؛ ولأنهم ليسوا في مستوى عقلي يخلق منهم علماء أجلاء لديهم قوة الابتكار، وحرية الفكرة، والاستقلال في الرأي، وإليك ما يقوله نجيب الهلالي "باشا" في تقريره عن التعليم الثانوي سنة 1935: "ذلك إلى أن جميع المعاهد تشكو من أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العالية، من حيث روح التعقل، وقوة الملاحظة، والاعتماد على النفس، وحب البحث، حتى إنهم يضرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء. مما يعوق الدراسة العالية في صورتها الكاملة"2. ويقول الدكتور طه حسين: "فما زال الشبان يأتون إلى الجماعة ضعافًا قاصرين، وما زال الشبان يستقبلون حياتهم جاهلين لها، عاجزين عن التصرف فيها، ضعافًا عن أن ينهضوا بأعبائهم: يذهبون إلى الدواوين موظفين فتشكو

_ 1 الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ص 72 سنة 1938. 2 تقرير الهلالي "باشا" ص 1- 2.

الدواوين من سوء إعدادهم للعمل فيها، ويعرضون أنفسهم على أصحاب الأعمال الحرة، فلا يكادون يجربونهم حتى يزهدوا فيهم ويعرضوا أشد الإعراض عن استخدام زملائهم؛ لأنهم لم يعدوا للأعمال الحرة إعدادًا صالحًا1. لقد كان هَمُّ الإنجليز الأول من هذه السياسة التعليمية الفاسدة أن يخرجوا طبقة من الموظفين الحكوميين، لم يتعمقوا في الدراسة، ولا يصلحون للقيادة، بل يكونون آلات في أيدي رؤسائهم من الإنجليز وأتباعهم. كان لهذا ولا ريب تأثير كبير في الأدب؛ لأنه صبغ حياة الموظفين بصبغة مادية رخيصة، ألا وهي السعي وراء الوظيفة، لا يبغون بها بدلًا، ولا يستطيعون عنها حولًا، ولا يعرفون كيف يفكرون في سواها لاكتساب العيش إذا تطردوا منها، كأنهم السمكة جف من حولها الماء، أو الطيور حرمت الهواء. وشعب هذه حال المثقفين فيه لا ينظر إلى الأدب إلا بمنظار المادة، ولا يرى فيه ما يراه الغربيون من أنه وسيلة للتعبير عن مشاعر الأديب أيًّا كانت هذه المشاعر والأحاسيس التي تفيض بها القلوب، ووجداناتهم. ولذلك انصرف الأدباء إلى تملق الرؤساء، وأصحاب الحول والطول، يمدحونهم أحياء ويرثونهم أمواتًا وقلما ركن أحدهم إلى نفسه يسمع هتافها الخالص، ونداءها الحر، فيسجله شعرًا صادرًا من أعماق فؤاده، وطيات نفسه، ويخرج به على الناس، براء من المديح والمداهنة، والمخادعة والملاينة، والنفاق الاجتماعي والغرض المادي، ويأتي به صورة صحيحة لما يجيش في نفسه من خواطر، ويعتلج في حناياها من مشاعر، ويعتمل فيها من فكر. ومن العجيب أن الثورة الفكرية، التي أحدثها السيد جمال الدين الأفغاني بمصر، وحمل مشعلها تلاميذه من عبده، قد أطفأها الإنجليز بطريقتهم العقلية في الثقافة والتربية، ولم ينج من شرهم إلا نفر قليل شاهدوا هذه الثورة الفكرية في عنفوانها، ورضعوا أفاويقها فظلوا إلى أوائل هذا القرن يحملون المشعل، ويهدون الأمة سواء السبيل.

_ 1 الدكتور طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر ص 223.

أما الشعراء فلم يتأثروا بهذه الثورة في قليل أو كثير، ولم يلتفتوا كما التفت الكتاب إلى الشعب يفصحون عن علله وأدوائه وآلامه وآماله، ويغذوا فيه تلك الروح الوثابة، بل انصرفوا إلى الأمراء والوزراء، وذوي الجاه والمال يتملقونهم ويستجدونهم، لقد صار النثر بفضل ثورة جمال الدين ومحمد عبده وعبد الله نديم والمويلحي وأضرابهم معبرًا عن حاجات الشعب، بينما ظل الشعر بمنأى عن رغباته ومطالبه، مكيلًا بقيود الماضي. حتى هؤلاء الذين تتلمذوا على البارودي لم يحاكوه في نبل أغراضهن وصدق عاطفته، وجمال تصويره لبيئته، لقد كان البارودي صادقًا في شعره حين يصف الريف المصري وما فيه من مناظر وزرع نضير، وهدوء، وشمس ضاحية صافية، وظل وريف: وحين يرثي أحباءه وأقاربه وأصدقاءه، وحين يصف بطولته وشجاعته في ميادين القتال، ويصف بجانب هذا الميدان وطبيعته، والأعداء وأحوالهم: حين يعبر عن ميوله السياسية، وما قاساه على يد الخديو من اغتراب ومحنة، وحنين إلى الأهل والوطن، ولم يمدح البارودي إلا نادرًا، ولم يرث إلا صديقًا حبيبًا. وعلى العكس منه نرى هؤلاء الذين انتهجوا نهجه في الأسلوب، واغترفوا من تلك الينابيع العربية التي وردها، نراهم مداحين، هجائين، ندابين لكل عظيم ويقول الدكتور طه حسين: "وأصبح الشعر بفضل الشعراء، وكسلهم العقلي فنًا عرضيًا لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة. وإذا أرادت "دار العلوم" أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما يقولون طلبت إلى شوقي والجارم وعبد المطلب أن ينظموا لها قصائد، فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه، وأريد الاحتفال بتكريمه طلب إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في المدح والرثاء، فنظموا كما كان ينظمه القدماء، فانحط العشر حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمأتم، وأصبحنا لا نتصور

حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا أو مأتمًا بغير مغنٍ أو مرتل قرآن. فأما الشعر الذي يقال لنفسه، الذي يقال ليحلو مظهرًا من مظاهر الجمال الطبيعي. الذي يقال ليكون صلة بين نفس الشاعر ونفس القراء، الذي يقال لا يلتملق عاطفة من العواطف، أو هوى من الأهواء، فلا تلتمسه عندنا، ولكن التمسه عند قوم آخرين عرف شعراؤهم لأنفسهم كرامتها فربئوا بها عن أن تكون أداة للهو والزينة"1. وكان جمهور المثقفين يطرب لهذا النوع من الأدب؛ لأنه لا يعر ف غيره، ولأنه يحاكي تلك الألوان التي عرفها في المدرسة من الأدب العربي القديم، ووعتها حافظته. وفضلًا عن هذا كله فإن هذا النوع من الأدب كان نتيجة لازمة للتربية الإنجليزية في مصر، التي اهتمت بتنمية الذاكرة، وقدرتها على الاستيعاب، وأهملت المواهب الإنسانية الأخرى كالتفكير والتأمل، ودقة الملاحظة، والابتكار العقلي، والحرية في الرأي. ويقول مستر "مان" في تقريره عن التعليم في مصر زمن الإنجليز: "يشهد الإنسان التلاميذ بالمدارس المصرية مشتغلين في الغالب. إما بالإصغاء إلى المعلم، وإما بتدوين مذكرات، أو تذكر ما استظهروا، وإما بعمل تمرينات متماثلة، وبسرعة واحدة، وتحت رقابة صارمة، ويندر أن يقع النظر على التلاميذ يعملون عملًا مستقلًا، أو يطالعون مطالعة خاصة". ويقول في موضع آخر من تقريره: "إن من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى التدليل أن طريقة الاستظهار ليست بالطريقة الصالحة لتحصيل العلم، إذ إن كل محاولة لاستعمال قوة الحفظ، وهي من المدارك الدنيا -بدلًا من قوة الفهم- وهي من المدارك العليا، لا بد من أن تؤدي إلى إضعاف قوى التصور، والتعقل والاستنباط؛ لأن الملكات التي لا تستخدم يصيبها الوهن2.

_ 1 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص 149- 150. 2 تقرير مستر "مان" ص 42.

ويقول اللدكتور هيكل؛ ويجب أن نعترف، ونفوسنا يملؤها الحزن والأسى، أن تربيتنا وتهذيبنا، لم يعد أكثريتنا للتأثر الفردي، والإحساس الذاتي، فهما يرسمان أمامنا مختلف صور الحياة. ويتركان لحسنا ولفكرنا أن يميز من هذه الصور ما يأخذه بهما ويلفتهما لفتات خاصة. بل هما يجيئان بصور الحياة مصبوبة في قوالب قررتها الجماعة في عصور سالفة فيطبعانها في حسنا وفكرنا طبعًا يقيدهما بهذه القوالب، ويكرههما على الخضوع لها والإيمان بها1. ويقول في موضع آخر: "وإنما رجاؤنا أن تصدر الثورة المجددة التي ينبعث أصحابها في طلب الكمال الشعري لذاته عن الجيل الجديد، الذي يتلقى العلم اليوم، والذي نجاهد كلنا في سبيل تلقينه إياه، على غير تلك القواعد القديمة، التي كانت تبعث الجمود في الأذهان والقلوب والعواطف. وعلينا إذا أردنا معاونته على القيام بهذا الواجب أن نهاونه على تقرير حرية العاطفة بمقدار ما أعناه على تقرير حرية الفكر، وأن نوسع أمامه من أفاق الفن بمقدار ما نوسع من أفاق العلم، وأن نعرض عليه من صور الحياة الماضية والحاضرة ما يسمح له بحرية الاختيار، فإذا نحن قمنا بهذا الواجب كان لنا أن نؤمل من بين هذا الجديد، في أولئك الأفذاد الذين يقيمون صرح الشعر على أسس صالحة، والذين يجعلوننا نحس إذ تنشد شعرهم بائتلاف جواب نغمته مع سائر أنغام الحياة الحضارة وصورها، بدل أن نرى أنفسنا كمن يشدو بقيثاؤته وسط الأطلاق، ويريد أن يبعث أمام خياله حياة ليس لها بشيء مما في حياته اتصال2. عمد الشعراء إلى استظهار كثير من الأدب العربي القديم، حتى يستقيم لهم الأسلوب ويتملكوا ناصية القافية، ويكثر محصولهم من الكلمات والتعبيرات. بيد أن هذا الاستظهار أورثهم الجمود، والتقليد للأدب العربي القديم: في أساليبه،

_ 1 ثورة الأدب ص 65. 2 نفس المصدر ص 74.

وصور بيانه من كناية واستعارة وتشبيه ومجاز، وفي موضوعاته. ولم يستخدموا اللغة التي أحاطوا بمفرداتها في أغراض عصرهم، وتصوير بيئتهم، والتعبير عن خلجات نفوسهم، وهزات مشاعرهم، في صور من البيان جديدة مستمدة من بيئتهم الحضرية. وهزات مشاعرهم، في صور من البيان جديدة مستمدة من بيئتهم الحضرية. ومدنيتهم الحديثة، وإنما احتذوا حذو الشعراء الأقدمين في كل شيء وعارضوهم في مشهورات قصائدهم1. وإذا كان المديح، والتهاني، والرثاء، من خير ما ورثناه عن الشعر العربي القديم، وإذا كان الشعراء الذين سلكوا هذا الطريق خلدوا في الأدب العربي؛ فما ذلك إلا لأن عصرهم كان يمجد هذا النوع من الأدب، ولأن الحياة الاجتماعية كلها تدور حول الأمير، بيده السلطات: الدينية والدنيوية، وهو ووزراؤه. وأهل بيته أصحاب الجاه والمال، وهو المتصرف المطلق في حياة الشعبِ، إن كان صالحًا سار فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، وحكم بالعدل. إن كان فاسدًا ذاقوا على يديه، وعلى أيدي ولاته ضروب الذلة والمهانة، فلا بدع إذا أغدق الشعراء على هذا الأمير الثناء؛ ليحرضوه على فعل الخير، وليرسموا له الطريق الصالحة التي تسعد الشعب وتسعدهم2. ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة العلاء من أين تؤتي المكارم وبذلك كان الأدب في العصور الإسلامية السابقة أدبًا أرستقراطيًا. أما نحن فقد تغيرت بنا صروف الزمن، ولم يعد الأمير هو كل شيء في حياتنا، وصارت للشعب حقوق يجب أن تحترم، وآمال لا بد أن تتحقق، وصارت الأمة تنادي بأنها مصدر السلطان، ولم يعد الأمير وحاشيته ووزراؤه هم مصدر المال دون سواهم، بل تعددت سبل الكسب أمام الشعراء فلا معذرة لهم. لم يفطن أدباؤنا إلى كل ذلك، بل نقلوا إلينا الأدب القديم في كل صوره، وعارضوا كبار الشعراء في العصر العباسي، أمثال أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، فجاءت قصائدهم في كثير من معانيها وألفاظها بياتها وصور بيانها متأثرة بقصائد الأولين.

_ 1 الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ص 72 سنة 1938. 2 تقرير الهلالي "باشا" ص 1- 2.

إن اللغة توفيقية ما في ذلك ريب. ولا بد للأديب الذي يبغي التفوق والخلود من أن يلم بها إلمامًا تامًا، ويعرف أسرارها ودقائقها وشتى أساليبها، ولمن يتأتى له ذلك بإدمان القراءة في كتب الأدب قديمها وحديثها، وحفظ الجيد من روائع الشعر والنثر، ولكن الذي نلوم عليه الشعراء في ذلك الوقت هو جمودهم، وتقليدهم لهذا الأدب موضوعًا وأسلوبًا وبيانًا، مع أن صور البيان القديمة لا يناسب كثير منها العصر الذي نعيش فيه. إن ألفاظ اللغة مثل اللبنات التي يشيد بها البيت، وهندسة البيوت تتغير من عصر إلى عصر تبعًا لحالة الناس من البداوة والحضارة، والغنى والفقر. والتعليم والجهل، فإذا كنا في عصرنا الحاضر نشديد بيوتًا كما كان يشيدها العرب في العصر العباسي، ولا نلتفت إلى ما يتطلبه عصرنا، وما عرفناه عند غيرنا من فن حديث في البناء، كان ذلك ولا شك سوء استعمال. وإذا وصف "شوقي" مركب أم المحسنين بالهودج، مع أنها كانت تركب سيارة فخمة تطوي الأرض طيًّا، وحفلت بشتى ألوان الراحة، كان ذلك أيضًا سوء استعمال، وسوء اختيار. والله در حافظ إبراهيم حين وصف الشعر في ذلك الوقت، وصرخ صرخة مدوية يطلب فيها التجديد بقوله: ملأنا طباق الأرض وجدًا ولوعة ... بهند ودعد والرباب وبوزع وملت بنات الشعر منا مواقفًا ... بسقط اللوى الرقمتين ولعلع وأقوامنا في الشرق قد طال نومهم ... وما كان نوم الشعر بالمتوقع تغيرت الدنيا وقد كان أهلها ... يرون متون العيش ألين مضجع وكان يريد العلم عيرًا وأينقًا ... متى يعيها الإيجاف في البيد تطلع فأصبح لا يرضى البحار مطية ... ولا السلك في تياره المتدفع وقد كان كل الأمر تصويب نبلة ... فأصبح بعض الأمر تصويب مدفع ونحن كما غنى الأوائل لم نزل ... نغني بأرماح بيض وأدرع عرفنا مدى الشيء القديم، فهل مدى ... لشيء جديد حاضر النفع ممتع

وحين قال مخاطبًا الشعر: ضعت بين النهى وبين الخيال ... يا حكيم النفوس يابن المعالي ضعت في الشرق بين قوم هجود ... لم يفيقوا وأمة مكسال قد أذالوك بين أنس وكاس ... وغرام بظبية أو غزال1 ونسيب ومدحة وهجاء ... ورثاء وفتنة وصلال حملوك العناء من حب ليلى ... وسليمى ووقفة الأطلال وبكاء على عزيز تولى ... ورسوم راحت بهن الليالي وإذا ما سمعوا بقدرك يومًا ... أسكنوك الرجال فوق الجمال فارفعوا هذه الكمائم عنا ... ودعونا نشم ريح الشمال2 نعم إن حافظًا قد رغب في التجديد، ولكنه لم يستطع التجديد إلا في حدود ضيقة؛ إذ جدد في أغراضه، وإن لم يجدد في صوره. وسنخصه ببحث طويل إن شاء الله. ولكن صيحته هذه تدل على ما كان عليه الشعر في أول عهده، وعلى الرغبة الملحة في مسايرة العصر ومقتضياته: لقد جنى الإنجليز بسياستهم التعليمية على الأدب بعامة، وعلى الشعر بخاصة، وإذا كانت هناك نهضة في الأدب بعد ذلك فهي ليست ثمرة تعليمهم، وإنما هي نتيجة بواعث أخرى سنذكرها فيها بعد إن شاء الله. رأى "كرومر"بعد أن فرغ من الإصلاحات المالية والداخلية التي منَّ بها علينا في كتابه "مصر الحديثة" وفي خطبة الوداع التي ألقاها حين غادر مصر، وعدد فيها ما ظنه خيرًا قدمه لمصر، رأى بعد هذا أن يلتفت إلى نشر الثقافة الإنجليزية بالبلاد. ونسى أن إصلاحاته المالية والداخلية كلها قد أحبطتها سياسته التعليمية حتى دعت شاعرًا مثل حافظ أن يقول مخاطبًا "اللورد كرومر":

_ 1 أذالوك. أهانوك ولم يحسنوا القيام عليك. 2 ريح الشمال؛ كناية عن أوربا والأدب الغربي.

تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى ... وأن أصبح المصري حرًّا منعمًا أعد عهد إسماعيل جلدًا وسخرة ... فإني رأيت لمن أنكى وآلمًا عملتم على عز الجماد وذلنا ... فأعليتم طينًا وأرخصتم دمًا إذا أخضبت أرض وأجدب أهلها ... فلا أطلعت نبتًا ولا جادها السما وإلى أن يقول مودعًا ومشيرًا إلى مأساة التعليم على عهده: يناديك قد أزريت بالعلم والحجا ... ولم تبق للتعليم يا لرْد معهدًا وأنك أحصبت البلاد تعمدا ... وأجديت في مصر العقول تعمدا وأودعت تقرير الوداع مغامرًا ... رأينا جفاء الطبع فيها مجسدًا يناديك: أين النابغون بعهدكم ... وأي بناء شامخ قد تحددًا فما عهد إسماعيل والعيش ضيق ... بأجدب من عهد لكم سال عسجدًا وليس هذا كل ما جناه كرومر على عقول المصريين، فمساعيه في نشر الثقافة الإنجليزية في البلاد عنوة وفرض اللغة الإنجليزية على البلاد قسرًا قد جعلت عهده من أسوأ العهود التي مرت على مصر العربية الإسلامية. راع كرومر حينما فكر في نشر الثقافة الإنجليزية ذلك البناء الضخم من الثقافة الفرنسية الذي شيدته همم الإرساليات التبشيرية، البعثات العلمانية، وتشجيع الحكومة الفرنسية وأموال رجال الاقتصاد والأعمال من أهل فرنسا، وهالته كثرة المدارس الفرنسية بمصر، وحماس هؤلاء الذين تعلموا بها، أو في فرنسا ذاتها لنشر اللغة الفرنسية بمصر، وحماس هؤلاء الذين تعلموا بها، أو في فرنسا ذاتها لنشر اللغة الفرنسية، وآدابها، ورأى أن الفرنسيين قد بذلوا غاية جهدهم لمساعدة هؤلاء الذين يتخرجون في مدارسهم فاشترطوا على الإنجليز -أول سني الاحتلال- أن يظل لهم النفوذ الأول ببعض المصالح الحكومية، كما كان قبل الاحتلال، فخلصت لهم إدارة مصلحة الآثار المصرية، التي أشرفوا عليها منذ أن اكتشف "حجر رشيد". وخلصت لهم كذلك إدارة مدرسة الحقوق، واستولوا بأموالهم وقروضهم وشركاتهم، ومؤسساتهم التجارية على أكثر من نصف المصالح الاقتصادية والأموال المنقولة بمصر1 ووجد الشبان المصريون

_ 1 جاء في تقرير لجنة الشئون الخاريجة بمجلس النواب الفرنسي حين عرضت عليه معاهدة "منترو" لإلغاء الامتيازات الأجنبية بمصر. أن رءوس الأموال الأجنبية بها تبلغ 50 مليارًا من الفرنكات من مجموع ما فيها من رءوس الأموال المنقولة وقدره 55 مليارًا وأن للفرنسيين وحدهم من الأموال التي يملكها الأجانب 30 مليارًا من الفرنكات "الأهرام 10 يونيو 1938".

والأجانب الذين يتخرجون في مدارسهم مجال العمل فسيحًا في شركاتهم ومؤسساتهم الاقتصادية والمالية كما ذكرنا آنفًا. ولانتشار نفوذهم بين الأجانب وإقبالهم على مدارسهم صارت اللغة الفرنسية هي لغة المعاملات التجارية سواء بين الأجانب بعضهم وبعض أو بينهم وبين المصريين، واضطرت المحاكم المختلطة أن تصدر تسعة أعشار أحكامها باللغة الفرنسية، فضلًا عن المواطنين الذين يجب عليهم أن يحسنوا هذه اللغة ليتعاملوا مع جمهور المتقاضين. وعلى الرغم من الاحتلال الإنجليزي، وطول أمده. والمحاولات التي بذلها كرومر، وبذلها "دانلوب" من بعده فقد ظلت اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى في السوق المصرية ردحًا طويلًا وظلت كذلك لغة التخاطب بين الأجانب المختلفي الجنسية المقيمين بمصر. لقد استجابت فرنسا والفرنسيون لنصيحة نابليون التي يقول فيها: "علموا اللغة الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن الحقيقية". رأى كرومر المستعمر الإنجليزي الأول كل هذا النفوذ للثقافة الفرنسية، ورأى أن قدم الاحتلال لن تطمئن بهذه الديار إلا إذا عمل على إضعاف هذا النفوذ الفرنسي المكين ومكن للغة الإنجليزية، وأجبر المصريين على قبولها لغة أجنبية لها المكانة الأولى في البلاد وقد سلك في تحقيق هذه الغاية عدة طرق منها: الكف عن إرسال البعثات إلى أوربا بعامة، وفرنسا بخاصة؛ لأنه رأى رأى العين ما قدمه رجال البعثات لوطنهم من أياد بيضاء في كل سبيل من سبل النهضة، وكل باب من أبواب القوة، منذ عصر محمد علي حتى زمن الاحتلال المشئوم، وأن هؤلاء الرجال الذين اختيروا من صميم الريف صاروا فيما بعد القادة المفكرين، والعلماء الناصحين، والساسة القادرين، وأنهم نهضوا باللغة العربية نهضة عظيمة فدبت فيها روح الحياة، وأخذت تستعيد سابق قوتها بترجمة كثير من الكتب العلمية في الطب والهندسة، والحيل "الميكانيكا"؛ والرياضة والقانون والجغرافيا والتاريخ، والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك على النحو الذي فصلناه في الجزء الأول من هذا الكتاب.

أجل! بدأت اللغة العربية تساير ركب الحياة وتعني بالمصطلحات العلمية التي زودها بها هؤلاء العلماء الأجلاء الذين عكفوا على الكتب العربية القديمة ينقبون فيها عما عساه يصلح للحضارة الحديثة؛ فإن استعصى عليهم شيء عربوه، أو وضعوا له كلمات. رأى كرومر هذا الأثر الجليل الذي يتركه رجال البعثات في مصر، فعز عليه أن تظل هذه النافذة التي ينسكب منها نور العلم على ربوع وادي النيل مفتوحة، وهو الذي يريد أن يمكن للاستعمار في هذه الديار، ولن يتأتى له ما يريد إلا إذا ظلت مصر في ظلام دامس، تتخبط في طريق مضلة، متخلفة عن ركب المدينة، لا تجد لها قائدًا رشيدًا ولا تسمع رأيًّا سديدًا فيوجهها الغاصبون كما يشاءون: ولهذا أرغم الحكومة المصرية على إلغاء البعثات إلى فرنسا؛ فصدر بذلك قرارها في أواخر أغسطس سنة 1895، وكان لهذا القرار ضجة صاخبة في الجرائد المصرية والفرنسية على السواء1. ولقد نجم عن هذه السياسة الاستعمارية البغيضة أن ضعف نفوذ اللغة العربية على مر الأيام حتى تجني عليها بعض ساستهم، ورماها بالفقر والعقم، وفي ذلك يقول "اللورد جراي" حين سئل في مجلس العموم البريطاني عن تعليم اللغة العربية بمصر: "لا تصلح اللغة العربية اليوم لتعليم العلوم إذ تفتقر إلى الاصطلاحات العلمية والفنية"2. ولست أدري كيف ينتظر الإنجليز من اللغة العربية أن ترقى، وتعني بالمصطلحات العلمية والفنية، وقد أوقفوا تيارها المتدفق وحالوا بينها وبين العلوم الحديثة في بلاد الغرب؟؟. وكان من الطبيعي كذلك أن يتناقص عدد المثقفين الذين يستطيعون التدريس بالمعاهد المصرية العالية، فحل محلهم إنجليز يلقون دروسهم بلغتهم، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الترجمة، أو أن تكون ثمة واسطة بينهم وبين الطلبة كما كان الشأن في عهد محمد علي. ولم يكن الطلبة المصريون قد حذقوا اللغة الإنجليزية إلى الدرجة التي تمكنهم من فهم ما يلقى عليهم لأول وهلة، ولذلك

_ 1 راجع المؤيد عدد سبتمبر 1895، ومصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي طـ ثانية ص 60. 2 جريدة اللواء 3 مارس 1907.

لجئوا إلى الحفظ والاستظهار، كي ينجحوا في الامتحان وصاروا آلات صماء لا تفكر ولا تعي، ولا تقدر على الابتكار أو التجديد، وبعد كل هذا نسمع من أحد علمائهم وهو السير "وليام ولكوكس" المهندس المشهور يقول في طلبة مدرسة الهندسة: "لقد كنا نؤمل خيرًا كثيرًا في طلبة مدرسة الهندسة في الأيام الأخيرة، بيد أنهم لم يبتدعوا شيئًا ذا بال، وكل ما عملوه أنهم نقلوا أفكار من كانوا أسعد منهم جدًّا، وتعلموا دروسهم. وقرءوها في كتبهم"1. وطالما ألح المصريون على الإنجليز في أن تستأنف البعثات العلمية طريقها إلى أوربا، ولكنهم كانوا يجيبون في غطرسة بالغة: بأن المصريين ليسوا أهلًا للتدريس بالمعاهد العالية، ولو تلقوا علومهم في معاهد الغرب، ولم يكتفوا بهذا بل عبثوا بمدرسة المعلمين "الخوجات" التي كانت تعد المصريين لتدريس اللغات الأجنبية، والرياضة والعلوم "النورمال فيما بعد"، وصاروا يفتحونها عامًا، ويلغونها عامًا، فأصبح لا يقصدها إلا كل مرتاب في مستقبله، عالم أن منتهى أمره أن سيكون معلمًا صغيرًا في مدرسة ابتدائية بمرتب يتناول مثله كاتب بسيط في أحد الدواوين2. ولما لم يجد الإنجليز من المصريين من يصلح للتدريس في المدارس الثانوية -بعد أن حالوا بينهم وبين الاستعداد لتلك المهمة- تذرعوا بذلك، وملئوا المدارس الثانوية بالإنجليز، وكان من الطبيعي أن تحول الكتب من العربية إلى الإنجليزية. بل إنهم فرضوا على تلامذة المدارس الابتدائية أن يتعلموا اللغة الإنجليزية، وجعلوا إتقان هذه اللغة شرطًا للتوظف في الحكومة، وأرغموا المرحوم على باشا مبارك على أن يصدر قرارًا في سنة 1889 ينص فيه على أن تكون لغة التعليم في المدارس المصرية هي اللغة الإنجليزية. وظل على هذا المنوال ردحًا غير قصير من الزمن، والمصريون يلحون في عودة اللغة العربية إلى المدارس المصرية، والإنجليز يصمون آذانهم، ويسيرون لطيتهم حتى بلغ التذمر غايته في سنة 1908، وندد عقلاء المصريين بهذه السياسة المعوجة التي تهدف إلى القضاء على اللغة العربية، وحرمان مصر أقوى دعائم شخصيتها المتميزة بها عن سواها، وفي ذلك يقول عثمان "باشا" غالب:

_ 1 sir william willcocks: syria. egypt, north africa and multa speak punie, not arabic. 13 london 1926. 2 الشيخ على يوسف: المؤيد 2 مارس 1907.

"عرف الإنجليز أن أحسن واسطة لمحو وجود الشعب، واستقلاله، أي لقتله أدبيًّا، هو محو لغته الوطنية أو إضعافها، ألم يعرف ذلك الإنجليز المحبون للتوسع في الملك من التواريخ القديمة؟ إنهم عرفوه، ولكن يبلغوا إلى هذا الغرض ساروا تحت رداء الشروع في الإصلاحات. فألفوا الجمعيات، واللجان عقب اللجان، بمهارة وفكر، وكانت نتيجة مناقشتهم أن قرروا أمورًا كانت مكتوبة ومسجلة من قبل، ويكفيني لإثبات هذا الأمر للناس أن أحول أنظارهم إلى تلك الطرق التي اتبعوها لمحو اللغة الفرنسية من مدارسنا1. ولا جدال في أن وقف البعثات إلى فرنسا قد أضعف نشر الثقافة الفرنسية في البلاد، وبخاصة على أيدي هؤلاء الذين كانوا يغشون معاهد فرنسا ويعودون حاملين لواء الثقافة الفرنسية، ولما أبرمت معاهدة سنة 1904 بين إنجلترا وفرنسا، تلك المعاهدة التي أطلقت يد إنجلترا في مصر، على أن تخلص مراكش لفرنسا، هدأ بال الإنجليز نوعًا ما؛ لأن فرنسا كانت متزعمة مناهضتهم بمصر؛ وطالما رأى فيها طلاب الحرية من المصريين نصيرًا قويًّا يفسح لهم صدره، ويشجعهم في صحفه وأنديته2. وقد شجع ذلك مستر "دانلوب" بعد أن عين مستشارًا للمعارف على أن يقوض آخر المعاقل الفرنسية في المدارس المصرية، فأخذ في مضايقة "مسيو لامبير" ناظر الحقوق، حتى اضطره إلى التخلي عن وظيفته وعين بدلًا منه مستر "هيل" الإنجليزي، وفي ذلك يقول "ميسو لامبير" منددًا بسياسة دانلوب ومظهرًا عوار طريقته في التعليم: "وقد حارب المستر دانلوب تقدم التعليم الفرنسي في مدرسة الحقوق بلا تبصر، على حين أن تعليم الحقوق في هذه المدرسة لا يزال تعليمًا فرنسيًّا، ما دامت قوانين البلاد لم تغير تغير كليًّا. وقد مثل رواية مضحكة للتعليم العالي في مدرسة الحقوق فوقف تعيين ما يحتاج إليه القسم الفرنسي من الموظفين، وحجته في ذلك أن مصير هذا القسم إلى الزوال في القريب العاجل، وطرد من القسم الأكبر وهو الذي تدرس فيه الحقوق الفرنسية باللغة الإنجليزية الأساتذة الأكفاء الذين قاموا بأمره في مبدأ تأسيسه، وهم من القضاة الذين

_ 1 مقالة النهضة المصرية ومسألة التعليم -عثمان باشا غالب- اللواء 6 مارس 1907. 2 راجع تاريخ مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 169 ط ثانية.

أفادتهم إقامتهم الطويلة في الديار المصرية خبرة بأسرار قوانينا، واستبدل بهم شبانًا من الإنجليز يعينون بمجرد تخرجهم في الكلية الإنجليزية فيقدمون إلى مصر وهم والطلبة المكلفون بتعليمهم سواء في الجهل بالقوانين المصرية1. ثم التفت الإنجليز بعد ذلك إلى المدارس الفرنسية بمصر، ورأوا أن خير وسيلة لإضعاف نفوذها، والتقليل من الإقبال عليها أن يظهر عميدهم بمظهر الغيور على مصلحة المصريين، الذي يخشى من طغيان الثقافة الأجنبية على من يغشي المدارس الفرنسية منهم، ولذلك أوجب تعلم كل العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس المصرية، ليجد المصريون فيها غناء عن المدارس الأجنبية، ويحذقون في الوقت ذاته لغة حية راقية من اللغات الأجنبية وهي الإنجليزية، وشجع كرومر الإنجليز على العمل بالمدارس المصرية معلمين ونظارًا، وعمل هؤلاء من جانبهم على الدعاية للغة الإنجليزية، وصبغت المدارس العالية كالطب، والزراعة، والهندسة، والمعلمين، بصبغة إنجليزية خالصة، فلم يجد الطالب مندوحة إذا أراد أن يتم تعليمه العالي إلا أن يجيد اللغة الإنجليزية حتى يستطيع متابعة الدراسة في المدارس العالية؛ بل اشترط كرومر على كل موظف بالدولة أن يجيد هذه اللغة، ليتمكن من التفاهم مع رؤسائه الإنجليز الذين استولوا على كل المصالح والدواوين. وبهذا قل نوعًا ما نفوذ الثقافة الفرنسية في كثير من مصالح الدولة ومعاهدها. بيد أن هذا لم يذهب كل ما لها من قوة، بل أتى اضطهاد كرومر لها بنتيجة لم يكن ينتظرها، وذلك لأنه أخطأ السبب الحقيقي الذي دفع بالمصريين والأجانب للتعليم في المدارس الفرنسية، وذلك السبب هو أن التعليم بالمدارس الفرنسية، كان أرقى نوعًا وأتم نظامًا منه في المدارس الأخرى، ولم يكن وراءه غاية استعمارية ظاهرة، ولو كان السبب هو مجرد رغبة المصريين في تعلم لغة أجنبية لقل الإقبال على المدارس الفرنسية منذ أن فرضت اللغة الإنجليزية على المدارس

_ 1 نشر مسيو لامبير مقالة طويلة عقب إقالته من منصبه في جريدة "الطان" الفرنسية، وهي وثيقة مهمة تبين مبادئ دانلوب في التعليم، وقد ترجمها اللواء، راجع مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 345- 349.

المصرية في سنة 1889، ولكننا رأينا العكس، إذا اشتد الإقبال على هذه المدارس1 حتى صار عددها مائة وعشرين مدرسة بها ما يزيد عن اثنين وأربعين ألف تلميذ وتلميذة، ولم تفلح كل الوسائل التي قدمها الإنجليز لجذب الأجانب المقيمين بمصر للإقبال على مدارسهم؛ وذلك لأن معظم اقتصاديات مصر كانت في أيدٍ فرنسية، وكانت لا تزال هي اللغة السائدة في السوق المصرية، ولذلك قال أحد علمائهم داحضًا مزاعم هؤلاء الذين تنبئوا بتقلص ظل الثقافة الفرنسية من مصر: "لا حجة لما يقول به المتشائمون من أن نجم فرنسا في مصر قد أفل، وأن لغة أخرى حلت محل الفرنسية في عاصمتي تلك الديار -القاهرة والإسكندرية- وما عليك إلا أن تسير بالشواع الكبرى، حتى تتحقق من ذلك وتسمع بأذنيك باعة الصحف ينادون بأسماء أكثر الجرائد اليومية انتشارًا مثل: "لا بورص إجبشيان، والجورنال دي جيبت، والجورنال دي كير". وإذا شاهدنا عن بعد شخصين مختلفي الجنسية يتحدثان، فتأكد أن الحديث بينهما يدور باللغة الفرنسية فهي اللغة الغالبة، كما أنها لغة السياسة ولغة القضاء؛ لأن تسعة أعشار القضايا التي تعرض أمام المحاكم المختلطة تستعمل فيها اللغة الفرنسية2. لقد كان هذا الصراع بين الفرنسية والإنجليزية على حساب اللغة العربية، فأضعف شأنها، وكاد يؤدي بها لأن الطبقة المثقفة من أبناء الأمة الذين كان يرجى منهم العمل على إحياء اللغة العربية والنهوض بها، صاروا لا يرونها في المدارس إلا لمامًا وأصبحت لغة التعليم لديهم هي اللغة الإنجليزية، وبذلك أحجم كثير من العلماء عن التأليف باللغة العربية كما أن الطلبة عمدوا إلى الحفظ والتقليد في المدارس، وكانوا أبعد الناس عن الابتكار والاستقلال في الرأي؛ لأن هذه اللغة التي فرضت عليهم كانت أجنبية عنهم ولم يجدوا حيلة للنجاح في الامتحان، إلا أن يحفظوا دروسهم بالإنجليزية حفظًا، ولم يفهموا. أضف إلى كل هذا حرمان مصر من البعثات والتعليم العالي الصحيح؛ لأن التعليم العالي الذي كان موجودًا حينذاك

_ 1 راجع المؤيد في 6 مارس 1907. ومناقشة مجلس النواب الفرنسي للتصديق على معاهدة "منترو" في الأهرام 10 يونية 1937. 2 lecarpeniter: l egypt modeern: p. 195- 166.

فرض على الطلبة أن يستقوا العلم من منيع واحد لا يحيدون عنه ولا يعرفون سواء ويتقيدون بوجهة نظر واحدة، ولا يسمعون لها مناقشة أو نقضًا. وهيهات أن يجدي مثل هذا التعليم في تكوين ملكة البحث أو الابتكار، أو التعمق في المادة أو الوقوف على أسرارها. ولقد كان لكل هذا أثر في الأدب الحديث ونهضته: إذ أوقفت اطراد نموه، واكتمال قوته، وجعلته لا يجد سبيلًا للتقدم إلا بتقليد الأدب العربي القديم وحده، لولا بعض أمثلة قليلة ترجمت في تلك الحقبة من الآداب الغربية، لذلك يقول هيوار: ما فتئت اللغة العربية غارقة في الاستعمارات القديمة، وهي لا تستعمل إلا مجموعة من التعبيرات التي لا يتأتى فهمها إلا لأهل الثقافة، مما يحول دون اتصالها بجمهرة الشعب لتحدثهم بما يفهمون فالمقالة السياسية. ومرادفاتها الرامية إلى محاكاة مقامات الحريري إلا فكاهة للقارئ المثقف يتسلى بها. نود أن تأخذ اللغة العربية في المستقبل بجلاء التعبير، وببساطة الأسلوب، فإذا جاء يوم تتحقق فيه هذه الأمنية كان ذلك بداية عهد جديد للآداب العربية"1. وقد كان المقدر للأدب العربي بعد أن نهض في أواخر عهد إسماعيل، وأخذ يتجه صوب الأدب الغربي ليفيد فكرة، ومنهجًا، ويجمع بين ما ورثه عن العرب، وما تقدمه له أوربا، وبعد أن ظهر أمثال محمد عثمان جلال وأديب إسحق ومن شاكلتهما، وبعد أن عرفت مصر في تلك الحقبة ألوانًا مختلفة من الآداب الأوربية، أن تزداد صلة الأدب الغربي، ويأخذ عنه بعض أساليبه، ولكننا نلاحظ كما لاحظ الأستاذ "جب" ضعف المصريين في الأدب إبان هذه السنوات العجاف2، حتى لقد مضى القرن التاسع عشر ولم يظهر فيه إلا شبه قصة مصرية هي ما كتبه محمد المويلحي في "حديث عيسى بن هشام". لقد امتدت يد الإنجليز للغة العربية في كل مكان، ولم يبقَ إلا مدرسة واحدة ظلت اللغة العربية فيها تتمتع بشيء من القوة النسبية، تلك هي "دار العلوم"، ولقد حاولوا مرات أن يصبغوها صبغة إنجليزية لولا تدخل الشبح محمد عبده صديق كرومر، فكفوا أيديهم عنها، وقد رأس الشيخ محمد عبده سنة 1904 الامتحان

_ 1HUART LITTERATUR ARABE. PARIS, 166 1. 2 GIBB: B.S VOL VII. PART. I. P. 2.19.

النهائي لدار العلوم، وقدم تقريرًا لناظر المعارف عن حال المدرسة جاء فيه: "وإني أنتهز الفرصة للتصريح بمكانة هذه المدرسة في نفسي، وما أعتقد من منزلتها في البلاد المصرية، ومن اللغة العربية، وإن الناس لا يزالون يذكرون اللغة العربية، وإهمال أهلها في تقويمها، يوجهون اللوم للحكومة لعدم عنايتها بأمرها، ولم أسمعهم قط ينصفون هذه المدرسة ولا يذكرونها من حسنات الحكومة فإن باحثًا مدققًا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية وأين تحيا، وجدها تموت في كل مكان، ووجدها تحيا في هذا المكان". حقًّا إن اللغة العربية في هذه الحقبة كانت تموت في كل مكان، وتحيا في دار العلوم، ولكن ماذا عساه تقدمه دار العلوم وحدها للغة العربية، والمدارس مصبوغة صبغة أجنبية، وإنجلترا تحاول أن تبدل لسان المصريين العربي إلى لسان إنجليزي، وبيدها السلطان، ووظائف الدولة، وأبناؤها هم رؤساء المصالح وذوو النفوذ فيها؟ إذ كان ثمة خير قدمته دار العلوم في هذه الحقبة للغة العربية فهو حفظها اللغة العربية من الضياع، حتى أتيح لها أن تنهض فيما بعد نهضته قوية فارعة بعد أن تخلصنا من تلك السياسة الاستعمارية المشئومة. ولكن هل نجح الإنجليز حقًّا في إماتة اللغة العربية في كل مكان؟ إذا كانوا قد حاولوا أن يخرجوا جيلًا من المصريين يحذق لغتهم أكثر مما يجيد لغته في المدارس المصرية، فإن الجيل الماضي كان قوي التأثير في الجمهور، وهو المسيطر على الصحافة، والصحافة مدرسة عامة، ولذلك شن الإنجليز حملة شعواء على اللغة العربية الفصحى، وحاولوا أن يقنعوا المصريين بأن سبب تأخرهم في ميدان الحياة. وتخلفهم عن الأوربيين في الابتكار الأدبي والعلمي يرجع إلى تمسكهم بلغة القرآن، والأساليب العربية القديمة. وأن الأولى لهم أن ينهضوا باللغة العامية حتى يسايروا ركب الحضارةِ، فهي لغة حية، دائمة التجديد، ويفهمها جمهور الشعب، ولا نهضة لأمة إلا إذا نهض سواد الشعب فيها، وفهم ما يكتبه العلماء والأدباء، ولن يفهم هذا إلا إذا كانت الكتابة باللغة العامية. استمع لأحد دعاتهم وهو السير "ويليام ولكوكس" في خطبته التي ألقاها في نادي الأزبكية سنة 1893، والتي جعل عنوانها، لم لم توجد قوة الاختراع

لدى المصريين؟ " وذكر أن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لديهم هو استخدام اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة، ونصحهم باتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير الأدبي، اقتداء بالأمم الأخرى واستشهد بالأمة الإنجليزية. وقال: إنها أفادت فائدة كبيرة منذ هجرت اللاتينية التي كانت لغة الكتابة والعلم يومًا ما. وكان هذا الرجل من أشد أعداء اللغة الفصحى، وقد بذل غاية جهده لمحاربتها والقضاء عليها، وقد مكنته الظروف من أن تثول إليه مجلة الأزهر التي كان يحررها إبراهيم "بك" مصطفى والد الدكتور حسن "بك" رفقي، في أواخر سنة 1892. واتخذها منبرًا يتهجم فيه على لغة القرآن. وقد ألقى خطبته السابقة في نادي الأزبكية بالإنجليزية، وقد نشرها مترجمة إلى العربية في مجلته، ولكنها عربية ركيكة سخيفة1. وقد ظل منذ ذلك الحين يكيد للعربية، ويوحي إلى أهلها بأنهم ليسوا عربًا وأن لا صلة لهم ولا للغتهم بالعرب؛ بل ادعى ما هو أدهى؛ إذ زعم أن اللهجة التي يتكلمها المصريون تمت إلى اللغة الفينيقية أو "البونية" كما سماها، انحدرت إليهم منذ أن كان الهكسوس بمصر، وأنه لا صلة لها بالعربية، وأخذ يتلمس لذلك براهين مضحكة في كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا: "سوريا ومصر وشمال أفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية2" وقد نشره في سنة 1926. وفيه عدد الصعوبات التي يجدها المصريون في تعلمهم اللغة العربية، ورأى أن تحل محلها اللغة العامية، وأن يعم التعليم بها، وجعل مدة هذا التعليم عشر سنوات رأى أنها كفيلة بأن تمحو الأمية من مصر، وعلى حد تعبيره "كفيلة بأن تخلص المصريين من السخرة الثقلية التي يعانونها من جراء الكتابة بالعربية الفصحى". ولم يكتف بهذا، لأنه رأى الأمة معرضة عن دعوته الاستعمارية الهدامة، التي تنطوي على تعصب ديني بغيض، وعلى نية استعمارية خبيثة، لأنه وغيره

_ 1 يوجد نص هذه الخطبة في مجلة الأزهر العدد الأول من السنة السادسة سنة 1893. 2 syria, egypt, north aficia , and malta speak punic not arabie

من غلاة الاستعمار الإنجليزي يعلمون أن العربية لغة القرآن، ولغة الشعوب العربية الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، وأنها تربط بينهم برباط وثيق يحمل أمجادهم وتاريخهم وأدبهم، وتراث أسلافهم الفكري الذي به يعتزون, والذي يذكرهم بمجد تليد عليهم أن يعلموا على إحيائه وهم في فجر نهضته عقلية، علم هذا، من ثم أخذ يكيد للعربية، ويحاول تمزيق هذه الوشائح المتينة بين العرب، وبينهم وبين دينهم الذي يدعوهم للعزة والإباء والثورة للحرية، وقد فطن قادة الفكر في مصر إلى هذه الدعوة المسمومة التي روج لها باسم الشعب، وباسم فقدان قوة الاختراع والابتكار، فقاوموها مقاومة عنيفة. ولم يكتف ويلككس بهذا التهجم على العربية، وكان يعتقد كما كان غيره من الأجانب يعتقدون. أن السبب الذي يجعل العامية في مرتبة منحطة، وأن الناس لا يقبلون على تعلمها والاحتفاء بها عدم وجود الكتب الأدبية المؤلفة بالعامية؛ ومن ثم نشط، ونشط غيره ممن يضمر مثل نيته من الأجانب إلى التأليف باللغة العامية، فترجم قطعًا من بعض روايات شكسبير إلى العامية المصرية، قطعة من هاملت، وأخرى من هندي الرابع. فجاءت ترجمة سخيفة، وفقدت هذه الآثار الأدبية قيمتها وجمالها؛ لأن العامية لم تسعفه بالتعبير الصحيح، ولم تستطع أن تنهض بتلك المواقف الخالدة العنيفة1 بل جاءت عبارتها سوقية مبتذلة. وترجم كذلك بعض فصول من الإنجيل إلى اللغة العامية فأساء إساءة كبرى إلى الإنجيل؛ لأن عبارته فيه كانت تتهالك ركاكة وغثاثة وسوقية2. ثم ألف كتابًا علميًّا باللغة العامية هو كتاب "الأكل والإيمان"3 ليبرهن على أن اللغة العامية صالحة؛ لأن تكون لغة العلم: فخالته العامية، ولجأ في كثير من تعابيره إلى الفصحى لتمده بالكلمة الصحيحة، وقد ساقه في صيغة حوار بين تلميذ يسأل وأستاذ يجيب.

_ 1 راجع مجلة الأزهر العدد الخامس -السنة السادسة 1893. 2 طبعت هذه الترجمة على نفقة "الجمعية البريطانية لنشر الكتب المقدسة". 3 نشر هذا الكتاب سنة 1929.

ولكن كتبه هذه لم تأته بالثمرة الموجوة، ولم يستجب المصريون لدعوته ودعوة غيره من المستعمرين كي يتخذوا العامية أداة للتعبير الأدبي ويهجروا الفصحى لغة القرآن، وذات المجد العريق. وفي سنة 1901، أصدر "مستر ويلمور" أحد قضاة مصر كتابًا1 تناول فيه هذه المسألة ونصح المصريون بهجر اللغة الفصحى، واتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير والكتابة، وقد أثار هذا الكتاب ضجة في الصحف المصرية. وتصدى أكثر من كاتب للرد عليه. وكانت مجلة الهلال ميدان هذه الردود وقد أيدت اللغة العربية ودافعت عنها2 ثم جاء إسكندر معلوف من سوريا، وحاول أن يوهم الجمهور المصري بأن أهم أسباب تأخره في الحقيقة هو تمسكه باللغة العربية الفصحى وعجب من تمسك المصريين بها مع أن الفرس والهنود والأتراك مسلمون، وهم لا يستخدمون العربية، واحتج بأن الحكومة المصرية قد تركتها في مدارسها، وأحلت محلها اللغة الإنجليزية، وقد أثنى عليها ثناء مستطابًا لإقدامها على هذه الخطوة، ورأى أن الخطوة الثانية التي يجب أن يخطوها المصريون هي أن تدع الصحف والمجلات هذه اللغة وتكتب باللغة العامية، حتى يفيد العامة وجمهرة الشعب بما تكتب، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ثالثة وهي تدوين العلوم والآداب باللغة العامية وبذلك يستطيع الشعب كله أن يحصل العلم بسهولة ويسر، وأهاب بالكتاب المصريين والعلماء أن يخطوا هذه الخطوات في سبيل رقى بلادهم3. ومن المصريين الذين أيدوا ويلككس في دعوته إلى العامية حين نشر رسالته التي يزعم فيها أننا نتحدث بالبونية لا بالعربية "سلامة موسى" فقد أثنى على ولككس ثناء مستطابًا وزعم أنه شغلته هموم مصر كثيرًا ومن أكبر همومه التي أقضت مضجعه هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها.

_ 1 لندن. the spoken arabic of egypt, j. soldea willmote. 1901 2 انظر الهلال السنة العاشرة وعلى الأخص عدد فبراير 1903. 3 مجلة الهلال 15 من مارس 1902.

وأخذ سلامة موسى يدعو كما دعا ولككس إلى اتخاذ العامية لغة للكتابة بدعوى أن الفصحى فيها صعوبة. يعانيها الخاصة أكثر مما يعانيها العامة، وأنها عاجزة عن تأدية الرسالة الأدبية والعلمية ويقول: "ولكن نكبتنا الحقيقية هي أن اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به؛ لأن الأدب هو مجهود الأمة وثمرة ذكائها وابن تربتها ووليد بيئتها، فهو لا يزكو إلا إذا كانت أدائه لغة هذه البيئة التي نبت فيها". ويزعم كذلك أن الفصحى: "تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب ويعجب بأبطال بغداد بدلًا من أن يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر، فنظره متجه أبدًا نحو الشرق، وثقافته كلها عربية شرقية -وليس من مصلحة الأمة المصرية أن ينزع شبابها نحو الشرق". ثم راح يثني على ولككس، ولكنه رأى أن الانتقال إلى العامية فيه طفرة ولم يحن الوقت بعد لأن نخطو هذه الخطوة الواجبة، ولا بد من "تسوية" بين العامية والفصحى، فاقترح عدة اقتراحات عجيبة تفضي في مجموعها إلى تشويه الفصحى وإفسادها كاقتراحه إلغاء الألف والنون من المثنى والواو والنون من جمع المذكر السالم، وإلغاء التصغير وجمع التكسير، وإلغاء الإعراب والإكتفاء بتسكين أواخر الكلمات، وإدخال الكلمات الأعجمية "الأوربية كما هي"1. وهذه اقتراحات تدل على كراهية مقيتة للغة العربية وكل ما تحمله من تاريخ وأدب ودين وقومية، وهذا ما كان يريده المستعمرون حتى يتقطع ما بيننا وبين تراثنا الفكري الخالد وبيننا وبين ديننا، ومن ثم نمسخ مسخًا ونقبل على الثقافة الإنجليزية ونتشرب روحها وروح الإنجليز معها، فلنرضى بالاستعمار والمذلة والعار في فرح ومسرة واطمئنان. ولقد لفتت هذه المشكلة كذلك نظر مستر "مان"2 حين بحث أمور التعليم في مصر، فجاء في تقريره: إن الطفل المصري عندما يبدأ دراسته بالمدرسة

_ 1 راجع نص المقال في مجلة الهلال أول يوليو 1926 تحت عنوان "اللغة الفصحى واللغة العامية ورأي السير ولككس". 2 تقرير مستر "مان" ص 59.

لا يتعلم كما يتعلم الطفل الأوربي طرق كلامه المألوف وقراءته فحسب، وإنما يتعلم لغة أخرى شديدة الصعوبة، تختلف عن لغته المعتادة اختلافًا بينًا: ويتعلم في ذات الوقت كتابتها وقراءتها، فحالته هذه تشبه حال طفل إنجليزي يتكلم ويسمع اللغة الإنجليزية العادية في المنزل والشارع والمدرسة على السواء ولكنه مضطر ألا يستعمل في القراءة والكتابة إلا اللغة الإنجليزية التي كانت شائعة في عصر ألفريد الأكبر". ويقول بعد ذلك: "إن هذه الطريقة من شأنها أن توقف نمو التفكير عند الطفل"، ولكن هل تعلم الطفل المصري في المدرسة اللغة الإنجليزية في جميع مواد الدراسة، وهو يتكلم ويسمع اللغة المصرية الدارجة، ولا يوجد بين اللغة الإنجليزية والمصرية الدارجة أي صلة؛ ثم تعلم قراءتها وكتابتها أيسر عليه من تعلم اللغة الفصحى؟ لا يرى أن هذه الطريقة التي أرغم عليها أطفال المصريين لا توقف نمو تفكيرهم فحسب، ولكنها تقتل كل الملكات العقلية من تصور وإدراك واستنباط وتفكير؟ أنسي مسترمان، ومن دعا هذه الدعوة أن أطفال الأوربيين أنفسهم يتعلمون في المدرسة لغة تختلف عن لغة البيت والشارع في الغالب، وأن لكل أمة لهجة دارجة، وأخرى فصيحة؟ ووجود اللهجات الدارجة أمر طبيعي، فلو اتخذت أمة لغتها العامية الحالية أداة للتعبير والكتابة، ووضعت لها القواعد، وصنفت فيها الكتب لتحلل الناس بعد أمد يسير من هذه القواعد في النطق والتركيب، وأوجدوا لهم لغة دارجة لا تتقيد بقوانين، تخفيفًا عن أنفسهم، وجريًا على عادة التساهيل والإهمال والنسيان!! ثم إن ثمة اعتبارات كثيرة خاصة باللغة العربية الفصحى تتعلق بالدين، والقرآن الكريم وتتعلق بوشائج القربى بيننا وبين الناطقين بها، فلو عمد كل شعب عربي إلى اتخاذ لغته الدارجة وسيلة للكتابة والتعبير لتقطعت بيننا هذه الوشائج. وتبددت قوانا المادية والمعنوية على مر الأيام. ويظهر أن مستر "مان" فطن إلى هذه الاعتبارات، وأدرك جم الصعوبات التي تقف في سبيل اللغة العامية، وأن اللغة الفصحى لا بد منتصرة في النهاية على الرغم من تلك الدعاية القوية التي أثيرت ضدها من الإنجليز وأشياعهم. فقال: "على أني أعترف في الوقت أن مسألة اللغة هذه مشبكة بجميع أنواع التقاليد الدينية والقومية والاجتماعية اشتباكًا لا فكاك منه، وأنها لهذا السبب أعسر من أن تحل استنادًا إلى الاعتبارات التربوية وحدها1".

_ 1 تقرير مستر مان.

وقد أثارت هذه الحملة الجائرة ضد اللغة الفصحى سخط الأدباء والكتاب، ورجال الوطنية المصرية، فقابلوها بحملة أشد منها، واشتهر من هؤلاء محمد المويلحي صاحب حديث عيسى بن هشام، وألفت جمعيات من أدباء مصر لنشر الفصحى والذود عنها، ومقاومة اللغة العامية وطغيانها، ولقد أسهم الشعراء في هذه المعركة، فقال حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة عن اللغة العربية سنة 1903، مرددًا فيها شتى الحجج التي يدافع بها أنصار الفصحى، ومشيرًا إلى حملات الإنجليز عليها، وهذه هي القصيدة التي لا تتضح مراميها التاريخية إلا بعد معرفة المعركة على حقيقتها، وقد قالها على لسان اللغة الفصحى: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب، وليتني ... عقمت، فلم أجزع لقول عداتي ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالًا، وأكفاء وأدت بناتي وسعت كتاب الله لفظًا وغاية ... وما ضقت عن أي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمختراعات أنا البحر في أحشائه الدركامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي فقلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياتي ولو تزجرون يومًا علمتم ... بما تحته من عثرة وشتات أرى كل يوم بالجرائد مزلقًا ... من القبر يدنيني بغير أناة وأسمع للكتاب في مصر ضجة ... فأعلم إن الصائحين نعاتي أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي وإما ممات لا قيامة بعده ... ممات لعمري لم يقس بممات

فأنت ترى كيف بسط حافظ في قصيدته هذه المشكلة، وبين مساوئ العامية، ومزايا الفصحى وصور شعور المصريين إزاء هذه القصة. ولقد كانت هذه الحملات المتتابعة على اللغة الفصحى، سواء باضطهادها في مدارس الدولة وإحلال الإنجليزية محلها، أو بالدعوى إلى هجرها، واتخاذ اللغة العامية بديلا عنها سببًا في يقظة مفكري الأمة وانتباههم إلى تلك المؤامرات الإنجليزية على قومية المصريين، ولذلك ترقبوا الفرص السانحة لإحباط هذه المؤامرة فما أن تولى سعد زغلول نظارة المعارف في سنة 1907 حتى تقدم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ومحمود باشا سليمان، وأمين باشا الشمسي باقتراح في الجمعية التشريعية يطلبون فيه إرجاع اللغة العربية في المدارس. وإبطال التعليم باللغة الإنجليزية، وأن يكون الشروع في ذلك من السنة التالية أي سنة 1907. فرد عليهم سعد زغلول، وهو في رده يبين ما وصلت إليه الحال في مصر من تغلغل النفوذ الأجنبي، وسيطرتهم على كل شيء. حتى أصبح متعذرًا على المصري أن يجد سبيلًا إلى الرزق في بلاده إلا إذا تعلم لغة أجنبية، وأصبح من العسير الحصول على معلم كفء يستطيع تدريس المواد المختلفة باللغة العربية، وهذا لعمري منتهى الانحطاط السياسي والاجتماعي، قال سعد زغلول: "الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الإنجليزية إلا ليتقوى التلاميذ فيها، ويمكنهم الاستفادة من المدنية الأوربية، ويفيدوا بلادهم، ويقدروا على الدخول في معترك الحياة، حياة العلم والعلم والعمل. "وإذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية، وشرعنا فيه فعلًا، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا، وإلى أنفسنا إساءة كبرى؛ لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك، و "البوسطة"، والمحاكم المختلطة، والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، والتي يقتضي نظامها وجود كثيرين من الموظفين العارفين بإحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة، ولا أن يستخدموا في "بنك" أو مصرف، ولا أن يشتركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر تأسيسها الآن في بلادنا، ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلفة، ولا مترجمين ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية وهو كثير جدًّا في بلادنا.

إذا قطعنا النظر عن ذلك كله، وأردنا أن نشرع من فورنا في التعليم باللغة العربية صادفنا صعوبات مادية، وهي قلة المعلمين الأكفاء الذين يمكنهم تعليم الفنون المختلفة باللغة العربية، فإذا كنتم توافقون على الاقتراح المقدم إليكم كنتم كمن يحاول الصعود إلى السماء بلا سلم. لذلك كله أرجو ألا تندفعوا في هذه المسألة وراء إحساسكم، وأن تستشيروا قبل البيت فيها العقل والحكمة إذ لا فائدة لكم أن تطلبوا طلبًا تعلمون من الآن أنه لا يقابل بغير الرفض لاستحالة تنفيذه، كل ما يمكنكم أن ترغبوه مني، وما يمكنني أن أشتغل به، وأقدمه خدمة لوطني هو السعي في تذليل تلك الصعوبة المادية وهو ما عقدت النية عليه من توسيع نطاق مدارس المعلمين، والإرساليات إلى أوربا، وتحسين حال موظفي المدارس، حتى يمكن وجود عدد كافٍ يتولى التعليم باللغة العربية كما أرغب وترغبون، وإني إذا وفقت لتحقيق هذه الأمور الثلاثة خدمت بلادي خدمة جليلة"1. وهذه وثيقة تاريخية غنية عن التعليق، ولم يقل ما قاله إلا تحت ضغط الظروف الواقعية، وهي فقر الأمة في رجالها ولا سيما المعلمين الأكفاء وفقر اللغة العربية بسبب الاضطهاد الإنجليزي لها، وسيطرة الأجانب على شئون مصر الاقتصادية والحكومية، وجعل اللغة الأجنبية صاحبة المقام الأول عمليًّا ورسميًّا في البلاد ثم كراهية الإنجليز لعودة العربية إلى الحياة والقوة، ولذلك عرض سعد وهو وزير ما عساه يصادف الاقتراح من صعوبات، حتى عد تنفيذه مستحيلًا. وقد وضع محمود "باشا" سليمان تعديلًا للاقتراح، بعد سماع هذه الخطبة، بأن الجمعية العمومية تعتمد على وعد ناظر المعارف بتنفيذ المشروع بحسب الإمكان، وأخذت الآراء على الاقتراح بعد تعديله فتقرر قبوله، بيد أن ناظر

_ 1 كانت في 3 مارس سنة 1907. ونشرت بالمؤيد في 5 مارس 1907.

المعارف صرح بعد ذلك بأنه لا يمكن تنفيذ المشروع في ذلك الوقت للصعوبات الموجودة، ومتى زالت هذه الصعوبات أمكن تنفيذه. فأعيد الاقتراع على الاقتراح الأول في مقابل تصريح ناظر المعارف، فقررت الجمعية بأغلبية ستين صوتًا وجوب تنفيذ المشروع كما عرض بادئ الأمر وصوت خمسة مع ناظر المعارف عدا الوزراء، وكأن الجمعية خشيت ألا يستطيع سعد التنفيذ، كما لم يستطع رياض "باشا" ذلك من قبل حيث حاول هذه المحاولة في سنة 1893، فوضعت الحكومة أمام الأمر الواقع. وابتدئ في تحويل التعليم باللغة العربية في المدارس الابتدائية من سنة 1908، ولم يأتِ عام 1912 حتى صار التدريس في جميع المدارس الابتدائية باللغة العربية، واستأنفت القافلة سيرها إلى اليوم بعد هذه المحنة التي دامت قرابة عشرين عامًا. ومع هذا ظل دعاة العامية لا يهدءون ولا يفترون، ومنهم محمد تيمور الذي جد في الدعوة سنة 1921 وألف بها قصصًا ومسرحيات1، ومع ذلك كله ظلت اللغة العربية قوية شامخة، وتزداد كل يوم قوة وقد زادتها فكرة القومية العربية ازدهارًا، بل كانت الفصحى من أهم عناصر القومية العربية. وعلى الرغم مما بذلته إنجلترا من جهد في نشر اللغة الإنجليزية، ومحاربة الثقافة الفرنسية واضطهاد اللغة العربية الفصحى، فإنها لم تفلح في أن توجد طائفة من المصريين يعشقون اللغة الإنجليزية، ويجيدونها إجادة تمكنهم من التأليف فيها، كما مهر بعض المصريين في التأليف باللغة الفرنسية من أمثال واصف غالي، وأحمد راسم، والأمير حيدر فاضل، ومحمد ذو الفقار وغيرهم، ولعل السر في ذلكم هو شعور المصريين بأن هذه اللغة هي لغة الغاصب المحتل، وأنه يفرضها عليهم فرضًا، وكل شيء يجبر عليه المرء مبغوض لديه ولو كان

_ 1 انظر كتاب "وميض الروح" تأليف محمد تيمور 1922.

حسنًا، ثم إن إنجلترا لم تشجع المصريين على الإفادة من دراستهم اللغة الإنجليزية، فلم تعترف بشهادتهم في بلادها، وحالت بينهم وبين البعثات العلمية ولم تعن العناية الواجبة بمؤسساتها العلمية بمصر في تلك الحقبة بينما سارت فرنسا على النقيض من ذلك، فأسست مدرسة الحقوق الفرنسية، والمعهد العلمي الفرنسي، ولقد أدركت إنجلترا أنها أخطأت في حق لغتها وفي حق المصريين على السواء، وأخذت تعمل على تدارك ما فاتها، فأنشأت بعض المعاهد العلمية مثل المدرسة الإنجليزية بمصر الجديدة، وكلية فيكتوريا، والمعهد العلمي البريطاني، وأخذت تشجع المصريين على السفر لإنجلترا، واعترفت بشهادات الكليات الجامعية، ومكنتهم من الدراسات العالية، بيد أن كل هذا حدث بعد أن غلت يدها من شئون التعليم وخروج دانلوب في سنة 1919، وفطنتها إلى أنها أخطأت في الماضي خطأ جسيمًا، وأن فرنسا قد سبقتها في هذا الميدان، وقد فسر أحد الأدباء الإنجليز تغلب فرنسا على إنجلترا في نشر الثقافة بمصر بقوله: "تملك إنجلترا بمصر جيشًان وتملك فرنسا فكرة، وتدبر إنجلترا شئون التعليم، وتغذيه فرنسا بفلسفتها، ولما كانت فرنسا تملك هذه الفلسفة ولا تملك إنجلترا منها شيئًا، فقد برهن القلم الفرنسي على أنه أقوى من السيف الإنجليزي"1. وقد قوى نفوذ الثقافة الإنجليزية على مر الأيام في مصر بخاصة، وفي الشرق العربي بعامة بفضل المؤسسات الثقافية العديدة، من إنجليزية وأمريكية، فقد نمت المؤسسات الأمريكية نموًّا زائدًا حتى صار لأمريكا جامعة بمصر، وأخرى ببيروت تعد من أكبر جامعات الشرق، ويؤمها طلاب من كل البلاد العربية، وينفق عليها مال وفير.

_ 1 Dr. Russell Gat: The Conflect of French and English phiosophy in Egypt, p. 16, London 1930.

أدى إنشاء الجامعية المصرية الحديثة إلى تخصص بعض الطلاب في اللغة الإنجليزية، ليكونوا مدرسين متمكنين فيها وحلوا محل خريجي المعلمين العليا1. الذين كانوا يؤدون هذه المهمة في عهديها الإنجليزي والمصري. وقد درجت مصر قبل الحرب العالمية الأخيرة على إرسال فريق من نوابغ المدرسين للتخصص في اللغة الإنجليزية بإنجلترا، وقد أفادوا في نقل بعض عيون الأدب الإنجليزي إلى اللغة العربية بأقلام قوية، وأسلوب طيب. وتوسعت مصر في إرسال البعثات في عهد الاستقلال، وكانت أكثرية البعثات الحكومية إلى إنجلترا لدراسة العلوم. والطب والهندسة، واللغات، والفلسفة، والفنون الحربية والاقتصاد، واللغات الشرقية، والتربية، والزراعة وغيرها، بيد أن وزارة المعارف رسمت لأعضاء البعثات الحكومية في أول الأمر - وذلك قبل أن ترسل الجامعة بعثاتها- طريقًا عقيمة، وقيدتهم في الدراسة تقييدًا أضر بهم وبمصر، "وحسبك بوزارة المعارف حين ترسل المناهج، والبرامج، وتختار الجامعات والمدارس، وتعين الدرجات والإجازات، وهي إلى الآن لا تزال تجهل من أمور التعليم العالي في أوربا أكثر جدًّا مما تعلم، وقد كانت قبل الاستقلال خاضعة لسلطان الإنجليز، وكان أبغض شيء إلى الإنجليز أن يتصل المصريون بالتعليم الأوربي العالي، فلما أكرهوا على أن يخلوا بين المصريين وبين ذلك رسموا لهم المناهج والبرامج، مضيقين لا موسعين، ومخادعين لا ناصحين، وما زلنا نذكر العهد الذي كان المصريون يبتهجون فيه أشد الابتهاج حين يظفر أحدهم بأيسر الدرجات الجامعية في أوربا، والذي كانت تسخط فيه المعارف أشد السخط وأقساه على الذين يعجبهم العلم وتخلبهم الدرجات الجامعية، فيتجاوزون، أو يحاولون أن يتجاوزوا ما رسم لهم من خطة، وما توضع لهم من منهاج2، ثم توالت بعثات الجامعات المصرية، بجانب بعثات وزارة المعارف.

_ 1 أنشئت مدرسة المعلمين سنة 1880 وكانت تسمى مدرسة الخوجات ثم سميت مدرسة النورمال سنة 1882 والمعلمين التوفيقية سنة 1888 وأنشئت بعدها مدرسة للمعلمين الخديوية سنة 1889 ثم ضمت المعلمين التوفيقية والخديوية في مدرسة واحدة سنة 1899، وفي سنة 1910 سميت مدرسة للمعلمين الخديوية بالمعلمين السلطاية. وفي سنة 1902 سميت المعلمين العليا -راجع تاريخ التعليم بمصر الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ص 610- 615. 2 الدكتور طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر ص 282.

واشترطت الجامعة على الطلاب أن يحصلوا على أرقى الدرجات الجامعية؛ ولم تقصر بعثاتها، على إنجلترا؛ بل تعددت جهات الدراسة. قد كان عدد أعضاء البعثات الجامعية في سنة 1925 لا يزيد عن عشرين طالبًا من جميع كليات الجامعة، ثم بلغ الخمسين في سنة 1938 ولما نشبت الحرب العالمية الأخيرة في سنة 1939 توقفت بعثات الجامعة، ثم استأنفت سيرها بعد أن وضعت الحرب أوزارها في سنة 1945 وصار لجامعة "فؤاد الأول" في سنة 1950 مائة واثنان وتسعون عضوًا في بعثات علمية للخارج جلهم في أوربا. وبعضهم في أمريكا1. هذا عدا بعثات جامعة الإسكندرية؛ وما أرسلته جامعة أسيوط "محمد علي سابقًا" من بعثات استعدادًا لتكوين هيئة تدريس قوية بها. هذا وقد نص في قانون جامعة "القاهرة" على أن اللغة العربية هي لغة التدريس بالجامعات، وإن ظلت بعض الكليات حتى اليوم تتخذ الإنجليزية لغة التدريس في جميع المواد مثل الطب البشري، والطب البيطري، وبعضها يستخدمها في أكثر المواد مثل كلية العلوم والهندسة، بعضها يستخدم اللغتين الفرنسية والإنجليزية بجانب اللغة العربية مثل كلية التجارة، والحقوق2. ومهما يكن من أمر فقد ازددنا صلة باللغة الإنجليزية على مر الأيام، واستطاع بعض أدبائنا الذين درسوا على النظام الإنجليزي بالرغم من عقمه وفساده أن يجيدوا اللغة الإنجليزية فهمًا وقراءة وهم الذين أسسوا المدرسة المصرية الحديثة في الشعر من أمثال عبد الرحمن شكري، والمازني، والعقاد. ويقول الدكتور طه حسين: "وآية ذلك أننا حتى في أشد أوقات السيطرة الإنجليزية وضغطها على التعليم وتضييقها لحدوده، قد انتفعنا من هذا التعليم الضيق المحدود أكثر مما أراد الإنجليز، وأي دليل على ذلك أقوى من الذين أخرجتهم مدارس الاحتلال هم الذين اتسعت عقولهم لفهم الحرية والوطنية،

_ 1 تقويم جامعة "فؤاد الأول" سنة 1950 ص 92- 96. 2 المرجع السابق ص 75. وقد تقرر ابتداء من العام الجامعي 1959 العمل على التدريس باللغة العربية في الكليات التي ذكرناها آنفًا، وأن يؤلف في الطب والهندسة والعلوم بالعربية لطلاب الجامعات وهنا عمل حميد يعيد لنهضة اللغة سيرتها الأولى التي ابتدأتها منذ أكثر من قرن ونصف أيام محمد علي.

واستقرت عزائمهم لمناهضة الاحتلال نفسه، وهم الذين أثاروا مصر وقادوها في الجهاد، وكسبوا لها النظام: الديمقراطي، والحياة المستقلة"1 وهم الذين قادوا حرية الفكر بمصر، ووجهوا الأدب والدراسات الأدبية وجهة حديثة. ويقول العقاد في هذه المدرسة الحديثة التي تأثرت بالأدب الإنجليزي: "فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على اتصالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليزية لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان، واليونان، واللاتين الأقدمين "عن الإنجليزية طبعًا" ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت: إن "هازلت" هو إمام هذه المدرسة في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة ومواضع المقارنة والاستشهاد2، وسنعود إن شاء الله إلى هذه المدرسة، وتبيان خصائصها وإلى أي حد جدت في شعرنا الحديث. وليس معنى هذا أن نفوذ الثقافة الفرنسية بمصر قد زال أمام قوة الثقافة الإنجليزية، فإن كثيرًا من المعاهد المصرية لا تزل تعني باللغة الفرنسية عناية زائدة، وتدرس بها كثيرًا من المواد كالحقوق والتجارة، وبكلية الأدب قسم خاص للغة الفرنسية، ولا يزال الإقبال على الدراسة بفرنسا قويًّا، يقصدها كثير من الطلبة الحكوميين لدراسة الطب والحقوق والفلسفة والآداب، وترسل الحكومة بعض بعثاتها، لدراسة القانون والفلسفة، واللغة الفرنسية3. ولعلك رأيت أن الحال في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي حتى اليوم قد تغير

_ 1 مستقبل الثقافة في مصر ص 130. 2 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص 192. 3 لقد تغير الوضع بالنسبة لفرنسا منذ العدوان الثلاثي سنة 1956 وألغيت اللغة الفرنسية من المدارس الثانونية ابتداء من العام 1961- 1962. ثم تقرر إعادتها ابتداء من العام الدراسي 1964- 1965.

تغيرًا شديدًا. وأننا ازددنا ارتباطًا بأوربا وثقافاتها المختلفة، ولقد كان لكل هذا أثر في الأدب العربي بعاة وفي الشعر بخاصة. 1- لقد تأثرنا في حياتنا الخاصة، وطرق معيشتنا، ونظرتنا إلى الحياة، وما الأدب إلا انعكاس لما يشعر به الأديب في حياته، وتغيرت قيم الأشياء أمام أعيننا، وعكفنا على تقليد أوربا في كل شيء وجعلناها مثلًا أعلى في كل ما يتعلق بحياتنا المادية والمعنوية، وفي ذلك يقول الدكتور طه حسين: "حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية، وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربًا وبعدًا عن الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجامعات، وحظوظهم من الثروة وسعة اليد، ومعنى هذا أن المثل الأعلى للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلى للأوربي في حياته المادية، تتخذ من مرافق الحياة وأدواتها ما يتخذون، ونتخذ من زينة الحياة ومظاهرها ما يتخذون، نفعل ذلك عن علم به وتعمد له أو نفعل ذلك من غير علم، وعلى غير عمد، ولكننا ماضون فيه على كل حال، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تردنا عن أن نستمتع بالحياة على النحو الذي يستمتع بها الأوربيون. مدت أوربا الطرق الحديدية، وأسلاك "التلغراف والتليفون" فمددناها، وجلست أوربا إلى الموائد، واتخذت من آنية الطعام، أدواته وألوانه، فصنعنا صنيعها ثم تجاوزنا ذلك إلى ما اصطنع الأوربيون لأنفسهم من لباس، ثم تجاوزنا ذلك إلى جميع الأنحاء التي يحيا عليهم الأوربيون فاصطنعناها لأنفسنا غير متخيرين ولا مختاطين ولا مميزين بين ما يحسن منها وما لا يحسن، وما يلائم منها وما لا يلائم. ونستطيع أن نقول: إن مقياس رقي الأفراد والجامعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا إنما هو حظنا من الأخذ بأساليب الحياة المادية الأوربية. وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوربية خالصة: نظام الحكم عندنا أوربي خالص، نقلناه عن أوربا نقلًا في غير تحرج ولا تردد، وإذا عبنا أنفسنا بشيء من هذه الناحية فإنما نعيبها بالإبطاء في نقل ما عند الأوربيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية"1.

_ 1 مستقبل الثقافة في مصر ص 30- 32.

والحق أن مصر منذ حملة نابليون حتى اليوم، وهي تسعى سيعًا حثيثًا في أن تحاكي أوربا في كل شيء، وقد بهرتها تلك القوة المادية الضخمة التي جعلت أوربا تتحكم في العالم، وجد محمد علي وإسماعيل في تزويد مصر بكل ما يكفل لها تلك القوة، من مصانع، وجيوش، وأساطيل، وعلماء في كل فن، ولكن تيار النهضة قد وقف منذ الاحتلال الأجنبي، ولقد ازداد حب المصريين لمحاكاة الأجانب وتقليدهم في كل ما يزاولون من شئون الحياة، عملًا بالقاعدة المعروفة: "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، ولقد نظروا إليهم نظرة إكبار وتقدير، وفقدوا الثقة في أنفسهم، وأوهمهم هؤلاء أنهم لا يصلحون إلا أن يكونوا مرءوسين، منقادين، مع أنهم كانوا إلى عهد قريب سادة مكرمين يخشى بأسهم أهل أوربا أنفسهم. ورأى المصريون منذ أخفقت الثورة العرابية ألا سبيل إلى النهضة الحقيقية، والاستقلال الكامل إلا بتهيئة الشعب لتحمل أعباء هذا الاستقلال. وقديمًا نادى محمد عبده بإنشاء مدرسة للقادة والزعماء، واختلف هو وأستاذه جمال الدين في هذا وتبنى محمد عبده هذه الفكرة بعد أن عاد من منفاه ورأى أن يسير في النهضة ببطء، وثقة وتأكد، وأن الطفرة التي أرادها إسماعيل، ودعا إليها جمال الدين لا تجدي شيئًا، بل ربما أعقبت خسرانًا وندمًا وأنه خير لهذه الأمة -إن أرادت القوة والعافية- أن تستكمل تعليم أبنائها، وتنزه الدين وتطهره وتعد نفسها لكي تتبوأ مكانها بين أمم العالم وتشاطرها1.ولقد هادن محمد عبده الإنجليز، حتى يتمكن من الإصلاح المنشود، ويقول: "أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني عرفت أنها ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي يجب أن نعنى به الآن"2، وقال عنه كرومر: "إنه كان رجلًا مستنيرًا بعيد النظر، اعترف بما لحكومة الشرق من سيئات، وسلم بضرورة المعاونة الأوربية في الإصلاح"3.

_ 1 المنار ج8 ص 457، مشاهير الشرق ج1 ص 285. 2 المنار ج 8 ص 893. 3.Modern egypt v.2, pp. 179- 181

ولقد اعتنق تلاميذ محمد عبده هذه الفكرة وعلى رأسهم سعد زغلول، ولطفي السيد وحافظ إبراهيم1. ثم جاءت النهضة القومية على يد مصطفى كامل2 ودعا إلى الأخذ بأساليب الرقي والنهوض مع وجوب التخلص من الأجنبي وشرور الاحتلال، ولكنه اتفق مع تلامذة محمد عبده على وجوب العناية بكل ما يرقى بهذه الأمة صناعيًّا وعلميًّا، وتجاريًّا، وحربيًّا حتى تكون في درجة تمكنها من المحافظة على استقلالها، إن نالته أو المطالبة به عن جدارة إن لم تكن قد أخذته. أنتج كل هذا رغبة شديدة في تقليد الحياة الأوربية مادية ومعنوية، وتطرف بعض الدعاة إلى هذا التقليد ونادوا بنفض أيدينا من الماضي جميعه وأخذنا عن أوربا كل شيء حسنًا أو قبيحًا، ماديًّا ومعنويًّا، واعتدل بعضهم، ونادى بأن نجح بين محاسن تقاليدنا، ومحاسن المدينة الأوربية3. ومهما يكن من أمر فمن أبرز الظواهر في أخريات عهد الاحتلال وعهد الاستقلال الاهتمام الزائد بالإصلاح الاجتماعي في كل مرافق الحياة، والحياة في الغالب تهدف إلى أن تكون على نمط أوربا لكثرة إعجابنا بها؛ ولأنها صاحبة السيطرة العلمية والمادية اليوم، وتجد لهذه النغمة صدى في أقوال الشعراء فهم لا يملكون إلا الإعجاب بحاضرة الغرب، ويحثون قومهم على السعي في اللحاق به، فهذا حافظ إبراهيم يقول: أي رجال الدنيا الجديدة مُدُّوا ... لرجال الدنيا القديمة باعًا وأفيضوا عليهم من أياديـ ... كم علومًا وحكمة واختراعًا كل يوم لكم روائع آثا ... ر توالون بينهن تباعًا كم خبلتم عقولنا بعجيب ... وأمرتم زمانكم فأطاعا4

_ 1 راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل 201، وراجع كذلك الإسلام والتجديد في مصر للدكتور تشارلس آدمز ترجمة عباس محمود ص 214. 2 راجع مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ط. ثانية ص 307. 3 تراجم شرقية وغربية لهيكل ص 150، والإسلام والتجديد لآدمز ص 216. 4 ديوان حافظ إبراهيم ج 1 ص 260.

ويبدي ولي الدين يكن إعجابه بالحضارة والعصر الجديد حين يركب الطيارة فيقول: الناس ملوا من المطايا ... فجاء من بعدها البخار وملة أكثر البرايا ... ثم اعتلوا في السما فطاروا يا حبذا عصرنا الجديد السحب نابت عن الأرائك ... لمعشر قدرقوا إليها وضجت الطير والملائك ... في إثرهم حسرة عليها وهذه حسرة تزيد1 ويشير حافظ إبراهيم كذلك إلى علم الغرب ومدنيته؛ وتذليله لقوى الطبيعة، وتسخيرها لخدمة الإنسان: وطويتم فراسخ الأرض طيًّا ... ومشيتم على الهواء اختيالًا ثم سخرتم الرباح فسستم ... حيث شئتم جنوبها والشمالا تسرجون الهواء إن رمتم السيـ ... ـر وفي الأرض من يشد الرحالا واتخذتم موج الأثير بريدًا ... حين خلتم البروق كسالى ثم حاولتم الكلام مع النجـ ... ـم فحملتم الشعاع مقالا إلى أن يقول حاثًّا بني وطنه على مباراة هؤلاء الغربيين في حضارتهم، وأخذهم بأسباب الوصول إلى هذه الغاية. ليت شعري متى أرى أرض مصر ... في حمى الله تنبت الأبطالا وأرى أهلها يبارونكم علمًا ... ووثبًا إلى العلا ونضالًا قد نفضنا عنّا الكرى وابتدرنا ... فرص العيش وانتقلنا انتقالا وعلمنا بأن غفلة يوم ... تحرم المرء سعيه أحوالًا2

_ 1 ديوان ولي الدين يكن ص 119. 2 ديوا حافظ إبراهيم جـ 1 ص 312.

ويزداد الشعور بأن الشعب المصري لا يرجى منه خير إلا إذا أزيح عنه كابوس الجهالة وتعلم بنوه تعليمًا كاملًا صحيحًا، حتى يكشف التعليم عن تلك الثورة المعنوية الكامنة، في هذه العقول الغفل، فيدعو الوطنيون إلى التعليم القومي والإكثار من إنشاء المدارس1، وينادي مصطفى كامل في سنة 1904 و 1905 بإنشاء جامعة مصرية2، يقوم على هذا المشروع جماعة من المصلحين الذين تشربوا مبادئ محمد عبده3، ويقول مصطفى كامل في هذا: "مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في هذا الزمان حقيقة المراكز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس، وتأسيس دور العلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد آن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموالها"4. وفرح الشعراء بإنشائها أيما فرح، وهذا شوقي يقول: ألق في أرض منف أس جامعة ... من نورها تهتدي الدنيا بنبراس أو نفض عن الشرق يأسًا كاد يقتله ... فلا حياة لأقوام مع اليأس ترك النفوس بلا علم ولا أدح ... ترك المريض بلا طب ولا آس5 ودعا الشعراء دعوة حارة إلى المبادرة بتأسيس المدارس وتعليم الشعب، وأثنوا ثناء مستطابًا على كل من هزته الأريحية فجاد بالمال في هذا السبيل، فهذا محمد عبد المطلب يمدح ثلاثة من الأعيان تبرعوا بمقدار من الأفدنة لمدارس المنوفية فيقول: ثلاثة أمجاد إذا عدة سادة ... من الناس بَذَّوا بالندى سَرَواتها سراة قالوا العم من عثراته ... ندى فأقول مصر من عَثَراتها6

_ 1 مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 92، 129، 139- 142 ومحمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص 39، 90، 292. 2 اللواء 26 أكتوبر 1904، 8 يناير 1905 وتراجم شرقية وغربية ص 160، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 324- 335. 3 الإسلام والتجديد ص 215، وتراجم ص 259- 260. 4 اللواء 26 أكتوبر. 5 شوقيات ج 1 ص 158. 6 ديوان عبد المطلب ص 34.

وهذا مطران يصور حالنا من الجهل، وكيف نهضت أوربا، ويبحث على تشيد المدارس: هم فتحون السماء ... ويملكون الهواء ويقطعون الصحاري ... ويعبرون الماء ونحن نمكث في عقـ ... ـر دار غرباء كأننا قد خلقنا ... نلابس الغبراء نرنو ونأسى ونفنى ... مع العيون بكاء ولا نرى غير ذكرى ... أجدادنا تأساء نال التوكل منا ... والضعف ما الجهل شاء إلى أن يقول: بالعلم تدارك مصر الـ ... ـحرية العصماء وتستعيد الفخار الـ ... ـقديم والعلياء وتسترد من الدهـ ... ـر عزها والرخاء1 ويقول من قصيدة أخرى: يا آخذين بتعليم الصغار لقد ... صنتم مرابعكم من أكبر المحن مساوئ الجهل في الأطفال شاملة ... لقومهم كلهم في مقبل الزمن كم عز من ضعة شعب بفتيته ... وكان آباؤهم في أوضع المهن هو ابتناء لما ترجون من عظم ... وهو اتقالا لما تخشون من فتن2 ويقول شوقي في التعليم والعلم: كانت لنا قدم إليه خفيفة ... ورمت بـ "دنلوب" فكان الفيلا حتى رأينا مصر نخطو إصبعًا ... في العلم إن مشت الممالك ميلا

_ 1 ديوان مطران جـ3 ص 358. 2 ديوان مطران جـ 3 ص 300.

تلك الكفور وحشوها أمية ... من عهد خوفو لم تر القنديلا ويرى قاسم أمين أن المرأة المخدرة لا تنفع الأمة، ويدعو دعوته المشهورة إلى السفور ومشاركة المرأة الرجل في الحياة تقليدًا لأوربا، ويدعو إلى الحد من تعدد الزوجات، وإلى تشريع خاص بالطلاق1، وجاءت بعده ملك حفني ناصف التي اشتهرت بلقب "باحثة البادية" وعززت دعوته مع شيء من التحفظ، فلم تذهب إلى كل ما ذهب إليه، وإن دعت إلى السفور المحتشم، واستنكرت اختلاط الجنسين2. وقد قامت ضجة عظيمة حول دعوة قاسم أمين هذه، واختلف الناس فيها اختلافًا بينًّا3 حتى ألف في الرد عليه أكثر من ثلاثين كتابًا4. وسجل الشعر الحديث هذه الدعوة، وانقسم الشعراء بين مشجع لها، ومندد بها، فهذا شوقي لا يرى في أول الأمر التشجيع على السفور ويقول قصيدته المشهورة التي أهداها لملك حفني ناصف "باحثة البادية". صداح يا ملك الكنا ... رويا أمير البلبل ويزين الحجاب للمرأة ويحذرها من السفور فيقول: أنت ابن رأي للطبيـ ... ـعة فيك غير مبدل أبدًا مروع بالإسا ... ر مهدد بالمقتل إن طرت عن كنفي وقعـ ... ـت على النسور الجهل5 حرصي عليك هوى ومن ... يحرز ثمينًا يبخل وقد6 ردت عليه بقصيدة طويلة بينت فيها رأيها في هذه القصيدة وسلكت -كما ذكرنا- مسلكًا وسطًا.

_ 1 تحرير المرأة لقاسم أمين. 2 راجع باحثة البادية للآنسة مي: مطبعة المقتطف. مصر 1925 وراجع كتابنا "دراسات أدبية ج1". 3 المنار ج 4 "1901" س 106. 4 تحرير المرأة الطبعة الثالثة ص 194 وما بعدها. 5 شوقيات ج 1 ص 186. 6 راجع كتابنا دراسات أدبية بحث عن ملك حفني ناصف.

ومطلع قصيدتها: يا هذه لا تعذلي ... وإذا أبيت فقللي وفيها تقول: مجد الفتاة مقامها ... في البيت لا في المعمل والمرء يعمل في الحقو ... ل وعرسه في المنزل من الوليد يعنيه ... في لبسة والمأكل ويميط عنه أذى الهوى ... يتلطف وتحيل وأخذت تعدد ما يجب على المرأة أن تقوم به في منزلها، وليس معنى هذا أن تظل حبيسة المنزل: لكن إذا دعت الضرورة للخروج فحيهل سيرى كسير السحب لا تأتي ولا تتعجل وتنكبي نهج الزحام وفضلي النهج الخلي لا تخضعي بالقول أو تتبرجي أو ترفلي لا تكنسي أرض الشوارع بالإزار المسبل أما السفور فحكمه في الشرع ليس بمعضل ذهب الأئمة فيه بين محرم ومحلل ليس النقاب هو الحجاب فقصري أو طولي فإذا جهلت الفرق بينهما فدونك فاسألي ونرى حافظًا يحاول أن يقف موقفًا وسطًا في القضية فيقول: أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا ... بين الرجال يَجُلْن في الأسواق يدرجن حيث أردن من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق

يفعلن أفعال الرجال لواهيا ... عن واجبات نواعس الأحداق كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق ليست نساءكم حلي وجواهرًا ... خوف الضياع تصان في الأحقاق فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا ... الشر في التقييد والإطلاق1 ومهما يكن من أمر فقد أجمع الشعراء والأدباء والمصلحون على وجوب النهوض بالمرأة وتعليمها2. ودعوا إلى رعاية الطفل حرصًا على مستقبل الأمة، فيقول حافظ في قصيدته التي مطلعها: شبحًا أرى ذاك طيف خيال ... لا بل فتاة بالعراء حيالي3 ويقول في قصيدة أخرى مطلعها: صفحة البرق أومضت في الغمام ... أم شهاب يشق جوف الظلام4 ويقول محمد عبد المطلب في قصيدته التي مطلعها: مصر أمي، فداء أمي حياتي ... سلمت أمنا من العاديات5 وينشد الشعراء أشعارهم حين يرون بادرة إصلاح تشجيعًا للقائمين بها: عند افتتاح مستشفى أو ملجأ، أو مصنع، أو مصرف وما شاكل ذلك، وعند كل ما من شأنه الرقي بمصر حتى تصير في حياتها المادية والعلمية والصحية مساوية لأوربا. وقد وصف الشعراء بعض العادات التي سرت لبيئتنا من أوربا، فهذا شوقي يصف حفلة راقصة في قصر عابدين بقصيدته التي مطلعها:

_ 1 ديوان حافظ إبراهيم ج1 ص 279. 2 راجع ديوان مطران ج2، ص1، وحافظ إبراهيم ج1 ص 279. 3 ديوان حافظ إبراهيم. 4 نفس المرجع ص 383. 5 ديوان عبد المطلب ص 33.

مال واحتجب ... وادعى الغضب1 وبقصيدته التي مطلعها: طال عليها القدم ... فهي وجود عدم2 ويتكلمون عن الموسيقى3، والفنون الجميلة4، ويصفون مختلف المخترعات كالغواصة5 والطيارة والسيارة والمذياع، والحفلات المختلفة ذات الطابع الغربي ... إلى غير ذلك مما يمثل عصرهم أتم تمثيل، ويظهره في ثوب المدينة الحديثة ويعالجون مشكلات المجتمع المصري، والسوءات التي نقلناها عن أوربا من انتحار الطلبة6. وطريق الغواية وإفساد الفتيات7 وما شاكل هذا، وسنعود إلى أغراض الشعر الحديث بعد البارودي بشيء من التفصيل فيما بعد، وإنما سقنا هذه الأمثلة لندلل على أننا حقًّا نسير وراء المدنية الغربية في حياتنا المادية والمعنوية، وأن أدبنا قد تأثر إلى حد كبير بهذه المظاهر شعرًا ونثرًا، وأن أثر الأجانب كان فينا قويًّا، وقد ازداد تعلقنا بهذا اللون من الحياة بعد الحرب العالمية الأولى ونلنا قسطًا وفيرًا من الحرية والاستقلال. وظهور عهد الاستقرار والسلام والرخاء في البلاد، فزاد العبث واللهو، والافتتان بكل ما تتجلبه أوربا، وكان لهذه الحياة أثر كبير في الأدب، فنحا الشعراء الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الكبرى نحو المجون والغزل الفاحش، والخروج على كل التقاليد العربية والإسلامية، وليس من همي الآن، وفي هذا الفصل أن أسهب في الكلام على هذا اللون من الشعر، وإن قلمي ليعف عن أن يسجل بعض الغزل الرذيل الذي يعبر عن عاطفة منحرفة، ونفس مريضة. على أن هذا النوع من الغزل الذي ظهر كأثر من آثار انغماسنا في الحضارة المادية، ونسياننا المثل العليا، وكل ما يغذي النفوس ويسمو بها؛ يدعونا إلى الكلام عن أثر آخر للثقافة الأجنبية، وذلك هو:

_ 1 الشوقيات ج2 ص13. 2 الشوقيات ج1 ص11. 3 مطران ج3 ص64. 4 مطران ج4 ص56. 5 الشوقيات ج3 ص133. 6 مطران ج2 ص57، والشوقيات ج1 ص131. 7 مطران ج1 ص222.

2- تقليدنا لمذاهب الأدب الأوربي، وصرنا نسمع، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى بما يسمى المدرسة الرمزية والمدرسة الواقعية، و"السريالية"، والمدرسة الإبداعية "الرومانتيكية"1، ومعظم الشعراء الذين فتنوا بهذه المدارس، قلدوها تقليدًا، من غير أن يكون ثمة داعٍ لهذا التقليد؛ إذ لم تظهر هذه المذاهب الأدبية في أوربا إلا نتيجة لعوامل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية شجعت على ظهورها. وسنعود إلى بعض هذه المدارس بشيء من التفصيل عند الكلام على المدرسة المجددة في الشعر الحديث إن شاء الله. 3- التجديد في القوالب الأدبية، فلم تعد القصيدة وحدها في الشعر -كما كانت في القديم- هي القالب الوحيد الذي يفصح فيه الشاعر عن خلجات قلبه، ويحمله خياله ومعانيه، بل عمد الشاعر إلى المسرحية الشعرية، واختلفت مسرحياتهم طولًا وقصرًا. وأكثروا من الرباعيات، والتواشيح. بل إن بعضهم قد أسرف فنظم ما يسمى بالشعر المرسل، ولم يكن حظ النثر دون الشعر في هذا المضمار، بل بذّه، وسار في التجديد شوطًا أوسع، ولم تعد المقالة وحدها صاحبة السيطرة في النثر، بل اهتم الأدباء بالأقصوصة ثم بالقصة الطويلة، وإن كان حظ الأدب العربي من القصص الطويلة الجيدة حتى اليوم ضئيلًا، وأكثر من كتابة المسرحيات الاجتماعية، واشتهر كتاب خطوا في المسرحية خطوات موفقة. ولتفصيل هذا الموضوع مكان آخر إن شاء الله. 4- الاقتباس من معاني الأدب الأوربي وأغراضه، وذلك لكثرة الترجمة في هذا العصر كثرة عجيبة، سواء من الشعر أو النثر، فتجد كبار الكتاب أو الأدباء يسهمون في المجلات الأدبية بمقالات من إنشائهم أحيانًا، وينقلونها عن الآداب الأوربية أحيانًا، واشتهر من بين الأدباء الذين زودوا الأدب العربي بكثير من آراء المفكرين الغربيين والأدباء ولا سيما الإنجليز: الأستاذ العقاد فيترجم لتوماس

_ 1 راجع تفصيل الكلام عن هذه المذاهب في كتابنا "المسرحية".

هاردي أكثر من قطعة1، ويدافع عن مذهبه في الشعر وتشاؤمه، ويترجم لأناتول فرانس "باقة من حديقة أبيقور"2، ويترجم الدكتور طه حسين لبودلير3 وغيره، وينشر هذه التراجم في كتابه "من حيث الشعر والنثر" ويترجم بعض الأدباء "سادهانا" و"هدية العشاق" لطاغور4، وتعني مجلة السياسة الأسبوعية بالأدب الفرنسي عناية فائقة، وكانت تسير نحو التجديد بخطى وثابة. وقد ظهرت كتب مترجمة في الأدب مثل: "أناتول فرانس في مباذله" للأمير شكيب أرسلان، و"الزنبقة الحمراء" و"تأيبس"، لأناتول فرانس، إلى غير ذلك من الكتب الأدبية، التي ذكرت بعضًا منها على سبيل المثال. على أن أهم ظاهرة في العصر الحديث هي كثيرة القصص المترجمة، قصيرة أو طويلة، جيدة أو رديئة، وقد ساعد على هذا وجود المجلات الأدبية، تنافسها على أن يكون بكل عدد قصة مترجمة، وأحيانًا قصة موضوعة؛ واشتهر من المترجمين عن القصص الإنجليزي بعد الحرب العالمية الأولى محمد السباعي، وقد نشر كثيرًا من قصصه المترجمة في البلاغ الأسبوعي، وهو ينقل عن الإنجليزية قصصًا لأدباء أوربا بعامة سواء كانوا من الإنجليز أو الألمان مثل: "لوريلا" لبولي هايتس، أو من الروس مثل: "الشيطان وصانع الأحذية، ومهزلة غرامية، وليلة هائلة" للقصصى الروسي تشيكوف، أو الفرنسية مثل: "قصة العقد، والحب الضائع، والزجاجة ورزا، والشعر"، وغيرها للقصصى الفرنسي الواقعي: جي دي موبسان3، ويترجم السباعي كذلك رباعيات الخيام عن الإنجليزية بأسلوب ممتاز، ولكنه كان يجنح في ترجمته إلى عدم التقييد بالأصل. ونرى قصصًا طويلة تترجم عن الأدب الأوربي بأسلوب أدبي ممتاز فيترجم الدكتور طه حسين "زاديج" لفولتير، ويترجم الدكتور محمد عوض "فاوست" للشاعر الألماني جيته ويترجم الأستاذ أحمد حسن الزيات "ألام فرتر" لجيته،

_ 1 البلاغ الأسبوعي 2 يونيه 1927، كذلك 17 يونية 1927، و27 من يناير 1928 و3 فبراير سنة 1928 وقد نشرت هذه المقالات فيما بعد في كتاب تحت عنوان "ساعات بين الكتب". 2 مجلة الجديد 22 فبراير 1928. 3 راجع البلاغ الأسبوعي في السنوات 1926، 1927، 1928.

ويترجم "رفائيل" للامرتين، ويظهر قبل ذلك المنفلوطي في رواياته ماجدولين، والشاعر والفضيلة مترجمة عن الأدب الفرنسي1 ويترجم السباعي رواية المدينتين لتشارلز دكنز، ويترجم الدكتور طه حسين عددًا من المسرحيات الفرنسية. ونرى خليل مطران يترجم لنا بعض روايات شكسبير، وأسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي مدرسة شعرية هي مدرسة "أبولو" عام 1933، وأصدر مجلة بهذا الاسم غصت صفحاتها بالمترجم من الشعر العربي، والمنظوم على نمطه2. ولقد كانت المجلات الأدبية كما ذكرنا حاملة الترجمة في كل الفنون، فالسياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، الجديد للمرصفي، والمجلة الجديدة لسلامة موسى، ثم الرسالة لأحمد حسن الزيات، وأختها الرواية، ثم مجلة الثقافة غصت بالموضوعات والقصص المترجمة، وقد كان لكل هذا أثر في اقتباس الأدباء والشعراء من معاني الأدب الأوربي، قصدوا ذلك الاقتباس أو لم يقصدوه، كما أنهم تأثروا في موضوعاته وطريقته، وسنرى هذا الأثر عند الكلام عن المدارس الشعرية في العصر الحديث إن شاء الله. 5- ونتج عن تأثرنا بالثقافة الأجنبية كثرة تعريب الكلمات ودخول عدد وفير من أساليب التعبير الغربية التي تلمسها لدى الكتاب غير المتمكنين من الأدب العربي القديم، والذين لا يستطيعون أن يصوغوا العبارات المترجمة صياغة عربية أصيلة، وقد انقسم المترجمون حيال اللغة العربية إلى أنواع ثلاثة فبعضهم يتجرم "ولا سيما المسرحيات" بلغة عامية أو عربية قريبة من العامية ولا يتحرجون في استعمال الكلمات الأجنبية، وأسلوبهم فيه كثير من الأسلوب الغربي، وقد راعى هؤلاء حال الجمهور المصري الذي سيشهد هذه المسرحيات، فلم يعنوا بالصياغة العربية والترجمة القوية من أمثال محمد تيمور، ومحمود

_ 1 راجع H.R. GIBB. B.S.S.S وانظر ترجمتها العربية في المجلة الجديدة السنة الثانية عند نوفمبر 1930 ص 17- 24، وعدد ديسمبر 1930 ص 149- 155. 2 راجع LENARS S. HARKER في كتابه BLAZING THE TRAIL 1938 ص 129، والدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص 34.

تيمور، والدكتور هيكل، ونوع ثانٍ ينقل باللغة العربية السهلة التي يتكلمها الناس، ولا ترقى إلى اللغة الأدبية أو تدانيها، بل هي أشبه بلغة الصحف، ومن هؤلاء: المازني ومحمد عوض، ومع هذه البساطة في التعبير والدقة في الترجمة قل أن نجد ليدهما أساليب تنكرها العربية، وإن كان المازني قد جنح في أخريات حياته إلى التساهل في استخدام الكلمات العامية في مقالاته الصحفية وفي بعض قصصه مع أنه في مستهل حياته الأدبية كان من أكبر المحافظين على الفصحى وعلى تجويد الأسلوب، وقد برع المازني في أخريات حياته في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية براعة جعلته في الصف الأول في هذا المضمار، ونوع ثالث كان يتحرج من الإسفاف في التعبير أو الحيدة عن صحيح اللغة أو الكتابة بأساليب مرقعة، ولا هي بالعربية الأصيلة أو الغربية الخالصة، وإنما كان يترجم ترجمة أدبية قوية ممتازة الأسلوب مثل مطران في ترجماته لروايات شكسبير، ومثل طه حسين في ترجماته، ومثل الزيات في آلام فرتر ورفائيل. ومثل السباعي1 في قصصه المترجمة، وإن كان لا يتقيد بالأصل، ومثل عباس حافظ في قطعه الأدبية المترجمة2. وقد كان ثمة صراع بين الذين يؤثرون السهولة والراحة، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث وراء الكلمة الفصيحة حين الترجمة أو التأليف, وينقلون الآثار الأدبية الرائعة في لغاتها إلى اللغة العامية المصرية فيسيئون إلى هذا الأدب الجميل، ويسيئون إلى لغتهم إساءة بالغة، فالأثر الذي تتركه مثل هذه القطع المترجمة أثر وقتي يزول بخروج المتفرج من المسرح أو أثر خلقي إن كانت الرواية خلقية أو اجتماعية، أما الأثر الأدبي فلا وجود له البتة؛ لأن العامية لا تستطيع النهوض والوقوف للغة العربية كما ذكرنا في غير هذا الموضع3. وبين هؤلاء الذين تمكنوا في اللغة العربية تمكنًا عظيمًا، فهم يبغون في ترجماتهم تزويد هذه اللغة بألوان من المعاني، والأفكار، والموضوعات تجعلها من اللغات العالمية الغنية.

_ 1 راجع LENARD S. HARKER في كتابه BLAZING THE TRAIL 1938 ص 129، والدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص 34. 2.taher kahamiti and kamipfmeyer: leadera in contemporary ababic literaturc 3 البلاغ الأسبوعي 1929.

وللأستاذ العقاد في الدفاع عن الفصحى مقال قيم1، وللرافعي. رد مفحم مدعوم بالأدلة الباهرة على هؤلاء الذين حاولوا تمصير اللغة أو الجنوح إلى العامية نشره تحت عنوان: "تمصير اللغة"2 وقد قال شوقي مُثْنِيًا على الفصحى وقدرتها على التعبير في كل زمان: لغة الكامل في استرساله ... وابن خلدون إذا صح وصابا إن للفصحى زمامًا وبيدًا ... وتجلب السهل وتقتاد الصعابا لغة الذكر لسان المجتبي ... كيف تعبا بالمنادين جوابًا كل عصر دارها إن صادفت ... منزلًا رحبًا وأهلًا وجنابا إيت بالعمران روضًا يانعًا ... وادعها تجر ينابيع عذابًا ويقول الدكتور طه حسين في مقدمة "قصص تمثيلية" موضحًا وجهة نظره في هذا الموضوع: "هذه فصول في النقد والتحليل تناولت بها طائفة من آيات التمثيل الحديث، ونشرتها "السياسة"، متفرقة، ثم طلب إلى بعض القراء أن أجمعها في أسفار فأجبتهم إلى ذلك دون أن أغير فيما نشرته -السياسة- قليلًا أو كثيرًا. ولقد كتبتها وجمعتها، ولا أريد من ذلك إلا أمرين اثنين: الأول أن أظهر قراء العربية على نحو من الأدب الغربي، والثاني أن يكون لهذه القصص، وما فيها من الآراء الفلسفية، والمذاهب الفنية المختلفة أثر في نفوس الأدباء الذين يعنون منهم بالتمثيل العربي خاصة، يحملهم على أن يعنوا بهذا الفن الناشئ في أدبنا عناية ترفع من شأنه، وتجعله خصبًا مفيدًا، فإن أوفق إلى ما أريد بعضه أو كله فأنا سعيد". هذا بعض ما كان للثقافة الأجنبية، وشدة اختلاطنا بالأدب الغربي نتيجة تلك العوامل التي أتينا عليها آنفًا من آثار في أدبنا شعرًا ونثرًا، ألمت بها إلمامًا سريعًا، كم كان بودي أن أقف على كل أثر من هذه الآثار، وأوفيه حقه من البحث

_ 1 راجع ص 40- 42 من هذا الكتاب. 2 راجع البلاغ الأسبوعي -العامية والفصحى، 22 إبرايل 1927، وساعدت بين المكتب للعقاد.

في هذا المقام، ولكن المقام أضيق من أن يتسع لكل هذا. والآن وقبل أن أترك هذا الموضوع أرى لزامًا على وأنا أؤرخ لهذه الحقبة من الأدب الحديث وقد ذكرت فيما سبق سيئات "كرومر" في التعليم، أن أقول كلمة إنصاف، وأسجل هنا أثرًا حميدًا من آثاره، ألا وهو حرية الصحافة في عهد الاحتلال، أو بعبارة أدق في عهد كرومر خاصة. وإذا كان للورد كرومر من حسنات تذكر من هذا السبيل فأول هذه الحسنات وأقواها أثرًا في الأدب هي إطلاقه الحرية التامة للمطبوعات، وعلى الأخص الصحافة المصرية، فلم يكمم أفواه الصحافة، أو يقيدها بقانون خاص، وتركها للقانون العام. وصل كرومر مصر سنة 1883 والصحافة مقيدة بتلك القوانين الصارمة التي سنها إسماعيل، التي كان يسلطها سيفًا بتارًا على رءوس الصحفيين الذين ينتقدونه، ولا ننسى أنه أغلق جريدة التجارة التي أنشأها أديب إسحق، وأغلق أبا نضارة التي أنشأها يعقوب صنوع، وكاد يبطش بالأهرام لولا توسط الفرنسيين، ثم جاءت الثورة العرابية فشدت الرقابة على الأفكار وعلى تداولها ولا ننسى أن عبد الله نديم ظل مختفيًا ردحًا طويلًا من الزمن وأنه كان يخشى الظهور لما اشتهر به من مناوأته للخديو توفيق، وقد أغلق توفيق الأهرام سنة 1884 لأنها كتبت مقالًا تقرر فيه أن الحكومة لا تخدم مصر وإنما تخدم إنجلترا، ولكن الضباط الملكفين بإغلاقها سرعان ما فتحوها بأمر اللورد كرومر واعتذروا لصاحبها رسميًّا. كانت هذه القوانين تحتم على صاحب المطبعة دفع تأمين لا يقل عن مائة جنيه عند فتحها، ومن ينشئ مطبعة بدون ترخيص من الحكومة يغرم غرامة قد تصل إلى مائة وخمسين جنيهًا، ومن أراد أن يصدر كتابًا أو صحيفة لا بد له من عرضهما على قلم المطبوعات قبل أن يسمح له بإصدارها، وربما وجد من المضايقات وإحالة الأمر إلى وزير الداخلية، وتعويق إصدار الرخصة للصحيفة ما يجعله يعدل عن إصدارها1. جاء كرومر وهذه القوانين قائمة ومعمول بها فعلًا، فلم يلعنها؛ ولكنه أهلمها، وترك الحرية للمطابع ولصحافة. فانتشرت المطابع انتشارًا عظيمًا حتى بلغ عددها في أواخر عهد الاحتلال ما يربو على 217 مطبعة في القاهرة

_ 1 قانون المطبوعات سنة 1881- الهلال أول مارس 1901 ص 1321 - 3.

وحدها1. وأبيح للكتاب ورؤساء الأحزاب وغيرها إنشاء الصحف والمجلات من غير حاجة إلى استصدار رخص خاصة من قلم المطبوعات2. ولا شك أن إطلاق الحرية للصحافة وللكتب، قد حررها من ربقة الحكومة وسيطرتها، فلم تعد ميدانًا للملق والنفاق. والكذب، والدفاع بالباطل، عن تصرفاتها الخاطئة وتكبير حسناتها التافهة، بل صارت رقيبًا قويًّا، ولسان صدق الأمة ومطالبها القومية، وحربًا مريرة قاسية على الإنجليز وفظائعهم بمصر، والتشهير بهم في العالمين، ولا شك أن هذه كانت شجاعة فائقة من اللورد كرومر والتشهير بهم في العالمين، ولا شك أن هذه كانت شجاعة فائقة من اللورد كرومر الذي كان الحاكم المطلق لمصر في ذاك الوقت أقوى من الجالس على العرش، بل أقوى سلطة في البلاد، يزور قراها ويستقبل استقبال الملوك، ولا يستطيع إنسان أن يبت في صغيرة أو كبيرة من شئون الدولة إلا بأمره وبعد أخذ رأيه. أتى كرومر وعدد الصحف لا تزيد على بضع وعشرين صحيفة، ولكن لم يأت عام 1903 حتى كان بالقطر 176 صحيفة خص القاهرة منها 133 ما بين جريدة ومجلة3. ولقد أدى ازدياد الصحف إلى التنافس بينها، وأدى التنافس إلى تجويد المقال، واختيار الكتاب الأكفاء ذوي الأفكار الحية الجديدة، وإشباع نهم الجمهور للطريق الجديد من المقالات والأخبار، والتحدث بإسهاب عن مآسيه وأرزائه، وأمانيه وأدوائه، وكيف ننسى أنه في هذه الحقبة ظهر مصطفى كامل، وأشعلها حربًا مرة قاسية في الشرق والغرب على المحتل الغاصب، وكانت جريدة المؤيد في أول الأمر ميدانًا لمكافحته، ثم أنشأ جريدة اللواء4، بل أصدر جريدتين إحداهما بالفرنسية l etendar egyptien والثانية وبالإنجليزية5 The egytion stna dard؛ حتى يكون التشهير بفظائع الإنجليز أهم أقوى، ولم يصادر له اجتماع عقده، وقد كان عدد الحاضرين يبلغ أحيانًا سبعة آلاف، ولم تغلق له جريدة مرة

_ 1 goerge yong egypt: p.x. london 1927 2 الهلال أول مايو سنة 1907 ص 1461. 3 محاضرة يعقوب أرتين باشا في المجمع العلمي المصري سنة 1905. 4 صدر العدد الأول من جريدة اللواء في يوم 2 من يناير سنة 1900. 5 صدرت الجريدة الفرنسية في مساء يوم 20 مارس سنة 1907، والجريدة الإنجليزية في صبيحة 3 مارس 1907 راجع مصطفى كامل للرافعي ط ثانية ص 240.

وكان يكتب فيها جماعة من ذوي الأقلام الملتهبة القوية مثل عبد العزيز جاويش، ومحمد فريد. وكان إنشاء الأحزاب مباحًا كذلك، وقد أنشئ حزب الإصلاح برئاسة الشيخ على يوسف مناوئًا للحزب الوطني، بعد أن فسدت العلاقة بين الخديو عباس والزعيم مصطفى كامل في سنة "1904"1، ثم أنشئ حزب الأمة في سنة 1907، وهي السنة التي رحل فيها "كرومر"، ولكنه شهد مولد هذا الحزب قبل أن يغادر مصر وكان عنه راضيًا. كان حزب الأمة أول الأمر متأثرًا بأفكار الشيخ محمد عبده ونظرته في السياسة والإصلاح، وكان الشيخ محمد عبده على صلة طيبة بالإنجليز كما عرفنا في الجزء الأول، وقال كرومر في شأن رجال حزب الأمة في تقريره السنوي سنة 1906: "إنهم فئة قليلة من المصريين، ولكن عددها أخذ في الازدياد، ولا يسمع عنهم إلا الشيء القليل، بيد أنهم ليسوا أقل استحقاقًا لوصف الوطنية من الحزب الوطني الذي اختص نفسه بهذا الوصف؛ وهم ينشدون رقي بلادهم، ويعملون على تقدم إخوانهم في الدين من غير أن يصطبغوا بفكر الجامعة الإسلامية، وهم يرغبون في التعاون مع الأوربيين على إدخال المدينة الأوربية في مصر، وإنني أرى أن الأمل الوحيد للوطنية المصرية في معناها العملي الصحيح معقود بأعضاء حزب الأمة2. وقد أنشأ هذا الحزب "الجريدة" وكان يرأسه وقت تأسيسه حسن باشا عبد الرزاق وكان من أخلص الناس للشيخ محمد عبده، وبعد وفاته في سنة 1907 تولى الرئاسة محمود باشا سليمان، ثم أحمد لطفي السيد الذي يرأس تحرير الجريدة، ويقول الدكتور هيكل في أغراض الجريدة وحزب الأمة: "على أن المصريين قد رأوا فشل السياسة الأولى التي جروا عليها، وهي سياسة الاعتماد

_ 1 راجع مصطفى كامل للرافعي ص 339 وما بعدها. 2 تشارلز آدمز "الإسلام والتجديد" ص 214 نقلًا من كتاب الحقيقة عن مصر ص 81.

على فرنسا، ثم على أوربا، ثم على الباب العالي، وقدر جماعة منهم أن لا بد من الأخذ بسياسة أخرى هي إعداد الأمة بأدوات الاستقلال من علم وأخلاق، وغرس الإيمان بنفسها لا لمجرد كراهية الإنجليز، ولا حبًّا في الباب العالي ومقام الخلافة، ولكن حبًّا في الاستقلال والحرية لذاتهما، وكان لطفي السيد لسان الذين فكروا هذا التفكير1. ولقد أفضت قليلًا في الكلام عن حزب الأمة وجريدته؛ لأنه كان حزبًا يدعو إلى التجديد مع الاعتدال، والتوفيق بين المدينة الحديثة، والحضارة الإسلامية وتعاليم الشرع، أو كانوا كذلك في أول الأمر؛ لقرب تأثرهم بآراء الشيخ محمد عبده؛ ولأن البيئة المصرية حينذاك لم تكن تتحمل التطرف الشديد في التجديد، ولكنهم فيما بعد، حين تمتعت مصر بشيء من الاستقلال والحرية دعوا إلى التجديد السافر في غير تحفظ، وإلى حرية الرأي ولو كان فيه شطط وخروج عن الدين والتقاليد. ويعتبر رجال هذا الحرب أنفسهم سواء -في السياسة أو العلم- من القادة الذين يجب أن يستمع الشعب لآرائهم، ويسير وراءهم، ولهم في السياسة منحى معروف ينم على أنهم أخلصوا للإمام محمد عبده ونظرته السياسية بعد وفاته، وتمسكوا بتعاليمه، فمنهم صار الأحرار الدستوريون فيما بعد، وهم الذين دعوا إلى إنشاء الجامعة المصرية، وقاموا بإنشائها فعلًا في سنة 1908، وإن كان مصطفى كامل قد سبقهم في الدعوة إلى تأسيسها على نحو ما ذكرناه آنفًا، وهم الذين تولوا إدارتها فترة طويلة من الزمن في عهدها الحكومي، وقادوا الحركة الفكرية والتجديد في مصر في الآداب والفلسفة والاجتماع بقوة وجرأة، وربما كانت لنا عودة إليهم فيما بعد إن شاء الله. على أن إنشاء الجريدة كذلك كان فتحًا جديدًا في عالم الصحافة من جهتين: إذ ضاعفت الأجور للكتاب، فارتفع مستواهم الأدبي، وجارهم في ذلك أصحاب الصحف الأخرى، وجودت المقالة تجويدًا عظيمًا، بيد أن الجريدة لم تستمر بعد

_ 1 تراجم شرقية وغربية ص 159- 160.

قيام الحرب العالمية الأولى، وقد خلقتها في عهد الاستقلال جريدة السياسة اليومية وأختها السياسية الأسبوعية. كانت الصحافة من قبل تطرح على المشتركين، الذين يعدون الاشتراك فيها كرمًا وأريحية يحبون بها صاحب الجريدة، ولكنها بفضل المنافسة، والحرية، والاهتمام بالشعب وآماله والمزايدة في الوطنية، وتنبه شعور الجمهور للإصلاح والتخلص من الإحتلال من التصريح بأن صحافة وادي النيل بلغت، أو كادت تبلغ شأو الجرائد الأوربية من حيث الحجم، ووفرة الأخبار، وغير ذلك من المحاسن: والفضل في ذلك عائد إلى الحكومية المصرية، التي تحدت الحكومات الأوربية ما أمكن -بتأثير الاحتلال الإنجليزي- وعلى الجملة فالصحافة العربية في تاريخ حقبتها الثانية لا تستحق أن تعد بين الصحف الراقية إلا في مصر، ولا يمكن أن ترتقي في سائر الأفكار إلا بقدر ارتقاء المحيط الذي تصور فيه، كما نشاهد الآن ذلك بالفعل في أمريكا الشمالية، والجنوبية"1. ومما يدل على أن كرومر كان له الفضل في حرية الصحافة المصرية، أنه بعد رحيله لم تقوَ الحكومة، ولا رجال الاحتلال على مواجهة الحرية الصحفية، والقوة التي كانت تهجم بها على الفساد الحكومي، وتنغص على المحتل إقامته، وتبين مساوئ حكمه، وفساد إدارته، وتعسفه فأعادوا في 25 من مارس 1909 قانون المطبوعات القديم الذي كان قد صدر في أخريات الثورة العرابية، أي قبل الاحتلال في 26 نوفمبر 1881، وكان هذا القانون يخول وزير الداخلية الحق في إنذار الصحف، وتعطيلها مؤقتًا، أو نهائيًا من غير محاكمة أو دفاع، وكان بعثه وإعادة العمل به نكسة للحرية الصحفية، وقضاء على ما بقي للشعب المصري من متنفس، وكان صدوره أول مظهر للتحالف بين الخديو عباس والاحتلال ضد الحركة الوطنية2.

_ 1 تاريخ الصحافة العربية ج3 ص8. 2 راجع محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص100، ط ثانية.

وقد أثار هذا القرار حنق الشعب كله ضد بطرس غالي رئيس الوزراء حينذاك، وقامت المظاهرات العديدة في كل مكان بمصر تنادي بإلغائه، وتظهر سخطها على الوزارة التي سمحت برجوع هذا القانون، الذي صار سيفًا مسلطًا على الأفكار الحرة، وعلى رجال الوطنية الذين برموا بتلكؤ الإنجليز، ووعودهم الكاذبة. وقد حوكم المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش بمقتضى هذا القانون لأنه كتب مقالًا في ذكرى دنشواي، وحبس ثلاثة أشهر في أغسطس سنة 1909، ومع أن ما قام به الوطنيون في سنة 1906 حين وقع حادثه دنشواي، وما شنوه من حرب شعواء ضد الاحتلال في الداخل والخارج، وضد كرومر بصفة خاصة كان أعنف وأقوى ما رآه الإنجليز حتى ذلك الوقت، وكان السبب في أن ضحت إنجلترا بكرومر إرضاء للمصريين أولًا، ولتهدئة السخط الذي أظهره الرأي العام الأوربي حين سمع بهذه الفظائع الوحشية ثانيًا. ولم يفكر كرومر وكان بيده كل سلطان- أن يكمم أقفواه الجرائد أو يصارد الاجتماعات التي كانت تندد بسوءات حكمه. وبمقتضى هذا القانون أنذرت جريدة اللواء الإنذار الأول في سنة 1909، ثم عطلت نهائيًّا في أغسطس سنة 1912، وأوقفت جريدة "العلم" شهرين، وكانت قد ظهرت بجانب اللواء في 7 من مارس.1910، وصدر الأمر بإيقافها في 20 مارس، ثم نهائيًّا في 7 من نوفمبر سنة 1913 وبمقتضى هذا القانون كذلك حبس محمد فريد ستة أشهر؛ لأنه كتب مقدمة لديوان "وطنيتي" الذي نظمه الشيخ على الغاياتي، وصودر الديوان، وحبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر مع الشغل؛ لأنه كتب مقدمة أخرى لهذا الديوان كذلك1. وظل هذا القانون الصارم سيفًا بطاشًا، ويفتك بالصحافة الحرة، ويطيح بالآراء الجريئة بل يئدها قبل أن ترى الحياة، إلى أن شبت الحرب العالمية الأولى في أغسطس سنة 1914، وأعلنت الحماية على مصر، وجاءت معها الأحكام العرفية، فقضت على البقية الباقية من الحرية الصحفية، وكانت المؤيد قد توقفت عن

_ 1 محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص 188.

الصدور قبل ذلك بعد أن عين الشيخ على يوسف شيخًا للسادة الوفائية في سنة 1912، وودع المؤيد ورئاسة تحريره في سنة 1913، وأسندت رئاسة تحريره لمحمد بك أبو شادي، ولكن الديون كانت قد أثقلت المؤيد، فأصر الدائنون على بيع داره وأثاث بيت صاحبه لاستيفاء الدين، فبيعت في مارس 1913 وفي 25 من أكتوبر سنة 1913 توفي الشيخ علي يوسف وهو في الخمسين من عمره، ذهب ذلك الصوت المصري الجريء مع من ذهب من أعلام النهضة1. أما "الجريدة" لسان حزب الأمة، والصوت الجديد في الصحافة فقد توقفت كذلك في سنة 1914، وجنت عليها الحرب فيما جنت2. كانت الحرب العالمية الأولى نكبة على الناس، وقد حاول الإنجليز أن يتخذوا منها ذريعة للقضاء على ما بقي للمصريين من حرية واستقلال وشعور بالكرامة والوطنية، فمهدوا الطريق لإعلان الحماية على مصر ليقطعوا بذلك آخر صلة لها بتركيا، وليحكموها بيد من حديد بحجة الدفاع عن أنفسهم، وتأمين خطوط مواصلاتهم، فأعلنوا قانون التجمهر في 18 أكتوبر سنة 1914، الذي يقضي بألا يجتمع أكثر من خمسة أشخاص في مكان ما3، وغلوا البلاد بالأحكام العرفية في 2 من نوفمبر "1914"4. ثم أعلنوا الحماية في يوم 189 من ديسمبر "1914"5 وقد احتجت جريدة "الشعب" التي كان يصدرها أمين الرافعي احتجاجًا على إعلان الحماية6، وعطلت الجمعية التشريعية في 27 من أكتوبر 1915، فلم يبق في مصر أي صوت ينطق بلسان الشعب، أو يستطيع أن يتفوه بكلمة حق. وهكذا صمت المصريون أمام هذا الإرهاب الشنيع طوال أربع سنوات، تضيق صدورهم بما ترتكبه "السلطة" من آثام، ولا تنطلق ألسنتهم بما يعتلج في

_ 1 راجع ترجمة الشيخ علي يوسف وتاريخ المؤيد في كتابنا "في الأدب الحديث" ج1 ص415 وما بعدها ط سابعة. وكذلك في مقال للمؤلف عن الشيخ علي يوسف في مجلة الكتاب عدد يولية سنة 1948، وفي دراسات أدبية للمؤلف ج1. 2 راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل، وراجع الإسلام والتجديد ص215. 3 راجع ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص11. 4 الوقائع المصرية 2 من نوفمبر 1914. 5 الوقائع المصرية 18 من ديسمبر سنة 1914. 6 ثورة 1919 ص27 ج1.

حنايا هذه الصدور من آلام، وقد أشار سعد زغلول إلى ما عاناه المصريون في خلال هذه المدة من عنت وإرهاق في حديثه مع المعتمد البريطاني في سنة 1919 بعد أن أعلنت الهدنة بقوله: "وإن الناس ينتظرون بفروغ صبر زوال هذه المراقبة كي ينفسوا عن أنفسهم، ويخففوا عن صدورهم الضيق الذي تولاهم أكثر من أربع سنين"1. ثم اضطرمت الثورة في مصر سنة 1919، وكان من أهم أسبابها على ما أعتقده كبت الحريات، والتضييق الشديد على الآراء والأفكار طول عشرة سنوات كاملة، بل منذ خرج كرومر من مصر سنة 1906، ولقد كان كرومر استعماريًّا محنكًا، فسمح للمصريين بأن ينفسوا عن أنفسهم بالكتاب اوالخطابة فنأوا عن الثورة، وإن أطاحت به هذه الحرية التي منحها لهم وأبعدته عن مصر على أثر تلك الغارة الشعواء التي شنوها عليه بعد حادثة دنشواي الدامية، أما خلفاؤه فلم ينهجوا نهجه، ولم يتمرسوا بحكم الشعوب، ويدرسوا نفسياتها ويعالجوها بما يناسبها، فكانت ثورة 1919، وكانت خيرًا وبركة على وادي النيل. ولما شبت الثورة ازدادت رقابتهم على الصحف شدة وعنفًا حتى أن الصحف المصرية لم تستطع أن تشير إلى أول اجتماع عقده الوفد المصري برياسة سعد زغلول في دار حمد الباسل إلا بأنه اجتماع ضم كثيرًا من أعيان العاصمة والأقاليم ودعوا لتناول "الشاي" والحلوى ثم انصرفوا رويدًا رويدًا وجماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه2 ومن يقرأ هذا الكلام لا يفهم منه شيئًا يمت إلى السياسة بصلة، مع أن هذا الاجتماع كان إيذانًا بالثورة، وقد وضعت فيه مبادئ الجهاد، والوقوف في وجه المحتل الغاصب، وقد طبع الوفد ما اتخذه من قرارات، ووزعها على الناس حين عجزت الصحف عن نشره. ولما طارت أول شرارة من نار الثورة في مارس سنة 1919، واستشهد كثير من الشباب في ميدان التضحية، وكثرت الاعتقالات واستبدت السلطة الغاشمة،

_ 1 ثورة 1919 ص 70. 2 الأهرام 14 من يناير سنة 1919.

وأمعنت في طغيانها، ولم يجد الناس في الصحف غناء لمعرفة أخبار الثورة والجهاد، وانتشرت المطبوعات والصحافة السرية التي كانت تحمل الحملات الشديدة على الإنجليز، وعلى الوزارة، وعلى القصر، وكان للطلبة جريدة سرية باسم "المصري الحر" ولها مطبعة سرية خاصة، وكان الناس يتلقفون هذه النشرات بلهف بالغ، ويتبادون الاطلاع عليها، فساء ذلك المحتل الغشوم، وأمعن في إرهابه وعنته، وأصدر الجنرال "بلفن" أمرًا شديدًا بمعاقبة كل من يلجأ إلى طبع أو إذاعة أو توزيع أي نشرة أو صورة عقابًا صارمًا، وذلك في يونية سنة "1919"1. ولما عقدت معاهدة الصلح في قصر "فرساي" في 28 من يونية 1919، وتقرر فيها الاعتراف بشريعة الحماية على مصر، وتساهلت السلطة العسكرية البريطانية بعض الشيء مع المصريين، ألغيت الرقابة على الصحف ابتداء من أول يولية سنة 1919، ونشرت رئاسة مجلس الوزراء بيانًا في 26 يونية نصحت فيه أصحاب الصحف أن يلزموا الاعتدال حتى لا يلجئوا الحكومة إلى العودة لوضع القيود والروابط، ولكن الإلغاء كان صوريًّا؛ لأن إدارة الرقابة أرسلت إلى الصحف مذكرة سرية تفرض فيها الرقابة أشد وأنكى مما كان2. ثم مضت الثورة في طريقها لا تلوي على شيء، واشترك فيها الأمراء والفقراء، وأهل المدن، وأهل القرى، وعمت البلاد من شاطئ البحر المتوسط إلى حدود السودان، وكثر عدد القتلى والشهداء، وتأليف وزارات لم تستطع حكم البلاد، وظلت من غير حكومة فترات طويلة، وهنا اضطرت السلطة البريطانية إلى إعادة الرقابة على الصحف مرة أخرى في مارس "1920"3. ولما دعا عدلي يكن لمفاوضة الإنجليز رسميًّا، وكان سعد زغلول بباريس حينذاك، وطلب منه عدلي أن يشترك في المفاوضة أرسل إليه في 19 من مارس 1920 بأنه عائد إلى مصر، وقد اشترط للاشتراك في هذه المفاوضة شروطًا كان منها إلغاء الأحكام العرفية، والرقابة على الصحف قبل الدخول في المفاوضات4.

_ 1 راجع ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج2 ص36. 2 المراجع السابق ص29. 3 الوقائع المصرية في 58 من مارس 1920. 4 خطب سعد زغلول في حفل تكريمه بحي السيدة زينب يوم 22 من إبريل سنة 1921.

وقد حقق عدلي يكن بعض هذه الشروط في مايو سنة 1921، فرفعت الرقابة عن الصحف1. وانقسم الوفد المصري على نفسه، واختلف سعد وعدلي على رئاسة الوفد، ثم نفى سعد وصحبه إلى جزيرة سيشل في 15 من ديسمبر سنة 1921، وأعادت السلطة العسكرية الرقابة على الصحف مرة أخرى، وبطشت بكل صحيفة كانت تناوئها. ولما أعلن تصريح28 من فبراير 1922، وقاومته أغلبية الأمة، وكثرت الاغتيالات السياسية أساء ثروت "باشا" معاملة الصحف التي كانت تندد بالتصريح، وتعارض سياسته، فعطل جريدة "الأهالي" تعطيلًا نهائيًّا في سنة 1922، وعطل جريدة الأمة لمدة ثلاثة أشهر، وعطل الأهرام وأصدر أوامر مشددة إلى الصحف بتجنب ذكر اسم سعد وزملائه المنفيين2. وأخيرًا وضع الدستور المصري، وأعلن في 19 من إبريل سنة 1923، وقد كفلت المواد 4 و5 و13 و14 و21 منه الحرية الشخصية، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي بحيث لا يجوز القبض على أي إنسان ولا حبسه إلا وفق أحكام القانون، وكفلت المادة 15 منه حرية الصحافة، وحظرت الرقابة على الصحف، ومنع إنذارها وتعطيلها أو إلغائها إداريًّا، وانتهت الأحكام العرفية في 5 من يولية سنة 1923. وتمتعت مصر بفترة من الحرية النسبية حرمتها أمدًا طويلًا. بيد أننا نقول والأسف يملأ قلوبنا إن الإنجليز قد تركوا لهم أذنابًا وصنائع في مصر، عبثوا بها وبحريتها، وكانوا يعبدونها من دون الله، ومن دون الوطن، ونراهم تضيق صدورهم حين يشاهدون الأمة جادة في نيل استقلالها كاملًا غير منقوص، وكأني بهم ينظرون نظرة الذئب إلى فريسته أو الوصي إلى اليتيم الصغير، ويدعون أن الأمة لم تزل في حاجة إلى الهداية والرشد، وأنهم هم القادة الأكفاء الذين أرسلتهم العناية الإلهية للأخذ بيدها، ولكن هل في تعطيل الدستور والعبث به، ووضع دساتير فجة، وفي كبت الحريات والحد من الأفلام الجريئة هداية أو رشاد؟!

_ 1 في أعقاب الثورة لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص8. 2 المصدر السابق ص67.

لقد انفصل عن الوفد جماعة نفسوا على سعد رئاسته، وأسس حزب الأحرار الدستوريين في أكتوبر سنة 1922، وتصدعت وحدة الأمة، واجتهد القصر في أن يحتفظ لنفسه ببعض مزايا الحكم، وألف حزب الاتحاد، ثم حزب الشعب، ثم اندمج كلاهما في حزب الاتحاد الشعبي، وكانا يشايعان القصر، وقد أدت هذه الفرقة إلى تناحر الأحزاب فيما بينها، وشدد رجال الأحزاب النكير على الحريات، والصحف المعارضة كلما تولوا الحكم. وعمدت الصحف إلى المهاترات الحزبية، وانصرفت جهود الأمة إلى دعم الحزبية، لا إلى المطالبة بالاستقلال؛ وقد ظل الأمر كذلك بعد الحرب العالمية الثانية، فرأينا نيابة الصحافة تجد في تعقب الصحف ومؤاخذتها، وفرض الغرامات على أربابها. ولكن على الرغم من كل هذا فقد خطت الصحف في عهد الدستور خطوات واسعة جدًّا في سبيل الرقي من حيث المادة، والحجم، والفن الصحفي، وظهر إلى جانب الصحف اليومية مجلات أسبوعية وشهرية عنيت بالآداب والعلوم والفنون، وتفرغ لتحريرها صفوة الكتاب والأدباء، وعملت على تحبيب الأدب للجمهور وكانت أداة فعالة في التقريب بين الشرق والثقافة الغربية. وقد بلغت هذه الصحافة الأدبية الذروة بعد إعلان الدستور فترى السياسة الأسبوعية تحمل مشعل التجديد، وتحث الناس على الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية دون مراجعة أو تردد، وتستمر حقبة من الزمن وهي في عنفوانها، ثم تضمحل بضعف الأحرار الدستوريين سياسيًّا، ويظهر بجانبها البلاغ الأسبوعي ينافسها في ميدان الأدب، ويظل حقبة يغذي الأدب العربي بأفاويق الأدب الغربي، وبعرض أراء جمهرة من الكتاب والشعراء عرضًا جذابًا وتظهر مجلة الجديد في سنة 1928 لنائل المرصفي، ولكنها لا تبقى أكثر من سنتين، ومن ثم تظهر في الأفق مجلة قوية بأقلامها والمحررين فيها، وكانت ثمرة ناضجة لهذه الجهود الطويلة الذي بذلها محمد عبده وأتباعه ألا وهي مجلة الرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات، وتظل سنوات في مقدمة المجلات الأدبية في الشرق، إلى أن تظهر مجلة الثقافة للأستاذ أحمد أمين ولجنة التأليف والترجمة وتبقى قوية بضع سنوات ثم تضعف هذا عدا الهلال والمقتطف والزهراء لمحب الدين الخطيب وغيرها.

ثم تعلن الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939، وتعلن معها الأحكام العرفية، ويشح الورق، وتفرض الرقابة على المطبوعات، وينقص حجم الصحف، وتضعف الصحافة الأدبية تدريجيًّا، ويظهر في أعقاب الحرب نجم جديد في عالم الصحافة الأدبية وهي مجلة الكتاب التي تصدرها دار المعارف1. ويهتم الغربيون ببث دعاياتهم وثقافاتهم بين شعوب الشرق، فتصدر مجلة "المختار" الأمريكية في خلال الحرب، وكلها ترجمة عن المجلات الأمريكية، وفيها رأي العرب لونًا جديدًا حقًّا من الثقافة والتحرير ثم عجزت عن الاستمرار بعد سنوات وظهرت الهلال في ثوب جديد محتذية حذوها، متقربة نوعًا ما من ثقافة الشعب ومستواه دون أن تسف. ولعلك رأيت بعد هذا العرض السريع للصحافة في عهد الاحتلال والاستقلال مبلغ ما عانيناه من عنت، ومبلغ ما وصلنا إليه من حرية، سنعود مرة أخرى إلى الصحافة عند التحدث عن أثر النهضة القومية في الأدب إن شاء الله.

_ 1 من المؤلم أن المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة والكتاب قد اضطرت للاحتجاب وأعلن الأستاذ الزيات توقف الرسالة في الأهرام 31/ 2/ 1953 ثم تلتها مجلة الثقافة وتوقفت مجلة الكتاب في أغسطس 1953 وهذه لعمري نكسة أدبية مريعة، ولنا إلى هذا الموضوع عودة في أحد الأجزاء التالية حينما نتكلم عن النشر إن شاء الله.

الفصل الثاني: النهضة القومية

الفصل الثاني: النهضة القومية المظهر السياسي ... الفصل الثاني: النهضة القومية والنهضة القومية من أهم العوامل التي أثرت في أدبنا الحديث شعرًا ونثرًا حتى صار أدبًا قويًّا عملاقًا، استعادت به اللغة العربية سابق رونقها وبهائها أيام عصرها الذهبي في عهد العباسيين، بل أربت على ما كان لها من مجد بسبب اتصالنا القوي بالثقافة الغربية، وتغذيتها تغذية متواصلة بثمرات الأدب الأوربي فعرفت ألوانًا من الأدب لم تتذوقها. وللنهضة القومية مظاهر شتى، أثرت كلها في الأدب تأثيرًا بليغًا وسنذكر هذه المظاهر بشيء من التوسع، ونتكلم على آثار كل منها في الأدب على قدر ما تسمح لنا به هذه الصفحات المحدودة. المظهر السياسي: انتهت الثورة العرابية -كما عرفنا في الجزء الأول- بالاحتلال الإنجليزي لمصر في سنة 1882، وقد كان لإخفاق الثورة العرابية أثران جوهريان: أولهما: الاحتلال البريطاني، وقد أكد الإنجليز منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر، أنهم لا يريدون اغتصابها أو احتلالها ولكنهم جاءوا لحماية الخديو من الثورة وتثبيت عرشه، وأنهم جاءوا وهم ينوون الجلاء العاجل، حين تستقر الأمور ويهدأ الشعب1، ولكن الإنجليز كانوا يخادعون الأمة المصرية، ويتربصون بها الدوائر من زمن بعيد منذ حملة نابليون على مصر، ومنذ غزوتهم لها بقيادة الجنرال "فريز" سنة 1807 وهزيمتهم في موقعة رشيد2.

_ 1 تصريح جلادستون رئيس وزراء إنجلترا في البرلمان الإنجليزي سنة 1882، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 62، ومنشور الجنرال ولسلي قائد الجيوش البريطانية حين وصل إلى الإسكندرية سنة 1882- مذكرة أمين الرافعي عن المسألة المصرية 20 من نوفمبر سنة 1918. وثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص80. 2 تاريخ مصر مسياشي لمحمد رفعت ج1 ص92- 93.

وثانيهما: سريان روح الخضوع واليأس في نفوس المصريين بعد الاحتلال ومن مظاهر هذا اليأس تنصل زعماء الثورة العرابية من تبعاتها، والتجائهم إلى الإنجليز يستمدون منهم الصفح والمعونة. وقد ظلت مصر في هذه الحالة الشنيعة من الخضوع، والاستسلام، والاستعمار يمكن لأقدامه، ويوطد من دعائمه إلى أن قيض الله لمصر في آخريات القرن التاسع عشر بضع نفر من المواطنين عملوا جهدهم إلى أن يعيدوا لها ما عزب من آمالها. ولقد مر بك في الفقرة الأولى من هذا الفصل كيف أن اللورد كرومر قد طغى وبغى وتجاوز حده، وحكم مصر بيد حديدية إنجليزية، حتى صار فيها الحاكم المطلق، تحت إمرته جيش قوي، وشئون المال والأشغال والعدل في يد مستشاريه الإنجليز، ووزراؤنا لا يعنيهم إلا أن يرضوا العميد البريطاني، ولا سيما مصطفى فهمي الذي تولى الوزراء ثلاثة عشر عامًا متوالية من سنة 1895 إلى سنة 1908، وكان أطوع للإنجليز من بنان أحدهم، وكان إنجليزيًّا أكثر منهم، وكان يجاهر بأنه لا يستمد سلطانه من الخديو، وإنما يستمده من العميد البريطاني، ومثله نوبار ومحمد سعيد، ومن على شاكلتهم. ولما توفي الخديو توفيق وتولى عباس العرش في 8 يناير سنة 1892 استبشرت الأمة خيرًا بعهده. وأملت أن يجلو الإنجليز عنها، ولكن إنجلترا تذرعت بصغر سنة ونادت صحفها1 بأن "إرتقاء الخديو الشاب عرش مصر يجعل بقاء الاحتلال أكثر ضرورة من أي وقت فلا يجوز منذ الآن الكلام عن الجلاء" وقالت: "إن وفاة توفيق هدمت آخر حجة للجلاء". وابتدأ عباس يشعر بمرارة الاحتلال، والحد من سلطانه، وأخذ يناوئ الإنجليز، ويقف منهم موقفًا معاديًا في كثير من الأمور، وإن غلب على أمره في أكثر الأحيان، وكانت الأمة تشجعه، وتلتف حوله بادئ ذي بدء كما حدث حين أقال وزارة مصطفى فهمي الأولى "يناير 1883" من غير أن يستأذن الإنجليز في ذلك،

_ 1 البول مول جازيت. راجع مصطفى كامل ص314.

إذا توافد عليه رجال الأمة وأمراؤها وعلماؤها وأعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية والقضاة يهنئونه ويشدون أزره1، وكما حدث في أزمة الحدود سنة 1894، وقد أدى موقف عباس هذا إلى أن دب في نفوس بعض المصريين شيء من الحماس، وقد ظهرت أول الأمر عن طريق الصحافة. وذكرنا في الجزء الأول أن الصحافة المصرية في أخريات القرن التاسع عشر تأثرت بعاملين أولهما: تركيا، وكانت على الرغم من ضعفها، وإعانها للأمر الواقع تحاول إثارة النفوس ضد الاحتلال، وكان كثير من المصريين يدين لتركيا بالولاء، وهو ولاء ديني لا سياسي، مبعثه وجود الخلافة العثمانية، والمسلمون مكلفون شرعًا بطاعة الخليفة. وثانيهما: الاحتلال الذي حاول أن يجتث نفوذ تركيا من الأساس، ويقتلع من النفوس هذا الولاء، وقد استطاع أن يجد لسياسته هذه أنصارًا ومريدين، وأن يجتذب إليه قلوبًا عزيزة المنال تدافع عنه أو تسكت عن مخازيه، ووجد أن كثيرًا من السوريين المسيحيين ينقمون على تركيا استبدادها وغلظتها وسوء تصرفها معهم في ديارهم، وتفريقها بين عناصر الأمة، فاستمال هؤلاء الناقمين إليه، وحباهم عطفه ووده، وأنشئوا جريدة المقطم لسان حال لهم في 14 من فبراير سنة 1889. وهكذا انقسمت الصحافة فريقين: فريق تركيا، وفي الغالب يدعو للخديو، ويندد بالاستعار، إما مدفوعًا بالولاء الديني، أو الكراهية للإنجليز، أو بتحريض دولة أجنبية تنفس على أبناء التاميز مركزهم في مصر والشرق العربي، وفريق يدافع عن الإنجليز، ويتغنى بمحامدهم، ويشيد بنعمة الاحتلال، ويذيع مساوئ العهد التركي، وما ارتكب فيه من ظلم وكانت "المؤيد" ثم "اللواء" تمثل الفريق الأول، "والمقطم" تمثل الفريق الثاني على نحو ما ذكرناه في غير هذا المكان2.

_ 1 مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 320. 2 راجع في الأدب الحديث ج1 ص413- 415 ط سابعة.

طلع المؤيد على الناس في ديسمبر سنة 1889، والاحتلال الإنجليزي في عنفوانه، والثورة العرابية قد أخفقت، وشرد زعماؤها، وكممت الأفواه، ولكن النفوس كانت تضطرم بنار الوطنية والقلوب تنطوي على حقد دفين لهؤلاء الذين اغتصبوا حرية مصر، واستباحوا حرماتها، مع أنها كانت بالأمس القريب في عهد إسماعيل تتطلع إلى مستقبل باسم. وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني، وما بثه في مصر من حب للحرية، وثورة على الاستبداد والبغي ورغبة ملحة في إصلاح المفاسد الاجتماعية، وتحقيق العدالة بين الناس، ومن نظام الشورى الصحيح لا تزال تطن في الآذان، وتتردد في الأذهان وكانت ثورة عرابي والمبادئ العظيمة التي نادت بها من رفع السخرة وإنصاف المصريين ضباطًا وشعبًا والعدالة الاجتماعية بين الطبقات، وإنشاء المجلس النيابي لتمثل فيه الأمة، وما راح ضحية هذه الثورة من ضحايا لا يزال كله ماثلًا في قلوب المصريين. بيد أن الإنجليز كبتوا هذا الشعور الجياش وحاربوا في عنف وقسوة دعاة الحرية، وإن تظاهروا بأنهم أطلقوا للصحافة العنان، وتركوها حرة تقول ما تشاء. وسارت المؤيد في محاربة الإنجليز من غير هوادة ومهادنة، وأفسحت صفحاتها لذوي الأقلام الملتهبة المستنيرة من أمثال سعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، إبراهيم المويلحي، وعبد الكريم سلمان، ومحمد عبده، وتوفيق البكري، وفتحي زغلول وغيرهم وكانت المسرح الأول لمقالات مصطفى كامل المشتعلة ضد الاستعمار. وظل هذا ديدنها أمدًا طويلًا حتى بعد أن استمال الإنجليز صاحبها قليلًا، وفترت حدته نوعًا ما بتأثير الشيخ محمد عبده صديق "كرومر" من جهة، ولمهادنة عباس للاحتلال من جهة ثانية1. وقد يكون الشيخ على يوسف قد هادن الإنجليز، وسكت عن مخازيهم؛ ولكنه لم يثن عليهم أو يدعو لهم في يوم من الأيام، ولقد لاقى من رجال الحزب الوطني أشد العنف والإرهاق حين خفف لهجة المؤيد ضد الإنجليز، ولم تعد ترحب بمقالات مصفى كامل. وكان الشيخ علي يوسف موزع الولاء بين حبه للخديو وإخلاصه لمحمد عبده، فلما عقد الاتفاق الودي بين الإنجليز وفرنسا في سنة 1904، وظهر إنحياز

_ 1 اللواء في يوم 26 من ديسمبر سنة 1906.

الخديو بشكل واضح إلى الاحتلال، وقطع مصطفى كامل صلته بالخديو؛ لأنه لم يعد في نظره أهلًا لأن يتزعم الحركة الوطنية فانصرف عنه، وفي ذلك يقول: "لما رأيت، رغبة سموه في توطيد الحملات الحسنة بينه وبين ملك الإنجليز وحكومته، وجدت من واجبي أن أكون بعيدًا عنه" -لم يجد الشيخ على يوسف بدًّا من أن يتبع الخدو في سياسته، والشيخ محمد عبده في ميوله، ولكنه كما ذكرنا ظل حتى آخر لحظة من حياته عدوًا للإنجليز، وأن أسس حزب الإصلاح ليدافع عن الخديو وتركيا1. ظهرت في مصر إبان هذه الفترة ثلاثة أحزاب: أولها الحزب الإنجليزي ولسان حاله جريدة المقطم، ومن رجاله مصطفى فهمي، ونوبار، ومحمد سعيد وكثير من اللبنانيين الذين لجئوا إلى مصر، وكانت صدورهم حانقة على تركيا، وحزب الخديو وتمثله المؤيد وصاحبها، ويدين بالولاء لتركيا عن عقيدة دينية، وقد عبر المؤيد عن خدماته لها في موضع العتاب، حين اتهم بخروجه عن ولائه عقب وفاة السلطان عبد الحميد بقوله2: "كان المؤيد -وما زال- خادم الدولة الأمين ورسولها الصادق إلى الأقطار الإسلامية، وصوتها المسموع في أنحاء العالم، وقد تأسس على دعامة التفاني في الإخلاص لعرش الخلافة العظمى. ولقد يعلم القراء أن المؤيد سعى سعيًا مجيدًا في مساعدة الدولة في حربيها الأخيرتين3 بل هذه اللجنة العليا لحربي طرابلس والبلقان، وتلك الخطب الرنانة التي كان يلقيها مؤسس المؤيد في وسط جماهير المكتتبين للحربين للحث على البذل بجود وسخاء، وما كان يتبعها من الفصول التي تكتب في المؤيد بقلمه، وقلم إدارة التحرير كلها أدلة مجسمة على أن المؤيد قام للدولة العلية بالواجب في كل أدوار حياته".

_ 1 راجع مقالًا للمؤلف عن الشيخ علي يوسف في مجلة الكتاب يونية سنة 1948 وفي دراسات أدبية للمؤلف ج1. 2 المؤيد في 18 من أكتوبر سنة 1913. 3 يشير إلى حرب البلقان وحرب طرابلس.

وثالث هذه الأحزاب: الوطني، وقد كان مصطفى كامل يدعو أول الأمر لتركيا ويقول: "حقًّا إن سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها، ولا غرو أن كنا نتألم لآلام الدولة العلية، فما نحن إلا أبناؤها المستظلون بظلها الوريف المجتمعون حول رايتها. وقصارى القول إن الراية العثمانية هي الراية الوحدية التي يجب أن نجتمع حولها، ولا تتحقق وحدتنا بغير الاتحاد، والائتلاف قلبًا ولسانًا1. ويظهر أن موقف مصطفى كامل هذا كان موضع نقد كثير؛ إذ كيف يطلب لمصر الاستقلال التام، وطرد الإنجليز منها في الوقت الذي يريدها أن تكون خاضعة لتركيا، وقد دافع مصطفى كامل عن وجهة نظره في أكثر من خطبة، وبين بوضوح وجلاء، أنه إنما يدافع عن حق مصر الدولي، فتركيا بمقتضى معاهدة لندن سنة 1840 الدولة صاحبة السيادة على مصر، وقد اعترفت الدولة جميعًا بهذه المعاهدة، بينما لا توجد لدى الإنجليز أن وثيقة تؤيد بقاءهم فيها، فكان مصطفى كامل يدعو الإنجليز وسائر دول أوربا إلى احترام هذه المعاهدة، أضف إلى هذا أن تركيا على الرغم من ضعفها، وسوء حالها كانت تناوئ الإنجليز في مصر، وتود أن يخرجوا منها، وهذا يزيد المصريين في مطالبتهم بالاستقلال قوة، ثم أن سيادة تركيا على مصر كانت سيادة اسمية، لا تتدخل في شئونها الداخلية أو الخارجية، منذ معاهدة لندن 1840 بل قبل ذلك حين ثار عليها محمد علي وكاد يفتح القسطنطينية. ولقد أشار مصطفى كامل في غير ما خطبه ومقالة إلى هذه المعاني، فمن ذلك ما كتبه إلى مدام جولييت أدم: "إنك تعلمين خطتي نحو تركيا، وما أراه واجبًا نحوها، فقد أفصحت عن ذلك في خطبتي، واعترف كثيرًا من أصدقائنا اليونانيين بأن من السياسة القومية لمصر أن تكون حسنة العلاقة مع تركيا ما دام الإنجليز محتلين وطننا العزيز"2.

_ 1 مصطفى كامل 220 ط ثانية. 2 اللواء 2 من مايو سنة 1906.

ورد على منتقديه في اللواء بقوله: "أما دعواكم أن المواطنين المصريين يريدون الانتقال من استبداد إلى استعباد، وأنهم إنما يطالبون خروج الإنجليز من مصر ليدخلوا تحت حكم جديد، فهي دعوى لا يقبلها ذو لب، ولا يسلم بها أحد من العقلاء، فإننا نطلب استقلال وطننا، وحرية ديارنا، ونتمسك بهذا المطلب إلى آخر لحظة من حياتنا"1. وقال في إحدى خطبه: "إن مظاهرة الأمة المصرية نحو الدولة العلية هي مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزي، واشترك أفراد الأمة على اختلافهم في الاكتتاب للجيش العثماني هو اقتراح عام ضد الإنجليز في مصر"2. وقال في موضوع آخر: "ماذا يكون مصير البلاد المصرية لو تنازلت تركيا عن حقوقها لإنجلترا، أو تعاهدت معها على ذلك بمعاهدة شبيهة بالمعاهدة الفرنسية الإنجليزية "1904" ألا تصير ولاية إنجليزية؟ إذن فلماذا يدهش الكاتب من كوننا نجعل علائقنا مع تركيا حسنة، ونسعى لنيل الوسائل التي قد تفيدنا وتنفعنا؟ "3. وقد جارى مصطفى كامل في ذلك رجال الحزب الوطني من بعده، فقد جاء في تقرير الحزب الوطني الذي أرسله إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى، والذي نشر في إبريل سنة 1919 ما يأتي: "كان الحزب الوطني يطلب احترام معاهدة سنة 1840، ولم يكن ذلك عن رغبة منه عن الاستقلال المطلق، أو كما يقول أنصار الاستعمار الإنجليزي سعيًا في تغيير النير الإنجليزي بسيادة تركيا -كلا- فإن الحزب الوطني يتوخى الوسائل السلمية دون غيرها، لذلك كانت سياسته الاحتفاظ بعضد الدولة العثمانية وتذكير الدولة بمعاهدتها الضامنة لمصر الاستقلال الداخلي، على -أننا والحق- يقال لم نشعر قط بسيادة تركيا الاسمية بجانب السلطة الإنجليزية، ولم نرَ منها منذ سنة 1840 افتئاتًا على

_ 1 اللواء 2 من مايو سنة 1906. 2 المؤيد 9 يونيو 1892. 3 اللواء في 6 أكتوبر 1906.

استقلالنا الداخلي -لهذا كان من أسباب سكوتنا عن تركيا عدم شعورنا بثقل سيادتها، أما الآن وقد وصلت الإنسانية إلى هذه الدرجة من الرقى وجئنا أمام محكمة عادلة تريد أن ترد الحقوق إلى أربابها، فإن لنا أن نطلب كامل الحق -نطلب جلاء الإنجليز حالًا، واستقلال التام"1. ولقد حاول الإنجليز أن ينتزعوا اعترافًا بمركزهم في مصر، وقد مكنهم انتصارهم في الحرب العالمية الأولى من أخذ هذا الاعتراف دوليًّا فاعترفت تركيا بحماية إنجلترا على مصر في معاهدة سيفر "أغسطس سنة 1920" وحذا حذوها كثير من الدول2. ولقد أفضت في الحديث عن تركيا وموقف مصر منها؛ لأن أدبنا في هذه الحقبة، ولا سميا الشعر متأثر كل التأثر بهذه العلاقة سواء كانت سياسية، أو دينية لوجود خليفة المسلمين بتركيا، فأنت ترى شوقي، وهو شاعر الخديو، وفيه دم تركي يتغنى في مناسبات شتى بأمجاد الترك، ويرجى الثناء العاطر، والمديح المستطاب لعبد الحميد الطاغية، ويفرح المصريون، والعرب عامة حين يعلن الدستور في تركيا سنة 1908 ويسجل الشعراء ذلك في أشعارهم، وما من شاعر في الجيل الماضي إلا ومدح عبد الحميد وغير عبد الحميد من سلاطين آل عثمان، وفرح بانتصار الأتراك في معاركهم، وحن لأحزانهم. وإذا تصفحت شعر شوقي تجد أنه أسرف في مدح عبد الحميد3 الطاغية، وفي إظهار ولائه للأتراك فلا تكاد تمر مناسبة سارة أو محزنة لهم من غير أن يقول فيها قصيدة وهذا ديوانه بين أيدينا تجد فيه ما يقرب من خمس عشرة قصيدة في الأتراك وسلطانهم، وقوادهم والمناظر الجميلة ببلادهم، وتراه يبالغ في مدح عبد الحميد مبالغة غير مقبولة من مثل قوله:

_ 1 ثورة سنة 1919 ج1 ص95. 2 ثورة سنة 1919 ج2 ص71. 3 ولد السلطان عبد الحميد في 21 سبتمبر سنة 1842، وتولى الملك في أغسطس سنة 1876: وخلع في 27 من إبريل سنة 1909 وتوفي في 10 من فبراير سنة 1918.

فأحييت ميتًا دارس الرسم غابرًا ... كأنك فيما جئت عيسى المقرب سهرت ونام المسلمون بغبطة ... وما يزعج النوام والساهر الأب ويجعله عمر بن الخطاب في عدله، وحدبه على اليتامى بقوله: عمر أنت بيد أنك ظل ... للبرايا وعصمة وسلام ما تتوجت بالخلافة حتى ... توج البائسون والأيتام وسرى الخصب والنماء ووافى ... البشر والظل والجنى والغمام وبدا الملك ملك عثمان من علـ ... ـيك في الذروة التي لا ترام ويفصح عن محبته للأتراك بقوله: وزينب إن تاهت وإن هي فاخرت ... فما قومها إلا العشير المحبب وعن تبعية مصر لعبد الحميد بقوله: وإني لطير النيل لا طير غيره ... وما النيل إلا من رياضك يحسب ويبشر شوقي في بعض القصائد العثمانية إلى هذا المعنى السياسي الذي وضحناه آنفًا، وهو أن حسن العلاقة بين مصر وتركيا يحول دون تنازل الثانية عن حقها المعترف به دوليًّا ويجعل مركز الإنجليز في البلاد غير شرعي بقوله في قصيدة يهنئ فيها الخليفة بالعيد: أبا القمرين عرشك في قلوب ... تجاوز في الولاء المستطاعا ترى فيه الصبان لحق مصر ... فلولا العرش يعصمه لضاعا يود سواك أن تهدي إليه ... ولو تشري القلوب ولن تباعا ويقول له من قصيدة أخرى يستنجد به ويستصرخه: نستميح الإمام نصرًا لمصر ... مثلما ينصر الحسام الحسام فلمصر وأنت بالحب أدرى ... بك يا حامي الحمى استعصام وإلى السيد الخليفة نشكو ... جور دهر أحراره ظلَّام وعدوها لنا وعودًا كبارًا ... هل رأيت القرى علاها الجهام

فارفع الصوت إنها هي مصر ... وارفع الصوت إنها الأهرام وارع مصرًا ولم تزل خير راع ... فلها بالذي أرتك زمام وقد حزن شوقي أشد الحزن حين هوت الخلافة عن سلاطين آل عثمان، وندبها وبكاها في أكثر من قصيدة، ونصح لمن قاموا بهذا الانقلاب أن يبقوا على وشائج القربى بيننا وبينهم، وقد كان مدفوعًا ولا شك فعاطفته الدينية، والجنسية، فيقول للكماليين: يا فتية الترك حيًّا الله طلعتكم ... وصانكم وهداكم صادق الخدم أنتم غد الملك والإسلام لا براحًا ... منكم بخير غد في المجد مبتسم تحلم مصر منها في ضمائرها ... وتعلن الحب جمعًا غير متَّهم فنحن إن بعدت دارٌ وإن قربت ... جاران في الضاد أو في البيت والْحَرَم وترى شوقي يحزن لحزن الأتراك، ويفرح لأفراحهم فيقول عند سقوط أدرنه قصيدته التي مطلعها: يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام ويرثي طيارين تركيين سقطت بهما الطيارة في مصر بقصيدته التي مطلعها: انظر إلى الأقمار كيف تزول ... وإلى وجوه السعد كيف تحول ويرثي أدهم باشا التركي1 وعثمان باشا الغازي الذي اشتهر في حربه مع الروس2 وإذا عذر شوقي في كثرة ما قال في تركيا، وفي شدة تعلقه بها؛ لعاطفته الدينية، ثم لوجود دم تركي فيه، ولأنه شاعر الأمير، والأمير من أصل تركي، فإنَّ كثيرًا من شعراء الجيل الماضي قد أظهروا هذه العاطفة نحو تركيا؛ فهذا السيد توفيق البكري يمدح السلطان عبد الحميد في قصيدة طويلة3 يقول في أولها:

_ 1 شوقيات ج3 ص140. 2 المصدر السابق ص142. 3 صهاريج اللؤلؤ ص50.

أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم إمام في آل عثمان لحمة ... تبحبح منها في الذرى والمقدم وهذا حافظ يمدح عبد الحميد بأكثر من قصيدة فيهنئه بعيد جلوسه في سنة 1901 بقصيدة مطلعها1: وفيها يقول: وهل قر في برج السعود متوج ... كما قر في "يلديز" ذلك المعصَّب تجلى على عرش الجلال وتاجُه ... يهش وأعواد السرير ترحب سما فوقه والشرق حذلانُ شَيِّقُ ... لطلعته والغرب خذلان يرقب ويقول في قصيدة أخرى مطلعها2: أثنى الحجيج عليك والحرمان ... وأجلَّ عيد جلوسك الثقلان وهذا محمد عبد المطلب يمدح عبد الحميد ويهنئه بالدستور في سنة 1908 بقصدة يقول في أولها: يا عيد حي وأنت خير نهار ... عبد الحميد بدولة الأحرار ملك أقام على الخلافة منهم ... حرسًا وقاها صولة الأشرار ويفرح لانتصار الأتراك على اليونان في حرب "سقاريا"3 إلى غير ذلك من المناسبات التركية.

_ 1 ديوان حافظ ج1 ص15. 2 ديوان حافظ ج1 ص44 وقد قالها مهنئًا بعيد جلوسه 1908 بعد إعلان الدستور العثماني. 3 ديوان عبد المطلب ص198.

وترى مصطفى صادق الرافعي يجاري شعراء زمانه فيمدح عبد الحميد بثلاث قصائد1، وقلما أحجم شاعر مصري مسلم عن إظهار عاطفته لخيلفة المسلمين وللأتراك، بل إن إعلان الدستور في تركيا كان عيدًا عامًّا لدى المسلمين في كافة أنحاء الأرض، وسجل شعراء العربية أينما حلوا سرورهم بزوال الطغيان وحكم الفرد، وبدء عهد جديد من الحرية سيان في ذلك المسلمون والمسيحيون2. ومهما يكن تأويل رجال الحزب الوطني، وحزب الإصلاح لولائهم لتركيا وعرش الخلافة، فالحق الذي لا مرية فيه أن فكرة القومية المصرية لم تكن حتى نهاية القرن التاسع عشر قد نضجت النضج الكافي، ولم يكن المصريون يفكرون جديًّا في الاستقلال التام عن تركيا، وإن طمع في ذلك إسماعيل، بيد أن تركيا والدول قد كادوا له؛ وإن ظهر ذلك على لسان أحمد عرابي كما بينا ذلك في الجزء الأول وعلى لسان عبد الله نديم في الأستاذ، ونادى كلاهما بأن مصر للمصريين، ولكنها لم تكن دعوة مؤسسة على عقيدة ثابتة3. وكيف تظهر فكرة الانفصال عن تركيا وخديو مصر يستمد سلطانه الشرعي من الخليفة ويدين له بالولاء ولو اسميًّا؟ أجل! ظهر في مصر حزب لم يكن راضيًا عن هذه السياسة4 وشجعهم الإنجليز على ذلك، وأخذوا ينددون بمساوئ الحكم التركي بعامة، وبعهد عبد الحميد الطاغية بخاصة، استمع لخليل مطران يعزي الآستانة حين أشعلت فيها النار بعد صدور الدستور، واتهم بذلك أنصار عبد الحميد؛ إذ لم يطق صبرًا على حكم الشورى، وخلع في سنة 1909، وتولى بعده السلطان محمد الخامس. فروق لا تستيئسي وذوى ... بالحق عن دستورك المجيد مكايد الطاغية المريد ... وفتك أهل البغي والجحود بالأبرياء الآمنين القود ... والشيب والأطفال في المهود4 شر العدى لعهدك الجديد ... أصلوك نارهم بلا وعيد

_ 1 ديوان الرافعي ج1 ص33، 46، ج2 ص69. 2 راجع العوامل الفعالة في الأدب العربي الحديث لأنيس المقدسي. 3 راجع في الأدب الحديث 1 ص327 ط سابعة. 4 المرجع السابق ص392.

واستمع كذلك لولي الدين يكن، وقد أوذي ونفي لأنه حمل حملة شعواء على عبد الحميد وطغيانه، ومساوئ العهد التركي: يا وطنًا قد جرى الفساد به ... متى يرينا إصلاحك الزمن دفنت حيًّا وما دنا أجل ... ما ضر لو دافنوك قد دفنوا ويعارض شوقي في قصيدته التي قالها غب خلع عبد الحميد والتي يقول في أولها: سل يلدزا ذات القصور ... هل جاءها نبأ البدور لو تستطيع إجابة ... لبكتك بالدمع الغزير ويقول ولي الدين في عبد الحميد: وخترت يا عبد الحميد ... وما استحيت من الختور إن الثلاثين التي ... مرت بنا مر العصور وهبتك تجربة الأمور ... فعشت في جهل الأمور ورددت عادية الخلا ... فة بعد ذلك للصغير من كان يدعوك الخبيـ ... ـر فلست عند بالخبير ولكن أمثال مطران، وولي الدين يكن كانوا يريدون إصلاح حال تركيا، ولم تظهر الفكرة الوطنية المصرية بعيدة عن الجامعة الإسلامية بوضوح وجلاء إلا على يد رجال حزب الأمة كما مر بك1 ولكن هذا الحزب في مبدأ نشأته كان مواليًا للاحتلال، وظل مترسمًا خطى الشيخ محمد عبده في ذلك السبيل حتى رحل كرومر عن مصر، فغمرته موجة الوطنية2. ومهما يكن من اختلاف نظرة الشعراء في مصر إلى تركيا، فقد كانت هناك حقيقة واقعة كان يجب ألا يختلفوا فيها وهي ذلك الاحتلال الجاثم على صدر

_ 1 راجع ص65 من هذا الكتاب. 2 راجع شارلز آدمز ص215 في كتاب الإسلام والتجديد، والحقيقة عن مصر تأليف الكسندر ص201- 202- لندن 1911.

مصر يسلبها أعز ما تصبو إليه الأمم وهو نعمة الاستقلال، وحرية التصرف، والسير في سبيل الرقي، ويسلبها في الوقت نفسه ثروتها، ويدفعها إلى ظلمات الجهل، أو إلى علم ضحل أحسن منه الجهل. وقد ظن الإنجليز منذ وطئت أقدامهم أرض مصر في سنة 1882 أن الشعور الوطني قد خمدت جذوته، وزالت حدته، وضعفت شِرَّته، وأن المصريين قد استناموا لعدلهم المكذوب، أو لحكمهم المرهوب، ولكن راعهم صوت مصطفى كامل المدوي، الممتلئ قوة وفتوة وعزيمة، ونزاهة قلب وضمير ويد ولسان كأنه الشعلة المتقدة ترفعها يد الحق عالية تبدد ظلمات الجور والعسف والذلة والانحلال، فاستجابت القلوب لضوئها، وسارت في هديها، ولبى نداءه كل وطني غيور كان يكبت شعوره، وسارت أغلبية الأمة من خلفه ففزعت إنجلترا، وارتاعت لهذه الوطنية، وخشيت أن تجتاحها من مصر وأن تغرق الأرض تحت قدميها أو تفوض دعائم الاحتلال الذي شيدته في ما يقرب من عشرين عامًا، ويصير رمادًا لا أثر له. وكان الخديو عباس الثاني يشجع مصطفى كامل أول الأمر ويؤيده في جميع مجهوده، ويمده بالمال، لينفق على دعايته ضد الإنجليز1، ويتمكن من السفر إلى فرنسا؛ لأنها كانت تناصره، ووجد فيها أصدقاء من رجال الصحافة والسياسة يشدون أزره، وينشرون كلماته الملتهبة، ويبصرون الرأي العام الأوربي بمساوئ الاحتلال في مصر. بيد أن عباسًا قد رأى أنه لا يستطيع مسايرة الحركة الوطنية ولا سيما بعد أن اتفقت فرنسا وإنجلترا سنة 1904 فأخذ يهادن الاحتلال، وعلم أن لا سبيل لمعاداته، وأن مصالحه الكثيرة تتعطل بسبب هذه العداوة، وحينئذ رأى مصطفى كامل أن يستقل بحركته، وأن يقطع صلته بالخديو وفي هذا يقول: "ولما رأيت رغبة سموه في توطيد الصلات الحسنة بينه وبين ملك الإنجليز وحكومته، وجدت من واجباتي أن أكون بعيدًا عن سموه"2، وقال في مناسبة أخرى: "قد قلنا مرارًا إن سمو الأمير بعيد عن الحركة الوطنية، وأن

_ 1 تاريخ الإمام الشيخ محمد عبده ج1 ص592، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ط ثانية ص336. 2 اللواء عدد 26 من ديسمبر سنة 1906.

المجاهدين ضد الاحتلال مستقلون عن سموه كل الاستقلال، فهو إن قال كلمة في صالح الحركة الوطنية خدم نفسه وعرشه واستمال أمته إليه، وإن عمل ضدها أضر نفسه وعرشه ونفر أمته منه"1. أيقظ مصطفى كامل ورجال الحزب الوطني، ورجال الخديو عباس وعلى رأسهم الشيخ علي يوسف في المؤيد الشعور الوطني، وكان طبيعيًّا أن يظهر هذا الشعور في الأدب ولا سيما في الشعر؛ ولو نظرنا إلى شعرائنا الذين اشتهروا في ذلك الوقت وجدناهم يقفون من الاحتلال وشئونه مواقف متباينة، مع أن الواجب كان يقضي عليهم بأن تكون نظراتهم إليه واحدة؛ نظرة الساخط الغاضب الحانق على الحرية المسلوبة والحق المضاع، والظلم البين، والوطن المستباح. ولكنهم تأثروا بعده عوامل بعضها شخصية وبعضها سياسية. أما شوقي فكان شاعر القصر، وكان القصر متحفظًا في مجاهرته بالعداء للإنجليز، يساعد الوطنيين سرًّا، ولكن لا يريد أن يظهر حتى لا يتمسك عليه المحتل الغشوم بشيء فيسطقه عن عرشه، وهو صاحب الحول والطول والجيش المحتل، المدجج بالسلاح، وكثيرًا ما اصطدم بكرومر، ولكن الكلمة الغالبة والرأي النافذ كان في آخر الأمر لممثل الاحتلال2 وظلت علاقته بكرومر سيئة حتى بعد أن انفصل عن الحركة الوطنية إلى أن ترك كرومر مصر؛ وذلك لأن كرومر كان عاتيًا جبارًا، وقد حدث بينهما ما لا يدع مجالًا للوفاق على الرغم من تساهل عباس وإظهاره الرضا عن الاحتلال، فقد كان من عادة الجيش البريطاني أن يقوم بعرض عسكري في يوم عيد ميلاد ملكهم وكان كرومر يرأس هذا العرض. ثم رأس خلفه "الدون جورست" ومنذ سنة 1904 ابتدأ عباس يحضر هذا العرض ويقف تحت العلم البريطاني في ميدان عابدين إلى جانب كرومر، وقد اشتدت عليه حملة الوطنيين لذلك مما اضطره إلى التنصل، وإصداره بلاغًا يعزو فيه وجوده في أثناء العرض إلى محض الصدقة، ولكنه فعل ذلك في العام التالي، فهاج الطلبة، وثارت الصحافة وحدثت بعد ذلك حوادث اضطرته إلى العدول عن حضور العرض3. ومن أمارات تساهل عباس مع كرومر كذلك أنه رضي بأن يعين له

_ 1 اللواء عدد 27 مايو سنة 1907. 2 راجع مصطفى وما بعدها. 3 راجع مصطفى كامل ص183 وما بعدها، ومحمد فريد ص72.

"ياور" إنجليزي في سنة 1905 هو وطسن باشا1 ولكن كرومر لم يثق بعباس مطلقًا فلما رحل عن مصر وعين "الدون جورست" بدلًا منه، ظهر عباس بخضوعه التام للإنجليز، واستسلامه لهم، وأخذ ينفي عن نفسه تهمة العمل ضد الاحتلال، ويذكر اللورد كرومر بالخير، ويصرح بأن المعتمد البريطاني لا يستطيع أن يحكم مصر وحده، وأنه مستعد للتعاون معه، وأنه لا فائدة للمصريين من استبدال احتلال باحتلال، وأن الاحتلال البريطاني أفضل من سواه2. كان شوقي حبيسًا في قفص من ذهب، صنعه له القصر، وكان بهذا وبحكم نشأته البعيدة عن الشعب وآماله وآلامه، وبحكم صلته بالقصر، وما تفرصه عليه هذه الصلة من أتباع سياسة الأمير، وأن يفكر ويتدبر، ويقدر قبل أن ينطق، ويقيس صلته بالناس، وعداوته، وقربه، وبعده نرضى الأمير وسخطه، كان بحكم كل هذه المور بعيدًا عن طبقات الشعب، لا يعرف من السياسة القومية الصحيحة إلا بمقدار ما يشعر به عباس، وتارة يسمح له بالقول، وتارة يأبى عليه أن يجهر برأيه، وإن كان شوقي -والحق يقال يحب مصر من أعماق قلبه، وقد عبر عن هذا الحب بشتى السبل ولكن الذي لِيمَ عليه أنه لم يكن يجاري التيار الوطني المتدفق أيام أن كان مع عباس. لما رحل كرومر عن مصر، وعلاقته بعباس ما عرفت، وأساء في خطبة وداعه لإسماعيل كل الإساءة على الرغم من حضور الأمير حسين كامل قال قصيدته المشهورة3. أيامكم أم عهد إسماعيلا ... أم أنت فرعون يسوى النيلا أم حاكم في أرض مصر بأمره ... لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا يا مالكًا رق الرقاب ببأسه ... هلا اتخذت إلى القلوب سبيلا لما رحلت عن البلاد تشهدت ... فكأنك الداء العياء وبيلا

_ 1 مصطفى كامل ص185. 2 من حديث للخديو عباس مع مراسل الديلي تلغراف في مايو سنة 1907 راجع اللواء 26 من مايو سنة 1907. 3 ديوان شوقي الجزء الأول ص178.

ولقد مرت بمصر حادثة فظيعة لم يقل فيها شوقي أول الأمر شيئًا، تلك هي حادثة دنشواي1، ولم ينطق إلا بعد مرور عام، وبعد أن ذهب كرومر من مصر. ولقد أظهرت هذه الحادثة رجال الاحتلال على حقيقتهم، وعرفت المصريين مقدار كذبهم ونفاقهم، لم يكن القصد الجنائي في هذه الحادثة متوافرًا في قليل أو كثير، فهي من أولها إلى آخرها قضاء وقدرًا، فلو أن صيادي الحمام ابتعدوا قليلًا عن جرن الغلال لما حدث شيء، بل لو هدأ هذا الجندي المصاب، ولم يجر فزعًا مسافة طويلة في الشمس المحرقة لما خر صريعًا بضربة شمس لا بضربة العصا، كما اعترف بذلك تقرير الطبيب البريطاني نفسه. ولكن رجال الاحتلال فقدوا أزمة أعصابهم، وطغت عليهم سورة الانتقام، على نحو ضاعت معه كل مظاهر العدالة التي هي أول واجب عليهم، كما أنها من أوائل حقوق المتهمين، ولكن كيف تذكر العدالة، وقد تصرف الإنجليز بنزق وطيش، حتى إنهم أرسلوا المشانق من القاهرة إلى دنشواي قبل أن تعقد المحكمة لنظر القضية، ولقد كانت محكمة عسكرية ممسوخة التكوين جل أعضائها من الإنجليز، فهي الخصم والحكم وتحاكم قومًا مدنيين، لا جنودًا محاربين. وفي إبان السلم لا في زمن الحرب، وفي وقت يسود فيه النظام والهدوء فلا أحكام عرفية، ولا إجراءات استثنائية؛ وهي محكمة لا تتقيد بقانون وحكمها غير قابل للطعن فيه أو النقض له، أو حتى لمجرد التعديل أو المراجعة او التصديق، بل حكمها مبرم كأنه القضاء النازل لا راد له، ولا حِوَل عنه. ومتهمون يساقون في عجلة متناهية إلى محكمة، ودفاع متخاذل لم يكترث بخطورة الاتهام، ولم يتناسب مع شدته

_ 1 دنشواي قرية صغيرة تابعة لمركز شبين الكوم، وقد ذهب إليها جماعة من الإنجليز في 13 من يونيو سنة 1906 لصيد الحمام، فأصابت رصاصة من رصاصاتهم امرأة وحرقت جرن قمح، فتجمع الأهلون غاضبين، فاعتدى البريطانيون عليهم بأسلحتهم، وقتلوا شيخ الخفراء، فدفع الناس عن أنفسهم بالحجارة فجرح أحد الضباط الإنجليز في رأسه جرحًا وفر الجريح ومن معه، وجروا في الشمس ما يقرب من ثمانية أميال، فمات متأثرًا بضربة الشمس وتارت ثائرة الإنجليز لهذه الحادثة، وأسرفوا في تصويرها إسرافًا جعلهم بخرجونها من صبغتها الفردية إلى التعصب الديني وإلى أنها تمثل روح التمرد الكاملة في نفوس المصريين. فعقدوا محكمة عسكرية قضت على واحد وعشرين رجلًا بأحكام مختلفة أعدم منهم أربعة وقد صدر هذا الحكم في 27 من يونية سنة 1906أي بعد الحادثة بأربعة عشر يومًا "راجع تفاصيل الحادثة في كتاب مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 192".

وقسوته. وحكم قاسٍ غريب يصدر في سرعة فائقة بإعدام أربعة من المتهمين شنقًا أولهم شيخ في الخامسة والسبعين. ونفذ الحكم في اليوم التالي لصدوره بطريقة وحشية تشمئز منها النفوس وتقشعر لهولها الأبدان، فقد شنق جهارًا في رائعة النهار وفي نفس المكان الذي وقعت فيه الحادثة، وعلى مرأى ومسمع من أهليهم وذويهم، وهذا -ولا ريب- منافٍ لكل قواعد الذوق والشعور الإنساني. وعلى العموم فإن الألفاظ لتتحاذل عن وصف هذه البشاعة، والفجر، والقسوة الغاشمة، ومتابعة تنفيذ الحكم من جلد، وتعليق للمشنوقين ... إلخ. ولقد استغل الوطنيون هذه الحادثة الفظيعة أروع استغلال، وشنها مصطفى كامل وصحبه حربًا شعواء على رجال الاحتلال، سمع صوتهم الإنجليز في بلادهم، وأثير بسببها الجدل في مجلس العموم البريطاني، وعدل رجال الاحتلال بعدها من سياستهم المتعسفة نحو مصر، وأجبر اللورد كرومر على الاستقالة عقب هذه الحادثة. وهي نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي، عم فيها الشعور الوطني بعد أن كان الظن أن سواد الأمة راضٍ عن الاحتلال1. ومما يذكر في صدر حادثة دنشواي أن الكاتب العالمي "جورج برناردشو" كتب عن هذه الحادثة فصلًا من ست عشرة صفحة في مقدمة كتابه "جزيرة جون بول الأخرى" ولم يكتب أحد عن قضية دنشواي من الأجانب ما يضارعه في صدق العاطفة والدفاع ومضاء الحجة، وشدة الغيرة على المظلومين في هذا الحادث المشئوم، حتى لقد قرن "شو" في إنجلترا باسم دنشواي، ومما قاله في تلك المقدمة: "إن الفلاحين لم يتصرفوا في هذا الحادث غير التصرف الذي كان منتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز؛ لو أنهم أصيبوا بمثل مصابهم في المال والحرمان، وإن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث بل كانوا لاعبين عابثين، وأساءوا اللعب، وأساءوا المعاملة، وإن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عبثًا كهذا لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين لم تكن لهم هذه الثقة

_ 1 راجع مصطفى كامل ص 232 وما بعدها.

بالتعويض، ولا بالإنصاف وإن أحد المشنوقين كان شيخًا في الستين، يبدو من الضعف كابن السبعين، فلو لم يشنق لجاز أن يموت في السجن قبل انقضاء خمس سنوات. ثم أجمل القول في الحادثة، ووقائع المحاكمة، وأقوال الشهود، وما جوزي به بعضهم على الصراحة في أداء الشهادة، وأشبع اللورد كرومر ووكيله "مستر فندلي" تقريعًا وسخرية على ما كتباه عن القضية إلى وزير الخارجية، ومنه قول "فندلي" في تسويغ عقوبة الجلد بمصر: "إن المصريين قدريون لا يهمهم الموت، كما تهمهم العقوبة البدنية"، فكان تعقيب "شو" على هذا التعليل العجيب، أن العجب إذا في أمر الأربعة المشنوقين، أليسوا من المصريين؟ وقد شملت حملته الوزارة البريطانية، والبرلمان الإنجليزي؛ لأنهم لم يمنعوا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، وقال: "إن الإفراج عن المسجونين من أهل القرية أقل تفكير منتظر عن هذه الكارثة البربرية" وظل "شو" يتابع القضية بعد إقامة كرومر، وأعلن اغتباطه بعد سنة حين أثمرت حملته ثمرتها المشكورة، وأبلغوه أن العفو عن السجناء قريب1. قلنا: إن شوقي صمت عامًا كاملًا لم يقل كلمة؟ وكان المنتظر بعد أن عم الأسى من أقصاها إلى أقصاها، وتألم لمصابها حتى الإنجليز أنفسهم، وصار الناس كأنهم في مأتم على حد قول قاسم أمين: "رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبًا مجروحًا، وزورًا مخنوقًا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي والأصوات. وكان الحزن على جميع الوجوه، حزن ساكن مستسلم للقوة، مختلط بشيء من الدهشة والذهول، وترى الناس يتكلمون بصوت خافت، وعبارات متقطعة، وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت"2. نقول كان من المنتظر من شوقي وأمثال شوقي أن يعبروا عن عواطف المصريين جميعًا إزاء هذه الكارثة، وأن يشعلوها نارًا مضطرمة الأوار، متأججة

_ 1 راجع جورج برناردشو في سلسلة أقرأ. 2 مصطفى كامل ص 203.

السعير، تحرق تلك القلوب الغليظة التي انتقمت من غير شفقة ولا رحمة من قوم عزل ضاعف مظلومين، ولكن شوقي اتبع سياسة القصر في ذلك، سياسة الحياد والمهادنة والخوف من كرومر الطاغية ولم ينطق إلا بعد مرور عام، فقال قصيدة من أربعة عشر بيتًا، وفيها ترديد لما قاله حافظ، وفيها يقول1. يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام شهداء حكمك في البلاد تفرقوا ... هيهات للشمل الشيت نظام وفيها يقول: "نيرون" لو أدركت عهد "كومر ... لعرفت كيف تنفذ الأحكام نوحي حمائم دنشواي وروعي ... شعبًا بوادي النيل ليس ينام متوجع يتمثل اليوم الذي ... ضجت لشدة هوله الأقدام السوط يعمل والمشانق أربع ... متواحدات والجنود قيام وحدث بعد ذلك أن مات مصطفى كامل في 10 من فبراير 1908، بعد أن قدم شبابه وذكاءه، وعزمه ومضاءه، وقودًا لشعلة الوطنية كي تظل مضيئة تعشى منها أبصار المستعمرين ويهتدي بسناها طلاب الحق والنصفة والاستقلال، ولكن سرعان ما نضب معين القوة من جسده وتهدم ذلك الجسم الفتي، والشباب الجريء؛ لأنه كان أضيق من أن يحتمل تلك النفس القوية التي كانت تكن فيه وتلك الروح الوثابة التي كانت تحترق بين جوانحه. فكان موته -وأمته أحوج ما تكون إلى قيادته وزعامته، ووطنيته وجرأته، وصوته المدوي بالحق، نكبة وطنية أصطكت لهولها الأسماع، وزلزلت القلوب، واهتزت المشاعر، وقرحت الجفون، وسحت العيون. وكان شوقي صديقًا لمصطى كامل، يرسل إليه القبلات في رسائله إلى محمد فريد من أوربا2. وكان من المنتظر حين يرثيه شوقي وقد زاره وهو على فراش الموت أن يبدع في رثائه ويشيد بمواقفه، وإحيائه للأمة بعد أن استكانت، وتنغيصه على

_ 1 الشوقيات ج1 ص248. 2 ارجع إلى عبد الرحمن الرافعي في مصطفى كامل ص384.

المحتل مقامه بوادي النيل، ولكن شوقي رثاه عقب وفاته بقصيدة صور فيها في دق تامة إحساسه المتفجع في فقد صديق الصبا والشباب، وصور آخر لقاء كان بينهما تصوير الأخ المفجوع في أخ عزيز، وبعد عن السياسة كل البعد، ولم يتطرق إليها إلا بحذر بالغ، نائيًا عن الحديث في الجانب القوي من حياة مصطفى كامل، وأثره في النهضة الوطنية: رثى شوقي في هذه القصيدة صديقًا حميمًا، ولم يرث زعيمًا عظيمًا، ووطنيًّا، وإمامًا من أئمة الجهاد. ولا شك أن شوقي قد تأثر في رثائه هذا بسياسة القصر حينذاك، وهي سياسة الحيدة والتحفظ أمام كل ما يؤذي الإنجليز أو يغضبهم، أضف إلى هذا أن علاقة مصطفى كامل بعباس قد انقطعت أو كادت في أخريات حياته، بل كان مصطفى كامل قاسيًّا في انتقاده لتصرفات عباس، وميوله نحو الإنجليز، وتساهله معهم. وكان شوقي كلما اقترب في هذه القصيدة من الناحية السياسية كقوله: هل قام قبلك في المدائن فاتح ... غاز بغير مهند وسنان وتظن أنه سينتقل إلى جهاد مصطفى كامل، وكيف أثار الحمية والعزيمة في النفوس إذ بك تراه يفاجئك بشيء آخر بعيد عن هذا بقوله: يدعو إلى العلم الشريف وعنده ... أن العلوم دعائم العمران وبذلك يتخلص من السياسة قبل أن يتورط فيها، وإذا قاربها مرة أخرى في قوله: أخلع على مصر شبابك غاليًا ... والبس شباب الحور والولدان فلعل مصرًا من شبابك ترتدي ... مجد تتيه به على البلدان فلو أن بالهرمين من عزماته ... بعض المضاء تحرك الهرمان علمت شبان المدائن والقرى ... كيف الحياة تكون في الشبان نراه يبتعد سريعًا عن السياسة، عما عساه أن يتورط فيه من ذكر صلابة مصطفى، وعدم مهادنته الغاصبين، فيختم القصيدة على عجل وكأنه ينجو من أمر خطير، وشر مستطير بقوله:

مصر الأسيفة ريفها وصعيدها ... قبرٌ أبر على عظامك حاني أقسمت أنك في التراب طهارة ... ملك يهاب سؤاله الملكان على أن شوقي قد تدارك ما فاته في هذه القصيدة من وصف وطنية مصطفى كامل وأثره في مصر وفي جيله، وفي القضية الوطنية عامة، بعد أن زالت الأسباب التي كانت تلجم لسانه وتشل بيانه، ووفى هذا الصديق حقه، وهذا الزعيم ما يليق به من رثاء؛ إذ انتهز شوقي فرصة مرور سبعة عشر عامًا على وفاة مصطفى كامل، حين أقيمت له حفلة ذكرى، فقال قصيدة، ربما كانت أحسن ما قيل حتى اليوم في مصطفى كامل وفي جهاده، وهي من أروع الشعر العربي الحديث، قيلت في سنة 1924، بعد أن عاد شوقي من منفاه، ورأى أن الدنيا قد تغيرت، وسدت دونه أبواب القصر، والثورة المصرية قد تأجج سعيرها، واشتد لظاها، وهبت مصر عن بكرة أبيها تدعو إلى الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ومطلعها: شهيد الحق قم تره يتيمًا ... بأرض ضيعت فيها اليتامى ورثاه شوقي بعد ذلك في سنة 1926 بقصيدة أخرى بعد أت التأم شمل الأحزاب المصرية المتنافرة، وفيها يقول: أيها القوم عظموا ... واضع الأس والحجر اذكروا الخطبة التي ... هي من آية الكبر لم ير الناس قبلها ... منبر تحت محتضرة لست أنسى لواءه ... وهو يمشي إلى الظفر حشرا لناس تحته ... زمرًا أثرها زمر وليس أدل على أن شوقي كان يصدر فيما يمر بمصر من أحداث، وفي نظراته إلى الأشخاص، وعلاقته بهم عن سياسة القصر، حذرًا تارة، جريئًا تارة

أخرى، من قصيدته التي قالها في رياض باشا، غب خطبته التي ألقاها في افتتاح مدرسة محمد علي الصناعية التي أنشأتها بالإسكندرية جمعية العروة الوثقى سنة 1904 وكان اللورد كرومر ممن حضر هذا الافتتاح، فتملقه رياض باشا بكلام كفر به بنعمة وأصحاب عرشها، فأوسعه شوقي تأنيبًا وتعنيفًا، حيث يقول: غمرت القوم إطراء وحمدًا ... وهم غمروك بالنعم الجسام رأوا بالأمس أنفك في الثريا ... فكيف اليوم وأصبح في الرغام أما والله ما علموك ألا ... صغيرًا في ولائك والخصام إذا ما لم تكن للقول أهلًا ... فمالك في المواقف والكلام؟ خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا ... أضيف إلى مصائبنا العظام لهجت الاحتلال وما أتاه ... وجرحك منه لو أحسست دامي وما أغناه عمن قال فيه ... وما أغناك عن هذا الترامي ويختمها بقوله: أفي السبعين والدنيا تولت ... ولا يرجى سوى حسن الختام تكون وأنت أنت رياض مصر ... عرابي اليوم في نظر الأنام ولا ريب أن شوقي كان في هذه القصيدة يفصح عن شعور القصر، ومبلغ تأثره من خطبة رياض باشا، وفي وقت لم يكن عباس قد هادن فيه الإنجليز بعد، وكان العداء على أشده بينه وبين كرومر. ثم إن شوقي نظر إلى عرابي نظر الثائر على ولي نعمته توفيق، وكان السبب في نكبة الاحتلال، وموقف رياض من الإنجليز والتمكين لهم في مصر حري بأن يشبه موقف عرابي في نتائجه. وهذه لعمري وجهه نظر القصر في عرابي وثورته، مع أنه لم يكن يريد إلا الخير بمصر، وإن أخطأ التقدير والتدبير، وقد قال شوقي حين عاد عرابي من منفاه قصيدته التي مطلعها: صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل شأنك يا عرابي

ولما قامت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت الحماية، وكان عباس غائبًا عن مصر، فخلعه الإنجليز عن العرش في اليوم التالي لإعلان الحماية1. نرى شوقي يفرق من أن يصب عليه الإنجليز جام غضبهم، وأن يطوحوا به كما طوحوا بولي نعمته، فيسارع بنشر قصيدة يهنئ فيها السلطان حسين كامل بالعرش، ويعزي نفسه بأن صاحب العرش في مصر من ولد إسماعيل، وحسبه هذا سببًا يجعله من خدام العرش والمخلصين له: أأخون إسماعيل في أولاده ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا!؟ ونراه يلتفت سريعة إلى الإنجليز يمدحهم فيها، ولكنه لا يطيل، بيد أنه يدعو إلى التعاون معهم، وكأنه يقرر "سياسة الأمر الواقع" ولم ير بدًّا من أن يقول ما قال، وقد أعلنت الحماية على مصر، ويوجه بعد ذلك الكلام إلى مصر البائسة، ويطلب منها أن تستسلم للقضاء، ويخبرها أن الرواية لم تتم فصولها بعد. وهذا ولا شك تغير في موقف شوقي إزاء الإنجليز اقتضته الظروف التي جرت على غير ما يهوى. استمع إليه يقول في هذه القصيدة: الملك فيكم آل إسماعيلا ... لا زال بيتكم يظل النيلا لطف القضاء فلم يمل لوليك ... ركنًا ولم يشف الحسود غيلا ويقول في مدح الإنجليز: الله أدركه بكم وبأمة ... كالمسلمين الأولين عقولًا حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم ... أرقى الشعوب عواطفًا وميولا أعلى من الرومان ذكرًا في الورى ... وأعز سلطانًا وأمنع غيلًا لما خلا وجه البلاد لسيفهم ... ساروا سماحًا في البلاد عدولًا وأتوا بكبارها وشيخ ملوكها ... ملكًا عليها صاحًا مأمولًا

_ 1 أعلنت الحماية على مصر في يوم 18 من ديسمبر 1914، وفي يوم 19 من ديسمبر خلع عباس عن العرش وولى السلطان حسين كامل، وراجع الوقائع المصرية عدد 19 من ديسمبر سنة 1914.

ويقول مخاطبًا أهل مصر: يا أهل مصر كلوا الأمور لربكم ... فالله خير موئلًا ووكيلًا جرت الأمور مع القضاء لغاية ... وأقرها من يملك التحويلا هل كان ذاك العهد إلا موافقًا ... للسلطتين وللبلاد وبيلا يعتز كل ذليل أقوام به ... وعزيزكم يلقي القياد ذليلًا دفعت بنافيه الحوادث وانقضت ... إلا نتائج بعدها وذيولًا وانقضَّ ملعبه وشاهده ... على أن الرواية لم تتم فصولا فشوقي كما ترى لم يكن صريحًا في هذه القصيدة، فبينا هو يحمد الله على أن الإنجليز لم يأتوا بملك جديد في غير البيت العلوي، كما كان منتظرًا، وأنهم اختاروا شيخ الملوك وأكبرهم سنًّا لهذا المنصب، تراه يطلب من المصريين أن ينتظروا في صبر حتى تتم فصول الرواية، وتراه ينعي على الموقف الغريب الذي كانت فيه مصر زمن عباس، إذ تتنازع فيه السلطتان: الشرعية، والفعلية التي أغتصبها عميد إنجلترا في مصر، وأنه موقف يعتز به كل ذليل، ويذل كل عزيز. ولكن موقف شوقي هذا لم يجده شيئًا ونفي شوقي في مصر؛ لأنه شاعر عباس، ولأنه قال: إن الرواية لم تتم فصولًا، فخشى الإنجليز من هذه الصيحة1. فأقام بالأندلس، واتخذ برشلونة له سكنًا، ثم عاد إلى مصر في أواخر سنة 1919، ووجد أن كل شيء قد تغير في مصر، فسكان "عابدين" غير من كان يعهدهم، فنأى عنه وفي النفس لوعة، وانصرف إلى النتاج الخالد، وكان له مواقف محمودة في السياسة الوطنية، سنتعرض لها فيما بعد إن شاء الله: هذا ما كان من أمر شوقي إبان الاحتلال، أما حافظ، فهو لا شك ممن كان يحب مصر ويعشقها:

_ 1 المرحوم أحمد زكي "باشا" مجلة أبوللو -ديسمبر 1932 ص386.

لعمرك ما أرقت لغير مصر ... وما لي دونها أمل يرام ذكرت جلالها أيام كانت ... تصول بها الفراعنة العظام يقول فيها: أني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت على الأطواق لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حمام شعب راق ولم يك حافظ في شعوره نحو الأتراك مثل شوقي، بل كان يمثل شعور عامة المصريين، المتعلمين وغير المتعلمين، فمصر بلد إسلامي، ويدين للخليفة في الآستانة بالولاء، ونرجو له ولجيوشه الظفر والنصر، وتأسي إذا نكبت هذه الجيوش، أو ضعفت دولة الخلافة وكان عبد الحميد رمزًا لهذه الخلافة، وإن كان طاغية مستبدًا، وإن ضعفت على يديه ضعفًا لا نهاية بعده، واقتطع من جسم الدولة على عهده أكثر من ولاية، ولكنه على كل حال خليفة المسلمين، فلا يدع إذا توجه إليه شعراء المسلمين بالمديح والتهاني في الأعياد. ولم يك حافظ يصدر في قصائده العثمانية هذه عن شعور تبعية قومية لتركيا، ولكن عن شعور ديني ليس غير. استمع إليه يقول مهنئًا عبد الحميد بعيد جلوسه في سنة 1901: لمحت جلال العيد والقوم هيب ... فعلمني أي العلا كيف تكتب ومثل لي عرش الخلافة خاطري ... فأرهب قلبي والجلالة ترهب ولكنك لا تجد في ديوانه أكثر من قصيدتين يمدح بهما عبد الحميد ويهنئه، فهذه قصيدة والأخرى قالها في سنة 1908 بعد عودة عبد الحميد من الحج، وكان الدستور قد أعلن، وأطلق سراج المسجونين السياسيين وهي التي مطلعها: أثنى الحجيج عليك والحرمان ... وأجل عيد جلوسك الثقلان ولكن يقول في غير مدح عبد الحميد قصائد أخرى في مناسبات تنم عن هذه العاطفة الدينية من مثل قصيدته في تأسيس الدولة العلية 1906 والتي مطلعها:

أيحصى معانيك القريض المهذب ... على أن صدر الشعر للمدح أرحب لقد مكن الرحمن في الأرض دولة ... لعثمان لا تعفو ولا تتشعب1 وقال عند الانقلاب العثماني الذي خلع فيه عبد الحميد سنة 1909 قصيدته التي يقول فيها كنت أبكي الأمس منك فمالي ... بت أبيك عليك عبد الحميد ويشير إلى أن عبد الحميد كان حتى أمس خليفة يدعي له في مساجد المسلمين بقوله: كلما قامت الصلاة دعا الدا ... عي لعبد الحميد وبالتأييد إلى غير ذلك من المناسبات التي لا يحركه إليها إلا الشعور الديني، من مثل عيد الدستور التركي سنة 1908، وعودة الطائرين العثمانيين، وحرب طرابلس، ولكنه بمجرد أن أعلنت الحماية على مصر، وزال آخر ما يصل بينها وبين تركيا من صلات بزوال الخلافة نفسها، لا نسمع له شيئًا عن تركيا، على العكس من شوقي؛ وذلك لأنه لم يكن يشعر إلا بهذا الشعور الديني وحده. ولكنه تأثر في السياسة المصرية بعدة عوامل. من ذلك طول صحبته للشيخ محمد عبده، وكثرة ملازمته له، وقد قال في ذلك: "فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره2، وقد عرفت أن الشيخ محمد عبده يدعو إلى الإصلاح البطيء، ويكره الطفرة، ويريد أن يهيئ الأمة ويعدها لأنها تحكم نفسها حكمًا صحيحًا، بالتعليم وارتقاء الشعب3 حتى ينشأ جيل قوي يستطيع أن ينال الاستقلال وأن يحافظ عليه، وعرفت كذلك موقفه من عباس وموقف عباس منه4، وأنه كان صديقًا للورد كرومر5؛ لأنه كان يدفع عنه بطش عباس، ويمكنه من أن يسير في إصلاحاته بالأزهر، والأوقاف، والقضاء.

_ 1 تعفو: من العفاء أي تندثر. 2 ليالى سطيح ص 135 لحافظ إبراهيم. 3 راجع تاريخ الأستاذ الإمام ج2 ص123: وراجع كتابنا في الأدب الحديث ج1 ص275 وما بعدها ط سابعة. 4 الأدب الحديث ج1 ص293 ط سابعة. 5.Modern Egypt, Vol: l l.PP. 189- 181

ولقد تأثر حافظ بمنهج أستاذه الإمام منذ أن اتصل به1، في السياسة والإصلاح، فكتابه "ليالي سطيح" ليس إلا من وحي تعليم الإمام، وقصائده الاجتماعية، ونقده للمجتمع المصري في شتى أحواله، ومختلف رجاله، ليس إلا تأثرًا بمنهج الإمام، أضف إلى هذا ما لاقاه حافظ من بؤس وفاقة في مقتبل حياته، وتعرفه على أحوال الشعب ومفاسد البيئة المصرية. والمعوقات الكثيرة التي تقف في سبيل النهضة؛ ولذلك تراه يكثر من شعره الاجتماعي، وينتقد كل فاسد؛ ينتقد العلماء الدجالين. كم عالم مد العلوم حبائلًا ... لوقيعة وقطيعة وطلاق والأطباء الجشعين غير المخلصين: وطبيب قوم قد أحل لطبه ... ما لا تحل شريعة الخلاق والموظفين المرتشين: ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق والأدباء المنافقين الكاذبين: وأديب قوم تستحق يمينه ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق وينعى على المصريين تواكلهم، وتخاذلهم عن النهوض والاهتمام بالإصلاح: وشعب يفر من الصالحات ... فرار السليم من الأجراب وغير ذلك من القصائد الاجتماعية العديدة التي سنعود إليها بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله، وقد تأثر في موقفه مع الإنجليز برأي أستاذه فيهم، فتراه يردد تلك النغمة التي كان يرددها محمد عبده -على الرغم من وطنيته- نغمة الإعجاب بهم، والإطراء لمزاياهم:

_ 1 هنأ حافظ الإمام بقصيدة حينما أسند إليه الإفتاء في سنة 1899 فكانت هذه سببًا في الاتصال به، وكان يراسله من قبل أيام مقامه بالسودان، راجع تاريخ الإمام لرشيد رضا ج1 ص604.

يا دولة فوق الأعلام لها أسد ... تخشى بوادره الدنيا إذ زأرا يئول عرشك من شمس إلى قمر ... إن غابت الشمس أولت تاجها القمرا من ذا يناديك، والأقدار جارية ... بما تشائين الدنيا لمن قهرا إذا ابتسمت لنا فالدهر مبتسم ... وإن كشرت لنا عن نابه كشرا ويعلل قوة الإنجليز بالشورى والعدل، والتعاون: لا تعجبن لك عز جانبه ... لولا التعاون لم تنظر له أثرًا خبرتهم فرأيت القوم قد سهروا ... على مرافقهم والملك قد سهرا ولا يكتفي بمجرد إعجابه بهم، ودعوته المصريين إلى تقليدهم، والتطلع إلى ما يحتلونه من مكانة بين أمم الأرض، ولو فعل ذلك لكان ولا شك غير ملوم على ثنائه عليهم، ولكنه يشيد بما عملوا من إصلاح في مصر، ويردد ما قاله كرومر في خطبة وداعة من المن على مصر بإصلاحاته. استمع إليه يودع كرومر الداهية وكيف يثني عليه، وإذا تذكرنا أن كرومر كان مكروهًا من عباس، وأنه صديق محمد عبده لا تعجب لموقف حافظ: سنطري أياديك التي قد أفضتها ... علينا فلسنا أمة تجحدا اليدا أمنًا فلم يسلك بنا الخوف مسلكًا ... ونمنا فلم يطرق لنا الذعر مرقدًا وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا ... وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا ولولا أسى في دنشواي ولوعة ... وفاجعة أدمت قلوبًا وأكبدا ورميك شعبًا بالتعصب غافلا ... وتصويرك الشرقي غرًا مجردًا لذبنا أسى يوم الوداع لأننا ... نرى فيك ذاك المصلح المتوددًا ولكنه والحق يقال قد أوضح له بعد ذلك مساوئه في مصر، وأنه ولى الحكم آلات صماء تنصاع لأمره، ولا تبدي رأيًّا أو مشورة إلا حسب هواه، وأنه أفسد التعليم ومكَّن للغريب.

يناديك وليت الوزارة هيئة ... من الصم لم تسمع لأصواتنا صدى فليس بها عند التشاور من فتى ... أبي إذا ما أصدر الأمر أوردا وحاولت إعطاء الغريب مكانة ... تجر علينا الويل والذل سرمدا تأثر حافظ في رأيه في الإنجليز، ومخاطبتهم خطابًا لينًا بأستاذه الشيخ محمد عبده كما ذكرنا؛ لأن لمحمد عبده أيادي لا تنسى على حافظ، فقد كان فقيرًا فأعانه، وجاهلًا فعلمه، ومغمورًا فرفع ذكره، وعرفه بكثير من عظماء مصر وعلمائها، فلا بدع إذا انتهج منهجه في موادعتهم، ومعرفة منزلتهم، والاعتراف بما يسدونه إلى مصر من جميل. ولكن حافظًا -كان في طبعه- وطنيًّا مخلصًا، ولم يكن ولا شك ممن يؤيدون حكم الإنجليز بمصر عن عقيدة، لذلك نراه بعد موت أستاذه الشيخ محمد عبده سنة 1905 يتغلب عليه عاملان آخران: هذه الوطنية الكامنة في نفسه، ثم ظهور رجال الوطنية المصرية يهزون مصر هزًّا عنيفًا، وتتنبه للخطر الجاثم فوق صدرها، ولا يرون الاحتلال ورجال نعمة، ولا يستسلمون للحوادث استسلام الشاة لذابحها. بل كانوا ثائرين لهم جرائد فيها أقلام مرهبة كالسيوف مضاء وحدة، يسلقون بها كل من يناصر الاحتلال ويؤيده. ونرى حافظ يستجيب لنداء وطنيته الكاملة في نفسه أولًا، ولنداء هؤلاء الثائرين ثانيًا بعد وفاة أستاذه، ويصدر في شعره عن عاطفة متقدة فيها مهادنة لرجال الاحتلال أو مد يد الصداقة إليهم فما أن وقعت حادثة دنشواي سنة 1906، حتى أذاع قصيدته بعد صدور الحكم بخمسة أيام فنشرها في 2 من يولية 1906. وكان حافظ في هذه القصيدة، وقد ابتدأ يجهر بمعاداته الإنجليز؛ كمن يتحسس طريقًا لم يألفه، تراه حذرًا تارة، قويًّا تارة أخرى، معاتبًا في لطف أحيانًا، متهكمًا أحيانًا، كان من المنتظر منه والعاطفة على أشدها، ودماء القتلى تملأ الجو برائحتها وصرخات المجلودين تصم الآذان أن تكون قصيدته ثورة على الظلم والاستعباد والقسوة، ولكنه كما ذكرنا كان لا يزال قريب عهد بموالاتهم، اسمعه يقول في مطلعها:

أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتم ولاءنا والوداد فأي تخاذل تراه في هذا البيت، وأي ضعف؟؟ وهل هذا موقف عتاب، ومذاكرة الود، ولم يبق هؤلاء ودًّا يتذكر؟؟. وقد يشفع له ما أتى في قصيدته بعد ذلك من سخرية لاذعة في مثل قوله: خفضوا جيشكم وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا وإذا أعورتكم ذات طوق بين ... تلك الربى فصيدوا العبادا ومن شدة وعنف في قوله: ليت شعري أتلك "محكمة التفـ ... ـتيش" عادت أم عهد "نيرون" عادا كيف يحلو من القوى التشفي ... من ضعيف ألقى إليه القيادا ومن قسوة وسخرية لاذعة بمصر وأهلها، وأنها أمة ضعيفة مستخذية، ولا تجيد إلا الكلام والتحسر البكاء: أمة النيل أكبرت أن تعادي ... من رماها، وأشفقت أن تعادي ليس فيها إلا كلام وإلا ... حسرة بعد حسرة تتهادى ويشتد على المدعي العمومي إبراهيم "بك" الهلباوي الذي أيد الاتهام، وكان حريصًا على مصر في قوله: إيه يا مدره القضاء ويا من ... ساد في غفلة الزمان وشادا أنت جلادنا فلا تنس أنا ... قد لبسنا على يديك الحدادا وصور حافظ بعد ذلك هول الحادثة ووصفها وصفًا دقيقًا رائعًا في قصيدته التي استقبل بها اللورد كرومر حين عودته من مصيفه، ولم يكن بمصر حين الحادثة، ويشير فيها إلى تقرير كرومر عن الحادثة الذي أرسله لوزارة الخارجية البريطانية، وكذب فيه، وعزاها إلى التعصب الديني.

نقلت لنا الأسلام عنك رسالة ... باتت لها أحشاؤنا تلتهب ماذا أقول وأنت أصدق ناقل ... عنا ولكن السياسة تكذب وينفي عن المصريين التعصب الديني المزعوم بقوله: إن أرهقوا صيادكم فلعلهم ... للقوات لا للمسلمين تعصبوا ولربما ضن الفقير لقوته ... وسخا بمهجته على من يغضب ثم يصف شعر قوي أخاذ صادق التصوير تلك الفظائع التي انتقم بها الإنجليز من الفلاحين المظلومين: جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا ... بحبال من شنقوا أو لم يتهيبوا شنقوا ولو منحوا الخيار لأهَّلوا ... بلظى سياط الجالدين ورحبوا يتحاسدون على الممات، وكأسه ... بين الشفاه وطعمه لا يعذب ونلاحظ أن حافظ لم يقتصر على التنديد بسياسة الإنجليز في مصر كما فعل بعض الزعماء السياسيين حينئذاك، ولكنه حاول أن يصل إلى تفسير الحادث، والرجوع بها إلى أسبابها وعللها، وقد أشار إلى هذه الأسباب لا بوحي من العاطفة، ولكن بوحي من النظرة الصادقة إلى واقع الحال، فعزاها إلى غرور مستشار الداخلية، واستسلامه للغضب، ولجوئه إلى العنف والشدة، وأشار بعد ذلك إلى الدرس الذي يجب أن يحذقه ذوو الشأن من مثل هذه الحادثة حيث يقول: أو كلما باح الحزين بأنه ... أمست إلى معنى التعصب تنسب كن كيف شئت ولا تكل أرواحنا ... للمستشار فإن عدلك أخصب قد كان حولك من رجالك نخبة ... ساسوا الأمور فدربوا وتدربوا أقصيتهم عنا وجئت فتية ... طاش الشباب بهم وطاش المنصب ويختمها بلوم مصر والسخرية من أهلها: وإذا سئلت عن الكنانة قل لهم ... هي أمة تلهو وشعب يلعب واستبق غفلتها ونم عنها تنم ... فالناس أمثال الحوادث قُلّب

وتراه بعد ذلك يستقبل "إلدون جورست" الذي عين عميدًا لإنجلترا بعد كرومر في سنة 1907 بقصيدة قوية يدافع بها عن مصر، ويبين له سوءات كرومر عله يتعظ فلا يقع في مثلها1. ولكني وقفت أنوح نوحًا ... على قومي وأهتف بالنشيد وأدفع عنهم بشبا يراع ... يصول بكل قافية شرود ويقول مشيرًا إلى كرومر وتقاريره: رمانا صاحب التقرير ظلمًا ... بكفران العوارف والكنود وأقسم لا يجيب لنا نداء ... ولوجئنا بقرآن مجيد وبشر أهل مصر باحتلال ... يدوم عليهم أبدًا لأبيد وأنبت في النفوس لكم جفاء ... تعهده بمنهل الصدور فأثمر وحشة بلغت مداها ... وذكاها بأربعة شهود2 ثم يشير إلى الأثر الذي تركته هذه الحادثة في نفسو المصريين، وكيف أنها هزتهم هزًّا عنيفًا، وأيقظتهم من سباتهم العميق، فهبوا يذودون عن أنفسهم الظلم والبغى، وينددون بالاحتلال وقسوته، والاستعمار وشدته، هبوا ثائرين ينشدون الحرية، ويغضبون للعزة والكرامة الوطنية. قتيل الشمس أورثنا حياة ... وأيقظ هاجع القوم الرقود فليت كرومر قد دام فينا ... يطوق بالسلال كل جيد ويتحف مصرانا بعد آنٍ ... بمجلود ومقتول وشهيد لننزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد وشتان بين موقف شوقي وحافظ إزاء هذه الحادثة. أما رثاء حافظ لمصطفى كامل فقد قال فيه ثلاثة قصائد. أولاها ألقيت على قبر الفقيد ساعة دفنه، والثانية في ذكرى الأربعين والثالثة بعد مرور عام على

_ 1 كان جورست مستشارًا لوزارة المالية المصرية من سنة 1898 إلى سنة 1904، وفي سنة 1907 عين بدلًا من كرومر، وتوفي سنة 1911. 2 يريد بالشهود الأربعة الذين أعدموا في حادثة دنشواي.

وفاته وإذا أمعنا النظر في القصيدة الأولى وجدناها -بطبيعتها وسرعتها وإنشائها لوعة صادقة، تصور هول الفجيعة، ودمعة حارة، وزفرة عميقة، جاءت من وحي العقل الباطن، لا نتيجة تفكير وتروٍ، ومست جوانب العظمة في مصطفى كامل، وبينت ما عمله لمصر، وما يرجوه الشاعر من مصر بعد وفاته، وكانت خير معبر عن شعور المصريين إزاء هذا الخطب الفادح تلك القصيدة التي مطلعها1: أبا قبر هذا الضيف آمال أمة ... فكبر وهلل وألق ضيفك جاثيًا عزيز علينا أن نرى فيك مصطفى ... شهيدًا العلا في زهرة العمر ذاويا وبعد أن يشير بأعماله يشعر أنه أكثر من البكاء والعويل، وأن الأمة حزينة، ولعل مصطفى كامل لا يرضى بهذا الضعف فيقول له: عهدناك لا تبكي وتنكر أن يرى ... أخو البأس في بعض المواطن باكيا فرخص لنا اليوم البكاء وفي غد ... ترانا كما تهوى جبالًا رواسيا ويستحث المصريين على الوفاء لهذا الراحل الكريم بالمحافظة على مبدئه، وسياسته، والتمسك بشعاره فيقول: أيا نيل إن لم تجر بعد وفاته ... دمًا أحمر لا كنت يا نيل جاريًا ويا مصر إن لم تحفظي ذكر عهده ... إلى الحشر لا زال انحلالك باقيا ويا أهل مصر إن جهلتم مصابكم ... ثقوا أن نجم السعد قد غار هاويًا أما القصيدة الثانية التي قالها في حفل الأربعين فقد خفت فيه حدة العاطفة، وحرارة اللوعة، وصور فيها حافظ بشعوره الواعي الحوادث الخارجية، ووصف الجنازة، ومواقف مصطفى كامل التاريخية المجيدة، ومطلع تلك القصيدة: نثروا عليك نوادي الأزهار ... وأتيت أنثر بينهم أشعاري ويصور فيها جهاد مصطفى كامل بقوله:

_ 1 ديوان حافظ ج2 ص149.

قد ضاق جسمك عن مداك فلم يطق ... صبرًا عليك وأنت شعلة نار أودى به ذاك الجهاد وهده ... عزم يهد جلائل الأخطار وظهر حافظ في هذه القصيدة بأنه شاعر الوطنية الحقة، وبأنه لا يعرف مداجاة الإنجليز ولا موادعتهم، وعبر كما فعل في قصيدته الأولى عن عاطفة كل مصري وشعوره. أما قصيدته الثالثة التي قالها بعد مرور عام على وفاة الزعيم، فقد كانت أروع هذه القصائد، ولا من حيث تصويرها للوعة والأسى، وحرقة الفراق، وعظم المصاب، ولا من حيث تصويرها لجهاد الفقيد ودفاعه الحار عن مصر وقضيتها، وإيقاظه قومًا ظن أعداؤهم بهم الظنون ورموهم بكل نقيصة، ولكن من حيث وصفه آلام مصر وآمالها، وشعورها إزاء الاحتلال ومصائبه. وقد أسفر حافظ عن ذات نفسه في هذه القصيدة، فجهر بعدائه الصارخ للإنجليز ولم يعد بعد ذلك الذي يلين القول، ويدعو إلى المهادنة وهي خير ما يمثل شعر حافظ السياسي، الذي اكتسب به لقب "شاعر النيل"، استمع إليه كيف يصور الثورة التي كانت متأججة فهمدت، والفراغ الذي تركه مصطفى في ميدان السياسة: ياأيها النائم الهاني بمضجعه ... ليهنك النوم لا هم ولا سقم باتت تسئلنا في كل نازلة ... عنك المنابر والقرطاس والقلم تركت فينا فراغًا ليس يشغله ... إلا أبي ذكيٌ القلب مضطرم منفر النوم سباق لغايته ... آثاره عمم آماله أمم ثم يقول له، وقد انطلق على سجيته معبرًا عما يجيش في نفس كل مصري: لبيك نحن الأولى حركت أنفسهم لما ... سكت ولما غالك العدم قيل اسكتوا فسكتنا، ثم انطقنا ... عسف الجفاة وأعلى صوتنا الألم إذا سكتنا تناجوا. تلك عادتهم ... وإن نطقنا تنادوا فتنة عمم

ويصور رجال السياسة الإنجليزية بقوله: تصغى لأصواتنا طورًا لتخدعنا ... واارة يزدهيها الكبر والصمم فمن ملاينة أستارها خدع ... إلى مطالبة أستارها وهم ماذا تريدون لا قرت عيونهم ... إن الكنانة لا يطوي لها علم وقد تنبه الإنجليز إلى أن حافظ قد تجاوز حده، وإلى أنه انضم صراحة إلى الجبهة الوطنية، وصار شاعرهم الفذ، الذي يهيج النفوس بعشره الذي يعبر فيه عن عواطفهم بسهولة ويسر ورشاقة، فعملوا على وضعه في قفص الوظيفة حتى يسكت عنهم؛ أو يرجع إلى سياسته القديمة من مهادنتهم، فعين على يد حشمت باشا ناظر المعارف في ذلك الوقت رئيسًا للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية سنة 1911، وظل بهذه الوظيفة إلى سنة 1932 حين أحيل إلى المعاش، وأنعم عليه برتبة "البكوية" في سنة 1911، ثم أنعم عليه بـ "نيشان النيل" من الدرجة الرابعة، وبذلك كبل حافظ بقيود الوظيفة والألقاب، وضن بمنصبه كل الضن، وخشي عليه كل الخشية وصار لا يقول شعرًا يغضب به أحدًا من ذوي السلطان خشية أن يزحزحوه عنه. أو ينالوه بأذى فيه، وإن قال شعرًا سياسيًّا أخفاه ولم ينسبه إلى نفسه. وليته سكت بعد أن دخل قفص الوظيفة، ولكنه أخذ يدعو إلى التعاون مع الإنجليز من مثل قوله عقب إعلان الحماية، وتوليه السلطان حسين كامل عرش مصر مهنئًا له وناصحًا بأن يتبع آراءهم وينصاع لأوامرهم: ووال القوم إنهم كرام ... ميامين النقيبة أين حلُّو لهم ملك على التاميز أضحت ... ذراه على المعالي تستهل وليس كقومهم في الغرب قوم ... من الأخلاق قد نهلوا وعلو فإن ناديتهم لباكٍ منهم ... وليس لهم إذا فتشت مثل وإن شاورتهم والأمر جد ... ظفرت لهم برأي لا يزل وإن ناديتهم لباك منهم ... أساطيل وأسياف تسل فماددهم حبال الود وانهض ... بنا فقيادنا للخير سهل

وهي قصيدة لعمري تدل على أن صاحب ذلك الشعر ليس هو الحافظ الملتهب الجبار الذي كان يصب شآبيب سخطه على الإنجليز، ويريد أن يطردهم من مصر، وإلا فما باله ينصح السلطان بأن يماددهم حبال الود. وماله ينصحه بمشاورتهم ويشيد بقوتهم؟ وثمة قصيده أخرى تنم عن ذلك التغيير في شعر حافظ السياسي، وخضوعه التام لأسر الوظيفة وإقراره بالأمر الواقع من سلطان الإنجليز بمصر وبطشهم، تلك هي تلك هي التي قالها عند تعيين "السر مكماهون" عميدًا لإنجلترا بمصر سنة 1915 ومنها يقول له معترفًا بأنه صاحب الأمر المطلق، ومن بيده الحل والعقد في البلاد: ودع الوعود فإنها ... فيما مضى كانت روايه أضحت ربوع النيل سلـ ... ـطنة وقد كانت ولايه فتعهدوها بالصلا ... ح وأحسنوا فيها الوصايه أنتم أطباء الشعو ... ب وأنبل الأقوام غايه أنى حللتم في البلا ... د لكم من الإصلاح غايه فهذه النغمة التي يمجد فيها الإنجليز، ويشيد بعدلهم، ومقدرتهم على الإصلاح، ويطلب منهم أن يهتموا بشئون التعليم في مصر، ويتعهدوا البلاد بالرعاية، ويقول لهم: إنههم أنبل الشعوب وأعدلهم تشعرنا بأن حافظًا نسي أن مصر محتلة، وأنها كانت تطالب بالاستقلال وكأن لم تكن ثمة صرخات مدوية، رددها مصطفى كامل في الخافقين ورددها صحبه الأمجاد، ورددها حافظ نفسه، والكل يطلبون منهم أن يبرحوا مصر غير مأسوف عليهم، واستمع إليه يقول في آخرها: هذا حسين فوق عرش ... النيل تحرسه العناية هو خير من يبني لنا ... فدعوه ينهض بالبناية فالأمر كما يقول بيد الإنجليز، إن شاءوا تركوه ينهض بالبناية، وإن شاءوا أبوا عليه ذلك، فهو لا يملك في الواقع من أمر مصر شيئًا.

وليس معنى ذلك أن عوامل الوطنية قد ماتت في نفس حافظ، ولكن كان -كما ذكرنا- يخشى أن يفقد مورد رزقه إن هو جاهر برأيه، ولذلك تراه يقول بعض القصائد السياسية ويكتمها، أو ينشرها بغير اسمه من مثل قصيدته في وصف مظاهرة السيدات في سنة 1919، ولم تنشر باسمه إلا في سنة 1929 حين أمن عاقبة نشرها وهي التي يقول في أولها: خرج الغواني يحتججـ ... ـن ورحت أرقب جمعهنه ومن مثل قصيدته التي قالها في عهد إسماعيل صدقي 1930، وقد ألغى الدستور وثارت مصر بأسرها ضده، ولم يشر إليها أو ينشدها ضده، ولم ينشدها أحدًا من أصدقائه إلا بعد أن خرج إلى المعاش، ويقول الأستاذ أحمد أمين: "ولقد أنشدني قصيدته هذه التي مطلعها": قد مر عام يا سعاد وعام ... وابن الكنانة في حماه يضام وهي التي يقول فيها مخاطبًا صدقي "باشا": ودعا عليك الله في محرابه ... الشيخ القسيس والحاخام لا هم أحى ضميره ليذوقها ... غصصًا وتنسف نفسه الألم صدقي، فأشرت عليه أن ينشر بعضها، أو يكتبها، أو يمليها، أو يحتفظ بها بأي شكل من الأشكال فقال: "إني أخاف السجن ولست أحتمله"1. لقد أطال حافظ الصمت، ومرت بمصر أحداث جسام، فالثورة المصرية العارمة، وتغير نظام الحكم، واستقلال البلاد نسبيًّا، ومجيء الدستور وحكم الشعب، لم تحرك من حافظ سكانًا، وإذا تكلم فبحذر ورفق من مثل قوله في تصريح 28 من فبراير 1922 الذي منحت مصر به الدستور: أصبحت لا أدري خبرة ... أجدت الأيام أم تمزح ألمح لاستقلالنا لمعة ... في حالك الشك فاستروح

_ 1 مقدمة الديوان ص19.

وتطمس الظلماء آثارها ... فأنثني أنكر ما ألمح قد حارت الأفهام في أمرهم ... إن لمحوا بالقصد أو صرحوا ومن مثل قوله في عيد الاستقلال متشائمًا: كم خدرت أعصاب مصر نوافح ... لوعودهم كنوافح التفاح فتعلل المصري مغتبطًا بها ... أرأيت طفلًا عللوه بداح وتأنقوا في الخلف حتى أصبحت ... أقوالهم تدري بغير رياح وقد نشرت لحافظ عدة مقطوعات شعرية في 1932 بعد أن أحيل إلى المعاش ينعى فيها على الإنجليز حيادهم الكاذب، ويعيب عليهم تغير أخلاقهم من أنهم اشتهروا بمتانة الأخلاق. لا تذكروا الأخلاق بعد حيادكم ... فمصابكم ومصابنا سيان حاربتم أخلاقكم لتحاربوا ... أخلاقنا فتألم الشعبان ويقول عن حيادهم: قصر الدبارة قد نقضت ... العهد نقص الغاضب أخفيت ما أضمرته ... وأنبت ود الصاحب الحرب أروح للنفو ... س من الحياد الكاذب ويقول في إجدى هذه المقطوعات مخاطبًا الإنجليز: فعدلتم هينهة وبغيتم ... تركتم في النيل عهدًا ذميمًا فشهدنا ظلمًا يقال له العد ... ل وودًا يسقي الحميم الحميما ويبدو أن هذه المقطوعات قيلت في مناسبات مختلفة، وفي سنوات عديدة، كلما هاجمت الحوادث فؤاد الشاعر وأثارت حزنه وشجنه، وكان ينظمها لينفس بها عن آلامة المكبوتة ولكنه كان يخشى من نشرها حتى لا يضايقه الإنجليز في رزقه، أو يغروا به أحد المستوزرين فيصب عليه شآبيب غضبه ولم تكن نفس حافظ تحتمل الأذى، أن ترغب في العودة إلى ضيق العيش، وقد ذاقت منه ألوانًا،

فطوى هذه المقطوعات. إلى أن أحيل إلى المعاش فلم يجد بأسًا -وقد صار حرًّا من قيود الوظيفة- من نشرها، وأغلب الظن أن شاعر النيل لو مد له في أجله بعد خروجه إلى المعاش لعاد سيرته الأولى، وملأ الدنيا شعرًا متحمسًا وطنيًّا رائعًا كما كان في عهده الأولى، ولكن عاجلته المنية بعد أن تحلل من الوظيفة بأربعة شهور. أما موقف شوقي إزاء هذه الحوادث القومية الوطنية بعد ثورة 1919. فقد اختلف جد الاختلاف عن موقفه من قبل، كما اختلف عن موقف حافظ. ترك شوقي مصر منفيًّا بعد أن خلع عباس في سنة 1914، ورأى الناس قد تنكروا لهجتى أعز أصدقائه قد تحاموا لقياه أو تحيته حين يرونه خوفًا من أن يتهموا بمصادقته1. ولذلك رحب بالمنفي ليريحه من تلك الوجوه المنافقة، وقد قال يخاطب ولديه وهو يعبر القناة في طريقه إلى المنفي مشيرًا إلى سطوة الغاصب المحتل، وعسفه وتبجحه، ويفصح عن كامن غضبه وسخطه. "تلكما يا ابني القناه، لقومكما فيها حياه، ذكرى إسماعيل ورياه" إلى أن يقول: تفارق برًّا مغتصبه مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره خلال له الجو فصاح، وكلب في غير داره انفرد وراء الدار بالنباح"، وقد أشار إلى هؤلاء الذين تنكروا له بعد أن تغيرت الحال السياسية، وذهب عنه جاهه وسلطانه بمصر، وفي إحدى أندلسياته بقوله: وداعًا أرض أندلس وهذا ... ثنائي إن رضيت به ثوابًا شكرت الفلك يوم حويت رحلي ... فيا المفارق شكر الغرابا فأنت أرحتني من كل أنف ... كأنف الميت في النزاع انتصابا ومنظر كل خوان يراني ... بوجه كالبغي رمى النقابا وقضى في المنفى خمسة أعوام ألهب فيها النفي ولوعة الفراق إحساسه بالغربة وشوقه إلى مصر الحبيبة، فنفثها نفثات حارة من قلب مفعم بالحب والحنين إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه، ونشاط شبابه، ونمو مجده وفيها الأهل والأحباب والخلان والأصحاب.

_ 1 انظر حسين شوقي مجلة أبوللو ديسمبر 1932 ص315.

على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا ملاعب مرحت فيها مآربًا ... وأربع أنست فيها أمانينا ومطلع لسعود من أواخرنا ... ومضرب لجدود من أوالينا وأتى به شعرًا علويًّا في أندلسياته المشهورة بفيض وطنية صادقة بعيدة عن مهاترات الأحزاب، ونغمًا خالدًا لم تسمع مصر مثله في ماضيها الطويل منذ أن دوت في أرجائها لغة الضاد، أربي على البارودي وتميز عنه باستطراداته البديعة في وصف مصر وطبيعتها وتاريخها، فقال في سينيته المشهورة. وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسي كلما مرت الليالي عليه ... رق والعهد بالليالي تقسي مستطار إذا البواخر رنت ... أول الليل أو عوت بعد جرس راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنقس يا ابنة اليم ما أبوك بخيل ... ماله مولعًا بمنع وحبس نفسي مرجل وقلبي شراع ... بهما في الدموع سيري وأرسي واجعلي وجهك الفنار ومجراك ... يد الثغر بين رمل ومكس وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي وعاد والثورة المصرية على أشدها، بسعي من رشدي باشا لدى السلطة المحتلة، وبإيحاء من السلطان حسين كامل قبل وفاته بعد أن رجاه في ذلك كثيرون من أصدقاء شوقي1. عاد شوقي والثورة المصرية في عنفوانها، وقد لمعت في سماء الوطنية أسماء لم يكن من قبل ذكر، وهبت الأمة جميعها غاضبة لحقها المغصوب، ودم بينها المسكوب، واستقلالها المسلوب، وشعر الإنجليز أنهم أمام أمة جادة في طلب حرياتها، تستهين بالدماء وبالأموال، متحدة الصفوف

_ 1 راجع مقالة المرحوم أحمد زكي باشا عن شوقي في مجلة أبوللو عدد ديسمبر سنة 1932 ص338.

لا يجد فيها العدو ثغرة ينفذ منها إلى التفرقة بينهم، وأخذوا يتراجعون رويدًا رويدًا، أو يحيكون الشباك للتفرقة، فألفوا لجنة "ملنر" ثم قدم ملنر مشروعه، فرفضه الوفد أول الأمر، وعدله بعد ذلك ملنر تعديلًا يسيرًا، فلم يشأ سعد أن يبت هو والوفد الذي سافر للمفاوضة في الأمر وحده، وأرسل المشروع مع أربعة1 من أعضاء الوفد ليعرضوه على الأمة لتقول فيه كلمتها، وقد وجه سعد إلى الأمة كلمة قال فيها عن المشروع: "غير أنه نظرًا لاشتماله على مزايا لا يستهان بها، وتغير الظروف التي حصل التوكيل فيها، وعدم العلم بما يكون من الأمة بعد معرفتها بمشتملاته، وقياس المسافة التي بينه وبين أمانيها، ورأى إخواننا معنا خروجًا من كل عهدة، وحرصًا على كل فائدة، واستبقاء لكل فرصة، ألا يبتوا فيه رسميًّا بما يقتضيه توكيلهم، قبل عرضه عليكم أنتم نواب الأمة المسئولون، وأصحاب الرأي فيها"2. وإن كان سعد قد بين لأصحابه بمصر أنه حماية، وأنه يرفضه، وقد قال في كتابه لهم3: "أظنكم تستشفون أني لست من رأى المشروع الذي ستعرضونه على الأمة، أنتم والقادمون إليكم من إخوانكم، وهذا موافق للحقيقة؛ لأنه -وأريد أن يكون الأمر بيني وبينكم- مشروع ظاهره الاستقلال والاعتراف به، وباطنه الحماية وتقريرها"4. فلم يكن سعد صريحًا في الخطاب الذي وجهه للأمة، وظن بعض الناس أنه يوافق عليه، ووجد فيه بعضهم خطوة إلى الأمام، ومن هؤلاء شوقي. وقد نزل إلى معترك السياسة غب وصوله من منفاه، بعد أن أوصدت في وجهه أبواب القصر وتغير سكانه، ولم يعد مقيدًا بقيوده، فقال في مشروع ملنر: ما بال قومي اختلفوا بينهم ... في مدحة المشروع أو ثلبه كأنهم أسرى أحاديثهم ... في لين القيد وفي صلبه يا قوم هذا زمن قد رمى ... بالقيد واستكبر عن سجنه لو أن قدًّا جاءه من عل ... خشيت أن يأبى على ربه وهذه الضجة من ناسه ... جنازة الرق إلى تربه

_ 1 هم محمد محمود، وعبد اللطيف المكباني وأحمد لطفي السيد، وعلي ماهر. 2 ثورة سنة 1919 ج2 ص127. 3 هم مصطفى النحاس، وحافظ عفيفي، وويصا واصف: وقد رفضت الأمة المشروع. 4 ثورة سنة 1919 ج2 ص128.

وهذا كلام ظاهره أن شوقي يرفض المشروع، فلا يصح أن يوجد خلاف بين المصريين حول الرق والاستقلال، فالاستقلال واضح، والرق واضح، ولكنه يقول بعد ذلك مؤيدًا المشروع على أنه خطوة إلى الأمام، والطفرة محال، ولا سيما ونحن عزل من السلاح. لا تستقلوه فما دهركم ... بحاتم الجود ولا كعبه2 نسمع بالحق ولا نطلع ... على قنا الحق ولا قضبه ينال باللين الفتى بعض ما ... يعجز بالشدة عن غصبه قد أسقط الطفرة في ملكه ... من ليس بالعاجز عن قلبه وقد لامه كثيرون على قصيدته تلك، مع أنه معذور، إذ إن ساسة الأمة كانوا غامضين وقد وجد فيها شوقي بارقة أمل، ونرى شوقي بعد ذلك يقول في تصريح 28 من فبراير سنة 1922، والذي اعترفت فيه إنجلترا باستقلال مصر مقيدًا بقيود أربعة، ومنحتها الدستور، معتقدًا كذلك أنه خطوة إلى الأمام، وأن مصر لم تنل كل أمانيها، وأن الجهاد لم يزل أمامها طويل، ولكن الغاية قد قربت. لا ريب أن خطى الآمال واسعة ... وأن ليل سراها صبحه اقتربا وأن في راحتي مصر وصاحبها ... عهدًا وعقدًا بحق كان مغتصبًا تمهدت عقبات غير هينة ... تلقى ركاب السرى من مثلها نصبا أقبلت عقبات لا يذللنا ... في مواقف الفصل إلا الشعب منتخبًا وفيها يقول: قالوا: الحماية زالت قلت لا عجب ... بل كان باطلها فيكم هو العجبا رأس الحماية مقطوع فلا عدمت ... كنانة الله حزمًا يقطع الدنيا كان شوقي ينظر في ميدان السياسية المصرية نظرات عامة، ويستقرئ العظات والعبر ولم يدع حادثة تمر من غير أن يدلي فيها برأيه، بعيدًا عن الحزبية التي صدعت وحدة الأمة، ومزقت شملها، ومكنت للعدو أن يستعيد بعض سيطرته، ولذلك وجه إلى الزعماء في ذكرى مصطفى كامل سنة 1925 هذه

القصيدة العظيمة في معانيها وغاياتها الوطنية، ملتمسًا من مليك البلاد، أن يجمع الصفوف بحكمته، وسديد رأيه، أبقاء على نهضة الأمة، وحفاظًا على قوتها أن تتبدد: إلام الخلف بينكم إلام ... وهذه الضجة الكبرى علام؟ وفيم يكيد بعضكم لبعض ... وتبدون العداوة والخصاما؟ وأين الفوز لا مصر استقرت ... على حال ولا السودان داما؟ وأين ذهبتم بالحق لما ... ركبتم في ضيته الظلاما؟ أبعد العروة الوثقى وصف ... كأنياب الغضنفر لن يراما تباغيتم كأنكم خلايا ... من السرطان لا تجد الضماما؟ يقول شوقي في عيد الاستقلال، وعيد الدستور، وفي نجاة سعد زغلول حين اعتدى عليه، وقد قال في إحدى قصائده يصف ثورة مصر وانتفاضتها القوية في سنة 1919، وإصرارها في عزم وحمية على رجوع سعد من منفاه وهي عزلاء من السلاح، وتتحدى إنجلترا المنتصرة التي يربض جيشها على ضفاف الوادي بحرابه ومدافعه وطائراته، وكيف خضعت إنجلترا لهذه الثورة العاتية، وأرجعت سعدًا إلى عرينه. أتذكر إذ غضبت للباة ... ولمت من الغيل أشبالها وألقت بهم في غمار الخطوب ... فخاضوا الخطوب وأهوالها وثاروا فجن جنون الرياح ... وزلزلت الأرض زلزالها وبات تلمسهم شيخهم ... حديث الشعوب وأشغالها ومن ذا رأي غابة كافحت ... فردت من الأسر رئبالها وأهيب ما كان بأس الشعوب ... إذا سلح الحق عزالها وكان يتأثر بالحوادث السياسية كل التأثر، وتنفعل لها نفسه وتهتز لها أعصابه، وتحفز خياله1. ولم يقيد شوقي في شعره بالوطنيات المصرية، بل

_ 1 داود بركات مجلة أبولو ديسمبر سنة 1932 ص366.

تعدي مصر إلى شقيقاتها من البلاد العربية، وإلى البلاد الإسلامية، ويشجعها على طلب الاستقلال، ويأسى لما تصاب به من نكبات، ويرثي كبار زعمائها وقادتها. وبحث شباب مصر في أكثر من موطن على أن يعتصموا بالقوة فإن الحق الذي لا تدعمه القوة لا يلقى آذانًا مصغية، ويذكر المصريين بأن الغرب رفض الاستماع إلى وفد مصر في مؤتمر لوزان حينما كان يوزع الغنائم والأسلاب: أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا ... وصدوا الباب عنا موصدينا ولو كنا هناك نجر سيفًا ... وجدنا منهم عطفًا ولينا ويذكرهم بأن الأماني والأحلام لا تحقق الرغاب فيقول: وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا فبينما كان شوقي يملأ الدنيا بشعره، كان حافظ راضيًا بما قسم الله له من رزق، حريصًا على ألا يضيع منه: يكبت شعوره، وخشى أن تطوح به السياسة في أودية لا يعرف لها قرارًا. هذا وقد ظهر بجانب شوقي وحافظ عشراء آخرون تباينوا شعورًا، وسياسة، إزاء كل هذه الحوادث، وتأثروا بمؤثرات شخصية: فإسماعيل صبري كان وطنيًّا صادقًا، ولكنه كان مقيدًا بقيود الوظيفة، ولم يكن شاعرًا محترفًا، إنما كان الشعر عنده ترفًا، ولم يخض غمار السياسة كما خاضها حافظ وشوقي، وإن لم يقل عنهما وطنية، ينم عنها ما قاله في بعض الحوادث التي هزت مشاعره هزًّا عنيفًا فلم يجد من القول بدًّا. ليس في ديوان صبري أي قصيدة يمدح بها السلطان عبد الحميد، أو سواه من الأتراك الذين مدحهم شوقي أو مدحهم حافظ، ولست أدري أيعود هذا إلى أنه كان يخشى الإنجليز وهو الموظف في الحكومة المصرية التي تسيطر إنجلترا على شئونها، والذين كانوا يسعون سعيًا حثيثًا لقطع الصلة بينها وبين مصر، حتى يخلوا لهم الجو، ويثبتوا أقدامهم بوادي النيل؟ أو يعود هذا إلى أنه كان ينظر إلى

مصر وأملها في الاستقلال نظرة قومية، فلا يمدح إلا أمراءها الذين تولوا الملك في عهده كإسماعيل، وتوفيف، وعباس، وحسين كامل، شأن الرجل المستنير الذي يرغب في نهضة بلاده مستقلة عن كل نير أجنبي، ولا يدعو إلا للنهضة التعليمية، والشورى، ورقى مصر في جميع نواحي الحياة؟ نرى إسماعيل صبري حتى في شعره الذي قاله في حرب طرابلس بين تركيا وإيطاليا لا يصدر عن عاطفة دينية حادة كما كان يصدر شوقي مثلًا، وكما كان يشعر كثير من شعراء هذا الجيل، وإنما كان صبري ينظر إلى هذه الحادثة نظرة إنسانية، فيها اعتداء قوي مدجج بالسلاح، على ضعيف أعزل، وفيها تنكر لمعاني الإنسانية الجميلة. لا يثق بعضنا ببعض وهذا ... ما أعد الإنسان للإنسان وإن تسلم على الغريب فسلّم ... في ظلال السيوف والمران ربما أصبح العناق صراعًا ... في زمان الأداب والعرفان ولا نراه يكبر ويهلل حينما تعلن تركيا الدستور في سنة 1908: فما الذي يعود على مصر من ذلك إذا لم تنل هي الدستور، وحكم الشورى، فليست مصر في نظرة مقاطعة عثمانية، حتى ينالها ما نال تركيا، ولكنها محكومة حكمًا غريبًا تتنازعه سلطتان، وأهلها يعاونون الاسبتداد والبغي: يا مصر سيرى على آثارهم وقفي ... تلك المواقف في أسنى مجاليها لا يؤيسنك ما قالوا وما كتبوا ... بين البرية تضليلًا وتمويها إن يمنعوا الناس من قول فما منعوا ... أن ينطق الحق بالشكوى ويبديها الحق أكبر من أن تستبد به ... يد وإن طال في بطل تماديها يا آية الفخر هلا تنزلين -كما ... نزلت ثم- على مصر وأهليها كيما نجر ذيولًا منك جررها ... من قبلنا الترك في أوطانهم تيها يا "عابدين لأنت اليوم مصدرها ... وفي ذراك -بإذن الله- موحيها وتراه عند الانقلاب العثماني، وخلع السلطان عبد الحميد، ويرى في ذلك عظة بالغة لكل حاكم مستبد فيقول لعبد الحميد:

عبد الحميد سيحصى ما صنعت غدا ... بين الأنام ويلقى في الموازين إن يرجح الخير نعم الخير من عمل ... دخلت في زمرة الفر الميامين أو يغلب الشر لا كانت عصابته ... عددت في صرحه أقوى الأساطين لا يرهقنك حكم الناس فهو غدًا ... مستأنف عند سلطان السلاطين ونراه يستحث عباسًا في أكثر من مناسبة ليمنح مصر الدستور، وليحكم بالشورى: سدد سهام الرأي بالشورى يحط ... بك منه في ظلم الحوادث فيلق عوذت مجدك أن تمام وفي الحمى ... أمل عقيم أو رجاء مخفق كل الممالك نوِّلت ما ترتجي ... من أنعم الشورى وملكك مطلق مر بالذي صرحت قبل به وقل ... وأصدق، فمثلك من يقول ويصدق أما في علاقة مصر بالإنجليز، فلا شك أن صبري كان غير راضٍ عنها، ولكنه لم يكن يفصح عن مكنون نفسه، وإن يحول دلت مواقفه العديدة، على الوطنية المضطربة بين جوانحه فقد اشتهر صبري بصداقته لمصطفى كامل، وقد حدث حينما كان محافظًا للإسكندرية من سنة 1896 إلى 1899 -أن أراد مصطفى كامل إلقاء خطبة وطنية بها، فأوعزت الحكومة إليه أن يحول بينه وبين ما يريد، محتجة بالخوف على الأمن أن يختل نظامه، والقانون تنتهك أحكامه، فأبى على الحكومة كل الآباء، وخلى بين مصطفى وبين شعبه يخطبه كما يشاء، وقال للحكومة: أنا مسئول عن الأمن والنظام، ومحتمل ما تعقبه هذه الخطبة من تبعات1. ذكر الأستاد أحمد الزين أنه عاش ما عاش لم يزر إنجليزيًّا قط "وقد سألته عن ذلك فقال نعم، وطالما استمالني لورد كرومر إلى زيارته فلم أفعل، فقلت مازحًا: لعلك لو فعلت كنت اليوم رئيسًا للوزارة. فقال: وماذا تفيدني رئاسة الوزارة غير إغضاب ضميري وإرضاء ذوي المطامع وأصدقاء الجاه"2.

_ 1 أحمد الزين مقدمة الديوان ص37. ومصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي 393. 2 أحمد الزين - المصدر السابق.

وكان بعد أن عين وكيلًا لوزارة "الحقانية" في سنة 1899 حريصًا على صداقة مصطفى كامل، لا يبالي أغضب الإنجليز أما أرضاهم في هذا، وكان يخرج من الوزارة في غالب الأيام ويعرج على صاحب "اللواء"، ويقضي معه وقتًا طويلًا، مع أن سواه من الموظفين كانوا لا يجرءون على مثل هذا، وقد أشار شوقي في رثاء إسماعيل صبري إلى ذلك حيث يقول: ويح الشباب وقد تخطر بينهم ... هلى متعو ابتمس طواف لو عاش قدوتهم ورب "لوائهم" ... نكس اللواء لثابت وقاف فلكم سقاه الود حين وداده ... جرب لأهل الحكم والأشراف ولقد تأثر إسماعيل صبري بتلك الغضبة الصاخبة التي غضبها مصطفى كامل حين وقعت حادثة دنشواي، ولكنه لم يقل حين وقوعها شيئًا وأثر الصمت، وأغلب الظن أن صمته كان تقية منه وحرصًا على وظيفته؛ ولأن يد الإنجليز حينذاك كانت بطاشة قاسية، وإذا تجرأ مصطفى كامل، ورجال السياسة على ضرب تلك اليد حتى تكف عن الأذى، فقد كانوا في حرية نسبية، غير مقيدين بقيود الوظيفة، فلما نجحوا في حملتهم على المعتمد البريطاني اللورد كرومر، وأجبروه على الاستقالة، وصدر العفو عن المسجونين، انطلقت الألسنة التي أحجمت عن الكلام في أبان المحنة، ومن هؤلاء شوقي كما عرفت ذلك آنفًا، ومنهم كذلك إسماعيل صبري، فقال من قصيدة يهنئ فيها "عباسًا": بعيد الأضحى بعد مرور عامين على دنشواي: ويذكر هذه الحادثة ويشكره على أن عفا عن المسجونين. وأقلت عثرة قرية حكم الهوى ... في أهلها وقضى قضاء أخرق وإن أنَّ فيها بائس مما به ... وأرنَّ جاوبه هناك مطوق وارحمتا لجناتهم ماذا جنوا ... وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا؟ ما زال يقذى كل عين ما رأوا ... فيها ويؤذي كل سمع ما لقوا حتى حكمت فجاءت حكمك آية ... للناس طي صحيفة تتألق

وتراه لا يكتفي بهذا، ولكنه يشير بعد ذلك إلى أن هذا القانون الظالم الذي طبق في هذه الحادثة، سيظل يبعث الفزع والرعب في القلوب، وأن ما ارتكبه من مأثم، وما طعن به مصر من جراح لن يكفر عنها بشيء ولن تلتئم هذه الجراح ما دام الاحتلال قائمًا وجنوده تبرق وترعد: قانون "دنشاواي" ذلك صحيفة ... تتلى فترتاع القلوب وتخفق هل يرتجى صفو ويهدأ خاطر ... والماء حول نصوصها يترقرق ومضاجع القوم النيام أو أهل ... بمعذ يردي، وآخر يرهق لن تبلغ الجرحى شفاء كاملًا ... وما دام جارحها المهند يبرق هذا كل ما قاله صبري، وكنى عن المحتل الغاصب بالجارح المهند، ولم يصرح به، ولا نسمع له شيئًا آخر في الإنجليز من قريب أو بعيد، ولكننا نسمع له مقطوعات قصيرة، في البيتين والثلاثة، يضمنها رأيه في وزراء مصر قبل الحرب العالمية الأولى، بدعابة مرحة، كأنها صورة هزيلة فكهة مما تنشره الصحف اليوم، من ذلك قوله في مصطفى فهمي باشا الذي عرفت من أمره ما عرفت، وأنه كان أحب للإنجليز وأخلص لهم من أنفسهم، فلما سقطت وزارته التي طال عليها الأمد، وملها المصريون، وضاقوا بها ذرعًا في سنة 1909 قال إسماعيل صبري: عجبت لهم قالوا: "سقطت" ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرم فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة ... على الصخر لم تصدع ولم تتحطم ولما مات مصطفى كامل شق عليها نعيه وهو الصديق الوفي، الذي كان يحرص على وداده، وعلى الرغم مما كان بينه وبين الإنجليز من عداوة سافرة، وعلى الرغم من أن إسماعيل صبري كان موظفًا في الحكومة، فوقف على قبره، وهو يوسد الثرى ينعاه، فلم يكد ينطق بالبيت الأول من قصيدته وهو: أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا ... هددت القوى إذا قمت بالأمس ناعيا

حتى ملكته العبرة، وغاب عن الوعي، وفقدت القصيدة1، ولولا قصيدته في مصطفى كامل في حفل الأربعين ما عرفنا عن شعوره إزاء هذه الكارثة شيئًا، وهذه القصيدة فيها عاطفة جياشة، تنبئ عن لوعة صديق محزون هده الحزن، ولم يصور فيها مصطفى كامل الوطني المشتعل حماسة وثورة على قيود الرق وأغلاله، بما يليق به، واكتفى بذكر الشجن والأسى والحسرات لفراقه وليس فيها من نبأ عن وطنية مصطفى كامل إلا إشارات عائرة، وما عدا ذلك فهو تصوير لعظم الفجيعة. عللاني بالتعازي وأقنعا ... فؤادي أن يرضى بهن تعازيا وإلا أعيناني على النوح والبكا ... فشأنكما شاني وما بكما بيا وما نافعي أن تبكيا غير أنني ... أحب دموع البر والمرء وافيا إيا مصطفى تالله نومك رابنا ... أمثلك يرضى أن ينام اللياليا تكلم فإن القوم حولك أطرقوا ... وقل يا خطيب الحي رأيك عاليا ويخيل إليك أن سيفيض في ذكر مزاياه ويتحدث بإسهاب عن وطنيته، ولكنه يشير بعد أبيات في إيجاز شديد إلى أن مصطفى كامل كان سلاح مصر، وكوكبها المضيء في دجنة الحوادث، وأنها فقدت هذا السلاح وهي أحوج ما تكون إليه، وهذا الكوكب وهو تتخبط في الظلماء، ولولا ما خلفه من الأماني في نفوس مواطنيه لكان في بكائهم عليه بكاء على أمانيهم. فقدناك فقدان الكمي سلاحه ... وسارى الدياجي كوكب القطب هاديا وبتنا ودمع العين أندى خمائلا ... وأكثر إسعافًا من الغيث هاميًا ولولا تراب من أمانيك عندنا ... كريم بكينا إذ بكينا الأمانيا وأشار كذلك إلى قوة حجته، وعظيم دفاعه عن مصر في إيجاز: فليتك إئ أعيبت كل مساحل ... قنعت فلم تعي الطبيب المداويا وليتك إذ ناضلت عن مصر لم تفض ... مع الحبر قلبا يعلم الله غاليا

_ 1 انظر ص32 من ديوان إسماعيل صبري وكذلك ص213.

فهو لا ينطلق على سجيته، ويخيل إليك أنه يمشي بحذر، خائفًا يترقب فثمة الإنجليز وثمة القصر، وكلاهما غير راضٍ عن مصطفى كامل، وهو شاعر يدين للقصر بالولاء كما ينطق بذلك ديوانه الذي يغص بقصائد المديح يرجيها في كل مناسبة للخديو، ولكنه كان -على كل حال- أجرأ من شوقي في هذه المناسبة، ولعل جرأته أتت من أنه كان قد اعتزل الخدمة1 وأصبح لا يخشى بأس الإنجليز. ثم تمر مصر أحداث، ويطوح الإنجليز بعباس، ويأتي السلطان حسين كامل بعد إعلان الحماية، فيهنئه ولكنه كان أشد وطنية من صاحبيه حافظ وشوقي، فلم يشر إلى الإنجليز أي إشارة، ولم يدع إلى التعاون معهم، أو يثن عليهم، بل اكتفى بأن هنأه، وذكر أن الإمارة لم تزل في أهلها، وأنهم يتناوبون العرض ماجدًا بعد ماجد، وأن أهل مصر لا يزالون على الود القديم. إلى غير ذلك من المعاني التي تقال في مثل هذه المناسبة: إن الإمارة لم تزل في أهلها ... شماء عالية القواعد والذرا والتاج مقصورًا عليهم ينتفي ... منهم كبيرًا للعلاء فأكبرا والعرش إن أخلاه منهم ماجد ... ذكر الأماجد منهم وتخيرا عزى عن العباس أنك عمه ... وأجل من ساس الأمور ودبرا ولكنه يفضل "حسينًا" بعد ذلك على "عباس"، ويحتج لاختياره، ولو أنه اكتفى بما قاله في البيت الأخير، لكان خيرًا له؛ لأن عباسًا حظي منه بمدح شتى، ورفعه فيها إلى السماكين، وكان واجب الوفاء يدعوه ألا يذم صاحبه الذي مدحه بالأمس، وألا يدعو الناس للشكر على أن جاء حسين بدلًا منه: والبيت "بيت محمد" قد شاده ... لبنيه لم يستثن منهم معشرًا والعم أكبر حكمة ودراية ... بالأمر لو أن المكابر فكرا حال إذا نظر الأريب جمالها ... شكر الإله وحقه أن يشكرا وهذا التقلب في المديح يدل على أن الشاعر لم يكن صادقًا في مديحه لعباس أو حسين، وإنما يدل على أنه كان مع الحاكم أيًّا كان، شأن معظم شعراء المديح

_ 1 اعتزل إسماعيل صبري الخدمة في 28 من فبراير سنة 1907 راجع المقدمة ص43.

الذين لا يصدرون في شعرهم عن عاطفة جياشة صادقة وإنما يصدرون عن مراءاة ونفاق ورغبة في الحظوة والمكانة لدى ولي الأمر أيًّا كان خلقه ووطنيته. هذا هو إسماعيل صبري، كان وطنيًّا صادقًا ولكن في هدوء وحذر، يريد الإصلاح والرقى لقومه عن طريق التعليم والنهضة الصحيحة، ويخشى التيارات السياسية المتلاطمة الأمواج، ولا أدل على وطنيته ومنهجه من قصيدته التي يقول فيها على لسان فرعون مخاطبًا مصر والمصريين محرضًا إياهم على النهوض، تلك القصيدة التي مطلعها: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يوم تحصيل العلا واني والتي يقول فيها: لا تقربوا النيل إن لم تعلموا عملًا ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان ردوا المجرة كدًّا دون مورده ... أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآن وسنعود إليها فيما بعد إن شاء الله. أما محمد عبد المطلب فقد تمثلت فيه الوطنية المصرية الصحيحة، خاض غمارها بحماسة وعنفوان وصدق، لا يبالي بما يصيبه من جراء حمساته أو عنفوانه، ولقد نمى هذه الوطنية في نفسه عاملان قويان: أولًا، نشأته البدوية العربية، وفي العرب إباء وشمم، وأنفة من الظلم، ونزع إلى الحرية، وفي البداوة الصرامة والقوة والعنفوان والصراحة، والعامل الثاني نشأته الدينية وتدينه، والإسلام يدعو إلى العزة والكرامة والسيادة. فلا يدع إذا رأينا الشيخ محمد عبد المطلب وطنيًّا متدفق الوطنية، متطرفًا منذ أن اشتعلت الثورة المصرية سنة 1919. ولكن قبل أن نعرض شعره السياسي في الثورة نعود إلى الخلف قليلًا لنرى موقفه من تركيا والإنجليز قبل الحماية وبعد أن أعلنت. لم يكن الشيخ محمد عبد المطلب تركي النزعة، ولا يمت إلى الأتراك بجنس ولا نسب، ولا مقربًا من الأمير أو حاشيته، ولا هو من كبار الموظفين الذين يرجون الخير من الأتراك

لقبًا أو منحة، ولم يك في أوائل هذا القرن شاعرًا مشهورًا، بل كان مدرسًا في إحدى قرى الصعيد؛ ولذلك كله لا نراه يعنى بتوجيه المدائح للخليفة بتركيا؛ ولا يشعر كما شعر كل مسلم محب لعظمة الإسلام، وقوة دولته، وليس لعبد المطلب في ديوانه إلا قصيدة واحدة رفعها إلى عبد الحميد بعد أن أعلن الدستور سنة 1908، وعم الفرح جميع الأقطار الإسلامية، وأمل الناس خيرًا في عبد الحميد وفي دور الخلافة، فقد صور في هذه القصيدة الظلم الذي كان يرزح تحته الأتراك، وكاد يؤدي بالدولة كلها إلى هوة سحيقة ما لها من قرار، وذلك حيث يقول: يا عيد حي وأنت خير نهار ... "عبد الحميد" بدولة الأحرار ملك أقام على الخلافة منهم ... حرسًا وقاها دولة الأشرار من بعد ما كاد الزمان يحلها ... بالجور دار مذلة وبوار يخشى البريء ويأمن الباغي الردى ... والجار مأخوذ بجرم الجام عهد مضى -لا عاد- كبل دولة الـ ... إسلام في الأغلال والآصار فرمت مقاتلها يد الأطماع من ... دول كَلِفْن بحب الاستعمار وتراه ينهئ الطيارين التركيين حين وصولهما إلى مصر لأول عهد الناس بالطيران، على أنهما قوة للإسلام: طير السلام بطائر الـ ... إسلام والأسد المزير يا طائر الإسلام يهفو ... بالعواصم والثغور يختال في الملكوت زهوًا ... فوق آمنة العنبر1 أحييتما ميتًا من الـ ... آمال في قلب كبير إلى أن يقول: يا دولة الإسلام هبي يا ... كواكبه أنيري مدى جناحيه على ... النسرين والشعري العبور2 فلعل دائرة تجـ ... ـد عهود بعد الدثور

_ 1 العشير: العثار والزلل. 2 الشعري: الكوكب الذي يطام في الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، ويقال له الشعرى اليمانية وتلقب بالعبور، والنسران: كوكبان يقال لأحدهما النسر الواقع، وللآخر النسر الطائر.

ويقول في انتصار الأتراك على اليوانان في سقاريا، معبرًا عن الشعور الإسلامي حينذاك: هذا مقامك شاعر الإسلام ... فقف القريض على أجل مقام عادت صوار منا إلى إمادها ... من بعد ما ظفرت بخير مرام ويقول في حرب طرابلس التي أرادت بها إيطاليا أن تنتزع تلك الولاية العربية الإسلامية من تركيا سنة 1911، وهبت مصر تشد أزر الترك، وتسعف جرحى الحرب، وترسل المال والزاد، وكان المصريون ينظرون إلى هذه الحرب على أنها حرب ضد الإسلام، وضد دولة الإسلام، وأنهم طرف فيها: هي اليهجاء كم طحنت قرونًا ... وكم صحنت حوادثها قرونًا1 ويقول فيها مخاطبًا الطليان: خرجتم من منازلكم بغاة ... على أوطاننا تتغلبونا غداة ملأتم الدنيا صياحًا ... به بين الأزقة تهتفونا وأقلقتم ملوك الأرض لما ... برزتم تبرقون وترعدونا ويقول مخاطبًا ملوك أوربا: بغت روما فلم نسمع نكيرا ... ولو شاء واسمعنا المنتكرينا وإن تغضب ذيادًا عن حياض ... لنا هدمت إذا هم يسخطونا ملوك الغرب ما هذا التعامي ... وما للحق بينكم مهينًا يساق ضعافنا للموت بغيًا ... وأنتم تسمعون وتبصرونا ويقول في هذه الحرب قصيدة أخرى يحرض فيها المسلمين على التطوع والجهاد مع إخوانهم أهل طرابلس: بني أمنا ابن الخميس المدرب ... وأين العوالي والحسام المذَرَّب؟ وأين النفوس اللاءكن إذا دعا ... إلى الله داعي الموت في الموت ترغب

_ 1 صحنت: دقت.

ولكنا نراه لا يأس حين تسقط الخلافة، وتزول من تركيا بعد الحرب العالمية الأولى إذا انقطعت الصلة التي كانت تربط مصر بتركيا، ولم يشعر نحوها كما كان يشعر من قبل. ونرى عبد المطلب يثور ويغضب حين تعلن بريطانيا الحماية على مصر، وتتعسف في تسخير المصريين لخدمة الجيوش المحتلة، وتسوقهم كالأنعام لخدمة جيوشهم المحاربة، وتصادر أرزاقهم، وتحكمهم بيد غليظة آثمة: كان صريحًا عنيفًا، ولم يخش بأسًا، ولا عنتًا؛ وكان هو الصوت الأدبي المدوي الذي ثار وغضب، فمن ذلك قوله مشيرًا إلى من نفتهم سلطة الاحتلال: وما ملهم فيها ثواء وإنما ... نجو بالنوى من ظلم أرعن أحمق يناديه فينا قائد الجيش قومه ... وما قادهم إلا إلى شر مأزق تسعف بالأحكام غير موفق ... وما ظالم في حكمه بموفق فكم ساق من مصر إلى الموت فتية ... زهاها الصبا في عنفوان وريّق جموع كأرجال النعام تلفها ... يد القهر للآجال من كل مَنْعَق له عصب في غورها وصعيدها ... تخيير أبناء الشباب تنتقى ومن لم يسقه السوط والسف ساقه ... إلى حيث شاءوا جهد عيش مرمق ففي كل بيت صوت ثكلى مرنة ... وتحنان باك بالأسى متمنطق ويقول منها في الحماية: دجت يوم إعلان الحماية شمسه ... فيالك من يوم على مصر أورق1 به لقحت سود الليالي فليته ... قضى في بطون الغيب لم يتخلق ويقول في المحتل الغاصب وسيرته بمصر: يرى نفسه فوق القوانين بيننا ... متى ما نذكره القوانين يحنق يبيح غدًا ما حرم اليوم بالهوى ... لغير الهوى في حكمه لم يوفق إلاهة جبار وإمرة خاطل ... وتدبير أعمى في الحكومة أحمق يقرب خوانًا ويرفع جاهلًا ... ويسعد أشقاها ويشقى بها التقى إذا ما مضى هذا أتى ذلك بعده ... على النهج لم يعدل ولم يترقرق

_ 1 الأورق: ما كان في لون الرماد.

وهي قصيدة كل بيت فيها ينطق عن شعور متقد، وصراحة تامة في كشف عورات الإنجليز وسوءاتهم، وسوء سيرتهم بمصر، وما لاقت على أيديهم من الذلة والمهانة والجهل: وبالعلم سل دنلوبهم لم لم يدع ... ذواقًا من العرفان للمتذوق وأغلب الظن أنه لم ينشرها غبّ إعلان الحماية؛ لأنها اشتملت على حوادث الحرب كلها حتى انتهت. وربما كان قد بدأها يوم إعلان الحماية، وساير بها حوادث الحرب حتى وضعت أوزارها. ثمة قصيدة أخرى قالها حين نفت سلطة الاحتلال أعضاء الوفد المصري وعلى رأسهم سعد زغلول. وهي تدل على جرأة وبأس لم يتأتيا لشاعر مصري قبله، قيلت، الثورة المصرية في عنفوانها، لتزيدها ضرامًا، وتؤجج في كل نفس نارًا وسخطًا على المحتل الذميم الذي تنكر لمصر بعد أن ساعدته على انتصاره، وسخر كل شيء فيها من مال ورجال ليحرز هذا النصر، ولكن لا عجب فهذا شأن الإنجليز دائمًا؛ وما وعودهم في خلال الحرب العالمية الثانية لمصر وغيرها من البلاد التي رزئت بهم ببعيدة عنا فلما انتصروا أنكروا وعدهم وعادوا جشعهم الاستعمار، ولم تتخلص مصر من بلائهم إلا بعد أن أرغموا على وعودهم وعاودهم جشعهم الاستعماري، ولم تتخلص مصر من بلائهم إلا بعد أن أرغموا على ذلك إرغامًا. بيد أنا لم نجد بعد الحرب العالمية الثانية شاعرًا مثل عبد المطلب يذكرهم بوعودهم، وبما قدمت مصر لهم من خدمات، حيث يقول: أيها السائرون بالوفد مهلًا ... خبرونا عن وفدنا أين ولى مر عهد الهوان لا عاد عهد ... كان ويلا على البلاد وخبلا مر عهد الهوان كم جر فيه ... أهل مصر بالضيم قيدًا وغلا ويقول فيها مخاطبًا اللورد اللنبي: أيها القائد المدل علينا ... قاتل الله من علينا أدلًا ما لمصر تجزى جزاء سنمار ... لديكم وبالدنية تبلى وأراكم لولا بنيها سقيتم ... من حياض المنون علا ونهلا سائلو الشام هل بغير بنينا ... جبتم الوعر من فلسطين سهلا

أو مددتم بغير أبناء مصر ... في بلاد العراق للفوز حبلا أنسيتم في مصر ما منحتكم ... من هبات ما جاوزت بعد حولا أم نسيتم أبناءها يفتك المو ... ت بهم فيا لوغي وباء وقتلا إلى آخر هذا الشعر العلوي الذي لم نسمع مثله من حافظ، أو شوقي، أو صبري أو غيرهم من شعراء ذلك الجيل. الذين عاصروا الثورة، ورأوا حماسة الأمة الفياضة، وآمالها العريضة تحثهم على الجهاد والموت. وظل عبد المطلب على صراحته تلك طوال الثورة، فإذا اشتد الإنجليز وطغوا، وأحكموا الرقابة على القول والنشر، احتال للتعبير عن آماله وعن شعوره الوطني، بالرمز كقصيدته على لسان عصفور في قفص1 وغيرها من القصائد، وإذا عاد "سعد" من المنفى استقبله بقصيدة وطنية رائعة. ويموت محمد فريد2 فيرثيه رثاء الوطني الحزين الذي يعرف فضله على القضية المصرية، وأنه كان في الرعيل الأول من المجاهدين الذين صلوا بنار الاحتلال، وضحوا بالأموال، وبالراحة والأمن في ظلال الوطن، وآثروا النفي والغربة في سبيل مبدئهم. ما أنكرت مصر ابنها فنبت به ... ولكنه دهر على الحر يجنف ويقول معبرًا عن شعور "فريد" حين فارق مصر: حرام علينا أرضها وسماؤها ... ألية من لا يمتري حين يحلف ويا فلك باسم الله مجراك أقلعي ... فإما الردى أو ينصف النيل منصف ويقول عن جهاده: عرفنا له بر الوفى بعهدها ... إذا خان قوم عهد مصر فلم يفوا أفاض عليها نفسه بعد ماله ... وما بهم عنها متاع وزخرف

_ 1 ص130 من الديوان. 2 توفي المرحوم محمد فريد في 15 من نوفمبر 1919، وهو في منفاه ببرلين وقد ظل في المنفى سبع سنوات يكافح في سبيل مصر، ويعاني الأمراض والفاقة ويود أن تكتحل مقلتاه برؤيتها، ولكن لم يسعفه الأجل.

ويقول حين اعتدى الجنود الإنجليز على قرية العزيزية1 ومثلوا بأهلها تمثيلًا شنيعًا وساقوهم رجالًا ونساء إلى العراء، وأضرموا النار في القرية وعبثوا بشرف النساء، وقتلوا كثيرًا من الرجال: يا مصر ما بال الأسى لك حالا ... لو أن مفجوعًا يرد سؤالًا ما عهد ولسن أين ولسن؟ وهل درى ... أنا بمصر نكابد الأهوالا؟ أمن العدالة عنده أن يبتلى ... شعب يريد بأرضه استقلالا؟ ما بال أبناء الحضارة أوغلوا ... في أرض مصر نكاية ونكالا إلى أن يقول واصفًا تلك البشائع: ما لي أقلب ناظري فلا أرى ... في مصر غير نوادب وثكالى ودم يعز على أبيه مسيله ... عبثت به أيد هناك فسالا وعزيز قوم في الحديد مصفد ... سيم الهوان وحمل الأثقالا يسعى إلى دار الإسار وحوله ... نذر المنايا بندقًا ونصالًا ولرب وجه بالجمال عرفته ... لم تبق فيه الحادثات جمالًا تلك العقائل يرتمين مع الظبا ... مستقبلات للردى استقبالا وأرى ابن "لندن" نحوهن مصوبًا ... بيض الظبا متوثبًا مختالًا وارحمتاه لقرية مفجوعة ... والليل يرخي فوقها أسدالًا محزونة خبأ القصاء لأهلها ... تحت الظلال وقعية ونكالا من غادة غال البغاء عفافها ... فكبى الحجاب عفافها المغتالا وهي قصيدة طويلة تصور أبياتها في إتقان بارع، وعبارات تثير العبرة، وتجلب الشجن هذه الحوادث المفجعة وتصرخ بالظلم، وتنطق بآيات الوطنية، وتحض على الثورة في جراءة وصراحة حتى ينكشف هذا الكابوس، وينجلي ذلك البلاء.

_ 1 انقض نحو مائتي جندي بريطاني في يوم 25 من مارس سنة 1919 على بلدتي بالعزيزية والبدرشين، وطلبوا من الأهالي جميعًا نزع أسلحتهم وأضرموا النار بعد ذلك في القريتين، واعتدوا على عفاف النساء وقتلوا كثيرًا من الأهالي -راجع ثورة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ص 194 وما بعدها.

ولم يترك عبد المطلب أي حادثة من حوادث الثورة من غير قصيدة رنانة يترجم فيها عن شعور الشعب، وشجعه على الجهاد، ولا نراه يصمت بعد أن تهدأ الثورة قليلًا، ويؤلف وفد المفاوضات، بل يترقب المصير، ويخشى أن يعصف دهاء الإنجليز بما ضحى الثوار من أجله، فإذا عاد عدلي يكن من مفاوضاته مخفقًا، لم يكن لمكر الإنجليز وخبثهم ويفرط في حقوق البلاد، أقام الناس حفلا يكرمونه على تمسكه بحقوق مصر وسارع عبد المطلب ينظم قصيدة يثبت بها القلوب القلقة، ويؤيد بها تمسك البلاد بحقها الكامل، وأنشدها في الحفل مهنئًا عدلي على موقفه هذا، وفيها يقول: زعموا سفاها أن وحدتنا ... أمست حديثًا في الورى كذبًا لا والدم الغالي تسيل به ... فوق التراب أسنة وظبا لا واتحاد الأمتين1 جرى ... بين الممالك أية عجبًا لا والحسان البيض حاسرة ... والموت يحجل حولها شعبًا لا والشباب النضر في لجب ... يستعذب التعذيب والعطبا ما إن أصاب بني أبي وهن ... إن المفرق بيننا كذبًا أبناء مصر جميعهم بطل ... دب لنصر بلاده انتدبا وقال بعد ذلك في الدستور، وأول اجتماع لنواب الأمة، وفي مقتل السردار، وفي الاعتداء على سعد زغلول، وفي استقالة وزارة سعد عقب مقتل السردار، وفي غير ذلك من المناسبات الوطنية العديدة. وكل شعره الوطني يرمى إلى الاستمرار في الجهاد، ووحدة صفوف الأمة، ومناوأة الإنجليز في شدة وصرامة حتى تنال حقوقها كاملة. وله نشيد وطني قوي يتقد حماسة. ومثل هذه النغمات العلوية لم يجرؤ سواه من شعراء طبقته على ترديدها إلا محرم والكاشف، وعبد الملطب2 يقف بينهم متميزًا في هذا الميدان، وقد شغل

_ 1 يقصد الوحدة بين الأقباط والمسلمين. 2 انظر ص 280 من ديوان عبد المطلب.

الشعر السياسي جزءًا غير قليل من ديوانه وكان به لسان الشعب المجاهد، والمعبر عن آلامه وآماله في صراحة وقوة وجزالة. أما خليل مطران فقد اتخذ مصر دار إقامة منذ سنة "1892"1، وقد كانت مصر تتمتع بشيء من الحرية الصحفية في تلك الحقبة، على نحو ما ذكرنا آنفًا، وقد هاجر إليها كثير من أحرار السوريين الذين فروا من الجو الخانق المخيم على شتى الولايات العثمانية، ويجثم فوقه شبح الاستبداد الحميدي؛ وقد كان هؤلاء المهاجرون فريقين، منهم من يدعو إلى الجامعة الإسلامية. ويبغي الإصلاح لتركيا حتى تنهض البلاد العربية التابعة لها وتساير موكب الزمن، وكان أكثر هؤلاء من المسلمين، وقليل من المسيحيين، ومنهم من أظهر بالغ سخطه على الاستبداد الحميدي، ومصادرة الحريات، ومقاومة النزعات الاستقلالية في البلاد؛ وأغلب هؤلاء من السوريين والمسيحيين2. ولكن مصر كما علمت فيما سبق كانت تشايع تركيا، ولا تتدعو إلى الانفصال عنها لأسباب عدة ذكرناها في موضعها، ولذلك كل الاتجاه العام حتى بين السوريين أنفسهم هو عدم تحدي الشعور المصري. وكان خليل مطران من أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم هربًا بحريتهم، وعاش في فرنسا ردحًا من الزمن، ولكنه وجد عنتًا من الفرنسيين بتحريض سفير تركيا، ووقف مترددًا بين النزوح إلى الغرب إلى "شيلي" أو الرجوع إلى الشرق، وفيه مصر مباءة الأحرار، ومثواهم الأمين، وقد تغلب حبة للعمل في ميدان الإصلاح فآثر الهجرة إلى مصر واتخذها دار إقامة، وشارك في تحرير الأهرام، وقد دلت كتاباته الصحفية، وقصائده التي قالها في تلك الحقبة على أنه لم يكن من الثائرين ضد تركيا الداعين إلى الانفصال عنها، وإنما كان يرجو لها الخير والإصلاح، وكان يدعو إلى الجامعية العثمانية مع الداعين، وهو يقول من قصيدته "فتاه الجبل الأسود": طغت أمة الجبل الأسود ... على الحكم فاتحها الأيد

_ 1 راجع الدكتور إسماعيل أدهم -خليل مطران ص68 وهو تصحيح لما قبل من أن مبدأ دخوله مصر كان سنة 1892 كما ذكرنا في كتاب الأدب الحديث ج1 ص367 ط سابعة. 2 راجع أنيس المقدسي "العوامل الفعالة في الأدب الحديث".

فيها ويقول: وما الترك إلا شيوخ الحرو ... ب ومر تضعوها من المولد إذا ألقحوها الدماء فلا ... نتاج سوى الفخر والسؤدد سواء على المجد أيًّا تكن ... عواقب إقدامهم تمجد وقد فرح كما فرح المسلمون قاطبة بإعلان الدستور العثماني، وأنشد في حفل أقيم بفندق "شبرد" ابتهاجًا بهذا الحادث الذي كان يعد عظيمًا حيذاك، والذي رأيت أن شعراء مصر وغير مصر قد هللوا له وكبروا، وأثنوا على عبد الحميد الطاغية؛ لأنه منح قومه الحربة، وهم جند الخلافة والذادة عن حماها، فقال مطران مع القائلين: يا أيها ذا الوطن المفدى ... تلق بشرًا وتمل السعدا يا عيد ذكر من تناسى أننا ... لم نك من أبقة العبدي1 كنا على الأصفاد أحرارًا ... أن الرزايا ألزمتنا حدّا وقال من قصيدة أخرى، يصف فيها كيف تم هذا الانقلاب، وكيف جاهد أحرار تركيا حتى قضوا على عهد الاستبداد، وما شعور النازحين من ديارهم هربًا بحريتهم يوم أعلن الدستور، إلى غير ذلك من المعاني التي أوحى بها هذا الحادث: حييت خير تحية ... يا أخت شمس البرية حييت يا حرية الشمس للأشباح ... وأنت للأرواح كالشمس يا حرية كوني لنا عهد سعد ... وعصر فخر ومجد يدوم يا حرية ويقول عن المهاجرين الذين فروا من الاضطهاد التركي: من الجياع الظماء ... ألقتهم الدأماء

_ 1 العبدي: العبيد.

في كل أرض قصية أشتات جاه ومجد ... ضموا لأشرف قصد قامت به عصبية ويقول مخاطبًا عبد الحميد: عبد الحميد أصبتا ... بما إليه أجبتنا بنيك من أمنية لا ضير فيها عليكا ... والخير منها إليكا يعود قبل الرعية ما شارك الملك أمه ... في الحكم إلا أتمه بحكمة وروية وقد تألم العرب بعامة، والمسلمون بخاصة، حين اعتدى الطليان على طرابلس المسكينة وأرادوا انتزاعها من يد الدولة العثمانية وتصدى لها جنود الأتراك، وهب الناس في كل قطر إسلامي يدعون لمساعدتهم، وإغاثة الجرحى وإسعافهم، فقال داعيًا إلى إعانة أهل طرابلس، مصورًا ما وصلوا إليه من البؤس والفاقة، وما ذاقوه من حر الحرب، وما ارتكبه الطليان من فظائع: وارحتاه لقوم فارقوا النعما ... من غير ذنب لهم واستقبلوا النقما لولا بشاشة إيمان تثبتهم ... تخيروا دون تلك العيشة العدما ما حال أم لها طفل بجانبها ... غير المدامع في يوميه ما طمعا ورضع وجدوا الأثداء لاذعة ... كالجمر فانفطموا واستنكروا الحلما وغانيات أباحتها الخطوب فلو ... لم تعصم النفس ساء الفقر معتصما ويقول في تلك الحرب كذلك، عاتبًا على المتقاعسين عن نصرة تركيا ونصرة أهل طرابلس: صدقت في عتبكم أو يصدق الشمم ... لا المجد دعوى ولا آياته كلم يا أمتي حسبنا بالله سخرية ... منا، ومما تقاضى أهلها الذمم إن كان من نجدة فينا تفجُّعنا ... فليكفنا ذلنا، وليشفنا السقم

لا تنكروا عذلي هذا فمذرتي ... جرح بقلبي دام ليس يلتئم نحن الذين أبحنا الراصدين لنا ... حمى به كانت العقبان تعتصم وفيها يقول محييا الترك وشجاعتهم: أبناء "عثمان" حفَّاظ وقد عهدوا ... تاريخ "عثمان" فيه الفتح والعظم هم الحماة لأعلاق الجدود فلن ... يرضوا بأن ينثر العقد الذي نظموا أما موقفة حيال الاستعمار الإنجليزي، والأحزاب قبل الحرب الأولى، فقد كان من أول الأمر، حذرًا، يقف موقف الحيدة، خشية أن يميل به الرأي إلى جهة ما، فيتهم بمناصرتها، وقد اتخذ هذا الموقف لأنه كان يشعر بأنه دخيل في المحيط المصري1، هذا إلى محبته للعزلة وإيثاره لها، وقد تجلى هذا الحياد في المقالات العديدة التي كان ينشرها في الأهرام، على أنه ما لبث أن خاض غمار السياسة المصرية، ومال مع الحزب الوطني، وناصر مصطفى كامل بقلمه؛ ولا شك أنه ما قال في الترك ما قال، ولا سيما قصائد في حرب طرابلس، وفي الدستور العثماني، إلا وهو متأثر بسياسة الحزب الوطني، مع ما كان له من فكرة سابقة وجهاد قديم في سبيل الجامعة الإسلامية، ونلاحظ أنه لم يمدح عبد الحميد، ويرفع إليه التهاني في الأعياد وغيرها، كما كان يفعل سواه من الشعراء، ولم يكن من المنتظر من مثل مطران، وهو الذي ترك وطنه هربًا من الاضطهاد الحميدي، ولجأ إلى مصر ليتمتع بحرية الفكرة أن يمدح عبد الحميد الطاغية، بل إن له قصائد رمزية حمل فيها عبد الحميد الطاغية مثل قصيدة مقتل "بزرجمهر"2، والتي يقدم لها بقوله: "اشتهر كسرى بالعدل وكان بلا نزاع أعدل ما يكون الملك المطلق في أحكامه بلاده، فإن كان ما وصفناه في هذه القصيدة إحدى جنايات مثله في العادلين، فما حال الملوك الظالمين؟ ". ونلاحظ أنه في الفترة التي سبقت اتصاله بالحزب الوطني كان ولا شك يغالب شعوره نحو الإنجليز، فقد وجد أن مصر في ذلك العهد تتمتع بحرية لم

_ 1 راجع مطران للدكتور إسماعيل أدهم ص74. 2 الديوان ج1 ص120، وراجع روكسي زايد العزيزي في المجلة الجديدة: م6 ج5 ص4038 في "مطران والوطنية".

يجدها في الشام، وأن كرومر قد منح الصحافة شيئًا من هذه الحرية، ولكنه كما ذكرنا كان يخشى أن يجاري بعض المهاجرين من أبناء وطنه في ميولهم الإنجليزية كأصحاب المقطم مثلًا؛ فيتهم بالميل لحزب من الأحزاب، ولذلك لا تجد له شعرًا في كرومر، أو في مدح السياسة الإنجليزية بمصر، وإنما قد انتهز فرصة وفاة الملكة فيكتوريا1 فرثاها بقصيدة أثنى فيها ثناء جمًّا على أبناء التاميز، وأشاد بقوتهم وعظمتهم كما رثاها حافظ إبراهيم حين كان متأثرًا بسياسة أستاذه الشيخ محمد عبده2. وفي تلك القصيدة يقول مطران3: بنوك فروع للعلى وأصول ... وملكك ما للشمس عنه أقول وسعدك في الأمثال سار ولم يكن ... له في سعود المالكين مثيل ويظهر أن طبيعة مطران كانت ميالة إلى الوطنية الصادقة، ولا شك أن مصر والشام كانتا في حالتين متشابهتين في جهاد كل منهما في سبيل الحرية، فكان يجد في الوطنية المصرية صدى لما في نفسه من نزعة للحرية ومتنفسًا لآماله كبتت يومًا ما، وقد وجد في مصطفى كامل زعيمًا قويًّا، ومجاهدًا صادقًا الجهاد، لا يدخر مالًا، أو شبابًا، أو حياة في سبيل مبدئه، فناصره، فنجد له قصيدة قالها في افتتاح مدرسة مصطفى كامل وقد تحولت إلى كلية4، ولما مات مصطفى كامل رثاه مطران، وقد قدم لقصيدته في رثائه حين نشرها بالديوان في الطبعة الأولى بقوله: "مصاب الشرق في رجله المفرد، وبطله الأوحد، مصطفى باشا كامل، أيتها الروح العزيزة، إن في هذا الديوان الذي أختتمه برثائك، نفحات من نعمائك، ودعوات من دعواتك، فإلى هيكلك المدفون بالتكريم، تحية الأخ المخلص للأخ الحميم، ووداع المجاهد المتطوع للقائد العظيم". وهي قصيدة جمعت معاني جمة، فمن إظهار لما بلغه المصاب من نفوس المصريين بخاصة والشرقيين بعامة، لفقدهم هذا الأمل المرجى، والصوت الذي

_ 1 هي الكسندرينا بنت إدوارد. ولدت سنة 1819، تولدت عرش إنجلترا في سنة 1837 وتوفيت سنة 1901. 2 راجع ديوان حافظ الجزء الثاني ص 136. 3 ديوان مطران ج1 ص132. 4 راجع الديوان ج3 ص27.

أتى بعد أن رجف المرجفون بأن بلاد العروبة والإسلام تغط غطيطًا عميقًا، ولا تهفو إلى الحرية فدوى في الخافقين، وإشادة بعظمة الإسلام، وأنه دين الحضارة والعزة، وأن دفاع مصطفى عنه كان دفاعًا حقًّا عن دين أهل للسيادة، وأن مثل مطران في نضج عقله لا يسعه إلا أن ينبري للدفاع عنه: ولعل حرًّا لا يدين به انبرى ... ليذود عنه خصمه المتعسفا قد كان للإسلام عهد باهر ... نلنا به هذا الرقى مسلقًا ملأ البلاد إنارة وحضارة ... ومنى السماحة عوده مستأنفًا ويذكر فيها جهاد مصطفى في سبيل مصر، ويبين مواقفه الخالدات الباهرات: مصر العزيز قد ذكرت لك اسمها ... وأرى ترابك من حنين قد هفا وكأنني بالقبر أصبح منبرًا ... وكأنني بك موشك أن تهتفا مصر التي لم تحظ من نجبائها ... بأعز منك، ولم تعز بأحصفا مصر التي لم تبغ إلا نفعها ... في الحالتين ملاينا ومعنِّفا مصر التي غسلت يداك جراحها ... بصبيب دمعك جاريًّا مستنزفًا مصر التي كافحت لُدّ عداتها ... متصدرًا لرماتها مستهدفًا مصر التي سقت الجيوش مناقبًا ... ومنى لتكفيها المغير المجحفا مصر التي أحببتها الحب الذي ... بلغ الفداء نزاهة وتعففًا ثم يشيد بخلق مصطفى كامل، وقوة قلمه محررًا في صحفه العديدة، وبقوة لسنه، وشدة عارضته، حين يحاج خصوم مصر، ويفحمهم بالأدلة المقنعة، والبراهين الساطعة، بحرارة إيمانه وقوة يقينه. يحيي حرارتها ويهدي نورها ... متماهل الإشراق أو متخطفًا تالله ما أنت الخطيب وإنما ... وقف القضاء من المنصة موقفًا عن نقطة تقع الصروف مواعظًا ... وكأمره أمر الزمان مصرفًا إلى غير ذلك من المعاني الجليلة، ولا ينسى الغرس الذي وضعه مصطفى بيده في تربة مصر، وتعهده حتى نماه وكيف يجب على خلفائه من بعده، بل

على المصريين أجمعين أن يحافظوا عليه حتى يؤدي أكله طيبًا، ألا وهو حرية مصر كاملة. وقد ظل خليل مطران على تعاقب السنين يحفظ عهد مصطفى كامل، ويشيد بذكراه وله في سنة 1933 قصيدة ألقاها في ذكرى مرور عام على وفاة حافظ إبراهيم، ضمنها وصفًا رائعًا للنهضة القومية، التي كونت حافظًا، وكيف أن هذه النهضة هي عرس مصطفى كامل وكيف تعهدها بجهاده إلى أن مات، وبموته كانت الآية التي تم بها استقرارها1، وفيها يقول عن حافظ معللًا نبوغه في الوطنيات: ما تجلى نبوغه كتجليه ... وقد هب مصطفى للجهاد يوم نادى الفتى العظيم قلبي ... من نبا قبله بصوت المنادي2 وورى ذلك الشعور الذي كان ... كمينًا كالنار تحت الرماد يتجلى هذا الشعور كذلك في مراثيه لرجال الحزب الوطني فيرثي محمد أبو شادي وينوه بجهادها معًا في سبيل مصر، وما لا قيا من عنت وإرهاق: زمان قضينا المجحد فيه حقوقه ... ولم نله عن لهو ورشف رضاب محضنا به مصر الهوى لا تشويه ... شوائب من سؤل لنا وطلاب فداها ولم يكربه أن جار حكمها ... فذل محماميها وعز محاب فكم وقفة إذ ذاك والموت دونها ... وقفنا وما نلوي إتقاء عقاب وكم كرة في الصحف والسوط مرهق ... كررنا وما نرتاض غير صعاب ويرثي الشيخ عبد العزيز جاويش فيزفر زفرة حارة، ويبكي زمن الجهاد، والأيام التي صحب فيها هؤلاء الكرام الأعزة فيقول: طيبوا قرارا أيها الأعلام ... وعلى ثراكم رحمة وسلام مصر التي متم فداها أصبحت ... وكأنما فيها السرور حرام ذهب الأعزة "مصطفى" ورفاقه ... ما كاد يخلو من شهيد عام

_ 1 مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص396. 2 نبا: تباعد وتجافى.

ويرثي على فهمي كامل1، ويرثي أمين رافعي2، ومحمد فريد3، وغيرهم من أعلام الحزب الوطني، بل يؤيد الأحياء منهم في المعارك السياسية بعد إعلان الدستور، وها هو ذا يؤيد الأستاذ محمد محمود جلال من رجال الحزب الوطني في حملة انتخابية، ولم يؤيده سواه. يا من حمدت به اختبا ... ري في اختباري للصحاب وهكذا يظهر مطران في شتى الماسبات وفاءه للحزب الوطهني ورجاله، ولعل هذا ناشئ من أن عهد جهاده مع الحزب الوطني كان في أيام الشباب، وهي عزيزة الذكريات؛ ومن أنه وجد فيه تطرقًا في الوطنية يشبع نهم نفسه التي حرمت الجهاد في موطنها الأصلي. وقد أكرمت مصر مطران، واحتفت به وآثره الخديو عباس عبد وفاة مصطفى كامل بالعناية والرعاية؛ فساعده في شغل منصب الأمين المساعد بالجمعية الزراعية بعد أن أفلس على أثر مضاربات في السوق المالية، وشكا حاله في عشره. وأنعم عليه بالوسام المجيدي الثالث في أغسطس سنة "1912"4، وقد أوعز إلى إسماعيل "باشا" أباظة الذي اشتهر بأدبه وباتصاله بالأدباء في ذلك الوقت؛ وفي أن يوحي للأدباء المصريين والسوريين بإقامة حفل يكرمون مطران، وقد أقيم هذا الحفل في إبريل سنة 1913 تحت رعاية الخديو عباس، وناب عنه فيه الأمير "السابق" محمد علي، وأثنى على مطران ثناء جمًا5، وأغدق عليه الشعراء المصريون المشهورون جليل الثناء، فكرمه شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وأحمد نسيم وغيرهم، وما قاله الأمير "السابق" محمد علي في حديثه له6: "قد عرفت مطران من عهد والدى حتى الآن، فرأيته امتاز بانصرافه كل هذا الزمان إلى المحافظة على خطة ولاء مستقيمة لم يحد عنها كل حياته القلمية

_ 1 الديوان ج3 ص201. 2 المصدر السابق ص285. 3 الديوان الجزء الثاني 233. 4 مجلة سركيس سنة 1913 ص211. 5 مجلة سركيس 1913 عدد خاص عن مطران. 6 مجلة سركيس 1913 ص207.

في مصر، وهذا الثبات على المبادئ والإخلاص الدائم لمصر والمصريين هو فضيلة يجب اعتبارها وإكرام المتحلى بها". وقد كان لعطب عباس عليه أثر في شعره فمدحه بأكثر من قصيدة1. ولكنه بعد أن خلع عن العرش لم يذكره مطران بكلمة خشية سلطة اللاحتلال، وقد مرت فترة الحرب العالمية الأولى، وما عانته مصر في خلالها من عسف وظلم، وهو صامت لا يتكلم، فلما اضطرمت نار الثورة المصرية، وظهرت على مسرح السياسة وجوه جديدة، خص منها بالمحبة والثناء سعد زغلول، وإن لم يكن له في الثورة وحوادثها الدامية، وظلم المحتل الغشوم وجبروته أي كلمة وأول صوت نسمعه له هو تحية "سعد" حين عودته من سيشل2 بقصيدته التي مطلعها: خفت لطلعة وجهك الأعلام ... ومشت تحيط بركبك الأعلام3 ولكنه يقف بعد ذلك من الحوادث المصرية موقفه الأول، وهو الحياد، والترقب؛ لأنه ثمة أحزابًا، وانشقاقًا في الصفوف، ويخشى أن يتهم بالميل لهذا الحزب أو ذاك فيجني عليه هذا الاتهام، والحزبية في مصر قاسية لا تغفر للمرء حسن ماضيه، وعظيم بلائه في سبيل بلاده، وتراه يرثي زعماء الأحزاب قاطبة: ثروت، وعدلي، وسعد، ولا يقول إلا في الأمور الوطنية العامة كتمثال نهضة مصر، وعيد الجلاء، وتمثال سعد، وتمثال مصطفى كامل وما شابهها، وانصرف إلى العمل في خدمة المسرح المصري، مديرًا للفرقة القومية، وعكف على قول الشعر الخالد. وثمة شاعر آخر يمثل لونًا في السياسة والشعر غير ألوان هؤلاء الذين ذكرناهم، وهو ولي الدين يكن، أهمله مؤرخو الأدب والنقاد المصريون، فلا يعرف عنه الناس إلا قليلًا؛ وذلك لأنه لم يكن ذلك الوطني المصري المخلص، بل كان من حزب الاحتلال، ورجال كرومر.

_ 1 الديوان ج1 ص44، 77، ج2 ص86، 105، 142. 2 نفى سعد وصحبه إلى جزر سيشل في 29 من ديسمبر سنة 1921 وعاد من المنفى في 17 من سبتمبر سنة 1923. 3 الأعلام الأولى: الرايات، والثانية، كبراء الأمة.

وكان ولي الدين أول أمره من دعاة الجامعة الإسلامية، وممن يعني بشئون تركيا، أكثر من عنايته بشئون مصر، ويدعو لتأييد حكومتها، ويدافع عن عبد الحميد ورجاله ولما رحل إلى تركيا فيما بين عامي 1895، 1896، وأقام بها ثمانية أشهر غمره فيها عبد الحميد بعطفه ورضاه، وأنعم عليه بالمرتبة الثانية، ولكنه شاهد في أثناء مقامه الفساد الذي عم الأداة الحكومية التركية، والعسف والاضطهاد للأحرار، والوشاية، والرشوة، فرجع إلى مصر حانقًا ساخطًا على هذا الفساد. داعيًا إلى الإصلاح، وأنشأ جريدة الاستقامة في سنة 1897، وجعلها اللسان المعبر للأحرار المهاجرين إلى مصر والذين تمتلئ قلوبهم غيظًا وموجدة على ما لاقوا وما تلاقى أوطانهم من ظلم عبد الحميد، وعدوان رجاله، فمنعتها الحكومة التركية بعد قليل من دخول ولاياتها، وصار يكتب في جريدة المشير1 والمقطم والقانون الأساسي2. وكان عبد الحميد يجد كل الجد في استرضاء هؤلاء الثائرين، ويعدهم الوعود الخلابة، ويمنيهم بتحقيق الإصلاح المنشود، وإعلان الدستور فدعا إليه ولي الدين فيمن دعا، فسافر إلى الآستانة سنة 1898، وعين في مجلس المعارف الأعلى، ولكن ما لبث أن سئم تلك الحياة الفاسدة، فكان على خصام دائم مع رجال الحكومة، وأخذ يطعن عليهم جميعًا في الصحف الأجنبية فنفي إلى "سيواس" بالأناضول، وظل في منفاه إلى أن أعلن الدستور سنة 1908 فعفي عنه، ورجع إلى مصر، ووجد في صمر "خليفة كرومر" يحوط هؤلاء الساخطين على تركيا بعنايته ورعايته، فأخذ ولي الدين بعد عودته يكتب في الأهرام والمقطم والمؤيد والرائد المصري3 والزهور4 ثم أنشأ جريدة "الإقدام" في الإسكندرية سنة 1913، وعين كاتبًا في وزارة العدل حتى سنة 1914، وبعد أن تولى السلطان

_ 1 أنشأها سليم سركيس اللبناني في الإسكندرية سنة 1894. وقصرها على الطعن في فساد الحكم التركي، واستبداده، والمطالبة بالإصلاح، ثم نقلها إلى القاهرة سنة 1895 ثم إلى نيويورك سنة 1899 بعد ما لقي من حكومة مصر عنتًا وإرهاقًا أو حبسًا، وحكم عليه في بيروت بالإعدام غيابيًّا. 2 جريدة سياسية أنشأها صالح جمال في القاهرة سنة 1898، وكانت تصدر بالتركية والعربية يكتب فيها مع ولي الدين يكن الكاتب التركي محمد قدري. 3 الرائد المصري أنشأها نقولا شحاته اللبناني في القاهرة سنة 1896. 4 مجلة سياسية أدبية أنشأها في القاهرة أنطوان الجميل، والشيخ أمين تقي الدين سنة 1910.

حسين عرش مصر لقى منه عطفًا شديدًا فعين كاتبًا في الديوان السلطاني، ونعم بقربه، وخصه بأحسن مدائحه. قال ولي الدين يكن في أول مقال له بجريدة المقطم بعد عودته من زيارته الأولى لتركيا، وشاهد عن كثب الفساد الشامل من الأداة الحكومية: "هذا قلم أرن القوس صائب الرمية فلأجرينه حتى لا تبقى من دار الظلم لبنة على لبنة، وبياض على سواد، ولأسيرن قوارعه شربًا في كل قاتم الأعماق، شاسع الأطراف، إلى أن يقول نصير الحمية: لبيك، ونستريح وإخواننا مما نحن فيه". واحتضنته الحكومة البريطانية كما احتضنت غيره من الساخطين على تركيا، فازداد لها حبًّا، وأصبح لا يذكرها إلا بكل خير، ولا يذكر عميدها اللورد كرومر إلا أشاد بفضله ونعته أحسن النعوت، ودعاه مصلح مصر، وأبا المصريين المشفق1، قال في المعلوم والمجهول: "ولا أظن رجلًا يشفق اللورد كرومر على المصريين، فهو أبو حريتهم، ومصدر إنصافهم، ومورد سعدهم إلا أنه كان يخدم من يحبونه". وكان من المناوئين لمصطفى كامل، ويرى استعانته بسياسة فرنسا قبل الاتفاق الودي في سنة 1904 خطأ جسيمًا، بل يرى أن فرنسا هي التي خلقت مصطفى كامل. ويرى أن مصر ليست للمصريين بل هي للعثمانيين فقال عن عبد الله نديم: "وإنما أحدث الخلاف بيننا أنه كان عدوًا للعثمانيين، وهو من قدماء من يقولون: "مصر للمصريين" ونحن نقول: "مصر للعثمانيين" وعلى أن ولي الدين يريدها ولاية عثمانية محكومة بيد إنجليزية. ولعلك ترى من هذه الصورة الموجزة أن ولي الدين من الأدباء الذين فسدت عقيدتهم الوطنية، والتوت أفكارهم في طرق معوجة ونظروا إلى الأمور نظرة ساذجة، واغتر بالحرية الكاذبة التي منحها الإنجليز للصحافة في مصر، مع أنهم يريدون بينهم الفرقة ويمدون لهم في حرية القول وهو أهون الأمور لديهم،

_ 1 أدباء العرب الجزء الرابع ص301 لبطرس البستاني ومقدمة ديوان ولي الدين لأنطوان الجميل.

والقول ينفس عن المصريين، فلا يلجئون للفعل، ولما طال زمن الكبت في خلال الحرب العالمية الأولى وما قبلها، انفجر المرجل، وشبت الثورة. ولقد أردت بذكر شيء عن ولي الدين يكن في هذا المقام أن أعطي صورة واضحة لتأثير السياسة في الشعر، وأن واجبي وأنا أؤرخ هذه الحقبة ألا أهمل أدبيًا تعود الناس إهماله لأنه انحرف عن جادة الحق. لقد نجح الإنجليز بعض النجاح في جذب بعض الأقلام إليهم، وقد كاد حافظ إبراهيم ألا يحظى بلقب شاعر النيل، وأن يكون بوقًا من أبواقهم، لولا موت أستاذه محمد عبده، ولولا أنه مصري فيه بقية من خير جعلته يستجيب لدعاة الوطنية الصحيحة. أما ولي الدين يكن فلم يكن مصريًّا كامل المصرية، وكان مصريًّا بالوطن والإقامة تركيا بالمولد والجنس والعاطفة، وكانت الحرية التي يدعو إليها حرية مصر وتمتعها باستقلالها التام خالصًا دون الترك والإنجليز، بل هي حرية القول، والخوض في تركيا والدعوة إلى أن تظل مصر مفيدة بِغُلَّيْنِ. الغل التركي والغل الإنجليزي، وهذا لعمري خلط في فهم الأشياء وتسميتها بغير أسمائها الصحيحة. كان بعد تركيا وطنه الصحيح، إنه في مصر تركي مهاجر، ومصر ولاية تركية في نظره، وإن تمتعت بشيء من الحرية لوجود الإنجليز بها فلهم منه الثناء، وهذا مجمل رأيه السياسي، واستمع إليه يقول بعد عودته من تركيا لأول مرة يصور ما بها من فساد: يا وطنًا قد جرى الفساد به ... متى يرينا إصلاحك الزمن دفنت حيا وما دنا أجل ... ما ضر لو دافنوك قد دفنوا عز علينا "فروق" من قطنوا ... فيك فهم في العذاب قد قطعوا ولما قال شوقي قصيدته المشهورة: سل يلدزا ذات القصور ... هل جاءها نبأ البدور بعد خلع السلطان عبد الحميد 1909، ورثى فيها حال السلطان المخلوع ردّ عليه ولي الدين يكن بقصيدة من الوزن والقافية، يندد فيها بحكم عبد الحميد

ويشمت به، ويقول في أولها مخاطبًا شوقي وعاتبًا عليه هذا الشعور الذي تنافى مع وجهة نظر المهاجرين: هاجتك خالية القصور ... وشجتك أفلة البدو وذكرت سكان الحمى ... ونسيت سكان القبور وبكيت بالدمع الغريـ ... ـر لباعث الدمع الغزير ولأهب المال الكثـ ... ـير وناهب المال الكثير حلمي الثغور الباسما ... ت مضيع أهلة الثغور ويقول من قصيدة أخرى متشفيًا في عبد الحميد، شامتًا به أشنع شماتة: نعم عبد الحميد أندب زمانًا ... تولى ليس يحمده سواكا تولى بين أبكار حسان ... تعلق في غدائراها نهاكا جعلت فداءها الدنيا جميعًا ... ومذ ملكتها جعلت فداكا وطال سراك في ليل التصابي ... وقد أصبحت لم يحمد سراكا أما عن ولائه للإنجليز ومدحه إياهم ففي ديوانه أكثر من قصيدة تنم عن إعجاب وولاء وتضفي عليهم عاطر المدح والثناء، فثمة قصيدة إلى "تومي إتكنس سدين الحرية وحاميها". إلى تومي إنكنس مني الثناء ... يزيد على الرمل في عده يفيد الربيع إذا فاض فيه ... ندى زهره، وشاذا ورده فلا يعرف السلم ندًّا له ... ولا يقع الحرب في لده ويقول في رثاء الملك إدوارد السابع1: وداعًا أيها الملك الجليل ... دنا سفر ومهدت السبيل بكى التاميز صاحبه المفدى ... فجاوبه هنا هرم ونيل أبا الأحرار لا ينساك حر ... شبابهمو يجلك والكهول

_ 1 ولد إدوارد السابع في سنة 1841م. وولي الملك في يناير سنة 1901 وتوفي سنة 1910.

ويودع "الجنرال مكسويل" في سنة 1916 ويرجو أن يعود ثانية إلى مصر بقوله: سنذكر منك أخلاقًا حسانًا ... تزيد على النوى حسنًا وطيبًا ونتبعك الثناء بكل أرض ... يقوم إذا نزلت بها خطيبًا تودعك الأهلة مشرقات ... تحيي في مطالعها الصليبا لقد أمتعتها بالسلم حتى ... نكاد اليوم لا ندري الحروبا فعش يا ماكسويل لود مصر ... ونرجو بعد ذلك أن تؤوبا وعلى النقيض من هذا الأديب الذي اختلت بين يديه موازين السياسة، وقيم الأشياء، فراح يعتسف الطريق، ونجد شاعرين آخرين يجري في عروقهما الدم التركي، ولكنهما كانا مثلًا عاليًا في الوطنية الصادقة على اختلاف يسير بين نهجيهما، أعني بهما: أحمد محرم، وأحمد الكاشف. أما أحمد محرم فقد جمع إلى حماسته الوطنية، عاطفة دينية جياشة، والدين -كما ذكرنا آنفًا- يدعو إلى العزة والكرامة والسيادة، وقد صدق محرم حين قال: خلق العروبة أن تجد وتدأبا ... وسجية الإسلام أن يتغلبا كان أحمد محرم في أول أمره من دعاة الجامعة الإسلامية في ظل تركيا، وقد عرفت موقف مصر من هذه الدعوة ممثلًا في شعرائها الذين أسلفنا الكلام عنهم، وفي زعمائها الوطنيين، ينظر بعضهم إلى هذه الفكرة نظرة دينية، وينظر بعضهم إليها نظرة سياسية؛ لأن إنجلترا الغاصبة لا تملك وثيقة دولية تؤيد بقاءها في مصر، بينما قد اعترفت الدول جميعًا بمركز تركيا في هذه الديار، وكان أحمد محرم يتعلق بتركيا لسببين: ديني وجنسي، استمع إليه يدعو المسلمين جميعًا إلى الالتفاف حول راية الخلافة: هبوا بني الشرق لا نوم ولا لعب ... حتى تعد القوى أو تؤخذ الأهب ماذا تظنون إلا أن يحاط بكم ... فلا يكون لكم منجى ولا هرب كونوا بها أمة في الدهر واحدة ... لا ينظر الغرب يومًا كيف نحترب

ما للسياسة تؤذينا وتبعدنا ... عما يضم قوانا حين تقترب أغرت بنا الخلف حتى اجتاح قوتنا ... وطاح بالشرق ما نجني وترتكب ولم يكن يصدق أن تركيا ضعيفة، وأنها سميت في عالم السياسة بالرجل المريض، وأن الفساد قد دب في جسمها كله، وأنها على وشك الانهيار إن لم تتداركها يد الله، والإصلاح. وليس يزول ملك الترك حتى ... تزول الأرض أو تهوى السماء ويرى أنهم أهل لأن يتولوا شئون الخلافة، ويراعوا حقوقها، فهم عنها الذادة الأشاوس، وهم الذين انتهجوا خير منهج، وفاته أنهم منذ أن خرجوا من ديارهم غازين للبلاد الإسلامية سبب نكبتها، وما تردت فيه من جهل وذل وانحلال، ضعفت بضعفهم، وفسدت بفسادهم؛ فانهارت بانهيارهم حتى صارت لقمة مستطابة لذائب الغرب. لولا بنو عثمان والسنن ... شرعوا لما وضح السبيل الأقوم سطعوا بآفاق الخلافة فانجلى ... عنها من الحدثان ليل مظلم فهم ولاة أمورها وكفاتها ... وهم حماة ثغورها وهُم هُم وهو الشاعر الوحيد الذي دافع عن عبد الحميد، وأسف أشد الأسف لما أصابه بعد عزله في سنة 1909، وقد أهمه وأحزنه أن رأى بعض الناس قد شمتوا به وهم الذين كانوا يلهجون بحمده، ويعيشون في نعمائه: كأن بغاة الجود والمجد لم تفد ... عليه، ولم تهطل عليهم مواهبه كأن بغاة الشعر لم تغش بابه ... بمستعليات تزدهيها مناقبه كأن الأولى زانوا المنابر باسمه ... أحلوا بدين الله ما لا يناسبه ثم أخذ يدافع عنه بحمية، وقد رأى الأعداء كثرًا، وكل يعدد مثالبه: ألم يستطر يومًا لخطب مساور ... محافظة من أن تسوء عواقبه ألا راحم هل من شفيع أما كفى ... أكل بني الدنيا عدو يغاضبه أكل مآتيه ذنوب أكله ... عيوب؟ ألا من منصف إذا نحاسبه

ويحاول أن يبرئ عبد الحميد مما وصم به، ويلقي التبعة على أتباعه وأعوانه، وحاشيته فهم الذين غشوه، وزينوا له الباطل، وخوفوه الموت، وافتروا عليه الكذب، ولذلك هم أولى بالعقاب دونه. أليس الأولى غشوه أجدر بالأذى ... وأولى الورى بالشر من هو جالبه هم اكتفوه بالدسائس وافتروا ... من القول ما يصمى عن الرشد كاذبه وهم خوفوه الموت حتى كأنما ... يلاقيه في الماء الذي هو شاربه ولا ريب أن أحمد محرم كان يصدر في مثل هذا الشعر عن نظرة سامية لمنصب الخليفة وبعده رمزًا لآمال المسلمين، ولا يريد أن تسوء سيرته في أذهان الناس، فتنتقص الخلافة معه، وتتزلزل مكانتها في النفوس، وقد لام صديقه أحمد الكاشف لأنه نشر قصيدة تهجم فيها على تركيا بعد أن كان يمدحها ويمدح خلفاءها ويشيد بهمم جندها وبلائهم في الحروب ويصور هزائمهم انتصارات، وسيئاتهم حسنات، ويعيب عليه كيف يذم بني جنسه، وفيه دم تركي، وذلك حين يقول له: عذلت بني عثمان والعذل يؤلم ... وملت عن المدح الذي كنت تنظم يلي! إنها الأوطان هاجك أنها ... بأدي بني التاميز نهب مقسم فجردت غضبًا ذا غرارين مخدمًا ... تسيل المنايا منه أو يقطر الدم حنانك في القوم الألي أنت منهم ... ورأيك في الأهل الذين هُم هُم ولمال اشتدت الحركة الوطنية بمصر على يد مصطفى كامل، وظهر من يدعو للقوية المصرية خالصة من دون الترك والإنجليز، نرى أحمد محرم يلبي الدعوة قويًّا صريحًا جريئًا شأن المؤمن الذي لا يرهب إلا الله، ولا يبالي أصابه الضر فيما يقول أم الخير، وقد قال في الرد على خطبة كرومر التي رمى فيها المصريين بالتعصب، وحمل على الإسلام حملة ظالمة قصيدة طويلة مطلعها: رويدك أيها الجبار فينا ... فإن الرأي ألا تزدرينا وطالما تغنى بحب مصر وأمجادها، بعد أن يئس من تركيا وتحطم المثل

الأعلى في نفسه وتقطعت الأسباب التي كانت تصله بها بعد إعلان الحماية على مصر، ثم زوال الخلافة نفسها. فإن يسألوا ما حب مصر فإنه ... دمى وفؤادي والجوانح والصدر أخاف وأرجو وهي جهد مخافتي ... ومرمى رجائي لا خفاء ولا نكر هي القدر الجاري، هي السخط والرضا ... هي الدين والدنيا، هي الناس والدهر بذلك آمنًا، فيا من يلومنا ... لنا في الهوى إيماننا ولك الكفر ويقول في قصيدة أخرى: وهبت الصبا والشيب والشوق والهوى ... لمصر وإن لم أقض حق الهوى مصرًا وقد وقف من الأحزاب المصرية موقف الناصح الأمين، لا يميل به الهوى إلى حزب دون آخر، يمحضهم النصح، ويستحثهم على الوحدة، والتمسك بالأهداف العليا للقومية المصرية، استمع إليه بنصح الوفد المصري حين ذهب لأوربا برئاسة سعد زغلول للدفاع عن القضية المصرية، والمطالبة بحقوقها: وفد الكنانة هل حملت رجاءها ... أم قد حملت أمانة الأزمان؟ الدهر عين والمماليك السن ... النيل قلب دائم الخفقان قل للألى وزنوا الشعوب: تذكروا ... في مصر شعبًا راجح الميزان وإذا رماك أولو الخصومة فارمهم ... بالحجة الكبرى وبالبرهان وإن كان هواه مع الحزب الوطني، حتى لقد أتهم بأنه من حساد "سعد"، مع أنه كان وطنيًّا مخلصًا لا يرتضى أنصاف الحلول، ولا يقنع إلا بالاستقلال الكامل، وقد قال يرد على هؤلاء الذين اتهموة بمناوأة "سعد"، يبين لهم رأيه في الاستقلال المزعوم، وأنه كان يرجو أن يكون سعد فوق السحاب، تنال البلاد خيرها واستقلالها التام على يديه، لا ذلك الاستقلال الذي سماه الاستقلال الذائب. دعاة الخير والإصلاح مرحى ... رضيناكم وإن كنتم غصابا رضيناكم على أن تنصفونا ... وألا تظلموا الشعب المصابا

أفي الإنصاف ألا توردوه ... على طول الصدى إلا سرابا زعمتم أننا حساد سعد ... وقلتم قول من جهل الصوابا ولو ركب الجواد بمصر سعد ... لقلنا ليته ركب السحابا كفى يا قوم بهتانا وزورًا ... فقولوا الحق واجتنبوا السبابا لأنتم خير من يرجى لمصر ... ولكنا نرى العجب العجابا وفي استقلالكم بعض المزايا ... ولكنا لمسناه فذابا لم يكن محرم في الواقع حزبيًّا، ولكنه كان شديد الحمية في التعصب لوطنه، استمع إليه حين الخلاف بين أعضاء الوفد المصري، وشاعت الفرقة يقول مشفقًا على وطنه من هذا النزاع: إذا اختلفوا أو اتفقوا فإنا ... سوى استقلال مصر لا نريد إذا لم يحفظ استقلال مصر ... فلا سعد يطاع ولا سعيد رجاء الشعب -لا الأحزاب تجدي ... إذا ضاع الغداة ولا الوفود نطيع العاملين ونفتتديهم ... وننصرهم إذا اشتد الوعيد إذا اعتصموا فنحن لهم حصون ... وإن زحفوا فنحن لهم جنود بأظهرنا وأيدينا جميعًا ... تحصن مصطفى ورمى فريد لقد كان حب مصر يملك عليه شغاف قلبه، حتى ليعز عليه أن يفرط في أي حق من حقوقها، وهو الذي قال فيها: وهبت الصبار الشيب والهوى ... لمصر وإن لم أقض حق الهوى مصرا بلاد حبتنى أرضها وسماؤها ... حياتي وأجرى نيلها في دمي الدرا أجل! كان محرم وطنيًّا شديد الغيرة على وطنه، متعصبًا في الحق. ليسا لتعصب للرجال معرة ... إن الكريم لقومه يتعصب

لقد غضب حين رضى قومه بالاستقلال الزائف، وتوج الجهاد الطويل بالخداع والمداهنة، ولذلك كان جريئًا في لومه وتعنيفه لساسة مصر حينذاك ولقد تميز محرم دائمًا بالجرأة، ولما رأى من عباس انحرافًا عن الجادة، ومهادنة للإنجليز، واستنزافًا لمال الشعب، وانصرافًا عن الإصلاح لم يتردد في أن يقول فيه ما كان يعد في ذلك الوقت جريمة، ويعرض صاحبه للعقاب الصارم: أضر الناس ذو تاج تولى ... فما نفع البلاد ولا أفادا وكان على الرعية شر راعٍ ... وأشأم مالك في الدهر سادا وتدعوه الرعية وهو لاهٍ ... فتصدع دون مسمعه الجمادا حياة توسع الأخيرا عارًا ... وذكر يملأ الدنيا سوادا فإيه يا عزيز النيل إيه ... أما ترضى لملكك أن يشادا وللشعب المصفّد أن تراه ... وقد نزع الأداهم والصفادا وقد قال بيته المشهور يعرض بعباس وقد سمن على دماء الشعب، بينما صار الشعب هزيلًا. رأيت الشعب والأمثال جم ... على ما كان مالكه يكون وأعجبت ما أرى شعب نحيف ... يسوس قطيعة راع بدين فإذا كان هذا مبلغ جرأته في تلك الآونة، على من يتمسح كل الشعراء بأعتابه، ويزيجون إليه المدح الكاذب! فيحجم محرم عن نقد سعد وغير سعد إذا ظن أنهم فرطوا في حق بلادهم. ولقد شرح لنا مذهبه وعلل غضبته كلما مس مصر ضر أو حاق بها شر في قوله: يا نيل والموفون فيك قلائل ... ليت الذعاف لمن يخونك مشرب أيخون عهدك غادر فيضمنه ... ما بين جانحتيك واد مخصب قتل الوفاء، فما غضبت وإنما ... يحمى الحقيقة من يغار ويغضب ولذلك كان متتبعًا في حرص بالغ شئون السياسة المصرية، وخطوات ساستها ولم يدع مقامًا إلا أدلى فيه برأيه، صادعًا بكلمة الحق، محذرًا، وناصحًا ومشجعًا ومقرعًا على حسب الموقف الذي يقفه الزعماء والمصلحون.

ولما عاد بعض أعضاء الوفد على الأمة مشروع "ملنر" خشي محرم أن يكون المشروع خدعة إنجليزية لا تحقق استقلال مصر، وصاح صيحة قوية يحذر فيها المصريين من نفاق الإنجليز، فطالما وعدوا الوعود ومنوا الأماني، ولم يتحقق لهم وعد، أو ينجزوا أمنية، كما يحذر المصريين من الفرقة، فطريق الحق واضحة: يا أيها القوم ماذا في حقائبكم ... إني أرى الشعب قد أودى به القلق جئتم إلينا فباتت مصر راجفة ... مما حملتم وكاد النيل يحترق لقد أقاموا طويلًا بين أظهرنا ... فما وثقنا بهم يومًا ولا وثقوا لا يعبث اليوم باستقلالكم أحد ... ولا يغركم التضليل والملق استعبد المال قومًا لو يقال لهم ... خوضوا إليه عذاب الله لانطلقوا برثت من كل ذي نفسين. واحدة ... تأبى القضاء وأخرى همها الورق ما كنت أحسب أن يقضي القضاء لا ... يومًا فتختلف الأهواء والطرق ويجزع ... ويشتد جزعه حين تتصدع وحدة الأمة، ويجد العدو ثغره واسعة في صفوفها ينفذ منها إلى مآربه، ويكثر التهاتر واللجاج فيما بينها، وتنصرف عن غايتها السامية. ألست ترى بنيها في شقاق ... فما يرجون ما عاشوا اتحادا ويقول: شرعوا العدواة بينهم لم يوصهم ... دين المسيح بها ولا الإسلام عوت الثعالب أمس حول عرينهم ... واليوم يزأر حوله الضرغام ويسدي لهم النصيحة الخالصة في أن يتحدوا، ويرأبوا الصدع. ويجمعوا الصفوف. يا قوم ماذا يفيد الخلف فاتفقوا ... وقوموا أمركم بالحزم يستقم صونوا العهود وكونوا أمة عرفت ... معنى الحياة فلم تعسف ولم تهم يا قوم لا تغفلوا إن العدو له ... عين تراقب منكم زلة القدم

ولعمري إن هذه النفس التي تحترق وطنية وألما لما نكبت به مصر في بنيها كانت جديرة بأن تتبوأ مكانتها اللائقة بها في عالم الأدب، ولقد حظي حافظ بالشهرة في عالم الوطنيات، مع أنه من عرفت، ولم يقف لحرّ الوطنية، وما يلاقيه الوطنيون في سبيل مبادئهم إلا أمدًا يسيرًا، وهو في شعره الوطني لا يشعرك بتلك الحرارة التي يبعثها في نفسك شعر أحمد محرم. ولكن عيب أحمد محرم، وعيب الكاشف معه أنهما آثرا العزلة بالريف حين فسدت الحياة في القاهرة، واختلف الناس فيما بينهم على المبادئ السامية، وكان في محرم زهد وعفة، وإيمان قوي، فلم يتملق رئيسًا، أو يعرف في الحق لينًا أو مواربة وكان حافظ رجل دنيا كثير الاختلاط بالناس. فالتمس له أصدقاؤه المعاذير حين قصر، وأغدقوا عليه عاطر الثناء حين وفق. أما أحمد محرم فقد بقي حتى اليوم محرومًا القلم القوي الذي يعرض دوره بين الناس، ويعرف به قومه، وهو الذي أثر الفقر، والوحدة، والحرمان في سبيل مبدئه، وكان شاعرًا صاحب رسالة، وكان من أقوى الشعراء ديباجة وأنصعهم بيانًا، كان عيب أحمد محرم أنه يمثل الفريق الجاد من الأمة، والذي يشعر بآلامها المبرحة وأدوائها المستعصية، وكان صاحب مثل أعلى في أمة هازلة تطرب للعبث، ويفتنها زبرج الحضارة الغربية ليفتننا عن أهدافنا القويمة. كان شاعر مصر سياسيًّا واجتماعيًّا؛ وكان شاعر العروبة والإسلام، متعدد النواحي الأدبية؛ ومع ذلك كل عاثر الجد في حياته؛ لأنه لم يتملق العظماء فيمدحهم بالباطل، ويرثيهم إذا ماتوا، بل كان شاعرًا صادق الشعور في كل ما ينطق به، لا نظامًا يقول في المناسبات، فلم يجد من يدفعه إلى عالم الصدارة كما وجد سواه من الشعراء، ولنا إليه عودة إن شاء الله. أما صديقه أحمد الكاشف فقد وقف نفسه على الشعر السياسي، وكان دون محرم اتساع أغراضه، إذ وقف على لون واحد من الشعر. ويمدح الترك حين كان مدحهم دينًا أو سياسية، ويشن الغارة الشعواء على الإنجليز على عهد كرومر، وغورست، وكتشنر ويمدح عباسًا وحسينًا، ويؤيد الثورة بكل قوة حين

اضطرمت في أرجاء البلاد، فإذا ما تصدعت صفوف الأمة، وصارت أحزابًا وشيعًا لا يعتزل الأحزاب كما اعتزلها محرم، ويسدي لها قول الناصح الأمين، وإنما ينحاز لفريق الأحرار الدستوريين فيمدح محمد محمود باشا، ويخصه بكثير من الثناء في مختلف المناسبات، ويمدح إسماعيل صدقي، وعلي ماهر وغيرهم، ولذلك سبب خاص يدركه من عرف البيئة التي عاش فيها الكاشف، فقد كانت أسرة الخطيب بالقرشية "بلد الكاشف" ذات جاه ونفوذ وثروة، وكان شوقي الخطيب في أول أمره نائبًا وفديًا ولم يكن الشاعر في صفاء مع هذه الأسرة كما لم يكن في صفاء مع أسرة المنشاوي من قبل، فانحاز إلى خصومهم السياسيين علهم ينصرونه إذا حزبه الضر، أو اشتدت وطأة خصومه عليه: ولكن حسب الكاشف قوله في وداع كرومر: ولبثت تبدو في زخارف مخلص ... للقوم تخفي ما اعتزمت وتحجب غافلتهم حينًا فلم يتلفتوا ... إلا ونابك فيهم والمخلب هل أنت فينا فاتح أو وارث ... أو قيهم أعلى وجار أقرب؟ أتطيل بينهم مقامك جاهدًا ... وتقول لم يتعلموا ويهذبوا وختمت عهدك بالذي اهتزت له ... أركان مكة واستغاثت يثرب ويشير في البيت الأخير إلى حادثة دنشواي، واسمعه يقول لكتشنر: لسنا قطيعًا غاب راعيه كما ... كنا ولست الضيغم الفتاكا فأقم بمصر مقام ضيف محسن ... وعليهم أن يكرموا مثواكا وأذكر لوادي النيل نعمته عسى ... تعطي بنيه بعض ما أعطاكا ولقد كان للنهضة القومية كما رأيت أثر بارز في الشعر الحديث، وكانت النهضة السياسية ويقظة الأمة من العوامل الفعالة في هذا الشعر، ولقد وجد لون جديد من الشعر السياسي في هذه الحقبة، وهو الأناشيد القومية، التي يتغنى بها الناس جماعات؛ وأول من نظمها في الأدب الحديث هو رفاعة الطهطاوي كما عرفت في الجزء الأول1، بيد أن شعراء القرن التاسع عشر الذين أتوا بعد رفاعة

_ 1 راجع ص33 من كتاب: "في الأدب الحديث" الجزء الأول.

الطهطاوي، لم يعنوا بهذا النوع من الشعر، وإذا لم تكن الأمور السياسية بمصر على ما يرام، وتوالت عليها النكبات بعضها في أثر بعض، وانتهت بالاحتلال المشئوم، ثم بوضع الحماية على مصر، فلما كانت الثورة القومية، في سنة 1919 تبارى الشعراء في وضع الأناشيد القومية، وقد نجح بعضها، ولم ينجح كثير منها؛ لأنه يشرط في النشيد القومي: قوة العبارة وسهولتها، وألا يكون وعظًا بل حماسة ونخوة، وأن يكون موضوعًا على لسان الشعب، وموافقًا لكل زمان1. ولكل أمة من أمم الغرب نشيد وطني تزهوبه، ويتغنى به الشعب في حفلاته العامة وينشده الطلبة في المدارس، والجنود في الميدان، فهو يعبر عن أمال أمة، ويبث في نفس كل فرد منها الحمية والحماسة، ويدفعه إلى العمل؛ إنه صورة مركزة للمثل العليا التي تنشدها أمة من الأمم، ولقد كان لنشيد "المارسلييز" أثر عظيم في الثورة الفرنسية، وقد ترجمه رفاعة بك إلى العربية شعرًا ولكن النشيد الذي يصلح لأمة لا يصلح لسواها، وقديمًا كان الفارس العربي يرتجز البيتين والثلاثة قبل المعركة ليثير في نفسه الحماسة، ويوهن من قوى خصمه المعنوية ولكنه كان نشيدًا فرديًّا ينشئه صاحبه لساعته. وقلما تجد شاعرًا من شعراء العصر الحديث ليس له نشيد قومي، فهذا شوقي يشترك في مسابقة للأناشيد، تختار اللجنة نشيده ولكن هذا النشيد يموت؛ لأن العبرة ليست باختيار اللجنة أو اختيار الحكومة، وإنما بقوة النشيد، وسيطرته على نفوس الناس، وبقائه على الزمن ولو لم يعترف به رسميًّا، وقد تعرض نشيد شوقي لانتقاد كثير وفيه يقول: بنى مصر مكانكم تهيا ... فهيا مهدوا للملك هيا خذوا شمس النهار له حليّا ... ألم تك تاج أولكم مليا على الأخلاق خطوا الملك وابنوا ... فليس وراءها للعز ركن أليس لكم بوادي النيل عدن ... وكوثرها الذي يجري شهيا

_ 1 الديوان في النقد والأدب للعقاد والمازني ج1 ص41.

وقد أوسع الأستاذ العقاد هذا النشيد تجريحًا وطعنًا1 وهو على حق في بعض ما قال وإن لم يسلم نقده في مجموعه من التحامل، ولكن النشيد ليس به القوة التي تكفل له الخلود وقد وضع محمد عبد المطلب أكثر من نشيد فمن تلك قوله: مصر اسلمي مصر لك السلام ... والملك والدولة والدوام مصر لك التاريخ والأيام ... والنيل والفسطاط والأهرام أيام لا ملك ولا نظام ... أنت عروس الأرض والبلاد ولأحمد محرم نشيد بعنوان مصر الحرة قال في أوله: مصر انهضي فالدهر ساق وقدم ... شقي السحاب وارفعي النجم علم تحكمي يا مصر في كل الأمم ... تحكمي فهي عبيد وخدم ويقول في آخره معلنًا وفاءه لزعماء الحزب الوطني: نحن الوفاة والكريم من وفى ... نصون ما صان "الرئيس مصطفى ونقتفي إثر فريد وكفى ... هما إماما الشعب والنيل الحرم وممن اشتهر بوضع الأناشيد المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وقد تغلب نشيده القومي على كل نشيد سواهن ولحن تلحينًا قويًّا، وحفظه الصغار والكبار ثم توجه به سعد باشا زغلول زعيم الحركة الوطنية، وصار هذا النشيد نشيدًا وطنيًّا لمصر، وأرى أنه يمثل ما يشترط في النشيد القومي تمام التمثيل، ولذلك أثبته هنا نموذجًا لهذا اللون من الشعر. اسملي يا مصر إنني الفدا ... ذي يدي إن مدت الدنيا يدًا أبدًا لن تستكيني أبدًا ... إنني أرجو مع اليوم غدا ومعي قلبي وعزمي للجهاد ... ولقلبي أنت بعد الدين دين لك يا مصر السلامة ... وسلاما يا بلادي إن رمى الدهر سهامة ... اتقيها بفؤادي واسلمي في كل حين

أنا مصري بناني من بنى ... هرم الدهر الذي أعيا الفنا وقفة الأهرام فيما بيننا ... لصروف الدهر وقفتي أنا في دفاعي وجهادي للبلاد ... لا أميل لا أمل لا ألين لك يا مصر السلامة ويك يا من رام تقيد الفلك ... أي نجم في السما يخضع لك وطن الحر سما لا تمتلك ... والفتى الحر بأفقه ملك لا عدا يا أرض مصر بك عاد ... إننا دون حماك أجمعين لك يا مصر السلامة للعلا أبناء مصر للعلا ... وبمصر شرفوا المستقبلا وفدى لمصرنا الدنيا فلا ... تضعوا الأوطان إلا أولًا جانبي الأيسر قلبه الفؤاد ... وبلادي هي لي قلبي اليمين لك يا مصر السلامة ومما يتصل بالشعر السياسي، ولا يقل عنه أثرًا في الوطنية المصرية، وإذكائه الحمية قلوب الناشئين، وصف الطبيعة المصرية، وتجلية محاسنها والتغني بها؛ لأنه يجعل المصريين يقدّرون وطنهم ويعشقونه، ويزدادون به تمسكًا وفيه فناء. وقد فطن لهذا الشعراء العرب في جاهليتهم وقلما خلت قصيدة كبيرة من وصف الطبيعة العربية برمالها، وعيونها، وسمائها وخمائلها، ووحشها، وما تثيره في نفس الشاعر من ذكريات، ولا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا التقطتها عيونهم اليقظة، وأذواقهم المرهقة، وأدارتها عقولهم الواعية، وأخرجتها وجداناتهم الحية شعرًا صادقًا في الوصف، حتى حيات الصحراء وذبابها كان لها نصيب في شعرهم، وخلعوا عليها بعض المحاسن، وظل شعراء العرب بعد أن هجروا صحراءهم مفتونين بجمال تلك الصحراء؛ لأن الشعر الجاهلي وهو المنبع الذي استقوا منه، والمدرسة التي تخرجوا فيها، كان من القوة والصدق في وصف تلك الديار، وإبراز ما فيها من جمال بحيث لم يجد الشعراء في العصور الإسلامية بدًّا من أن يذكروا نجدًا وغير نجد من الأماكن التي فتن بها شعراء العصر الجاهلي.

وقد فطن لهذا النوع من الوصف شعراء الغرب، وأدباؤهم، وقلما نجد شاعرًا غريبًا كبيرًا له في مناظر بلاده، وفي غيرها من مواطن الجمال في أوربا أكثر من قصيدة، وهذا النوع من الشعر فضلًا أنه من صميم الشعر القومي السياسي، فهو عمل فني خالص، ينطلق فيه الشاعر على سجيته، ولا يحفزه إليه إلا إشباع رغبته الفنية، وإحساسه بالجمال. والطبيعة المصرية ليست مملة كما يزعم بعض الناس الذين يدافعون عن أوربا، ونزوحهم إليها كل عام، ففيها مفاتن ساحرة، وفي ريفهان ونيلها، وجداولها، وصحرائها، وشطآن بحارها، وآثارها التي تعد لقدمها جزءًا من هذه الطبيعة. ثم في شمسها الضاحية، وهوائها الرقراق، وأمسياتها، وتألق النجوم في سمائها، وبلابلها وأطيارها. وقد فتن هذا الجمال شعراء مصر في القديم، وإن لم يفيضوا فيه فيقول محمد بن عاصم الموفقي قصيدته التي مطلعها: اشرب على الجيزة والمقس ... من قهوة صفراء كالورس ويقول البهاء زهير: علاحس النواعير ... وأصوات الشحارير ويقول علي بن موسى بن سعيد: انظر إلى سور الجزيرة في الدجى ... والبدر يلثم منه ثغرًا أشنبا تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمرًا معجبًا بيننا مفضضًا في جانب ... أبصرت منه في سواه مذهبًا وكان الظن أن يلفت هذا الجمال البديع أنظار الشعراء في العصر الحديث، كما استرعى انتباه الشعراء في العصر القديم، ولكننا نعلم أنه قد انفضت فترة طويلة من الزمن ركد فيها الشعر العربي بعامة، ولم يبق منه إلا دماء يسير، وهذا الباقي في عصر الممالك وأوائل النهضة كان شعرًا تقليديًّا تغلب عليه الصنعة، والمحسنات اللفظية والمعنوية، وكان يقال في الأغراض التقليدية القديمة من مدح،

ورثاء، وفخر، وما شاكل ذلك، وقلما انطلق فيه الشاعر، وتحرر من تلك القيود، وأفصح عن خلجات شعورهن وحر وجدانه، وإحساسه بالجمال؛ وإذا فعل فإنه لم يكن يملك الأداة المعبرة؛ لفقره في اللغة، وعدم مطاوعتها له؛ لأنه كان في عصر عمت في الجهالة، وغلبت العجمة على الشعراء والأدباء. ولا شك أن في وصف الطبيعة المصرية والتغني بها ما يدل على إحساس شديد بمحبة الوطن، والتعليق به، والإعجاب بكل ما فيه، والإعجاب أول مراحل المحبة، وبدهي أن الشعراء في العصور المتأخرة لم يكن عندهم هذا الشعور الوطني، أو الإحساس القومي، فلم يلتفتوا إلى الطبيعة وما فيها من جمال وفتنة، وظل الأمر على هذا النوال حتى أتى البارودي، فأحيا الشعر العربي بعد مواته، وابتدأ في أول أمره محاكيًا ومقلدًا حتى تملك زمام اللغة، وناصية البيان، ومن هذا النوع التقليدي قوله في وصف الربيع قصيدته التي مطلعها: رمت بخيوط النور كهربة الفجر ... ونمت بأسرار الندى شفة الزهر ولا تحس وأنت تقرأ هذه القصيدة بأنه يصف جوًّا مصريًّا، ولا طبيعة مصرية، ولكنه مال بث أن التفت للريف المصري، فوضحت شخصيته، وظهرت الألوان المحلية، وأبدع إبداعًا عظيمًا في هذا الضرب من الوصف، فأحب الريف محبة ملكت عليه شغاف قلبه الحساس؛ فتراه يصف الصباح المشرق الندي، ويصف السحب، ويصف الناعورة، والقطن، والطيور المزقزقة في مثل قصيدته: رف الندى وتنفس النوار ... وتكلمت بلغاتها الأطيار أو أرجوزته: عم الحيا واستنت الجداول ... وفاضت الغدران والمناهل وقد وفينا البارودي حقه من الدرس في الجزء الأول من كتابنا، فلا داعي للتكرار، ولكننا نقول إنه أول من فطن في العصر الحديث لجمال مصر، وتغنى به في شعره؛ وإذا نظرنا إلى الشعراء بعده نجدهم يتفاوتون في هذا الباب، فإسماعيل صبري على الرغم من رقة حسه، ودقة ذوقه، وإرهاف شعوره؛

ومحبته للجمال، لا نكاد نجد له في الطبيعة المصرية إلا قطعة واحدة من ثلاثة أبيات مسروقة من "ابن خروف" النحوي ونسبها إلى نفسه. ما أعجب النيل ما أبهى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرواح ونفتش في ديوان ولي الدين يكن فلا نكاد نعثر على شيء من الوصف، ولا على وصف الطبيعة المصرية، كأنها ليست موجودة ألبتة، وقد علمت فيما سبق أنه كان غريبًا بشعوره عن مصر، وكان في شغل بسياسياته عن التملي في محاسن الطبيعة وفتنتها. أما عبد المطلب فكان لفرط إعجابه بالعرب القدماء لا يزال يتغنى بالجزع، واللوى والرقمتين، ولعلع. وحيّ بالجزع ركبًا زان منظره ... نور الربيع وصوب المزن ينسكب1 وساجل الورق في تلك الربى وأعد ... ذكر اللوى فلقلبي باللوى طرب ويخيل إليك بعد أن تستقرئ شعره أنه لم ينشأ في صعيد مصر، ولم يتلق العلم في القاهرة ويرَ مناظر الجزيرة الخلابة، ويشاهد النيل وبعثه للحياة في كل جزء من أرض مصر، ومن تقله أرضها. ومن العجب أن حافظ إبراهيم الذي لقب بشاعر النيل، لم يهتم بالطبيعة المصرية، ويصفها، وتقرأ ديوانه وتفتش فيه علك تعثر على أبيات ولو في ثنايا قصيدة فلا تجد شيئًا من هذا اللهم إلا أبياتًا جاءت عرضًا عند كلامه على نادي الألعاب الرياضية بالجزيرة، حين أقامة حفلة بدار "الأوبرا" سنة 1916، والتي يقول في أولها2. بنادي الجزيرة قف ساعة ... وشاهد بربك ما قد حوى ترى جنة من جنان الربيع ... تبدت مع الخلد في مستوى جمال الطبيعة في أفقها ... تجلى على عرشه واستوى

_ 1 ديوان عبد المطلب ص18. 2 ديوان حافظ ج1 ص222.

وفيها يعتب على المصريين أنهم زاهدون في جمال بلادهم، صادفون عنه، ويؤثرون الجلوس على المقاهي على التمتع بالرياض: فما بال قومي لا يأخذون ... لتلك الجنان طريقًا سُوا وما بال قومي لا ينزلون ... بغير جروبي وباراللوا تراهم على نردهم عكفًا ... يبادر كل إلى ما غوى وإلا ما جاء في ثنايا قصيدة بعث بها إلى صديق له في إنجلترا سنة 1908 وفيها يقول: والنيل مرآة تنفس ... في صحيفتها النسيم سلب السماء نجومها ... فهوت بلجته تعوم نشرت عليه غلاله ... بيضاء حاكتها تعوم شفت لأعيننا سوى ... ما شبه منها الأديم وقد كان أجدى على حافظ، وهو يملك بيانًا خلابًا متمكنًا من فصيح اللغة أن يعكف على الطبيعة المصرية يخلد آثارها، ويستقرئ جمالها، ولا سيما بعد أن كمم المنصب فاه، فلم يعد يطرق أبواب الشعر السياسي منذ أن عين بدار الكتب، ولو أن حافظًا اتجه هذه الوجهة لكان أثره في الأدب عظيمًا، ولكن أنى لحافظ أن يتجه إلى الطبيعة يتملى مفاتنها وهوالمشغول بالناس ومنادمتهم، ولعل الدكتور طه حسين وهو من المعجبين به قد وقف على سره إزاء الطبيعة وأنه لم يكن مهيأ لمناجاتها والتحدث إليها وإظهار جمالها حين قال: "ولم يكن حافظ عظيم الثقافة ولا عميقها، فلم يكن من الممكن ولا من اليسير أن يتجه إلى تلك الفنون الشعرية الخالصة، التي تصل بين الشاعر وبين الطبيعة، والتي ليس للسياسة ولا للنظام عليها سلطان، ولم تكن في السماء ولا الرياض في الأرض ولا النيل ولا الصحراء تلهم حافظًا؛ لأن حافظًا لم يكن شاعر الطبيعة وإنما كان شاعر الناس1.

_ 1 حافظ وشوقي ص211.

ومن الشعراء المقلين الذين عنوا بالطبيعة المصرية وجمالها السيد توفيق البكري وله قصيدة ممتعة عنوانها "مصر"1، وفيها يقول: والنيل في لباتها ... عقد يلوح مجوهر والجو صحو مشرق ... وكأنما هو ممطر والظل من خلل الشموس ... مدرهم ومدثر وغصونها لدن تمد ... بما تقل وتثمر فكأنهن ولائد في ... حليها تتكسر يا جنة يجنى الجنى ... فيها ويجرى الكوثر أنا شاعر في وصفها ... لكنها هي أشعر ويصف الجيزة، والأصيل، والمتحف، والأزهر والهرمين، وأخلاق المصريين وكرم ضيافتهم؛ وهي تنبئ عن لفتات شعرية سامية لم تتح لكثيرين. كما أن له في وصف الريف قطعًا نثرية هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر مثل: "العزلة"2، وهو في مدحه لعباس لا ينسى مصر والتغني بجمالها، ولكنه كما ذكرنا مقل وسنعود إليه بدراسة تفصيلية في آخر هذا الجزء إن شاء الله. ولعل شوقي قد قضى حق مصر، وحق الطبيعة المصرية، ووفى ما على الشعراء من دين أثقل كاهلهم بعد البارودي، فقد أفاض شوقي حقًّا في وصفها وتجلت شاعريته الفذة وموهبته الخالقة المقتدرة، وإحساسه المرهف، وقد ألهبت الغربة وحرقتها، والنفي ولوعته مشاعره، فاشتاق للوطن ونفث نفثات حارة من قلب مليء بالشوق والمحبة من ذلك قصيدته الأندلسية: اختلاف النهار والليل ينسي ... اذكر إلى الصبا وأيام أنسي والتي يقول فيها بيته الخالد: وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي ويصف الجزيرة وصفًا يجعل الحياة تدب فيها، ويشخصها كأنها بشر.

هي بلقيس في الخمائل صرح ... من عباب وصاحب غير نكس حسبها أن تكون للنيل عرسًا ... قلبها لم يجن يومًا بعرس ليست بالأصيل حلة وشى ... بين صنعاء في الثياب وقس1 قدها النيل فاستحت فتوارت ... منه بالجسر بين عرى ولبس ومن ذلك قصيدته: أذار أقبل قم بنا يا صاح ... حى الربيع حديقة الأرواح وقصيدة في النيل: من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق وله في ثنايا قصائده عشرات المقطوعات في وصف مصر وجمالها كقوله من قصيدته التي مطلعها: يا نائح الطلح............ البيت. لكنَّ مصر وإن أغضت على مِقَةٍ ... عين من الخلد بالكافور تسقينا2 على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا ومن روائعه قصيدته في وصف "أنس الوجود" التي يقول فيها: أيها المنتحى بأسون دارًا ... كالثرايا تريد أن تنقضا أخلع النعل واخفض الطرف واخشع ... لا تحاول من آية الدهر غضا قف بتلك القصور في اليم غرقى ... ممسكًا بعضها من الذعر بعضا وهو الذي يقول: فمصر الرياض وسودانها ... عيون الرياض وخلجانها وما هو ماء ولكنه ... وريد الحياة وشريانها ويبدع حتى في وصف الصحراء ورمالها:

_ 1 قس: موضع بين العريش والفرما اشتهر بمليح الثياب. 2 المقة: المحبة.

كأن الرمال على جانبيك ... وبين يديك ذنوب البشر ولا عجب فشوقي كما ذكرنا آنفًا كان ذا شاعرية فذة، وحساسية مرهفة، وكان مولعًا بالجمال يهتز له أينما وجده، كما كان مولعًا بالعظمة، وقد رأى مصر تتميز بالجمال كما تتميز بالعظمة، فأعجب بها، والإعجاب أول مراتب الحب، بل أحبها حبًّا عميقًا. أحبك مصر من أعماق قلبي ... وحبك في صميم القلب نام سيجمعني بك التاريخ يومًا ... إذا ظهر الكرام على اللئام لأجلك رحت بالدنيا شقيًّا ... أصد الوجه والدنيا أمامي وهبتك غير هياب يراعا ... أشد على العدو من الحسام ولم يقف شوقي من الطبيعة المصرية عند حد تصويرها وإسابغ من الحسام وإبرازها صورًا رائعة تفتن اللب والنظر والسمع، كما فعل البارودي، ولكن اندمج فيها وشخصها وبعثها حية، فأربى بذلك على من تقدمه وأعجز من أتى بعده. ومن الشعراء الذين أبدعوا في وصف الريف المصري، والطبيعة المصرية بعامة أحمد محرم، ومن ذلك قوله في وصف القرية وجمالها من قصيدة طويلة مطلعها: قم للصلاة على هدى وصلاح ... واسجد لربك فالق الإصباح دنيا بدائع حسنها مجلوة ... في منظر بهج وجوّ صاح هذا الجمال الأخضر انتظم القرى ... وأظلها من جاهه بجناح كجناح جبريل يظل مرفرفًا ... في جوه المتقاذف الفياح تلك الحياة لمن يريد لنفسه ... ما تشتهي من متعة ومراح أما خليل مطران فله بعض قطع في وصف الطبيعة المصرية، ولكننا نشعر ونحن نقرأ شعر مطران في الطبيعة أن هواه كان في بلاد الشام مسقط رأسه، ومدرج طفولته، وأنه فتن بها الفتنة الكاملة، فلم تدع له نظرًا يرى به جمال أرض سواها، ولا قلبًا ويُتَيّم ويهيم بغيرها، وقد خلدها في شعره بأكثر من قصيدة،

وحن إليها تحنانًا شديدًا، وتحس ذلك تشعر به في قوله حين ذهب إليها أول مرة بعد أن تركها وأقام بمصر. يا وطنًا نفديه بالدماء ... والأنفس الصادقة الولاء ما أسعد الظافر باللقاء ... والقرب بعد الهجر والجلاء إن أك باكيا من السراء ... فإن طول الشوق في التنائي وله في بعلبك وذكريات الطفولة قصيدة طويلة1 أضفى على أطلالها من روعة فنه، وصادق حسه، وفيض عاطفته ما يعشرك بشديد حنينه إليها، ومحبته لها، كما فعل شوقي في وصف الطبيعة المصرية: وهنا لا بد لنا من القول بأن العبرة ليست بوصف الطبيعة، ولكن بالعاطفة التي يلون بها شعره، فإذا وازنا بين شوقي ومطران في وصفيهما للطبيعة المصرية تجلت لنا محبة شوقي لمصر، وإبراز جمالها للأجيال من بعده في صورة بالغة الإبداع، رائعة الرواء، بينما تجاهل مطران هذه الطبيعة. أو نظر إليها نظرة سخط وغضب، أو إذا ألحت عليه بجمالها وهو الشاعر الفنان، واضطر إلى وصفها جاء شعره فاترًا، وخلوًّا من تلك المحبة والنظرة المعجبة، وعلى العكس من ذلك حين يتكلم عن لبنان أو سوريا، فهو بكثر التحنان إليهما ويقول في نهر "زحلة" قصيدة طويلة: واهًا لذاك النهر خلّف لي ... عطشًا مذيبًا بعد مصدره يا طالما أوردته أملي ... وسقيت وهمي من تصوره تمتد أيام الفراق وبي ... ظمئي لذاك المنهل الشافي وبمسمعى لهديره اللجب ... وبناظري لجماله الصافي ويقول في لبنان: يا منيت الأرز القديم ومربضًا ... يوم الحفاظ لكل ليث أصيبد هذي إليك تحية من شيّق ... قد بان طوعًا عنك وهو كمُبعد

_ 1 انظر الديوان ج1 ص97.

من هالك ظمأ وماؤك قربه ... مرت به حجج ولم يتورد يا مسقطًا للرأس في جنباته ... من حر شوقي جمرة لم تخمد وقد زار مطران بلاد سوريا، وجابها بلدًا بلدًا، ووصفها في شعره: وصف كل مدينة وكل دسكرة، ولمس تربها، وقبله، وطاف بأبنيتها، يتزود منها قبل أن يرحل عنها1 ومن يكن في مثل حال مطران عسير عليه أن يجود في وصف الطبيعة المصرية أو آثارها القديمة الخالدة، بل لا يرى هذه الآثار رمز عظمة، ودليل فن، وقوة إرادة، وإنما هي مظهر ظلم وعسف وإرهاق وتسخير لشعب مسكين. إني أرى عد الرجال ها هنا ... خلائقًا تكثر أن تعددا صفر الوجوه باديًا جباههم ... كالكلأ اليابس يعلوه الندى محنية ظهورهم خرس الخطا ... كالنمل دب مستكينًا مخلدًا مجتمعين أبحرًا، متفرعين ... أنهرًا منحدرين صعدا أكل هذى الأنفس الهلكى غدًا ... تبنى لفان جدثا مخلدًا؟ فنظرته هذه تختلف عن نظرة شوقي المحب الذي يرى السيئات حسنات، ويفرغ ذوب قلبه عاطفة جياشة حين يتكلم عن مصر وأرض مصر وطبيعتها وآثارها. ولقد وصف مطران الطبيعة المصرية، ولكنه نظر في أغلب حالاته نظرة قائمة مفزوعة، كئيبة تدل على تبرم، ونفور منها، وعلى أن روح التشاؤم تسيطر على شعره، واستمع إليه يصف صعيد مصر إبان الصيف وقد يكون الصعيد في الصيف غير محمود، ولكن المحب يراه جميلًا والنيل ينساب ملتويًا يمنه ويسرة يتدفق خيرًا وبركة ويبعث الحياة خضرة نضرة على العابرين، وتأوى المدن والقرى إلى حضنه كما يأوى الصغار إلى أمهم الرءوم ويقل على ظهره المراكب رائحة غادية كالأب الكادح يحمل متاعب بنيه، من غير سأم ولا ضجر وتنتصب الآثار الناطقة بالحضارة العتيقة التي انبعثت على ضفتيه، والدنيا بعد وسنانة في فجر التاريخ، هذا هو الصعيد حين ينظر المرء إليه نظرة المتفائل، البشوش القلب، المحب لما يراه، ولكن مطران يقول:

_ 1 انظر الديوان ج3 ص78.

أوقد الصيف في الصعيد لظاه ... فأجف الحقول والأجاما وغدا الناس بين جو كثيف ... مرتديًا من الغبار غماما وفلاة كأنما الرمل فيها ... شرر مد لمعة واضطراما وكأن المياه في النيل تجري ... بخطى أبطأت ونهر تعامى شبه ذوب الرصاص في الكير يطغي ... فإذا ما طغى برفق ترامى وعرا الأعين الكلال، فإني ... نظرت حمرة رأت وقتاما وكأن النعاس في عصب الأرض ... تمشي فكل ما دب ناما وكأن الدمى التي صنعتها ... أمة القبط متعبات قيامًا وقصيدته في وصف المساء بالإسكندرية، وهو على سيف البحر العظيم، لا تقل في تشاؤمها عن هذه القطعة، مع أنه لا يماري أحد في جمال الإسكندرية في الصيف، ولا في منظر الشمس وهي تغيب في البحر، ولكنه يقول في الغروب: أو ليس نزعًا للنهار وصرعة ... للشمس بين مآتم الأضواء؟ أو ليس طمسًا لليقين ومبعثًا ... للشك بين غلائل الظلماء؟ أو ليس محوًا للوجود إلى مدى ... وإبادة لمعالم الأشياء؟ فهو ينظر إلى الدنيا وما فيها بمنظار أسود يحيل الجميل دميمًا، والمناظر الأنيقة الفتانة رديئة كثيبة، وليس العيب عيب الطبيعة، ولكنه عيب من ينظر إليها. ومطران في أحسن حالاته حين يصف الطبيعة المصرية تراه مبهمًا، لا يعطي اللون الخاص الذي يميز مصر عن سواها، وكأنما ينظر إلى شيء آخر غير مصر حين يصف منظرًا وصفًا فيه شيء من الإنصاف؛ وإذا أعطاك اللون الخاص، اقتضب الكلام وكأنما يفر من شيء يؤذيه. مثال ذلك وصفه لليلة مقمرة على ضفة النيل في الجزية، وهو منظر شعري خلاب، وكان من حق مطران وهو الشاعر المتفنن أن يصوره تصويرًا بارعًا، ولكنه لا يزيد عن ثلاثة أبيات خالية من العاطفة: وليلة بدر صفا جوها ... وباح بسر السكون الحفيف وألقت بسمع ظلال الرياض ... لنجوى قلوب بهن تطيف

وصب على النيل شبه السيول ... مغير الدجى من سناه الضعيف ويقول في مغرب شمس بريف مصر، ولا يعطيك اللون "المحلى" فتحسب أنه وصف لأي شمس في أي مكان: وللشمى في المنتهى مغرب ... رأينا به آية من عجب رأينا من الغيم طودًا رسا ... على أفقها وسمها واشرأب بجسم ظلال وقمة تبر ... وسفح تعاريجه من لهب كأن الأشعة أثناءه ... مغاور في منجم من ذهب وهو كذلك في وصفه لشروق الشمس في مصر لا يعطيك خصائص مصر1. ومطران لم يعجب بجمال مصر، ولا يرى فيها إلا أنها مضيافة، خصبة، هادئة؛ جوها صحو يساعد على نمو الزرع، وحراراتها تمرع النبات: في مصر مصرخة الهيف ... وملجأ المتفزع مصر السماء الصحو مصر ... الدفء مصر المشبع مصر التي ما ريع ساكنها ... بريح زعزع حيث المراعي والندى ... للمرتوي والمرتعي حيث السواقي الحانيات ... على الطيور الرضع حيث الحرارة ما توال ... ربيبها يترعرع ولا عجب فقد وجد بمصر الأمن، والدعة، والجو الجميل، وحسن الضيافة، ليس بها أعاصير ولا زغازع، وزرعها نضير، وخيرها كثير فهو ينظر إليها نظرة مادية نفعية، وهو يشكرها بمقدار ما تسدي إليه من المنفعة. مصر العزيزة إن جارت وإن عدلت ... مصر العزيزة إن نرحل وإن نقم نحن الضيوف على رحب ومكرمة ... منها وإنا لحافظون للذمم جئنا حماها وعشنا آمنين بها ... ممتعين كأن العيش في حلم ومطران يعترف بالسبق لشوقي في وصف الطبيعة المصرية، وأن الحب العميق هو الذي أوحى إليه بهذا الإبداع، وأني لمطران أن يبدع إبداع شوقي وليس في فؤاده لمصر هذا الحب:

_ 1 انظر القطعة ج2 ص186.

شوقي إخالك لم تقلها لاهيا ... بالنظم أو متباهيا بذكاء حب الحمى أملى عليك ضروبها ... متأنقًا ما شاء في الإملاء أعظم بآيات الهوى إذا يرتقي ... متجردًا كالجوهر الوضاء فيطهر الوجدان من أدرانه ... ويزينه بسواطع الأضواء وحسبي ما قدمت في هذا الموضوع، فإن المقام يضيق عن تتبع جميع الشعراء الذين ألهمتهم الطبيعة المصرية وتغنوا بمفاتنها وخلدوها في عشرهم.

المظهر الثقافي

المظهر الثقافي: صاحب النشاط السياسي في مصر والشعور بوجوب التحرر من ربقة الاحتلال اهتمام بالغ بالنهضة الثقافية، حتى تستطيع الأمة أن تجاري ركب الحضارة، وأن تحسن إدارة شئونها الداخلية والخارجية، وقد أشرنا إلى هذا الاهتمام في آخر الفقرة الأولى1، وكان أول مظاهره إنشاء الجامعة المصرية بعد أن دعا إليها مصطفى كامل أكثر من مرة ولبى دعوته مصطفى كامل الغمراوي، وعمل على أن يخرج هذا المشروع إلى نور الشمس، ويصير حقيقة واقعة، ولكي تخرج الجامعة الأمة من سباتها، وتبث فيها الحياة، فتستطيع مغالبة الغاصب، وتخليص البلاد من براثنه، وكان أول اجتماع لتحقيق الجامعة في 12 من أكتوبر 1906، واختير "الأمير" أحمد فؤاد "الملك فؤاد فيما بعد" رئيسًا لها، واشتدت حركة الاكتتاب لها، وتوجتها "الأميرة" فاطمة إسماعيل فحبست عليها 661 فدانًا؛ غير ما تبرعت به من حليها التي قدرت باثنين وعشرين ألفًا من الجنيهات، وفي سنة 1914 وضع الحجر الأساسي للجامعة بحضور الخديو عباس، ولم يكن

_ 1 راجع ص52 من هذا الكتاب وما بعدها. 2 كان عدد المجتمعين نحو اثنين وعشرين رجلًا نذكر منهم: سعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمد راسم، وحفني ناصف، وأخنوخ فانوس، وحنفي ناجي، وفتح الله بركات، وأحمد رمزي، وراجع أحمد رمزي بك في مقال عن الجامعة وتأسيسها الأهرام 1/ 6/ 1951.

الإنجليز راضين عن هذه الحركة طبعًا، وكيف يرضون عنها وقد كان من سياسة عميدهم بمصر اللورد كرومر محاربة التعليم الجامعي الذي يعد الأمم للحياة الحقة، والاهتمام بتخريج آلات صماء تعمل في دواوين الحكومة تحت إمرة مستشاريه كما عرفت في الفصل الأول. وبدأت الجامعة أعمالها بإرسال البعوث العلمية إلى أوربا لإعداد هيئة التدريس، ودعت بعض الأساتذة المشهود لهم بالرسوخ في العلم، من جامعات أوربا المختلفة لإلقاء محاضرات على الطلاب في التاريخ، والآداب العربية، والفلسفة والاقتصاد، من أمثال "الكونت دي جلارزا، وجويدي الكبير، ونللينو"؛ وأنشئت بها مكتبة جمعت لها الكتب من جميع جهات العالم، حتى صارت اليوم من أغنى المكتبات في الشرق العربي كله1، وأخذت الجامعة تمنح الدرجات العلمية في أول نشأتها، ولكن الحرب العالمية الأولى أثرت في نموها، كما أثرت في جميع مظاهر الرقي والمرافق العامة، وقد فكرت الحكومة في سنة 1917 في إنشاء جامعة حكومية؛ وسارت هذه الفكرة في 11 من مارس سنة 1925؛ مكونة من كليات أربع هي: الآداب، والعلوم؛ والطب، والحقوق، وفي سنة 1935 ضمت إليها الهندسة، والزراعة والتجارة، وفي سنة 1940 سميت بجامعة "فؤاد الأول"، وضمت إليها دار العلوم في 24 من إبريل سنة "1946"2، وبعد ثورة 23 يوليو 1952 سميت جامعة القاهرة. وقد أفادت الحركة الأدبية بمصر والشرق من الجامعة المصرية إفادة لا تنكر، إذ أخرجت جيلًا مثقفًا ثقافة حديثة، ملمًا بالآداب العربية يجيد البحث ويقدره، وإن كان الذين نبغوا في البحوث الأدبية ممن تخرجوا في الجامعة لا يزال محدودًا، ولكن الفضل الأكبر كان للأساتذة الأجانب والمصريين، وتوجيهاتهم للأدباء، وفي الفصول التي كتبوها في النقد الأدبي، والكتب التي أخرجوها نماذج في التأليف، كما أفادت الجامعة في الإكثار من عدد القراء الذين يقدرون الأدب ويتذوقونه، ويسهمون فيه، أو يعلقون عليه، وحسبك أن تعلم أن

_ 1 بها اليوم مائة وسبعون ألف مجلد، منها عشرون ألفًا باللغات الأوربية، وأربعون ألفًا باللغة العربية، وعشرة آلاف باللغات الشرقية المختلفة "تقويم الجامعة ص80". 2 تقويم الجامعة 1- 4.

عدد طلبة الجامعة كان في سنة 1926 حوالي 2027 طالبًا، وأنهم صاروا في سنة 1950 أكثر من ثمانية عشر ألف طالب وقد صاروا في سنة 1958 نحو ستة وعشرين ألف طالب، عدا ثمانية آلاف في جامعة الإسكندرية وستة آلاف في جامعة عين شمس1. ولا ريب أن كثرة القراء تشجع المؤلفين، وتشجع دور النشر، وتروج الأدب، والطباعة، والصحف. وقد أخذت مصر منذ أن توليت بنفسها شئون التعليم تعمل على نشره بكل الوسائل، وتكثر من افتتاح المدارس المختلفة، ثم جعلته بالمجان في المدارس الابتدائية منذ سنة 1942، وفي المدارس الثانوية منذ سنة 1950، فاشتد الإقبال عليه، حتى ارتفعت ميزانية وزارة المعارف من حوالي أحد عشر مليونًا من الجنيهات في سنة 1945 إلى أكثر من خمسة وعشرين مليونًا في سنة "1951"2. وصحب انتشار التعليم في جميع مراحله نهضة في إخراج الكتب من إحياء وتأليف وترجمة. أما عن نشر الكتب القديمة وإحيائها، فقد عرفت في الجزء الأول أن أول خطوة جديدة في هذا السبيل خطاها على باشا مبارك حين ألف هيئة برئاسة رفاعة بك الطهطاوي3 ثم حذت جمعية المعارف في سنة 1868 حذو تلك الهيئة الرسمية، وقد ذكرنا شيئًا عن جهودها في هذا السبيل4، وفي سنة 1898 ألفت جمعية لنشر الكتب القديمة وإحيائها، وكان من أعضائها حسن "باشا" عاصم، وأحمد "باشا" تيمور، وعلى "بك" بهجت وغيرهم، وطبعت عدة كتب مفيدة مثل: كتاب الموجز في فقه الإمام الشافعي، وسيرة صلاح الدين الأيوبي، وفتوح البلدان للبلاذرى، والإحاطة في أخبار غرناطة وتاريخ دولة آل سلجوق وغيرها. وفي سنة 1900 تكونت هيئة أخرى برئاسة الشيخ محمد عبده لإحياء الكتب القديمة النافعة5. فأخرجت كتابي عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة،

_ 1 تقويم الجامعة سنة 1950 ص194، وحديث كامل مرسي "باشا" مدير الجامعة، الأهرام في 24 من فبراير سنة 1951 وتقويم الجامعة سنة 1958. 2 راجع الإحصاء العام سنة 1945، وميزانية الدولة سنة 1951 الأهرام 2/ 4/ 1951. 3 راجع الخطط التوفيقية ج13 ص 55- 56 والأدب الحديث ج1 ص74. 4 الأدب الحديث ج1 ص74 ط سادسة. 5 وكان من أعضائها حسين عاصم، وعبد الخالق ثروت، ومحمد النجار.

ودلائل الإعجاز، ونشرت كتاب المخصص لابن سيده في سبعة عشرًا مجلدًا، وابتدأت في طبع كتاب المدونة للإمام مالك1. ومنذ ذلك دأبت دور النشر على إحياء الكتب القديمة، واهتمت بها دار الكتب أيما اهتمام، ومن الكتب التي طبعت في خلال الحرب العالمية الأولى صبح الأعشى، والخصائص لابن جني، وديوان ابن الدمينة، والمكافأة لابن الداية والاعتصام للشاطبي، والأصنام لابن الكلبي، وقد تأسست في خلال الحرب العالمية الأولى كذلك لجنة التأليف والترجمة والنشر في سنة 1914، ودأبت منذ ذلك الوقت على إخراج الكتب تأليفًا وإحياء وترجمة حتى بلغ عدد ما أخرجته في سنة 1948 ما يربو على ثلثمائة كتاب2. ومن الكتب ذات القيمة التي أخرجتها دار الكتب: نهاية الأرب للنويري، ومسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، والأغاني للأصفهاني، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردى، وديوان مهيار الديلمي. وتعددت بجانب دار الكتب الهيئات التي تعنى بالنشر حتى بلغ عددها سنة 1948 أربعًا وعشرين هيئة ودار نشر. وقد انتشرت الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية تبعًا لازدياد عدد القراء، ورقى الأمة حتى بلغ عدد الصحف اليومية بمصر في سنة 1950 اثنين وعشرين صحيفة؛ منها اثنتا عشرة في القاهرة وحدها، وبلغ عدد المجلات الأسبوعية 203 مجلة، خص القاهرة منها 150، وعدد المجلات نصف الشهرية 18، والشهرية 82، والرسمية 15، والمدرسية 53، والصحف المتنوعة بجانب هذا كله 15 صحيفة3، وقد نقصت بعض هذه الأعداد أو زادت في سنة "1954"4. إن هذه الصحف والمجلات جميعًا تلح على القارئ في أن يقرأ، وتحاول أن تجذبه إلى القراءة بشتى الوسائل والمغريات، وبعضها يعنى بالأدب الرفيع ويحتفي به، وبعضها يتملق الجمهور، ويشبع نزعاته الرخيصة، ومن المجلات التي كان لها أثر في الأدب وإفادته فائدة جليلة سواء بالنقد، أو بنشر الشعر.

_ 1 راجع المنار ج8 ص491، وتاريخ الإمام ج3 ص247، والإسلام والتجديد ص18. 2 السجل الثقافي 1948 ص209. 3 السجل الثقافي سنة 1950 ص181- 199. 4 راجع السجل الثقافي سنة 1954 ص224 وما بعدها.

والجيد من النثر في شتى الموضوعات: الهلال، والمقتطف، ثم السياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، والجديد للمرصفي، والرسالة للزيات، والثقافة لأحمد أمين، ثم الكتب التي كانت تصدرها دار المعارف، ومجلة كلية الآداب، وصحيفة جماعة دار العلوم، وكانت كل هذه المجلات الجادة تبذل مجهودًا جبارًا في اجتذاب القارئ العربي؛ لأن الأدب الرخيص يطغى على الجمهور، ويجتذبه بيسر، وهذا يسيئ إلى الحركة الأدبية كل الإساءة، وتلك ظاهرة يؤسف لها أشد الأسف، ولقد يئست كلها أخيرًا من هؤلاء القراء وأضناها التعب في جهادها المرير فاحتجبت جميعًا إلا مجلة الهلال؛ لأن الجهد الذي يبذل فيها لا يكافئ الربح الذي يعود منها بل كانت تمنى في كثير من الأحيان بخسائر أحنت ظهرها وأعجزتها عن النهوض بمهمتها السامية، وهذه ظاهرة يؤسف لها أشد الأسف وإن كان مما يعزينا بعض الشيء انتشار الكتب الأوربية التي تصدر في صورة "دوريات" عن دار المعارف والهلال وغيرها، وقد رأت الحكومة خلو الميدان من مجلة تعنى بالأدب الرفيع فعملت وزارة الثقافة والإرشاد على إصدار "المجلة" والرسالة والثقافة والمسرح وغيرها لتسد بها هذا الفراغ المريع. وإن حاولت بعض دور النشر سد هذا الفراغ. بإصدار كتيبات صغيرة كل مجموعة في سلسلة مثل. نوابغ الفكر العربي، ونوابع الفكري الغربي وتصدرهما دار المعارف، ومثل المجموعات التي أصدرتها الجمعية الثقافية المصرية بإشراف مؤلف هذا الكتاب في الأدب والاقتصاد والدين والنقد وغيرها. وقد دأبت وزارة الثقافة والإرشاد منذ مدة على إصدار كتب دورية بأثمان رخيصة، منها مجموعة: اخترنا لك، واخترنا للطالب، وكتب قومية، وكتب سياسية، وعيون المسريحات العالمية وغيرها، حتى تيسر على الجمهور القراء شراءها والانتفاع بها. كما عملت على تشجيع معرض الكتاب العربي في مناسبات مختلفة، ويقوم المجلس الأعلى للفنون والآداب بأعطاء جوائز تشجيعية وتقديرية للمؤلفين، وتعقد الدولة عيدًا للعلم كل عام توزع فيه الجوائز ويحضره الرئيس جمال عبد الناصر وكبار رجال الحكومة، وقد بلغت قيمة هذه الجوائز في عام 1964 ثلاثة ملايين جنيه.

وبجانب هذا نرى إقبالًا على المحاضرات الأدبية، وانتشار قاعات المحاضرات والاهتمام بالأحاديث في المذياع، حتى بلغ عدد المحاضرات الأدبية والثقافية المتنوعة في عام 1951 ما يزيد عن ألف محاضرة. وقد انتشرت المطابع العربية في أنحاء القطر المصري حتى زاد عددها عن الألف1، وأخذت تزود الجمهور بشتى المؤلفات، والكتب المترجمة، والكتب القديمة التي نحا فيها العلماء نحو المستشرقين في الإخراج والتحقيق، وقد بلغ عدد الكتب الأدبية المؤلفة في سنة 1947 مائة وثلاثين كتابًا، وفي سنة 1948 ما يقرب من مائة وعشرين كتابًا، وفي سنة 1950 ما يزيد عن مائة كتاب عدا كتب التاريخ والاقتصاد والفلسفة والاجتماع، والسياسة، والعلوم، والدين، والتصوف، واللغة، والمعارف العامة2. ومن أشهر الكتب الأدبية التي ظهرت في السنوات الأخيرة؛ أبحاث ومقالات لأحمد الشايب، وأبو الفوارس لمحمد فريد أبو حديد، وأدب مصر الإسلامية للدكتور محمد كامل حسين، وعلى الأثير للعقاد، وقصصنا الشعبي للدكتور فؤاد حسنين، والجاحظ لشفيق جبري، ورحلة الربيع للدكتور طه حسين، وصوت العالم لميخائيل نعيمة، والنقد المنهجي عند العرب للدكتور محمد مندور والفتوة عند العرب والمسرحية لعمر الدسوقي؛ كما ظهر فيض من القصص ودواوين الشعراء والكتب المحققة. وقد عظمت العناية بالترجمة، وترجم الجيد والرديء من كل لغة، فترجمت أميرة بابل لفولتير، وأقاصيص لكبار كتاب الإنجليز، والإنسان الكامل، وجنيفا، وحيرة طبيب لبرناردشو، وترجم الدكتور طه حسين زاديج لفولتير، وترجم طعام الآلهة لويلز، والعالم الطريف لألدس هكسلي، وفي خلال العصور والآلهة عطاش لأناتول فرانس، وهنري وريتشارد الثاني والعاصفة لشكسبير عدا ما ترجمه مطران سابقًا، ومدرسة الزوجات لأندريه جيد، وسالومي لأسكار وايلد،

_ 1 الإحصاء العام سنة 1945 المطبوع سنة 1948. 2 السجل الثقافي لسنة 1948 ولسنة 1950- 1952.

وأناشيد الرعاة لفرجيل، والحياة والحب وكليوباترا لإميل لوفيج ترجمة عادل زعيتر، والمتحذلقات لموليير، والندم لجان بول سارتر وقصة الحضارة لبول ديورانت ومئات غيرها1. وقد أخذت دار الهلال منذ سنة 1952 تترجم أمهات القصص العالمية في أسلوب شائق وطبعات سهلة التناول، كما ترجم فيض من الكتب في مختلف العلوم، ولقد وفدت على الشرق في سنة 1953 مؤسسة "فرانكلين" الأمريكية للنشر أسهمت في ترجمة أمهات الكتب الأمريكية في مختلف فروع المعرفة، وقد اتخذت مصر مقرًّا لها، وظهر من منشوراتها عدد من الكتب غير قليل، كما أن وزارة التربية والتعليم بمصر عنيت بترجمة المراجع ذات القيمة في العلوم المختلفة من شتى اللغات ويسرت نشرها وتداولها، وكذلك فعلت الجامعة العربية ودور النشر الخاصة وظهرت مجموعة الألف كتاب في شتى فنون المعرفة، كما ظهرت مجموعة الجمعية الثقافية المصرية، ونوابغ الفكر العربي والغربي وغيرها. ولقد نجم عن كل هذا: انتشار التعليم بأنواعه، وكثرة الصحف والمجلات، وحركة إحياء الكتب القديمة، والتأليف والترجمة من كل لغة تياران أدبيان في مصر يختلفان بعض الاختلاف في الهدف والآثار: "ظهرت هذه الآثار في الأزهر حين عرضت الكتب القديمة في اللغة والدين والتفسيرو الحديث والكلام والفلسفة بنوع خاص، فاضطرب إيمان الأزهر بالكتب القائمة والعلم المألوف، وأخذوا في ثورة على تلك النظم وهذا العلم لم تزل قائمة، ولم تظهر ثمرتها في الأزهر بعد. وظهرت بعيدًا عن الأزهر أذواق الكتاب والشعراء، وطائفة من القراء حين قرءوا طائفة من الشعر القديم: جاهلية وأموية، وعباسية، وحين قرءوا طائفة من كتب الأدب التي ظهرت أيام العباسيين، فرأوا من هذا كله حياة للحس، والعاطفة والعقل، وأحسوا بعدما ما بين هذا النحو من الأدب الحي، وبين ما ألفوه من هذا الأدب الميت، كما أحسوا أن هذا الأدب القديم الحي، أقرب إلى نفوسهم،

_ 1 راجع المصدرين السابقين.

وأقدر على تمثيل عواطفهم، وتصوير شعورهم من هذا الأدب الجديد الميت"1، وبجانب هؤلاء الذين تذوقوا الأدب العربي القديم الحي، ووجدوا في لغته معينًا فياضًا يمدهم بما يعبرون به عن خلجات نفوسهم، وجدت طائفة تتنكر لهذه اللغة وحاولوا أن يتركوها، ويلجئوا إلى اللعة العامية؛ لأنها في نظرهم أقوى على التعبير عن مقتضيات العصر الحاضر وأقرب إلى فهم الجمهور، وأدعى إلى نشر العلوم العصرية2، كما أن تيارًا قويًّا نحو الآداب الغربية وتقليدها قد سرى بين أدباء مصر والبلاد العربية. وقد فطن إلى أن اللغة العربية في حاجة إلى نهضة وتجديد وإحياء وتعريب كثير من العلماء، حين انتشرت الحضارة ووجدوا أنفسهم إزاء آلاف من الكلمات والتعبيرات الأجنبية لا يستطيعون نقلها إلى اللغة العربية، فيقول الشيخ إبراهيم اليازجي: يا ليت شعري ما يصنع أحدنا لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية، ورأى ثمة من المسميات العضوية من أنواع الحيوان، وضروب النبات: وصنوف المعادن، وعاين ما هناك من الآلات، والأدوات وسائر أجناس المصنوعات، وما تتألف من القطع والأجزاء بما لها من الهيئات المختلفة والمنافع المتباينة، وأراد العبارة عن شيء من هذه المذكورات. ثم ما هو فاعل لو أراد الكلام فيما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية، والمكتشفات الطبية والكيماوية، والفنون العقلية واليدوية، وما لكل ذلك من الأوضاع والحدود والمصطلحات التي لا تغادر جليلًا ولا دقيقًا إلا تدل له بين ألواح معجمات اللغة ألفاظًا يعبر بها عنه، ولا يغنيه في هذا الموقف كثرة أسماء الأسد والسيف، والعسل، والعبير"3. ويقول فتحي زغلول "باشا" حاثًا على التجديد في تلك اللغة التي ورثناها عن آبائنا، والتي مثلت حضارتهم أيما تمثيل، ولكنها اليوم عاجزة عن أداء كثير من حضارة الغرب: "نحن إما عرب، أو مستعربون، أو أجانب عن لغة العرب، أو مولدون، فإن كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقضيه

_ 1 حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص3، 4. 2 الأب لويس شيخو في الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين ص93. 3 مختارات المنفلوطي ص80، 81.

مصلحتنا، وإن كنا مستعربين فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة، وبكوننا ورثناها عنهم بعد أن بادوا، فليس من له أن ينازعنا في استعمال ما كان مباحًا لآبائنا من قبلنا، وإن كنا أجانب أو مولدين، فمن له أن يسيطر علينا ويحرمنا ثمرة الكد في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر اللغات، فيلزمنا بالبقاء على القديم، ويحكم علينا بالجمود، واعتقال اللسان؟ أخذ العرب العلوم عن أهلها، ونقلوها إلى لغتهم، فلما وجدوا منها استعصاء في بعض المواضع ذللوها، وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها، فأيسرت، ودرجت بعد الجمود، فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان. نسينا نحن أن زماننًا غير زمانهم، فكانوا أصحاب حول وطول، وذوي مجد وسلطان، ونحن على ما نعلم من الضعف والإنزواء، على أنهم في عزهم، وبعد فخارهم، وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم، فلم ينفروا من العجمة؛ لأنها عجمة بل استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكينًا للغتهم، وحذرًا من أن يصيبها الوهن، إذا قعدوا بها عن مجاراة تيار التقدم، وهو أولو الرأي فيه، وخوفًا من أن يعيقهم الجمود فيها عن حفظ مركزهم العظيم؛ بين الأمم التي كانت تعاصرهم. ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه، وأن أصبح عديم الجدوى، وإلا فأولى بنا أن نكف عن الدرس والمطالعة، وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما عاش الأولون. عليكم بالتقدم، فأدخلوا أبوابه المفتحة أمامكم، ولا تتأخروا فلستم وحدكم في هذا الوجود ولا تقدم لكم إلا بلغتكم، فاعتنوا بها وأصلحوها وهيئوها لتكون آلة صالحة فيما تبتغون، ولكن لا تكثروا من الاشتقاق الخارج عن حد القياس والمعقول، ولا تشوهوا صورتها الجميلة بتعدد الاشتراك، أو التجوز، ثم لا تقفوا بها موقف الجمود والعجمة تهددها على ألسنة العامة، وهي لا تلبث أن تدخل

على ألسنة الخاصة، أقيموا فيوجه هذا السبيل الجارف سدًّا من الاشتقاق المعقول والترجمة الصحيحة، والتعريب عند الضرورة لتكونوا من الناجحين"1. ويقول الشيخ محمد الخضري "بك": "وأما عدم الحاجة إلى مزيد؟ فهذا لا تدعيه لغة من لغات الأمم الحية؛ لأن الأمم كلما كثرت حاجاتها وتجددت، اضطرت إلى المزيد من الألفاظ في اللغة، وهذا هو سر الحركة الدائمة في لغة الإفرنج بحيث ترون مجامعهم في شغل دائم، لا يأنفون أن يجدوا يومًا ما في لغتهم كلمة زائدة دلت على معنى جديد، وأكثر أحوالهم الاستعارة من غير لغتهم. وإذا كنا نرى عقولنا قد وقفت عن الاختراع، فإنا نرى أنفسنا في حاجة إلى استعمال مخترعات المخترعين والتعبير عنها"2. وقد حاول بعض العلماء قبل الحرب العالمية الأولى تكوين مجمع لغوي يضع كلمات جديدة، أو يعرب أو يشتق من الكلمات القديمة لتساير اللغة موكب الحضارة الجارف، وقد تكون هذا المجمع فعلًا قبل الحرب العالمية الأولى برئاسة أحمد لطفي السيد ووضع بضعًا وعشرين كلمة اشتهر بعضها ومات كثير منها3 ثم انفض واجتهد كثير من المعبرين في وضع كلمات جديدة، ولكن المسألة صارت فوضى، فقد توضع أكثر من كلمة لمدلول أجنبي واحد، وأخيرًا أنشئ مجمع "فؤاد الأول" للغة العربية، في 13 ديسمبر 1932 وقد سمي في سنة 1954 مجمع اللغة العربية، وأهم أغراضه المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، وملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة وأن يبحث كل ما له شأن في تقدم اللغة"4. ولقد كان للاهتمام باللغة أثر عظيم في تزويدها بكثير من الكلمات الاصطلاحية والفنية والأدبية التي تعوزها، وسهل النقل نوعًا ما من اللغات

_ 1 مختارات المنفلوطي من ص111- 120. 2 المصدر السابق ص184. 3 المصدر السابق ص87. 4 راجع صحيفة المجمع اللغوي العدد الأول الفقرة الأولى، والسجل الثقافي سنة 1947 - 1948 ص 238.

الأجنبية، ولا سيما في الأدب وهذا هو البستاني1 ينقل لنا إلياذة هوميروس شعرًا في مستهل هذا القرن، ويجدر بي أن أعرف بهذه الترجمة وبالمجهود الفذ الذي بذل فيها، فقد ابتدأ البستاني بنظم الإلياذة في أواخر سنة 1887، وهو بالقاهرة نقلًا عن الترجمات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، ثم بدا له أن ينقلها رأسًا عن الأصل اليوناني، فدرس اليونانية على راهب يسوعي حتى أحكمها فراجع ما كان ترجمه، ونفح ما فيه من الخلل، وكانت الإلياذة ترافقه في أسفاره الكثيرة حتى انتهى من نظمها في 1895، ووضع لها شرحًا، فكان عمله شاقًا راجع من أجله كثيرًا من الكتب العربية والأعجمية في الشعر العربي والأدب والتاريخ، ويتضمن الشرح نحو ألف بيت لمائتي شاعر عربي بين جاهلي ومخضرم، وإسلامي ومولد، قالوا في مثل معاني الإلياذة أو حوادثها، ويشتمل على طائفة كبيرة من أساطير العرب، وعاداتهم، وأخلاقهم، وأدابهم في بداواتهم، وحاضراته، وكان انتهاؤه منه في سنة 1902، وطبعت الإلياذة وشرحها في القاهرة في ربيع سنة 1903، ونشرت بمقدماتها وفهارسها 1904 وهي تشتمل على نحو أحد عشر ألف بيت، ذلل فيها الشعر العربي وأوزانه للملاحم الطويلة، ومن المعلوم أن القيام بنظم مثل هذه الملحمة الطويلة لا يتأتى إلا إذا تحرر الشاعر من عبودية الوزن الواحد، والقافية الواحدة، وهكذا صنع البستاني، فإنه جعل الأناشيد على طرق شتى فمنها ما قطعه قصائد مختلفة، ومنها ما نظمه قصيدة واحدة من غير أن يراعي القافية الواحدة وتوسع في اتخاذ الموشحات والأراجيز، والمخمسات، وفي استنباط ضروب جديدة كالمثنى والمربع والمثمن وما أشبه، وحاول على قدر المستطاع أن يراعي لكل نوع مقامًا، ولكل موضوع بحرًا2. وقد أعطى البستاني بإخراجه الإلياذة شعرًا نموذجًا قوى الأسلوب مشرق الديباجة للشعراء الذين يحاولون نظم الملاحم، أو نظم المسرحيات، وكيف يتصرفون، ويتحللون من نظام القصيدة؛ ونحن لا يعنينا الآن الخوض في قيمة الإلياذة، وأثر نقلها في اللغة العربية بقدر ما يعنينا تلك الطريقة التي ترجمت بها،

_ 1 هو سليمان بن خاطر بن سلوم بن نادر البستاني ولد سنة 1856، وتوفي سنة 1925. 2 راجع مقدمة الإلياذة للبستاني، وأدباء العرب لبطرس البستاني ص340- 342 ومجلة المشرق للأب لويس شيخو 1904 ص865 وما بعدها.

والمقدمة التي كتبت لها فقد كانت درسًا جديدًا في مستهل هذا القرن لدراسة الأدب، والنقد الأدبي، على غير ما ألف نقاد ذلك الوقت من الاهتمام بالألفاظ والمعاني وائتلافهما وأوجه البيان، والأخطاء اللغوية، وما شاكل ذلك، بدون درس وتحليل، ومعرفة العلل والأسباب والنتائج، والموازنة بين الآداب بعضها وبعض، ولذلك كانت هذه المقدمة ذات أثر جليل في النقد الأدبي، وما زالت حتى اليوم تحتل هذه المكانة لدى من يقدرونها قدرها. ولا ريب أن انتشار التعليم وكثرة المطابع، والمؤلفات، والكتب المترجمة من شتى اللغات في الآداب والعلوم، قد أفاد الأدب فائدة عظيمة؛ لأن ثقافة الأديب قد اتسعت آفاقها، وثقافة القارئ لم تعد تقنع بالشعر التافه، والخالي من المعاني، أو بالشعر التقليدي الذي لا يمثل حياة الأمة، ولا يعبر عن مشاعرها، ولا يغذي عواطفها، ولقد اشتد بعد الحرب العالمية الأولى الإقبال على تقليد الآداب الأوربية في موضوعها، وطريقتها، وقالبها فانتشرت القصة بأنواعها، وكثرت الترجمة لها ثم محاكاتها، ونقلت مسرحيات عديدة مثلت في دور التمثيل المصرية، وأخذ الأدباء، ومحترفوا التمثيل يضعون على نمطها مسرحيات تعالج مشكلات المجتمع المصري1. وليس من همي في هذا المقام أن أفيض في الكلام على القصة، أو المسرحية، أو المقالات النثرية، أو الكتب الأدبية التي تأثرت بطريقة البحث الغربية، من حيث التمحيص والتحليل، والتعرف على الأسباب والعلل والوصول إلى أحكام واستنباطات صحيحة أو قريبة من الصواب على الأقل، فإن غايتي الآن أن أدرس العوامل المؤثرة في الشعر. لقد اطلع الشعراء على الكتب المترجمة؛ وعرفوا ألوانًا من الأدب الغربي، وكثير منهم كان على صلة بهذا الأدب من غير وساطة، فحاولوا التجديد في أسلوبهم، وموضوعاتهم وحاولوا الخروج على تقاليد الشعر العربي القديم، أو

_ 1 مثل محمود تيمور في رواياته الشيخ جمعة، والحاج شلبي سنة 1930، والشيخ عفا الله، وأبو علي سنة 1934، والوثبة الأولى، ومثل قصص عبد القادر المازني في صندوق الدنيا ومثل مسرحية ليلة كليوباترا للدكتور حسين فوزي والضحايا لأنطون يزيك، والوحوش لمحمود كامل، والأنانية لإبراهيم المصري، ومن أهم المسرحيات التي كان لها أثر في المسرح المصري، "مصر الجديدة: ومملكة أورشليم، وصلاح الدين" لفرج أنطون المتوفى سنة 1922 وقد وفينا هذا الموضوع حقه في كتابنا "المسرحية -نشأتها وتاريخها وأصولها".

التجديد في أغراضهم ومعانيهم، وقد خطا شوقي أمامهم خطوة واسعة بوضعه عدة مسرحيات تاريخية شعرية، وهم اليوم ينسجون على منواله؛ وظهرت مذاهب أدبية جديدة في الشعر ثائرة على الشعر القديم، حمل لواءها مطران، وشكري، والمازني، والعقاد، وشيبوب، وجاراهم شباب الأدباء. وأهم ظاهرة تستحق التسجيل هي العناية باللغة العربية، والأسلوب، وبلغ هذا الأسلوب غايته عند شوقي في الشعراء، وإن شعراء المدرسة الحديثة يؤثرون الاهتمام بالموضوع والمعاني على الاهتمام باللفظ والأسلوب؛ ولكن يظهر أن طبيعة الشعر العربي تتطلب جودة الأسلوب وحسن النغم، وجمال الموسيقى، ولذلك لم تستسغ الآذان، أو لم تتعود بعد شعورهم هذا، فلم يلاقوا من الشهرة، والإقبال ما قدروا لأنفسهم. وقد كان من أثر هذه الثقافة العامة الواسعة للشعب أن ارتقت الأغاني، ونظم كثير منها باللغة العربية الفصيحة، وتركت "الأدوار" و "المواويل" التي كانت تنظم بالعامية، ومن يتصفح ديوان إسماعيل صبري يجد بآخره مجموعة من الأغاني التي نظمها الشاعر باللغة العامية، مجارة لزمنه، وجمهوره، ولكنا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى اليوم قد ألفنا سماع كثير من الأغاني الجيدة بالشعر الجيد العربي الفصيح، والفضل في ذلك لشوقي، واختياره أبرع الموسيقيين لتلحين تلك القطع الرائعة من الشعر الغنائي التي جاءت في رواياته المسرحية مثل: "أنا أنطونيو" ومن غير مسرحياته مثل: "يا شراعًا وراء دجلة"، "ولي مثل ما بك يا قمرية الوادي" وحظى شعر شوقي بعد وفاته بإقبال المغنين عليه، ويختارون منه القطع الرائعة، كنهج البردة، والهمزية، والسودان وحذا الشعراء حذو شوقي، وأقبلوا على وضع القطع الغنائية باللغة الفصحى، واستساغ الشعب هذه الأغنيات، وحفظها ورددها، وذلك ولا شك رقى بذوقه اللغوي، ونهوض به. ونرى المغنين حين تعوزهم القطع الغنائية الجديدة، ينقبون في الشعر العربي القديم على القصائد التي تصلح للتلحين الحديث، وهكذا نهض الغناء نهضة تبشر بأن ذوق الأمة سائر نحو التهذيب الصحيح، وأن اللغة العربية في طريق السيادة التامة، حتى على ألسنة الجمهور.

وكثرت كذلك العناية بكتب الأطفال، وتزويدهم بالشعر السهل الذي تتلاءم معانيه وأخيلتهم ومداركهم، وقد اهتم شوقي بهذا النهج، ونظم عشرات القطع السهلة خرافية وغير خرافية، ترمي إلى التهذيب والترويح عن الأطفال، وسار كثير من الشعراء على نهجه، وأخذوا في نظم الشعر المدرسي للأطفال، حتى صار عندنا فيض منه، وهذه لعمري ظاهرة تستحق التقدير؛ لأنها تعود التلميذ من الصغر على قراءة الشعر ومحبته، وتطبع لسانه على اللغة الفصحى؛ لأن الشعر أهل حفظًا، وأيسر تذكرًا من سواه، كما وضعت المسرحيات المدرسية الشعرية التي يقبل الطلبة على تمثيلها بسرور وإتقان، ومن الذين اشتهروا بنظم الشعر السهل الملائم للأطفال في صورة مقطوعات محمد يوسف المحجوب وفايد العمروسي وعبد العزيز عتيق وعلي عبد العظيم كما أن علي عبد العظيم ومحمد يوسف المحجوب اشتهرا بالمسرحيات الشعرية المدرسية. وعنيت وزارة الشئون الاجتماعية بالمسرحيات الشعرية، وغير الشعرية وخصصت في كل عام جائزة لأحسن مسرحية، فجد الشعراء في وضع المسرحيات الجيدة1 كما عنى مجمع اللغة العربية بتخصيص جائزة مالية كل عام للشعر، وهذا كله يحفز الشعراء على التجديد والعمل. هذه لمحات سريعة، وإشارات عابرة لما كان للنهضة القومية من أثر في ميدان الثقافة، ما كان لها من أثر على الشعر، وكم كنت أود أن أسوق أمثلة ونماذج أؤيد بها ما ذكرت ولكني سأكتفي بهذا القدر، مرجئًا تلك النماذج إلى حين دراسة الشعراء، والتحدث عن ثقافة كل شاعر، ومقدار ما أفاده من تلك النهضة الشاملة، حتى لا أضطر إلى التكرار.

_ 1 من ذلك مسرحية ولادة للشاعر علي عبد العظيم، وغرام يزيد، والمروءة المقنعة للشاعر محمود غنيم.

المظهر الاجتماعي

المظهر الاجتماعي: ومن أهم مظاهر النهضة القومية المظهر الاجتماعي، فالشعب هو المعين الذي يزود الأمة برجالها الحاكمين، وساستها القادرين، وزعمائها المصلحين وعلمائها الأعلام، وكتابها المرشدين، وشعرائها المجيدين، ومهندسيها البارعين،

وأطبائها الأفذاذ، وهو ثروة معنوية عظيمة، وكنز ثمين؛ والشعب اليقظ الفطن المثقف، والحريص على منفعته هو الذي يوجه الأمة في مجموعها وجهة صحيحة نحو الرقي لا يسمح لأحد أن يعبث بمصالحه، أو يتغفله، أو يبرم أمرًا لا يرضيه. وللشعوب في أوربا مهابة عظيمة، يترضاها الزعماء والحكام والكتاب، ويسعى الكل جادين على إنهاضها ورقيها، فهي حصن الأمة حين الفزع، وقوتها التي ترهب بها أعداءها، لأن الشعب هو القوة العاملة الكادحة، وهو صاحب المنفعة المباشرة من رقي الأمة؛ ولقد تغيرت في القرن التاسع عشر عقلية الشعوب، ولم تعد ترضى الحكم المطلق، ولا أن تسام الخسف والهوان على يد حاكم مستبد، يمتص دماءها ويسخرها في سبيل شهواته وأطماعه، وطالبت جادة بالاشتراك في الحكم، وأن يؤخذ رأيها في كل صغيرة وكبيرة. ولقد تأثرت مصر بهذه النزعة، ونعلم أن الثورة العرابية قد تطورت إلى المطالبة بالحكم النيابي ورفع الضيم عن الشعب، ولا ننسى حملة جمال الدين وصحبه علي إسماعيل، ثم علي توفيق، وقد رأينا كيف عم الفرح بلاد العرب والإسلام حين أعلنت تركيا الدستور في سنة 1908، جهر شاعر مثل إسماعيل صبري بأن مصر لا بد أن تنال مثل ما نالت تركيا، وناشد عباسًا أن يعطي مصر نصيبها في الحكم النيابي، وجاهد مصطفى كامل ومحمد فريد، ورجال الحزب الوطني في أن يمصروا التعليم ويحافظوا على اللغة العربية، وعلى مظاهر القومية في الثقافة كما رأينا آنفًا، وأسهم الشعراء والأدباء في الحث على ذلك. ومن المظاهر التي استحقت العناية -عناية المصلحين، وعناية الأدباء- مشكلة الفقر بمصر، فقد تخلف عن عهود الإقطاع أن حظي فريق من المصريين بثروة عريضة، وغنى فاحش، وأنفقوا بسرف، وعربدوا بدون وعي، بينما سواد الأمة في فقر مدقع؛ قد تخلفت عدة مشكلات اجتماعية نتيجة هذا التفاوت بين الطبقات، فازداد الغني غنى، والفقير فقرًا. والفقر يفضي إلى التسول والتشرد، وارتكاب الجرائم، وضعف الصحة بين العمال والفلاحين وهم لا يملكون القدرة على العلاج، كما أن الفقر يحرم الأمة ثروة معنوية كبيرة تفيدها في نهضتها حيث لا يمكن الفقراء من التعليم ويظلون في جهل عميم، وكان من أوضح

المشكلات الاجتماعية: الأطفال المشردون، نتيجة لهذا، ونتيجة لجهل الطبقة الدنيا بتعاليم الإسلام، والإكثار من الزواج والطلاق، مع عدم قدرتهم المالية على تربية أولادهم. لذلك كثر الاهتمام بهؤلاء الأطفال الذين يعدون قذى في عين الأمة وسبة لمصر الغنية التي تنبت أرضها الذهب، والتي يبشم فيها فريق، حتى يسأم ويبعثر المال ذات اليمين وذات اليسار في سفه وطيش. وكان حافظ إبراهيم قبل أن يدخل سجن الوظيفة شاعر مصر الاجتماعي الذي يأسى لما تعانيه من أدواء وعلل. وهو الذي ذاق مر الفقر، وكوي بنار الفاقة، وعرف ذل الحاجة، والبؤس، وكان متأثرًا بمبادئ الحزب الوطني الذي كان في أوجه حينذاك، والذي كان يهدف إلى نهضة الأمة في كل مرفق من مرافق الحياة، لا في السياسة فحسب، ولحافظ أكثر من قصيدة في وجوب العناية بهؤلاء الأطفال الذين إن أهملوا كانوا حربًا على الأمة في المستقبل، وصاروا عيارين، وسفاحين، وأفاقين، وعالة على المجتمع، يعاني منهم -وقد كبر معهم شرهم- أسوأ الأدواء وأضرها فتكا به. قال حافظ في رعاية الطفل سنة 1910 قصيدته التي مطلعها: شبحًا أرى ذاك طيف خيال ... لا بل فتاة بالعراء حيالي أمست بمدرجة الخطوب فما لها ... راع هناك وما لها من والي وقال في ملجأ رعاية الطفل سنة 1911 قصيدته التي مطلعها: صفحة البرق أومضت في الغمام ... أم شهاب يشق جوف الظلام وفيها يحث على الإحسان بقوله: دعوة البائس المعذب سور ... يدفع الشر عن حياض الكرام وهو حرب على البخيل وذي ... البغي وسيف على رقاب اللئام وفيها يقول منوهًا بفضل الزكاة لمن يستحقها: وعلمنا أن الزكاة سبيل الله ... قبل الصلاة قبل الصيام خصها الله في الكتاب بذكر ... فهي ركن الأركان في الإسلام

بدأت مبدأ اليقين وظلت ... لحياة الشعوب خير قيام لو وفى بالزكاة من جمع الدنيا ... وأهوى على اقتناء الحطام ما شكا الجوع معدم أو تصدى ... لركوب الشرور والآثام راكبًا رأسه طريدًا شريدًا ... لا يبال بشرعة أو ذمام سائلًا عن وصية الله فيه ... آخذًا قوته بحد الحسام ويقول في حفل أقامته جمعية رعاية الطفل سنة 1903، في محاورة بينه وبين مطران: هذا صبي هائم ... تحت الظلام هيام حائر أبلى الشقاء جديده ... وتقلمت منه الأظافر فانظر إلى أسماله ... لم يبقَ منها ما يظاهر ويقول في دعوة للإحسان سنة 1915، وفي الجمعية الخيرية 1916، وفي إعانة العميان 1916، وفي ملجأ الحرية 1919، ومن قوله في الجمعية الخيرية الإسلامية على لسان يتيم أوته الجمعية، وانتشلته من وهدة الفقر والجهل والتشرد: قضيت عهد حداثتي ... ما بين ذل واغتراب لم يغن عني بين مشرقها ... ومغربها اضطراب صفرت يدي فخوى لها ... رأسي وجوفي والوطاب لم يبقَ من أهلي سوى ... ذكر تناساه الصحاب أمشي يرنحنى الأسى ... والبؤس ترنيح الشراب ولا يكتفي بهذا في الحض على مساعدة الأطفال البائسين، والعمل على النهوض بهم، بل يأسى لما يلاقيه الشعب من غلاء، لا يكتوي به إلا ذوو المورد المحدود، والذين يكدحون في سبيل الرزق، وتتصبب جباههم عرقًا إبان العمل،

ولا يحس به من ورثوا المال الطائل وجاءهم هينًا لينًا؛ فبعثوه في يسر وسخاء غير آسفين ولا نادمين، ولا يحسون بغلاء، ولا تقف دون رغباتهم عقبات: أيها المصلحون ضاق بنا العيش ... ولم تحسنوا عليه القياما عزت السلعة الذليلة حتى ... بات مسح الحذاء خطبًا جسامًا وغدا القوت في يد الناس كالياقوت ... حتى نوى الفقير الصياما ويخال الرغيف في العيد بدرًا ... ويظن اللحوم لحمًا حرامًا على أن حافظًا بعد ثورة سنة 1919 انصرف عن الشعر الاجتماعي إلا القليل كقوله في حفلة مدرسة للبنات، أو جمعية الطفل سنة 1928 قصيدة واحدة؛ صمت حافظ عن السياسة، وصمت عن وصف الطبيعة المصرية، وصمت حتى عن الشعر الاجتماعي الذي ظهرت فيه موهبته، والذي لا حرج عليه فيه أنه قاله. ولست أدري لصدوف حافظ عن الشعر الجيد الكريم الغرض في هذه الحقبة تعليلًا، إلا أن طاقة حافظ الشعرية قد نفدت وقريحته قد نضبت، وأنه قال ما قال سابقًا في فورة النفس، ثم ران عليها اليأس والخوف، وانصرفت لرثاء العظماء، وإلى إغفاءة طويلة لا تتنبه منها إلا في فترات متباعدة فتحس بها حولها. فيخرج قصيدة اجتماعية، أو مقطوعة سياسية يحاول إخفاءها جهده حتى لا يضار بشيء مع أنه لو نشرها ما أصابه ضر؛ إذ ليس فيها ما يخشى منه أشد الناس جبنًا. ولكنه على كل كان قبل الحرب العالمية الأولى، وفي خلالها شديد العناية بمصر وشئون مصر. وليس كذلك شوقي، فهو قبل الحرب الأولى، كان حبيسًا في قفص من ذهب، مقيدًا بقيود القصر، وغل الحاشية، وأغلب الظن أنه لم يكن يدري عن حالة البؤس والفاقة التي يعانيها سواد الشعب شيئًا، وإذا درى فقلما يحس الآلم أو يتذكرها، وليس له بها عهد، أو إدراك، ولا نسمع له في هذه الحقبة إلا ثلاث قصائد في الهلال الأحمر والصليب الأحمر، أولاها مواجهة إلى توفيق باشا وزوجته، وهي التي مطلعها:

جبريل هلل في السماء وكبر ... واكتب ثواب المسنين وسطر سل للفقير على تكرمه الغنى ... وأطلب مزيدًا في الرخاء لموسر ويتخذ القصيدة في الهلال الأحمر وسيلة لمدح توفيق وزوجته. يا بنت إلهامي دعاء معظم ... لسماء عزك في البرية مكبر توفيق مصر وأنت أصل في الندى ... وفتا كما الفرع الكريم العنصر والقصيدة الثانية قيلت إبان حرب طرابلس. وفيها حث على مساعدة الهلال الأحمر ليعنى بجند الترك وأهل طرابلس، فليست منبعثة عن شجى لحال المنكوبين، وعن شعور صادق بآلامهم، ومطلعها: يا قوم عثمان والدنيا مداولة ... تعاونوا بينكم يا قوم عثمانا وفيها يقول في كلام عام لا يصور الفاقة والبؤس كما صورها حافظ: البر من شعب الإيمان أفضلها ... لا يقبل الله دون البر إيمانًا هلى ترحمون لعل الله يرحمكم ... باليد أهلًا، وبالصحراء جيرانا؟ وليس لشوقي في الواقع شعر في الفاقة والبؤس، والعناسة بالفقراء لا قبل الحرب العالمية الأولى أيام أن كان مقيدًا بتلك القيود التي أشرنا إليها ولا بعد أن عاد من المنفى، وذاق فيه مرارة الحرمان، ولكنه كان على كل حال -حتى وهو في منفاه- في يسر من العيش ورغد من الحياة، ولذلك لم يشعر بتلك الآلام المبرحة التي يعانيها الفقراء، ولم يألف المواطن الشعبية التي يغشاها هؤلاء الفقراء، والأطفال المشردون، وإنما كان يعيش بعد عودته من المنفى في بيئة محوطة بالعناية والثراء، وقليل الاختلاط بالناس، اللهم إلا طبقة من خلصاء الأصدقاء يزورهم في سيارته الفارهة الفخمة، ويمر بمواكب البؤس ومناظره، ولا يراها ولا يحس بها. أما مطران فحاله كحال شوقي من حيث ندرة ما قال عن الفقراء، ووصف حالتهم البشعة، وحث الأمة على العناية بهم، وتتصفح ديوانه كله فلا تجد إلا

قصيدتين، وثلاث مقطوعات كل مقطوعة في بيتين، وليس فيها ذلك الشعور الذي تراءى في شعر حافظ، وأغلب الظن أنها متكلفة، طلب إليه أن يقول فقال. فمن تلك المقطوعات قوله: حبب الفقر إلينا ... منك إحسان شريف فاشتهى الموسر منعا ... أنه عاف يطوف ويقول في قصيدة عنوانها "دعوة الخير"، وهي كلام عام، وحكم متداولة مما يقال عادة في هذه المناسبات: مهما تقل ثمالة الموجود ... لا تحرم المسكين فطرة جود فإذا حباك الله فضلًا واسعًا ... فالبخل خسران وشبه جحود ويقول في ملجأ الحرية الذي أسسه الدكتور عبد العزيز نظمي والذي قال فيه حافظ سنة 1919، وبعض تلك الحكم، من غير تصوير، أو ألم أو عاطفة ما: إن لم يصن خلق الصغار مهذب ... ماذا يحاول وازع ومُشَرِّع أو لم يكن أدب السجايا رادعًا ... للناشئين هل العقوبة تردع في كل قطر ملجأ أفما لنا ... في أن نجاري ما يُجارى مطمع ما بالنا نجد الشعوب أمامنا ... وعلى مثال صنيعهم لا نصنع هذا ما كان من شأن مطران، أما إسماعيل صبري فليس له في هذا الموضوع قليل أو كثير، وكأن مصر ليس بها فقراء معدمون، أحلاس مسغبة، وأَنَّى لصبري أن يصف الفاقة والبؤس وأهلهما، وقد عاش عيشة مترفة منعمة، وقد قال عنه الدكتور طه حسين في المقدمة التي صدر بها ديوانه: "وكيف السبيل لطالب من طلاب الأزهر، ومن طلاب الجامعة القديمة، شديد الحياء أن يتصل بهذا الرجل الأرستقراطي، الذي كان يشغل منصبًا رفيعًا من مناصب الدولة، ويلقب بلقب رفيع من ألقابها، ولا يجلس حيث كان يجلس الشعراء في هذه القهوة أو تلك، ولا يختلف إلى حيث يختلف الشعراء في هذا النادي أو ذاك"1.

_ 1 انظر مقدمة ديوان صبري ص9.

وترى محمد عبد المطلب يطرق باب هذه المشكلة في أربع قصائد، ثلاث منها في جمعية المواساة الإسلامية قال أولاها في سنة 1913 والثانية في سنة 1914، والثالثة في سنة 1928 أما القصيدة الرابعة فقالها في الحرب والغلا، سنة 1918 ونرى عبد المطلب في قصيدة المواساة الأولى يصف حالة الفقراء، وما يكابدون من جهد، وجوع، وعرى: أسألت باكية الدياجى ما لها ... أرقت فأرّقت النجوم حيالها باتت تكفكف بالوقار مدامعًا ... غلب الأسى عبراتها فأسالها وينهى من هذا الوصف إلى الثناء على رجال المواساة، ثم إلى مدح عباس، وأم المحسنين، وأما القصيدة الثانية فقد جعلها قصة يصف فيها حال فقير بائس، له صبية صغار يتضاعفن من الجوع، ويتلوون من الألم، وله جار رب قصر مثيف: قصر يشق السماء طولًا ... فخم الدعامات ذو منار تلألا الكهرباء فيه ... تلألؤ الكُنّس الجوارى كأنه والظلام ساج ... من حوله آية النهار ومركب النسيم يجري ... على الثرى آمن العثار والمال يجبى إليه كيلًا ... فمن ضياع ومن عقار ويرى هذا الفقير جاره الغني، في كل ليلة، وموائده عامرة بكل ما لذّ وطاب، والخدم يروحون ويجيئون: فتلك في كفها حنيذ ... على إناء من النضار وتلك من خلفها بصحن ... عليه حوت من البهار وهذا الفقير يشتهي فتات المائدة ويدعو الله أن يعطف عليه هذا الجار، ولكن لا يستجاب دعاؤه، حتى يأتيه رجل المواساة بالبر والعطف والخير والمواساة. وأما القصيدة الثالثة فليس فيها هذا التصوير البارع، وإنما هي كلام عام ومدح وثناء على عناية رجال المواساة بالبائسين من كل صنفٍ.

فكم صانوا كرامة ذي إباء ... وكم صاغوا لبائسة حجابا وكم مدوا لذي الحاجات راحًا ... تسابق في تكرمها السحابا وأما قصيدة الغلاء، فقد قالها بعد أن فتكت الحرب بما اختزن الناس وما بقي في مصر من خيرات أربع سنوات كاملة، وكان أشد الناس أَلَمًا من الغلاء هم موظفو الحكومة. فوا رحمنا لابن الحكومة قوسه ... قلوع وهل يجرى سداد قلوع1 ومن حوله غرثى، عيال ونسوة ... طواها الطوى في ذلة وخضوع2 تقلب في جوع وعرى يؤودها ... وحسبك من عرى يؤود وجوع3 غلا كل شيء من مرافق عيشها ... على ربها من مُسْلَم ومبيع وهذا شعور من اكتوى بنار الغلاء، عجزت موارده وقصرت يده عن تحقيق رغباته ورغبات أسرته الضرورية، فهو يصف حالة عاناها، وآلامًا قاساها، وقد كان موظفًا عفيفًا محدود الدخل، فهو وحافظ إبراهيم صادقان، وصدرا في وصف الغلاء عن شعور صحيح، أما إسماعيل صبري، أو شوقي، أو مطران، فلم يحسوا بعوز أو ضيق من خلال الحرب الأولى، ولذلك لم يخطر لهم ببال وصف الغلاء، وما فعله بالناس. ولأحمد محرم أكثر من قصيدة في مشكلة الفقر والغنى، وهو قوي في شعوره، غني في تصويره، جريء في تعبيره، مما يدل على شدة انفعال، وفرط حساسية، استمع إليه يصف هذا البؤس في أحد مناظره: رأيت الهول ينبعث ارتجالًا ... فتنصدع القلوب له بديها رأيت البؤس يركض في جلود ... بجانبها النعيم ويحتميها رأيت بيوت ساغبة تلوَّى ... كأمثال الأراقم ملء فيها تريد طعامها والبيت مُقْو ... فتوشك أن تميل على بنيها أنيلونا الديات ولا تكونوا ... كمن يردى النفوس ولا يديها

_ 1 قوس قلوع: تنقلت حين النزع فتقلب. 2 غرثى: جياع. 3 يؤودها: يبلغ منها الجهد والمشقة.

فهو يحمل الأغنياء وزر قتل الفقراء مسغبة وبؤسًا، وحق القاتل شرعًا أن يدفع الدية، وإلا كان مجرمًا وسفاحًا خارجًا على القانون، اللهم إلا إذا عامل البشر معاملة الحيوان الأعجم الذي يذبح، ولا دية له، وهو ينعى على أثرياء مصر أثرتهم. وعدم اهتمامهم بهؤلاء الذين يعولون، ويصرخون ويغولهم الفقر ويفتك بهم البؤس والشر: أكل امرئ في مصر يسعى لنفسه ... ويطلب أسباب الحياة لذاته طروب الأمانى ما يبالي بشعبه ... وإن ملأ الدنيا ضجيج نعاته إذا نال ما يرجوه لم يعنه امرؤ ... سواه ولم يحفل بطول شكاته سواء عليه منزل السخط والرضا ... إذا نال ما يرضيه من شهواته يرى الدين والدنيا ثراء يصيبه ... وقصرًا تزل العين عن شرفاته وهكذا نرى بعض الشعراء قد تأثر لهذه المشكلة الاجتماعية، التي لا تزال جاثمة رابطة في مصر الغنية، لم تحل بعد، ولم يرعو ذوو اليسار من غيهم، أو يزدجروا عن شرهم أو يطامنوا من شهواتهم، أو يتستروا في مباذلهم، وتظاهرهم هذا بالفساد يعتصر قلوب مواطنيهم الذين لم يواتهم الحظ من ثراء مورث، أو مغتصب، فيزدادون عليهم حقدًا وموجدة، وتعمل في نفوسهم المبادئ الفتاكة عملها. ولقد كان لدى شعراء الجيل الماضي حساسية، وإدراك لأدواء هذه الأمة، فقالوا، وحضوا على الإحسان، ونبهوا الأثرياء، ولكن ما لنا اليوم وقد خفت صوت الشعر والمشكلة لا تزال على أشدها، والغلاء الشنيع قد طوح بكل القيم؟ 1. على أن مشكلة الفقر والغنى ليست المشكلة الوحيدة التي نظر إليها شعراء الجيل الماضي بل اهتموا بكل ظاهرة من ظواهر التقدم والرقى، وكل ما يحفز الأمة على أن تتبوأ مركزها العظيم الذي يليق بماضيها الحافل بالحضارات، واهتموا كذلك بكل بادرة من داء يوهن هذه الأمة، ويمكن لأعدائها، أو يضعف بنيها.

_ 1 لقد تغير الوضع بعد ثورة 23 يوليو 1952 وقامت حكومة الثورة بعدة إصلاحات جذرية لمعالجة هذه المشكلة وتلافي التفاوت الشنيع بين الطبقات كان من أهمها قانون الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع والرأسمالية والاحتكارية وتأميم الشركات الكبرى، والسير في طريق الاشتراكية المبنية على الكفاية والعدالة الاجتماعية.

وقد اتجه الشعراء اتجاهات مختلفة في هذا، فشوقي عنى بمظاهر النهضة، والإشادة بها والحث عليها فيقول في الجامعة قصيدته الثانية1 في سنة 1926 والتي مطلعها. تاج البلاد تحية وسلام ... ردنك مصر وصحت الأحلام2 ويقول في الصحافة قصيدته التي مطلعها: لكل زمان مضى آية ... وآية هذه الزمان الصحف3 ويقول في العلم والتعليم قصيدته التي مطلعها: قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولًا وكان شوقي حريصًا كل الحرص على أن تتبوأ مصر مكانة مرموقة في العالم، ولن يتأتى لها هذا إلا بالعلم والمال والقوة، ولذلك نراه يحث الشباب في غير ما قصيدة على العمل يوازن بينهم وبين نظائرهم من شباب أوربا، ويتساءل: هل نساير ركب الحضارة والمدينة والثقافة أو أننا لا نزال نعيش عالة على غيرنا في هذه الميادين؟ هل شايع النشء ركب المعلم واكتنفوا ... للعبقرية أحمالًا وأظعانًا وساير المواكب المرموق متشحًا ... عز الحضارة أعلامًا وركبانًا ولم يك شوقي يائسًا بل كان يتطلع دائمًا إلى مستقبل زاهر لمصر بفضل شبابها المتواثب، ولذلك قال: تعلم ما استطعت لعل جيلا ... سيأتي يحدث العجب العجابا وقد صدقت فراسته، وتحققت نبوءته، وجاء الجيل الذي يحاول أن يغير مجرى الحياة في مصر ويحيلها إلى دولة عظمى معتمدة على علمائها، واقتصادها، ومصانعها، وجيشها ويا ليت شوقي كان اليوم بيننا حين قال:

_ 1 وتلك غير قصيدته الأولى التي قالها يوم أن وضع عباس الحجر الأساسي للجامعة، انظر الشوقيات ج1 ص 158. 2 الشوقيات ج4 ص2. 3 الشوقيات جـ ص 165.

أرى طيارهم أوفى علينا ... وحلق فوق أرؤسنا وحاما وأنظر جيشهم من نصف قرن ... على أبصارنا ضرب الخياما فلا أمناؤنا نقصوه رمحًا ... ولا خواننا زادوا حساما ملكنا ما رن الدنيا بوقت ... فلم نحس على الدنيا القياما طلعنا وهي مقبلة أسودًا ... ورحنا وهي مدبرة نعامًا إذا لرأي العجب العجاب، ورأى سماء مصر قد ملأها نسورنا وصارت حرة لهم لا ينازعهم فيها منازع، ولرأي كيف تقوضت خيام المحتل الغشوم، وكيف ذاق مذلة الهزيمة في بور سعيد ورأى أننا فعلًا قد انتقصنا عتادة بل استولينا عليه وهو الذي يقدر بالملايين في قاعدة القناة، وأننا صرنا أمة يجيشها وقادتها وسلاحها، وأننا نصنع اليوم السلاح الذي نحمي به هذه الديار الحبيبة كما تحمى الأسود عرينها1. كان شوقي وهو الذي تعلم في باريس، وهو الذي أحب مصر كل الحب حريصًا على تسجيل مظاهر نهضتها، مشجعًا العاملين من بنيها ويرى أن مهمة الشاعر أن ينبه الغافل ويثبت العامل، ويشجع الرائد؛ فنراه يقول في بنك مصر وتأسيس داره أكثر من قصيدة ويقول في أول طيار مصري، وهكذا يتتبع مظاهر النهضة، ويثني على من يقوم لبلاده بمكرمة. ومن يضع في صرح بنائها حجرًا، وليس الأمر كما يصوره الدكتور طه حسين بأن هذا الشعر كالكراسي المذهبة التي لا يخلو منها حفل، وإنما صدر هذا الشعر عن عاطفة صادقة تهتز طربًا وتنتشى فرحًا لكل خطوة تخطوها الأمة في درج الحضارة بعد أن ظلت قرونًا تعاني الحرمان والجهل والمرض وشتى الآفات الوبيلة. ويرى شوقي أن المرأة تستجيب لدعوة قاسم أمين، وتحاول جاهدة أن تمزق حجابها، وتحطم غل هذا الحجاب، ويقف أول الأمر مترددًا بين هواه في تشجيعها، وبين التقاليد الإسلامية التي يشجع عليها القصر فيقول قصيدته:

_ 1 في خطبة الرئيس جمال عبد الناصر احتقالًا بعيد النصر في 23 ديسمبر 1961 قرر زيادة ثلاث فرق كاملة العدة والعتاد في الجيش المصري حتى يكون اعتمادنا على أنفسنا في كل أمورنا الحربية.

صداح يا ملك الكنا ... رويا أمير البلبل يحذر المرأة عن عاقبة الحجاب، خشية أن تقع على النسور الجهل، وأن حرصه عليها هوى، ومن يحرز ثمينًا يبخل، وإن لم يستطع كتم هواه وأساه لما تعانيه المرأة: بالبيت شعري يا أسـ ... ـير سج فودك أم خل وحليف سهد أم تنا ... م الليل حتى ينجلي بالرغم مني ما تعالـ ... ـج في النحاس المقفل ويخاطب أم المحسنين حين عودتها من تركيا بعد غيبة طويلة بقوله: ارفعي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين وقفي الهودج فينا ساعة ... نقتبس من نور أم المحسنين ويقول في رثاء قاسم أمين مؤيدًا له في تردد: ماذا رأيت من الحجاب وعسره ... فدعوتنا لترفق ويسار رأيٌ بدا لك لم تجده مخالفًا ... ما في الكتاب وسنة المختار إن الحجاب سماحة ويسارة ... لولا وحوش من الرجال ضواري جهلوا حقيقته وحكمة حكمه ... فتجاوزوه إلى أذى وضِرار ولكن موقف شوقي يتضح في هذه القضية بعد أن يعود من المنفى، ولم يعد يخشى الجهر برأيه أو لأنه برأي الحركة النسوية قد فاقت ما قدر لها، وأنه لا فائدة من معارضة المرأة، إذ صار السفور حقيقة واقعة، بانتشار مدارس البنات، والمساواة بينهن وبين البنين في التعليم، واختلاطهم بهم في قاعات الدرس وبالجامعة، وصادف هذا هوى منه فقال قصيدته التي مطلعها: قم حي هذي النيراتِ ... حي الحسان الخيرات ويقول مؤيدًا السفور:

خذ بالكتاب والحديث ... وسيرة السلف الثقاة وارجع إلى سنن الخليـ ... ـفة واتبع نظم الحياة هذا رسول الله لم ... ينقص حقوق المؤمنات العلم كان شريعة ... لسائه المتفقهات رضن التجارة والسيـ ... ـاسة والشئون الأخريات ويقول شوقي في العمال يخضهم على أن يقتفوا أثر أسلافهم في تشييد مجد مصر، وإبداع الآيات الفنية الخالدة التي لا يزال العلم حتى اليوم ينظر إليها في دهشة وحيرة، وينصحهم بالتمسك بحسن الخلق، واجتناب الموبقات التي كثيرًا ما تنحدر إليها الطبقة العاملة فتودى بصحتها، وتفسد حياتها، إلى غير ذلك من القصائد التي تستحث طبقات الأمة المختلفة على النهوض وقليلًا ما عرج على الآفات الاجتماعية كالانتحار، والميسر، وفساد الشبان وغير ذلك، فمن هذا قوله في زواج الشيب بالبنات الصغيرات، وهذه في نظره جريمة. المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار ويقول في انتحار الطلبة قصيدته التي مطلعها: ناشئ في الورد في أيامه ... حسبه الله أبا الورد عثر ويقول في حريق ميت غمر قصيدته التي مطلعها: الله يحكم في المدائن والقرى ... يا ميت غمر خذي القضاء كما جرى1 ويكثر من إسداء النصح بمكارم الأخلاق، ولهذا باب سنوفيه حقه فيما بعد، وهو يجاري النهضة الدينية، ويقول أكثر من قصيدة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي العيد الهجري، وهكذا نرى شوقي لا يقل في شعوره الاجتماعي إزاء ظواهر النهوض في مصر عن أي شاعر آخر، إن لم يفقهم، ولا سيما في دينياته وأخلاقياته.

_ 1 شبت المنار في ميت غمر يوم الخميس أول مايو سنة 1902، وبقيت تأكل ما تأتي عليه في هذه المدينة حتى يوم 8 مايو، وهلك في هذا الحريق خلق كثير وتسابق الناس لمساعدة أهلها، وحثت الصحف على التبرع، وأسهم الشعراء في ذلك بشعرهم، وهذا هو السر في تسجيل الحادث لفظاعته، ولاهتمام الصحافة به.

أما حافظ فكان أحرص على العناية بالأدواء والمصائب من عنايته بمظاهر الرقي والنهوض، وهذا يرجع إلى أن حافظًا قد لاقى في مبدأ حياته، كثيرًا من الصعاب، وخالط أنماط شتى من طبقات الشعب، وكان رجلًا كثير الأصدقاء، يجلس في المقهى، ويلتف حوله المعجبون بأدبه. وكان حافظ في تلك الحقبة الذهبية في حياته، أي قبل أن يعين في دار الكتب. وطنيًّا جياش العاطفه، حريصًا على الإسهام فيما يعود على بلاده بالرقي، يفرح إن أصابها خير، ويأسى إن أصابها ضر، يشب حريق ميت غمر فيقول قصيدة عامرة مطلعها: سائلوا الليل عنهم والنهارا ... كيف باتت نساؤهم العذارى وتشتد الحملة على اللغة العربية، ويحاربها أعداء البلاد، ويفتن بدعوتهم بعض من رقت مبادئهم الوطنية والدينية، فيقول قصيدته التي أتينا عليها فيما سبق والتي مطلعها: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي وينتهز فرصة زواج الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد ببنت السيد عبد الخالق السادات والطعن في هذا الزواج بأنه غير متكافئ ويقول قصيدة طويلة، ينعى فيها على الشباب نفاقهم، وتقاعسهم عن المعالي، وتفرقهم شيعًا وأحزابًا. وهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في ورده الأعذب وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب ويصور في هذه القصيدة نفاق الناس، فقد حملوا على الشيخ علي يوسف حملة شعواء، ولكنهم ما لبثوا أن هنئوه، وتزاحموا على بابه، وأسدى إليه الخليفة وسامًا، ولذلك قال: فيا أمة ضاق عين وصفها ... جنان المفوه والأخطب تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلي البريء مع المذنب

ويشتد الخلف بين المسلمين والأقباط في سنة 1911، وتكاد تكون فتنة عمياء، يغذيها المستعمر المحتل، فيناشد عباسًا أن يتدارك الأمر قبل أن تعم الفتنة، وتتصدع وحدة الأمة بقصيدته التي مطلعها. كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم ويقول على لسان متصوف فاسق، يتظاهر بالصلاح والتقوى، وهو مغرم بغلام1، وفي أضرحة الأولياء والتمسح بها2، ولكن حافظًا لا ينسى بعض مظاهر النهضة، وإن لم يفض فيها أو يتتبعها كما تتبعها شوقي، فيقول في مشروع الجامعة قصيدتين، الأولى سنة 1907، والثانية 1908، ويقول في معاهد البنات المختلفة أكثر من قصيدة، ويرى النهضة الدينية تقوى في مصر ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى، ويفطن كثير من مصلحي هذه الأمة إلى أن الدين عصمة من المفاسد التي طغى طوفانها في خلال الحرب العالمية الأولى، وكثرة الواردين على مصر من مختلف الجيوش المحاربة، واستحكام الغلاء، وبيع الضمائر، والاستهتار بالتقاليد، وكانت ثورة عامة في العالم أجمع، عصفت بالقيم الخلقية، والفضائل السامية، واشتد طغيان المادة، والإقبال على لذاذات الحياة، وجرت مصر في هذا التيار، وخشي بعض المصلحين أن تنهار البقية الباقية من أخلاق الشباب، الذين ألفوا التسكع في الطرقات والتطرى كما يتطرى النساء، والتهجم على الحرمات، فأسست جمعية الشبان المسلمين في سنة 1927، وهرع الشباب إليها من كل صوب وحدب بالمئات والألوف وظلت سنوات تعمل على إيقاظ الشعور الديني في الناشئة، ذلك الشعور الذي حاول المستعمر الغاصب أن يقضي عليه منذ وطئت أقدامه أرض مصر، بفرضه التعليم باللغة الإنجليزية ومحاولة إضعاف اللغة العربية، لغة القرآن، وباهتمامه في برامجه بالتافه من المعلومات التي لا تقوم خلقًا، ولا تهذب نفسًا، ولا تنمي فضيلة، ولا تخلق رجالًا، وزاد الأمر سوءًا إهماله التعليم الديني في المدارس المدنية، فلم يعد

_ 1 ج1 ص160 ديوان حافظ. 2 ج1 ص318.

ثمة ما يغري الطالب بالتمسك بدينه، لا قدوة حسنة يراها، ولا تعليمًا يغذي مشاعره، ولا ضرورة تحفزه على دراسته. إن أخوف ما كان يخافه المستعمرون هو قوة الشعور الديني الإسلامي في مصر؛ لأن الإسلام دين يدعو إلى العزة والكرامة، ويأبى على المسلم أن يخضع لسواه، وأن يذل، وفي يقظة الشعور الديني استرجاع لماضي هذه الأمة المجيدة، وتذكر لما كانت عليه من عظمة وعلم وقوة، وتحسر على ما آلت إليه من استعباد وخزي، ولذلك ترى هؤلاء المستعمرين الذين جابوا هذه البلاد مرات ومرات، وطمعوا فيها منذ القرن العاشر والحادي عشر إبان الحروب الصليبية، ولم يرد طوفانهم إلا قوة الإسلام وإخوته، يعملون جهودهم على إضعاف هذه الروح في نفوس شباب البلاد التي يحتلونها: لهذه الأسباب، ولأنهم يخشون كل الخشية أن يعم هذا الشعور بلدان الإسلام التي سعوا إلى احتلالها، وإضعاف قوتها، فتتحد فيما بينها، وتهب قوية فتية تطردهم من ديارهم شر طردة، وتستعيد مجدها السالف، وهي غنية بجيرانها، وتستطيع بما فيها من قوى مادية ومعنوية أن تغير مصير العالم إن أرادت. فظن المستعمرون لكل هذا، فأغرونا بزبرج الحضارة الأوربية، وأكثروا من مفسادها فيما بيننا، بل عملوا على استيراد هذه المفاسد حتى تخف وطأة الدين والأخلاق على نفوسنا، ونستمرئ اللهو والعبث، وننسى ذلك الماضي الرائع، والجهاد الشاق، والصراع الطويل المراد بيننا وبينهم. وقد ابتدأت هذه الحركة الدينية في الظهور منذ عهد جمال الدين الأفغاني على نحو ما فصلناه في الجزء الأول، وسار محمد عبده على نهجه، ودعا الشيخ رشيد رضا وحزبه إلى تنقية اليد من الخرافات والخزعبلات، والرجوع به إلى بساطته الأولى، وإلى تحبيبه للنفوس التي جهلته وجاء على أثره جماعة أرادوا أن يوفقوا بين الدين والحضارة الحديثة، وساروا في أول أمرهم برفق وحذر، وهم جماعة حزب الأمة وعلى رأسهم لطفي السيد، ولكنهم كانوا يخشون الطفرة فيما يرمون إليه من الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية؛ لأن الأمة في ذلك الوقت لم تكن تتقبل هذا الأمر بيسر، ولهذا تجد لطفي السيد مع نزعته إلى الحضارة الأوربية

يحاول أن يظهر المحافظة على الدين، وقد أثنى على باحثة البادية في المقدمة التي صدر بها كتاب النسائيات؛ ولأن دعوتها إلى الإصلاح اتبعت سبيلا معتدلا في حدود الشرع1، وظهر كذلك مصطفى كامل يدعو إلى التمسك بالدين وتنمية شعوره في ذلك يقول: "قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أرى أن الدين والوطنية توأمان، وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حبًّا صادقًا ويفديه بروحه وما تملك يداه2. ودعا رجال الحزب الوطني للاحتفال لأول مرة بالعام الهجري3، وأقيم الاحتفال في غرة محرم سنة 1328 هـ -يناير 1910، وأنشد فيه حافظ قصيدته التي مطلعها: لي فيك حين بدا سناك وأشرقا ... أمل سألت الله أن يتحققا وكان المؤيد وصاحبه بجانب الحزب الوطني يعمل على تغذية الشعور الديني، والرجوع بالإسلام إلى نقاوته الأولى، وإلى مجده العظيم4، وثم تأتي الحرب العالمية الأولى، وما فيها من شدائد وأهوال، وما جلبته من جيوش عديدة أجنبية، مقيمة أو عابرة، وعملوا على إفساد الأخلاق، كما عمل الغلاء على إضعافها، وجاءت الثورة العاتية، وكان فيما أفادته يقظة المصريين إلى الدعوة الدينية بين شباب مصر كما ذكرت في أول هذا الموضوع لانتشار الانحلال الخلقي والاستهتار فيهم، نتيجة للتعليم العقيم الذي غذى به المصريون على يد الإنجليز، وكان من وراء هذا إنشاء عدة جمعيات دينية الشبان المسلمون والهداية الإسلامية برياسة السيد محمد الخضر، والتعارف الإسلامي، ثم الإخوان، وظهرت عدة جرائد ومجلات دينية، لا تهتم إلا بالدين، وتقوية العاطفة

_ 1 راجع النسائيات، مطبعة الجريدة، القاهرة 1910 ص50. 2 مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي 146، 423. 3 راجع محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص138. 4 راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل ص53.

في نفوس المسلمين في مشارق الأرض وأكبر فضل في تقوية الشعور الديني بمصر، وإيجاد صحافة قوية ممتازة تدافع عنه، وعن أمجاد المسلمين، إذ أنشأ "الزهراء" ثم "الفتح". وغذاهما كثير من الشعراء بالقصائد المنبعثة عن عاطفة دينية قوية مثل أحمد محرم، وصادق عرنوس وغيرهما. وكان إيجاد هذه الجمعيات الدينية، والحصافة التي تدافع عن الدين رد فعل لموجة من الإلحاد سادت بعض المفكرين الذين تشبعوا بالعلم الغربي، وفتنوا به، ولم يعرفوا الإ سلام حق معرفته، أو عرفوا ورغبوا في الشهرة الزائفة بالخروج على إجماع الأمة، وأخذ هؤلاء ينشرون أبحاثًا وكتبًا ومقالات، تأثروا فيها بآراء المستشرقين، الذين لم يهتموا بدراسة اللغات الشرقية، والدين الإسلامي، إلا ليطعنوا فيها وليشككوا أهله في قيمته، وليكونوا عونًا لحكامهم المبالغين في الاستعمار، وقد خدع بعضهم، وظنوا أن هؤلاء المستشرقين يصدرون في أحكامهم عن نية خالصة ودراسة ممحصة وعقل سليم، فجاروهم في أفكارهم، وعملوا على نشرها بين مواطنيهم. ولكن العاطفة الدينية القوية المتمكنة من نفسية هذا الشعب والتي أيقظها المصلحون، ونبهوها إلى الخطر المحدق قد أحبطت مساعي هؤلاء المفتونين، وثارت في وجوههم وانبرى للرد عليهم كثير من الأعلام، وحملتهم على الصمت، ثم على الرجوع عن إلحادهم، بل إن منهم من اضطر إلى أن يتملق الجمهور، ويدرس هذا الدين دراسة جديدة، ويؤلف فيه وفي رجاله، وراج هذا النوع من الأدب، فأقبل على التأليف فيه من كان مجافيًا له، وصارت عندنا ثروة دينية في الأدب الحديث من مثل: على هامش السيرة للدكتور طه حسين والعبقريات للأستاذ العقاد، ومحمد، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب لهيكل ومحمد وأهل الكهف لتوفيق الحكيم. وقد اشتد الوعي الديني بين الطبقة المثقفة من الأمة وأقبلوا على ينابيعه الصافية ينهلون منها بشغف هربًا بنفوسهم من أدران الحضارة المادية التي اجتاحت مصر والشرق العربي وافدة من الغرب، وكثرت الكتب الدينية التي تقرب العقيدة وتبسطها من عامة الجمهور، كما صار للدين مجلات وصحافة

تدافع عنه وتتكلم باسمه، ومن ذلك مجلة "الأزهر"، "ونور الإسلام" التي يصدرها قسم الوعظ والإرشاد، ومجلة "الشبان المسلمين" وغيرها. ولقد كانت مجلة "الرسالة" ومجلة "الثقافة" ميدانًا تعالج فيه المشكلات الاجتماعية على ضوء التعاليم الدينية، وممن برز في هذه الناحية وكان له قراء عديدون المرحوم مصطفى صادق الرافعي في مقالاته الاجتماعية بمجلة الرسالة التي جمعت فيما بعد في "وحي القلم"، كما أن هاتين المجلتين عنيتا "قبل أن تحتجبا" بإصدار عدد ممتاز كل عام خاص بالهجرة تعرض فيه أمجاد الإسلام عرضًا جديدًا، وتحشد له الأقلام القوية، وتدبج فيه البحوث الممتازة ولقد راع كل هذا المستعمرين والأجانب فحاولوا جهدهم أن يصرفوا شباب الأمة ومفكريها عن شئون دينهم أو التمسك به لكن الشعور الديني الآن وقد تغلغل في البيئات المثقفة التي بيدها مقدرات الأمة لن يضعف مرة ثانية إن شاء الله. وقد عنيت حكومة الثورة بشئون الدين فأنشئ المؤتمر الإسلامي والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف ويصدر صحيفة "منبر الإسلام" تكتب فيها الصفوة الممتازة من رجال الأمة، كما أسند تحرير مجلة الأزهر إلى الأستاذ الزيات صاحب الرسالة فجدد شبابها وأقبل على الكتابة فيها عدد من خيرة الباحثين، كما صار التعليم الديني إجباريًّا في المدارس حتى المدارس الأجنبية التي كانت فيما تمضى مباءة للتبشير، ومسخ شخصية المواطنين، وقد صار ملزمة بتعليم المسلمين الدين الإسلامي. ولقد كان لهذه الحركة الدينية من بدء نشأتها حتى اليوم أثر قوي في الشعر الحديث، فمن قصائد تقال في مطلع العام الهجري، وتذكر المسلمين بماضيهم، وتراثهم، وتصور مآسيهم وتحثهم على المضي قدمًا في نهضتهم التي تغيظ أعداءهم، تجد مثل هذا الشعر عند حافظ إبراهيم، ومحمد عبد المطلب، وأحمد محرم، وحتى عند مطران الذي اضطر إلى مجاراة شعور الأمة في مستهل هذا القرن حين أخذت تحتفل بهذا العيد، وكانت عنه غافلة، واستمع إليه يقول في قصيدة في الهجرة وقد صار ذلك اليوم عيدًا رسميًّا من أعياد الدولة.

هل الهلال فحيوا طالع العيد ... حيوا البشير بتحقيق المواعيد يأيها الرمز تستجلي العقول به ... لحكمة الله معنى غير محدود أي مسلمي مصر إن الجد دينكم ... وبئيس ما قبل: شعب غير مجدود طال التقاعس والأعوام عاجلة ... والعام ليس إذا ولى بمردود ونرى شوقي يعارض نهج البردة والهمزية للبوصيري؛ ويكثر من ذكر الدين ومكارم الأخلاق في شعره، بل يؤلف ملحمة طويلة في جزء خاص هو "دول العرب وعظماء الإسلام" ويؤلف حافظ العمرية المشهورة، وعبد المطلب العلوية المشهورة، ويهيم بعض الشعراء بنظم الأناشيد الدينية فيؤلف حافظ نشيد الشبان المسلمين: أعيدو مجدنا دنيا ودينا ... وذودوا عن تراث المسلمينا فمن يعنو لغير الله فينا ... ونحن بنو الغزاة الفاتحينا ويؤلف الرافعي نشيدًا قويًّا للشبان المسلمين يقول فيه: يا شباب العالم المحمدي ... ينقص الكون شباب مهتدى فأروه دينكم ليقتدي ... دين عقل وضمير ويد ويعكف أحمد محرم على نظم "الإلياذة" الإسلامية، يصور فيها كفاح الرسول عليه السلام في سبيل الدين ونشره، ويتتبعه منذ الدعوة إلى وفاته ويقف أمام غزواته وسراياه وقفات طويلة يصور بطولته عليه السلام، وبطولة أصحابه الذين أبلوا في الدفاع عنه كل بلاء. ويقول محرم في النشيد الأول من الإلياذة الإسلامية: املأ الأرض يا محمد نورا ... واغمر الناس حكمة والدهورا حجبتك الغيوب سرًّا تجلى ... يكشف الحجب كلها والستورا عب سيل الفساد في كل ودا ... فتدفق عليه حتى يفورا

جئت ترمى عبابه بعباب ... راح يطوي سيوله والبحورا ينقذ العالم الغريق ويحمي ... أمم الأرض أن تذوق الثبورا ويقول في الإلياذة شهداء بدر: طف بالمصارع واستمع نجواها ... والثم بأفياء الجنان ثراها ضاع الشذا القدسي في جنباتها ... فانشق وصف للمؤمنين شذاها حلل يروع جلالها ومنازل ... من نور رب العالمين سناها ضمت حماة الحق ما عرف امرؤ ... عزا لهم من دونه أوجاها ويقول عن نزول الملائكة في غزوة بدر يقاتلون الكفار دون أن يروهم: الله أرسل في السماء كتيبة ... تهفو كما هفت البروق اللمح تهى مجلجلة، تلهب أعين ... منها، وتقذف بالعواصف أجنح للخيل حمحمة يراع لهولها ... صيد الفوارس والعتاق القرّح حيزوم أقدم إنما هي كرة ... عجلى تجاذبك العتاق فتمرح جبريل يضرب والملائك حوله ... صف ترض به الصفوف وترضح وتبع خطى محرم في نظم الملاحم الإسلامية طائفة من الشعراء على تباين من منهجهم واختلاف في قدراتهم وخيالهم. ومن هؤلاء عامر بحيري في ملحمته "أمير الأنبياء" التي أنشأها عام 1952 وهي تتألف من ألف ومائتي بين تتضمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لدن مولده إلى انتقاله للرفيق الأعلى. وفيها يقول واصفًا نزول الملائكة للقتال في صفوف المسلمين في غزوة بدر: ولاحت في الفضا خيل تحمحم ... وصاح كبيرهم حيزوم أقدم فيالله من مدد رهيب ... أضاء شعاعه والنقع مظلم ملائكة السماء على جياد ... من الأنوار نازلة تدمدم

ترى المتقاتلين ولا يراها ... من الكفار من أجد فيحجم تقدمت الصفوف بلا توان ... تقتل أو تمثل أو تحطم إذا الإسلام أقبل ناصروه ... إلى الأعداء بالعزم المصمم رأوهم ميتين بلا سيوف ... كذلك الخوف إن الخوف يلجم فلم يرموهم والله رام ... ولا هزموا وجند الله يهزم وقد طرق الشعر الملحمى غير هذين الشاعرين: كامل أمين، واليعربي محمد توفيق. واهتم شعراء الجيل الماضي بالمفاسد الاجتماعية التي تناقض تعاليم الدين الإسلامي، وحاولوا الإصلاح والإرشاد ما استطاعوا، كما حاولوا تصوير هذه المفاسد وبشاعتها وضررها البليغ على الأمة. وهكذا نرى عندنا شعرًا يصح أن نسميه شعرًا دينيًّا، منبعثًا عن شعور وعاطفة. ولم تكن مشكلة الفقر، أو النهضة الدينية، أو حجاب المرأة وسفورها هي وحدها المشكلات الاجتماعية التي أثارت شعراءنا، ولكننا نجد بجانب هذا نهضة اقتصادية في البلاد فإن المستعمر لم يدخل مصر إلا لأنها مدينة للأجانب، وكانت مصر حتى ثورة سنة 1919 بقرة حلوبًا لها؛ لا تدري من أمر اقتصادياتها شيئًا، يفد عليها كل أفاق لفظه وطنه، وضاق به، فيثري في بضع سنوات، ويصير من أصحاب الحول والطول في البلاد، ونحن نعيش كالسائمة لا نعرف كيف نستغل خيرات بلادنا، بل نبيعها بثمن بخس دراهم معدودات، ولا كيف نتعامل مع أوربا إلا عن طريق هؤلاء الأجانب، وعمت شركاتهم البلاد، واحتكرت منابع الخير فيها، وما علينا إلا أن ندفع لهم بسخاء ثمن النور والماء، والركوب وغيرها، وممن تنبه لذلك الخطر السيد عبد الله نديم، وقد عرفت في الجزء الأول كيف صور جشع هؤلاء الأجانب، وغبنهم الفاحش للفلاح الساذج، ثم جاء مصطفى كامل وحاول أن ينبه المصريون إلى أن الواجب يقتضي منهم أن ينهضوا باستقلال البلاد اقتصاديًّا، ولكن التعليم الذي فرضه علينا المستعمر لم يكن يهيئ لنا رجالًا صالحين للنهوض بهذا الأمر، حتى شبت الثورة ونهض فريق من رجال

الاقتصاد وعلى رأسهم طلعت حرب، وأبطلوا ذلك السحر الذي نفثه الإنجليز في عقولنا بأننا لا نصلح للأعمال المالية، ولا تصلح بلادنا لنسج القطن، ولا الصوف ولا الحرير، وبأنه لا يوثق بمصري، فهو كسلان، مرتش، مهمل، حتى فقدنا الثقة بأنفسنا، وتحطمت آمالنا. جاء هؤلاء الرجال وبرهنوا على أن إنجلترا كاذبة، وتود أن نظل في ظلام دامس، تستنزف دماءنا، وتهيئ لأبنائها حياة رغيدة في وطنهم، ولو قتلنا الجوع، وأثقل ظهورنا الدين، فأسسنا "بنك مصر" وشركاته العديدة، التي شملت مختلف النواحي الاقتصادية، وكان نجاح هذه المؤسسة وبمؤسسيها. ومن يرجع إلى خطاب سعد زغلول في الجمعية التشريعية1 في مارس 1907، وكيف بين قوة تلك القبضة الأجنبية على مقدرات البلاد الاقتصادية، وأن التعليم في مصر لا بد أن يكون بلغة أجنبية، حتى يستطيع أبناء مصر أن يجدوا عملًا في بلادهم، أدرك مدى ما وصلت إليه مصر وحالتها الاقتصادية من احتلال شنيع واستغلال بشع، وأدرك عظم المسرة التي خامرت نفوس بنيها حين تقدم بعضهم ليشق طريقه، وطريق بلاده في عالم المال، وقد ظل وطننا يعاني عنتَ الشركات الاقتصادية العظيمة التي وثبناها في الربع الثاني من هذا القرن، وبعد ثورة 23 يوليو سنة 1952، وليس الضرر في وجود الشركات الأجنبية ورءوس الأموال الغربية، فإن بلادنا ما زالت في حاجة شديدة إلى هذه الأموال لكثرة ما بها من مشروعات ضخمة تحتاج إلى أموال طائلة وتهدف من ورائها إلى تصنيع البلاد وتقويتها، وزيادة دخل أفرادها، ورفع مستوى معيشتهم، وإنما كان الضرر كامنًا في كثرة الامتيازات التي تمتعت بها هذه الشركات الأجنبية وإعفائها من الضرائب، وعدم عنايتها بتدريب المصريين، وحرصها على إرسال أرباحها إلى خارج مصر. وقد نظم كل هذا الآن كما نهضت شركات مصرية كثيرة يسهم فيها الأجانب بأموالهم.

_ 1 راجع ص43 وما بعدها في هذا الكتاب.

وقد تبين لرجال الثورة المباركة أن رءوس الأموال الأجنبية بمصر تحارب الإصلاح والسير بالوطن قدمًا إلى الأمام، وتتعاون مع الاستعمار وتتخذ مؤسساتها أوكارًا للجاسوسية والخيانة والغدر. فعمدت حكومة الثورة بعد الاعتداء الثلاثي على قناة السويس إلى تأميم كثير من المؤسسات والمصارف الأجنبية، واشترتها الحكومة حتى تتخلص من نير الاقتصاد الأجنبي. واهتمت حكومة الثورة بتصنيع مصر حتى تستقل بشئونها الاقتصادية ولا تظل عالة على سواها، ورأت أن الاستقلال أكبر دعامة للاقتصاد السياسي، وأن الصناعة بمصر في أشد الحاجة إلى توجيه نحو ما نحتاج إليه الأمة في نهضتها، فلا تترك مرتجلة أو خاضعة لنزوات رءوس الأموال، ولذلك أنشأت الجمهورية العربية المتحدة "القطاع العام" في الصناعة، وأممت كثيرًا من المنشآت الصناعية الكبرى، وأسهمت بالنصف في بعضها حتى تضمن التوجيه والإشراف. ومن أهم المشروعات الصناعية الكبرى التي تمت فعلًا توليد الكهرباء من "خزان أسوان" الذي ظل معطلًا أمدًا طويلًا تقف دون تحقيقه أهواء مغرضة، ومن ذلك مصنع "الحديد والصلب" ليمد مصر بالصناعات الثقيلة، والتوسع في استنباط النفط "البترول" وتصنيعه. ويقف على رأس هذه المشروعات "السد العالي" الذي نرجو أن يغير مجرى الحياة في الجمهورية العربية وفي الشرق العربي كله. كما قامت حكومة الثورة بعدة إجراءات ثورية قوية تحاول بها أن تحقق الرخاء للمجموع، وأن يعيش المواطنون حياة ليس فيها هذا التفاوت المزري بين الطبقات، فسنت القوانين الاشتراكية في يوليو 1961؛ لتقريب هذه الفوارق، وإنعاش أكبر عدد من الأمة، وفي ديسمبر 1961 حرمت ملكية الأرض بالجمهورية العربية على غير المصريين ووزعت الأرض التي كان يملكها الأجانب على صغار الفلاحين؛ وبذلك أنقذت الثروة الوطنية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة من أيدي المحتكرين والمرتزقة من الأجانب والمستغلين من المصريين وهو إجراء حاسم كان عرب مصر يحلمون به من زمن طويل حتى يستطيعوا أن

يعيشوا أحرارًا في بلادهم غير خاضعين لهذه الأغلال الاقتصادية، وغير مقيدين في تصرفاتهم الوطنية. فلا عجب إذن حين نرى شعراءنا نقيض بهم العاطفة فيقولون في "بنك مصر"، وفي مشروع القرش، وفي أول سرب من طياري مصر، وفي طليعة الملاحة المصرية، وفي مصنع النسيج بالمحلة، وغير ذلك من مظاهر النهضة الاقتصادية، والتي هي من أكبر دعائم الاستقلال، فقد كانت هذه الحقبة مليئة بعوامل اليقظة والرقي في كل ميدان من ميادين الحياة في السياسة، والاجتماع، والقومية بمظاهرها العديدة، وقد سجل الشعراء كل هذه المظاهر في شعرهم يترجمون به عما يختلج في صدور الأمة، ويطلبون المزيد منها لأنهم نصبوا أنفسهم في مقام الهداة والمرشدين، وقادة الفكر المصلحين، ويصدرون فيه عاطفة غالبًا، وعن تكلف أحيانًا، وقد تعدوا الكلام في هذه المظاهر إلى رثاء عظماء الأمة في كل نواحي نشاطها، سواء كانوا رجال سياسة، أو دين، أو صحافة، أو إصلاح، أو اقتصاد، حتى صار شعرهم وثيقة تاريخية، وصورة لعصرهم الذين عاشوا فيه. وقد لا يرضى عن ذلك أصحاب المدرسة الجديدة، ولكنهم على الرغم منهم اضطروا إلى مشاركة الأمة في عواطفها، وإلى تغذية هذه العاطفة، وقد لا يكون هذا النوع من الشعر جاريًا على نمط الشعر الغربي الحديث، ولكنا أمة لها ظروفها الخاصة، وفي يده نهضة عامة شاملة، وفي أمس الحاجة إلى من يشجع المكافحين في سبيل مجدها أحياء، ويجعلهم مثلًا طيبًا لمن بعدهم أمواتًا. كنت أود أن أسوق نماذج على كل لون من ألوان الحياة الاجتماعية، وأن أتعقب الشعراء واحدًا واحدًا كما فعلت في الشعر السياسي، بيد أنني أوثر هنا أن أكتفي بهذا التعميم، مرجئًا الأمثلة إلى حين الكلام عن الشعراء، وحسبنا أن نعرف الخطوط العريضة للعوامل الاجتماعية المؤثرة في الشعر الحديث، وهي لا تقل في قوة تأثيرها عن العامل السياسي بل ربما فاقته؛ لأن الأمة كانت حقًّا في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الاجتماعي بعد أن طالبت هجعتها، وعمل المستعمر على أن تظل في تلك الهجعة.

الفصل الثالث: النقد الأدبي

3- الفصل الثالث: النقد الأدبي لقد خطا البارودي بالشعر خطوة قوية عظيمة كما عرفت، أعاد للشعر ديباجته المشرقة، ومتانته الرائقة، ورجع به إلى عصر ازدهاره أيام العباسيين، وسار على نمطهم في موضوعه، وقالبه، ومعانيه، وحذا حذو البارودي الشعراء الذين أتوا بعده، وكان تأثيره فيهم جليلًا قويًّا؛ لأنه شاعر معاصر، ضرب لهم مثلًا صادقًا فيكيف يكونون شعراء بحفظهم من جيد الأدب القديم، ثم معارضته وتقليده، ثم الاستقلال عنه وظهور شخصيتهم؛ ولم يعد أحد منهم تساوره نفسه لتقليد شعراء الضعف أيام المماليك والعثمانيين، والاهتمام بالمحسنات والحلى والزخارف، إلا من باب رياضة القريحة، أو العجز عن التخلص من تقاليد الشعر البالي كما فعل إسماعيل صبري لأول عهده بقرض الشعر، فكان يجيد التاريخ الشعري، ويهتم بعض الاهتمام بالمحسنات، إلى أن استطاع الوقوف وحده، فهجر ذلك كله1. وقد ظهرت طائفة من الأدباء والملمين بأصول اللغة العربية، وعلومها في أخريات القرن الماضي حاولوا تجديد النقد الأدبي كما عرفه القدماء، وتطبيق النظريات العربية في النقد كما عرفها نقاد العصر العباسي على الشعر الحديث. وأول من خطا خطوة جدية في هذا الباب هو الشيخ حسين المرصفي صاحب "الوسيلة الأدبية"، وقد عرض علوم العربية عرضًا جديدًا بأسلوب جديد وبخاصة علوم البلاغة مبينًا منزلة كل منها في نقد الكلام. ولم يكتف بهذا بل حاول التطبيق النقدي، وصح كثيرًا مما أخطأ فيه القدماء، وكان له ذوق مرهف لمعرفة مواطن الحسن في الكلام، ويبدأ نقده بتفسير الكلمات اللغوية حتى يتضح المعنى ولا يجعل من النحو والبلاغة غاية في النقد وإنما هي عنده وسيلة لمعرفة الصور وجلائها وإيضاح مكامن البلاغة في

_ 1 راجع مقدمة ديوان صبري للدكتور طه حسين، والأستاذ أحمد أمين.

القول، ولذلك نراه ينتقد معاصريه، والسابقين عليه في طريقة دراستهم للبلاغة وفهمهم لمقصدها، فلا ينبغي لهم الاقتصار على قولهم: "كذا يشبه كذا كذا أو استعار كذا ولكذا"، وإنما يجب على الناقد. أن يقف القارئ على مواطن الحسن في العبارة. ومن أمثلة نقده كلامه على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم} ، الختم: الطبع، ويدل على تشبيه القلوب بصناديق مثلًا، ففي الكلام استعارة مكنية وقرينتها لفظ ختم، فيفيد الكلام أنه بمنزلة الجمادات بحيث أنها لو كان فيها شيء لم تكن منتفعة به، وقد جعلت بحيث لا يمكن أن يدخل فيها شيء، فلا يطمع طامع في إيمانهم. وعنده أنه ليس كل كلام تحققت فيه أركان قسم من أقسام فنون البلاغة يعد بليغًا فيقول: ليس كل ما فيه الكاف أو كأن يعد في نظر أهل صناعة الكلام العارفين بها، الواقفين على أسرارها، والملتفتين إلى دقائقها -تشبيهًا، وإنما التشبيه ما جلت فائدته وحسن موقعه من عرضه. وإن أحسن التشبيه والاستعارة ما وقع موقعه من غرض تصوير حال المشبه أو المستعار له، والإبانة عنها بجزيل العبارة ولطف السياق بحيث لا يكون قصد المتكلم إلى مجرد التشبيه والاستعارة كما هو كثير من كلام المولدين1. ويورد المرصفي نماذج عدة من الكلام البليغ، ويبين مواطن البلاغة فيها، ولم يقتصر في أمثلته على عصر، وإنما أورد نماذج تبين مختلف العصور والتطور البلاغي محللًا بعضها تحليلًا دقيقًا. وهو يعتمد في كثير من الأحيان على ذوقه، وتمرسه بأساليب العرب الأقدمين. وحفظه للجيد من كلامهم؛ ولذلك كان معجبًا بالبارودي لأنه لم يتلق علوم العربية على مدرس، وإنما اكتسب الملكة البيانية من حفظه للجيد من النثر والشعر في عصورهما الذهبية، ولكن اعتماد المرصفي على ذوقه لم ينسه القواعد والأصول لعلوم العربية، وإذا خرج الأديب

_ 1 الوصيلة الأدبية ج2 ص17، 24.

على الأصول خرج من ميدان اللغة العربية أصلًا؛ لأن الوقوف على ما تعارف عليه العرب شرط أساسي لا يمكن الاستغناء عنه ما دام المراد هو التكلم بلغتهم. ولم يكتف المرصفي بالتجديد في النظرة إلى علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة، وبيان الغاية منها، ولكنه تكلم عن "كتابة الإنشاء أو صناعة الترسل"، وكذلك ما سماه "صناعة الشعر" واتبع في معالجتها ما أتبعه في معالجة البلاغة من الاعتماد على الذوق والمعرفة معًا. ومقياس الجودة عنده: "صحة المعنى وشرفه، وتخير الألفاظ في أنفسها، ومن جهة تجاورها، وموافقتها للمقام، وإجادة التركيب على ما شرح في علم المعاني وغيره، بحيث تكون الألفاظ سلسلة في النطق خالية من التنافر وشدة الغرابة، يألف بعضها بعضًا: حتى تكون الكلمات المتوالية بمنزلة كلمة واحدة، وتكون الألفاظ التي توردها في مقام الحماسة ليست كالألفاظ التي توردها في مقام الغزل والتشبيب، فلكل فن من تلك الفنون ألفاظ توافقه من جهة شدتها ولينها تسمعهم يقولون: الجزل الرقيق1". وجاء بعد المرصفي جماعة ساروا على نهجه في الإفادة من العلوم في فهم النص وشرحه ونقده على طريقة القدماء، منهم الشيخ حمزة فتح الله في "المواهب الفتحية" مع زيادة اهتمام بالنحو واللغة، ومنهم الشيخ المهدي وحفني ناصف في دروسهما بالجامعة المصرية القديمة مع اهتمام أولهما بتاريخ الأدب وثانيهما بدراسة النصوص الأدبية على الطريقة القديمة. وقد اشتهر من النقاد الذين سلكوا مسلك السلف في النظرة إلى الشعر وطبقوا قواعد البلاغة القديمة في النقد: إبراهيم المويلحي، ولم يروجوا في نقدم لمذاهب جديدة في الأدب، أو ينموا على تأثر بتيارات الأدب الغربي وإنما ينظرون إلى اللفظ من حيث جودته وصحته وعدم تعاضل حروفه وانسجامه مع غيره وأدائه للمعنى، وينظرون إلى المعنى من حيث الإحالة والتعسف والخطأ والوهم

_ 1 الوسيلة الأدبية ج2 ص463.

وما شاكل ذلك مما كان مألوفًا في النقد والمقاييس البلاغية المعروفة عند العرب. ومن أمثلة هذا نقد محمد المويلحي لديوان شوقي ومنه نقده المشهور: خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن النثاء "فقوله: خدعوها يفهم منه أن المشبب بها غير حسناء؛ لأن الخداع لا يكون بالحقيقة، وإذا أردت أن تخدع الشوهاء فقل لها حسناء وهو ينافي قوله في البيت الثاني: ما تراها تناسب اسمي لما ... كثر في غرامها الأسماء وخدعوها بمعنى حتلوها وأرادوا بها المكروه من حيث لا تعلمه". وقد جرى على هذا النهج كل النقاد حتى أولئك الذين نادوا بالتجديد في الأدب، ودعوا إلى بعض المذاهب الغربية، كانوا في النقد التطبيقي ينظرون إلى البيت الشعري في كثير من الأحيان بمقاييس البلاغة القديمة ترى ذلك عند الرافعي في نقده لشوقي، والعقاد وطه حسين في نقدهما لحافظ وشوقي، والعقاد في نقده للرافعي، والمازني في نقده لشكري، وإن كان للمجددين نظرات أخرى في القصيدة كلها من حيث بنائها ووحدتها وموضوعها وما بها من عاطفة وخيال كما سيأتي. وكأني بهذه المدرسة المحافظة التقليدية الجديدة كانت تشعر بزحمة التيار الغربي وقوته، وأنه يحاول أن يعطي للشعر مفهومًا جديدًا ويحول مجراه القديم إلى مجرى آخر، فراح كل شاعر يقدم ديوانه بمقدمة يعرف فيها الشعر ويضع أسسه وأركانه وشروطه التي يصح بها، وهي تعاريف فيها شيء من الجدة والطرافة والخروج عن مفهوم الشعر في عصور الضعف والانحلال، ومحاولة الأخذ من الآراء الجديدة في الشعر كما عرفه الغربيون بالقدر الذي يتفق مع حقيقة الشعر ورسالته كما عرفه العرب وهم في عنفوان مجدهم. وكأن أول من سن هذه السنة في العصر الحديث "البارودي"، وقد أتينا في الجزء الأول من هذا الكتاب على تعريفه للشعر وظهر لنا من مناقشته أنه لم يخرج به عن مفهوم العرب له.

وهاك بعضًا من هذه التعريفات التي ظهرت في هذه الحقبة القلقة، في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، قبل أن يشتد التيار الغربي، وتظهر المدارس الجديدة المتأثرة به. من ذلك تعريف الأمير شكيب أرسلان للشعر، وشكيب أرسلان شاعر تقليدي على الرغم من إجادته الفرنسية وقراءته بها، وقد حاول أن يوائم بين القديم والنزعات التجديدية حيث يقول: "إن الشعر قوة روحية يفيضها الله على من يشاء من عباده فتحلق بالشاعر تحليق الأجنحة بالطائر، فيرى الطبيعة في أفخم مشاهدها، وأشمخ شرفاتها، وأبقى مجاليها وأشجى أصواته، وأذكى أعرافها". فهو يرى الشعر ابن الخيال، والطبيعة مصدر الإلهام، كما يرى أن الشعر الحق لا بد من أن يصدر عن انفعال نفسي يعتلج في صدر الشاعر ويدفعه إلى القول وتخير سنى الكلام للتعبير عن هذه المشاعر القوية. "وإذا تغلغل الشاعر في أنحاء النفس وأنحاء القلب، وهام في أودية الانفعال أخذ يؤدي من هناك ما يلقيه إليه مضاعفًا: هوى ملح وشوق هاف وحب شاغف، وتمن واصب، وتوسل هالع، ورغبة ورهبة، وإيمان كإيمان العجائز، ثم آب من أودية إحساساته وأعطاف فراساته مفضيًا بذلك إلى سامعيه -أشجى وأصبى، وأرقص وأبكى". وهو يقول بعد تأكيده منزلة العاطفة في الشعر حتى يأتي صادقًا طبيعيًّا لا وليد التكلف والصنعة بأن الشاعر في حل إذا بالغ وصور الطبيعة أبهى مما هي وأجمل مما هي. ويؤكد كذلك قيمة الفكرة في الشعر، وبذلك يستوفي أركانه وشروطه. "فالشعر إذن مظهر المرء في أسمى خواطر فكره، وأقصى عواطف قلبه، وأبعد مرامي إدراكه، والشعر هو رؤية الإنسان الطبيعية بمرآة طبعه، فهو شعور عام، وحس مستغرق يأخذ المرء بكليته ويتناوله بجميع خصائصه. حتى يروح

نشوان خمرته وأسير رايته ويريه الأشياء أضعافًا مضاعفة، ويصورها بألوان ساطعة وحلى مؤثرة تفوق الحقائق، وربما أزرت بها، وصرفت النفس عن النظر إليها، فهو أحيانًا أحسن من الحسن وأجمل من الجمال، وأشجع من الشجاعة، وأعف من العفاف، وإن الظبي في قصيدة غير الظبي في فلاة، بل غير الظبي في ملاءة، وإن الأسد في منظومه غير الأسد في مفازة، وذلك حيث كان الشعر كلامًا يلقى بلسان الإحساس، ونطقًا ينزل عن وحي المخيلة، وأوصافًا يفضي بها الشوق، وإنما كانت المبالغة زيادة على الحقيقة لتمكن السامع من الوصول إلى مقدار الحق، والحرص على ألا ينقطع منه قسم على طريق الإلقاء، وفي أثناء الانتقال، فكأن هذه الزيادة جعلت لتملأ الفراغ الواقع بين المدرك والمدرك حتى لا يصل إلى الذهن إلا كاملًا بكل قوته، ولا يحل في العقل إلا بجميع حاشيته1. ومع أن هذا التعريف وصل إلى درجة كبيرة في فهم حقيقة الشعر وشروطه التي تهيئ له الصحة والجودة، إلا أنه سار في الإطار الذي وضعه العرب للشعر الغنائي مع نظرة جديدة أطلت على الشعر الغربي من بعيد. وهاك رأيًّا لأتديب ذواقة، اشتهر بالنثر والشعر معًا، وإن كان قد احتل في النثر الحديث منزلة الرائد إلى أسلوب جديد، وهو وإن لم ينل حظًا من الثقافات الأجنبية بيد أنه لسلامة طبعه وأصالة ذوقه، ورقة حسه، وكثرة إطلاعه على ما ترجم استطاع أن يقرب إلى حد كبير من التعريف الصحيح للشعر، ذلك هو المنفلوطي. فهو يرى أولًا أن الشعر فمن من الفنون الجميلة يجب أن يأتي وليد الطبع والشعور2: "وهل الشعر إلا نثارة من الدر وينظمها الناظم إن شاء شعرًا. وينثرها الناثر إن شاء نثرًا أو نغمة من نغمات الموسيقى يسمعها السامع مرة من أفواه البلابل والحمائم، وأخرى من أوتار العيدان والمزاهر، أو عالم من عوالم الخيال يطير بقادمتين من عروض وقافية، أو خافيتين من فقر وأسجاع". ويجهر المنفلوطي برأي جديد في الوزن والقافية وأنهما لا يمتان إلى جوهر الشعر إلا بمقدار ما ينتمي الصبغ واللوم إلى النسيج، وأن الغناء والحداء هو الذي أوحى بهما أول الأمر ولكن:

_ 1 مختارات المنفلوطي من ص121- 224. 2 المصدر السابق ص51.

"الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه وأطواره، ولا علاقة بينهما وبين جوهره وحقيقته، ولولا أن غريزة في النفس أن يردد القائل ما يقول ويتغنى بما يردد ترويحًا عن نفسه، وتطريبًا لعاطفته ما نظم ناظم شعرًا، ولا روى عروضي بحرًا. الشعر أمر وراء الأنغام والأوزان، وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلي في جيد الغانية الحسناء، أو الوشي في ثوب الديباج المعلم، فكما أن الغائية لا يحزنها عطل جيدها، والديباج لا يزري به أنه غير معلم كذلك الشعر لا يذهب بحسنه وروائه أنه غير منظوم ولا موزون". وهذا رأي في غاية الجرأة من جهة محافظة لم يقل به حتى أولئك الذين ينادون اليوم بالشعر الحر، فإنهم يحرصون على وجود نوع من النغم ممثلًا في "التفعلية". ولعل المنفلوطي الكاتب العاطفي الذي اشتهر أول أمره بالشعر، ثم عدل عنه إلى النثر الفني حين وجده أضيق من أن يتسع لأفكاره وعواطفه، يريد أن يعد بنثره في زمرة الشعراء ولو لم يأت بالموزون المقفى. فالنغم شرط أساس في الشعر لا يسمى شعرًا إلا به، وهو صناعة دقيقة يظهر فيها الخلل اليسير، ولا يتحمل السخف والهذر. ولعل المنفلوطي كذلك كان يظهر إلى هؤلاء النظامين الذين لا يعرفون ماهية الشعر وجوهره، ويأتون بالغث من الكلام، وهو وإن كان منظومًا إلا أنه خال من كل أركان الشعر، عار عن شروطه، وأصوله، فلا عاطفة ولا يخال ولا سمو تعبير، والصلة بين الشعر والوزن هي التي جعلت بعض الناس يدخلون في باب الشعر كل منظوم وإن خلا من سمات الشعر الأصيلة فيقول المنفلوطي: "تلك الصلة هي التي خلطت بينهما وعمت على كثير من الناس أمرهما، وهي التي أدخلت النظامين في عداد الشعراء وألقت عليهم جميعًا رداء واحدًا لا يستطيع معه التمييز بينها إلا لقليل من الناقدين المستبصرين، فأصبحنا نقرأ القصيدة ذات المائة بيت فلا نجد بيتًا، ونتصفح الديوان ذا المائة قصيدة فلا نعثر

على قصيدة"، ويجمل المنفلوطي بعد ذلك رأيه في الشعر وتعريفه محددًا شروطه ومعالمه بقوله: "وعندي أن أفضل تعريف له أنه تصوير ناطق؛ لأن القاعدة المطردة هي التأثير، وميزان جودته ما يترك في النفس من الأثر، وسر ذلك التأثير أن الشاعر يتمكن ببراعة أسلوبه وقوة خياله، ودقة مسلكه وسعة حيلته من هتك ذلك الستار المسبل دون قلبه وتصوير ما في نفسه للسامع تصويرًا يكاد يراه بعينه ويلمسه ببنانه، فيصبح شريكه في حسه ووجدانه يبكي لبكائه ويضحك لضحكه ويغضب لغضبه، ويطرب لطربه ويطير معه في الفضاء الواسع من الخيال فيرى الطبيعة بأرضها وسمائها وشموسها وأقمارها ورياضتها وأزهارها وسهولها وجبالها وصادحها وباغمها وناطقها وصامتها من حيث لا ينقل إلى ذلك قدمًا". وهو بهذا قد فطن إلى أن الغاية من الأدب هي نقل الأثر الذي يحسه الأديب إلى السامع أو القارئ ومشاركته في أحاسيسه كأنه مع وعانى تجربته. ولا شك أن هذه لمحات جيدة من هؤلاء الأدباء كان لها أثرها الفعال في القضاء على أدعياء الشعر، وفي دفعة نحو القوة والجزالة والصدق، ولكنهم لم يخرجوا عن دائرة الشعر العربي القديم في أغراضه وفي موضوعاته، ولم يأتوا بنظريات جديدة، وإن قاموا بعرض القديم عرضًا طريفًا يتناسب مع الثقافة المعاصرة لهم وانتشار التراجم العربية بين أيديهم. ولا يخرج عن مثل هذه النظرة ما قاله إبراهيم المويلحي في تعريفه للشعر وبيان جوهر1، وسنعرض لرأي الرافعي في الشعر عند الكلام عنه في هذا الفصل إن شاء الله. ولكن ثمة عوامل كثيرة دعت الشعراء الذين ساروا على نهج الشعر العربي القديم في أغراضه، وفي نظام القصيدة وفي المعاني، والأخيلة، أن يسلكوا بالشعر طريقًا جديدة. ولقد بينا فيما سبق بعض هذه العوامل، من تأثر بالثقافة الأجنبية ثم تأثر بالنهضة القومية.

_ 1 مختارات المنفلوطي ص203.

ومن العوامل القوية ذات الأثر الفعال في توجيه الشعر: النقد الأدبي الحديث وإلحاج النقاد المتواصل في أن يعدل الشعراء عن المنهج القديم، ويجعلوا شعرهم مناسبًا لبيئتهم وزمانهم، وأن يجددوا فيه بما يناسب الحضارة التي ينعمون بها، ويرون آثارها في الأفكار والحياة المدنية، وقد قسوا أحيانًا في نقدهم الشعراء علهم يتفرون من طريقتهم الأولى، وإن لم يخل بعض نقدهم من أغراض خاصة، وحزازات شخصية وتحامل، ولكنه كان في جملته موجهًا للشعر الحديث توجيهًا جديدًا. ومن بواكير ذلك النقد الأدبي ما سطره أحمد فارس الشدياق عن نفسه حينما مدح أحمد باشا وإلى تونس بقصيدة ابتداها بالنسيب على عادة العرب، وترجمها مسيو "دوكان"، ودهش الفرنسيون، من بدئها بذكر المرأة، واستطرد الشدياق في تبيان الفرق بين الشعر الغربي والشعر العربي على نحو ما فصلناه في الجزء الأول1. ولكن الشعراء لم يلتفتوا إلى هذا النقد وهذا التوجيه لأنه كان سابقًا لزمنه ولم تتهيأ العقول بعد لتعمل به، وظل كثير منهم في العقد الأخير من القرن التاسع عشر يوالي قرض الشعر بأغراضه القديم، ومعانيه المستقاة من الأدب العربي القديم، وبنفس الأسلوب الذي اختطه شعراء الجاهلية، وإن أثارت الأغراض القومية الشعراء، ونظموا في الشعر السياسي، وتبيان مآسي الشعب وآلامه، وآماله؛ بيد أنهم لم يقلعوا جملة عن المديح والرثاء في مختلف المناسبات. ويوجه أحد رجالات السياسة، وزعماء الوطنية نقدًا لبعض الشعراء الذي كان يسمعه في ذلك الوقت، وذلك السياسي، وهو المرحوم محمد فريد "بك" في المقدمة التي كتبها لديوان "وطنيتي" الذي نظمه الأستاذ على القاياتي، وحبس من أجلها ستة أشهر، كما حبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر لأنه كتب مقدمة أخرى لهذا الديوان، وتلك المقدمة التي كتبها محمد فريد فيها توجيه سديد للشعر نحو

_ 1 راجع في الأدب الحديث الجزء الأول 84- 85 طـ سابقة.

الأغراض القومية، وقد قال فيها: "الشعر من أفعل المؤثرات في إيقاظ الأمم من سباتها وبث روح الحياة فيها، كما أنه من المشجعات على القتال، وبث حب الإقدام والمخاطرة بالنفس في الحروب، ولذلك نجد الأشعار الحماسية من قديم الزمان شائعة لدى العرب وغيرهم من الأمم المجيدة كالرومان واليونان وغيرهم. وليس من ينكر أن الأنشود الفرنسية التي أنشأها الضابط الفرنسي "روجيه دي ليل" وسميت المارسيليز كانت أقوى أسباب انتصار فرنسا على ملوك أوربا، الذين تألبوا عليها لإخماد روح الحرية في مبدأ ظهورها. لذلك كتب الكثيرون منا كثيرًا في ضرورة وضع القصائد، والأغاني الوطنية ليحفظها الصغار، ويتغنوا بها في أوقات فراغهم، ولينشدوها في ساعات لعبهم، بدل هذه الأغاني والأناشيد التي يرددها الأطفال في الأزقة خصوصًا في ليالي رمضان المبارك، كما كتبوا في لزوم تغيير الأغاني التي تنشد في الأفراح، وكلها دائرة حول نقطة واحدة هي الغرام ووصف المحبوب بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان. لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد سواء في الغرب أو في الشرق إماتة الشعر الحماسي، وحمل الشعراء بالعطايا والمنح على وضع قصائد المدح البارد، والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء، وابتعادهم عن كل ما يربي النفوس، ويغرس فيها حب الحرية والاستقلال كما كان من نتائج هذا الاستبداد خول خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع، حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد في الدنيا، والحض على الكسل، وانتظار الرزق بلا سعي ولا عمل. تنبهت لذلك الأمم المغلوبة على أمرها، فجعلت من أول مبادئها وضع القصائد الوطنية والأناشيد الحماسية باللغة الفصحى للطبقة المتعلمة، وباللغة العامية لطبقات الزراع والصناع. وسواهم من العمال غير المتعلمين، فكان ذلك من أكبر العوامل على بث روح الوطنية بين جميع الطبقات، ويسرني أن هذه النهضة المباركة سرت في بلادنا فترك أغلب الشعراء نظم قصائد المديح للأمراء

والحكام، وصرفوا همهم، واستعملوا مواهبهم في وضع الأشعار الوطنية وإرسالها في وصف الشئون السياسية التي تشغل الرأي العام، وقد لاحت "وطنيتي" في طليعة هذه النهضة الميمونة. ومما يزيد سروري أن شعراء الأرياف وضعوا عدة أناشيد وأغانٍ في مأساة "دنشواي" وما نشأ عنها. وفي المرحوم مصطفى باشا كامل، ومجهوداته الوطنية، وفي موضوع قناة السويس، وأخذوا ينشدونها في سمرهم وأفراحهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة، وهي حركة مباركة إن شاء لله تدل على أن مجهودات الوطنيين قد أثمرت، ووصل تأثيرها إلى أعماق القلوب في جميع طبقات الأمة، وتبشر باقتراب زمن الاستقلال، والتخلص من سلطة الفرد بإذن الله. فعلى حضرات الشعراء أن يقعلوا عن عادة وضع قصائد المديح في أيام معلومة، ومواسم معدودة، وأن يستعملوا هذه المواهب الربانية العالمية في خدمة الأمة وتربيتها بدل أن يصرفوها في خدمة الأغنياء، وتملق الأمراء، والتقرب من الوزراء، فالحكام زائلون، والأمة باقية1. إن هذا النداء الذي يوجهه زعيم سياسي للأدباء لدليل قوي على مبلغ ما يشعر به من فائدة الأدب الحي، والشعر الحماسي، وما عساه أن يفعله في نفسية شعب أرهقها المحتل، وأذلها واعتصر منها ماء الحياة والعزة؛ وأنه يريد من الشعر أن يؤدي رسالة الوطنية والقومية، وأن يلهب بحرارته تلك النفوس الميتة، حتى تشتعل، وتحرق بحرارة إيمانها، وقوة يقينها بحقها في الحرية سطوة الغاصب، وتذيب حديده ومدافعه. وكم من أمة بليت بما ابتليت به مصر من محنة الاحتلال، وسامها أعداؤها الهوان والخسف، ولقنت صغارها تلك الأناشيد الوطنية، التي تنفث في قلوبهم كراهية هذا العدو الغشوم، فكبروا وكبر معهم مقتهم لهذا الذي حرمهم ألذ ما تطمح إليه الإنسانية وهو الحرية فحركهم شعور واحد هو الحقد والبغض، وويل للعدو -مهما أوتي من البطش والسيطرة- إذا

_ 1 راجع محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص188.

تجمعت عليه أمة تنبعث كل حركاتها عن كراهية له وحقد عليه، وتصمم في إرادة لا تفل، وعزيمة لا تكل، على طرده، وتحطيم أغلاله، فعلت هذا "أيرلندا" و"بولندا" وغيرهما من الشعوب التي نكبت في استقلالها حينًا من الدهر. إنه كذلك يريد أن ينصرف الشعراء عن تمجيد الفرد إلى تمجيد الأمة، وإذا كان العرب قديمًا قد توجهوا بمديحهم للأفراد أمراء وخلفاء فلأن هؤلاء، وكانوا عنوان عزتهم، ومصدر فخارهم، وقادة لشعب حر مستقل لم يعرف العبودية والذلة؛ ولأنهم كانوا يمجدون فيهم صفات النبل والكرم والشجاعة ليكونوا مثلًا أعلى لشعوبهم1، ثم إنهم لم يكونوا في حاجة إلى تلك الأناشيد الحماسية، والشعر الوطني، وهم يتمتعون بالاستقلال والحرية ولكننا في أمس الحاجة إلى مثل هذا اللون من الشعر. وقد كانت الحقبة التي ظهر فيها مصطفى كامل ومحمد فريد حقبة يقظة قومية، وقد لبى الشعراء نداء الوطن، ووصفوا آلامه وعبروا عن مشاعره وآماله، كما مر بك، ولكن الزعيم السياسي يرحب بديوان "وطنيتي" لأنه حوى شعرًا يعلي شأن الوطن في النفوس، ويوحي إليها بكراهية المحتل، والعمل على مقاومته وطرده، وهذا هو السبب في أنهم صادروا الديوان، وسجنوا فريدًا ستة أشهر وعبد العزيز جاويش ثلاثة أشهر. كانت هذه الصيحة صيحة زعيم سياسي ربما لم يتح له أن يدرس الأدب الغربي دراسة عميقة أو أن يشغل به ولقد خاض في حديث الشعر والتجديد فيه عدد غير قليل من النقاد الذين تأثروا بالأدب الغربي. ودرسوه في مواطنه قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، درسوا الأدب التي كان موجودًا قبل الحرب لا الذي جد في خلالها وعقب انتهائها؛ لأن هذا الأخير كان أدبًا تافهًا يرمي إلى الترويح عن تلك النفوس التي اصطلت بنار الحرب أربع سنين كاملة، والتي شاهدت

_ 1 انظر ص68، 69 من هذا الكتاب.

المئات والألوف والملايين تحصد حصدًا، والمدن تدمر تدميرًا، فصارت لا تؤمن بالمثل العليا، والقيم الأخلاقية، ولا يبقى على شيء من الفضائل، إذ لا فائدة من هذا كله والحرب تحطم كل شيء فالأولى لهذه البشرية أن تقبل عن اللذات بنهم، وتتزود منها ما استطاعت قبل أن تذهب إلى جحيم الحرب، وأخذ الأدباء -للأسف- في أوربا يتملقون تلك النزعات، ويغذونها بأدب رخيص كله شهوة عارمة، ولذة تافهة. تأثير بعض نقادنا بكبار الأباء الأوربيين الذين لم يشاهدوا تلك الحركات الهداية لمعنويات البشرية وحضارتها، ورجعوا يدعون قومهم إلى أن يجددوا في أدبهم، وأن يجعلوه ممثلًا لعصرهم وبيئتهم والحضارة التي يتقلبون في أحضانها. دعوا إلى الثورة في الأدب شعرًا ونثرًا، والذي يعنينا الآن هو الشعر، فلم تكن الثورة على الغرض وحده كما رأيت عند محمد فريد، ولكن الثورة كانت على لغته، وعلى أسلوبه، وعلى معانيه، وعلى أغراضه، وأن نقتفي في شعرنا آثار الشعر الغربي في كل هذا. وقد حاول الشيخ نجيب الحداد1 أن يوازن بين الشعرالعربي والغرب في اللفظ، والقافية، والمعنى، وليضع أمام المجددين حقائق عن الشعر الغربي يسيرون على هديها وبين أن وزن الشعر عندنا يختلف عن وزنه عندهم، فالشعر العربي يعتمد على التفاعيل، والشعر الغربي يعتمد على "الأهجية اللفظية" وهي كل نبرة صوتية تعتمد على حرف من حروف المد، سواء كل ذلك الحرف وحده، أو مقترنًا بحرف صحيح، ويسمون هذه الأهجية "أقدامًا" وأطو لها ما تركب من اثني عشر هجاء، وأقصرها من هجاء واحد، ويجوز للشاعر أن ينظم القطعة بحيث يكون أول أبياتها اثني عشر هجاء واحد، وينزل بها تدريجًا إلى هجاء واحد، كالحال في بعض الموشحات، وثمة فرق آخر وهو أنهم يصلون بين البيتين في المعنى واللفظ، وقد كان هذا عيبًا عند العرب، ولقد عابوا النابغة الذبياني لقوله:

_ 1 أديب سوري استوطن مصر منذ طفولته، ولد سنة 1867، وهاجر إلى مصر مع أهله سنة 1873، وتعلم في الفرير؛ ثم عاد إلى بيروت وتخرج على خاليه إبراهيم وخليل اليازجي واشتغل بالصحافة والأدب فكان محررًا بالأهرام، ثم تحولت أسبوعية واشتهر بالتعريب، وتأليف الروايات، وهو شاعر عصري مجدد ممتاز، ومن رواياته المترجمة "غصن البان"، ورواية "الفرسان الثلاثة" توفي سنة 1899، وقد طبع ديوانه مرتين.

وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني شهدت لهم مواقف صادقات ... أتيتهم بصدق الود مني وقيام الوزن في الشعر الغربي على عدد الأهجية مما يسهل نظمه كثيرًا، ويبيح للشاعر أن يقدم ويؤخر في ألفاظ البيت ما شاء، ويضع في أثنائه اللفظة التي يريدها ولا يختل معه الوزن، وعلى العكس من ذلك الشعر العربي الذي يعتمد وزنه على التفاعيل من الأسباب والأوتاد، فإن تقديم الحرف الواحد أو تأخيره فيه قد يؤدي إلى اختلال الوزن بجملته، أو نقل البيت من بحر إلى بحر. والقافية في الشعر الغربي لا تلزم في أكثر من بيتين، ولذلك كان شعرهم كالأراجيز عندنا، ولهم فيها قيد آخر هو تقسيم القافية إلى مذكرة ومؤنثة ويتطلبون أن تكون كل قوافي القصيدة مؤنثة فمذكرة على التوالي بحث لا يتوالى بيتان على قافية مذكرة أو مؤنثة ويريدون بالقافية المؤنثة ما كانت مختومة بحرف علة، وبالمذكرة ما كانت مختومة بحرف صحيح1 ومع أن القافية لا تلزم في أكثر من بيتين فقد برم بها كثير من شعرائهم، حتى تخلص بعضهم منها وأوجد ما يسمى بالشعر المرسل أو "الأبيض" لا يلتزمون فيه قافية، ولا يتقيدون بغير وزن، وهو شائع في الشعر الإنجليزي، ومنه معظم شعر شكسبير المسرحي، ينظمون المقطوعة الواحدة من الشعر على عدة أوزان مختلفة، ولا تنطبق في مجموعها على الذوق السماعي، كما يوجد عندنا في بعض الموشحات. أما ما يميز شعرهم من جهة المعنى فهم يلتزمون الحقائق في نظمهم التزامًا شديدًا، ويبعدون عن المبالغة والإطراء بعدًا شاسعًا، فلا تكاد تجد لهم غلوًّا، ولا إغراقًا، ولا تشبيهًا بعيدًا، ولا استعارة خفية، ولا خروجًا عن الحد الجائز المقبول من المعاني الشعرية وهم في هذا أشبه ما يكونون بشعراء العصر

_ 1 هذا في مثل اللغة الفرنسية التي تقسم كل الكلمات إلى مذكر ومؤنث، أما الإنجليزية فهناك مذكر ومؤنث. ومحايد وذلك في الأشياء كباب ونافذة.

الجاهلي، فأحسن الشعر عندهم أصدقه، وهم لا يقدمون بين يدي أغراضهم نسيبًا أو غيره، ولا يفتخرون في شعرهم إلا نادرًا. ومما انفردوا به كذلك وضع الروايات التمثيلية شعرًا، وقد مكنهم هذا من التحليل والتطويل، وإظهار شخصيات عدة، وصور متباينة من العادات والأخلاق والأشخاص1" وهذا النقد، أو التعريض بخصائص الشعر الغربي جعل بعض الشعراء يحاولون الخروج على تقاليد الشعر القديم، بل إن بعضهم حاول النظم بالشعر المرسل، والذين تجرءوا على هذا أغلبهم من شعراء المهجر وقلة من أدباء مصر منهم عبد الرحمن شكري وقد نظم به قصيدته "كلمات العواطف" التي أنهى بها الجزء الأول من ديوانه "ضوء الفجر" وقد جاءت مفككة النسج، كل بيت منها لا يكاد يتصل بما قبله أو بعده، ولم يكن ثمة ضرورة لأن يهجر القافية إذ لم تكن قصة طويلة متلاحمة النسج قد تتعثر فيها القافية. كما نجد له من هذا النوع أقصوصتين في الجزء الثاني إحداهما "واقعة أبي قير" والثانية "نابليون والساحر المصري" وقد وفينا الكلام عن شكري حقه في غير هذا الموضع2 ومنهم محمد فريد أبو حديد، وعلى باكثير في بعض مسرحياته محاولًا تقليد شكسبير، بيد أن محاولاتهم باءت بالإخفاق لأن طبيعة الشعر العربي تأبى هذا اللون الشعري الخالي في موسيقى القافية وإن سلم لمحمد فريد أبو حديد بعض من هذا الشعر في ديباجته وموسيقاه. ويجب هنا أن تفرق بين نوعين من الشعر أحدهما الشعر المرسل Blank verse والثاني الشعر الحر Verse Libre أم الأول فهو موزون ولكن لا يتقيد بقافية، والثاني لا يتقيد بقافية ولا وزن3. ويقول الأب لويس شيخو عن هذا النوع من الشعر: "ومما سبق إليه أدباء عصرنا تدون مثال في لغتنا ما دعوه بالنثر الشعري، أو الشعر المنثور، كأنه جامع بين خواص النثر والنظم، أما النثر فلأنه على غير وزن من أوزان البحور، وأما

_ 1 راجع مقال الشيخ نجيب حداد في مختارات المنفلوطي ص126- 145. 2 راجع دراسات أدبية للمؤلف ج1، وسيأتي الكلام عنه في هذا الفصل. 3 راجع عن هذه النوعين من الشعر encyclopedia brtanica v. 3.p. 575, 696 وكذلك v, 23 pp. 482- 9 وراجع كذلك dr. moultion, s world literature وكذلك dr. mo ka fj.w. long english literature وكذلك مقال للأستاذ حسين عفيف المحامي، الأهرام 20/ 9/ 1936.

النظم فلأنهم يقسمون مقاطعه ثلاث ورباع وخماس، وأزيد، دون مراعاة أعدادها، ويسبكونها سبكًا مموهًا بالمعاني الشعرية. وهذه الطريقة استعارها على ظننا الكتبة المحدثون كأمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ومن جرى مجراها من الكتبة الغربيين، ولا سيما الإنكليز في ما يدعونه بالشعر "الأبيض" غير المقفى، وفي بعض كتاباتهم الشعرية المعاني غير المقيدة بالأوزان ولسنا نفي هذه الطريقة الكتابية التي تخلو من مسحة الجمال في بعض الظروف، اللهم إلا إذا روعي فيها الذوق الصحيح، ولم يفرط في الاتساع فيها فتصبح لغطًا وثرثرة. على أننا كثيرًا ما لقينا في هذا الشعر المنثور قشرة مزوقة ليس تحتها لباب، وربما قفز صاحبها من معنى لطيف إلى قول بذيء سخيف، أو كرر الألفاظ دون جدوى، بل بتعسف ظاهر ومن هذا الشكل كثير من المروحين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني، وجبران، وتبعتهما، فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئًا مما تصبو إليه النفس للشعر الموزون الحر، من رقة شعور وتأثير. خذ مثلًا وصف الريحاني للثورة: ويومها القطيب العصيب ... وليلها المنير العجيب ونجمها الآفل يحدج بعينه الرقيب وصوت فوضاها الرهيب، من هتاف ولجب ونحيب، وزئير، وعندلة، ونعيب وطغاة الزمن تصير رمادًا ... وأخياره يحملون الصليب ويل يومئذ للظالمين ... للمستكبرين والمفسدين هو يوم من السنين ... بل ساعة من يوم الدين ويل يومئذ للظالمين ومثلها من شعر جبران قوله:

تنبئق الأرض من الأرض كرهًا وقسرًا ثم تسير الأرض فوق الأرض تيهًا وكبرًا وتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكل وتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائع ثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحرك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلام. ثم يراود نعاس الأرض أجفان الأرض فتنام نومًا هادئًا عميقًا أبديًّا. ثم تنادي الأرض قائلة للأرض أنا الرحم، وأنا والقبر. رحمًا وقبرًا، حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رماد. فلعمري هذه ألغاز لا شيء فيها منظوم رائق ولا منثور شائق، وهي أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى الكلام المعقول1". ومن هذا الضرب الذي سموه شعرًا منثورًا ما قاله أمين الريحاني يحيى مصر: أكبر الشرقيات الباسمات للدهر ... وأحدث الشرقيات الناهضات هي أول من حل ميزان القسط ... وأول من استرق العباد لها الصولجان المرصع الماسات ... والسوط الملطخ دما هي أول من قال للموت لا ... وأول من قال للحياة نعم لها في الوت حياة وفي ... الحياة المآثر الخالدات مصر آية الزمان، ابنة فرعون ... معجزة الدهر فتاة النيل ومن كلام جبران في هذا النوع من النثر الذي سماه شعرًا منثورًا؛ لأنه غص بكثير من الاستعارات والكنايات والمجازات وأنواع الخيال، قوله يناجي الليل: يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين ... يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة

_ 1 الأب لويس شيخو: الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين ص1، 43.

يا ليل الشوق والصبابة والتذكار أيها الجبار الواقف بين أقزام المغرب وعرائس الفجر، المتقلد سيف الرهبة، المتوج بالقمر المتشح بثوب السكوت، الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة، المصغي بألف أذن إلى أنه الموت والعدم. في ظلالك تدب عواطفك الشعراء، وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين. أنا مثلك يا ليل، أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب وليس لظلمتي بدء، ولا لأعماقي نهاية". لعلك ترى في هذا الذي يسمونه شعرًا، أنه غير موزون مقفى، فهو من نوع ما يسمى بالشعر الحر وهي تسمية فيها كثير من التعسف؛ لأن من أهم أركان الشعر أن يكون موزونًا منغمًا، وقد ورد مثل هذا الكلام المليء بضروب الاستعارات والمجازات لدى الأقدمين ولا سيما مدرسة ابن العميد، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على تسميته شعرًا؛ لأن للنغمة الموسيقية في الكلام روعة وأسرًا يجعلانه أنفذ إلى القلب وأسرع في التأثير وبدونها يصير نثرًا أدبيًّا، ويختلف عن الشعر في تأثيره وروعته. وقد قال مصطفى صادق الرافعي عن هذا النوع من الشعر الذي خرج فيه الشعراء على تقاليد الشعر العربي القديم سواء كان شعرًا حرًّا مثل الذي قدمته آنفًا أو شعرًا مرسلًا كقصيدة "إيليا أبو ماضي" الشاعر والسلطان الجائر: "نشأ في أيامنا ما يسمونه: الشعر المنثور، وهي تسمية تدل على جهل واضعيها ومن يرضاها لنفسه فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب، ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الإخلال لأوهى علة، ولأيسر سبب، ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصل طبع، وأسلم ذوق، وأنصع بيان فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ، أو فساد العبارة، أو ضعف التأليف. غير أن النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة تنتهي إلى العامي الساقط،

والسوقي البارد، ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على شئت منه، وما يتفق فيه من الحسن الشعري، فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم، لا حين يتغنى، فمن قال: الشعر المنثور، فأعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية، وإدعاؤه من ناحية أخرى1". لقد كان هؤلاء السوريون المهاجرون إلى مصر وإلى أمريكا ثائرين على الأدب العربي القديم ثورة جامحة، وحاولوا أن يجددوا على نمط الشعر الغربي، ويقولون: "لسوء حظنا أن آدابنا العربية قصرت عن مجاراة الحياة لأجيال كثيرة، فكان نصيبها الجمود والخمود، فقد مرت بنا قرون ونحن لا نجد نغمة نلحنها سوى نغمة القدماء، فإن تغزلنا فبلسان العيس، وإن ندينا فبلسان باكي الأطلال، والدمن، وإن هزتنا الحمامة طعنَّا بالهندوابي والأقني، وإن مدحنا أنزلنا الشمس عن عرشها، وكسفنا البدر ووطئنا هام الثريا، ولجمنا أمواج البحار. زد على ذلك أن غزلنا تكلف، وبكاءنا بلا حرقة، ولا دموع، وحماستنا بلا شعور، ومديحنا مغالاة واختلاق باختلاق فآدابنا ليست إلا جثة بلا روح؛ لأنها تحاول تقليد القدماء، وناسية أن روح مصر وسوريا اليوم ليست روح عدنان وقحطان واليمن أو بغداد أو غرناطة أو أشبيلة من ألف أو ألفي سنة2". ولم يكتف شعراء المهجر بهذه الدعوة إلى التحرر من تقاليد الأدب العربي وزخارفه ومبالغاته. حول دعوا إلى أن الشعر يجب أن يمثل الحياة: فالحياة والأدب توأمان لا ينفصلان وإلى أن نظم الشعر "ممكن في غير الغزل والنسيب والمدح والهجاء، والوصف، والرثاء، والفخر والحماسة"3. وثاروا على العروض والأوزان ثورة عنيفة كما رأيت في الأمثلة التي سقتها إليك4، وهذا هو جيران خليل في مقاله: "لكم لغتكم ولي لغتي" يثور على كل شيء يثور على اللغة، فلا يعترف بمعاجم، ويثور على "العروض والتفاعيل والقوافي، وما يحشر فيها من جائز وغير جائز" ويثور على الأغراض فيقول:

_ 1 المقتطف يناير 1926، ص31. 2 مجلة الهلال -يولية 1931 ص427 من كلام الرابطة القلمية بنيويورك. 3 ميخائيل نعيمة في الغربال ص24 طـ ثانية. 4 راجع كذلك الغربال ص93 وما بعدها.

"لكم منها الرثاء والمديح والفخر والتهنئة ولي منها ما يتكبر عن رثاء من مات وهو في الرحم، ويأبى مديح من يستوجب الاستهزاء ويأنف من تهنئة من يستدعي الشفقة، ويترفع عن هجو من يستطيع الإعراض عنه، ويستنكف من الفخر، إذ ليس في الإنسان ما يفاخر به سوى إقراره بضعفه وجهله"1. ويرى صاحب الغربال أن الكاتب أو الشاعر في حال من الخطأ اللغوي ما دام الغرض الذي يرمي إليه مفهومًا، واللفظ الذي يؤدي به معناه مفيدًا، ويرى أن التطور يقضي بإطلاق التصرف للأدباء في اشتقاق المفردات وارتجالها2. لقد تأثر هؤلاء الأدباء المهاجرون بالأدب الإنجليز أيما تأثر، وقلدوه في بعض أنواعه وهو الشعر المرسل، والشعر الحر، وترسموا خطى "ولت ثمان" الأمريكي "Walt Witman" ب3 في ديوانه الذي أودعه شعره الحر، وسماه أوراق العشب Leaves of Grass وقلدوه4 كذلك في كثرة الحديث عن النفس، وتأملاتها، وفي الكلام عن الضمير والوحدة وفي نزعته الصوفية5. لقد هاجر هؤلاء إلى أمريكا شماليها وجنوبيها تحت الضغط الاقتصادي في بلادهم، وهربًا بحريتهم من أن تعصف بها عوامل التعصب الديني الذي بلغ أشده في آخريات القرن التاسع عشر، وكذلك استبداد الولاة وطغيانهم، حيث كبتوا الحريات، وكمموا الأفواه، وساموا الأحرار الخسف وسوء العذاب، فآثروا الهجرة حتى لا يساموا الضيم والخسف، وسوء العذاب، فأثروا الهجرة حتى لا يساموا الضيم والخسف، ويعانوا الفقر والذلة في بلادهم، وما أن هاجروا حتى شعروا بالحرية الواسعة ولا سيما حرية القول والعقيدة، فانطلقوا على سجيتهم، وفي ذلك يقول جورج صيد يصف هذا المهاجر: كمت الأوطان فاه فاعتلى ... منير المهجر يستوفي كلامه واعتقد أن لهذه الحرية أثرًا كبيرًا في نزعتهم الثورية على كل القيم في

_ 1 بلاغة العرب في القرن العشرين ص51 وما بعدها. 2 ميخائيل نعيمة في الغربال ص84. 3 شاعر أمريكي 1819 - 1883 راجع H. R. GIBB. B.O.S.O VOLL P. 2- 31 4 وقد وصف هذا الديوان "بأنه أعجب قطعة فنية في الفطانة، والحكمة أنتجتها أمريكا". ENCYCLOPEDIA BRITANICA. VOL 23. P583. 5 LEADERAS IN CONTEMPORARY ARABIC ARABIC LITERATURE, BY TAHIR KHAMIRY AND ;AMPFFMEYER P. 18.

بلادهم ولا سيما هؤلاء الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية وعلى رأسهم جبران، ونعيمة، وعريضة؛ لقد كان ذلك أشبه برد فعل للكبت الشديد الذي عانوه في بلادهم، وللحرمان المزري الذي دفعهم إلى ترك الوطن الحبيب، ولقد عبر الشاعر القروي سليم الخوري عن الدوافع التي حفزته إلى الهجرة بقوله وهو يودع قريته بلبنان قبل الرحيل عنها: أبيت جوارها أرضًا ... بغير الذل لا ترضى بلاد خسفها أمسى ... على أبنائها فرضًا أحس يد الرجاء فلا ... أحس لقلبه نبضًا إنه لم يهاجر حتى يئس ولم يجد بارقة من أمل أو رجاء تحبب إليه الإقامة. ولقد تفاوتوا في تحررهم وثورتهم على تقاليد الأدب العربي القديم وعلى اللغة فكان المهاجرون في أمريكا الشمالية أشد ثورة من سواهم ولا سيما أبناء الرابطة القلمية التي أسست في نيويورك سنة 1920 وعلى رأسهم جبران، ونعيمة، وعريضة، وأبو ماضي ورشيد أيوب ممن تأثروا إلى حد ما بالأدب الغربي ولا سيما بالأدب الرومانتيكي الذي يعزز النزعة الفردية، والتعبير عن الذات وخلجات النفس في يأسها ورجائها وحزنها وفرحها، وصحتها ومرضها، وفقرها وغناها، وآمالها وآلامها: فنزعوا إلى الشعر الوجداني الذاتي، وكرهوا الأدب التقليدي الذي لا يصدر عن شعور وإحساس، واشتدت حملتهم عليه كما رأيت في كلام جبران. كما أن شعورهم بالعزلة في هذه المدن الصناعية الكبرى التي يتطاحن فيها البشر ويتصارعون على المادة، ولا يجد فيها الغريب إلا الوحشة والضيق جعلتهم يعكفون على أنفسهم ويكثرون من تأملاتهم. استمع إلى إيليا أبي ماضي يصور هذه الحيرة التي يعانيها المغتربون في زحمة الحياة الأمريكية: نحن في الأرض تائهون كأنا ... قوم موسى في الليلة الظلماء ضعفاء محقرون كأنا ... من ظلام والناس من لألاء واغتراب القوى عز وفخر ... واغتراب الضعيف بدء الفناء

وقد أبدع الشاعر القروي حين قال في تصوير هذه الحالة وإن كان من المهاجرين إلى الجنوب: في وحشة لا شيء يؤنسها ... إلا أنا والعود والشعر حوالي أعاجم يرطنون فما ... للضاد عند لسانهم قدر ناس ولكن لا أنيس لهم ... ومدينة لكنها قفر كما شعروا في غمرة هذه الحياة المادية بحاجتهم الماسة إلى روحانية الشرق التي افتقدوها في غربتهم، وزادهم شظف العيش، والجهاد المرهق في سبيله شعورًا بوطأة الحياة المادية المضطرمة حولهم، فنزع كثير منهم نزعة تصوفية، وقد صور جورج صيدح هذه الحالة النفسية بقوله: عز من يفهم شكوى روحه ... رب حشد فيه بالروح انفرد وهذا هو مسعود سماحة يتجه إلى الله يشكو إليه حاله ويصور العقد التي تئود نفسه ويلجأ إلى خالق الكون ليفرج من كربته. الملك ملكك والبهاء بهاكا ... والأرض أرضك والسماء سماكا الكون مغ ما فيه من متحرك ... أو ساكن قد كونته يداكا لا مسعف إلاك، لا متساهل ... إلاك لا متسلط إلاكا وقد أكثروا من الابتهالات والتضرعات إلى الله سبحانه ليخفوا عن نفوسهم ما يحزبها، ويذكرنا شعرهم بمتصوفة المشرق. استمع إلى نسيب عريضة وقد أضناه الجهاد في سبيل العيش، وحار في دروب الحياة يقول متوجهًا إلى الله جل وعلا: أيا من سناه اختفى ... وراء حدود البشر نسيتك يوم الصفا ... فلا تنسنى في الكدر أيا غافرًا راحمًا ... يرى ذل أمسى وغد معاذك أن تنقما ... وحلمك ملء الأبد مراعيك خضر المنى ... هي المشتهي سيدي وجسمي دهاه العنا ... حنانيك خذ بيدي

ولذلك كله كان إقبالهم على قراءة "ويتمان" وحبهم له وتأثرهم به والتقائهم معه في منازعة لظروفهم التي ذكرت طرفًا منهم مع تأثرهم بالنزعة الرومانتيكية بعامة. كان مهاجرو الشمال أكثر ثورة على اللغة العربية وعلى تقاليد الأدب الموروث من شعراء الجنوب الذين حافظوا على "أصول اللغة بقوة وروعة؛ لأن بضاعتهم كانت كلها شعرًا، ومن الصنف الممتاز بجودة الصياغة وحرارة العاطفة ورخامة النغم؛ ولأن النزعة القومية كانت الغالبة عليهم، فالشعوب التي ترزح تحت الاحتلال أو الانتداب، المتعطشة إلى الانعتاق من نير الاستعمار لا يستهويها في محنتها مثل الشعر الوطني الحماسي الصادق النبرات الذي يعبر عن واقعها وعن شعورها وعن أمانيها1". انهارت الرابطة القلمية بعد موت جبران في سنة 1931، ولكن الشعر المهجري وجد دعامته في العصبة الأندلسية التي أسست في سان باولوا سنة 1932، فكان هؤلاء أكثر حفاظًا على تقاليد الأدب العربي واللغة من سواهم، ومن أشهرهم الشاعر القروي سليم الخوري، وإلياس فرحات وآل المعلوف، وإن ظل إيليا أبو ماضي في الشمال يوالي نتاجه الرائع حتى توفي في 4 من نوفمبر 1957. ويتسم الشعر المهجري -بعامة: شماليه وجنوبيه- بهذه الحرية في التعبير وبالتأمل في الكون وفي الإنسان فردًا وفي المجتمع وفي الطبيعة وفي حقيقة الوجود والبحث عنها، وفي النزعات التصوفية عند اشتداد الأزمات النفسية. لقد كان الانطلاق، والانعزال عن دنيا الإقطاع الفكري، وعن الأوساط الرجعية في الوطن هي السبب في شعورهم الحاد بالحرية وبالذاتية، وقد بلور ميخائيل نعيمة رأيه في الشعر الذي يدعو إليه ووضع مقاييس حتى يؤدي الأدب مهمته الحقيقية في الحياة ويلبي رغبات النفس بقوله: "الغربال" مبينًا هذه الحاجات:

_ 1 أدبنا وأدباؤنا ص15.

أولًا: حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية: من رجاء وبأس وفوز وفشل وإيمان وشك، وحب وكره، ولذة وألم، وحزن وفرح، وخوف وطمأنينة، وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثرات. ثانيًا: حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة، حقيقة ما في أنفسنا، وحقيقة ما في العالم من حولنا، فنحن وإن اختلف فهمنا عن الحقيقة لسنا ننكر أن في الحياة ما كان في عهد أدم ولا يزال حقيقة حتى اليوم، وسيبقى حقيقة حتى آخر الدهر. ثالثًا: حاجتنا إلى الجميل في كل شيء، ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال، كل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال، فإنا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلًا وما نحسبه قبيحًا لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالًا مطلقًا لا يختلف فيه ذوقان. رابعًا: حاجتنا إلى الموسيقى، ففي الروح ميل عجيب إلى الأصوات، والألحان لا ندرك كنهه، فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق، ولكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتأنس بما تآلف منها". ولا ريب أن هذه الحاجات إنما تعبر عن حاجات النفس الفردية لا حاجات الجماعة، وليس تحقيق هذه الحاجات هو كل الشعر. ولست أريد في هذه المرحلة من الكتاب أن أدرس أدبهم، وأحلل نزعاته وأغراضه، ولكني أقول: إنهم تركوا تقليد الأدب العربي ليقعوا في تقليد أدب غربي، وفي تقليد شاعر بعينه، ولقد حاولوا أن يوجدوا لهم أنصارًا في مصر، وقد التقوا مع المجددين في الشعر من المصريين أمثال العقاد والمازني، بيد أن هؤلاء وإن وافقوهم في أشياء، فإنهم أنكروا عليهم ركاكة أسلوبهم، وتساهلهم في اللغة وخطأهم1. لم يسر في ركاب شعراء المهجر أحد من أدباء مصر إلا نفر قليل أمثال الكاتبة السورية "مي زيادة" حاولوا كتابة ما سموه بالشعر المنثور، ولكنهم ما

_ 1 راجع العقاد والمازني في بلاغة العرب في القرن العشرين ص6 وص9 وراجع العقاد مقدمة الغربال ص8.

لبثوا أن أقلعوا عنه؛ لأنه لم يجد قبولًا من أذواق المصريين، كما لم تجد نظراتهم التشاؤمية، ونزعتهم المغرقة في التحليل النفسي والتصوف الحزين رغبة في الشرق بعامة بادئ الأمر حينما كان هناك شعراء أقوياء يشبعون أرواح المتأدبين ويعبرون عما يجيش في نفوسهم أمثال شوقي وحافظ ومطران وعلي محمود طه، فلما ضعف صوت هذا الشعر أو كاد تطلع العرب من المشرق إلى شعر المهجر ودرسوه ووجدوا في كثير منه صورًا جديدة ونغمًا جديدًا فأقبلوا عليه وظهرت فيه عدة دراسات في السنوات الأخيرة دليل الاهتمام والإعجاب، وكان لدعوتهم إلى هجر بعض أغراض الشعر العربي القديم ولا سيما المديح والفخر والهجاء صدى في أدبنا الحديث. أما نقاد مصر فقد اختلفوا شيعًا، فهيكل يدعو إلى الأدب القومي1، ويلح في كثير من كتبه أن نتجه في أدبنا اتجاهًا قوميًّا، ويرى أن مصر الحديثة أقرب إلى مصر الفرعونية منها إلى مصر الإسلامية، وعقد موازنات شتى بين ما تخلف عند المصريين المحدثين من عادات، وبين ما كان عند الفراعنة، كحفلات الزواج وحفلات الجنازة، وتعظيم الأولياء، ويدعو إلى أن نقتبس في أدبنا الحديث من تاريخ الفراعنة "وأن يعمل مؤرخونا وأدباؤنا ليتمثل ابن اليوم هذا الميراث المجيد فيجمع ذهنه وقلبه وفؤاده وتصوره وخياله ما كان لمصر في ميادين العقل والعلم والخيال من مجد وعظمة، تنقلت في تاريخ مصر على كاهل القرون" حتى وصلت إلينا، ويدعو إلى استجلاء عظمة تلك الآثار الباهرة التي خلفها قدماء الأدب القومي الذي ارتآه والذي يستلهم تاريخ مصر القديم، فأنشأ عدة قصص تدور حول الفراعنة مثل "إيزيس" و"راعية هاتور" و"أفروديت" وغيرها. وهو يرى أن محاولاته في الأدب القومي لم تبلغ حد الكمال، ولا قاربته، وأنه يضع بها نماذج مقتفيًا آثار شكسبير، وأناتول فرانس، وبرناردشو في محاولاتهم الكتابة عن قدماء المصريين، وإن لم يدنهم في روعة أدبهم2.

_ 1 ثورة الأدب ص140 وما بعدها "توفي الدكتور هيكل في 7 ديسمبر 1956". 2 حديث أبيس في أوقات الفراغ ص19.

ومن العجيب أن بعض أدبائنا في مستهل هذا القرن حاولوا أن يتنكروا لعروبة مصر وإسلاميتها، وأن يدفعوها إلى الوراء قرونًا حتى تتعلق بأذيال الفرعونية متلمسين أسبابًا واهية لذلك من مثل ما ضربه هيكل من عادات الزواج وحفلات الجنازة وتنظيم الأولياء، مع أن هذه أمور استقرت في مصر منذ العهد الإسلامي، وهي طبيعية في كل الأمم: فلطم الخدود وشق الجيوب، وصبغ الوجوه بالسواد، وخروج النساء وراء الميت، عادت عرفها عرب الجاهلية، ونهى عنها الإسلام وهي ظاهرة تلفت النظر لدى الشعوب البدائية، أما زف العروس، ودق الطبول، وإطلاق الزغاريد وراء العروس فمما يمارسه الناس في كل أمة ولسنا نجد فيه بدعًا. وأما تعظيم الأولياء فقد كان للفاطميين أثر عظيم في تمكينه بنفوس المصريين، ومعظم أولياء مصر من آل البيت، وكما يوجد كذلك في كل بلد اعتنقت المذهب الشيعي مثل هذه الأضرحة كبلاد إيران وبعض نواحي العراق والمغرب. وإن من التكلف والتعسف أن نرجع بعادات المصريين وتقاليدهم إلى قدماء المصريين، وقد عفى البطالسة والرومان في سنوات طويلة على آثار هذه التقاليد الوثنية، ولا سيما بعد أن دخلت مصر المسيحية على يد الرومان، ولما جاء العرب لم يجدوا للغة الفرعونية ولا للتقاليد الفرعونية أثرًا في حياة المصريين، أجل! إن هناك بعض رواسب فرعونية ممثلة في قليل من الألعاب التي يمارسها أطفال المصريين في الريف ككرة اليد وكرة المضرب وغيرهما، ولكن هذا لا يجعل مصر الحديثة أقرب إلى مصر الفرعونية منها إلى مصر الإسلامية كما يدعي هيكل. والأغرب من هذا أن يدعي الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل التعليم في مصر أن مصر أقرب إلى اليونان منها إلى العرب والمسلمين، ولعل السبب في هذه النزعات هو حب التظاهر بالتجديد، والخروج على المألوف، أو التأثر بالحملات الاستعمارية على الإسلام وبحسبك أن هؤلاء الذين أنكروا يومًا عروبة مصر وإسلاميتها صاروا اليوم من أكبر الدعاة لهذه العروبة ومن أشد المدافعين عنها، وبحسبك كذلك أن هؤلاء الذين تهجموا على الدين الإسلامي في مستهل حياتهم الأدبية حتى تشتهر أسماؤهم ويلهج بها الناسلم ينالوا جوائز الدولة إلا

على كتبهم الإسلامية مثل: "على هامش السيرة" لطه حسين. و"أبو بكر الصديق" لهيكل؛ لأنها أحسن نتاجهم. وليس تاريخ مصر القديم وحده هو مصدر الأدب القومي في رأي هيكل، بل عنده أن وصف الطبيعة المصرية، وما فيها من جمال فتان من صميم الشعر القومي، وقد عقد لذلك فصلًا كاملًا في كتابه ثورة الأدب، بين فيه ما يجب على الشعراء حيال هذا الجمال في الطبيعة المصرية. "لكن العجب هم أولئك الذين نسميهم شعراء مصر وكتابها ورجال الفن فيها. هؤلاء كذلك يشعر أكثرهم إزاء ما في بلادهم من جمال يمثل شعور هؤلاء الذين يسمونهم جماعة المتعلمين في مصر، فقل منهم من تهتز عاطفته لمشهد هذا الجمال إلى حد يهز شاعريته أو فنه اهتزازًا يخرج من نفوسهم صيحات صادقة كلها تأليه لهذا الجمال وعبادته وتقديسه، ويستثير من أوتار شاعريتهم أو خيالهم هذه الأناشيد التي تدفع بالفارس ليلقى بنفسه في غمار "التيبر"1 متغنيًا: "أيها التيبر! يا أبانا التيبر! يا من يسبح الرومان بحمده! إليك حياة روماني وعدة حربه، خذهما اليوم في رعايتك"؛ بل إن أحدهم ليحس أحيانًا بأن واجبًا عليه أن يتحدث عن بلاده وتاريخها وعن جمالها، فإذا قرأت حديثه وجدت فيه من جمال العبادة ما يخلبك، ولكنك وجدته خلوًا من الشعور الصادق، والإحساس العميق. وكل شعر وكل أدب، وكل فن ليس صادرًا عن شعور صادق، وإحساس عميق، لا حياة فيه ولا بقاء له، وسر هذا الجمود في تقدير جمال بلادنها ضعف الإيمان في نفوس شعرائنا وأدبائنا وكتابنا وذوي الفن فينا بالجمال2. وأخذ هيكل يتغنى بجمال النيل، ويحاول أن يكشف عن مفاتنه لأدبائنا وشعرائنا، ويغريهم بالذهاب إليه والتملي من محاسنه، حتى يكون إحساسهم بالجمال عميقًا، وحتى يستلهموا هذا النهر الذي يفوق في جماله كل أنهار أوربا وما يحيط بها، بل "أين أنت يا أنهار أوربا، وأنهار العالم من نيلنا السعيد، المبارك الغدوات، الميمون الروحات؟ ". يدعو هيكل الشعراء والأدباء إلى تمجيد الطبيعة المصرية حتى يحببوا فيها بني قومهم، ويكشفوا لهم بما أوتوا من حساسية مرهفة، وذوق صاف، وشعور

_ 1 التيبر: نهر بإيطاليا، وهو الذي تقع عليه مدينة روما. 2 ثورة الأدب ص128.

فياض بالجمال، وقدرة فائقة على التعبير عن هذا الجمال، "لو أن رهطًا من الشعراء والكتاب، وأرباب الفن استلهموا هذا النيل ودونوا وحيه، لرأيت صاحبي الذي هز كتفيه حين ذكرت له إعجابي بالنيل وجماله أشد بنيل بلاده إعجابًا منه بجمال سويسرا، أو أية بقعة ساحرة من بقاع العالم، نعم! فالفن يسكب الجمال في النفوس الجامدة أمام الجمال، وهو بمال يصنع من هذا يدفع الناس إلى العمل للمزيد من هذا الجمال، وذلك بأنه يحبب إليهم الحياة، ويدعوهم إلى زيادة تجميلها، وإلى معاونة الطبيعة فظهار زينتها وبهجتها"1. ولا شك أن دراسة هيكل للأدب الأجنبي القديم والحديث، ولا سيما أدباء المدرسة الإبداعية أمثال روسو، وهيجو، وأناتول فرانس، وشاتو بريان، ولا مارتين، وغيرهم هو الذي أوحى إليه بأن يهز أدباءنا تلك الهزة القوية لعلهم يستيقظون، ولكننا نقول تقريرًا للحقيقة: إن تلك النزعات القومية التي دعا إليها هيكل، وتغنى بها، وحث الشعراء عليها: من إحياء التاريخ القديم، وتغنيه بالطبيعة، وقد ظهرت في شاعر مصري قوية جذابة من أول نشأته الشعرية، وذلك هو شوقي، فقصيدته: "كبار الحوادث في وادي النيل" التي قالها في مؤتمر المستشرقين بجنيف عام 1894 والتي مطلعها: همت الفلك واحتواها الماء ... وحداها بمن تقل الرجاء "رواية من الروايات الخالدة لتاريخ مصر منذ الفراعنة إلى عهد أبناء محمد علي، وقف فيها الشاعر وقفة مصري، صادق العاطفة تفيض عليه ربة الشعر تاريخ بلاده منذ عرفها التاريخ2 وليست هذه القصيدة اليتيمة التي قالها شوقي في مصر، بل إنه أحس بما أحس به هيكل، وسبقه في شعوره، وفي إبراز هذه الفكرة، واستجابته لجمال بلاده، ولإيمانه العميق بها، فقال عدة قصائد في تاريخ مصر قديمًا وحديثًا كقصائده على سفح الأهرام، وأبي الهول، وتوت عنخ أمون، وأنس الوجود، وأنت إذا تقرأ هذه القصائد يهزك الشعور بصورة هذا الماضي في

_ 1 ثورة الأدب ص138. 2 مقدمة هيكل للشوقيات ص6.

قداستها ومهابتها، وتملك نفس المشاعر فترتفع بك عن مستوى الحياة الدنيا إلى سماوات الخلد. ذلك بأن شوقي يهديك المعنى الذي كانت تلتمسه نفسك فلا تقع عليه، ويرسم أمامك بوضوح وقوة وسمو خيال ونبل عاطفة كل ما ينبض به قلبك، ويهتز له فؤادك"1. ولم يكتف شوقي بهذا بل هو كما قدمت لك في غير هذا الموضع قد إبداع الإبداع كله في وصف الطبيعة المصرية، وإظهار جمالها، وفتن بها إلى حد العبادة. وطنى لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي واستعرض تاريخ بلاده في خلال الحكم الإسلامي بقصائد رائعة، ووضع روايات عدة في تاريخ مصر القديم والحديث، وأفرد جزءًا خاصًّا من شعره لمجد العرب والإسلام، فشوقي من هذه الوجهة هو شاعر القومية المصرية وهو أسبق من كل هؤلاء الأدباء إلى وضع النموذج الصحيح، في الأسلوب العالي الممتاز في الأدب القومي. إن هذه الصيحات التي جأر بها هيكل كان يقصد بها المزيد من شوقي، والاحتذاء حذو شوقي من هؤلاء الشعراء الذين لم يحركهم جمال بلادهم. ولا شك أن شوقي وهيكل قد تأثرا في هذه الدعوة بما رأيا وقرءوا في الأدب الأوربي، ولعل "تاييس" لأناتول فرانس، و"كليوباترا" لإميل مورو "moreau" - وقد مثلتها سارة برنارد في سنة 1890 وشوقي بعدُ طالب في باريس بعض ما أوحي إليه بهذا. لقد كانت هذه النزعة على أشدها في فرنسا منذ أواسط القرن التاسع عشر، وظهرت عشرات الكتب: والروايات، والمسرحيات، والقصائد في تلك الحقبة تدعو إلى تمجيد الطبيعة وإلى استلهام التاريخ، وقد ظلت كذلك حتى الحرب العالمية الأولى، وقد عاصر شوقي وهيكل2 كثيرًا من هؤلاء الأدباء والشعراء الذين أولعوا بالطبيعة والتاريخ، وشاهدا مسرحياتهم3، فتأثرا بهم كل التأثر.

_ 1 المصدر السابق. 2 أخذ هيكل البكالوريا سنة 1905 والحقوق سنة 1909، وسافر إلى بارس سنة 1909 ومكث بها حتى سنة 1913 حين نال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي. 3 إذا أردت ثبتًا بالكتب والمسرحيات والروايات الفرنسية التي تنزع هذه النزعة فارجع إلى mareel brau nschvig - notre في كتابه القيم. litterature etudee dans les textes t, 2 p. 773, 733 778.

وليست الدعوة إلى الأدب القومي هي كل ما عنى به هيكل، فقد رأى أن الأدب لا يقوم على الألفاظ والعبارات، بل بما يقدمه الأديب من الصور والمعاني، وما تبعثه هذه الصور والمعاني إلى النفس من لذائذ، وإلى المشاعر من اهتزازات، وإلى الخيال من الصور، وإلى الذهن من التفكير، وهذه النفوس القوية لا يمكنها أن تفيض بهذا الإلهام إلا إذا كانت تمثل بيئة خاصة أو عصرًا خاصًّا كما فعل هوميروس، وفيرجيل، وشكسبير، وفولتير، وجوتيه، حيث خلدوا على الرغم من تطور الحياة، وتقدم الحضارة في العالم؛ لأن نفوسهم مثَّلت أمة خاصة وعلمًا خاصًّا، فانطبعت فيها الصفات الخالدة لأممهم؛ والتي لا يأتي عليها تقدم أو تطور1. وينادي بأن الأدب في مصر، وفي كل بلد عربي يجب أن يكون له طابع خاص يميزه عن الأدب العربي القديم، وإلى أن يكون أدبنا الحديث عنوانًا لحضارتنا، التي هي جزء من حضارة أوربا2. عنده أن أحسن وسيلة لوضوح شخصية الأديب في أدبه هي اتصال ما يكتب بقلبه، وعقله، وكل حياته. وليس ذلك بمستطاع إلا إذا وصف حياته وحياة قومه ووطنه وكل ما توحي به هذه الحياة للعقل والقلب والحس والشعور مما لا تستطيع حياة أخرى أن تلهمه أو توحي به وبذلك نصل حاضرنا بماضينا3. ويعتقد أن جرثومة الأدب المصري المستقبل تكمن في أناشيد الشعب الساذجة التي ينشدها في حفلات الأعراس والمآتم، من ذكريات الحب، والحنان والتضحية والتفجع، وما يرويه الرواة المحليون عن أبطال القرون الغابرة، وما يحكونه من القصص التي يعبر عن خلق الشعب وصبره، وقوة احتماله، وما تحدث به عن عبقريته الفطرية وعن آماله وأحلامه4. وهو في هذا متأثر كل التأثر بثقافته الأجنبية فقد ابتدأ يقرأ وهو بعد طالب بمدرسة الحقوق في مصر شيئًا في الأدب الإنجليزي ولفلاسفة الإنجليز

_ 1 أوقات الفراغ هيكل ص354- 355. 2 نفس المصدر ص363- 364. 3 ثورة الأدب ص132. 4 السياسة الأسبوعية 2 فبراير 1929.

ومفكريهم؛ قرأ كتاب الأبطال لكارليل، والحرية لجون ستيورات مل، والعدل لسبنسر. ولما ذهب إلى فرنسا استهواه الأدب الفرنسي وآثره على غيره، ورأى فيه من السمو الأدبي ما لا يراه في غيره من الآداب العربية والإنجليزية معًا، وذلك لما فيه من سلاسة وسهولة وقصد ودقة في التعبير والوصف، وبساطة في العبارة وعناية بالمعنى أكثر من العناية باللفظ1. ولم يكن قد اتصل بالثقافة العربية ولا بالدين الإسلامي عن قرب، ولقد عدل من أفكاره فيما بعد واستوحى التاريخ العربي الإسلامي في بعض آثاره حين وجد فيها الروعة والعمق والجلال والمثل الأعلى الذي يرنو إليه. فهيكل بجانب دعوته إلى الأدب القومي يطالب الأدباء بأن يتجنبوا العناية بالزخرف، والاهتمام بالألفاظ، وأن يحفلوا بالصور والمعاني، ولن يتأتى لهم هذا إلا إذا وصفوا بيئتهم ونفوسهم وحياتهم، ومثلوا عصرهم أتم تمثيل، لا أن يعيشوا في لغة عرب البادية وخيالهم وصورهم ومعانيهم، وأمالهم، وطريقة نظمهم، وأن يهيموا في أودية الشعر بعيدين عن مجتمعاتهم. ويدعو كذلك إلى ظهور شخصية الأدباء، وذلك بأن يصدر أدبهم عن إحساس وصدق عاطفة، كما يدعو إلى تخليد الأدب الشعبي، وهو لا يقصد بدعوته ذلك الجيل من الشعراء الذي ألف الجمود، واختط لنفسه طريقًا خاصة في الشعر يعسر أن يحيد عنها، وإنما يخاطب جيلًا جديدًا يستطيع أن ينهج بالشعر نهجًا يحقق الغرض منه2. وكثير مما أراده هيكل قد تحقق عند بعض الشعراء الذين تثقفوا ثقافة عالية، وكان عندهم مرونة عقلية ليتشكلوا حسب زمانهم أمثال شوقي ومطران. اللهم إلا دعوته إلى الأدب الشعبي فإنها لم تتحقق. كان هيكل من الذين تأثروا بالأدب الفرنسي ونهج طريقة المدرسة الطبيعية الفرنسية، ولم تكن دعوته إلى التجديد هي الأولى في مصر، بل سبقه إلى الثورة

_ 1 ثورة الأدب ص112، ومقدمة قصة زينب ص11. 2 ثورة الأدب ص74.

على الأدب القديم وبخاصة على الشعر العربي المعاصر لهم ثلاثة من شباب الأدباء ظهروا في أخريات العقد الأول من القرن العشرين، بعد أن تشبعوا بدراسة الأدب الإنجليزي وهو عبد الرحمن شكري، وعباس العقاد، والمازني. وكان شكري رائد هذه المدرسة، وكان متمكنًا في اللغة الإنجليزية بحكم دراسته منذ السنة الأولى الابتدائية حتى تخرج في المعلمين العليا سنة 1909 وهي السنة التي صدر فيها ديوانه الأول "ضوء الفجر"1 وأعجب شكري كل الإعجاب بشعراء الرومانسية الإنجليزية، وردسورث وكولردج وشيلي وبيرون وكيتس وسكوت، وأخذ يلتهم كل ما أنتجوه في نهم وشراهة، وهو في هذه السن التي تتفتح فيها المواهب وتوجه الملكات، فتأثر بهم في الروح والمنهج، وفهم فهمًا جديدًا لمهمة الشعر غير ما كان يفهمه شعراء العربية قبله. كان طابع هذه المدرسة الإنجليزية البساطة في التعبير وعدم التقييد بما كان يسمى "المعجم الشعري" the poetic diction. بل كانوا يؤثرون الكلمات المألوفة الشائعة الاستعمال، ثم الاهتمام بالنفس الإنسانية في أبسط صورها، فلم يحفلوا بالملوك والأمراء ورجال الحاشية والأبطال، كما كانت تحتفي المدرسة الاتباعية "الكلاسيكية"، وإنما فتشوا عن النفس الساذجة البسيطة التي لم يلوثها النفاق الاجتماعي والرياء والزيف، وراحوا يسبرون أغوار نفوسهم ونفوس العامة من الشعب، ويفحصون عما تكنه هذه النفوس في دقة ووضوح، كما أغرموا بالطبيعة غرامًا شديدًا. كان شعرهم وجدانيًّا ذاتيًّا ينبع من قرارة نفوسهم، ويستوحي مشاعرهم وحدها، ولكنهم لم يكونوا متشائمين، ولم يفعل بهم الأسى ما فعل بإخوانهم شعراء الرومانسية الفرنسية، الذين صبغوا شعرهم صبغة حزينة سوداء؛ نتيجة للكبت وخيبة الآمال في الإمبراطورية التي شيدها نابليون ثم قوضتها رياح الأحداث العاصفة، والخراب الذي حل بفرنسا على أثر تلك الحروب الطويلة التي أثمرت اليتم والترمل والفقر والفراغ القتال.

_ 1 راجع ترجمتنا عبد الرحمن شكري في "دراسات أدبية ج1 ص231".

بيد أن المدرسة الإنجليزية التي أتت بعد زعماء المدرسة الرومانسية الأوائل جنحت إلى الواقعية، وتكتشف لها الطبيعة البشرية في أبشع صورها وتمثل لها ذلك الصراع الدامي في المجتمع الغربي بين الننزعات والرغبات المتباينة، وعبرت عنها تعبيرًا مباشرًا، فجاء أدبها حزينًا كئيبًا متشائمًا، يمثله بروننج، وبو، وويتمان، وتوماس هاردي وأضرابهم. وقد قرأ لهم شكري كما قرأ لأسلافهم، ومن ثم أصيب بعدوى الحزن والكآبة التي صارت طابع شعره كله، وقد أتيح له أن يذهب إلى إنجلترا عقب تخرجه في مدرسة المعلمين العليا، ومكث ثمة بضع سنوات زادت فيها ثقافته الأدبية واتسعت آفاقها. وقرأ كثيرًا بالإنجليزية عن الآداب الأوربية الأخرى ثم عاد إلى مصر، وزادت صلته وثاقة بالمازني والعقاد، وأخذ يوالي إصدار دواوينه الشعرية حتى بلغت سبعًا في بضع سنين آخرها سنة 1919 وقد قدم العقاد لديوانه الثاني، كما كتب هو مقدمة الجزء الخامس من ديوانه، وتعتبر هذه المقدمة دراسة طيبة لرأيه في الشعر والطريقة التي يجب أن يسلكها الشعراء، وقد وضع فيها أسس هذا المذهب الجديد في الشعر، ذلك المذهب الذي سلكه صاحباه المازني والعقاد على اختلاف بينهم في الاهتمام بالعاطفة والفكر حيث زاوج شكري بينهما، وأثر المازني العاطفة، وانفرد العقاد بالفكرة. ويقر المازني بأن شكري هو الذي هداه إلى الطريق السوي في الشعر حيث قال1: "ولقد غبر زمن كان فيه شكري محور النزاع بين القديم والجديد -ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل، فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه، وكنا يومئذ طالبين في مدرسة المعلمين العليا وكانت صلتي به وثيقة، وكان كل منا يخلط صاحبه بنفسه، ولكني لم أكن يومئذ إلا مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين في الأدب، ورأي حاسم فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أنكر أنه أول

_ 1 جريدة السياسية عدد 5 من إبريل 1930 بعنوان التجديد في الأدب.

من أخذ بيدي وسدد خطاي"، ودلني على المحجة الواضحة، وأنني لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى، ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى". قال المازني هذا، بعد أن جحد فضل شكري، وأساء إساءة بالغة في "الديوان" حيث سماه صنم الألاعيب، وجحد كل ماله فضل، ورماه بالجنون، وجرده من كل صفات الشعراء. مما ألم شكري أشد الألم. وزاده زهدًا في الناس والحياة وتشاؤمًا، فآثر العزلة والانصراف عن قول الشعر إلا لمامًا في أوقات متباعدة، كما قضت هذه المعركة على المازني وصرفته عن قول الشعر. حدد شكري مهمة الشاعر بقوله1: "ينبغي للشاعر أن يتذكر -كي يجيء شعره عظيمًا- أنه لا يكتب للعامة، ولا لقرية، ولا لأمة. وإنما يكتب للعقل البشري ونفس لإنسان أين كان، وهو لا يكتب لليوم الذي يعيش فيه، وإنما يكتب لكل يوم وكل دهر، وهذا ليس معناه أنه لا يكتب أولًا لأمته المتأثرة بحالتها المتهيئ ببيئتها. ولا نقول إن كل شاعر قادر على أن يرقى إلى هذه المنزلة، ولكنه باعث من البواعث التي تجعل شعره أشبه بالمحيط -إن لم يكن محيطًا- منه بالبركة العطنة في المستنقع الموبي". ومعنى هذا أن الشاعر يجب أن يستوحي نفسه ويعبر عنها غير ملتفت إلى العامة أو القرية أو الأمة، وأن تكون نظرته شاملة للإنسانية جمعاء وليست محلية خاصة -وهو مطلب عسير كما أقر بذلك. ويفهم من هذا أيضًا نفوره من شعر المناسبات والأحداث اليومية التي تحيط بالشاعر، وقد صرح بذلك في مقدمة الجزء الرابع حيث قال: "وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة أو حملة جراد أو حريق، فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه؟ أو جفت عاطفته؟ ".

_ 1 مقدمة الجزء الخامس.

ولم يكن الشعر عند شكري كلامًا مزوقًا مرصوفًا، عذب الجرس والنغم فحسب ولكنه معنى وفكرة وعاطفة قبل كل شيء، والمعاني البكر تتولد من سواها، وهذا لا يتأتى إلا بإدمان القراءة في نهم وشراهة، فكثرة الاطلاع خير زاد للشاعر، تثير خياله، وتحشد أمامه المعاني يختار جيادها، وتبعثه على التأمل. وكان شكري من المولعين بالقراءة في الأدبين العربي والغربي على السواء وفيه يقول العقاد1: "لم أعرف قبله ولا بعده من شعرائنا، وكتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته وجدت عنده علمًا به وإحاطة بخير ما فيه، وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ" وفي جدوى القراءة وأثرها في الشعر يقول شكري: "الاطلاع شراب روح الشاعر، وفيه ما يوقظ ملكاته ويحركها ويلقح ذهنه، ونفس الشاعر ينبوع، والاطلاع هو الآلة التي يرفع بها ماء ذلك الينبوع إلى الأماكن العالية، والشاعر في حاجة إلى محركات، وبواعث، والاطلاع فيه كثير من هذه المحركات والبواعث، والأديب الذي لا يقوم بالاطلاع كالماء الآسن العطن الذي لا يحركه محرك". "وكلما كان الشاعر أبعد مرمى، وأسمى روحًا كان أغزر اطلاعًا فلا يقصر همه على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم، فإن الشاعر يحاول أن يعبر عن العقل البشري، والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه، وأن يكون شعره تاريخًا للنفوس ومظهر ما بلغته النفوس في عصره". وإذا كان شكري قد استطاع أن يفيد شعره من كثرة اطلاعه فتغزر معانيه، ويطرق أبوابًا جديدة في الشعر لا عهد للعربية بها ولا سيما في الشعر الوجداني الذاتي، فإن المازني قد استساع أن يترجم شعر غيره وينسبه لنفسه، وقد صدر

_ 1 مجلة الهلال عدد فبراير 1959.

الجزء الأول من ديوانه سنة 1914 وفيه بعض الشعر المنقول عن الإنجليزية مدعيًا أن له مثل قصيدة: "رقية حسناء" وهي "لشلي" والجزء الأخير من قصيدة "أماني وذكر" وهي "لبيرنز" وأول هذا الجزء "ياليت حبي وردة"، و"فتى في سباق الموت" وهي "لهود" وغيرها مما جعل شكري يفزع من هذه السرقات؛ إذ ليس معنى سعة الاطلاع وكثرة القراءة والتجديد في الشعر أن نسطو على آثار سوانا دون التنويه بهم وبفضلهم، فنعى على المازني هذه السرقات وإذاعها في الناس، وهو العليم بمواطنها في الشعر الإنجليزي، ولم يغتفر المازني لأستاذه وصديقه صراحته في تهجمه في إفشاء سره، فشن عليه حملة شعواء في "الديوان"، ذكرناها آنفًا، وقد قضت عليهما معًا في ميدان الشعر. ومن يتملى كلام شكري في فائدة القراءة وأثرها في تزويد الشعر بالمعاني وغثارة الخيال، يدرك أن شكري ممن يؤثرون المعنى على اللفظ والصياغة وكان هذا طابع مدرسته وجرى على سنته زميلاه، وقد أضر ذلك بشعرهم؛ لأن المعاني في الشعر لا تقصد لذاتها، ولكنها تقصد حين تلبس الفن الرفيع، مصحوبة بالموسيقى الشعرية الخلابة، فإن اكتفى الشاعر بالمعنى ولم يعط أركان الشعر الأخرى حقها هبط شعره إلى مستوى النثر. ولم يكن شكري ممن يهتمون باختيار الألفاظ ذات الجرس والرنين بل كلف بالبساطة في التعبير وباستعمال الكلمات المألوفة، وهو بهذا يقتفي أثر المدرسة الرومانسية الإنجليزية التي نفرت من المعجم الشعري ويقول: "وجدت بعض الأدباء يقسم الكلمات إلى شريفة ووضيعة، وبحسب أن كل كلمة كثر استعمالها صارت وضيعة، وكل كلمة قل استعمالها صارت شريفة، وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق وفوضى الآراء في الأدب، والعيب في استعمال الكلمة في غير مواضعها". وعبر شكري عن سخطه على طريقة الشعر الموروثة، وثار عليها ثورة عملية ونقدية، وقد راعه اهتمام الشعراء بالتشابيه والاستعارات والمبالغات ممن غير أن يكون لها أثرها في القارئ أو السامع وذلك حين يقول: "وقد فسد ذوق

المتأخرين في الحكم على الشعر حتى صار الشعر كله عبثًا لا طائل تحته. فإذا تغزلوا جعلوا حبيبهم مصنوعًا من قمر وغصن وتل وعين من عيون البقر ولؤلؤ وبرد وعنب ونرجس ... إلخ، ومثل ذلك قول الوأواء الدمشقي: فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد ويقول كذلك مفصلًا الكلام على التشبيهات التي ولع بها المتأخرون: "ومثل الشاعرالذي يرمى بالتشبيهات على صحيفته من غير حساب، مثل الرسام الذي تغره مظاهر الألوان فيملأ بها رسمه من غير حساب"، التشبيه عنده لا يقصد لذاته، وليس هو عقد صلة بين محسوس أو بين معنوي ومحسوس"، فوصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يقترن بعواطف الإنسان وخواطره وذكرياته وأمانيه وصلات نفسه، والتشبيه لا يراد لذاته، وإنما يراد لشرح عاطفة أو توضيح حالة أو بيان حقيقة، وأجل الشعر عنده ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية. وهو بهذا يريد أن يجعل التشبيه وسيلة لحمل أثر المشبه في نفسه أو الإيحاء بهذا الأثر فالتشبيه إذا لم يقرن بالعاطفة أو لم يكن وسيلة لنقلها فلا فائدة منه ولا جدوى فيه. وقد ضرب مثلين على الشعر الجيد الذي وصف حالة مشبعة بالعاطفة فكان أثره في النفس رائعًا أولهما في الرثاء قول مويلك يرثي امرأته وقد خلفت له بنتًا صغيرة فوصف حالة هذه البنية بعد وفاة أمها: فلقد تركت صغيرة مرحومة ... لم تدر ما جزعًا عليك فتجزع فقدت شمائل من لزامك حلوة ... فتبيت تسهر أهلها وتفجع وإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شئون عيني تدمع فهو لم يعلمك شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه، ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقة، ومهارته في تخيل هذه الحالة ووصفها بدقة ومن أمثال هذا في الغزل قول ابن الدمينة في وصف حياء الحبيب.

بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزًّا والشعر هو ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا. وقد بين شكري الفرق بين الخيال imagination والوهم fancy؛ لأن كثيرًا من الشعراء يخلطون بينهما، فيفسد شعرهم وذلك حين يقول: "إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن حق والتوهم هون أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع يغري به الشعراء الكبار ومثله قول أبي العلاء المعري: وأهجم على جنح الدجى ولوانه ... أسد يصول من الهلال بمخلب والصلة التي بين المشبه والمشبه به صلة توهم ليس لها وجود، وكذلك قول أبي العلاء في سهيل النجوم: ضرجته دمًا سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان أي أعادٍ، وأي السيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحًا بين التخيل والوهم، وأما أمثلة الخيال الصحيح، فهو أن يقول قائل إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري: كالكوكب الدري أخلص ضوءه ... حلك الدجى حتى تألق وانجلى فهذا تفسير للحقيقة وإيضاح لها، وكذلك قول الشريف الرضي: ما للزمان رمى قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر والقعب القدح، فهو يشبه تفرق قومه، بتطاير أجزاء الإناء المكسور وهذا أيضًا توضيح لصورة حقيقة من الحقائق وهي تفرق قومه، وفي الحق إن هذه التفرقة بين الخيال والوهم تدل على رهافة حس ورقة ذوق وحسن تفهم للشعر؛ وقد عد العقادُ شكري رائد هذا التفرقة، ووضحها في كثير من مقالاته النقدية كما ستأتي بعد.

والمعاني الشعرية عند شكري هي: خواطر المرء، وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه عبارات عواطفه. ومن الأمور النقدية التي نادى بها شكري وحده القصيدة وقال في ذلك: "قيمة البيت في الصلة التي بين معناه وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل، ولا يصح أن يكون البيت شاذًّا خارجًا عن مكانه من القصيدة بعيدًا عن موضوعها، وينبغي أن ينظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل لا من حيث هي أبيات مستقلة". وقد قلنا في غير هذا الكتاب1 تعليقًا على رأي شكري هذا: "وهذه الدعوة إلى وحدة القصيدة ثورة على نظام الشعر العربي الذي كان البيت فيه وحدة مستقلة، ولكننا نلاحظ أن شكري لم يتطرف في دعوته مثلما تطرف العقاد من بعد، حين دعا إلى الوحدة العضوية وإلى أن القصيدة بنية حية؛ وكل الذي أراده شكري ألا يكون البيت خارجًا في معناه عن موضوع القصيدة، أي أن القصيدة تكون كلها ذات موضوع واحد، لا عددًا من الموضوعات، كما كانت القصيدة العربية التي وضع أسسها الجاهليون. إن وحدة القصيدة كما أرادها شكري قد تحققت لديه، فكل قصيدة من شعره غالبًا ذات موضوع واحد، مرتبطة أبياتها بعضها ببعض ولكن ليس بالقدر الذي إذا قدمت فيه بيتًا على آخر، أو أخرت بيتًا أو حذفته اختل نظام القصيدة وبتر المعنى. كما أراد الأستاذ العقاد وتهكم بشوقي في قصيدته التي رثى بها مصطفى كامل. إن طبيعة الشعر الوجداني أن يكون انفعالات يتلو بعضها بعضًا وليس انفعالًا واحدًا متصلًا، وذلك لتعدد الانفعالات وتباينها نوعًا وضعفًا، ولم تتحقق الوحدة العضوية أبدًا في الشعر الوجداني لدى أي شاعر من شعراء العالم، اللهم إلا إذا نظمها على طريقة القصة، فهنا فقط يجوز أن تتحقق، وفي شعرنا القديم حتى الجاهلي منه أمثلة عدة لوحدة القصيدة إذا جاءت قصة".

وقد حاول شكري أن يخرج على القافية العربية في القصيدة فنظم الشعر المرسل وهو الموزون غير المقفى، وقد أنهى ديوانه الأول: "ضوء الفجر" بقصيدة طويلة من الشعر المرسل تحت عنوان "كلمات العواطف"، ويجد له في الجزء الثاني قصيدة من هذا النوع بعنوان "واقعة أبي قير" وأخرى "نابليون والساحر المصري". وقصيدته "كلمات العواطف" أفكار متناثرة، وأبيات مستقلة بعضها عن بعض، ولم يكن ثمة ضرورة لأن تأتي بالشعر المرسل إذ لم تأت مرتبطة ارتباطًا تامًا، وطويلة طولًا مفرطًا، فتكون القافية الموحدة مجهدة للشاعر أو تكلفة. وربما ساقها إلى وحدة القصيدة وترابط أبياتها في المعنى والموضوع -وقد كان الموضوع وجدانيًّا لذلك نفرت منها الآذان فعدل عنها إلى الأقصوصة الشعرية في "واقعة أبي قير" وفي "نابليون والساحر المصري". والمتأمل في شعر شكري ممثلًا في دواوينه السبعة، وفي نظرته النقدية التي أوردها في بعض مقدمات هذه الدواوين يدرك أن شكري لم يهتم من ضروب الأدب إلا بالشعر، ولم يعن من فنون الشعر إلا بالشعر الوجداني الذاتي الذي يصدر نتيجة تجربة خاصة، ولم يلتفت لشئون الحياة حوله، وبذلك ضاق مفهوم تقدم الشعر لديه غرضًا وأداء، فلم يكثر من الأقصوصة الشعرية ولم ينظم المسرحيات التي تتيح للشاعر الفرصة لخلق الشخصيات المتباينة ودراسة المجتمع، ولم يهتم بالشعر الموضوعي، الذي يعد جديدًا في الأدب العربي، وكأنما الدنيا كلها تركزت في نفسه. ومهما يكن من أمر فقد خلا شعره من المديح والرثاء "إلا النادر" وهو رثاء جديد، ليس فيه العويل والصراخ والنحيب، وإنما فيه تأملات ذهنية وحديث عن الموت وسطوته. وكان الشعر عنده "رحلة إلى عالم أجمل وأكمل وأصدق من هذا العالم،

رحلة إلى عالم يحس المرء فيه لذات التفكير أكثر مما يحسها في هذا العالم الأرض". ومع أنه عنى بالشعر الوجداني الذاتي، فقد عرج على بعض آفاتنا الاجتماعية ولم يخض في السياسة بالجزء الأول ولا مرة واحدة حين اشتد النزاع بين المسلمين والأقباط. لقد كان شكري واسع الثقافة جدًّا، وكان شاعرًا مرهف الذوق والحس، يعرف طريقة في الشعر، وكان له مذهب كونه بعد دراسة، وكنا ننتظر منه أن يروج لهذا المذهب ويدعو إليه ويبسط قضاياه ويدافع عنه، ولكن حياته الأدبية كانت قصيرة، وجنى عليه فرط حساسيته وطموحه الشديد، وتوهمه تنكر الناس له فآثر العزلة وحرم النقد الأدبي، والشعر ثمرات هذه العقلية الفذة المجددة. وإن جهد زميله العقاد أن يسد الثغرة بكتاباته المستفيضة في النقد والدعوة إلى هذا المذهب الجديد في الشعر. كان العقاد كزميله شكري ممن تأثر بالأدب الإنجليز في مذهبه الشعري، وفي نظرته النقدية، وقد بين هذا في قوله: "وأما الروح فالجليل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إبغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان، واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر فنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت: إن "هازلت" هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، ومواضع المقارنة والاستشهاد.

وقد كان الأدباء المصريون الذين ظهروا أوائل القرن العشرين يعجبون "بهازلت" ويشيدون بذكره ويقرءونه، ويعيدون قراءته يوم كان هازلت مهملًا في وطنه، مكروهًا من عامة قومه؛ لأنه كان يدعو في الأدب والفن والسياسة والوطنية إلى غير ما يدعون إليه، فكان الأدباء المصريون مبتدعين في الإعجاب به لا مقلدين ولا مسوقين. ولقد كانت المدرسة الغالبة على الفكر الإنجليزي الأمريكي بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر هي المدرسة التي كانت معروفة عندهم بمدرسة "النبوءة والمجاز"، أو هي المدرسة التي تتألق بين نجومها أسماء كارليل، وجون ستيوارت مل، وشيلي، وبيرون، ووردزورث1 ثم خلفتها مدرسة قريبة منها تجمع بين الواقعية والمجازية، وهي كمدرسة بروننج، وتنيسون، وإمرسون، ولو نجفلو، وبو، وهاردي، وغيرهم ممن هم دونهم في الدرجة والشهرة2 وقد سرى من روح هؤلاء الشيء الكثير إلى الشعراء المصريين الذين نشئوا بعد شوقي وزملائه3. وهازلت كان عنيفًا في نقده لأكثر ما كتب معاصروه، وقد قال عن نفسه: "أنا لا شيء إذا أكن نقادة" وكان يقول ما في نفسه بصراحة تامة ولم يكن يستطيع الكتابة من غير صراحة، ولو أطلق لأهوائه العنان حينما كان يتكلم عن الأباء الأقدمين ما جعل من أديب معاصر له مثلًا يحتذي، وقد قال في تعليق له على نفسه في حواء تخيلي: "إني أصدقك حينما تمدح لا حينما تذم" وكان يصور معاصريه كما يراهم، ويجعل من أخطائهم وهفواتهم جزءًا في الصورة، ولا يحابي ولا يجامل، ولا يتأول، أو يقبل معذرة4.

_ 1 وهي المدرسة الإبداعية وقد فصلنا خصائصها في كتابنا "المسرحية" فأرجع إليه. 2 راجع خصائص المدرسة الواقعية في كتابنا "المسرحية" وسترى ثمة الأسباب التي أدت بهذه المدرسة إلى التشاؤم. 3 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص191- 193. 4 راجع TJE OMTRPDICTOPM TP WPRDS WPTRTH POETRY WITH ESSAYS BY COLERIDGE, HAZLITT AND DE QUINECEY. OXFORD PRESS

ويقول عنه "دي كونسي": لقد وضع هازلت نفسه في معارضة قوية مع كل ما هو نافع تحت الشمس في هذا العالم، ومع كل الشخصيات القوية ذات السيطرة في إنجلتر1 وهذا هو السبب في أنه كان مكروهًا. كان كثير التفكير، والعزلة، عاش عزبًا، عازفًا عن الشهرة ومظاهر الحياة، وكلما أكثر من التفكير إزدادت نظراته إلى الحياة سواءًا وتشاؤمًا2، "ولم يكن هازلت فقيرًا في المشاعر العميقة، أو أسمى أنواع الإلهام وراء المثل الأعلى في الخير، ولكن ليس لذوقه الأدبي أصول رئيسية يعطي بها أي إشارة أو دليل نحو أهدافه، وليس ثمة نقط مركزية في ذهنه، تدور حولها مشاعره، أو تتبلور خيالاته وليس ثمة فارق واضح بين مواهبه التخيلية وذكائه. أما في نقده فبدلًا من أن يقودنا نحو هدف معين، نراه يفتح أمامنا طرقًا جانبيه عديدة، نعاني النظر إليها الشيء الكثير، حتى ننسى الغاية في رحلتنا3". هذه هي الصفات البارزة العامة في نقد هازلت التي أعجب به العقاد كثيرًا، ونهج منهجه في النقد، أما المدرسة الأدبية التي أعجب بها العقاد، وهي مدرسة بيرون ووردسورث فهي المدرسة التي عنيت بالحياة الإنسانية في أبسط مظاهرها، تاركة كل ما يتألق في صفحات التاريخ وهي التي أغرمت بالطبيعة، وتذوقها بحدة وحرارة، ووقفت طويلًا أمام أقل نتاج للطبعية تتأمل جماله وتتملى محاسنه، وتستوحيه وتستلهمه، ودعت إلى البساطة متجنبة الزخرف، والألفاظ الضخمة الطنانة، وفي ذلك يقول ورد سورث في مقدمة Lyrical Ballads أو الحكايات الشعبية الشعرية: إن هؤلاء الذين تعودوا من كثير من الكتاب المحدثين العبارات المزخرفة الطنانة، إذا أصروا على قراءة هذا الكتاب عن آخره فإنهم سوف يعانون إحساسات غريبة متغيرة، غير رشيقة. وسوف يبحثون عن الشعر، ويضطرون للسؤال عن أي نوع من المجالات سمع لهذا النوع من الكلام أن يسمى شعرًا"4؛ وذلك لبساطته، ولأنه تناول الحياة المألوفة التي لم يتعود الشعراء أن يأبهوا لها أو يعنوا بالتحدث فيها.

_ 1 راجع. 214. WILIAM HAZLITT BY. AUGUATIN GIRREILL.P 2 المصدر السابق 215. 3 راجع. EDINBURGH REVEW. VOL. XXXL. V 4 راجع مقدمة LYICAL BALLADS

وأما هؤلاء الذين أتوا على أعقاب تلك المدرسة من أمثال هاردي، وويتمان، وبو، فهي المدرسة المتشائمة المتصوفة، المغرقة في تصوير أبشع ما في الإنسانية، وهي في نفس الوقت تجنح إلى الواقعية، والواقع مليء بالمآسي والأوصاب الاجتماعية؛ ولقد أورثهم تغلغلهم في الواقع اشمئزازًا من المجتمع الإنساني وزهدًا فيه ونفورًا منه وتشاؤمًا في الحياة، ولقد دافع العقاد عن تشاؤم هاردي كثيرًا، بل نراه يحذو حذوه في ديوان "أعاصير مغرب"، حين اختار اسم الديوان، وحين نظم في الحب وهو في الشيخوخة كما نظم هاردي ودافع عن رأيه هذا بمنطقه المعهود، وتراه تشاءم كما تشاءهم هاردي فيتعجل غروب الحياة، ولما سئل في هذا اقتبس رأي "بيرون" وهو في السادسة والثلاثين من عمره: "أن لهذا القلب أن يسكن، من عز عليه أن يحرك سواه، ولكني، وقد حرمت من يهوى إلى حسبي نصيبًا من الحب أن أهوى. إن أيامي المكتوبة على الورقة الذاوية، إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعة، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى، هي لي ... لي وحدها تحيا"1. ولست أريد في هذا المقام أن أسهب في تبيان خصائص نص هذه المدارس التي تأثر بها العقاد والمازني وشكري، ومن تتلمذ لهم بالتفصيل، فلذلك موضعه من الكتاب عند الكلام عن المدرسة المجددة في الشعر العربي الحديث. ولكن حسبنا في هذه المرحلة أن نبين أثرها في نقدهم للشعر، وتوجيههم للأدباء، ولا سيما أثرها في الأستاذ العقاد، وهو أكثر من تكلم من النقاد عن الشعر، وعن مذهبه، فيه. يقول العقاد: "وقد استطاعت هذه المدرسة المصرية أن تقاوم فكرتين كلتاهما خاطئة ناقصة، وإن جاءت إحداهما من الماضي، وجاءت الأخرى من أحدث الأطوار في الاجتماع، وتعني بالفكرة الأولى تلك التي يفهم أصحابها أن "الأدب القومي" هو الأدب الذي تذكر فيه الظواهر والمعالم القومية بالأسماء والتواريخ والحوادث،

_ 1 مقدمة أعصاير مغرب ص15.

وهكذا كان جيل شوقي وحافظ يفهم "القومية" التي ينبغي للشعراء المصريين، فليس من الأدب القومي عندهم أن يصف الشاعر عواطفه الإنسانية، أو يصف المحيط الأطلسي، أو نهر دجلة، أو مناظر لندن وباريس؛ لأن هذه الأشياء لا تحمل اسم النيل ومصر والهرم، وأخبار الصحف المحلية والحوادث الداخلية، وفي فكرة خاطئة ناقصة تنفيها أمثلة من العظماء في كل زمن وكل أمة. وأما الفكرة الثانية التي قاومتها مدرسة الشعراء المصريين في الجيل الحديث فهي الفكرة الاشتراكية العقيمة، التي تحرم على الأديب أن يكتب حرفًا لا ينتهي إلى "لقمة خبز" أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الاجتماع1. إلى أن يقول: "فمدرسة الشعر المصري بعد شوقي تعنى بالإنسانية ولا تفهم "القومية" في الشعر إلا على أنها إنسانية مصبوغة بصبغة وطن من الأوطان، وهي تلقي بالها كله إلى شعور الإنسان في جميع الطبقات، وهي على هذا مدرسة الطبيعة والإنسانية". ولقد قال الأستاذ العقاد في مقدمته للجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري سنة 1913. "إن الشعر قد يسلي ويرفه عن الخواطر، ولكنه فوق ذلك يهذب الأخلاق ويلطف الشعور، ويعين الأمة في حياتها المادية والسياسية والاجتماعية" وقال في موطن آخر2: "إن الأدب الصحيح السامي الذي ينبغي أن يتخذ مقياسًا تقاس إليه الآداب هو الأدب الذي تمليه بواعث الحياة القومية، وتخاطب به الفطرة الإنسانية عامة، أما إن أملته بواعث التسلية والبطالة، وخاطب الأهواء العارضة، فهو أدب غث مرذول مكشوف ينبغي نبذه ومحاربته". فهو في هذين النصين يعدل من فكرته في محاربة الشعر القومي كما فهمه شوقي وحافظ ومن سار على نهجهما، فقد كان هذا الشعر يعين الأمة في حياتها المادية والسياسية والاجتماعية، وتمليه بواعث الحياة القومية ولا ريب. وتراه في مواطن آخر يفسر الشعر الاجتماعي تفسيرًا جديدًا فيقول:

_ 1 وهو بهذا ينعي على حافظ وشوقي وعبد المطلب ومحرم وإخوانهم شعرهم الاجتماعي وحثهم أولي الأمر على العناية بالفقير ومحاربة الجهل والمرضى في مصر. 2 مطالعات في الكتب والحياة ص4.

"إن الشعر الصادق يعبر عن كل نفس، وهو بذلك يعبر عن المجتمع بأسره ويؤثر فيه، ولذا نعده شعرًا اجتماعيًّا وإن لم يدون حادثًا قوميًّا أو نحوه"1، ولا شك أن الجمال والجلال ليسا وقفًا على مصر وحدها، والشاعر المرهف الحس، الذواقة للجمال والجلال يراهما في مواطن كثيرة من العالم، وهو حين يصفهما، وينقل إلينا عواطفه إزاء ما يرى سواء كان ذلك في لندن أو باريس أو غيرهما من بلاد العالم إنما ينقل إلينا إحساسه الذاتي ومشاعره الخاصة ومن التعسف أن نسمي شعره هذا شعرًا قوميًّا؛ لأن المراد بالشعر القومي ذلك الذي يحفز المشاعر ويحث الهمم على إعلاء شأن الوطن أو تمجيد تاريخه. أو وصف روائع آثاره وجمال طبيعته مما يبعث في النفوس الإعجاب به والحب له والفناء في سبيله. ولعل الأستاذ العقاد أراد ألا يقف الشعراء على هذا الضرب من الشعر القومي الذي يحمل اسم النيل الهرم ومصر، وأن تتسع آفاقهم فتشمل الإنسانية جمعاء. ولكن عذر هؤلاء الشعراء في تلك الحقبة أن مصر كانت في صراع مرير مع قوى الاستعمار الغاشم الذي جهد كل الجهد في أن يمكن لأقدامه في هذه الديار واصطنع كثيرًا من ذوي النفوس الضعيفة، وفرض علينا لغته وثقافته، وعمل على مسخ الروح القومية والتشكيك في القيم التي كنا نقدسها ونحتفي بها، فكان الشعراء يحسون بآلام هذه الأمة المكافحة ويدركون عنف هذا الصراع فترجموا عن أحاسيس مواطنيهم وشجعوهم وثبتوهم بهذا الشعر القومي، وعملوا على غرس محبة هذا الوطن وإعزازه في قلوب مواطنيهم. ومع هذا فإن شوقي بخاصة لم يقف عند حد النيل وبالهرم ومصر وآثارها فله عشرات القصائد الرائعة التي قالها في غير مصر فإن في: دمشق وبيروت ولبنان وعاب بولون وقبر نابليون والبسفور والأندلس وطوكيو وسواها.

_ 1 الفصول ص19.

وأما فكرة الاشتراكية العقيمة التي عابها الأستاذ العقاد على شوقي وزملائه، وسماها حرب الطبقات، فلم يكن يقصد سوى الشعر الاجتماعي الذي يحارب الجهل والفقر والمرض، ويعمل على رفع مستوى الحياة في مصر وبحث على بعث روح الإسلام والنخوة الوطنية حتى يهتم ذوو الثراء بمواطنيهم الذين قتر عليهم في رزقهم. إن هذه مآس وطنية قومية، وكنا في مستهل النهضة، وهذه قوى معنوية معطلة، ويجب على الشاعر ألا يعيش في عزلة عن قومه، لا يفرح لأفراحهم ولا يأسى لمآسيهم، ويكتفي باستبطان ذاته وسبر أغوار نفسه، وترجمة عواطفه الخاصة كما فعل شكري. إن هذا الشعر القومي، والشعر الاجتماعي شعر إنساني ما في ذلك شك ما دام مصحوبًا بالعاطفة المعبرة، وما دام هدفه الخير والجمال والحق. واهتمام العقاد وزملائه بالإنسان ترديد لمذهب ورد سورث الذي ذكره في أكثر من موضع مع رواياته وقائده، وعرفه عنه مواطنه ومعاصروه، من ذلك قوله في التوطئة The Prelude ليس موضوعي إلا قلب الإنسان وحده. My Theme, no other than the very heart of man. ويقول في "ميخائيل" Micheal: إنه قيد للتفكير في الإنسان، وفي قلب الإنسان، وفي الحياة الإنسانية. .On Man, the heart of man, and human life وقد اهتم وردسورث فوق هذا بالقوانين الفطرية للطبيعة البشرية، وهو يرى أن هذه القوانين يمكن دراستها أحسن دراسة في الظروف العادية، لشخص عادي، أما من جدت أقلام المؤرخين جذلة لتشهرهم فإنه يراهم لا يستحقون كل هذا1.

_ 1 راجع. Werdworth poerty and prose. Introduction by, D, N. Smith P. Xll

وقد قال العقاد في كتابه "الديوان" وهو ينقد شوقي ويوجه الخطاب إليه: "اعلم أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها، ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزية الشاعر أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به"1. وقد فسر هذا مبينًا أثر التشبيه والاستعارات في الشعر وأن الغرض منها ليس تعداد الأشكال والألوان بقوله: "وإذا كان وكذلك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمرة بدل شيء واحد؛ ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعه وفكره صورة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع الشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه، وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه، لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده. وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وكما إخال غيره كلامًا أشرف منه إلا بَكُمَ الحيوان الأعجم".

_ 1 الديوان ص16 ج1.

وهو بهذا يشرح تلك النظرية التي قال بها شكري وحدد فيها مهمة التشبيه، وقرر الفرق بين التخيل والوهم. وفي الحق إن هذا فهم طيب لوظيفة الشعر وهو أن ينقل الأثر الذي انطبع في نفس الشاعر إلى سامعه فيزيد الموصوف قوة وجلاء. فالشعر هو التعبير الجميل عن الشعور الصادق، وإن كان الكشف عن حقائق الأشياء ولبابها لم يهتد إليه أحد بعد، وبحسب الشاعر أن يبين لنا في صيغة عذبة أثر الأشياء في نفسه وعاطفته إزاءها. ونرى العقاد أكثر وضوحًا في نقده حين يقول: "إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع، أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته"1. ولقد قال بعض النقاد القدماء بوحدة القصيدة كالحاتمي وهو من علماء القرن الرابع الهجري: "مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتعفى معالمه، وقد وجدت حذاق المتقدمين، وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذه الحال احتراسًا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتؤتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها. بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء"2، وإن كان هذا الكلام يخالف بعض الشيء ما قال به العقاد فهو لم يكتف بأن تكون القصيدة ذات موضوع واحد، بل تطلب أن تكون كائنًا حيًّا: وبهذا نادى بالوحدة العضوية، ونكرر هنا ما قلناه آنفًا من أن الشعر الغنائي الوجداني لا يمكن أن تتحق فيه هذه الوحدة العضوية إلا إذا كان أقصوصة غنائية؛ لأن الوجدان يأتي على دفعات وموجات ولا يكون شعورًا دائمًا متصلًا وفكرة متماسكة مترابطة.

_ 1الديوان ص46 ج4. 2 زهرة الآداب للحصري ج2 ص17، وابن الرومي للعقاد ص46.

إن النداء بوحدة القصيدة ثورة موجهة إلى نظام القصيدة العربية التي كانت تحتوي على عدة أغراض، ويكون البيت فيها وحدة مستقلة، بل عد من عيوب الشعر أن يكون له اتصال إعرابي بما يعده أو يتوقف معناه على غيره من الأبيات. وقد نادى بوحدة القصيدة قبل العقاد وشكرى خليل مطران كما سيأتي بعد، وقد أفادت هذه الحملة فتغير نظام القصيدة وبطل النسيب التقليدي الذي كان يتصدرها، ولكن لم يستطع أي شاعر أن يحقق في القصيدة الغنائية وفي الشعر الوجداني الذاتي الوحدة العضوية كما نادى بها العقاد إلا في القصة الغنائية؛ وهذه كانت معروفة قديمًا في الشعر العربي. ويرى ألا يكون في الشعر إحالة ويعني بها فساد المعنى، وهو ضروب فمنها: الاعتساف، والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه1.وينعي على الشعر إذا كان فيه تقليد، وهو تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المقيد والسرقة2. ويقول عن المبالغة بصفة خاصة إنها علامة من علامات انحطاط الفكرة فهي خليقة بأن تقل إذا ما انتشرت المعرفة وعنيت الأمة بالوقوف على الحقائق والاهتمام بالجواهر دون الأعراض"3، ولكن العقاد يحاول بعد ذلك أن يدافع عن المبالغة في الشعر فيقول: "لقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر العصري هو اجتناب المبالغة، وأن اجتناب المبالغة هو التزام الصحة العلمية، وعندي أن الذي يقول لحبيبه إنه أبهى من الشمس صادق في قوله؛ لأن الشمس لا تسره كما يسره حبيبه، ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها طلعة الحبيب"، ويوجه النصيحة للأدباء بقوله: "بالغوا، والتزموا الحقيقة الفنية، تكونوا عصريين كأحدث العصريين"4.

_ 1 الديوان ص54. 2 نفس المصدر ص59. 3 خلاصة اليومية ص15. 4 البلاغ الأسبوعي 22 من مايو سنة 1927 ص13.

ولعلك تحس بالتناقض في قوله، فهو بعد المبالغة من عيوب الشعر، ثم هو يدعو إلى المبالغة مع التزام الحقيقة الفنية، والمبالغة زيادة في الحقيقة سواء كانت فنية أو غير فنية. ويقول العقاد منتقدًا هؤلاء الذين يدعون الشعراء لكي يمثلوا عصرهم وأحداثه، وينفعلوا لها: "أطلب من الشعر أن يكون عنوانًا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه، ولا منفعته، ولا تتهمه بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات، والحوادث التي تلهج بها الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير"1، ولا يرى العقاد من الضرورة أن يمثل الشاعر بيئته" فتمثيل البيئة ليس من الشرائط الشاعرية، لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته، وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا يشبهها إلا في معارض لا يصح بها الاستدلال"2. وقد أخرج ديوانه "عابر سبيل" جاعلًا فيه أغراض الشعر هي الأمور العادية التي لم يكن ينظم فيها الشعراء من قبل "فليست الرياض وحدها، ولا البحار ولا الكواكب، هي موضوعات الشعر الصالحة لتنبيه القريحة، واستجاشة الخيال، وإنما النفس التي لا تستخرج الشعر إلا من هذه الموضوعات كالجسم الذي لا يستخرج الغذاء إلا من الطعام المتخير المستحضر، أو كالمعدم الذي يظن أن المترفين لا يأكلون إلا العسل والباقلاء". كل ما تخلع عليه من إحساسنا، ونقيض عليه من خيالنا، ونتخلله بوعينا، ونبث فيه من هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا هو شعر، وموضوع للشعر؛ لأنه حياة وموضوع للحياة ... وعلى هذا الوجه يرى "عابر سبيل" شعرًا في كل مكان إذا أراد. يراه في البيت الذي يسكنه وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل؛ لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية وكل ما

_ 1البلاغ الأسبوعي 27 من مايو سنة 1927 ص13. 2 نفس المصدر السابق.

يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى مجيبًا في خواطر الناس"1. ولعلك ترى العقاد لا يركز في نقطة واحدة يدور حولها نقده، ولا يتمسك برأي في هذا النقد، وليس لذوقه أصول يرتكز عليها نقده، شأن أستاذه "هازلت"، وليس من همي الآن أن أناقشه مستحسنًا أو معارضًا وإنما أحاول أن أبين أثر نقده في الشعر المعاصر، فالعقاد كما رأيت يدعو إلى وحدة القصيدة، ويدعو إلى عدم الإحالة والتعسف والمبالغة ثم يفسر المبالغة بأنها التي لا تتنافى والحقيقة الفنية، ويرى أن موضوع القصيدة يشمل كل شيء في الحياة، وأن الشعر ليس من الضروري أن يكون ذا فائدة، وأنه ليس من شروطه أن يمثل البيئة أو المجتمع، ثم بعد ذلك يرى أن كل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور جدير بأن يكون موضوعًا شعريًّا، صالح للتعبير، وأجد عند التعبير عنه صدى مجيبًا في خواطر الناس. أو ليس ذلك هو ما يشغل أذهان الناس في زمن ما وفي بيئة ما، فما باله يعيب على شعرائنا أن يقولوا في الحوادث السياسية، وأن يصفوا طبيعة مصر، ويصوروا المجتمع المصري بما فيه من أدواء تستحق العلاج ويتحسروا على إهمال الطبقات الفقيرة، أو ليس ذلك اهتمامًا بالطبقة العاملة في الأمة واهتمامًا بالإنسانية التي حرص العقاد على أنه يكون شعره وقفًا عليها؟ ولكنه يعارض فكرة القومية كما فهمها هيكل، وكما طبقها شوقي وحافظ وغيرهما. ومهما يكن من أمر، فإن مدرسة العقاد وشكري والمازني عنيت بالمعنى عناية فائقة، وعنيت بالفكرة، وإخراجها واضحة، ولو لم تكن في أسلوب رائق، ولفظ مونق، وإن حاولوا مرارًا أن يدافعوا عن بلاغة العبارة، وفي ذلك يقول المازني في انتقاده لشكري: "وأنت أيها القارئ قد تعلم أن سر النجاح في الأدب هو علو اللسان، وحسن البلاغ، وقوة الأداء، وأن على من يريد أن يشرح دينًا جديدًا "لأطفال" هذا العالم أن يحثهم بما أحب أسلافهم في سالف الزمن، أو بما

_ 1 مقدمة عابر سبيل ص 7-8.

يلذهم أن يحبوه لو عرفوه. وأنه لكي يغربهم به ينبغي له أن يتوخى القوة في العبارة عما يريد، فإن الناس خليقون ألا يؤمنوا إلا بمن عمر صدره بالإيمان. وقلما ظهر كاتب أو شاعر بالأداء، وكثيرًا ما يمتاز بعض الكتاب، وتخلد آثارهم لما أتوه من المقدرة على إجادة العبارة عن آراء غيرهم. ولعل هذا أكبر الأسباب التي أفضت إلى خمول شكري وفشله في كل ما عالجه من فنون الأدب؛ لأنه لا أسلوب له، إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل كاتب"1. وترى العقاد كذلك يدافع عن جودة العبارة، وإن لم يستطع كل شعراء المدرسة الحديثة إلا علي محمود طه المهندس أن يجمعوا بين جدة المعنى، ورشاقة اللفظ وحلاوة موسيقاه؛ إذ أن حرصهم على أن يغص شعرهم بالأفكار والحقائق، جعلهم يؤدون هذه الحقائق بأي لفظ تهيأ لهم؛ لأنه مقصورة لذاتها ولذلك لا تستسيغه الآذان، ولا يقبل عليه أهل الغناء، ومع كل هذا لا يرى العقاد بدأ من الدفاع عن بلاغة الأسلوب وقوته وجماله. إذ يقول ناقضًا رأي ميخائيل نعيمة في الغربال. "الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفي فيه بالإفادة ولا يغني فيه مجرد الإفهام، وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان؛ ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا، وأجمل وأوفى من الصواب. إن مجاراة التطور فريضة وفضيلة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة لم تخلق اليوم فتخلق قواعدها وأصولها في طريقنا وإن التطور إنما يكون في اللغات التي ليس لها ماضٍ، وقواعد، وأصول، ومتى وجدت القواعد والأصول فلماذا نهملها أو نخالفها إلا لضرورة لا مناص منها؟ "2. وكان العقاد في مستهل حياته النقدية يشجع النظم بالشعر المرسل كما جاء في مقدمته التي كتبها لديوان المازني الجزء الأول ولكن عدل عن رأيه هذا لأنه آمن بأن سليقة العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء3.

_ 1 الديوان ج1 ص49. 2 مقدمة الغربال ص8. 3 يسألونك ص64.

وقد لخص العقاد رأيه في مقاييس الشعر، وماذا يجب أن يكون بعد أن نيف على الستين وتركزت فكرته بقوله؛ "أما هذه المقاييس فهي في جملتها ثلاثة ألخصها فيما يلي. "أولها": أن الشعر قيمة إنسانية، وليس بقيمة لسانية؛ لأنه وجد عند كل قبيل، وبين الناطقين بكل لسان، فإذا جادت القصيدة من الشعر فهي جيدة في كل لغة، وإذا ترجمت القصيدة المطبوعة لم تفقد مزاياها الشعرية بالترجمة إلا على فرض واحد، وهو أن المترجم لا يساوي الناظم في نفسه وموسيقاه، ولكنه إذا ساواه في هذه القدرة لم تفقد القصيدة مزية من مزاياها المطبوعة أو المصنوعة، كما نرى في ترجمة "فتزجيرالد" لرباعيات الخيام. "وثانيها": أن القصيدة بنية حية، وليست قطعًا متناثرة يجمعها إطار واحد، فليس من الشعر الرفيع شعر تغير أوضاع الأبيات فيه، ولا تحس منه ثم تغييرًا في قصد الشاعر ومعناه. "ثالثها": أن الشعر تعبير، وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه صانع، وليس بذي سليقة إنسانية، فإذا قرأت ديوان شاعر، ولم تعرفه منه، ولم تتمثل لك شخصية صادقة لصاحبه، فهو إلى التنسيق أقرب منه إلى التعبير"1. ونكرر هنا ما سلف أن لاحظناه على النقد لدى شكري من أن هذه المدرسة وقفت عند باب الشعر الوجداني الذاتي، منصرفة عن سواه من ضروب الشعر الأخرى، ومناداتهم بالنظر إلى من قال لا إلى ما قيل، واهتمامهم بظهور شخصية الشاعر في شعره جب للشاعر الموضوعي كله وهو من أنواع الشعر التي نادى بها الغربيون، وأحلوها منزلة عالية وتتجلى في الملحمة المسرحية، ولذلك لا تجد لهم في هذا الميدان كثيرًا أو قليلًا، وإنما عكفوا على ذواتهم يسيرون أغوارها؛ ويتأملون ما حولهم ويعبرون عن أحاسيسهم بعد هذا التأمل، وهنا تضييق للشعر وحد من آفاقه.

_ 1 معراج الشعر: مقال للأستاذ العقاد بمجلة الكتاب أكتوبر سنة 1948.

ومهما يكن من أمر فقد أفادت حملات العقاد والمازني على الشعر التقليدي، فحاول الشعراء الذين كانوا ينهجون في مستهل حياتهم الأدبية منهج الأقدمين أن يجددوا في شعرهم، وإن لم يتيسر لمعظمهم أن يأتي بجديد يعتد به، ولا سيما في المعاني والقوالب؛ لأن القرائح كانت في نضوب، والطباع في شبه جمود. بيد أن فريقًا من الشعراء الشبان الذين اطلعوا على الآداب الغربية وتأثروا بتوجيهات النقاد. وحملاتهم الصارمة على الشعر التقليدي جدوا في الإتيان بشعر جديد، ولكنهم وللأسف لم يكن عند أكثرهم تلك القوة الخالقة المبتكرة، ولا هذا الأسلوب المتين، ولا تلك الينابيع الغزيرة من المعاني التي كانت للجيل السابق لهم، فلم يرتفعوا بالشعر إلى المستوى الذي كنا نرجوه. ومن نقاد هذه المدرسة التي حذفت الإنجليزية وأوغلت في قراءتها وتأثرت بنقادها، وحاولت جاهدة أن تعطي مفهومًا جديدًا للأدب بعامة والشعر بخاصة؛ المازني، وهو أحد الفرسان الثلاثة الذين كونوا المدرسة الأدبية النقدية. ولكن المازني لم يكثر من تقرير النظريات المجلوبة، بل حاول أن يمزج في نقده بين القديم والجديد، وكانت له شخصية في النقد التطبيقي، ويغلب عليه طبع الفنان الأديب أكثر مما تغلب عليه سمات الناقد؛ فهو يغالي في مدحه كما يغالي في سخطه، نراه مثلًا يتحامل على شكري حتى يجرده من كل صفات، الشعراء، ويتحامل على حافظ إبراهيم في رسالته "شعر حافظ" التي يقول في ختامها: "ولو كان له حسنات لاغتفرنا له ما في شعره من السيئات، فإن للمتنبي سرقات كثيرة ولكن حسناته أكثر". ونحن لا نبرئ المازني من الهوى في هذا التحامل، وقد ذكرنا آنفًا ما أفسد ما بينه، وبين شكري من مودة، ثم ندمه على ما فرط منه في هذا النقد الجارح. أما حافظ فكان الوشاة يبلغون المازني أن يكيد له في "نظارة المعارف" فأوغروا صدره عليه حتى جرده من كل نعت جميل، ثم أسف فيما بعد على هذا الشطط، وتمنى على الله أن ينسى ما كتبه على حافظ، أو ما سماه "الهراء القديم"1.

_ 1 حصاد الهشيم ص284.

أما إذا أعجب بشخص فهو يتجاوز عن سيئاته، بل يلتمس له المعازير ويبالغ في تصوير حسناته كما فعل مع ابن الرومي، فدافع عن تشاؤمه وسخريته، عازيًا نقمته على العصر وأبنائه إلى ذكاء الشاعر وفرط حساسيته، حتى لكأنه يحس الحياة بأعصابه، يحس ما فيها من الظلم والغبن والخلط والفساد والتناقص، وإحساسه هذا بثقل القيود المحيطة به أبرز "أنا" في شعره وفي حياته إلى المكان الأول من الواعية، فحفل شعره بذكر نفسه. واكتظ بالمقابلة بين الرغبة والإمكان، وبين الأمل والواقع، والذاتية إنما يبرزها إدراك حدودها والتصادم بما هو خارج عنها. ولعل سر إعجاب المازني بابن الرومي طبيعة المازني الساخرة، وأن المذهب الذي دعت إليه هذه المدرسة يؤكد ذاتية الشاعر ويعنى بإبرازها ويكشف عن أعماقها، فلا بدع إذا صرح بأن ابن الرومي أحب الشعراء إليه1. ويزعم أن ابن الرومي أعظم شاعر في العربية ويعلل لذلك بنسبة إلى الروم فهو آرى الأصل، ولذلك سلم من عيوب العرب في أدبهم من فساد الذوق وشطط الذهن، فتجد عندهم الحدة والطغيان والغلو ونحوها مما يجعل شعرهم جافيًا جامحًا، ومما يجعلهم ليسوا أشعر الأمم كما يظن بعضهم، وإن كانت لهم محاسنهم كمصدق النظر وذكاء المشاعر، وصفاء السريرة وعلو النفس، ولكن الشعوب الآرية أفطن منهم لمفانن الطبيعة وجلالة النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة -على أن أنبغ العرب هم أولئك الذين ينتهي نسبهم إلى غير العرب كابن الرومي مثلًا فهو آري الأصل فارسي يوناني- وقد ورث كثيرًا من صفات قومه، فهو أقرب إلى شعراء الغرب في أسلوب الشعر2. ولا نريد أن نصف المازني بالشعوبية، وتعبده لمقاييس الأدب الغربية وبخاصة تلك المدرسة الإنجليزية، وبهذا التحامل الذي يزري بالشعر العربي القديم كله ويجرده من سمات الشاعرية، وما في كلامه من تناقض، ولكنا إذا التمسنا له العذر أرجعنا هذا الآراء إلى إعجاب المازني بالأدب الغربي نتيجة قراءته الكثيرة فيه وبخاصة في الإنجليزية، وتأثره بهازلت

_ 1 المرجع السابق ص232. 2 راجع حصاد الهشيم عن ابن الرومي من صفحة 232- 422.

في طريقة نقده، ومحاولته تفويض الفكرة الشائعة عن الشعر والتي ورثها شعراء العصر الحديث، وساروا على نهجها منذ البارودي، فكان يضرب بمعوله من غير رحمة، ثم إلى طبيعته الجامحة وانفعالاته في غضبه ورضاه، فيشتد في سخطه كما يبالغ في ثنائه. ولسنا بصدد نقد ابن الرومي وتبيان طريقته وما فيها من عيوب وحسنات ولكنا بصدد المازني وطريقته في النقد، وإن كان لا يفوتنا هنا التنويه بما كان للعرب من نظرة صادقة إلى الحياة، ومن إكبارهم النفس الإنسانية وسبر أغوارها كما تجلى في حكمهم الكثيرة التي نعدها قوانين مركزة تشف عن النفس الإنسانية في كل زمان ومكان. أما الحق والفضيلة فلا أظن أمة من الأمم عنيت بهما مثلما عنيت الأمة العربية في أدبها وسلوكها وقانونها، ولولا خشية الاستطراد والخروج عن البحث لوفيت هذا الموضوع حقه، وبحسبي أن أحيل القارئ على كتابنا "الفتوة عند العرب" في الفصل الذي عقدته للموازنة بين العرب وسواهم من الأمم وبخاصة الغربية منها. ونستطيع أن نضيف هذا الجموح والشطط في نقد المازني للشعر العربي إلى نقده لشكري وحافظ ذلك النقد الذي تبرأ منه فيما بعد وندم عليه. ويفسر لنا المازني مذهبه في النقد فقال: "مذهبي في النقد أن أنظر ما في الكتاب من الإحسان مقيسة إلى جملة ما فيه من العيب، فإذا أربى الإحسان على الإساءة تقبلته، وتجاوزت عما فيه من نقص أو مأخذ وإلا رفضته، فهو ميزان ينصب، وأي كفتيه رجحت أخذت بها، وهذا في مذهبي هو العدل الميسور في وزن الآراء والأعمال والحكم عليها"، ويعلل لرأيه هذا بأن كتابًا ما لا يخلو من نقص ولو خلا -وتلك مرتبة لا تنال- لما كان إنسانيًّا "بل أنا أذهب إلى أن من البواعث الخفية على الإعجاب أن يفطن القارئ إلى مواضع النقص ومواطن الضعف، وأن يحس ولو إحساسًا غامضًا أن الكتاب من الكتب على جلالة قدره وعظم شأنه وندرة مثله، وعجز الأكثرين عن الإتيان بما يقاربه لا يخلو من زلات

وعثرات، ووهن هنا وسقوط هنا، أو إسفاف أو خمولة أو قصور أو تقصير أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى ويلحق به"1. ولعله في نقده لحافظ إبراهيم يبين لنا بعض اتجاهاته النقدية ورأيه في الشعر فهو يدعو إلا الإقلاع عن التقليد في الأدب فإن ذلك يفقده فضيلة الصدق، ومزية النظر، وهما عماد الأديب وقوام الشعر والكتابة، ولكن على الأديب أن يستفيد من آثار القدماء في أدبهم ويدرس في فهم الأصول الأدبية العامة التي لا ينبغي لأديب أن يحيد عنها أو يغفلها بحال من الأحوال -كالصدق والإخلاص في العبارة عن الرأي أو الإحساس، وهنا وحده كفيل بالقضاء على فكرة التقليد، والتقليد على كل حال دليل على ضعف الخيال، وعدم القدرة على الابتداع، وفقدان الشخصية. ويرى إباحة التصرف في اللغة تصرف الوارث في إرثه، فلا يجمد أمامها بل ينبغي أن يجعلها تساير التطور والحاجة، ولكنه كان لا ينادي بالعامية والتساهل في معجم اللغة كما رأينا من قبل. والأدب الحق عنده هو الذي يصور الوجدان والأحاسيس في صدق ويعطي صورة صادقة للناس وللحياة، ولا يقيم وزنًا للزخرف اللفظي إنما يوجه كل عنايته للمعنى، وكل معنى صادق مهما كان موضوعه أو هدفه وغايته فهو خليق بأن يكون موضوعًا للأدب. ولعلك ترى من هذا أنه يلتقي مع شكري والعقاد وأنهم جميعًا يصدرون عن فكرة واحدة في قضية اللفظ والمعنى، وموضوع الأدب. ويرى أن الناقد يجب أن ينظر إلى غرض الشاعر الذي يهدف إليه في القصيدة جملة حتى ندرك ما يرمى إليه كاملًا، وعليه في ذلك النظر إلى جزء منها دون سواها"2.

_ 1 مجلة الكتاب عدد نوفمبر 1945 ص79- 90. 2 راجع شعر حافظ ص2 وما بعدها.

وقد رأى أن حافظًا وشكري على طرفي نقيض في شعرهما في الغرض والأسلوب والمنهج، وغالى كعادته في الحكم وزعم أن بيتًا واحدًا من ديوان شكري يفضل كل ما قاله حافظ وأضرابه1، مع أنه هدم شكري فيما بعده وجرده من كل ما يمت إلى الشعر بصلة. ويرى أن الشعر لا بد من أن يكون مطبوعًا ليس فيه أثر ومن آثار الصنعة والتكلف أو الإجهاد، وأن يستلهم الخيال الواسع، ويعمد إلى الابتكار والتجديد، وأن يعبر تعبيرًا صادقًا عن نفس صاحبه، مصورًا لآمال النفس البشرية وآلامها، ومعبرًا خير تعبير عن معاني الطبيعة والعقل التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة وبالنفس فيكون بحق وحي الطبيعة ورسالة النفس، ثم لا يهمه بعد ذلك أي ثوب ألبس هذه المعاني ما دامت صحيحة صادقة. ونرى المازني في نقده التطبيقي لشعر حافظ يسلك مسلك القدماء ويتكلم على النحو واللغة والإحالة والتعسف، والسرقة، ويعيب عليه ثقل الروح وبرود الفكاهة وجمود الخيال والسخف، وفساد الذوق وفساد المعنى، والخطأ العلمي والحشو والتكرار2. ومن أمثلة نقده لحافظ مؤاخذته على استعماله المفعول المطلق في قوله: غالها قبلك الزمان اغتيالًا "فلفظة اغتيال لا ضرورة لها بعد غالبها"، وكان المازني يضيق ذرعًا بالمفعول المطلق، وقد رأينا هذا الضيق على أشده في نقده للمنفلوطي حيث أخذ يحصي ما ورد للمنفلوطي في العبارت من هذا المفعول3. والمازني في نقده هذا يتعسف فينقده، وكأني به يريد أن يحذف المفعول المطلق من اللغة، ولكنا نراه في "قبض الريح" يدافع عن هذا المفعول المطلق ويقول "الواقع أن هذا المفعول يمثل في تاريخ النشوء اللغوي خطوة انتقال اتسع

_ 1 شعر حافظ ص12. 2 نفس المصدر ص2. 3 الديوان ج2 ص25.

بعدها الأفق ورحب على أثرها المجال، وتفتحت أبواب التعبير المغلقة، ومن شاء أن يقدر فضل المفعول المطلق على اللغة وعلى العقل الإنساني أيضًا فليتصورها مجردة منه ولينظر إليها كيف تعود أو إلى أي حد تضيق"1. والشعر في رأي المازني ذاتي شخصي مثله في ذلك مثل شكري والعقاد فهو عنده خاطر لا يزال يجيش بالصدر حتى يجد مخرجًا ويصيب متنفسًا، وهو غنائي خالص ليست له وظيفة سوى التنفيس الشخصي عن قائله2. ويرى المازني أن الشعر ابن الخيال، إذ لم يكن للخيال فيه مجال فهو غث لا خير فيه ويستشهد برأي سانت بيف: "ليس الأصل في الشعر الاستقصاء في الشرح والإحاطة في التبيين، ولكن الأصل فيه أن نترك كل شيء للخيال"3. وهذا يخالف ما دعت إليه هذه المدرسة من الاهتمام بالمعاني، وما اشتهرت به من إعجابها بابن الرومي الذي كان يستقصيها في شعره حتى يستنفدها، والمازني في هذا يتمشى مع مذهب العرب في الشعر الذي أشار إليه البحتري: والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه ويتفق المازني مع مذهب العرب في شيء آخر حين يقول: "والشعر في حقيقته لغة العواطف لا العقل، وإن كان لا يستغني عن العقل فيما يخدم هذه العواطف، وليس هو بشعر ما لم يعبر عن عاطفة أو يثيرها.... وبما أن العاطفة تحتاج إلى لغة حارة تعبر عنها، فقد استخدمت المحسنات البديعية، والعاطفة إذ هي الأصل في هذه المحسنات، ولكن هذه المحسنات صارت مرذولة بالصنعة والتكلف أما عند شعراء الطبع فتأتي عفوًا، ولا تكاد تحس، فهي جميلة الوقع، معبرة تعبيرًا صادقًا عن العاطفة". ويدافع المازني دفاعًا قويًّا عن ضرورة الوزن في الشعر، فكما أنه لا تصوير بغير ألوان كذلك لا شعر إلا بالوزن، وقد يكون النثر شبيهًا بالشعر في تأثيره،

_ 1 راجع قبض الريح ص156. 2 راجع مقدمة الجزء الثاني لديوان المازني 1912. 3 الشعر غايته ووسائطه ص3- 20.

وتعبيره عن العاطفة، أو يغلب عليه روح الخيال، ولكنه مع ذلك ليس بشعر، إذ يعوزه الجسم الموسيقي، ومثل الوزن في ذلك القافية، فلا شعر إلا بهما أو بالوزن على الأقل". ولعلنا نتذكر محاولة شكري صديقه التخلص يومًا ما من القافية في ديوانه الأول أضواء الفجر حين نظم قصيدته "كلمات العواطف" من الشعر المرسل الموزون غير المقفى، وقد أطرى المازني شكري على جرأته هذه أول الأمر، ثم عاد فعابه عليها حين ساءت العلاقة بينهما. ومن آراء المازني التي وافق فيها زميليه قوله: "إن الجيد في لغة جيد في سواها؛ لأنه لا يختص بلغة أو زمان أو مكان، فمرده إلى أصول الحياة العامة لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة والعارضة، وكذلك الغث غث في غيرها؛ على أن محك القدرة في الأدب بوجه عام هو تصوير حركات الحياة والعاطفة المعقدة ورسم الانفعالات واعتلاج الخوالج الذهنية ونحوها، وليست غاية الأدب تصوير قشور الأشياء وظواهرها"1. وهذا يذكرنا بكلام الأستاذ العقاد ولكنه يرى: "أن الأدب لا بد أن تكون له غاية سامية فيدفع الأمة إلى أن تطلب الحياة العالية الكريمة"2، فالأدب يجب أن يخدم المجتمع، فليس الفن للفن وحده3. ولذا ينبغي أن تكون هذه الدمامة وسيلة لغيرها لا غاية، وأن تكون أداة يستهان بها على تحريك إحساسات متزاوجة أو مركبة غير التي ينبهها منظر الدمامة، وقل أن تجد من الإحساسات البغيضة ما لا يكون مختلطًا بغيره أو نقيضه4. ومن الآراء التي نادى بها المازني أن تكون القصيدة عملًا فنيًّا تامًّا على فكرة معينة، ليس الشاعر فيها مسبوقًا بباعث مستقل عن النفس5.

_ 1 الديوان الجزء الثاني. 2 نفس المصدر ص2. 3 حصاد الهشيم ص106 وما بعدها. 4 نفس المصدر ص120 وما بعدها. 5 حصاد الهشيم ص35 وما بعدها.

ويعتبر المازني الشطط في الخيال ومخالفته للواقع ليس دليلًا على النبوغ والبراعة، ولكن أية النبوغ والبراعة في صدقه وعدم تجافيه للحقائق، وفي قدرته على اختيار التفاصيل المميزة حتى ولو كان الشيء من المألوف الذي يقع عليه كل عين فليس في تناوله إسفاف. كما يتوهم بعضهم، والبراعة في كيفية تناوله حتى يبدو كأنه غير ذلك المألوف القديم1. ويرى المازني أن الأديب الأصيل هو الذي يكون له أسلوبه الخاص؛ لأن الأسلوب صورة من النفس، ولكل ذهن التفاتاته الخاصة، وطريقة في تناول المسائل وعرضها، وكلما كانت هذه الخصوصيات أوكد وأعمق، كانت المحاكاة أشق والإخفاق فيها أقرب، فهي لا تسهل إلا حيث يكون الأسلوب خاليًا من الخصائص التي ترجع في مرد أمرها إلى النفس وما ركبت عليه وانفردت به": ولذلك رأى المازني أن أسلوب طه حسين خال من الخصائص المميزة له، وأن كثيرًا من الكتاب يستطيعون تقليده. وهناك ظاهرة في المازني الناقد تسترعي النظر، تلك هي كثرة استطرادته وتهربه أحيانًا من النقد كما فعل في نقد كتاب: "النثر الفني" لزكي مبارك وكما فعل في نقده لكتابي الآنسة من "الصحائف، وظلمات وأشعة" وقد كان يتعمد ذلك تخابثًا منه، وهربًا من مجابهة المنقود برأيه الجارح. نقد المازني عددًا من الشعراء والكتاب، وهو في نقده يمزج بين النقد اللغوي والنظريات النقدية الحديثة كما فعل المنفلوطي وشكري وابن الرومي، وهو متأثر في نقده غالبًا بعلاقاته الشخصية، وحبه وسخطه، وكثيرًا ما عدل عن آرائه وتجريحه وندم عليها. ولكنه في جملة آرائه يمثل هذه المدرسة المحدودة في الأدب مثل شكري والعقاد، وهو أقرب إلى العقاد من سواه.

_ 1 نفس المصدر ص195.

ولقد سبق العقاد والمازني وشكري الشاعر خليل مطران في توجيه الشعر المصري الحديث وجهة جديدة، وكان من واجبنا أن نقدمه في الكلام، ولكننا لا نعتبره ناقدًا، ونحن بصدد الكلام على النقاد وأثرهم، وإنما هو شاعر، ثم إن مطران تأثر بالمدرسة الفرنسية في الشعر أكثر من تأثره بالمدرسة الإنجليزية التي حذا حذوها العقاد وزملاؤه وبالإضافة إلى كل هذا فمطران -وإن كان مجددًا في الشعر- قد حاول في فترات أن يجمع بين القديم والجديد ولا سيما في الأغراض ولم يكن ثائرًا ثورة هؤلاء. لقد أخرج مطران ديوانه "الخليل" في سنة 1908، وإن كانت أول قطعة إبداعية في ديوانه ترجع إلى سنة "1893"1، وقد ابتدأ مطران ثورته على الشعر التقليدي، والدعوة إلى التجديد بقوله: "اللغة غير التصور والرأي، إن خطة العرب في الشعر لا يجب حتمًا أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ولنا آدابنا، وأخلاقنا، وحاجاتنا وعلومنا، ولهذا وجب أن يكون شعرنا ممثلًا لتصورنا وشعورنا لا تصورهم وشعورهم، وإن كان مفرغًا في قوالبهم محتذيًا مذاهبهم اللفظية"2. وأول تجديد دعا إليه مطران هو وحدة القصيدة، وتماسك أبياتها بعضها ببعض لأنه لم يجد في الشعر العربي "ارتباطًا بين المعاني التي تتضمنها القصيدة الواحدة، ولا تلاحمًا بين أجزائها، ولا مقاصد عامة تقام عليها في أبنيتها، وتوطد أركانها، وربما اجتمع في القصيدة الواحدة من الشعر ما يجتمع في أحد المتاحف من النفائس، ولكن بلا صلة ولا تسلسل، وناهيك عما في الغزل العربي من الأغراض الاتباعية التي لا تجمع إلا لتتنافر، وتتناكب في ذهن القارئ"3.

_ 1 راجع الدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص32 2 خليل مطران في المجلة المصرية السنة الأولى ج3 "يوليو سنة 1900" ص85. 3 خليل مطران في المجلة المصرية -السنة الأولى ج2 "يونية 1900" ص22- 44.

أما من حيث الأغراض فهو يرى الشعر فنًّا منبهًا للتصوير والحس عن طريق النظر، وهمًا يفترقان عن الموسيقى في أنها تنبه التصوير والحس عن طريق السمع1 "وقد نقل مطران أغراض الشعر العربي إلى أغراض أوربية، وإن سبق إليها "سليم عنحوري"2في ديوانه "مرآة العصر"، ولعله كان قدوة ونموذجًا لمطران في حركته الجديدة3. ولكن لم يرزق ديباجة مطران ولم يكن عصره مهيأ لتقبل دعوته التجديدية. ولما نشر مطران ديوانه في سنة 1908 قدم إليه بمقدمة وضع فيها مذهبه الشعري الجديد الذي دعا إليه، وبين أنه ابتدأ مقلدًا، ولكنه وجد في الشعر المألوف جمودًا أنكره فترك الشعر فترة ثم قال: "عدت إليه وقد نضج الفكر، واستقلت لي طريقه في كيف ينبغي أن يكون الشعر، فشرعت أنظمه لترضية نفسي حيث أتخلى، أو لتربية قومي عند الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه وموافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ، والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات، والمطروق من الأساليب، وذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة، وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه" وقال كذلك: "هذا شعر ليس ناظمه يعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع، وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضوعه وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها، وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور، وغرابة الموضوع، ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشفوفه عن الشعور الحر، وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر"4.

_ 1 خليل مطران - المجلة المصرية- السنة الثانية ج1 يونيو سنة 1900 ص12. 2 الدكتور أحمد ضيف المقتطف المجلد 68 ج6 "يونية 1926" ص632- 639. 3 الدكتور إسماعيل أدهم ص32. 4 مقدمة خليل مطران الجزء الأول من الديوان ص8- 9.

وفي الحق أن شعر مطران، وما فيه من القصائد الجديدة في مادتها، وطريقة عرضها ولا سيما تلك القصائد القصصية، "العصفور" و"الجنين الشهيد" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" و"حكاية عاشقين" الذي ظل ينظمها سنوات متتبعًا حوادث العاشقين، إذ ابتدأ فيها سنة 1907، وانتهى منها سنة 1913. أقول: إن شعر مطران قد أثر في شعراء مصر حين سمعوه إما مباشرة أو غير مباشرة، ولقد حاول بعض النقاد أن ينسبوا إلى مطران كل تجديد في الشعر المصري ويقولون: إن إبراهيم رمزي لم ينظم قصة "يوسف الصديق" شعرًا في اثنتي عشرة قصيدة سنة 1900 وإن نقولا رزق الله لم ينظم كليوباترا سنة 1900 إلا بوحي من شعر مطران الذي دأب على نشره في المجلات قبل أن يجمعه في ديوان، بل إن عبد الرحمن شكري الذي أخرج أول ديوان له سنة 1909 وهو بعد في العشرين من عمره وفيه قال حافظ: أفي العشرين تعجز كل طوق ... وترقصنا بأحكام القوافي والعقاد والمازني، وأحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي، وخليل شيبوب وعلي محمود طه المهندس، والصيرفي وكثير غيرهم من تلامذة مطران، ومن الذين تأثروا بطريقته الجديدة، وإن اختلفوا عنه بعد ذلك، واستقل كل بمذهب خاص به1 فعكف شكري على دراسة الأدب الإنجليزي الواقعي الذي كان سائدًا في إنجلترا في أخريات القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وساد شعره التشاؤم والانقباض والخوف من الحياة، وترديد ذكر الموت، ووصف ما يعانيه الأموات، كأنما شاهد ذلك بنفسه، وتبعه العقاد والمازني رزحًا من الزمن وإن لم نجد في شعرهما هذا النزوع العجيب إلى التحرك وإلى التحرر المطلق كما في قصيدة شكري "كلمات العواطف" التي نظمهما من الشعر المرسل، وقد أولع بهذا النوع فنجد له في الجزء الثاني قصيدة منه عنوانها "واقعة أبي قير" وأخرى "نابليون والساحر المصري" وبذلك كان أول من أدخل هذا النوع من الشعر في العربية،

_ 1إسماعيل أدهم ص33- 34.

كما لم نجد في شعرهما هذا الإفراط في التشاؤم إلى حد الهوس والجنون، بل إن المازني نفسه يحمل على شكري، حملة قاسية ويرميه بالجنون، وهو متأثر به وتتلمذ له وإن أنكر هذا1 وفي الديوان ثم عاد فاعترف بأستاذيته بعد أن صمت شكري2 طويلًا كما ذكرنا ذلك من قبل. ولكننا نرى العقاد ينكر أن يكون مطران هو الذي هداه إلى هذا الشعر الجديد أو هدى زميله فهو "لم يؤثر بعبارته أو بروحه فيمن أتى بعده من المصريين؛ لأن هؤلاء كانوا يطلعون على الأدب العربي القديم من مصدره، ويطلعون على الأدب الأوربي من مصادره الكثيرة، ولا سيما الإنجليزية، فهم أولى أن يستفيدوا نوازع التجديد من آداب الأوربيين وليس للأستاذ مطران مكان الوساطة في الأمرين ولا سيما عند من يقرءون الإنجليزية ولا يرجعون في النقد إلى موازين الأدب الفرنسي، أو إلى الاقتداء بموسييه ولا مرتين من وغيرهما من أمراء البلاغة في إبان نشأة مطران"3. أما أبو شادي فقد اعترف بتأثره بمطران في أسلوبه الجديد4، وإن اختلف عنه بعد ذلك؛ لأنه من قراء الأدب الإنجليزي، كما اختلف عن شكري في أن نزعته تفاؤلية وقد أقام مدرسة شعرية جديدة عرفت بمدرسة "أبولو" ولكنها لم تكن ذات منهج معين في الشعر بل جمعت أنماطًا مختلفة من الشعراء بين مفرق في التقليد وجانح إلى التجديد أو مفرط فيه وإذا كان لها من أثر فهو في نهوضها بالشعراء الشادين والأخذ بيدهم والعناية بدراسة الشعر العربي الحديث ونقده، ونقل بعض الشعر الغربي، إلا أن أبا شادي قد انصرف عن الشعر العربي، وأثر النظم باللغة الإنجليزية، فانقطع تيار تأثيره5 ثم هاجر إلى أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية وظل هناك حتى توفي.

_ 1 راجع الديوان في النقد والأدب والجزء الأول مقال: "صنم الألاعيب" ص48 والجزء الثاني ص89. 2 جريدة البلاغ أو سبتمبر سنة 1934. 3 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد 199- 200. 4 راجع أبو شادي في أنداء الفجر ص128 وفي قطرة من يراع في الأدب والاجتماع ج2 ص3 ومجلة أبولو أكتوبر 1934 ص264، مختار الوكيل في رواد الشعر الحديث عن مطران وأبي شادي وشكري والعقاد، ومحاضرات الدكتور إبراهيم ناجي "اتجاهات الشعر الحديث" الأهرام 20/6/ 1936. 5 راجع leonard harker في كتابه blazing the trail ص129، وراجع الدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص34.

وقد أعجب الدكتور طه حسين بمطران، وأشاد بشعره، وبمقدمته التي كتبها لديوانه1 وذكر في المثل الأعلى للشعر بأنه: "الكلام الموسيقي الذي يحقق الجمال الخالد في شكل يلائم ذوق العصر الذي يقال فيه ويتصل بنفوس الناس الذين ينشد بينهم، ويمكنهم من أن يذوقوا هذا الجمال حقًّا فيأخذوا بنصيبهم النفسي من الخلود2" ويعجب بشعراء فرنسا. وينتقل قطعًا من "بودلير" وغير بودلير، ويردد أن الشعر الجيد يمتاز قبل كل شيء بأنه مرآة لما في نفس الشاعر من عاطفة، مرآة تمثل هذه العاطفة تمثيلًا فطريًّا بريئًا من التكلف والمحاولة، فإذا خلت نفس الشاعر من عاطفة، أو عجزت هذه العاطفة عن أن تنطق لسان الشاعر بما يمثلها فليس هناك شعر، وإنما هناك نظم لا غناء فيه3، ويرى أن الشعر الخالد هو الذي يلائم كل العواطف في كل الأزمان والبيئات وهو الذي يخاطب العواطف الإنسانية العامة4، ويعلل جمود شعرائنا بأنهم "مرضى بشيء من الكسل العقلي، بعيد الأثر في حياتهم الأدبية فهم يزدرون العلم والعلماء ولا يكبرون إلا أنفسهم، ولا يحفلون إلا بها، وهم لذلك أشد الناس انصرافًا عن القراءة والدرس والبحث والتفكير، وكيف يقرءون أو يبحثون أو يفكرون وهم أصحاب خيال، ومن شأن الخيال أن يسعد إلى السماء بجناحيه في غير تفكير ولا بحث، فأما البحث والتفكير فشأن العقل، والعقل عدو الخيال، وهو عدو الشعر، وليس من الحق في شيء أن الشعر خيال صرف، وليس من الحق في شيء أن الملكات الإنسانية تستطيع أن تتمايز وتتنافر فيمضي العقل في ناحية لينتج العلم والفلسفة، ويمضي الخيال في ناحية لينتج الشعر، وإنما حياة الملكات الإنسانية الفردية كحياة الجماعة وهينة بالتعاون، ومضطرة إلى الفشل والإخفاق إذا لم يؤيد بعضها بعضًا"5 ويرى أن يشترك العقل والقلب في النظم معًا6. ولكن الواقع يظهر لنا أن الشعراء الذين تأثروا كثيرًا بالحقائق العلمية وحاولوا

_ 1 حافظ وشوقي الدكتور طه حسين ص17. 2 المصدر السابق ص27. 3 المصدر السابق ص109. 4 حديث الأربعاء ج2 ص83 وما بعدها. 5 حافظ وشوقي ص141. 6 تجديد ذكرى أبي العلاء ص213.

الموازنة بين العقل والخيال أحيانًا أو تغليب الفكرة على العاطفة والخيال قد جاء شعرهم رديئًا بل هو إلى النظم أقرب منه إلى الشعر، ولا بدع فالشعر لا يحتمل كثيرًا من حشد الحقائق وقضايا المنطق والبراهين العلمية، وليس معنى هذا أن يصدف الشعراء عن القراءة والدرس والإفادة من تجارب سواهم وسبر أغوار النفوس الإنسانية وتحليلها بل إن هذا واجبهم في عصرنا هذا بشرط أن يأتي شعرهم انعكاسًا للانفعالات النفسية التي استحوذت عليهم حين قراءتهم أو إفاداتهم تجارب جديدة لا أن يكون كتابًا علميًّا. ويتهكم طه حسين بشعر المناسبات، وينعى عليه ويشبه بالكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمآتم1. وهو في هذا محق بعض الحق، وقد كان لحملته وحملات غيره أثرها في إقلاع الشعراء عن هذا الضرب من الشعر إلا بقية متخلفة. والدكتور طه ممن عنى بدراسة الأدب القديم بجانب دراسته للأدب الحديث بل قد اهتم بالقديم اهتمامًا كبيرًا ورأى فيه جمالًا فنيًّا، وأن العرب أحدثوا هذا الجمال فيه وفهموه وقدروه، وليس الأمر كما يزعم بعضهم من أنه خلو من هذا الجمال الشعري الذي يكسو الآداب الأفرنجية في زعمهم، وليس هناك ما يرد هذا الجحود، ويدفع هذا الزعم مثل ما نجده من جمال في شعر ابن ذريح وجميل بن معمر وأضرابهما من شعراء الغزل، ومن ذلك قصيدة قيس بن ذريح التي يقول فيها: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع لقد رسخت في القلب منك محبة ... كما رسخت في الراحتين الأصابع2 ومن دفاعه عن الشعر القديم قوله: "لا بد أن تنفذه بذوق عصره لا بذوق العصر الذي يعيش فيه الناقد وإلا لما أنصفناه3".

_ 1 حافظ وشوقي ص150. 2 نفس المصدر ص15. 3 حديث الأربعاء ج1 ص223 وما بعدها.

وهو ممن قال بأن القصيدة العربية القديمة فيها وحدة معنوية1، واستنكر ما رمى به الشعر القديم من خلوه من هذه الوحدة، وعلل هذا الزعم بأن أصحابه لم يطلعوا على الشعر القديم كاملًا، وضرب مثلًا بمعلقة "لبيد"؛ وأخذ يبين ما فيها من وحدة معنوية2، وتنسيقها وملاءمتها الشديدة للموسيقى التي تجمع بين جمال اللفظ والمعنى والوزن والقافية، ووضح أن هذه النغمة المتصلة هي التي كونت وحدة القصيدة المعنوية. وأثر الدكتور طه حسين في الشعر يرجع إلى ما تناوله من قصائده بالنقد كما فعل في قصيدة شوقي التي قالها في مصطفى كمال والتي مطلعها: الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب ووازن بينها وبين قصيدة أبي تمام في فتح عمورية: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب وكما فعل في قصيدة شوقي: قفى يا أخت يوشع خبرينا ... أحاديث القرون الغابرينا وبتأريخه للأدب على طريقة جديدة تأثر فيها بأستاذه "نللينور" وطبق فيها طريقة الغربيين في البحث الأدبي، وكانت باكورة هذه الأبحاث "ذكرى أبي العلاء" الذي نال عليه شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية القديمة وصار نموذجًا لمن أتى بعده من مؤرخي الأدب، وكذلك بما ترجمه من الأدب الفرنسي شعرًا ونثرًا، ليضربه نماذج وأمثلة لشعرائنا كي يحتذوه. والدكتور طه لا يقيس الأدب بمقياس جمالي أو سيكلوجي أو لغوي معين، وإن كان ينتفع في نقده بنتائج هذه الدراسات انتفاعًا واضحًا كما رأيت في الشمول الذي يريده لمنهجه، وليست له نظرية واضحة المعالم في فلسفة الفن والجمال. ولكنه يصدر في نقده عن ذوق ومعرفة3. ونقده في مجمله ذاتي،

_ 1 حديث الأربعاء ج2 ص83. 2 الأدب الجاهلي ص358 ووحديث الأربعاء ج1 ص30. 3 من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده لمحمد خلف الله ص135 وما بعدها.

وكثيرًا ما يعمم الأحكام كقوله: "إن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين الأموريين جميعًا لا نستثني منهم أحدًا، ولا نفرق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أن عمر زعيم الغزليين في الأدب العربي كله على اختلاف ظروفه وتباين أطواره منذ كان الشعر العربي إلا الآن1". وكثيرًا ما كان يصدر أحكامه بدون تعليل، وقد تكون هذه الأحكام قاسية ولكنه لا يعللها دائمًا حتى يبرئ نفسه من تهمة التحكم والتحامل2، ومن أمثلة هذه الأحكام غير المعللة رغبته إلى علي محمود طه أن يلغي قصيدته "ميلاد شاعر" عند طبع ديوانه الملاح التائه3، وقوله: إنه لم يجد في قصيدة ناجي "قلب راقصة" جديدًا4 إلى غير ذلك من عشرات الأحكام التي يصدر فيها عن ذوقه الخاص دون الرجوع إلى مقاييس معينة أو التعليل لها. ولعلك ترى أن ثمة مدرستين في النقد الأدبي إحداهما فرنسية ومن زعمائها، هيكل وطه حسين، ومن شعرائها شوقي ومطران وصبري، والأخرى إنجليزية ومن زعمائها العقاد وشكري والمازني وأبو شادي وهم أنفسهم شعراء ونقاد. وبين المدرسة الإنجليزية والمدرسة الفرنسية في الشعر تباين يرجع إلى أن المدرسة أقوى من الفرنسية والمدرسة الفرنسية في الشعر تباين يرجع إلى أن المدرسة الإنجليزية الشعرية أقوى من الفرنسية والمدرسة الفرنسية في النثر أقوى من الإنجليزية وذلك لأسباب. منها: أن البيئة الإنجليزية معتمة تدعو الفرد إلى الانطواء على نفسه وعلى الكآبة والحزن, فيكثر التفكير في الطبيعة ولو من وراء جدار، وفي الله وكمال صنعه، وعلى العكس من ذلك البيئة الفرنسية فهي أكثر إشراقًا، وأضحى شَمسًا والشعر لا يعمق عادة في مثل هذه البيئة؛ لأنها بوضوحها أورثت الفرنسي

_ 1 حديث الأربعاء ج1 ص287. 2 خليل سكاكيني - ومطالعات في اللغة والآدب ص73. 3 حديث الأربعاء ج3 ص73. 4 نفس المصدر ص172.

المنطق ونصاعة الحجة، والصراحة في التعبير، والتفكير نوعًا ما. إن الفرنسي يعيش في عالم الشعور، ويطمئن للطبيعة المحيطة به؛ لأنها ليست طبيعة صاخبة عاصفة مدمرة، سوداء معتمة، كما هو الحال في الطبيعة التي تكتنف بلاد الإنجليز. لا يرى الإنجليز الشمس في أغلب أيام السنة إلا لحظات، وجو بلاده ملبد دائمًا بالغمام، والضباب يجتاحها في فصل الشتاء حتى يتعذر على الإنسان أن يرى يده في أثناء النهار، وهي جزيرة تحيط بها بحار صاخبة، وتهب عليها أعاصير مريعة، وكثيرًا ما تغطي أرضها بالثلوج، وقد أدى هذا إلى كآبته، وانقباضه، وإلى كبت وحرمان، فنما عقله الباطن، وتساقطت فيه رغبات كثيرة لم تحقق له، ولذلك كثرت أحلامه وخيالاته وآماله. كما أن هذه البيئة حببت إليه العمل حتى صار طبعًا محبوبًا لذاته، ينزل من نفسه منزلة الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والطعام الذي يغذيه، كما أورثته البطء في التفكير، فليس له ذلك الذكاء اللماح الذي تراه عند الفرنسي، حتى أصبح الإنجليزي يكره التفكير النظري المنطقي. إنهم يعملون ولا يجهدون أنفسهم في التفكير في عاقبة أعمالهم ومن أمثالهم المشهورة "انتظر وترقب ما يحدث". وهذه البيئة الصارمة أورثتهم المحافظة على التقاليد والتدين، ولا شك أن الوحدة والانفراد -وهما آثر من آثار الكآبة والانقباض- جعلتهم يكثرون من نجوى أنفسهم ومن التأمل في الحياة وخلقها وخالقها، وربما رجعل هذا الميل إلى التدين والتمسك الشديد بالتقاليد إلى أصلهم السكسوني؛ وبينا ترى الفرنسي يعيش في عالم الواقع ويبحث دائمًا في تصرفات الإنسان ويحللها، وترى الألماني السكسوني يتجه دومًا نحو الله، ونحو أسرار هذا العالم الخفي وقد صبغت الرومانتيكية الألمانية في القرن الثامن عشر بالبحث فيما وراء الطبيعة، واشتهرت بقصص الجن، والشياطين، والمفزعات من كل نوع، وأخذ الإنجليز عنهم هذا النوع من القصص وأحبوه وفتنوا به1، وقد ورث عنهم الإنجليز هذا الميل وزاده

_ 1 راجع:.c.m. bowra, the romantic imagintion p. 51

تثبيتًا طبيعة بلادهم المقبضة. وتدينهم أورثهم التزمت والجد في الحياة، والخجل المفرط من كل ما يشين، وقد يخطئون ويخالفون القانون، ولكنهم يتسترون، ويخشون العار والفضيحة، ولذلك ساد بينهم نوع من النفاق الاجتماعي، يسيطر على كثير من تصرفاتهم. كما اشتهروا بضبط النفس وقلة الانفعال؛ لأنهم تعودوا الكبت، ومغالبة الرغبات. وإذا درست المجتمع الفرنسي وجدته مجتمعًا يحب المرح، والصخب، ولذلك يفضل حياة "الصالون" والمقهى، وفي الصالون يسود الذكاء، والنكتة وحسن التعبير، والتفكير الفلسفي، ولا يحوي المنزل الفرنسي أشخاصًا "انفراديين"، يغلب عليهم الجد والكآبة، ولكنه منزل تنطلق فيه الألسنة بحرية وصراحة، ومجتمعهم تسود فيه اليقظة، وعدم الخجل مع مراعاة الآخرين والالتفات إلى أذواقهم، ورغباتهم. وفي الصالون تكون الرئاسة لسيدة، وفي حضرة السيدات تحسن المجاملة، والرقة، والبساطة، والوضوح، والذكاء، والنكتة، ومثل هذا المجتمع لا يجد وسيلة للتعبير أحسن من النثر؛ لأن النثر يمتاز بالسلاسة، والبسط والإيضاح، والسهولة. وذلك لأن شاعر الصالون مشغول دائمًا بسواه وقلما يفزع قلبه، وبهذا نستطيع أن نقرر: أن الإنجليز فاقوا الفرنسيين في الشعر، وفاقهم الفرنسيون في النثر. فلق الإنجليز في الشعر لأنهم مكبوتو العواطف، والشعر ينفس عنهم؛ لأن العنصر الغالب فيه لا شعوري، ومهما يبلغ الخجل بنفس إنسان، فإنها تستطيع أن تقف عارية مكشوفة أمام اللاشعور، دون أن تحس بأدنى خجل. ولأنهم انفراديون، يؤثرون العزلة، أكثروا من التأمل في الطبيعة، والطبيعة منبع الشعر، ومصدر إلهامه، ولأنهم منقبضون، جاء أدبهم مشوبًا بالكآبة حتى في أغانيهم، ولذلك نبغوا في المآسي العنيفة، وقد لاحظ ذلك "رابين" Rapin الفرنسي فقال: "يمتاز الإنجليز بعبقرية في "المآسي - الترجيديا" تساعدهم على ذلك طبيعتهم التي تعجب لفظائع الأمور، وامتياز بالتعبيرات الفخمة".

أما الشاعر الفرنسي فهو في يقظة عقلية، وبيئة واضحة، يجب الاجتماع والحديث، ولذلك لا يعرف الرهبة ولا الأحلام الشاردة، ولا الخيال الشاذ، وتعجبه حياة الصالون فيعبر عن آرائه برفق وهوادة، مراعيًا أن يفهمه سامعوه ليعجبوا به. وليس معنى هذا أن فرنسا لم ينبغ فيها الشعراء، وإن إنجلترا لم يتفوق فيها كتاب، ولكن هذه هي الصفة العامة للأدبين، وقد عبر أناتول فرانس عن نظرة الفرنسيين للشعر بقوله: "من المحقق أننا نحب الشعر، ولكننا نحب فيه طابعًا خاصًّا، فنحن نريد شعرًا فصيحًا، ولكن ليس الغرض من الفصاحة مجرد الإعراب في الخيال". استطاع النثر الإنجليزي في القرن الثامن عشر أن ينافس النثر الفرنسي، وظهر في إنجلترا من الكتاب العظام أمثال يوب، وسوفت، وإديسون، وصومويل جونسون، ووليام كوبر وغيرهم، كما أن الشعر الفرنسي قد بلغ القمة على يد راسين، ولامارتين، وبودلير وغيرهم، ومن هذا نرى أن ما سقناه من الموازنة بين الأدبين إنما هو القواعد العامة والصفات الغالبة1. ولست أريد التوسع في هذه الدراسة، فإنها لا تعنينا إلا بهذا القدر الذي يوضح لنا بالفرق بين الخصائص العامة للمدرستين الإنجليزية والفرنسية؛ لأن ثقافة أدبائنا المحدثين أخذت عنهما، أو اكتفت بواحدة منهما، وقد كان لها أثرها في الأدب وفي جمهرة القراء المثقفين الذين يحبون الأدب الرفيع؛ لأن الثقافتين كما علمت في الفترة الأولى كانتا في صراع طويل على السيادة على مصر. تأثر بعض أدبائنا بالثقافة الفرنسية، وبمذاهب الأدب الفرنسي الذي ساد

_ 1 راجع في هذا البحث: "1" Studies French and English. by F. L: Lucas. "2" A Comparison of Literatures, English, French, German and American. by R. D. Jamesen. "3" A Citical Survey of French and English Literary Ideas in the Eighteenth Centurym, By F. Green. "4" World Literature of Lierary Criticis, By Winchester. "6" the Romantic Agony by Maria Praz Transalted from Italian by A. Davidson. "7" رسالة الأستاذ الطيب حسن عن أثر الثقافة الغربية في الأدب المصري الحديث "مخطوط".

في القرن التاسع عشر، وظهر ذلك في أسلوبهم الشعري وفي معانيهم، وفي خيالاتهم، ومن هؤلاء إسماعيل صبري، وشوقي، ومطران، وعلي محمود طه، وشيبوب، ومن الذين تأثروا بطابع المدرسة الإنجليزية العام: شكري، والعقاد، والمازني، وأبو شادي. والصيرفي، وسنرى عند الكلام عن كل شاعر إلى أي حد أفاد من إطلاعه على هذه الثقافة أو تلك. وقد يتوهم بعضهم أن مطران مترجم شكسبير يعرف الإنجليزية ويجيدها إلى حد ترجمة روائع الأدب فيها، والحق أن مطران نقل روايات شكسبير عن الفرنسية1 أو برناردشو، وعندي أنها من آثار المسرح الفرنسي كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، وكما سنرى فيما بعد. لقد بلغ هذا التأثر ببعض شعرائنا إلى حد السطو على الشعر الغربي، ونقل القصيدة موضوعًا، وعنوانًا، وأبياتًا، أو على الأقل معظم الأبيات2. وقد أحصى إسماعيل أدهم مئات الصور الشعرية والمعاني التي أخذها مطران من الأدب الفرنسي3. ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء الشعراء والنقاد المجددين قد وجهوا الشعر العربي الحديث وجهة جديدة، وحسبنا أن نقول مع الدكتور طه حسين: ومهما قيل من القدح في شعر هؤلاء الشعراء المجددين الذين تثقفوا ثقافة غربية، فإنه يكفيهم شرفًا أنهم ابتعدوا بالشعر عن الأغراض المادية، وأننا حين نقرأ أشعارهم نرى فيها شخصية لها وزن وقيمة، وعقلية تفكر، وتعرف كيف تعلن عن تفكيرها للناس4. لقد كان بجانب هؤلاء جميعًا أنصار المدرسة القديمة في النقد، يعنون بالنقد اللغوي، وصحة الألفاظ والتراكيب، ومقاييس البلاغة العربية، وأوجه الاستعارة والمجاز والتشبيه، كما كان يفعل نقاد العرب قديمًا، ويحملون على هذه المذاهب الجديدة، وعلى الشعر الضعيف الذي توحي به، أو على الشعر التقليدي، والسرقات التي أخذت من الشعراء الأقدمين.

_ 1 ميخائيل نعيمة في الغربال ص171. 2 راجع مقدمة الجزء الثاني من ديوان المازني، وراجع رسائل النقد لرمزي مفتاح، ومقدمة رسائل النقد لرمزي مفتاح، ومقدمة رسائل النقد لجبران سليم ص - د. ومقدمة الجزء الخامس من ديوان عبد الرحمن شكري "ص6- 7" وقد أثبتت القصائد المسروقة، وما يقابلها. 3 راجع إسماعيل أدهم عن مطران ص147- 148. 4 حافظ وشوقي ص145.

فمن النقاد اللغويين الذين اشتهروا إبراهيم اليازجي في نقده لشعر شوقي1. وإبراهيم المويلحي في نقده لشعر شوقي2، والعقاد في نقده لشعر شكري3، وطه حسين في نقده لشعر حافظ وشوقي4. على أننا نظلم الرافعي إذا أدرجناه ضمن أنصار المدرسة القديمة في النقد، تلك التي عنيت بالنقد اللغوي دون سواه، فالحق أن للرافعي أراء جديدة كل الجدة في نقد الشعر، وهو لا ينتسب في نقده لمدرسة من المدارس إنجليزية أو فرنسية، وإنما كان نقده وليد بصيرته النفاذة، وطبعه الصافي، وتأثره بالحركة التجديدية المعاصرة له بعض التأثر. فتجده مثلًا يعيب الشعر العربي القديم بعدم تماسك قصائده بحيث لا تكون وحدة تامة البناء، وبعدم النظرة الشاملة للكون لدى الشعراء، بل نراهم يعنون بالجزئيات دون الكليات، وبقلة التفكير والعمق فيه بوجه عام، استمع إليه حيث يقول: "حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربي كأنها قطع مبتورة من الكون داخلة في الحدود لابسة الثياب، ومن ذلك ينبغ الشاعر وليس فيه من الإحساس إلا قدر نفسه لا قدر جمهوره، وإلا ملء حاجاته لا ملء الطبيعة؛ فلا جرم يقع بعيدًا عن المعنى الشامل المتصل بالمجهول ويسقط بشدة على صور فردية ضيقة الحدود، فلا تجد قوة الإحاطة والتبسط والشمول والتوفيق، ولا تؤاتيه طبيعته أن تستوعب كل صورة شعرية بخصائها فإذا هو على الخاطر المعارض يأخذ من عفوه ولا يحسن أن يوغل فيه، وإذا هو على نزوات ضعيفة من التفكير لا يطول لها بحثه، ولا يتقدم فيها نظره، وإذا نفسه تمر على الكون مرًّا سريعًا، وإذا شعره مقطع قطعًا، وإذا آلامه وأفراحه أوصاف لا شعور وكلمات لا حقائق وظل طامس ملقى على الأرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحي السائر على الأرض"5 وهذا

_ 1 راجع مختارات، المنفلوطي، وشوقي للأمير شكيب أرسلان. 2 راجع على السفور، ووحي القلم الجزء الثالث. 3 الديوان في النقد والأدب للمازني والعقاد ج1، 2. 4 حافظ وشوقي. 5 وحي القلم الجزء الثالث ص350.

ولا ريب حكم قاس كل القسوة يصدره الرافعي ضد الشعر العربي وهو من هو في دفاعه عن العروبة، ولقد ناقشنا هذا الرأي في كتابنا النابغة الذبياني فلا نرى داعيًا لتكرار ما قلناه ثمة، ولعلك رأيت أن الرافعي لا يقل ثورة عن هؤلاء النقاد الثائرين، ولقد عنى في أول حياته بالشعر، وطمع في أن يكون أمير الشعراء، وهو من شعراء المعاني الذين اهتموا بها كل الاهتمام يؤدونها بأي لفظ تهيأ لهم ولذلك جاء في شعره كثير من السقط، المهلهل النسج. ويرى الرافعي أن العلم والتجربة وكثرة الأسفار ضرورة للشاعر تغذي فكره وتجدد نشاط خياله وعقله وتلهمه الصور وذلك حيث يقول: "إنما قوة الشعر في مساقط الجو ففي كل جو جديد روح للشاعر جديدة، والطبيعة كالناس. هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء؛ وهي في موضع نائمة تحلم، وفي موضع قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع، ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشد إلا إذا أطعمته مع صنوب الأطعمة اللذيذة المفيدة ألوان الهواء اللذيذ المفيد"1. وإذا كان الرافعي قد عنى بالعبارة وبالألفاظ حتى نسب إليه أنه من نقاد المدرسة القديمة فإن له نظرات نقدية جديدة في وقت مبكر من حياته الأدبية، وأظهر ما ترى ذلك في كتابه تاريخ آداب العرب، ومن ذلك قوله: "إن جودة الكلام ترجع إلى ما فيه من أسرار الوضع اللغوي الذي تعتمد على إبانة المعنى في تركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة2. ولكن هذه الملاءمة لا تعتبر في اللغة ومتعلقاتها بقدر اعتبارها في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين فيلتقي حينئذ البيان والعقل والشعور3.

_ 1 وحي القلم الجزء الثالث. 2 تاريخ آداب العرب ج7 ص157. 3 نفس المصدر ص285.

وجودة الكلام تكون بتخير حر اللفظ وأنسبه، ويتخير نادر المعنى وتمكنه وتكون بخلوه من الإحاطة والاستكراه والحشو والسفساف، والضعيف والقلق، وبتميزه بالوضوح، وبتوكيد معناه بالترادف ودنو المأخذ، وإصابة السر، وعدم تكلف الصنعة إلا ما جاء عفو البديهة، ثم تمييزه بالسهولة والابتكار بالتناسب الموسيقي في حروفه وكلماته1. ومن اللمحات النقدية الطريفة منافاته بأن يمثل الشعر المعاني النفسية الخاصة والعامة، وهذه متأثرة بالحياة، وإذن فالشعر تمثيل حقيقي وفي هذا التمثيل خلوده2 وكذلك فهو تمثيل حقيقي للشاعر ولذا فإن دراسة أخلاق الشاعر وحياته عامة مهمة لتفسير شعره. ورأى أن الشعر لا يتسع لبسط المعاني، فإذا بسطت فيه وشرحت سقطت مرتبته من الشعر وأصبح نظامًا كنظم المتون3 ودعا الرافعي4 إلى الاهتمام بجوهر الشعر وروحه لا إلى قشوره وظواهره، وأن تكون نظرة الشعراء شاملة لا جزئية. وذم التكلف الذي يفرض فيه الفكر على الإرادة، والإرادة على العاطفة، فلا تصدق العاطفة، ولا تخلو من الغلو، وذم كذلك التكلف الذي يأتي من عبادة الأوزان، وتقليد القدماء في صورهم ومعانيهم. ورأى أن المعاني في الشعر لا تضيء إلا بشعاع من الخيال، ويريد من الشعر أن يكون تصويرًا للطبيعة ملونًا بالعاطفة حتى تؤثر في نفس السامع والقارئ. إلى غير ذلك من الآراء النقدية التي لا تقل تحررًا عن المدارس الجديدة في النقد. وقد وضح الرافعي طريقه في نقد الشعر وكيف ينظر إليه بقوله: "أنا حين أكتب عن شاعر لا يكون همي إلا البحث في طريقة ابتداعه لمعانيه، وكيف ألم وكيف لحظ، وكيف كان المعنى مَنْبَهَةً له، وهل ابتدع أم قلد، وهل هو شعر بالمعنى شعورًا فخالد نفسه وجاء منها أم نقلًا فجاء من الكتب، وهل يتسع في

_ 1 نفس المصدر ص214، وص224. 2 تاريخ آداب العرب ج3 ص72. 3 رسائل الرافعي ص67. 4 مقدمة ديوان الجزء الثالث الصادر سنة 1908.

الفكرة الفلسفية لمعانيه، ويدقق النظرة في أسرار الأشياء، ويحسن أن يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري، ويتصل بها ويستصحب للناس من وحيها، أم فكرة استرسال وترجيم في الخيال وأخذ للوجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملة هل هو ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلق فتكون لها مع الحياة نفسها حياة من نفسه أم هو تبعية كالمسمار بين طرفين يكون بينهما وليس منهما ولا من أحدهما"1 وأنت ترى من هذا أن الرافعي يطلب من الشاعر أن يستشف أسرار الحياة وأن يبتكر المعاني ويجدد فيها ويشعر بالوجود شعورًا عميقًا يخالط نفسه، وتراه لا يستحسن الأدب الواقعي الذي ينقل الحياة كما هي دون أن يتأثر بها، ويرى الرافعي أن حركة التجديد في الشعر قد أفادته على الرغم مما بها من سوءات، ومما جرته على الشعر. واستمع إليه يقول: "وعلى ما نزل بالشعر العصري فقد استقلت طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والانقلاب الفكري وعدل به أهله إلى صورة الحياة بعد أن كان أكثر صورًا من اللغة، وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الأفكار العربية؛ ونوعوا منه أنواعًا بعد أن كان كالشيء الواحد، واتسعت فيه دائرة الخيال بما نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغات مختلفة"2. وللرافعي غير ذلك آراء كثيرة في نقد الشعر تحتاج إلى فصل خاص فحسبناه ما ذكرناه. وظلت الصياغة وجودتها تجد من يدافع عنها، وعن طريق الموسيقى في الشعر من أمثال الزيات3 والرافعي، والمنفلوطي وأساتذة دار العلوم والأزهر. وكانت الثمرة الطبيعية لكل هذه الآراء في النقد وفي توجيه الشعر أن تعددت مدارسه: فمدرسة أثرت الشعر التقليدي العربي في روحه ومعانيه، وتشبيهاته وأخيلته، وموضوعاته وصياغته، وإن لم تنج من التأثير بمظاهر الحضارة، والنهضة القومية، وتوجيه النقاد، ومن هؤلاء عبد المطلب، توفيق

_ 1 وحي القلم ج3 ص350. 2 وحي القلم ج3 ص379. 3 راجع دفاع عن البلاغة ووحي الرسالة ج1، 2.

البكري، والجارم، وإسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم ومدرسة جمعت بين القديم والجديد، أخذت من الأول حسن الصياغة، وطريقة القصيدة، وتأثرت بالشعراء القدامى في موسيقاهم ومعانيهم، وعارضتهم، وأخذت من الجديد بطرف في الموضوعات، والتشبيهات، وأحيانًا في القالب، وانفعلت بحوادث عصرها من مثل شوقي وعلي محمود طه المهندس، ومدرسة قلدت، ثم جددت باعتدال دون خروج في الجملة على قواعد اللغة من أمثال مطران، وشكري والعقاد والمازني وأبي شادي، والصيرفي، وشيبوب؛ ومدرسة آثرت أن تنحو النحو الغربي وتهجر كل ما يمت إلى الشعر العربي بصلة، ومن هذه المدرسة بعض شعراء المهجر. أما شعراء الشباب ففيهم نزعات كثيرة لم تتركز بعد، وهم يقلدون عدة مدارس غربية تقليدًا لم يصدروا فيه عن حاجة طبيعية، أو ضرورة اجتماعية، أو سياسية كما فعل شعراء أوربا بل أمعنوا في التجديد والتقليد فصار منهم الرمزيون والرياليون، والواقعيون، والصوريون إلى غير ذلك من المذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان في مصر. وجدت منذ سنوات معدودة بدعة النظم بالشعر الحر المبني على التفعيلة ففيه ضرب من الموسيقى ولكنه متحرر من القافية والبحور، وأغلب الذين أقبلوا عليه من شعراء الشباب والشادين في الأدب، ولا يزال في موضع التجربة، ولم يأت بعد الشاعر القوي الذي يلفت الأنظار إليه ويجذب الأسماع نحوه ويضع هذا الضرب من الشعر في منزلة الأدب الرفيع، ولنا إلى كل هذه المذاهب عودة عند الكلام على مدارس الشعر في الأجزاء التالية إن شاء الله. ورأى بعض العلماء حين تعددت مذاهب النقد، ومدارس الأدب، وتناول النقد الأدبي من لا يستطيعه، ومن لا يحكم فيه إلا ذوقه، الذي قد يكون مصقولًا يغذيه علم وسعة اطلاع، وقد لا يكون مصقولًا، ولا يعرف شيئًا من الأدب العربي القديم أو الحديث، رأى هؤلاء العلماء أن الحاجة ماسة إلى وضع كتب في النقد الأدبي وتبيان أصوله، فترجم الدكتور محمد عوض "النقد الأدبي" لأبر كرومبي،

ووضع الأستاذ أحمد الشايب كتاب أصول النقد الأدبي متأثرًا بكتاب Winchester في أصول النقد، وظهر في السنوات الأخيرة "في الأدب والنقد" و"الميزان الجديد" للدكتور محمد مندور، و"من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" لمحمد خلف الله، و"دراسات في علم النفس الأدبي" لحامد عبد القادر، و"الأصول الفنية للأدب" لعبد الحميد حسن، والمدخل إلى النقد الحديث للدكتور غنيمي هلال.

الفصل الرابع: الشعر بعد البارودي

الفصل الرابع: الشعر بعد البارودي ... الفصل الرابع: شعر بعد البارودي وثب البارودي بالشعر وثبة عالية ردت إليه ديباجته المشرقة المتينة، وأغراضه الشريفة، ومعانيه السامية، وحررته -كما ذكرنا- من الغثاثة والركة، وقود البديع المتصنع وحلاه المسترذلة، وكان للبارودي مدرسة قوية تتلمذ عليه فيها شعراء نجباء، فجاروه في متانة أسلوبه والبعد عن مظاهر الضعف، واختلفوا بعد ذلك عن أستاذهم تبعًا لاختلاف ثقافتهم، ومواهبهم الشعرية وتأثرهم بأحداث زمانهم. كثر عدد الشعراء بمصر في مستهل القرن العشرين، والربع الأول منه، وقد تباينوا حظًّا في الشهرة وإدراك المجد، وخلفوا لنا جميعًا تراثًا زاخرًا بالثروة الأدبية، جعل مصر في مقدمة الأمم العربية في الشعر، وقد تضافرت عدة عوامل عامة على تجويدهم، وبروزهم ذكرناها آنفًا؛ وخير شعراء العصر الحديث هم المخضرمون الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وشهدوا النهضة في مستهلها، وتثقفوا ثقافة عربية قوية في بدء نشأتهم، ثم عاشوا في القرن العشرين ردحًا من الزمن، وشهدوا الوثبات الوطنية الرائعة والأحداث المحلية المثيرة، والتطور العلمي فكرًا ومادة. وإذا نظرنا إلى الشعر في هذه الحقبة نظرة عامة من حيث أغراضه نجد بعض القديم منها قد اندثر، وعفى عليها الزمن، وبعضها قد تجددت معانيه، ودبت فيه روح جديدة، وبعضها قد ابتكر، ولم يعرف عنه العرب الأولون شيئًا. فمن الأغراض التي كانت رائجة في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، وكان لها شأن كبير في شهرة الشاعر، وحظه من المجد -المديح- ولا نجد شاعرًا مخضرمًا لم يمدح؛ وكانت جهات المديح متعددة، فالخليفة في الأستانة ينتظر من شعراء العربية المسلمين -بل وغير المسلمين- أن يرفعوا إليه مدائحهم ويصفونه فيها بكل جليل عظيم من المكرمات وهو عنها عار ومنها براء، والأمير في مصر قد جعل له شاعرًا خاصًّا يتغنى بأعماله ويشيد بذكره في كل مناسبة، والوزراء والعظماء ينتظرون من الشعراء مثل هذا المديح وقد غالى

الشعراء في مديحهم، وساروا فيه على سنن الأقدمين من افتتاح القصائد بالغزل المتكلف، ثم وصف الممدوح بالكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات التي استنفد شعراء الماضي كل معانيها. ولقد كان هذا الغرض هدفًا لهجمات النقاد المريرة، ولوم الشعراء لومًا شديدًا على عكوفهم عليه في عصر يجب أن يتطلع فيه الشاعر إلى الشعب لا إلى الأمراء والخلفاء، ويجب أن يبنى مجده على شاعريته ومواهبه باستنباط المعاني الجديدة، ومجاراة الحياة التي يعيش فيها، لا على التمسح بأعتاب الملوك والأمراء، وبنظراته العامة إلى الإنسانية لا بنظراته الفردية المحلية، وقد أثمرت هذه النقدات ثمرتها، وانصرف معظم الشعراء الذين كلفوا بالمديح الشخصي حينًا إلى غيره من أغراض الشعر، وإذا مدحوا فلبطولة فائقة، أو لغرض شعبي عام، أو لعمل وطني جليل، أو ذهبوا إلى التاريخ يستوحون أمجادهم ومفاخرهم والمدح كما يقول الرافعي1: "إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح بل على نفس المادح، وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله، وما ابتليت لغة من اللغات بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه اللغة العربية". ومن الأغراض التي أماتها استنكار النقاد، والعرف العام، والحياة العصرية وما فيها من قوانين مدنية تعاقب المعتدين على أعراض الناس، النهاشين لها: الهجاء. ولم يبق منه إلا مداعبات لطيفة فيها تهكم وسخرية وتصوير، لا تتناول المحارم والأعراض، ولا تقذع ولا تفحش، وإنما تعتمد على النكتة اللاذعة، والتصوير البارع، وإذا احتدم الهجاء بين الشعراء أفحشوا ولكنهم يستحيون من تدوينه وإنما يتناقله الرواة شفاها، وكأنهم يخشون أن يؤثر عنهم في عصرنا هذا. ومن الأغراض التي كادت تندر: الحماسة، وإذا كان البارودي قد أبدع في الحماسة وأعادها قوية مشبوبة الأوار، لماعة السيوف كما كانت في عهد البطولة العربية الأولى، فإنه كان فارسًا خاض غمرات الحروب، وشهد المعامع وصيال

_ 1 وحي القلم ج3 ص384.

الخيول، وقصف المدافع، أما الذين أتوا بعده فإن أتوا بشيء من الحماسة في شعرهم فذلك عن تقليد لا عن أصالة، وكثيرًا ما تثير ذكريات الماضي وما فيها من صورة رائعة للبطولة والحماسة في نفوسهم، فيصفون هذا الماضي، وما كان فيه من أحداث جليلة، وما قام به الفرسان من أعمال. على أن هناك ما صرفهم عن الحماسة، وأشبع نفوسهم من هذه الناحية ألا وهو الشعر الوطني القومي، سنأتي على ذكره بعد قليل. ومن الأغراض التي اضمحلت. وخبا بريقها من قصائد، وقد كان لها شأن أي شأن في القدم، وعند البارودي: الفخر، كان الشعراء في الجاهلية، وفي الإسلام فرسانًا شجعانًا أشرافًا، فكان من الطبيعي أن يتغنوا بمفاخرهم ومفاخر قبائلهم، وأعمالهم، ثم افتخر الشعراء بعد ذلك بشعرهم وباهوا بمواهبهم ولكن العصر الحديث بعد بالشاعر عن ميادين القتال، ولم يعد ذلك الشاعر الذي يدل بأعماله من كرم ونجدة، ويدل بأعمال قبيلته، بل انقلب الفخر إلى شيء آخر هو ما سيظهر في الشعر الوطني، يشيد فيه الشاعر بأمجاد أمته وتاريخها كما فعل شوقي مثلًا في ملاحمه العربية والإسلامية. أما الغزل فقد احتل المقام الرفيع عند الشعراء، وإن سار كثير منهم في أول الأمر سيرة الأولين وقلدوهم في الأوصاف المادية، وفي تشبيهاتهم، ولكنه ما لبث أن دخل عليه شيء كثير من تحليل العاطفة، وتصوير نزوات النفوس، وفتقت فيه المعاني. وإن جنح عند بعض الشعراء المحدثين الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، إلى الشهوة والتخنث والإسفاف. ولقد تبين الشعراء في هذا الفن فمنهم من تكلفه تقليدًا للقدماء، إرضاء لفنه الشعري دون أن يصدر عن عاطفة أو هوى، ولذلك جاء شعرًا جافًّا من الأحاسيس تلمس فيه أثر الصنعة، ومنهم من صدر فيه عن نار مشبوبة بين جوانحه معنى جميلًا، ونظمًا رقيقًا، وصورًا زاهية طلية، وتنبض بالحياة لا تماثيل جامدة لا تتحرك ولا تحس فيها أثرًا من الشعور. وقد اشتهر من بين شعراء الغزل شوقي، وإن كانت الصنعة والتكلف، وفقدان العاطفة قد غلب على ما قاله، كما اشتهر به إسماعيل صبري وهو كذلك لا يصدر عن وجدان صادق كما سترى في ترجمته.

وممن اشتهر بالتجديد في هذا المضمار، وبرع فيه براعة فائقة حتى سمى نفسه أو سماه الناس: شاعر الهوى والجمال مصطفى الرافعي. وله فيه معان علوية خالدة بعضها شعرًا منظومًا، وأكثرها شعرًا منثورًا. ومن قصائده في الغزل هذه القصيدة، وهو يعبر فيها عن حاله وأنه كان متعففًا في حبه تعصمه أخلاقه ودينه، ولذلك اشتدت صبوته وحرمانه. وهو في هذه القصيدة ينعى على هؤلاء الذين يحبون ونفوسهم تطفح بالشهوة وفي هذا ازدراء للحبيب، فالحب تضحية وعبادة. من للمحب ومن يعينه ... والحب أهنأه حزينه أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقالوا كيف لينه إن يُقْضَ دين ذَوي الهوَى ... فأنا الذي بقيت ديونه قلبي هو الذهب الكريـ ... فلا يفارقه رنينه قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه يا من يحب حبيه ... وبظنه أمسى بهينه وتعف منه طواهر ... لكنه نجس يقينه إن تنقلب لص العفاف ... لمن تحب فمن أمينه ما لذة القلب المدلـ ... ـه لا يطول به حنينه؟ الحب سجدة عابد ... ما أرضه إلا جبينه الحب أفق طاهر ... ما إن يدنسه خَئُوبَه ومنهم عبد الرحمن شكري وكان بئيسًا في حبه كثير الشكوى والوله فيه معانٍ جديدة وطريفة، من ذلك قوله: ليس جسمي بالذي ترون ولكن ... ذاك قبر لما تكن الضلوع من شجون ولوعة وادكار ... وهموم تنم عنها الدموع وقوله: شكوت إليه ذلتي فتحكما ... وأرسلت دمعي شافعًا فتبرما

وقال له الواشون أنت وصلته ... ببعثك طيفًا في الكرى فتظلما وخبر أني قد تخيلت أنني ... تزودت منه قبله فتألما وخبر أني سوف أخلس نظرة ... إليه فأضحى بالحياء ملثما وإني لأهوى أن أموت لعله ... إذا مر ذكري في الحديث ترحما وكان غزله كله يفصح عن حرمان وألم. ومن هؤلاء الذين نسجوا على هذا المنوال، وكان غزلهم نغمًا حزينًا وألمًا وشجنًا إبراهيم ناجي، وفي قصيدة "المودة" يتغنى بذكرياته الحزينة لمرتع صباه ومجالي لهوه وما كان له من حب ذوى قبل أوانه. رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلب اتئد فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد لم عدنا؟ أَوَلَمْ نطوِ الغرام ... وفرغنا من حنين وألم ورضينا بسكون وسلام ... وانتهينا لفراغ كالعدم موطن الحسن ثوى فيه السأم ... وسرت أنفاسه في جوه وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه والبلى أبصرته رَأيَ العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حتى لا يموت كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشجى وأنا أسمع أقدام الزمن ... وحطى الوحدة فوق الدَّرَج أما الخمر ومجالس اللهو: فقد برع فيها طائفة من الشعراء من أمثال شوقي وعلي محمود طه، وحافظ، إلا أن شوقي أجاد وصف المراقص العصرية في خمرياته، وأجاد علي محمود طه في وصف أويقات الأنس في مغاني أوربا وأبدع في تصويرها. ومن ذلك قوله يصف ليلة قضاها على ضفاف نهر "الراين": كنز أحلامك يا شاعر في هذا المكان سحر أنغامك طواف بهاتيك المغاني فجر أيامك رفاقك على هذي المحاني أيها الشاعر هذا الرَّاين، فأصدح بالأغاني

كل حي وجماد هاهنا ... هاتف يدعو الحبيب المحسنا يا أخا الروح، دعا الشوق بنا ... فاسقنا من خمرة الرين اسقنا عالم الفتنة يا شاعر أم دنيا الخيال أمروج علقت بين سحاب وجبال؟ ضحكت بين قصور كأساطير الليالي هذه الجنة فانظر أي سحرٍ وجمال يا حبيب الروح يا حلم السنا ... هذه ساعتنا، قم غَنِّنَا سكر الشاق إلا أننا ... فاسقنا من خمرة الرّين اسقنا ومن الأغراض التي صار لها مقام مرفوع في الشعر الحديث الوصف بعامة، ووصف الطبيعة بخاصة والوصف من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا. والإجادة في الوصف تدل على شاعرية قوية؛ لأن الشاعر لا تدفعه إليه رغبة أو رهبة، وإنما يدفعه إليه انفعاله وحساسيته بما يحيط به. وقد اختلف الشعراء في نظرتهم إلى الطبيعة اختلافًا بينًا: فمنهم من يرى وجهها الضاحك، ورياضها المزدهرة، وأطيارها المفردة، وشمسها الضاحية، ونجومها الزاهية، ومروجها الخضراء، ومياهها الندية، وأريجها الشذى، ومنهم من يرى وجهها العابس، فلا يحس إلا ليلها الأسود، وسماءها الملبدة بالغمام، وريحها الزفوق وأعاصيرها الجارفة، وبراكينها التي تصب الحمم، وزلازلها المدمرة، وأمطارها العنيفة، ومفاوزها المهلكة.. إلى غير ذلك، ومنهم من يراها في كلا وجهيها، فينتشى طربًا حين تصفو وتحلو وتشرق، ويكتئب حين تزمجر وتغضب، وترينا وجهها الكالح، ثم هو بعد ذلك كله يختلفون في تصويرها فبعضهم يصور ما في الطبيعة تصويرًا ماديًّا محسوسًا كأنه آلة تصوير، يزخرف، ويشبه، ويغص شعره بشتى ألوان الاستعارات مثل البارودي وتوفيق البكري، ومثل شوقي في وصف لبنان ودمشق، وبعضهم يبعث في الطبيعة.

روحًا حية، ويكتنه أسرارها ويغوص في أعماقها، ويصورها ملونة بعاطفته الخاصة، وحسبما يوحي إليه خياله المجنح فينطقها، ويشخصها كوصف شوقي لرحلة في قصيدته المشهورة: يا جارة الوادي طربت وعادني ... ما يشبه الأحلام من ذاكراك ومثل معظم أوصاف مطران في الطبيعة وقد زاد نظراته الشاملة العامة للكون، وللإنسانية وما يرجى فيها من خير وشر، وعدل وظلم، مثل قصيدته: في المساء، ووردة نبتت في سفك دماء. والنوارة، وفي الغابة، وغصن من زهر المشمش، ومثلها وصف شوقي للجيزة أو الجزيرة، أو وصفه للآثار المصرية التي تشبه الطبيعة لقدمها. ومن الشعراء الذين احتذوا حذو الغربيين في نظراتهم الشاملة للكون وللإنسانية جمعاء حين يصفون الطبيعة: جبران، وإيليا أبو ماضي وكثير من شعراء المهجر محتذين في ذلك حذو شعراء الغرب. وقد يقف الشعراء على آثار الأمم الماضية، ومشاهد العمران فيغوصون في أعماق التاريخ ويصورونه تصويرًا بارعًا، وقد فاق شوقي سواه في هذا المضمار. وقد وصف الشعراء المعارك الحديثة، ولكنهم للأسف قلما جددوا في أساليبهم وتشبيهاتهم فتجدهم يتحدثون عن السيوف والرماح والدروع والمغافرن وينسون أن الحرب الحديثة فيها المدافع والمدرعات والطائرات والغواصات، وأنها تجتاح كل البشرية لا ينجو منها ومن عواقبها محارب أو مسلم من: غلاء وضيق وظلمة، وتقيد للحريات، وتدمير شامل للمدن، وقد تعرض شوقي لمثل هذه المعارك، ولكنه لم يجدد إلا بقدر يسير. ومن الأغراض التي امتدت واتسعت وراجت الرثاء، وقد كان في بادئ الأمر مقصورًا به التزلف فلا يرثي إلا ملك أو أمير، ثم خرج عن ذلك إلى رثاء العظماء الذين أسدوا إلى بلادهم خدمات جليلة، وصار رثاء فيه تصوير للمرثي وأعماله، ولا يصلح لسواه من الناس كما كان الحال من قبل حيث كان الرثاء يصلح لكل

ميت، ولم يقف رثاء الشعراء على الأشخاص بل تعداهم إلى رثاء الدول والمدن، كما فعل شوقي في رثاء أدرنه، وعند زوال الخلافة. ولقد حظي التاريخ بعناية الشعراء وهو من الأغراض المستحدثة، ونظم فيه الشعراء ملاحم قوية، كهمزية شوقي التي أنشدها في مؤتمر المستشرقين، وكقصائده في دول العرب وعظماء الإسلام، وكقصيدته البائية في وصف الحوادث العثمانية. وكان شوقي احتفاء زائد بالتاريخ إذ كان يرى فيه معلمًا عظيمًا، وكنزًا كريمًا وهو القائل: الشعر ابن أبوين: الطبيعة والتاريخ، وكان له مقدرة على استحضار مشاهده واضحة زاهية وتراه يرجع بك إلى الماضي كأنك تراه: أفضى إلى ختم الزمان فقضَّه ... وحبا إلى التاريخ في محرابه وطوى القرون القهقري حتى أتى ... فرعون بين طعامه وشرابه فترى الزمان هناك قبل مشيبه ... مثلَ الزمان اليوم بعد شبابه ومن الأغراض التي تقدمت بعد البارودي: الشعر القومي وهو يشمل الوطنية والاجتماع ولقد رأينا البارودي يقف عند الحوادث الخاصة التي تأثر بها والتي في نفسه، ولكن الأحداث التي مرت بمصر، والاحتلال ومصائبه، والمطالبة بالدستور، ثم الثورة الوطنية العامة سنة 1919 قد نبهت الشعراء إلى معان جديدة وأغراض حديثة في الشعر القومي كما مر بك في غير هذا الموضوع. فالوطنية تشمل: الأناشيد الحماسية، وتصوير الفظائع التي ارتكبها الغاصب، والمناداة بالاستقلال، والتحرر من ربقة الأجنبي، والحث على الثورة، وتصوير الصدام بين جنود الاحتلال، والوطنيين المجاهدين. ولقد خاض معظم الشعراء في هذا الميدان، وبرع كثير من الشعراء فيه كشوقي، وحافظ، وأحمد محرم، والكاشف، وعبد المطلب، والجارم، والرافعي ولم يبق إسان يستطيع قول العشر، وليس له في هذا الميدان نصيب حتى مصطفى كامل، وهو من الخطباء والكتاب البارعين في الوطنية أبت عليه حماسته إلا أن يقول نشيدًا في الوطنية أثبتنا طرفًا منه هنا لطرافته ولأنه من بواكير قلمه.

هلموا يا بني الأوطان طرا ... لنرجع مجدنا ونعز مصرا هلموا أدركوا العلياء حتى ... تنال بلادنا عزًّا وفخرًا هلموا اتركوا الشحناء منكم ... وكونوا أوفياء فذاك أحرى أليس يشيننا ترك المعالي ... تباع يغير وادينا وتشري ونحن رجالها وبما لديها ... من الإسعاد والخيرات أدري فعار أن نعيش بغير مجد ... ونبصر في السماء شمسًا وبدرًا وعار أن يكون لنا وجود ... ويحظى غيرنا فوزًا ونصرا وقد مر بك في غير هذا الموضع من الكتاب موقف الشعراء إزاء الوطنية المصرية وتفاعلهم معها كما مرت بك نماذج كثيرة في هذا الموضوع. ومن الشعر القومي: الشعر الاجتماعي، ويراد به تصوير عيب من عيوب المجتمع، والحث على تلاقيه من ذلك قول الشيخ نجيب الحداد في وصف القمار: قد اختصروا التجارة من قريب ... فعدم في الدقيقة أو يسار كأن وجوهم ندمًا وحزنًا ... كساها لون صفرته النضار فبينا تبصر الوجنات وردًا ... إذا هي في خسارتهم بهار عصائب لا يود المرء فيها ... آخاه ولا يراعى الجارَجار يلاحظ بعضهم بعضًا بعين ... يكاد يضيء أسودها الشرار فكم غصبوا على الأيام ظلمًا ... وكم حنقوا على الدنيا وثاروا وكم تركوا النساء تبيت تشكو ... وتسعدها الأصيبية الصغار تبيت على الطوى ترجو وتخشى ... يؤرقها السهاد والانتظار فبسئت عيشة الزوجين حزن ... وتسهيد وهجر وافتقار وبئست خلة الفتيان هم ... وأتعاب وخسران وعار والتعرض لمشكلة اجتماعية، أو الإشادة بمظهر جديد من مظاهر النهضة ورقي الأمة يعتبر كذلك من الشعر الاجتماعي، وقد أكثر الشعراء من الكلام على الأخلاق، وتصوير العيوب الخلقية التي ورثناها من عهود الضعف والاحتلال، أو من مفاسد المدينة الحديثة، كما أكثروا من الحث على التحلي بالفضائل، وحضوا

على تحرير المرأة، أو قاوموا تحريرها، كل حسب ميوله ونظرته وبيئته، وحثوا على تشييد المعاهد، والمستشفيات، والملاجئ، وعالجوا مشكلة الفقر والغنى، وتكلموا عن الحريات والدستور، والطيران، وتقدم الأمة اقتصاديًّا وإنشائها المصارف، والشركات ودور الصناعة ونهضتها في الملاحة، ولم يدعوا ظاهرة سيئة أو حسنة تهم الشعب اجتماعيًّا إلا كانوا لسان الشعب المعبر عنها أسفًا أو سرورًا. ولم يكن للشعر الاجتماعي منزلة كبيرة في الأدب العربي القديم، وإنما كان يتمثل في أبيات الحكمة والأمثال، والشكوى من الناس والزمان وتصويرهم من وجهة نظر الشاعر، وهو لا يصور عادة حسناتهم، وإنما ينعي عليهم أخلاقهم، وموقفهم منه ومن آماله كما فعل المتنبي، وأبو العلاء، والبارودي. وأنت ترى أنه قد اتسع اتساعًا عظيمًا في الشعر الحديث، وتشعبت غاياته وموضوعاته، كما تعددت طرق التعبير عنه، فمن قصيدة، أو قصة شعرية كقصة "الجنين الشهيد" ومقتل بزر حمهر، وفنجان قهوة لمطران وغيرهما، أو رواية تمثيلية تصور فيها الشخصيات المتعددة، المتباينة الطباع والعادات والأخلاق والغايات. وقد برع في الشعر الاجتماعي شوقي، وحافظ. ومطران على تفاوت بينهم في الموضوع والأسلوب على نحو ما بيناه آنفًا. ومن الأغراض التي أفاض فيها الشعراء في العصر الحديث: الشعر الديني فمن زهاد متعبدين يحثون على التقوى، وترك الموبقات، والتمسك بالفضيلة وعدم الانخداع بالدنيا وزخرفتها، إلى شعراء يتغنون بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقربون إلى الله بمدحه، ويستشفعون به، ويستحثون أمهم على استرجاع مجدهم القديم، وعزهم الزائل، وقد كثروا من الكلام في مطلع كل عام هجري احتفاء بالهجرة، وجعلها موعظة وذكرى للأمم التي تنشد الحرية، وشاع فيها الفساد، كما اتخذوا من سير بعض الصحابة موضوعًا شعريًّا سجلوا فيه فضائلهم، وما قدموه للإنسانية كعمرية حافظ وعلوية عبد المطلب. ومن الشعر الديني: إلياذة أحمد محرم التي صور فيها جهاد النبي عليه السلام في سبيل الدعوة، وما لاقاه أنصاره من تعذيب وإيذاء في مبدأ الدعوة

وبطولتهم الفائقة في الغزوات العديدة، وأخلاقهم الكريمة في معاملاتهم لأعدائهم وقد ألف بعض الشعراء الشبان قصصًا مسرحية شعرية في غزوة بدر، وأحد، وفتح مكة ومن أشهرهم محمد يوسف المحجوب. وثمة جماعة رق دينهم، وفتنتهم العلوم الحديثة، فاستهزءوا بالدين وسخروا منه، أو شكوا فيه، وآخرون نقموا على رجال الدين جمودهم، وساء ظنهم بهم. وأكثر هؤلاء من غير المصريين الذين اتخذوا هذه الديار موطنًا لهم من أمثال فرح أنطون، والدكتور شميِّل. ومما جدد فيه الشعراء من الأغراض القديمة: الشعر التعليمي، وقد كثر من قبل في منظومات العلوم كالنحو والصرف، والعروض، والتوحيد وغيرها، ثم استخدمه محمد عثمان جلال في نظم الخرافات والحكايات، وجاء شوقي فأربى عليه في هذا الباب وجدد في موضوعات الشعر التعليمي، ويصح أن نعد منه كتاب "دول العرب وعظماء الإسلام". ولحافظ بعض الشعر في هذا النوع. على أنه انتشر انتشارًا بعد شوقي حتى صار عندنا منه الشيء الكثير وأغلب الذين برعوا فيه هم المشتغلون بالتدريس للأطفال. ومن الأغراض التي برع فيها الشعراء المحدثون: الوجدانيات، وأظهرها الشكوى، وبث لواعج النفس وآلامها وأحزانها، ومناجاتها، وقد شكى البارودي وتألم من منفاه، ولكن من أتى بعده ممن تعرف على الثقافة الغربية، وقرأ شعر بيرون وشيلي، ووردسورث، وهاردي، وويتمان في الإنجليزية، وبودلير، ويول فاليري وغيرهما في الفرنسية أفاض في هذه النفسيات التي ينفس بها عن آلامة وأحزانه، وصرت تسمع من مطران قصائده: "مشكاة بيني وبين النجم"، وقصيدة "ساعة يأس أو الأسد الباكي" و"المساء" وغيرها، وقد كثر هذا في شعر شكري والمازني والعقاد وأحمد زكي أبو شادي، ومعظم شعراء الشباب، واستمع إلى العقاد في شكواه:

ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني حيران حيران لا نجم السماء ولا ... معالم الأرض في الغمام تهديني يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا ... نيني ولا سمر السمار يلهيني غصان غصان لا الأوجاع تبليني ... ولا الكوارث والأشجان تبكيني شعري دموعي وما بالشعر من عوض ... عن الدموع نفاها جفن محزون يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط ... على المدامع أجفان المساكين هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم ... وما استرحت بحزن فِيّ مدفون أسوان أسوان لا طبَّ الأساة ولا ... سحر الرقاة من الأدواء يشفيني سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا ... عجائب القدر المكنون تغنيني أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني ... على الزمان ولا خل فيأسوني يديك فامح ضني يا موت في كبدي ... فلست تمحوه إلا حين تمحوني أو استمع إلى المازني في "وصية شاعر" والتي يقدم لها بقوله: هذه وصية بشعة في رأي الكثيرين ولا ريب، وسيعتدونها دليلًا على الحزن ولؤم النفس، وربما ذهبوا إلى أبعد من هذا الحد، فأخذوا الأدب الحديث كله بجريرتي في هذه القصيدة، وفيها يقول: سترخي على هذه الحياة الستائر ... وتطفأ أنوار ويقفز سامر فهل راق هذا الخلق قصة عيشتي ... وماذا يبالي من طوته المقابر تركت لهم من قبل موتي وصية ... نظير التي أوصت بها لي المقادر وهبت لأعدائي إذا كان لي عدى ... همومي وما منه أنا الدهر ثائر وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى ... وبالدمع لا يرقا ولا هو هامر وبالجدري في وجهه ليزينه ... وبالعرج المرذول والله قادر وبالضعف والإملاق واليأس والجوى ... وبالسقم حتى تتقيه النواظر وللشيب بالأوجاع في كل مفصل ... وبالثكل في الأبناء والحد عائر وكل سقام قد تركت لذي الصبا ... وما كنت منه في الحياة أحاذر وللناس ألوان الشقاء وإنني ... إذا مت لا آسى على من يخامر

وهي وصية تدل على نفس قد أداها الدهر، ولها عند كل إنسان وتر، فهي توصي لهم بكل شر وضر، ولعل فيما أصاب المازني في حياته ما جعله ساخطًا كل السخط في هذه القصيدة، وقد أشار فيها إلى عرجه الذي كان شديد الحساسية به. وباب الوجدانيات بحر لا ساحل له؛ لأن عواطف النفس الإنسانية تتجدد بتجدد الأيام والحياة، وما فيها من سرور وآلام وابتسامات ودموع، وضحكات وآهات، ولا نغالي إذا قلنا: إن معظم شعراء الشباب في عصرنا الحاضر لا هم لهم إلا بث لواعج نفوسهم، والشكوى من زمنهم ومن الحياة، لذلك جاء شعر أكثرهم حزينًا باكيًا متشائمًا منبعثًا عن نفسيات في اليأس أو لا تقوى على احتمال الآلام. وقد تغير الحال نوعًا ما بعد ثورة 23 يوليو 1952. وانتصاراتها المتتالية الداخلي والخارجي، وتبنيها القضايا العربية وقايم الوحدة بين مصر وسوريا مما أوجد لدى شباب الشعراء مادة غزيرة تثير حماستهم وتلهب مشاعرهم وتحرك طموحهم لمجد أمتهم، وتشعرهم بمستقبل بسام ووحدة شاملة للعالم العربي، فتغيرت النغمة الحزينة لدى الكثيرين من الجيل الصاعد، ولم يعد الأفق أمامهم مظلمًا، ولا المستقبل معتمًا، ولم يعد ثمة مجال لاجترار أحزانهم ونشر مآسيهم إلا قلة متخلفة ران اليأس على أفئدتها. أما من حيث الأسلوب فقد جرى الشعراء في أول الأمر مقلدين للقصيدة العربية، محافظين على الأوزان التي ورثناها عن العرب، ولكنهم ما لبثوا أن افتنوا في أنواع الموشحات وخرجوا بها عن أصولها المعروفة، حتى صاروا بها إلى مسدسات، ومسبعات ومثمنات، دون أي التفات إلى عدد الإقفال والأبيات. وإن راعوا نمطها في الوزن والتقفية. ولما اشتد تأثرهم بالأدب الغربي في القرن العشرين أخذوا ينظمون القصيدة مقطعات، تختلف في عدد أبياتها حينًا، وتتفق حينًا آخر، ولكل مقطعة قافية تستقل بها عن أخواتها. ومنهم من جرى على أسلوب الشعر الغربي في تثنية قوافيه، وتقطيعه وتفصيله، وآثر البحور الخفيفة الرشيقة، ومنهم من أهمل

القوافي والأوزان، أو حافظ على الأوزان دون القوافي، وهو ما يسمى بالشعر المرسل ومن حافظ على القوافي وأهمل الأوزان، وسموا هذا الأخير الشعر المنثور وقد تكلمنا عنه آنفًا، ومن أمثلة الشعر المرسل، وهو الموزون غير المقفى بعض ما ترجمه محمد فريد أبو حديد من روايات شكسبير فمن ذلك مناجاة روميو لنفسه حين رأى جوليت فيحفل راقص لأول مرة: نورها الباهر في لمعته ... جعل الأنوار تزداد سنا وبدت في صفحة الليل كما ... يلمع الجوهر في قرط الزنوج إن هذا الحسن لا أحسبه ... حسن أهل الأرض حاشا أن يكون ثم يراها في الشرفة تنظر إلى القمر مفكرة فيحدث نفسه وهو ينظر إليها: أي نور يتلال ... باهرًا من خدرها إن هذا أفق الشرق وقد ... أشرقت جوليت من أعلاه شمسًا أيها الشمس تعالى في السماء ... واقتلى بدر الدجى من غيظه فهم يبدو شاحبًا في حقده ... مذ رأى حسنك أبهى منظرًا ليتني كنت في يديها شعارًا ... أو غطاء أمس تلك الخدودا فإذا سمع صوتها صاح: أسمعي صوتك حلوًا أسمعي ... يا ملاكًا من ضياء الأفق أنت في الليل تلوحين كما ... سبحت في الجو أملاك السماء ومن ذلك مناجاته لها وقد رآها ملقاة على الأرض بعد أن خدرها القسيس فظنها روميو قد فارقت الحياة: يا هوى مهجتي ... وزوجي سلامًا إن يك الموت قد سطا بك واشتف ... رحيق الشفاه من أنفاسك فلعمري هذا جمالك رطب ... أعجز الموت، لم يزل في بهائه تلك أعلامه ترفرف حمراء ... على خده وفوق شفاهة وأرى الموت تحت راية الصفر ... كليلًا ملفعًا بصفاره

أي جوليت! حبيبة قلبي ... كيف يبقى الجمال بعد الحمام أترى الموت ذلك الشبح المرعب ... هذا الكريه يضمر حبك فطوى جسمك الحبيب رطيبًا في دياجيره يريد وصالك لأقيمن ههنا أبد الدهر قريبًا إليك دون غريمي ثاويًا في ظلام قبرك هذا راضيًا لا أريد عنه انصرافا فأنت ترى في هذا الضرب من الشعر فقرات موزونة كل فقرة مستقلة في وأنها عما قبلها وما بعدها. وترى شعرًا غير مقيد ببحر واحد وغير مرتبط بقافية. ومن قصيدة شكري "كلمات العواطف" التي أشرنا إليها مرارًا في فصل النقد وقد ختم بها الأول من ديوانه "ضوء الفجر": نرى في اليوم ما هو في أخيه ... كذلك حياة أبقار السواقي ولولا عصب عينيها لكانت ... تعاني البأس والسأم الدخيلا ولولا خدعة الأمل المرجى ... لأسلمنا النفوس إلى الحمام وليس العيش إلا ما نعمنا ... هـ أيام نمرح في الشباب إذا سقط العجوز على نعيم ... فقد سقط الهشيم على الزهور بكائي أن أرى رجلًا لئيمًا ... يقدمه الرياء على الكريم فإن حركته للعرف يومًا ... تبدى منشدًا قولًا رخيصًا بكائي أنني أعدو غريبًا ... وحولي معشرتي وبنو ودادي بكائين أن لي طبعًا أبيًّا ... ورأيًا مثل حد السيف ماضي بكائي أن في الدنيا أمورًا ... يضيق بمثلها الصدر الرحيب وكم وغد رفيع الجاه يغدو ... كأن الكون ليس به سواه

وقد جد منذ سنوات في البلاد العربية نزعة إلى التحرر من القافية وجعل التفعيلة لا البحر وحدة موسيقية في القصيدة وسموه الشعر الحر، ولا يزال هذا الضرب من الشعر في سبيل التجربة، ولم يأت بعد الشاعر الفحل الذي يستهوي الأسماع بسحر نغمه، والألباب بعذب شعره، والنفوس بقوة بيانه ورائع تصويره ومجنح خياله ونفيس معانيه ليدعم هذا الشعر ويعطيه مكانته في الأدب، ومعظم ما ينظم به النوع القصصي الساذج الذي يعبر عن أمور مألوفة وتجارب بسيطة، وقد رآه الشباب مطية ذلولًا وعملًا هينًا فآثروه على الشعر الموزون المقفى، وأدعوا أنه يتمشى مع الدفقة الشعورية. وقد نبغ من الشباب من تحداهم، وبرهن على أن القيثارة العريقة التي ظل يعزف على أوتارها شعراء ستة عشر قرنًا لا تزال تبدع أروع الأنغام وأجمل ضروب الموسيقى. نقول هنا ولا نستطيع الحكم بعد على هذا الشعور، وإن كان ما سمعناه منه حتى اليوم: لا، يبشر بخير كثير. أما الشعر المنثور الذي روعيت فيه القافية وأهمل الوزن.. فله أمثلة كثيرة، وهو لا يخرج على نظام النثر المسجوع في الأدب القديم، ومثاله في أدبنا المعاصر قوله شوقي يخاطب ولديه وهو يغادر مصر في طريقه إلى منفاه: "تلكما يا ابني القناة! لقومكما فيها حياة، ذكرى إسماعيل وروياه، وعليها مفاخر دنياه، دولة الشرق المرجاة، وسلطانه الواسع الجاه، طريقة التجارة، والوسيلة والمنارة، تعبرانها اليوم على مزجاة، كأنها فلك النجاة، خرجت بنا بين طوفان الحوادث، وطغيان الكوارث، نفارق برًّا مغتصبة مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة، واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره، خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح، ونقابل بحرًا قد جنب جواريه، ونزت بالشر نوازيه، ومن نون ينسف الدوارع أو طير تقذف البيض مصارع إلخ". وقد جمع هذا الضرب من الكلام في كتاب خاص سماه "أسواق الذهب"1.

_ 1 راجع نشأة النثر الحديث ج1 للمؤلف.

ومن ذلك: وصف السيد توفيق البكري للبحر وهو في طريقه إلى القسطنطينية، ولعمري ليس في هذا الكلام من الشعر إلا أنه موشى ببعض ألوان الخيال وقد مر بنا رأي الرافعي وغيره من النقاد في هذه التسمية. ولم يعد البيت عند الشعراء المجددين هو وحدة القصيدة. بل صارت القصيدة مرتبطة بعضها ببعض في بناء محكم، ولجئوا إلى القصة الشعرية. وقد عرف العرب قديمًا هذا النوع في شعرهم من مثل قصيدة الحطيئة "وطاوى ثلاث". وقصيدة "عمر بن أبي ربيعة" أمن آل نعم، وكثير من شعر "عبد بني الحساس" وقصيدة الأعشى في السموءل، والفرزدق في الذئب، والبحتري في الذئب وكثير من شعر الطرد، بيد أنه لم يكن محبوك العقدة، ولا ممنوع الموضوع، ولا يرمي إلى تحليل دقيق، بينا تراه في الشعر الحديث قد اتسع ميدانه، وكثر فرسانه، فنظم فيه مطران عشرات القصائد، وتبعه إبراهيم رمزي، وشوقي، وحافظ، وشكري ومحرم في الإلياذة الإسلامية وهي ملحمة طويلة جدًّا وسنتكلم عليها عند ترجمته إن شاء الله، وقد استمدوا موضوع القصة الشعرية من بطون التاريخ أحيانًا، ومن حوادث زمانهم أحيانًا، وأضفوا عليها من جميل خالهم، ورائق شاعريتهم، فغلبت الصيغة الأدبية على التاريخية، أو الحقائق العلمية. وإن كان لا يزال ينقصها حتى اليوم في أغلب الأحيان جودة تصوير الأشخاص وتحليل العواطف النفسية، ولو أجادوها كما أجادوا عرض الحوادث ووصفها وسردها لبلغوا الغاية. ولما أطلعوا على التمثيليات الشعرية لدى أدباء أوربا حاولوا محاكاتها، وقد تجرأ الشيخ خليل اليازجي1 فنظم تمثيلية "المروءة والوفاء" في ألف بيت سنة 1876، ولكنها جاءت سقيمة العبارة، ركيكة الأسلوب، أشبه بأساليب المتون المنظومة منها بالأدب الرائق، فذهب ضعف نسجها بحلاوة موضوعها، ونظم

_ 1 هو ابن الشيخ ناصف اليازجي الذي ترجمنا له في الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث، ولد ببيروت سنة 1856م: وتعلم في الكلية الأمريكية، ثم هاجدرإلى مصر واشتغل بالصحافة مدة ثم عاد إلى بيروت واحترف التعليم، ومرض بداء الصدر، فانقطع عن العمل حتى مات سنة 1889، وكان جيد الكتابة كبقية أفراد أسرته، وشعره وسط.

الشيخ عبد الله البستاني خمس قصص تمثيلية شعرية ولكنها جاءت ضعيفة1 ونظم الشيخ محمد عبد المطلب منذ سنة 1909 عددًا من الروايات والمشاهد المسرحية، متخذًا موضوعها من الأدب العربي في جاهليته وإسلامه مثل امرئ القيس، ومهلهل ابن ربيعة وغيرهما وجاءت هذه المسرحيات متينة الأسلوب قوية الديباجة فيها كثير من تعابير البدو وأخيلتهم لا يستطيع جمهور النظارة متابعته أو فهمه كما أن الشيخ عبد المطلب كان ينقصه معرفة الفن القصصي كما تقررت مبادئه في الأدب الأوربي، وينقصه شيء من الرقة حتى يستسغ الجمهور أسلوبه ويدرك مرامي شعره ولكنه ولا شك كانت محاولة طيبة من جهة محافظة ما كان ينتظر أن تجدد كل هذا التجديد2. وجاء شوقي بعد ذلك فقفز بالشعر المسرحي قفزوة بارعة في أخريات أيامه، وإن كانت أولى محاولاته في هذا النوع ترجع إلى أيام دراسته بباريس من سنة 1887- 1891 فاختار مأساة علي بك الكبير موضوعًا لمسرحية شعرية ولكن يظهر أن وسائل التأليف المسرحي لم تكن قد تهيأت له، ولم يجرؤ على أن يتصرف في وقائع التاريخ ليخرج مأساة قوية فجمد إزءها، ولذلك جاءت الرواية متهافتة لا تبشر بمستقبل باسم فيه هذا الميدان. وحاول شوقي محاولة أخرى في تلك الحقبة، إذ نظم مسرحية قمبيز، ولكنها كانت كسابقتها تهافتًا وضعفًا، فأدرك أنه لم يتهيأ لهذا النوع فأقلع عنه ردحًا طويلًا من الزمن حتى عاد إليه في آخريات حياته بعد أن انتقده مكوموه سنة 1927 على إهماله هذا الباب في شعره فأخرج عدة مسرحيات قوية وهي: مصرع كليو باترا، ومجنون ليلى، وعنتر، وأعاد النظر في قمبير، وعلي بك الكبير وأخرجهما كذلك. وفتح شوقي الباب على مصراعيه بهذه التمثيليات الشعرية لمن أتى بعده.

_ 1 هي مسرحيات: حرب الوردتين، ويوسف بن يعقوب. وبروتس أيام تروكين الظالم وبروتس أيام يوليوس قيصر. ومقتل هيرودس لوالديه؛ ونلاحظ أن معظمها بعيدة عن البيئة التاريخية العربية. 2 تجد دراسة وافية للمسرحية الشعرية وتطورها في الآدب العربي مع نماذج وافية في كتابنا "المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها".

ومن العجيب أن دعاة التجديد في مصر أمثال مطران، والعقاد وشكري والمازني، لم يجرءوا على اقتحام هذا الميدان كما فعل شوقي، ولكن ظهرت بعده طائفة من الشعراء ترسموا خطاه في المسرحية الشعرية منها "قيس ولبنى" و"العباسة" و"عبد الرحمن الناصر" واتجه أخيرًا إلى المسرحيات الاجتماعية الشعرية كمسرحية "أوراق الخريف". وبين شوقي وعزيز أباظة كثير من أوجه الشبه فكل منهما عاش عيشة مترفة، من بيئة ثرية، تضطرب في محيط الطبقة العليا من الشعب، وكل منهما قد عكف في أول أمره على الشعر الغنائي، وإن كان شوقي أوسع أفقًا، وأطول باعًا، وأبرع قصيدًا، وأغزر معنى، وأسمى عبارة، وأحكم صياغة، وأكثر تجديدًا على أن أباظة كان أغزر عبرة وأغنى عاطفة في ديانه "أنات حاذرة" الذي سفح فيه دموعًا تنطق بوفائه لزوجه بعد وفاتها، وثمة فرق آخر: وهو أن عزيز أباظة قد أفاد من تجربة شوقي المسرحية فحاول جهده أن يتجنب ما وقع فيه من أخطاء، كما أنه احتك كثيرًا برجال المسرح فرعف أصوله وقواعده. ومن الشعراء الذين ترسموا خطى شوقي كذلك محمود غنيم وله "المروءة المقنعة" و"غرام يزيد" ومنهم على عبد العظيم وقد ظهرت له "ولادة" وأحمد باكثير وله "قصر الهودج". كانت موضوعات مسرحيات شوقي من التاريخ، ولم ينظم مسرحية اجتماعية، ولم يبلغ فنه القصصي غايته فيما نظم؛ لأنه كان متأثرًا بالمسرح الغنائي، لا المسرح التحليلي، ولكن حسبه فضلًا أنه سد الثغرة في الأدب العربي، وأتى بما لم يستطعه سواه من معاصريه. أما معاني الشعر الحديث وخيالاته وصوره، فما لا شك فيه أن شعراءنا قد- تأثروا بقراءتهم للأدب العربي القديم حتى استقام أسلوبهم وتملكوا ناصية البيان، ووعت عقولهم مئات من الصور والمعاني القديمة أرادوا أو لم يريدوا وظهر أثر هذا في شعرهم، ولكنهم أضافوا إليها كثيرًا مما قرءوه في الأدب الغربي إما

مباشرة أو عن طريق الترجمة، وقد اهتموا بالمعنى اهتمامًا بالغًا، وآثره كثير منهم على الصياغة، ومن الشعراء الذين جددوا في المعاني حق التجديد: الرافعي، ومطران، وشعراء المدرسة المصرية الذين تأثروا بالأدب الإنجليزي مثل شكري والمازني والعقاد وأبي شادي، وإن كان أكثر الجديد في شعرهم اقتباسًا من الشعر الغربي، ثم شوقي في بعض قصائده الممتازة. لقد أصبح من الضروري لكل شاعر في عصرنا الحديث أن يتزود من ينابيع الثقافة المختلفة: من ينبوع الثقافة العربية ليستقيم أسلوبه، ويعرف تاريخه وعقيدته، ومواطن الفخر والمجد في أيام سؤدد وطنه، وحتى لا يقع في أخطاء فاحشة تزري به، وتسقط منزلته سواء أكانت أخطاء لغوية أو تاريخية أو دينية، ومن ينبوع الثقافة الأوربية الغربية التي تمكنه من مجاراة الحضارة الحديثة، والاطلاع على خير ما ابتكره الذهن الغربي في الأدب وعلم الاجتماع، وعلم النفس والتاريخ الحديث والقديم، وكثير غيرها من العلوم التي لا يجد مندوحة من الاطلاع عليها؛ لأن القصيدة الغنائية لم تعد وحدها هدف الشعر في العصر الحديث، فثمة القصة والمسرحية، وكلاهما في حاجة إلى دراسة طويلة في علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ لما يتطلبان من تحليل وتصور لمختلف الشخصيات. لقد عاب بعض النقاد على شعرائنا كسلهم العقلي؛ لأنهم اكتفوا بعنايتهم الفائقة بأسلوبهم دون أفكارهم ومعانيهم، فوقعوا في أخطاء فاحشة، ولقد ضرب الدكتور طه حسين على ذلك مثلًا ما قاله حافظ وشوقي1 ونسيم في مترجم أرسطو أحمد لطفي السيد، وكيف أنهم قد عرضوا لذكر أرسطو ومدحه والإشادة بآثاره وسلطانه على الأجيال وهم لا يكادون يعرفون من أمره شيئًا، ويجهلون كتاب الأخلاق الذي ترجمه أحمد لطفي السيد. والمعاني لا شك تأتي من كثرة الاطلاع، والتزود من تجارب الآخرين، وصدق النظرة في الحياة، كما تأتي مبتكرة من نتاج الفكر الخالص عند العباقرة.

_ 1 حافظ وشوقي ص118- 119.

وليس من الضروري أن تكون الحقائق جديدة مبتكرة، بل إن في استطاعة الشاعر الملهم المقتدر أن يخلع من فيض عبقريته على الحقائق القديمة المألوفة التي تتخطاها الأذهان، ولا تفطن لها بساطتها وتفاهتها فيجعلها متألفة قوية، وتدب فيها الحياة؛ لمقدرته وبراعته في انتقاء الألفاظ المعبرة وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا مثل وردسورث -الذي فتن به بعض شعرائنا- يحتل تلك المكانة الممتازة في الأدب الإنجليزي وقد قال "دي كوينسي" في شعره: "إن الأديب الذي سيخلد على الأيام هو الذي يحير الناس بحقائق منتزعة من ينابيع جديدة كل الجدة -حقائق لم تر وجه الشمس ولذا فهي غامضة لا تدرك- بل هو الذي يبعث وجوهًا قديمة للحقيقة طال إغفاؤها في الذهن إلى انتباه مشع1". إن العبرة بالنظرة التي يرى بها الشاعر الحقيقة والعاطفة التي يتقبلها بها، ويسبغها عليها2. قد يرى الشاعر ما يرى الناس، ويحس ما يحسون، ولكنه يراه أوضح مما يرون، ويحس به إحساسًا أعمق مما يحسون، ويتصروه في مناظر جديدة لم تخطر لهم ببال، ثم يعبر عنه بطريقته هو تعبيرًا قويًّا يجعله في نظر الناس شيئًا جديدًا. وهذا هو سر العبقرية. إن العناية بالمعاني وتنوعها وتجددها تجعل الشعر مفيدًا، غير تافه، ولكن الإسراف في ذلك يفسد الشعر لأنه يحمله ما لا يحتمل، ويجعله أقرب إلى فنون العلوم؛ لكثرة ما يحتوي عليه من حقائق جافة، منه إلى الشعر الذي يهز العاطفة، ولما يحتاج المرء في فهمه إلى كد الذهن، وإنعام النظر، والشعر إذا زاد فيه الفكر والعلم ذهب رواؤه، وقل بهاؤه، ولم تعد له تلك الميزة التي تفصل بينه وبين النثر؛ لأن الشعر لغة الانفعال، إن الشعر في الأصل معان يريدها الشاعر، وهذه المعاني ليست إلا أفكارًا عامة يشترك في معرفتها كثير من الناس. وإنما تصير هذه المعاني شعرًا حين يعرضها الشاعر في معرض من فنه وخياله وأدائه فيجدد هذه المعاني تجديدًا ينقلها من المعرفة إلى التأثر بالمعرفة ومن إدراك المعنى

_ 1 راجع الفقرة التاسعة من De Qinncey's on Wordsworth's Poetry 2فنون الأدب تأليف هـ -ب- تشارلتن وتعريب زكي نجيب محمود.

إلى التأثر بالمعنى ومن فهم الحقيقة إلى الاهتداء للحقيقة، فالشعور والتأثر والاهتداء هي أصل الشعر ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها إلا كلامًا كسائر الكلام ليس له إلا فضل الوزن والقافية مثال ذلك قول العقاد في الحب: ما الحب روح واحد ... في جسدي معتنقين الحب روحان معًا ... كلاهما في جسدين ما انتهيا من فرقة ... أو رجعة طرفة عين وإذا وازنا بين هذه الأبيات وبين أبيات مطران التي يقول فيها عن الحب: أليس الهوى روح هذا الوجود ... كما شاءت الحكمة الفاطرة فيجتمع الجوهر المستدق ... بآخر بينهما آصرة ويحتضن الترب حب البذار ... فيرجعه جنة زاهره وهذي النجوم أليست كدر ... طواف على أبحر زاجره يقيدها الحب بعضًا لبعض ... وكل إلى صنوها صائره تبين لنا الفرق بين من يلبس المعنى الطريف ثوبًا قشيبًا حين ينظر نظرة شاملة إلى الحياة وبين من يأتي بالحقيقة العارية ينظمها نظمًا غير شعري. ومن الغزل الذي لا يصدر عن عاطفة ولا عن فكرة قول العقاد كذلك: زرقة عينيك لا صفاء ... فيها ولكنه قضاء حمرة خديك لا حياء ... فيها ولكنه اشتهاء قوامك الرمح لا اعتدال ... فيه ولكنه اعتداء يا حيرة القلب في هواه ... يا غاية العمر في مناه وجهك سبحان من جلاه ... ولوث النفس بالطلاء وخير الشعر ما سلمت فيه الفكرة، ووضحت، دون أن يفقد مقومات الشعر الأصلية من خيال رائق، وعاطفة قوية، وصورة واضحة، وموسيقى عذبة.

ولكن الملاحظ أن الشعراء الذين حفلوا بالمعاني. وجعلوا همهم البحث عنها، والجري وراءها، واصطيادها أينما كانت كانوا أحد رجلين: إما شاعر معقد، مغرب؛ لأنه انتزع المعاني انتزاعًا من مواطن غير معهودة، وأتى بشيء لم يألفه الذهن، فهو غامض على السامع، وقد يكون غامضًا على الشاعر لأنه لم يدركه تمام الإدراك، أو لأنه لم يستطع التعبير عنه بوضوح لعدم جلائه في ذهنه، مثل أبي تمام، وأبي العلاء، والمتنبي أحيانًا، وإما شاعر ركيك العبارة، لا يعني بأسلوبه، إذ جعل همه الأولى إبراز المعنى كاملًا بأي أسلوب وأي عبارة تهيأت. وأدت ما أراد، وهذا هو الغالب على شعراء المعاني في عصرنا، فكثيرًا ما ترى المعنى جميلًا بديعًا، ولكن العبارة التي أدى بها تذهب بجماله، وتضعفه فلا تستسيغه الأذن ولا يتقبله العقل وقد غاب عن هؤلاء أن الروائع في الأدب العربي والأدب الغربي لم تخلد لما فيها من معانٍ فحسب، ولكن خلدها جمال الأسلوب ولولا ذلك ما رواها الرواة وعنى بها المتأدبون؛ فالأدب فن، وكل فن فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة على التخير والانتقاء، وناحية الصنعة، فليس يكفي في العبارة أن تنقل إلينا المعنى؛ لأن المراد في الأدب ليس المعرفة وتقرير الحقائق، وإنما نقلها مشفوعة بلذة، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت العبارة مصوغة صياغة فنية خاصة. ثم إن التعبير الجميل هو الذي يميز كلام الأديب من كلام الناس "إن هؤلاء الذين يزدرون الجمال اللفظي مصابون بشذوذ في الفكر أو سقم في الذوق أو عجز عن الكمال، وإلا فكيف نعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون على تنميق الكلام ويدعون أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام والتأنق في الملبس، وتزويق المسكن، والغرض منها الغذاء والوقاء؟ إذا كان أحدهم لا يجب أن يلبس الثوب المرقع ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة، والفقر المنسقة، والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة1.

_ 1 أحمد الزيات: الدفاع عن البلاغة.

إذا عبر الشاعر عن انفعاله مباشرة من غير أن يسيطر الفكر عليه، ويجتهد في حشوه بالحقائق جاء كلامه حلوًا، وعباراته موسيقية طبيعية. ومن الأمور التي يراعيها الشعراء في العصر الحديث تسلسل المعاني، وارتباطها بعضها ببعض، وعدم تنافرها، فالقصيدة صارت وحدة، وبناء متماسكًا، ولم يعد البيت المفرد هو وحدة القصيدة كما كانت الحال عند العرب، ولقد وضحت الفرق بين الطريقتين في غير هذا الكتاب، وبينت ميزة كل طريقة1. والمعاني تتفاوت من حيث ابتذالها، وشيوع استعمالها، ومن حيث أنها تقليد ونقل عن معانٍ سبقتها، ومن حيث أنها مبتكرة جديدة. أما المعاني المبتذلة، فهي المألوفة المتداولة بين الخاصة والعامة، كقول الشاعر مثلًا: والأرض فيها الماء والأشجار، فهذه من البديهيات المتداولة وأما التقليد فبابه واسع، وقد ألفت فيه قديمًا كتب عدة2: وتجد لشعرائنا المحدثين في هذا الباب كثيرًا من الشعر الذي نقلوا معانيه عن غيرهم. وقد مر بك في الجزء الأول عند كلامنا على البارودي كثير من هذه الأمثلة ومن هذا قول المتنبي يقصد سيف الدولة: رمى واتق رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي فجاء إسماعيل صبري فقال: إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسرت سهمي وانثنيت، ولم أرم وأنت ترى إسماعيل صبري سار في إثر المتنبي، وقصر عنه، والمعنى الذي أورده المتنبي في بيت واحد قوي الديباجة، يأتي به صبري في بيتين ولم يوفه، وقد وقع شوقي، وصبري، وحافظ وغيرهم في هذه المؤاخذات3 ولا سيما في

_ 1 راجع كتاب التابعة الذبياني للمؤلف ص53 وما بعده. 2 كالموازنة للآمدي. والوساطة بين المنفي وخصومه. والرسالة الحاتمية في اقتباسات المتنبي من أرسطو. 3 راجع ديوان للعقاد، وعلى السفود للرافعي، ومجلة أبولو سنة 1933 مقال عن معارضات شوقي.

القصائد التي عارضوا بها السابقين من الشعراء، وقد لوحظ أن شوقي يستطيع إذا دخل في دائرة شعره أن يتخلص من قبضته وسيطرته، وسنرى عند ترجمتنا في هذا الجزء لصبري مقدار ما أخذه من سواهن وكيف أن الابتكار لديه قليل. والحق أن الابتكار في المعاني نادر، ولكن قد تهيأ لبعض شعرائنا شيء من هذا، ولا سيما مطران وشوقي، وسنرى عند الكلام عليهما إلى أي حد قلدوا، وإلى أي حد جددوا1. هذا ومن الأمور التي يجب النظر إليها عند تقدير الشعراء، ومعرفة منزلتهم الأدبية بالنسبة لمعاصريهم، ولشعراء لغتهم في القديم والحديث ولشعراء العالم أجمع: مقدار ما وصل إليه خيالهم الشعري. والخيال: هو وضع الأشياء في علاقات جديدة، وهو سمة من سمات بارزة من سمات الأسلوب الأدبي، لأنه يصور العاطفة أو ينقلها إلى السامع أو القارئ، ويبرز المعاني ويضفي عليها ثوبًا زاهيًا تخطر فيه فنتقبلها ونفهمها. ويلجأ إليه الأديب للإيضاح وحسن العرض وقوة الإبانة والتصوير؛ ويرى القارئ، والسامع الحقائق من ثنايا كل ذلك عن طريق خياله. والخيال موهبة تنفذ بروح الأديب إلى أسرار الوجود، واكتناء الحقائق المستكنة وراء مظاهر الأشياء وتجعله يحلق طليقًا في أجواء وعوالم جديدة مليئة بالرؤى الجذابة والصور الخلابة والموسيقى الساحرة، وهذه الموهبة تتباين قوة وضعفًا وضيقًا واتساعًا، وغنى وفقرًا لدى الأدباء بحسب قدرتهم على استيعاب أسرار الحياة وهتك حجب المادة، والوصول إلى ينابيع الإلهام، وقدرة نفوسهم على التوليد والتفاعل مع الحياة وانعكاس اشعاعاتها.

_ 1 إذا أردت المزيد من الكلام على المعنى وأثره في الشعر فأرجع إلى الكتب الآتية: الدراسة الأدبية لرئيف خوري، وأصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، ونقد الشعر لنسيب عازار.

وهو نوعان: ابتكاري، وتصويري أو تفسيري، والأول يظهر في تأليف مجموعة من العناصر المختزنة في الذهن في صورة مبتكرة يتحقق معها كيان خاص لها. والثاني يظهر في تصوير الأشياء على أساس إضافتها إلى أشياء أخرى تقويها وتظهرها، ويستعين الأديب على الضرب الثاني بفنون البديع والبيان من تشبيه واستعارة وكناية، وتمثيل وما إلى ذلك. والخيال الابتكاري ضربان. خيال نافذ، يعين صاحبه على استحضار أطياف الماضي وتصوير حوادثها، وخيال خالق بجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ومن الضرب الأول الشعر التاريخي كقول شوقي: كم مركب تتخايل الدنيا به ... يجلي كما تجليا لنجوم وتنسق "فرعون" فيه من الكتائب مقبل ... كالسحب قرن الشمس منها مفتق تعنو لعزته الوجوه ووجهه ... للشمس في الآفاق عان مطرق آبت من السفر البعيد جنوده ... وأتته بالفتح السعيد الفيلق ومشى الملوك مصفدين خدودهم ... نعل لفرعون العظيم ونمرق مملوكة أعناقهم ليمينه ... يأبى فيضرب أو يمن فيعتق أو كقوله في الهمزية التاريخية يصف ذل فرعون، وهزيمته أمام قمبيز: جيء بالممالك العزيز ذليلًا ... لم تزلزل فؤاده البأساء يبصر الآل إذا يراح بهم في ... موقف الذل عنوة ويجاء بنت فرعون في السلاسل تمشي ... أزعج الدهر عريها والحفاء وأبوها العظيم ينظر لما ... رديت مثلما تردي الإماء أعطيت جرة وقيل إليك النهر ... قومي كما تقوم النساء فقد نفذ الشاعر بعين خياله إلى الماضي واستحضر ذلك المشهد ثم وضعه وصوره، وأما الخيال الخالق فهو الذي يجسم الإحساسات ويخلق الشخصيات، ويبث الحياة في الجماد كقوله شوقي:

وقد صفى بردي للريح فابتردت ... لدى ستور حواشيهن أفنان ثم انثنت لم يزل عنها البلال لا ... جفت من الماء أذيال وأردان ومثل قطعة فنجان قهوة عند خليل مطران، فقد خلع شوقي على الريح الحياة ومثلها حية تبترد، كما خلع مطران على فنجان القهوة الحياة. ومن ذلك قول مطران في وردة ماتت وهي ملكة الزهور وقد غطتها الأعشاب فراحت الفراشات تحوم حولها فيدور بينها وبين الشاعر هذا الحوار: ما الذي تبغين من جوبك يا ... شبهات الطير؟ قالت وأبانت نحن آمال الصبا كانت لنا ... ها هنا محبوبة عاشت وعانت كانت الودرة في جنتنا ... ملكت بالحق والجنة دانت ما لبثنا أن رأيناها وقد ... هبطت عن ذلك العرش وبانت فترانا نتحرى أبدًا ... إثرها أو نتلاقى حيث كانت والخيال التصويري أو التفسيري يجيء من طريقتين: من القراءة في الأدب أو من التجارب الشخصية، ويتمثل في التشابيه والاستعارات والكنايات، والخيال بعامة قد يكون حسيًّا، وقد يكون معنويًّا، ومعظم الخيال التصويري خيال حسي، ومعظم الخيال الابتكاري خيال معنوي1. نظر النقاد الغربيون عند معرفة المنزلة التي يحتلها الشاعر من الشعراء إلى كل هذا: إلى الغرض، وإلى اللغة التي أدى بها، وإلى المعنى أو الفكرة ومقدار ما هي عليه من جدة أو تقليد أو ابتذال وما هي عليه من الصدق الأدبي، أو الكذب، ثم نظروا إلى الخيال وإلى العاطفة وصدقها. وهم على هذا الأساس قسموا الشعراء إلى ثلاثة أنواع: شاعر بسيط الشخصية يعكس الحياة في صورة بسيطة، وليس لشخصيته جوانب متعددة، وبذا تنعكس الحياة من مرآة نفسه على دائرة ضيقة من الفكر والخيال.

_ 1 ارجع في الاستزادة من الكلام عن الخيال إلى: أصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، وإلى دراسات في علم النفس الأدبي للأستاذ حامد عبد القادر، وإلى كتاب إسماعيل أدهم عن مطران ص145 وما بعدها وإلى - i.a. rich ards في كتابه principles of literary criticism

وشاعر مركب الشخصية، يمثلون شخصيته بمنشور ذي أضلاع وجوانب متعددة، تنعكس عليها أشعة الشمس في أشكال، وتدخل في وجهات مختلفة، وتأخذ صورًا متعددة. وشاعر معقد الشخصية له بجانب شخصيته الخارجية شخصيات، معقدة في ذاتها، تعكس الحياة في صور متنوعة وبذلك تستطيع نفسه أن تعكس المأساة الفنية للحياة في صور غنية قوية زاخرة. وقد قسموا الشعراء بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام: فعدوا ممن النوع الأول البسيط الشخصية الشعراء الوجدانيين، الذين يتغنون بالحياة أو الطبيعة بالنسبة إلى نفوسهم، وشعورهم إزاءها، فتجيء الحياة من نفوسهم نغمة واحدة من وتر واحد هو الذي تتألف منه نفسيتهم وهو عادة يشغلون بعواطفهم الداخلية عن النظر في أعماق الحياة التي تكتنفهم فلا يتكلمون إلا عن آلامهم وأفراحهم ومخاوفهم ومطامحهم. وعدوا من النوع الثاني الشعراء القاصي، والحياة تأخذ في نفوسهم نغمات متنوعة وإن كانت خارجة من وتر واحد، ولا تشغلهم عواطفهم الداخلية عن العطف على الحياة المحيطة بهم، وذلك يرجع إلى أنهم أصحاب خيال واسع عميق، ونظراتهم وإن كانت تعطف على الحياة إلا أنها لا تذهب إلى درجة الشمول والنظر إلى الكون جملة، وإلى مجموع البشرية مرة واحدة في جميع الحالات التي تلابسها؛ لأن الحياة والوجود متركزان في ذاتهم وذاتهم كمنشور يعكس عدة أشكال. ولكن مصدرها واحد، ويعجز عن عكس شخصية جديدة. وشعرهم عادة ذاتي لا يستطيعون التخلص من أثرتهم، ويدخل تحت الشعر الذاتي أحاسيس الإنسان وانفعالاته وطربه، وميوله، وأحكامه التي تقوم على اعتبارات ذاتية. وعدوا من النوع الثالث الشعراء الذين يستطيعون خلق شخصيات لم تكن، وتصوير الحياة في جميع الأوضاع والملابسات، وهم الذين برعوا في الشعرا لتمثيلي، وأتوا بنماذج خالدة، واستطاعوا أن يصلوا إلى أعماق أي نفس

إنسانية، وإن يترجموا، عنها، وشعرهم في الغالب موضوعي1، والموضوعي يدخل تحته صفات الشيء أو الموضوع الخارجي، والآراء التي تقوم على اعتبارات خارجية، والأحكام التي تبنى على المشاهد المحسوس، وعلى مقتضيات المنطق لا على الذوق والميل الشخصي2. هذه بعض الأمور التي يراعيها مؤرخو الأدب والنقاد المحدثون عند تقسيمهم للشعراء ووضعهم في منازلهم من موكب الأدب. وسنراعي عند كلامنا على شعراء مصر بعد البارودي كل هذه الاعتبارات، وننظر إليهم بمنظار النقد الحديث، ونعرف إلى أي حد أضافوا إلى تراث العالم الأدبي جديدًا من فيض شاعريتهم. وسنبدأ بشعراء المدرسة التقليدية الحديثة التي نهجت منهج الشعر العربي القديم في أغراضه وأسلوبه وتشبيهاته واستعارته ونهجت نهج البارودي، ثم بشعراء المدرسة التي أخذت بحظ من الجديد، ثم شعراء المدرسة المجددة المعتدلة التي لم تخرج على قواعد اللغة، ثم الشعراء المجددين المتطرفين في التجديد الذين ثاروا على الشعر العربي في كل شيء.

_ 1 راجع. ENCYELOPEDA BRITANICA N. 13 في مادة POETRY وراجع كذلك الدكتور أدهم عن مطران ص129-130 ونسيب عازار في نقد الشعر ص32-40، وكلاهما قد لخص المادة الموجودة بدائرة المعارف البريطانية ولكنها جاءت غير واضحة. 2 راجع من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده للأستاذ محمد خلف الله ص35- وأحمد الشايب ص138-142.

الفصل الخامس: المدرسة التقليدية

الفصل الخامس: المدرسة التقليدية مدخل ... الفصل الخامس: المدرسة التقليدية عرف البارودي كيف يعيد للشعر العربي الحديث ديباجته القوية، وينهض به نهضة قارعة تخطت عدة قرون إلى الخلف حتى رجعت إلى عهود القوة والنضارة، ومتجنبة الزخرف والطلاء الغث، والركاكة، وضحالة المعاني، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. ثم نهضت البلاد نهضات قوية في التعليم وإحياء التراث العربي القديم، وأخذت المطبعة تزود المتأدبين بنفائس الأدب العربي في أبهى عصوره كما عرفت آنفًا. وكان من الطبيعي أن يحذوا الشعراء الذين جاءوا بعد البارودي حذوه في أول الأمر، ولا سيما هؤلاء الذين لم يتزودوا بثقافة غربية، أو عرفوها وثقفوها ولم يكن لهم تلك الطبيعة الثائرة، أو القوة على ابتداع مذهب جديد في الأدب، ولم يروا نموذجًا إبداعيًّا يحاكونه، فحافظوا على المذهب الذي عرفوه، وأجادوه. لقد قلدوا الشعر العربي القديم في أوج عزته كما فعل البارودي، ولم يلتفتوا إلا نادرًا لما تخلف عن عصور الضعف من حلى وزخارف ومحسنات، وتاريخ شعري. وأهم خصائص تلك المدرسة التقليدية الحديثة متانة الأسلوب، والعناية به عناية فائقة فقلما تجد خروجًا على قواعد اللغة، أو خطأ، أو ركاكة وإنما تجد شعرًا مصقولًا متينًا، مشرق الديباجة. تجد هذا عند صبري، وعند حافظ، وعند عبد المطلب، وعند البكري، والجارم، ومحرم، والكاشف، ونسيم ومن على شاكلتهم، على اختلاف بينهم في تقليدهم الشعراء الأقدمين الذين تأثروا بهم، فمنهم من راقه شعراء العصرالعباسي والشعر في ازدهاره، فقلدوا أبا نواس والبحتري وأبا العلاء، وابن الرومي، وعارضوهم في قصائدهم ونسجوا على منوال أسلوبهم: جزالة في رقة الحضارة وعذوبة المدينة القديمة، وولع بالتشبيهات والاستعارات وأنواع المجاز، ومنهم من رجع إلى الخلف أكثر من هذا فتوعر قليلًا وحاكى شعراء العصر الأموي، أو الجاهلي، وجاء شعره بدوي النسج، متين التركيب، عليه سيما الفتوة العربية قبل أن ترققها الحضارة، مثل عبد المطلب.

ومن خصائص تلك المدرسة كذلك استخدام القصيدة بمظهرها المعروف ذات الروى الواجد والقافية الواحدة، والوزن الواحد، وكثيرًا ما ابتدءوا تلك القصيدة بالنسيب كما كان يفعل شعراء العرب الأقدمون، أو تركوا النسيب كما فعل ذلك من قبلهم بعض شعراء العصر العباسي حيث بدءوا بالغرض من غير تلك المقدمة الموروثة عن الجاهلية. على أن القصيدة الحديثة لا تختلف عن القديمة في تعدد عناصرها، فلم ينظروا إليها نظرتهم إلى بناء متماسك الأجزاء أو كائن حي، إلا قليلًا حين وضعوها في الأسلوب القصصي كما ترى ذلك عند حافظ وعبد المطلب أحيانًا، ولكن الغلب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت -كما كان من قبل- وحدة القصيدة، ويجوز فيها التغيير والتبديل من غير إخلال بالمعنى. وقليل منهم من جرؤ على استخدام الموشحات أو ما يشابهها. ومن خصائص تلك المدرسة كذلك أن موضوعات شعرهم قلما طرأ عليها تجديد، اللهم إلا ما تقتضيه خصائص العصر العامة فأغلبهم كان مداحًا، يمدح الخليفة. وإن لم يعرفه أو تكن بينه وبينه صلة، أو ثمة أمل في أن يعرفه، ويمدح الأمير وحاشيته، ويغير ولاءه كلما تغيرت الوجوه الحاكمة من غير تحرج أو تردد؛ لأنه لم يكن ينظر إلى المدح نظرتنا له اليوم؛ لأن الاهتمام بالشعب لم يكن قد بلغ غايته، فكان الأمير هو المحور الذي يدورون حوله. مثهلم في ذلك الأدباء الإنجليزي والفرنسيين قبل أن تظهر الحركة "الرومانتيكية"1. وقد صرفهم المديح كما صرف أسلافهم العرب من قبل عن الاهتمام بالطبيعة، وبالحياة الإنسانية، وإن التفتوا في أخريات زمانهم، نظرًا لتطور الحياة في مصر إلى بعض ذلك وإلى الشعب وآماله، ولكنهم على كل حال كانوا ينظرون من خلال ذاتهم ومقدار تأثرهم بالأحداث المحيطة بهم، فلم يكن شعرهم في الشعب موضوعيًّا.

_ 1 كتب الحركة الرومانتيكية في أوائل القرن التاسع عشر ثورة على تلك التقاليد، فمن أدباء الإنجليز في القرن الثامن عشر الذين مثلوا تلك المدرسة التقليدية وعنوا بالأسلوب، ولم يتلفتوا للطبيعة وجعلوا للشعر ألفاظًا خاصة به، درايدون وبوب، وتومسون وغيرهم، وكلهم كان شاعر بلاط يغرم بالمديح، ويتملق الحاشية راجع MODERN ENGLISH LITERATURE ص135 وما بعدها لـ. G. H. MAIR AND A.G. WORD

وكانوا يهتمون بالطبقة الراقية من الأمة، فيمدخون أعلامها، ويرثون عظماءها، ويتبادلون وإياهم الرسائل الإخوانية. وقد وصفوا بعض الأشياء، ولكنهم قلما أفردوا للوصف قصائد بذاتها، وأهمل أكثرهم الطبيعة المصرية، أو قال فيها الشيء القليل، ونظرة عابرة من غير أن يقف طويلًا، على الرغم من تنبه الشعور الوطني والإحساس القومي في أخريات عهودهم. وتراهم يحاولون التجديد في الموضوعات، وكأن لديهم عقدة نقص يحاولون إخفاءها، فيكثرون من الكلام على البخار، والطيارة وغيرهما، ليثبتوا أنهم يجارون عصرهم، والحضارة التي يتمتعون بها. وقد تخلف عند بعضهم شيء من الأغراض التي قضت عليها حركة التجديد، فترى الهجاء الشخصي والاجتماعي كما عند صبري، وترى الفخر كما عند عبد المطلب، وعلى العموم فدائرة الشعر لديهم ضيقة، وموضوعاتهم محدودة، وإن أفاضوا في الشعر السياسي والاجتماعي متأثرين بالحركات القومية التي لم يجدوا بدًّا من أن يتأثروا بها. أما معانيهم فليس فيها جديد إلا النادر كما ترى ذلك عند توفيق البكري، ومعظمها مأخوذة من الأدب العربي القديم، أو من المعاني المتداولة، وخيالهم تصويري مبني على الاستعارة والتشبيه والمجاز، بل كثيرًا ما تكون تشبيهاتهم غير مجارية لزمانهم أو بيئتهم، وإنما نهجوا فيها نهج العرب الأقدمين، متأثرين بالقوالب المحفوظة، والعبارات المتداولة. كان أغلبهم متزمتًا، جادًّا في حياته، وإذا تغزل عف ولم يفحش، وفي أدبهم تكثر الحكمة والموعظة والإرشاد، فهم يجعلون للشعر غاية يهدف إليها، ولم يعرفوا معنى "الفن للفن". وبعد، فهذه أهم خصائص تلك المدرسة، على أن هذه الخصائص المشتركة بين شعرائها تختلف قوة وضعفًا أو وجودًا وعدمًا في بعض الشعراء عن بعض،

مع ميل في بعضهم إلى التجديد بحذر، أو نفور منه البتة، وستتضح تلك الميزات حينما ندرس شعراء تلك المدرسة. ولا أستطيع أن أحصي كل شعراء المدرسة التقليدية، أو أترجم لهم جميعًا، فإن ذلك يحتاج إلى موسوعة أدبية كبيرة، وإنما سأترجم لنماذج منهم؛ لأن مجال هذا الجزء أضيق من أن يتسع لهم جميعًا. على أن أترجم للبقية الباقية منهم في الجزء الثالث إن شاء الله.

إسماعيل صبري

إسماعيل صبري 1854- 1923: ولا تعجب إذا عددنا إسماعيل صبري في شعراء المدرسة، فعلى الرغم من أنه درس في فرنسا بعض الزمن، واحتك بالثقافة الغربية احتكاكًا مباشرًا سواء في دراسته بمدينة "إكس"، أو باطلاعه على القوانين الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة الفرنسية، وشغله مناصب قضائية كثيرة فإنه لم يفد من تلك الدراسة القانونية، وما عساه قرأ في الفرنسية إبان مقامه في فرنسا من أدب واجتماع، كما لم يفد من اتصاله بالحياة الغربية، وقضائه ردحًا من الزمن بين الغربيين إلا قشورًا وصفات عامة في شعره وجهته نحو نوع خاص منه. ثم صقلًا في الذوق، وقد يكون هذا طبيعة فيه لا مكتسبًا من إقامته بفرنسا، وقد يكون من أثر الوظيفة، وكثرة اختلاطه بالأجانب المقيمين بمصر1. فكم من شاعر عربي قبل صبري، وبعد صبري اشتهر بالرقة، وإرهاف الحس، وجمال الذوق، ولا سيما إذا كان من أهل القاهرة، والقاهرة قد عرفت من قديم الزمان بأنها مدينة الظرف والدماثة، والنكتة، والمرح. نشأ إسماعيل صبري بالقاهرة، والتحق بمدرسة "المبتديان" وهو في الثانية عشرة من عمره وأتم دراسته في مدرسة الإدراة والألسن في سنة 1874، وكان وهو في المدرسة يجيد الخط، ويعني به حتى بلغ في ذلك حدًّا جعل أولى الأمر يفكرون في تعيينه مدرسًا للخط، وكاد إسماعيل يستجيب لهم لولا على مبارك وزير المعارف حينذاك الذي أقنعه بالعدول عن هذا: ضنًّا بمواهبه أن تقبر في مثل هذه المهنة؛ ولأنه كان يعده لما هو أسمى رتبة وأجدى عليه وعلى الأمة2. وما زال يتعهده حيث أتم دراسته بمصر. ونبوغه في الخطب وهو فن جميل يؤيد ما ذكرناه آنفًا من أن دقه حسه، وكمال ذوقه، وحبه للجمال لم يكن مكتسبًا من إقامته بفرنسا. وإنما كان طبيعة وميلًا فطريًّا فيه.

_ 1 تراجم شرقية وغربية لهيكل ص186. 2 أحمد الزين في مقدمة الديوان ص35.

ثم أرسل إسماعيل صبري لدراسة القانون بمدينة "إكس" سنة 1874، وتقلب في مناصب القضاء المختلفة، وترقى في سلمة حتى عين "نائبًا عموميًّا" وكان أول مصري يشغل هذه الوظيفة، وذلك في عام 1895. ثم عين محافظًا للإسكندرية سنة 1896، ووكيلًا لوزارة العدل "الحقانية" إلى أن اعتزل الخدمة في سنة 1908، وقد أنعم عليه بعدة رتب وأوسمة، وانتقل إلى رحمة الله في مارس 1923. لم يذكر أحد ممن تكلم عن صبري سواء من أصدقائه أو معاصريه شيئًا عن طفولته وأسرته، وعوامل الوراثية فيه، وهذا حقًّا شيء يؤسف له، فإن كثيرًا من هؤلاء الذين كتبوا عنه قد خالطوه وصادقوه، وعرفوا من أمره ما لا يعرفه جمهرة الناس؛ ولأن ذكر دراسته وتقلبه في مناصب عدة لا يفيد مؤرخ الأدب بقدر ما يخدمه معرفة البيئة التي ترعرع فيها الشاعر ونما. ومهما يكن من أمر فقد جمع الذين كتبوا عنه أنه كان مرهف الحس، أنيق المظهر والمخبر، دمث الخلق، لين العريكة، خفيف الروح، حاد المزاج1، كما أنه كان أبي النفس حييًّا، مترفعًا عن الدنايا، لم يغش دار "كرومر" أو يتصل به على الرغم مما بذله من محاولة لاجتذابه إليه2. ولعلك تلمس في شعره شيئًا من صفاته، فقد كان حريصًا على أصدقائه الذين يتخيرهم بعد طول نظر، وهم قلة فإذا صادق ضن بصديقه عن سماع أي وشاية، بل يقابل الوشاية بالثناء وكان كثيرًا ما يردد قول الأحنف: "ما أقبح القطيعة بعد الصلة" وفي هذا يقول مخاطبًا أصدقاءه الذين كرموه، وهو يودع الإسكندرية: وأحفظوا عهدي القديم فإني ... حافظ عهدكم برغم البعاد فإذا قرب النفوس ائتلاف ... هان عندي تفرق الأجساد وهو القائل:

_ 1 الدكتور طه حسين في المقدمة ص8. 2 أحمد الزين في المقدمة ص30.

وما المرء إلا بخلق كريم ... وليس بما قد حوى من نَشَبْ وله في أخلاق الناس، والتبرم بهم قصيدة طويلة حين ظهر "مذنب هالي"1 وتمنى صبري لو أنه صدم الأرض وأراحها من أهل النفاق والعقوق وأهل البغي والظلم إلى غير ذلك مما كان يؤلم حسه الرقيق، وأخلاقه الدمثة، فقال: غاص ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب قفرا وتفَشَّى العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برًّا وفيها يقول: أغدًا تستوي الأنوف فلا يناظر ... قومًا على الأرض شزرًا أغدًا كلنا تراب ولا ملك ... خلاف التراب برًّا وبحرًا؟ أغدًا يصبح الصراع عنافًا ... في الهيولي ويصبح العبد حرًّا ومن قوله في الاعتداد بكرامته: ضنًّا بها عن أن تهانه: لكسرة من رغيف خبز ... تؤدم بالملح والكرامة أشهى إلى الحر من طعام ... يختم بالشهد والملامة ومن شدة إبائه أنه لم يكن يتورع عن رد الإهانة على طريقته، ولو كان من أهانه عظيمًا، استمع إليه يقول: أيها التائة المدل علينا ... ويك قل لي من أنت إني نسيت" وفي قوله: "إني نسيت" تهكم مر؛ لأن هذا الشخص لو كان عظيمًا حقًّا ما نسيه صبري، ولكنه لا يستحق أن يذكره صبري، وهو بهذا يخبره أنه أرفع منه شأنًا: وإذا خانه صديقه، وعقه وحاول إيذاءه تذكر عهد الوداد، فلم يرد على اعتدائه، وحافظ عليه. إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي

_ 1 ظهر هذا المذنب في سنة 1910، وقيل: إنه كاد يمس الأرض ويصدمها، ولو حدث هذا لانتهت الدنيا، وسمى مذهب هالي نسبة لمكتشفه.

تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسرت سهمي فانثنيت ولم أرم وكان يؤثر الحلم على الغضب فإذا ما دعت دواعي الغضب، وأثارته الحادثات تذرع بالحلم، ورجع إلى نداء العقل. إذا ما دعا إلى الشر مرة ... وهزت رياح الحادثات قناتي ركبت إليه الحلم خير مطية ... وسرت إليه من طريق أناتي وسترى تلك الدماثة والرقة، ولين العريكة واضحة في شعره، حتى في الموقف الذي يتطلب نضالًا وقسوة، ولقد ذكرنا شيئًا عن وطنية إسماعيل صبري فيما سبق1 وعن أثر الحالة الاجتماعية فيه2، وأنه لم يكن ذلك الوطني المتحمس، بل كان حذرًا في كل ما يقوله كما أنه لم يقل شيئًا في مآسي الشعب ومشكلاته؛ لأنه كان في عزلة عنه إلا من خاصة أصدقائه الذين يتخيرهم بدقة. ولقد كان إسماعيل صبري برما بالحياة على الرغم مما أوتيه من منصب وجاه ولقب وسعة في العيش، ولعل هذا راجع إلى أنه كان يأمل أن يصل بكرم خلقه وشاعريته إلى ما وصل إليه من هم أدنى منه موهبة، وممن وسموا بالتملق والنفاق وسيء الأخلاق، وقد أشار في شعره إلى أنه قد أصبح نسيًا منسيًا لا يذكر اسمه عند توزيع المناصب، لاعتزاله، وعدم طمعه في شيء منها، فكأنه في جوف الحيتان: أين صبري؟ من يذكر اليوم صبري ... بعد أعوام عزلة وشهور أسألوا الشعر فهو أعلم هلَّا ... أكلته الأسماك طي البحور ومن دلائل برمه بالحياة، ذكره الكثير للموت، وتراه تارة ينظر للموت قلقًا: أتزودت من ضياء البدور ... لليالي كثيفة الديجور

_ 1 راجع ص123 من هذا الكتاب وما بعدها. 2 راجع ص191 من هذا الكتاب.

وتارة ينظر إليه مرحبًا مطمئنًا. يا موت هأنذا فخذ ... ما أبقت الأيام مني بيني وبينك خطوة ... إن تخطها فرَّجت عني وأحيانًا يعزي نفسه بأنها إن سئمت الحياة، ففي التراب والموت الراحة، فالأرض هي الأم الرءوم: إن سئمت الحياة فأرتجع إلى ... الأرض تنم آمنًا من الأوصاب تلك أم أحنى عليك من الأم ... التي خلفتك للأتعاب لا تخف فالممات ليس بماح ... منك إلا ما تشتكي من عذاب وحياء المرء اغتراب فإن ما ... ت فقد عاد سالمًا للتراب أما خفة روحه، وحلو دعابته، وبراعته في النكتة في أشعاره التي قالها على لسان الوزراء والحكام، وفي المقطوعات التي نظمها في محمد المويلحي مشيرًا إلى "الكف" الذي ضربه ما ينبئ عن روح قاهرية محبة للنكتة التي تدور على التلاعب بالألفاظ، وتداعي المعاني والتورية، استمع إليه يقول في يوسف سابا باشا وقد تولى رئاسة شركة مياه القاهرة: أين سابا؟ أين سابايا ترى ... أين سابا ذو المزايا الباهرة قال لي قوم ثقات إنهم ... لمحوه في مياه القاهرة وإلى ما قاله في إسكندر فهمي باشا مدير السكة الحديدية حين اعتزل منصبه. اصلب أنت؟ قل لي، حار أمري ... إذا فكرت فيك وضاع حدسي خرجت من الشريط ولم تهشم ... كأنك خارج من بيت عرس ففي قوله "صلب" إشارة إلى المعدن الذي تصنع منه القضبان والقاطرات، وفي قوله "خرجت من الشريط، تلميح إلى الشريط الحديدي المعروف. وأسمع إليه كذلك يقول على لسام محمد المويلحي مشيرًا إلى ذلك الكف الذي ضربه على صدغه ولم يثأر لكرامته: أنا فرع الألى رفعوا بناء ... يرى للنسر فوق ذراه بيت أريش يراعتي بمداد خبث ... وأني لا لي هدف رميت وإن أحد تعرض لي بسوء ... وقف وراء صدعي واختفيت

وقد أفاض الأستاذ أحمد الزين الذي صاحبه ثلاثة عشر عامًا في ذكر خلاله ومزاياه في المقدمة، وإن كان شعره لا ينم على الكثر مما ذكر؛ لأنه كان مقلًّا، وحسبنا هنا ما أوردناه ففيه الكفاية التي تلقي ضوءًا على وجه الشاعرية وعلى مذهبه في الكلام، وفي الحياة. أما ثقافة إسماعيل صبري، فنعلم من تاريخ حياته أنه درس التركية والعربية في المدارس المصرية، ثم درس الفرنسية في فرنسا، ويدلنا شعره المبكر على أنه وعي من العربية قدرًا مكنه من نظم الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد ذكر الأستاذ أحمد الزين أنه كان يحفظ ديوان عمر بن الفارض وكان شديد الإعجاب بشعر البحتري1 مدمنًا لقراءته، مفضلًا له على غيره من الشعراء، وقد أخذ عن البحتري الكثير من حلاوة التنسيق، وعذوبة الألفاظ ووضوح المعنى، على أن في شعره كما سنرى فيما بعد ما يدل على أنه قرأ لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور لشعراء كثيرين، وأفاد منهم لفظًا ومعنى، أما الأدب الفرنسي فقد حاول الدكتور محمد صبري أن يتلمس آثاره في أدبه، وساق غير مثل على ذلك2. ولكنا نرى أن ما أورده له شبيه في الأدب العربي القديم، وأكاد أعتقد أن صبري حين فكر فيه لم يرد على ذهنه الأدب الفرنسي، وإنما أسعفته ذاكرته الواعية، بما استظهره سابقًا حين كان يروض القول ويحاكي الأقدمين، ليتمرس على قول الشعر، بهذا المعنى أو ذاك، والعربية بهذا كانت أقرب إليه من الفرنسية، ولا سيما والألفاظ تكاد تكون متحدة مع ألفاظ الأبيات العربية القديمة. وعلى الرغم من أن النقاد أجمعوا على أنه معنيًا بشعره "شديد النقد له، كثير التبديل والتحويل فيه3" وهو "يتخير اللفظ الشريف للمعنى الشريف، واللفظ القوي للمعنى القوي، واللفظ الرقيق للمعنى الرقيق4" وعلى الرغم من قوله: شعر الفتى عرضه الثاني فأخر به ... ألا يشوه بالأقذار والوضر فانقد كلامك قبل الناقدين تحط ... ثاني النفيسين من لغو ومن هذر واقرأ فديتك تأمن ما تحاذره ... من قارئ هادئ أو قارئ ضجر

_ 1 المقدمة ص38. 2 الدكتور محمد صبري. أدب وتاريخ. 3 خليل مطران مختارات المنفلوطي ص67. 4 أحمد أمين في المقدمة ص16.

على الرغم من كل هذه العناية، وهذا التحذير، فإن إسماعيل صبري وقع في أخطاء كثيرة في اللغة والأسلوب وفي المعاني، ولكنها أخطاء لا تذهب بمنزلته الأدبية، وإن دلت على أنه لم يكن متمكنًا كل التمكن في قواعد اللغة ومتنها، وعلى أن لغة الصحافة قد جنت عليه، وسنرى نماذج من الأخطاء فيما بعد. وسترى من دراستنا لشعره أنه لم يفد من معرفته بالفرنسية إلا قليلًا جدًّا يتمثل في الروح العامة لبعض المقطوعات، فلا هو من الذين جددوا في الغالب الشعري فأتى بقصص أو ملاحم أو مسرحيات، ولا هو بالذي جدد في المعاني أو الصور أو الخيالات على نحو ما نرى عند مطران الذي تأثر كثيرًا بالأدب الفرنسي. شعره: قال مطران: "أكثر ما ينظمه إسماعيل صبري فلخطرة تخطر بباله من مثل حادثة يشهدها، أو خبر ذي بال يسمعه، أو كتاب يطالعه ... ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة إلى ستة، وقلما يزيد على هذا القدر إلى حيث يقصد قصيدة وهو نادر1". ويقول أحمد محرم. "صبري منذ القديم شاعر مقل، فهو لا يستطيع المطولات، ولا يكاد يجيدها، وقد نضجت شاعريته فأبدع في مواضع كثيرة، ولكنه بقى الشاعر المحدود والفنان الذي يأخذ من الفن ما يعجبه، ويأبى أن يعطيه ما يحبه هو ويرضاه2. فصبري شاعر مقل، لا يكاد يجيد المطولات؛ وذلك لأنه لم يحترف الشعر، وإن أراد أن يكون شاعرًا معروفًا "فأقرأ الديوان من أوله فسترى ففتى يحاول قرض الشعر على النحو الذي تعلم الناس من قبله عليه قرض الشعر، يقول في الموضوعات التي كان الناس يقولون فيها، في مدح الخديو إسماعيل، وفي مدح

_ 1 مختار المنفلوطي ص67. 2 مجلة أبوللو سبتمبر 1934.

بعض الأشخاص الذين كان يراهم في حينئذ أهلًا للمدح، ولا يريد بذلك إلى الفن، وإلا أن ينظم الشعر، ويرفعه إلى الممدوحين، وينشره في الصحف، ويتحدث الناس عنه بأنه شاعر1". ولم يكن شعر صبري أول عهده بالأدب يبشر بشاعر مقتدر يحدث أثرًا يذكر في عالم الشعر2، وأرى أن صبري على الرغم مما أسبغ عليه معاصروه من ثناء ومديح، وما أطروا به شعره، ولا سيما ذلك الذي قاله بعد عودته من فرنسا، وعلى الرغم من أنهم كانوا يلقبونه تارة بالرئيس، وتارة بشيخ الشعراء، ومن أنهم أثنوا على صدق عاطفته ودقة معانيه ورقتها لم يأت بجديد يذكر في عالم الشعر، وأنه فهم الشعر كما كان يفهمه الشيخ على الليثي، وإن كان أجود منه لفظًا، وأحسن معنى، وأمتن ديباجة. وإن شعر إسماعيل صبري امتداد لمدرسة القدماء، ولا أستطيع أن أقول: إنه امتداد لشعر البارودي. فشتان ما بينهما. ولعل الذي جنى على صبري هو أنه ابتدأ حياته الشعرية مداحًا، ولم يجد النموذج المعاصر القوي في فن المديح؛ لأن البارودي لم يكن من فرسان هذا الفن وما ورد له قليل جدًّا بالنسبة لشعره، وفن المديح قد استنفدت معانيه في الأدب العربي منذ زمن بعيد، ولذلك أخذ يقلد القدماء من شعراء العربية ولكن لم تواته ذخيرة من محفوظ الروائع الخالدة على إجادة التقليد واكتفى بترديد المعاني المطروقة من قبل بأسلوب يناسب بيئته وثقافته. ولم يستطع فيما بعد التخلص من ربقة الأدب العربي القديم، ويفيد من دراسته للأدب الأجنبي أو من تقليد البارودي، أستاذ المدرسة التقليدية الحديثة. ولم أجد شاعرًا صدق فيه القول: "بأن المعاصرة حجاب" خيرًا من إسماعيل صبري فلا شك أن الرجل لدماثة خلقه، وبعده عن المنافسات والحزازات، ورقته ولطف معاملته للناس قد أجمعت القلوب على محبته. وهم إذا نظروا إلى شعره

_ 1 طه حسين في المقدمة ص8. 2 أحمد محرم في مجلة أبوللو سنة 1934 ص104.

نظروا إليه بعين الصديق، وتمثل لهم إسماعيل صبري الرقيق الحس، المهذب الخلق، الكريم الخصال، صاحب الندوة العامرة التي كان يغشاها الشعراء، يلقبونه لكبر سنه، ولمقامه الأدبي بالرئيس أو شيخ الشعراء، وأنساهم كمال إسماعيل ما في شعره من مساوئ. ولا أريد أن أتجنى على إسماعيل صبري، وهأنذا أعرض عليك لترى صدق ما أقول: فصبري لم يجدد في موضوعات شعره، وإنما سار على نهج العرب الأقدمين، وكان عالة عليهم في معانيهم وألفاظهم وأغراضهم: مَدَحَ، وَرَثَى، وهَجَا، وهنأ، وتغزل، كما كانوا يفعلون، حتى الشعر السياسي الذي طرقه البارودي من قبل، والذي أفاض فيه حافظ وشوقي، وعبد المطلب، ومحرم، والكاشف، لم يكن له فيه نصيب ضئيل كما أنه لم يهتم بالناحية الاجتماعية في مصر، فيصور حال الشعب وآماله، ويشاركه أفراحه وأحزانه. وحتى شعره الذي كان يقوله لنفسه، والذي لا يدفعه إليه إلا شعوره ترى فيه أثر التقليد، وإن بدا مصوغًا صياغة ظريفة، فقد نظر فيه معاني من سبقه من الشعراء وحاكاهم، وقصر عنهم في الأداء. وأهم غرض قال فيه صبري، وأكثر هذه الأغراض تداولًا في شعره هو المديح والتهاني وما يتصل بهما. وقد بدأ حياته الشعرية بمدح الخديو إسماعيل، وهو بعد طلب في مدرسة الإدارة والألسن لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره فمن ذلك قوله من قصيدة، وقد نشرت بمجلة روضة المدارس تشجيعًا له: سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود وجلت على العشاق روض محاسن ... فسقى الحياء شقائق التوريد ورنت بأحور طرفها وتبسمت ... فبدا ضياء اللؤلؤ المنضود إلى غير ذلك من الغزل المتصنع، والمعاني القديمة التي عفى عليها، الزمن، وابتذلت من طول ما رددها الشعر العربي القديم، حتى وصل إلى مدح الخديو

إسماعيل، هكذا ابتدأ إسماعي صبري، ولقى تشجيعًا من أولي الأمر ومن رئاسة تحرير الوقائع المصرية، فقد ورد في الوقائع المصرية تقدمه لبعض قصائده في ذياك العهد، والتي من هذا الطراز: "ومن أبدع ما ورد من كلام الأفندية التلامذة المنتظم -ولا جرم. في سلك كلام الأساتذة ما جادت به قريحة الذكي، النجيب، الذي تحسن رواية كلامه وتطيب، إسماعيل أفندي صبري وهي هذه الذاهبة محسناتها البديعية مذهب الانسجام المفيد، في التهنئة بقدوم الجناب الخديو الأفخم السعيد". ومن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الخديو: أغرتك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاء أم عادل السمر وشعرك أم ليل تراخت سدوله ... وثغرك أم عقد تنظم من در إلى أن يقول في مدحه: سريٌّ سما فوق السماك مقامه ... وفاق على الشمس المنيرة والبدر وما الغيث إلا من بحار نواله ... ألم ترها تروي الوفود بلا نهر ونحن في غنى عن التعليق على هذا الشعر الذي قال فيه أحمد محرم: "إن أي شاعر في زمان إسماعيل صبري حينذاك كان خيرًا منه"1، وساق على ذلك عدة أمثلة، وليس حاله بعد أن رجع من البعثة، وتزود من علوم الغرب في باب المديح -بل وفي غيره- بأحسن منه قبل أن يذهب، استمع إليه في عام 1878 وهو العام الذي انتهى فيه من دراسته بأوربا، كيف ينهئ توفيقًا، ويؤرخ في شعره على عادة شعراء الضعف، على أن السنة التي شرعها البارودي في الشعر، وما وضعه له من منهج قويم، وما ضربه للشعراء من نماذج غاية في الفحولة كانت حرية أن تجعل الشعراء يتقدمون بالشعر خطوة إلى الأمام، ولا يرجعون خطوات إلى الوراء وهذا هو يقول:

_ 1 مجلة أبوللو -العدد السالف الذكر- ص104.

مولاي وافاك عام مشرق بهيج ... فيه لآمال هذا القطر تحقيق أبشر به فلسان السعد أرخه ... صافاك عام العلا والخير توفيق ويقول من قصيدة أخرى عام 1886، فيبتدئ الشطر الأول بتأريخ: ويختم القصيدة بتأريخ: مولاي هذا السعد قال مؤرخًا ... بشرى أبا العباس عام بشائر وتجد له في كل قصيدة أبياتًا من هذا النوع، حتى لقد برع في التأريخ الشعري براعة فاقت عصر المماليك والعثمانيين. لقد مدح من قبل إسماعيل صبري كثير من شعراء العربية الفحول، ولكنك تقرأ شعر المتنبي أو البحتري أو أبي تمام في المدح فتهتز طربًا، وتجد جديدًا، وتجد فحولة وقوة، واستطرادًا إلى الوصف الرائع، والحكمة البالغة، ولكن صبري للأسف لم يأت بأي جديد في مدائحه. والأنكى من ذلك أن في نسيبه كان يقف على الأطلال والدمن، وأين في مصر الأطلال والدمن؟! وهب أنه جعل منازل الحبيبة الغائبة في قصور القاهرة ومعالمها بمنزلة الطلل البالي فهلًا جدد فيالصورة، وافتن في التعبير، بدلًا من ترديد ما لاكته ألسنة الشعراء منذ قال امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل ويقول صبري في قصيدة يهنئ بها توفيق في عام 1890: قف بالديار وحي ركبا دراسًا ... لو يستطيع إجابة حياكا وانثر دموعك في ثراه صبابة ... على البكاء يزيل بعض جواكا ويقول من قصيدة أخرى يمدح عباسًا في عام 1908 بعد أن شاعت ضروب الشعر الحديث على مطران وشوقي وشكري: لو أن أطلال المنازل تنطق ... ما ارتد حران الجوانح شيق فأين هذه الصورة القديمة التي لا تتعدى ذكر القدم ووصف البلى، وذلك الوصف الجاف الذي لا يفيد من الوجهة الفنية ولا يغني، فضلًا عن انحراف

الذوق، فإن صبري يريد التهنئة -وليس من المناسب في مقام التهنئة إيراد مثل هذه الصورة الحزينة، ولا ذلك اللون القائم، أين هذه الصورة من قول أبي نواس الثائر على وصف الأطلال والدمن حين يقول: ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم تغص به عيني ويلفظه وهمي أتت صور الأشياء بيني وبينه فظني كلا ظن وعلمي كلا علم وقول أبي تمام: على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصوغات الدموع السواكب أو قوله: أدار البؤس حببك التصابي ... إلى فصرت جنات النعيم لئن أصبحت ميدان السوافي ... لقد أصبحت ميدان الهموم أظن الدمع في خدي سيبقى ... رسومًا من بكائي في الرسوم وإذا تتبعنا أبياته في المدح من تلك القصيدة القافية التي اشتهرت؛ لأنه أثنى فيها على عباس ثناء عاطرًا لعفوه عن سجناء حادثة دنشواي؛ ولأنه استطرد إلى وصف تلك الحادثة وجدناه مقلدًا في كل بيت من أبياتها، وناظرًا إلى بيت من الشعر القديم، تارة يأخذ اللفظ والمعنى وتارة يكتفي بالمعنى وحده، من غير توليد أو إضافة جديدة على الصورة، ولنضرب على ذلك مثلًا بقوله: أحرزت يا عباس كل فضيلة ... وبلغت شأوًا في العلى لا يلحق من ذا يجاري أخمصيك إلى مدى ... وهواك سباق وعزمك أسبق فالثناء على الممدوح بأنه حاز كل الفضائل، وبأنه بلغ في العلا شأوًا لا يلحق، كلام قديم جدًّا، وطالما ردده الشعراء، هذا هو مهيار الديلمي يقول: لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه وما أشبه الشطر الثاني من البيت الأول بقول أبي تمام: هيهات تطلب شأو من لا يلحق

وفي السبق إلى الغايات يقول البحتري: طلوب لأقصى غاية بعد غاية ... إذا قيل قد تناهى تزيدا ويقول أحمد محرم في نقد البيت الثاني: ومن الخطأ قول صبري: "من ذا يجاري أخمصيك" فإن الملوك لا تمدح بمثل هذا، وأولى بهذه المجاراة أن تكون بين العدائيين، كالسليك والشنفرى وأمثالهما، فليس المجد مما ينال بالعدو على الأقدام فيكون للأخمصين عملهما فيه، قال البحتري: إذا سؤدد داني له مد همه ... إلى سؤدد نائي المحل يزاوله فلم يقل مد قدمه، أو طار بأخمصيه، وإنما قال مد همه. وقد قال المتنبي أروع من هذا في نفس المعنى: وحق له أن يسبق الناس جالسًا ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب ويحذي عرانين الملوك وإنها ... لمن قدميه في أجل المراتب وقد عد بعضهم من مبتكرات صبري في هذه القصيدة قوله: إن يرتجل عرف فأنت إلى الذي ... لم يرتجله المالكون موفر وهذا المعنى قديم طرقه غير واحد من الشعراء، قال طريح الثقفي: قد كنت تعطيني الجزيل بديهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مغبوطًا وترجع بالتي ... لها أول في المكرمات وآخر وقال الأبيوردي: جاء الندى والبأس منك بديهة ... لما كرهت الوعد والإيعادا ومن قبل هذين قال زهيد بن عروة المازني: مباذيل عفوًا جزيل العطاء ... إذا فضلة الزاد لم تبذل هم سبقوا يوم جرى الكرام ... ذوى السبق في الزمن الأول

ولا تجد بيتًا من أبيات هذه القصيدة، بل من قصائد المدح كلها عند صبري ليس له نظير في معناه، أو معناه ومبناه عند شعراء العربية الأقدمين؛ وذلك لأن باب المديح من أقدم أبواب المدح منذ اخترعه النابغة الذبياني، وجرى الشعراء على سنته، وافتنوا فيه، وأهم صفة كان يتحلى بها الممدوح في نظرهم: الشجاعة والكرم. هل من الجديد قول صبري في هذه القصيدة؟: عوذت مجدك أن تنام وفي الحمى ... أمل عقيم أو رجاء مخفق لقد قال المعري في هذا المجد المعوذ: أعاذ مجدك عبد الله خالقه من ... أعين الشهب لا من أعين البشر وفي معنى بيت صبري قول الشريف الرضي: نعمى أمير المؤمنين حرية ... ألا تنام عن الرجاء المهمل ويا ليت صبري صاغ القصيدة كلها صياغة قوية جيدة، فإنه لم يكن يقوى على المضي في القصائد الطويلة من غير أن يبهر نفسه، ويحل به الأين واللغوب، ويتردى في حمأة الكلام السوقي المسترذل. فمن ذلك قوله: وأخذت رأي أولى النهي مستوثقًا ... مستوزرًا وكذا الحكيم يدقق فهل هذا شعر؟ ويقول بعد هذا البيت: حتى اهتديت إلى الصواب ولم يزل ... بين الصواب وبين رأيك موثق وفي هذا اتهام لرأي الممدوح وطعن عليهن وإن حاول ستره بالشطر الثاني. وقال بعد هذا البيت: وأهبت فابتكر النضار سحائبًا ... تهمي وتفتقد المحيل وتغدق والمحيل: ما أتى عليه الحول، أو ما صار من حال إلى حال. وقد أراد بالمحيل المحال فأخطأ. وبعد فهل هذا الأمر مشكل؟ وهل معرفة جهل الأمة وسوء حالها كان خافيًا على عباس، حتى أخذ رأي أولي النهي، واستوثق، واستوزر، ثم اهتدى بعد تخبط وضلال، فأين هذا من قول مهيار الديلمي:

ودبر الدنيا برأي واحد ... يأنف أن يشركه فيه أحد إذا استشار لم يزد بصيرة ... ولا يلوم رأيه إذا استبد أو قول الشريف الرضى: يستمع الرأي وعنه غني ... قد يصقل السيف ولم يطبع وقول البحتري: إذا ما جرى في حلبة الرأي برزت ... تجارب معروف له السبق قارح أو قوله: تشف أقاصى الرأي في بدأته ... لعيني وستر الغيب غير رقيق أو قول المتنبي: كفتك التجارب الفكر حتى ... قد كفاك التجارب الإلهام أو قول سلم الخاسر: بديهته وفكرته سواء ... إذا ما ذابه الخطب الكبير وأحزم ما يكون الدهر رأيًا ... إذا عي المشاور والمشير وماذا عساي أقول في شعر صبري في المديح، وهو تقليد في موضوعه، وتقليد في طريقته وافتتاحه بالنسيب، ووقوفه على الأطلال، وتقليد معانيه، وصوره وألفاظه؟ فهل بعد هذا يقال إن صبري من الشعراء المجددين؟ ومما يتصل بالمديح والتهاني ذلك الفيض من التقاريظ، والقصائد التي تتخذ للزينة، ومثل القصيدة التي قالها لتوضع في غرفة المائدة بقصر عابدين، ومطلعها: شمس المعالي كعقود الجمان ... قد نظمت في صدر هذا المكان ومثل البيتين اللذين قالهما ليكتبا على مسقى "سبيل" أم عباس:

أسست هذا على أس التقى ... أم عباس ملاذ المعوزين أيها الظامئ قف نلت المنى ... فيح مي جدة أم المحسنين1 إن هذا الكلام لا يسمى شعرًا، بل هو نظم، وصاحبه كما رأيت "نديم" لا شاعر، يحاول أن يرضى البيت المالك، والحاشية، وتتمثل فيه الرقة والوداعة، وسرعة البديهة، والقدرة على القول في كل شيء كما هو شأن الندمان غالبًا. إذا كان الأدب الفرنسي قد ترك أثرًا في إسماعيل صبري، فذلك الأثر يتمثل في أنه شاعر "صالون" وشاعر "الصالون" كما علمت آنفًا يراعي دائمًا غيره، قبل أن يراعي نفسه وقلما يفرغ إلى شعوره ووجدانه، وفي "الصالون" يسود الذكاء، والنكتة وحسن التعبير. والمجاملة2. ويذكر لنا الدكتور محمد صبري أن دار إسماعيل صبري كانت "تذكرنا بالأندية التي يرجع إليها الفضل في تهذيب اللغة الفرنسية وتجنب الكلمات الحوشية النافرة،؛ لأن السيدات كن فيها الآمرات الناهيات يحاسبن على كل لفظة ويتلطفن في الخطاب"3، وقد أيد هذا حافظ إبراهيم في رثائه. لقد كنت أغشاه في داره ... وناديه فيها زهى وازدهر وأعرض شعري على مسمع ... لطيف يحس نبو الوتر ولكني لا أوافقه على أن إسماعيل صبري قد انطبع في ذهنه كثير من الأدب الفرنسي4، اللهم إلا ذلك النوع من الأدب الذي ذكره الأستاذ العقاد بقوله: "ولما تهيأ لإسماعيل صبري أن يتلقى العلم في فرنسا، ويطلع على آدابها وآداب الأوربيين في غلتها كان من الاتفاق العجيب أنه اطلع على الآداب الفرنسية، وهي في حالة الذوق القاهري من بعض الوجوه؛ لأنها كانت تدين على الأكثر الأغلب بتلك الرافهية الباكية التي كان يمثلها "لامرتين" وإخوانه الأرقاء الناعمون"5.

_ 1 جدة أم المحسنين هي "بمبا كان" وسبيل أم عباس كان بمدرسة بما قادن. 2 راجع ص208- 261 من هذا الكتاب. 3 آداب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص120. 4 أدب وتاريخ للدكتور محمد صبري ص112- 115. 5 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص33- 34.

ولكننا نعلم أن مدرسة "لامرتين" هي المدرسة الإبداعية التي عنيت بالأدب الذاتي عناية فائقة فانطلق شعراؤها يتغنون بكل ما يحسون به، كما أنها عنيت بالطبيعة واكتناه أسراراها، والتملي من محاسنها ومفاتنها، وعنيت كذلك بالإنسانية والمجتمع عناية بالغة تصور مشكلاته بحاسة، وكانت الحياة كلها موضوعًا لشعرهم، وبرعوا في تصوير العواطف براعة فائقة، وعنوا بالجمال والأناقة، ولم يأخذ صبري من هذا كله إلا الجمال والأناقة وترك الهيام بالطبيعة والإنسانية والمجتمع. وإن مدرسة الندمان هذه تشبه إلى حد كبير عشراء الأندية و"الصالون". "وإذا أتيح لك أن تحضر مجلسًا من مجالس الظرفاء القاهريين في الجيل الماضي خيل إليك أنك في حجرة رجل نائم مريض. فالكلام همس، والخطوة لمس، والإشارة في رفق، وسياق الحديث لا إمعان فيه ... في هذه البيئة نشأ إسماعيل صبري الشاعر الناقد البصير بلطائف الكلام، فنشأ على ذوق قاهري صادق يعرف الرقه بسليقته وفكره، وليس يتكلفها بشفتيه ولسانه"1. هكذا يقرر الأستاذ العقاد، فإذا كان للأدب الفرنسي من تأثير عليه، فإنه زاده إمعانًا في رقته، وحبًّا في طريقته، وجعله شاعرًا عريقًا من شعراء المنادمة، لا شعراء الوجدان الذين يناجون نفوسهم، ويستوحونها الإلهام، ولا يفكرون في سواهم. لقد برهن إسماعيل صبري بالقسم الأكبر من ديوانه الذي تضمن المديح والتهاني، والتقاريظ؛ وشعر الزينة، والمناسبات، وبتلك المقطوعات القصيرة التي تقال ليفهمها الناس والتي تعبر عن خاطرة عابرة، ولا فكرة متأصلة في نفس الشاعر، على أنه من مدرسة علي الليثي التي لا تختلف كثيرًا عن وجهة النظر الفرنسية في الشعر. ولعله يقال إن عبقرية إسماعيل صبري قد تجلت في غير هذا الشعر الرسمي، تجلت في "مقطوعاته القصيرة يجري فيها ذوب قلبه، ويمزح فيها دم نفسه، بمعناه ولفظه، ويغني فيها لنفسه، ويقصد بها إلى بث لوعته وتخفيف كربته وتلطيف صبابته2.

_ 1 المصدر السابق 32- 33. 2 أحمد أمين في المقدمة ص17.

وهأنذا أعرض هذا النوع من الشعر لنتبين ما فيه من صدق العاطفة، وهل كان صبري فيه مجددًا، مخلصًا للفتن أو أنه تأثر بمدرسة الندماء، وبحياة "الصالون" قال صبري من قصيدته المشهورة "لواء الحسن": يا لواء الحسن أحزاب الهوى ... أيقظوا الفتنة في ظل اللواء فرقتهم في الهوى ثاراتهم ... فاجمعي الأمر، وصوني الأبرياء إن هذا الحسن كالماء الذي ... في للأنفس ري وشداء لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بع واعدلي بين الظماء أنت يم السحن فيه ازدحمت ... سفن الآمال، ويزجيها الرجاء يقذف الشوق بها في مائج ... بين لجين عناء وشفاء ألا تشعر وأنت تقرأ هذه الأبيات أن صبري ليس محبًّا عاشقًا متيمًا؟ إن المحب ذا أثرة، وغيرة، ولا يرضى إلا بأن يكون المحبوب له وحده، ولكن صبري يحب سيدة "الصالون" يريد منها العدل في القسمة، وتوزيع النظرات، وقد جعل الحسن مشاعًا للجميع والواجب عليها ألا ترد بعضهم عن ورده، وأن تعدل بين الظماء، وهل هذه هي العاطفة الملتهبة؟ إنه شعر أنيق ظريف، واضح، ولكن ليس فيه حرارة الحب، ولا لوعة العشق، ولا إخلاص المحب وأثرته. هذا فضلًا عن أن المعاني التي طرقها صبري، قد رددها من قبل غيره من شعراء العربية فأما أن المرأة فتنة فقضية مشهورة وهذا هو أبو نواس يقول: ما براها الله إلا ... فتنة حين يراها وأما أنها لواء الحسن وأن الفتنة استيقظت في ظل اللواء فقديمًا قيل: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وأما قوله: "فرقتهم في الهوى ثاراتهم"، فقد قيل قبل هذا: "قامت حروب الهوى على ساق". وأما قوله: "فأجمعي الأمر وصوني الأبرياء" فقد قال عمر بن الفارض أستاذ صبري: تجمعت الأهواء فيها فما ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي

وقال صفي الدين الحلي: لعل الحب يرفق بالرعايا ... فيأخذ للبريء من المليم وتشبيه الحسن بالماء قديم قال أبو القاسم العطار: رقت محاسنها وراق نعيمها ... فكأنما ماء الحياة أديمها وقال أبو تمام: صب الشباب عليها وهو مقتبل ... ماء من الحسن ما في صفوه كدر وأما قوله: "أنت يم الحسن إلخ" فقد نظر في هذا المعنى إلى قول السراج الوراق: يا بني الآمال قد خاب الرجاء ... إنها اشتدت وقد عز العزاء سفن الآمال في بحر المنى ... وحلت منا فأين الرؤساء وقال صبري بعد هذه الأبيات من نفس القصيدة: سأعفي آمال أنضاء الهوى ... بقبول من سجاياك رحاء وتجلي واجعلي قوم الهوى ... تحت عرش الشمس في الحكم سواء وعاد صبري في هذين البيتين إلى طلب المساواة في الحب، وطلب النصفة والعدل، وهذا طلب غير مقبول في الحب، فلا الحبيب يستطيع أن ينصف؛ لأنه يتبع ميل فؤاده، ولا المحب يريد هذه النصفة، إلا أمثال صبري الذين يمزحون ولايحبون، فالحب ذو أثرة، وهيهات أن يرضى محب بالشركة، وإذا نظرت إلى الصورة التي أتى بها في هذين البيتين وجدتها قديمة، مرقعة من أبياتها عدة نظر إليها الشاعر، فأنضاء الحب، صيغة قديمة جدًّا، ومن قبل قال الطغرائي. "يقتلن أنضاء حب لا حراك بها" وأما تشبيه السجايا بالريح الهنية اللينة الرخاء، فكذلك تشبيه قديم قدم البحتري حيث قال: خلق طيع إذا ريض للجو ... د انثنى عطفه وطاع عنانه

وإذا قلت. إن صبري أراد أن يقيم للحب دولة، ويشرع نظامًا، وتسود فيه النصفة والمساواة، فلعل هذا من الجديد، وإن كانت شريعته لا يرضى بها الحاكم ولا المحكوم، فأقول. إن هذا معنى قديم، ومن ألطف ما قيل في هذا المعنى قول محمد بن سارة. كم قد رأت عيناي مثلك واليا ... للحسن، وتنتهب النفوس جنوده الدهر طوع يديه والدنيا له ... أمة وأحرار الأنام عبيدة وقول ابن النبيه. أيا ملك القلوب فتكت فيها ... وفتكك في الرعية لا يحل وقال صبري بعد ذلك. أقبلي نستقبل الدنيا وما ... ضمنته من معدات الهناء وأسفري تلك حلى ما خلقت ... لتوارى بلثام أو خباء واخطري بين الندامى يحلفوا ... إن روضا راح في النادي وجاء وانطقي ينثر إذا حدثتنا ... ناثر الدر علينا ما نشاء وابسمي من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء وفي أول هذه الأبيات كلمة "معدات الهناء"، والمعتدات لعمري ثقيلة جدًّا في هذا البيت فضلًا عن أن الهناء بمعنى هناءة لم تسمع في الفصيح، وطلبه في البيت الثاني من المحبوبة أن تسفر؛ لأن هذا الجمال لم يخلق ليتوارى وراء الحجاب، معنى ردده من قبل أكثر من شاعر عربي ومن أحسن ما قيل في هذا قول الحسن التهامي: حطي النقاب لعل سرب عيوننا ... فيروض حسنك يرتعين قليلا وفي البيت الثالث يظهر محبوبته على عادته، بأنها امرأة "صالون" أو ناد كما أراد، وهذا ابتذال لها إذا كان حقًّا يحبها، ولكنه متأثر كما ذكرت بالطريقة الفرنسية، وقيل: إن هذه الأبيات نظمت في الآنسة "مي زيادة"؛ إذا كان يغشى

ناديها مع من يغشاه وكانت تستقبل زوارها كل "ثلاثاء" ولم يكن صبري ينقطع عن ندوتها إلا لضرورة ملحة، وقد اعتذر لها مرة عن تأخره بقوله: روحى على دور بعض الحي حائمة ... كظامئ الطير تواقًا إلى الماء إن لم أمتع بمي ناظري غدًا ... أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء ومع هذا فالبيت ليس فيه جديد، فتشبيه المرأة بالروضة قديم، وفي ذلك يقول أبو تمام: خرجن في نضرة كالروض ليس لها ... إلا الحلى على أعناقها زهر ولعل بيت صبري ... أقرب إلى بيت كشاجم رزئته روضة تروق ولم ... أسمع بروض يمشي على قدم وأما تشبيه حديثها بالدر في البيت الرابع فكذلك من الصور المتداولة، التي كثرت جدًّا لدى الأقدمين، ومن أشهر ذلك قول البحتري: ولما التقينا واللِّوى موعد لنا ... تعجّب رائي الدر منا ولا قطعة فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه وقال صبري بعد ذلك: لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء فهو يريد أن نفوس الجلساء مهذبة يحول الحياء بينها وبين ما لا ينبغي، ومقصده أنها نفوس عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة، وقديمًا قال المتنبي في العفة: يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد وقال الشريف الرضي: وإذا هممت بمن أحب أمالني ... حصر يعوق وعفة تنهاني

وقد أجاد صبري في قوله: "تعثر الصبوة فيها بالحياء" وإن ورد مثل هذا في غير موضع الحب. وقال صبري بعد ذلك: أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء وقد قال شوقي في هذا المعنى، ولسنا ندري أيهما أسبق: صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وأخيرًا قال صبري في هذه القصيدة: وانزعي عن جسمك الثوب يبنْ ... للملأ تكوين سكان السماء وعجيب من صبري المهذب الرقيق الحاشية رجل النادي، الذي اشتهر بأنه لا يفحش أن يطلب من محبوبته أن تنزع الثوب عن جسمها أمام الندامى، لا بل أمام الملأ أجمعين ليروا تكوين سكان السماء، ولا شك أن هذه فلتة من فلتات صبري، ما فطن إليها. وبغض النظر عن هذا كله، وعن أنه مقلد، فإن صبري شغل بهذه القطعة -مقتفيًا أثر المدرسة الفرنسية- بمحاسن المحبوب الظاهرة، وعن الكشف عن لواعج نفسه، ومكنون قلبه، وبث لوعته، وحرقة فؤاده، فهو ينظر إليها نظرة مادية رخيصة، يريدها أن تسفر لأن الحسن لا يصح أن يتوارى، ويريدها أن تخطر بين الندامى ليتمتعوا بهذا الجمال كأنهم في سوق الرقيق، ويريدها أن تتحدث وتبتسم، ويعني كل العناية بحسنها ومفاتنها حتى لم يستطع إلا أن يطلب منها أن تخلع ثيابها، ولا يبرئه ما وصف به نفسه وندماه من العفة، ومن أنها ملك. إنه تقليد مزدوج للعرب القدماء، وللمدرسة الفرنسية على السواء. ثم هو شعر ليس فيه عمق ولا تحليل للعواطف، ولا تصوير رائع، وهذه القطعة من أحسن قطعة في الغزل، وأطراها غير واحد من النقاد، وإن وافقنا الأستاذ العقاد في نقدها حيث يقول: "هنا ذوق وكياسة، وليس هذا عشق

وحرارة، ولن تذكرنا هذه الأبيات بعاشق يهو معشوقًا يقف على نفسه ويطلب إليه أن يقف نفسه عليه وإنما تذكرنا بنديم قاهري في سهرة من سهرات الطرب يلتف مع صحبه بغانية أو مغنية، يتلطف في الزلفى إليها، والثناء عليها، ولا يشعر من وراء ذلك بلوعة ولا غيره من المنافسين قناعة منه بالراحة بين الأحزاب، والعدل بين الظماء"1. وعلق الدكتور مندور في الكتيب الصغير الذي أصدره عن إسماعيل صبري على رأينا في هذه القصيدة بأن كلامنا هذا ليس تعسفًا فحسب ولكنه خطأ في الفهم. "فالبيت الخاص بنزع الثوب لا يمكن فصله عن البيت السابق له وهو: أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء ولا يمكن فصله عن البيت الذي يليه وهو: وأرى الدنيا جناحي ملك ... خلف تمثال مصوغ من ضياء فالأبيات الثلاثة تكون رؤية شعرية واحدة يزعم الشاعر أن الفتاة "روحانية" ليس حسنها من طين وماء وإنما هي تمثال مصنوع من ضياء وبه "جناحا ملك": وهو يريد منها أن تنزع الثوب لكي تثبت صحة رؤيته الشعرية، فلن يظهر عندئذ جسم بشري بل تمثال مصنوع من "ضياء" هو "تكوين سكان السماء" وبذلك لا تكون "فلتة" من إسماعيل صبري، ولا يكون هناك "سوق رقيق" ولا "عرض لجسم عار بين الندامى وإنما هناك رؤية شعرية روحية"2. ويعود فيقول: "الواقع أن لواء الحسن أو المرأة الجميلة التي يتحدث عنها إسماعيل صبري في هذه القصيدة ليست امرأة مبتذلة ولا نهبًا للأطماع، وإنما هي امرأة روحانية تقصر عن التطلع إليها شهوات النفوس، وليس في القصيدة نعمة حسية أو مستهترة أو مبتذلة، وهي أبعد ما تكون عن روح الندماء ومجالس الظرف أو الخلاعة"3.

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص35. 2 نفس المصدر: ص9، كذلك ص15. 3 نفس المصدر: ص12.

والدكتور مندور يرد على نفسه في كتاب آخر من كتبه وهو "الشعر المصري بعد شوقي"1 حين وازن بين علي الجارم وإسماعيل صبري، وقد قال في هذه الموازنة: "ولا يعقل أن يكون إحساسه بمعاني الحب مطابقًا الإحساس رجل كإسماعيل صبري القاهري المترف الذي كان يقنع من الحب بمجالس الطرب وصالونات المؤانسة دون أن يستشعر شيئًا من ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، فتراه لا يطلب من الحسناء التي يغازلها إلا أن تسوي بين عاشقيها حيث يقول: "يا لواء الحسن............ الأبيات" فالدكتور مندور يعترف معنا بأنها كانت في مجلس طرب وصالون مؤانسة، وأن إسماعيل صبري لم يكن لديه ذلك الحب العنيف الأثر الذي يثير الغيرة، وأنه كان يغازلها، ولم يطلب منها إلا أن تسوي بين عاشقيها". فأي امرأة هذه ذات العشاق الكثيرين الذين يغازلونها في صالونات المؤانسة ومجالس الطرب؟! لقد نسي الدكتور مندور أول القصيدة وأخذ أبياتها الثلاثة الأخيرة نسي أنه طلب منها أن تعدل في توزيع الحب. لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظماء ونسي أنها تخطر في النادي بين الندامى، وأنه يطلب منها أن تتكلم لتنثر الدر، وأن تبتسم ليملأ ثغرها الدنيا ابتسامًا فهو هنا يؤكد بشريتها، ولو كانت روحانية حقًّا ما قال لها: "لا تخافي شططًا من أنفس.... البيت" إذ إن الملائكة لا تخاف شطط النفس البشرية، بينما صبري يؤكد في هذا البيت بشريتها بأن نفوسهم عفيفة تستطيع أن تكبح جماحها على الرغم من الفتنة التي تخطر أمامهم وهم "ندامى" وهذه الكلمة توحي بكثير، كما أن كلمة "صبوة" وهي جهالة الشباب تنبئ عن الشهوة التي تعمل في نفوسهم وإن منع الحياء ظهورها وأكد هذا في البيت الذي يليه:

_ 1 ص31.

راضت النخوة من أخلاقنا................ البيت أما الأبيات الثلاثة الأخيرة التي ثار الدكتور مندور علينا من أجلها حين تعجبنا من صبري القاهري المهذب أن يطلب إليها أن تنزع الثوب بين الندامى، وراح ينبئنا بأنها صورة ملائكية وأنها روحانية، ولسنا نعلم أن الملائكة تلبس ثيابًا وإنما هي أجسام نورانية شفافة، كل الذي أراده صبري أنها تشبه الملائكة في جمالها. كما قال النسوة في سيدنا يوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ولم يمنع ذلك امرأة العزيز من الهيام ومراودته عن نفسه. ولقد نظرنا إلى القصيدة في عمومها وإلى أنها قيلت في مجلس طرب وصالون مؤانسة وأنه كان يغازلها كما يغازلها سواه، وكل الذي طلبه المساواة في البسمات والنظرات والعطف وأن تسمح لهم جميعًا أن يردوا من منهل حبها فلا تذود بعضهم عن ورده دون بعض، ونظر الدكتور مندور إلى الأبيات الثلاثة الأخيرة، وشتان بين النظرتين، ومع هذا فلا تقول إنه خطأ في الفهم كما قال، وإنما هو اجتهاد منه في التأويل: ومن القطع الغزلية التي اشتهر بها صبري قوله: أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بشافعة في رد ما كانا حمل سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا ... الصبابة فاخفق وحدك الآنالو ما كان ضرك إذ علقت شمس ضحى ... أدركت ضحايا العشق أحيانًا هلا أخذت لهذا اليوم أهبته ... من قبل أنت تصبح الأشواق أشجانا لهفي عليك قضيت العمر مقتحمًا ... في الوصل نارًا وفي الهجران نيرانا لقد أثنى الدكتور طه حسين ثناء لم نعهده منه في أي شاعر آخر على هذه القطعة وهو الخبير بفنون القول، والذي يتطلب من الشعراء الشيء الكثير، وذلك حيث يقول في مقدمة ديوان صبري: "فهل تعرف روحًا أعذب من هذا الروح؟ وعاطفة أصدق من هذه العاطفة؟ ولهجة أرق من هذه اللهجة؟ وموسيقى أجل وأظرف وأحسن تمثيلًا للروح المصري الشعبي من هذه الموسيقى التي يلائم بها بين "نافعة وشافعة" وفي البيت الأول، يأخذ هاتين الكلمتين من حديث الشعب

في حياته اليومية العادية، فيرتفع بها إلى أشد الشعر روعة، وأعظمه حظًّا من سذاجة، وهل تجد شيئًا من الغرابة في أن يغني الشعر بعض المغنين1". حقًّا إن صبري في هذه القطعة عذب الروح، رقيق اللهجة، حلو الموسيقى، يمثل الروح المصري الشعبي، ولكنه ليس بصادق العاطفة، ولعل الدكتور طه حَمِدَ من صبري هذه الصفات؛ لأنه جرى في شعره هذا على نسق المدرسة الفرنسية في الوضوح، وحسن الديباجة في الشعر، والرقة المتناهية، وإذا نظرنا إلى هذا الشعر نظرة أخرى وجدنا صبري مقلدًا في معانيه وأخيلته، وإن حسنت ديباجته وصياغته. فقد قال البهاء زهير في نافعة وشافعة: فما تنفع في الدنيا ... ولا تشفع في الأخرى وقد جمع المتنبي في شطر ما أراد صبري أن يقوله في بيت بأكمله وذلك حيث يقول: فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ ... وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ أما البيت الثاني فقد نقده نقدًا بديعًا الشاعر أحمد محرم حيث قال: الصورة في هذا البيت معكوسة، والمعنى غير مستقيم، فقد أراد الشاعر أن يقول لقلبه: إن القلب الذي كان يشاطرك حمل الصبابة قد سلا، فأجرى فعل المشاطرة على قلبه هو، وأنت ترى أن وقوع الفعل من قبله هو يعفيه من عناء هذا السلو، ويريحه من ذلك العبء الذي كان يحمله وإذا فلا معنى لأن يخفق وحده2. وموضع النقد هو أن صبري قال لقلبه: لقد شاطرت قلب الحبيب حمل الصبابة فما معنى أن يخفق وحده إذا سلا قلب الحبيب؟ إذ سلا قلب الحبيب فقد أعفى قلب صبري من المشاطرة ومن حمل الصبابة ولكنه كان يريد غير ذلك فأخطأ في التعبير. على أن معنى البيت على وجهه الصحيح مما سبق إليه الشعراء وفي ذلك يقول الطغرائ:

_ 1 مقدمة الديوان ص12. 2 مجلة أبوللو أكتوبر سنة 1934 ص165.

يا قلب مالك والهوى من بعدما ... طاب السلو، وأقصرالعشاق أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا ومعنى البيت الثالث من أبيات صبري قديم قدم الشمس يوم طلعت على شاعر عربي في الصحراء، وضحايا العشق كذلك معرقون في القدم منذ وجد الحب على ظهر البسيطة، وطالما ردده الشعراء، فلا داعي لتكراره، ولكن تعالى معي إلى البيت الرابع وأعجب كيف يأخذ المحب عدته لسلو الحبيب أو لغدره، اللهم إن هذا لا يكون إلا إذا رثت حبال المودة، وانتقض الحب، وفسدت الصلة، أما أن يفكر المحب وهو بعد محب ومحبوب في أن حبيبه سيغدر به، بعد العدة لسلوه فهذا أمر لا يفهم في عالم الحب، إلا إذا كان حبًّا من النوع الذي أغرم به صبري وهو الحب العابر، المتنقل، غير العميق الغور، أو الصادق العشق، ثم كيف يستطيع القلب أن يتخذ العدة والأشواق هي الغالبة عليه، ولم تتحول بعد إلى أشجان، وقديمًا قال الشاعر: لا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه ... وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها فهلا تذكر قول قيس لبنى: فوا كبدي من شدة الشوق والجوى ... وواكبدي إني إلى الله راجع إن الشوق هو الذي يسعر النار في الأفئدة المدلهة، وهو الذي وصفه أبو تمام بقوله: هذا محبك أدمى الشوق مهجته ... فكيف تنكر أن تدمي ما فيه لست أدري، لعمر الحق كيف فرق صبري بين الأشواق والأشجان، ولا كيف يفكر المحب في السلو ويعد له عدته وهو في معمعان الشوق؟ إذا كان صادق العاطفة حقًّا فكيف يطلب من قبله أن يسلو، هلا تذكر قول المجنون: فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر وما لي أضرب الأمثلة بالغابرين، وقد ناقض صبري نفسه في غير هذه القصيدة وبرهن على أن الشوق نار ملتهبة حيث يقول: يا من أقام فؤادي إذا تملكه ما ... بين نارين من شوق ومن شجن

وحيث يقول من قطعة أخرى: يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها وإذا رحنا نبحث عن غزل صبري فإننا نجده يشبه حبيبته تارة بالروض والغصن يا فتاة الحي قد أذكرتنا ... نضرة الروض وميل الغصن وبالبدر كقوله: عارضني البدر إذا لم يعترف ... لك بالحسن بوجه حسن وكقوله: أتزودت من ضياء البدور ... لليال كثيفة الديجور ومرة هي ظبية وأين بمصر الظباء؟ يا ظبية من ظباء الإنس راتعة ... بين القصور تعالى الله باريك وكقوله: يا مقر الغزال قد صح عندي اليـ ... ـوم أني اقتحمت منك العرينا ومرة هي مهاة تمشي في سريها: وحيها بين المها إن بدت ... في سربها مقبلة مدبرة إلى غير ذلك من التشبيهات الأثرية التي لا تلائم ذوق العصر، وليس فيها رائحة من تجديد، زد على هذا أنه عنى كل العناية بوصف محاسن المرأة ومفاتنها الجسمية، وقلما التفت إلى الجمال المعنوي، أو تحليل العاطفة، أو تصوير الحب على حقيقته تصويرًا غنيًّا قويًّا. يعجبه من المرأة قوامها المياس المرهف. تمس تذكرنا الشباب وعهده ... حسناء مرهفة القوام فنذكر ويعجب بنحرها، وبثناياها ويشبه الثنايا بالدر:

وتبيت تكفر بالنحور قلائد ... فإذا دنت من نحرها تستغفر وتزيد في فمها الآلي قيمة ... حتى يسود كبيرهن الأصغر وثغرها مورد عدب غني به كل مورد آخر: يا موردا كنت أغنى ما أكون به ... عن كل صاف إذا ما بات يرويني عندي لمائك -والأقداح طوع يدي ... ملأى عن الماء- شوق كاد يرديني ويفتن بشعرها الأسود المعقوص: أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلًا ... وأعقديه من فوق رأسك تاجًا أنت في الحالتين بدر تراه ... صادعًا آية الدجى وهاجا وقد يقال إن لصبري قطعًا أخرى غير هذه، فيما حرقة الجوى، ولهيب الشوق، وجمر الحب، وفيها التوجع والشكوى وفيها العاطفة مثل قوله: يا آسي الحي هل فتشت في كبدي ... وهل تبينت داء في زواياها أواه من حرق أودت بأكثرها ... ولم تزل تتمشى في بقاياها يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها أجل؟ إن هنا حرقة، وداء يرعى في كبده، وشوقًا قد عصف بأضلاعه، وقلبًا يخفق ذعرًا، ولكن هنا أيضًا زوايا، وبقايا وحنايا، وآثارًا قديمة من مخلفات الماضي، ومن أثر محفوظة من الشعر العربي القديم، وقال البهاء زهير في "الزوايا" وما فيها: ويميل بي نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشية فيه من الطرب القد ... يم بقية في الزاوية وله في المعنى الذي ذكره صبري في البيت الثاني: لك الحياة فإني ... أموت لا شك عشقًا

لم يبق مني إلا ... بقية ليس تبقى وإذا قال صبري في قطعة أخرى فيها شيء من وهج اللوعة. أبثُّك ما بي فإن ترحمي ... رحمت أخا لوعة ذاب حبًّا وأشكو النوى ما أمر النوى ... على هائم إن دعا الشوق لبى وأخشى عليك هبوب النسيم ... وإن هو من جانب الروض هبا وأستغفر الله من برهة ... من العمر لم تلقني فيك صبا تعالي نجدد زمان الهنا ... وننهب لياليه الغر نهبا تعالي أذق بك طعم السلام ... وحسبي وحسبك ما كان حربًا لم أجد خيرًا من تعليق الأستاذ العقاد عليها بقوله: "إن صبري لم يذب حبًّا هنا إلا كما ذاب كل قاهري ظريف يقول لصاحبته: "أنا أذوب" وأنه لم يخف على صاحبته هبوب النسيم من جانب الروض إلا كما يخشى كل قاهري ظريف من الهواء وما هو أرق من الهواء. وإنما هو إسماعيل صبري في صميمه، وحقيقة نجواه حين يقول لها: إنه تعب من اللوعة، وكَلَّ من الحرب، ولا أمل له في غير السكينة والسلام1. وهذه الأبيات محاكاة لما قيل من قبل في هذه المعاني، وليست منبعثة عن عاطفة قوية، وأغلب الظن أن صبري لم يكن يعبر عن خلجات فؤاده، وإنما كان إذا أراد القول في الحب ازدحمت على مخيلته تلك الصور القديمة التي وعتها ذاكرته فرددها، وأعادها إلى الحياة لا تنطق عن جوى كامن من فؤاده، أو تنقل قبسًا من روحه، وكيف تكون كذلك وهي رداء صنع لغيره، ورث من قبل أن يتناوله، ومرة يجيء وفق ما يريد من معنى، وما يجيش في قلبه من فكرة وعاطفة، وأحيانًا يضيق. وأخرى يتسع. ألا ترى معي أن الشكوى في قلبه من فكرة وعاطفة،

_ 1شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص26.

وأحيانًا يضيق، وأخرى يتسع، ألا ترى معي أن الشكوى من النوى وتلبية الشوق إذا دعا عبارات لاكتها ألسنة القدماء حتى ملها الأسماع أولا ترى أن مسألة الخشية من هبوب النسيم على المحبوبة ولو هب من جانب الروض فيها مبالغة سخيفة ثم هو معنى قديم وحسبي أن أذكر قول الشاعر: خطرات النسيم تجرح خديه ... ولمس الحرير يدمي بنانه وقد عارض صبري قصيدة الحصري القيرواني1 التي مطلعها: يا ليلُ الصبُّ متى غدُه ... أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ فقال في قصيدته المشهورة: أقريب من دنف غده ... فالليل تمرد أسوده والتفت تحت عجاجته ... بيض في الحي تؤيده وهي قصيدة في الغزل، ولكن فكرة المغارضة توحي بأنه لم يقلها استجابة لانفعال خاص، أو فيضًا لعاطفة ملتهبة، وإنما قالها ليدل على أنه يستطيع أن يجيد كما أجاد القيرواني ولكن هيهات! فنظرة عابرة إلى القصيدتين تريك أن صبري لم يستطع الفكاك من معاني قصيدة القيرواني وصورها، وأنها غلبته على أمره فرددها، لا! بل كان مضطربًا شأن من وقع في شباك متينة يحاول الخلاص منها فلا يتأتى له، بل تأتت صورة ممسوخة. انظر إلى هذا الاضطراب في قوله: كما صغت التبر له شركًا ... وقضيت الليل أنضده وأشاور شوقي بلأدبي ... هل أقصر أم أتصيده فهل تجد معنى للمشاورة بعد أن مد الشرك فعلًا، ونصب الحبائل لصيده، ثم ألا يذكرك هذا الشرك المصنوع من الذهب بشرك ابن الوردي حيث يقول:

_ 1 القيرواني هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقري الصرير المصر القيرواني الشاعر المشهور، وفد على جزيرة الأندلس في منتصف المائة الخامسة وتوفي بطنجة سنة 488 هـ، وهو صاحب زهر الأدب، وقد عارض قصيدته كثيرون في القديم والحديث منهم في عصرنا شوقي، وولي الدين يكن ونسيب أرسلان وصبري وغيرهم.

ورب غزالة طلعت ... بقلبي وهو مرعاها نصبت لها شباكا من ... لجين ثم صدناها وإذا قلت: إن شرك صبري من ذهب وترك ابن الوردي من فضة وشتان ما بينهما فاستمع إلى شاعر آخر نصب شركا من ذهب هو الأمير "منجك" يقول على لسان من يحبه: لا تنقضى لك حاجة ... عندي بشعر أو طرب إن رمت صيدي في الهوى ... فانصب شراكا من ذهب ولست أريد أتتبع القصيدة فحسبي ما ذكرت منها، وهو دليل على سائرها ولا أدل على أن كثيرًا من غزل صبري محاكاة، من قوله: يا وامض البرق كم نبهت من شجن ... في أضلع ذهلت عن دائها حينا فالماء في مقل والنار في مهج ... قد حار بينهما أمر المحينا لولا تذكر أيام لنا سلفت ... ما بات يبكي دمًا في الحي باكينا يا نسمة ضمخت أذيالها سحرًا ... أزهار أندلس هبي بوادينا وهو يقولها ردًّا على قصيدة شوقي الأندلسية "يا نائح الطلح" وتعجب كيف أن صبري في آخريات حياته، وبعد ما سمع الشعر الحديث وقرأ منه لا يزال يردد البرق في شعره وأنه ينبه شجنه، مقتفيًا أثر العرب وهم في حصرائهم يوم كانوا يحتفلون بالبرق الذي يبشر بسحاب ممطر، فيه الحيا والحياة، فيهتزون طربًا لرؤياه، ويتذكرون الحبيبة الغائبة، التي يودون أن تشاركهم هذه المسرة، أما في القاهرة فلا محل لذكر البرق والمطر. ومما يدل على التكلف قوله: "فالماء في مقل، والنار في مهج" وحديث الماء والنار قديم جدًّا في الأدب العربي، وقد أبدع الشريف الرضي في هذا المعنى حين قال: الماء في ناظري والنار في كبدي ... إن شئت فاعترفي أو شئت فاقتبسي

أما تلك النسمة المضمخة الأذيال فقديمة كذلك، وهي تشبه أذيال الصبا عند ابن معتوق حين يقول: وتنفس النسرين من عبق ... منه بأديال الصبا عطر هذا ما كان من أمر الغزل، وقد تبين لك أن جله محاكاة، وندر أن تجد فيه شيئًا من صدق العاطفة، أما الوصف فهو مقل جدًّا بحيث لا تجد له في باب الوصف إلا قصيدة واحدة في البرق والسحاب، ومقطوعة في ثلاثة أبيات في وصف النيل ذكرناها في غير هذا الباب عند الكلام في مواقف الشعراء من الطبيعة المصرية وذكرنا أنها مسروقة من ابن خروف النحوي الأندلسي1. وقصيدة البرق والسحاب مما سبق أن أتى عليه الشعراء، ولا سيما والبرق في مصر نادر، وليس فيها ما يستحق الذكر إلا تذكره لعهده بالشباب، وفي هذه القصيدة يقول: أبرق يتوج هام الربا ... وإلا فهاتيك نار القرى كأن سناه عيون مارض ... يحاولن تحقيق شمس الضحى وإلا فتلك مصابيح قبل أن ... طفاء يَثَرن لصدع الدجى وهذا كما ترى خيال بدوى، سبق إليه امرئ القيس وغيره، وإن نار القرى بمصر توقد فوق رءوس الربى لجلب الضيفان، ولعلك تتذكر وصف امرئ القيس للبرق بقول له: يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل أما الأبيات التي يذكر فيها عهد الشباب فهي: سقى ريها العذب عهد الشباب ... فقد كان روضًا شهي الجنا إذ العيش كالغصن في لينه ... يميل بعبء ثمار المنى أقلبي كم ذا توالى الحنين ... وكم ذا يشوقك عصر الصبا رويدك إني رأيت القلوب ... تفطر من ذا ومن بعض ذا صحبت الأسى بعد ذاك الزمان ... كأنك مستعذب للأسى

_ 1 راجع ص164 من هذا الكتاب، والأبايت مذكورة في بغية الوعاة للسيوطي ص3254 مطبعة السعادة 1326 هـ.

وليس في هذه الأبيات أي صورة جديدة، فاستمطار السحب على العهود السعيدة الماضية جلبًا للرحمة خيال بدوي قديم، وتشبيه العيش بالغصن الرطب مما أكثر الشعراء من ذكره، وربما كان في هذه القصيدة بعض العاطفة الحزينة، ولكنها ليست عميقة، ولا قوية. وعجيب من صبري ألا يعني بالوصف، وهو أدل أبواب الشعر على قوة الشاعرية، وعلى تحرر الشاعر من قيود المجتمع ومجاملاته؛ لأن الصوف لا باعث له إلا انفعال الشاعر للجمال أو الخير، لكن صبري كان يرسف في أغلال التقليد فلم يستطع الفكاك من قيود المجتمع ومجاملاته، مادحًا، أو راثيًا، أو مقرظًا، أو متغزلًا في سيدة النادي الذي يغشاه وفي أمثالها. هذا وباب الاجتماع لدى صبري باب قصير، وكله شخصي، وينظر فيه الشاعر إلى نفسه قبل أن ينظر إلى من حوله، وكله نظرات حزينة وتبرم بالناس، واستجلاب للسخط على الحياة وساكنيها، واستمع إليه يقول في الشباب والشيب: لم يدر طعم العيش شبا ... ن ولم يدركه شيب جهل يضل قوى الفتى ... فتطيش والمرمى قريب وقوى تخور إذا شبـ ... ـث بالقوي الشيخ الأريب بينا يقال كبا المغفـ ... ـل إذ يقال خبا اللبيب أواه لو عقل الشبا ... ب وآه لو قدر المشيب وإذا لم يدر طعم العيش شبان، ولم يدركه شيب، فمن يدريه؟ هل تقصد أن طعم الحياة ولذتها لا يدركهما أحد أبدًا لا الشبان ولا الشيب؟ وما حد الشباب عنده، وما حد المشيب؟ إذ كان الأمر كما يصوره صبري فلا كانت الدنيا ولا كان السعي فيها، أليس بين عهد الشباب الجامح، وضعف الشيخوخة مرحلة طويلة من العمر، وفسحة من الأجل يتمتع فيها الإنسان بالحياة على هينة، ويدرك مغزاها تمام الإدراك؟ وهل العبرة بالسن أم العبرة بالشعور؟ كم من فتى في

ريعان العمر يشعر إزاء الحياة شعور الشيخ الذي هَذَّهُ المرض، وأثقلته تكاليف السنين، وكم من شيخ لا يزال في القلب، نضر الآمال. وإذا تركنا البيت الأول وجدنا الأبيات الأربعة التالية تدور كلها حول معنى واحد، وهو أن الشباب سن الطيش، كثيرًا ما يخطئ فيه الإنسان لحماقته وغروره واندفاعه، وعدم تحكم القوى العاقلة في أمور نفسه، وأن المشيب سن الضعف تخون الإنسان قوته، ويود، وما وده بنافع له؛ لأنه لا يملك الإرادة المنفذة، ولا العزيمة المبرمة. أما أن الشباب مظنة الخطأ والجهل فمعنى قديم، وفي ذلك يقول النابغة: وإن مطية الجهل الشباب"، ويقول العتبي: قالت عهدتك مجنونًا، فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وأما أن المشيب زمن الضعف، وانطفاء الآمال فمعنى ردده غير واحد من الشعراء، ومن أحسن ما قيل في هذا قول أبي العلاء: سقيا لأيام الشبا ... ب وما حسرت مطيتيا أيام آمل أن أمس الـ ... ـفرقدين براحتيا فالآن تعجز همتي ... عما ينال بخطوتيا ومن خير قصائد الاجتماعية قصيدته التي قالها في مذنب "هالي" وقد سبقت الإشارة إليها، وفيها ينعي على الناس فساد أخلاقهم، ويستمطر شآبيب السخط والغضب على هذه الدنيا، وما فيها من وجوه كالحة كئيبة، ويصور في براعة بطش القوى بالضعيف شأن الدنيا في تنازع البقاء، وفي ذلك يقول: غاض ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب فقرا وتفشي العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برا أوجه مثلما نثرت على الأجدا ... ث وردًا إن هُنَّ أبدين بشرًا

وشفاه يقلن: أهلا، ولو أديـ ... ـن ما في الحشا لما قلن خيرا عمرك الله هل سلام وداد ... ذاك أم حاول المسلم أمرا عميت عن طريقها أم تعامت ... أمم في مفاوز الجهل حيرى غرها سعدها ومن عادة السعـ ... ـد يؤاتي يومًا ويخذل دهرًا فتجنب على الشعوب وشنت ... عارة في البلاد من بعد أخرى نسيت في الصعود يوم التدلي ... والتدلي بصاعد الجد مغري تعب الفيلسوف في الناس عصرًا ... وتولى السرائل الدين عصرا والورى طارد إزاء طريد ... وعقاب ويمسي يطارد صقرًا عبر كلها الليالي، ولكن ... أين من يفتح الكتاب ويقرا أنت نعم النذير يا نجم هالي ... زلزل السهل والرواسي ذعرًا ظن قوم فيك الظنون وقالوا ... آية أرسلت إلى الأرض كبرى إن يكن في يمينك الموت فاقذفـ ... ـه شواظًا على الخلائق طرا أغًا تستوى الأنوف فلا ينـ ... ـظر قوم وما على الأرض شررًا أغدًا يصبح الصراع عناقا ... في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا إن يكن كل ما يقولون فاصدع ... بالذي قد أمرت حييت عشرا هذا موضوع مغر بالشعر حقًّا، وهو المأساة الإنسانية، أو المهزلة الإنسانية إن شئت، وفي استطاعة الشاعر المركب الشخصية أو المعقد الشخصية أن يجعل من هذا الموضوع تحفة فنية رائعة، بتصوير آلام الإنسانية تصويرًا دقيقًا زاهيًا تتفطر منه القلوب وتدمى العيون ثم تصوير ذلك النزاع البشري الطويل من لدن آدم حتى اليوم، وما في الحياة كلها من مظاهر قانون تنازع البقاء.

ولكن كيف يتهيأ لصبري هذا، وهو شاعر مفرد الوتر، سطحي الشعور أن يبدع في هذا الموضوع أو شبهه. وليس معنى هذا أنه لم يقل شيئًا إنه قال على قدر استطاعته، وإذا علمنا أن صبري لا يستطيع نظم المطولات، ويعيا بها عرفنا السبب في تقصيره، إنه مس برفق آلام الإنسانية، وساق كثيرًا من أبيات الحكمة، ورجع في كثير من معاني القصيدة إلى الشعر القديم والاستعانة به على تأدية أغراضه، مثل ذلك قوله: "غاص ماء الحياة من كل وجه" وكثيرًا ما تكلم الشعراء في ماء الحياة هذا: كثير حياء الوجه يقطر ماؤه ... على أنه من بأسه النار تلفح وأما من ملق الناس ونفاقهم الذي عبر عنه بقوله: وشفاه يقلن أهلًا ولو أديـ ... ـن ما في الحشا لما قلن خيرًا فقد قال الله سبحانه وتعالى وهو أكرم القائلين: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} . وقديمًا قال الشاعر: يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني وأما غرور الأمم ونسيانها في حميا انتصارها أن سيأتي يوم تدال فيه إن لم تحط ملكها بالعدل والرحمة والاعتدال في كل شيء فمأخوذ من قول الشاعر: ما طار طير وارتفع ... إلا كما طار وقع والمغالبة في الحياة، والمزاحمة على مواردها، وانتصار القوى على الضعيف شريعة الوجود منذ نشأة الإنسانية، وقديمًا قال الشريف الرضي: والناس أسد تحامي عن فرائسها ... إما عقرت وإما كنت معقورًا وهكذا كل معاني القصيدة إلا النادر من مثل قوله: أوجه مثلما نثرت على الأجدا ... ث وردًا إن هن أبدين بشرًا أغدًا يصبح الصراع عناقا ... في الهيولي، ويصبح العبد حرًّا

فالصورة في البيت الثاني رائعة؛ لأن الإنسان قد يتصور هذا الصراع البشري العنيف وقد استحال بعد الموت وآثاره عناقًا وضمًّا والتزامًا بين بقايا البشرية وأنقاضها، أو بين موادها المنحلة المتناثرة، وقد جاور بعضها بعضًا، ولا فرق بين ملك وسوقة، ولا ظالم ولا مظلوم، وقديمًا قال المعري في المنايا، وأنها تفرق بين الرأس والرجل، والقدم والرأس: فكم قارن من رأس برجل ... وكم ألحقن من قدم برأس وكان إسماعيل صبري يرى الاقتصار على زوجة واحدة، وهو بهذا من أنصار قاسم أمين، وقد عبر عن رأيه شعرًا ونثرًا، وأما الشعر فقوله: يا من تزوج باثنتين ألا اتئد ... ألقيت نفسك ظالمًا في الهاوية ما العدل بني الضرتين بممكن ... لو كنت تعدل ما أخذت الثانية وأما النثر فقوله: "أحب التوحيد في ثلاث: "الله" و"المبدأ" و"المرأة". ولم يخض في مسألة السفور والحجاب كما ذكرنا آنفًا، ولعل رأيه يتضح من قوله أحب الحرية في ثلاثة: "حرية المرأة في ظل زوجها، وحرية الرجل تحت راية الوطن وحرية الوطن في ظل الله". ولا شك أن حرية المرأة في ظل زوجها هي ما شرعه الإسلام ولكن هذه جملة مبهمة لا تفيد كثيرًا في معرفة رأيه. هذا كل ما نستطيع أن نأخذه من باب الاجتماع عند صبري، ومنه نرى أنه شاعر لا فكرة له في المجتمع وإصلاحه، وإنما هي بعض الشكوى والتبرم، والشكوى والتبرم ليسا مذهبًا إصلاحيًا، ولا فلسفة يدين بها الشاعر؛ لأنها عمل سلبي، ومعظم شعرائنا، وللأسف -لا أخص صبري وحده- ليس لهم فلسفة يدور حولها شعرهم، ولا فكرة يدعون إليها، كما هو الحال عند شعراء الغرب البارعين، ولا أولئك الذين يخدعون الناس بعبارة "شعراء الفن للفن" ليهرفوا بما لم يعرفوا، وليقولوا ويأمنوا النقد. وما أظن صبري ولا سواه ممن اختفت لديهم الفكرة الجامعة، والمبدأ القويم الذي يدور حوله شعرهم كانوا يفكرون في مسألة

"الفن للفن"؛ لأن الشعر عندهم كان لمعًا، وخطرات ترد على الذهن، فينشأ منها انفعال عارض يدفعهم إلى قول بضعة أبيات أو قصيدة. هذه وسياسيات صبري من قبيل الفكاهة والنكتة، لا تعرف له مبدءا يدين به، أو حزبًا ينتمي إليه، وإن كانت فيها سخرية مرة أحيانًا وتهكم لاذع بهؤلاء الذين مالئوا الاحتلال، أو لم يخلصوا لأمتهم فيما أتأمنهم عليه من عمل أو وزارة، وهي أشبه بالصور الهزلية "الكاريكاتيرية" منها بالصور الحقيقية، خذ مثلًا قوله في مصطفى فهمي، وهو من عرفت فيما سبق: نصيرًا قويًّا للمحتل، وعدوًّا لرغبات الأمة، وأمانيها الوطنية، ولا أدل على ذلك من أنه مكث في الوزارة ثلاث عشرة سنة، وعميد الاحتلال راض عنه؛ لأنه كان أشد منه حماسة في توطيد أقدام الإنجليز بمصر، فلما سقطت وزارته بعد ذلك الأمد الطويل في تاريخ الوزارات سنة 1908 قال إسماعيل صبري. عجب لهم قالوا سقطت ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرم وقال على لسان مصطفى فهمي هذا عند استقالته، مشيرًا إلى أنه لم يجد في مصر رجالًا ولو وجد فيها رجالًا ما تركوه في الوزارة طوال هذه المدة، يعين عدوهم عليهم، ويستتر وراء اسمه لتنفيذ أغراضه، وتوطيد سياسته، وأنه لم يستقل إلا بعدما أراد قومه أن يكلفوه ما لم يرض، وهو ألا ينصاع لما يريده المحتل الغاصب: إنني أستغفر الله لكم ... آل مصر ليس فيكم من رجال فَلَّ غربي ما أرى من نومكم ... ورضاكم بوجود الاحتلال بُحَّ صوتي داعيًا مستنهضًا ... صارخًا حتى تولاني الكلال لم أجد فيكم فتى ذا همة ... إن عدا الدهر عدا أوصال صال رحم الله وزيرًا سامه ... قومه ما ليس يرضى فاستقال

وليس بصحيح أن صوته قد بح من دعوتهم للنهوض، وأنه كان يرجو أن يبرز من يبرز من بينهم فتى ذو همة، إن عدا الدهر على قومه عدا وإن صال صال. فهذا من قبيل التهكم اللاذع؛ لأن مصطفى فهمي كان يريد مصر نائمة، راضية عن الاحتلال؛ إنما الذي فل غربه حقًّا تلك الثورة العنيفة التي أجج نارها مصطفى كامل وصحبه، حتى طوَّحت به وبأضرابه. ويصور بطرس باشا غالي. بأنه قلب، يلبس لكل زمان لبوسه، ويعرف من أين تهب الريح فينحني أمامها. أهلا ببطرس أهلا ... بالملتوي المستقيم قديم كل جديد ... جديد كل قديم ويقول في أحمد حشمت باشا حين تولى وزارة المالية؛ وكان صبري يرى أنه ليس بكفء لهذه الوزارة وأنه ظلم حين أسندت إليه، وأن لولا الإنجليز ما تولاها. أبعدوا "أحمدًا" وجاءوا بثان ... ظلموه كما أراد الغشوم فتسلت خزائن المال مظلوم ... تولى وجاءها "مظلوم"1 وهذا النوع من الشعر يؤيد رأينا في شعر صبري، وهو أنه شعر مناسبات، ينتمي إلى مدرسة الندماء، لا يصدر عن عاطفة، وإنما يقال لخطرة بدت، أو للتسلية في الندوة، يتفكه بها الصحب، ويعجبون للبراعة الفائقة التي مكنت صبري من أن يصور هذه الشخصيات السياسية في مثل ذلك الإيجاز الواضح. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع موقف صبري من الأتراك والخلافة العثمانية، ومن الاحتلال، والحركة القومية ورجالها، ومن الخديو ورجاله2، وإن كانت قصيدته التي قالها حين اشتد الخلاف بين الأقباط وبين المسلمين3 في سنة 1911 تدل على بعد نظر، وحصانة رأي، لأن من مصلحة الأجنبي المستعمر

_ 1 كان وزير المالية قبل أحمد حشمت هو أحمد مظلوم، وقد تلاعب الشاعر بالألفاظ كما رأيت. 2 راجع ص132- 129 من هذا الكتاب. 3 في 6 مارس 1911 عقد الأقباط مؤتمرًا بمدينة أسيوط للنظر في حالهم مع المسلمين، وطلبوا من الحكومة عدة مطلب ظنًّا منهم أن المسلمين، قد استأثروا بكل شيء في البلاد، فاجتمع المسلمون في مؤتمر عام توالت جلساته خمسة أيام للنظر في حال المسلمين اقتصاديًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا وللرد على مطالب الأقباط، وشبت نار الفتنة، وزادها اشتعالًا من يغنيهم أن تتفاقم نارها، وقد أرسل واصف غالي إلى إسماعيل صبري من باريس يطلب منه الوساطة في الصلح؛ لأن شعره منزلة في نفوس المصريين جميعًا

أن يشتد هذا الخلاف، ليمزق وحدة الأمة، وليدعي أن وجوده ضروري لحماية الأقليات، وطالما ادعى هذه الدعوى حتى أبطلها الواقع، ووقفت الأمة كلها صفًّا واحدًا 1919 تندد به وبأساليبه في التفرقة لأن مصر وطن الجميع؛ ولأن الأقباط ظلوا هذه القرون المديدة منذ الفتح حتى اليوم لا يجدون من إخوانهم المسلمين في الوطن إلا كل مودة، وحسن عشرة وفي تلك القصيدة يقول صبري: ويحكم ما كذا تكون النصارى ... راقبوا الله بارئ العذراء مصر أنتم ونحن إلا إذا قامت ... بتفريقنا دواعي الشقاء مصر ملك لنا إذا ما تمسكـ ... ـنا وإلا فمصر للغرباء لا تطيعوا منا ومنكم أناسًا ... بذروا بيننا بذور الجفاء فلا تولوا وجوهكم شطر من عكـ ... ـر ما في قلوبنا من صفاء وهو شعر سامي الغرض، سهل المعاني، قريب المأخذ ليفهمه الخاصة والعامة، ولذلك جاء الكلام العادي منه بالشعر الرفيع الذي يفتن فيه صاحبه. ومن القصائد التي أشرنا إليها فيما سبق، وتنبئ عن غرض من أغراض الوطنية، والحث على العمل والجد في سبيل رفعة الوطن عن طريق العلم والدأب في تأسيس الدعامات القوية التي يشاد عليها مجد البلاد، وإن لم تدع إلى الثورة الجامحة، أو العنف، وإنما دعت إلى الأخذ بأسباب الإصلاح قول صبري على لسان فرعون: لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا وتى يوم تحصيل العلا واني ولست إن لم يؤيدني فراعنة منكم، ... بفرعون عالي العرش والشان ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت ... جباله تلك من غارت أعواني لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان ردوا المجرة كدًّا دون مورده ... أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآن وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم ... لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم ... لا يثن مستمعًا عن طاعة ثان فالملك أمر وطاعات تسابقه ... جنبًا لجنب إلى غايات إحسان

وموضوع القصيد من الموضوعات القوية، التي يستطيع الشاعر أن يستحضر فيها تلك المشاهد الرائعة التي وقفها فرعون، والتي رفع فيها مجد مصر، ثم يتخذها موعظة وتذكرة لأبنائها في الوقت الحاضر؛ إذ ليس هذا من الشعر الذاتي، وإنما هو من الشعر الموضوعي، والشعر الموضوعي ينطلق فيه الشاعر انطلاقًا قويًّا إذا تهيأت له الشاعرية المبتكرة المبتدعة. ويجب أن يكون الخيال في هذا النوع خيالًا معنويًّا مبتكرًا كما تقدم لك في غير هذا الموضع1، ولكن شاعرية صبري عجزت عن أن تنهض بمثل هذا الموضوع، وجاء شعره كثير التناقص، قريب المعاني، ضحل الغور، داني الخيال. فمن التناقض البين قوله في البيت: "ولست إن لم تؤيدني إلخ" فهو يظهر الاعتماد على قومه، وأنه ليس بفرعون العظيم إذا لم يكن كل فرد في شعبه فرعونًا آخر يؤيد عرشه ويدعمه، وفضلًا عن أن هذا المعنى من المعاني الظاهرة، وأنه ترديد لقول ذي القرنين في القرآن: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّة} فإنه مخالف لطبيعة فرعون، وما أثر عنه، ولسنا هنا بصدد مناقشة الحقائق التاريخية، ولسنا من دعاة التمسك بها إذا كانت مخالفتها إلى خير، ولكن صبري نقض هذه الفكرة بقوله فيما بعد: أمرتكم فأطيعوا أمر ربكم ... لا يثن مستمعًا عن طاعة ثانٍ فهنا يظهر فرعون على حقيقته التي عرفت عنه في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} هنا يأمرهم فرعون أن يطيعوه، ويحذرهم بعنف، ويتوعدهم في صلف "لايثن مستمعًا عن طاعة ثان"، فأين هذا من فرعون الأول المتواضع الذي يدعي التماثل بينه وبين قومه بأن جعلهم فراعين مثله يؤيدون عرشه، وأنه ليس بشيء إذا لم يحدث هذا التأييد؟ ثم ألا تشعر بأن كلمة "يوم تحصيل" ليست من الكلمات الشعرية، وإنها مأخوذة من لغة رجال الدواوين وطلبة العلم، وأنها ذهبت بروعة البيت. وفي البيت الرابع يقول: "إن ماء النيل لم يخلق لكسلان" ولست أدري لم خصص ماء

_ 1 راجع ص311 وما بعدها من هذا الكتاب.

النيل، وكل شيء في الكون صغيرًا كان أو كبيرًا لم يخلق إلا لذوي الهمة والمضاء، وخليق بالكسلان ألا يذوق جرعة من النيل أو غيره، وأن يحرم كسرة الخبز، وعلى كل فمعنى البيت ليس باهرًا قويًّا، وإنما هو من المعاني الدارجة. وفي البيت الخامس "ردوا المجرة كدًّا دون مورده" إدعاء بأن المجرة نهر يشرب منه. ومعنى البيت. إن كنتم من الكسالى العاجزين فدعوا النيل لا تقربوا ماءه، واصعدوا إلى السماء لتشربوا من نهر المجرة، أو اطلبوا موردًا آخر غيره. ولست أدري كيف يتأتى لهؤلاء العاجزين أن يردوا المجرة كدًّا، إلا على معنى أن يقول لهم. موتوا ظمأ، وذلك لاستحالة صعودهم إليه، وذلك مستحيل عليهم وعلى سواهم. فأنت ترى أن المعنى غير واضح، وفيه تناقض. وإذا نظرت إلى قوله: "وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم.... البيت" وجدته لم يقل شيئًا أكثر مما قيل من قبل: نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا ومن قول الشريف الرضي: من معشر أخذوا الفضلى فما تركوا ... منها لمن يطلب العلياء متركا ومن الأبيات القوية في قصيدة صبري هذه: مات لها الأرض من ذعر ودان لها ... ما في المقطم من صخر وصوان لو غير فرعون ألقاها على ملأ ... في غير مصر لعدت حلم يقظان لكن فرعون إن نادى بها جبلًا ... لبت حجارته في قبضة الباني ولست أوافق الشاعر أحمد محرم في انتقاده عبارة "حلم يقظان" وأنها من العبارات الجديدة في اللغة، وكيف يحلم اليقظان ... إلخ"1. وأحلام اليقظة من الموضوعات التي عنى بها علم النفس الحديث، وقد ظهر فيه كتاب ممتع في هذه الأيام2، وحرمان اللغة هذه التعبيرات الجديدة التي لها مدلولات علمية خاصة تعسف مصر اللغة. والمعنى في البيت الثالث على روعته سبق إليه في قوله:

_ 1 راجع مجلة أبوللو سنة 1924 ص109. 2 هو كتاب أحلام اليقظة للدكتور جورج جرين، وترجمه الأستاذ إبراهيم حافظ، ومراجعة الأستاذ زكي المهندس.

وأقسم لو غضبت على ثبير ... لأزمع عن محلته إرتحالا ويقول صبري في القصيدة: وآزرته جماهير تسيل بها ... بطاح واد بماضي القوم ملآن ويشبهون إذا طاروا إلى عمل ... جنًا تطير بأمر من سليمان برًّا بذي الأمر، لا خوفًا ولا طمعًا ... لكنهم خلقوا طلاب إتقان الصورة في البيت الأول تمت بصلة إلى قول الشاعر. "وسالت بأعناق المطي الأباطح" وتشبيه القوم المهرة بالجن تشبيه قديم تردد كثيرًا على ألسنة الشعراء من ذلك قول النابغة: سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت السفور جنة البقار1 وقوله عنترة: لا أبعد الله عن عيني غطارفة ... إنسًا إذا نزلوا جنًا إذا ركبوا ويظهر إسماعيل صبري في أحسن حالاته الشعرية حين يقول: أين الألي سجلوا في الصخر سيرتهم ... وصغروا كل ذي ملك وسلطان بادوا وبادت على آثارهم دول ... وأدرجوا طي أخبار وأكفان وخلفوا بعدهم دبًا مخلدة ... في الكون ما بين أحجار وأزمان وزحزحوا عن بقايا مجدهم وسطا ... عليهم العلم ذاك الجاهلي الحاني ويل له، هتك الأستار مقتحمًا ... جلال أكرم آثار وأعيان للجهل أرجح منه في جهالته ... إذا هما وزنا يومًا بميزان وهذه الأبيات تدل على نزعة قومية في نفس صبري وإن جرى في بعض هذه الأبيات في أثر البارودي في قصيدته التي مطلعها2: سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري وازدراؤه العلم الذي انتهك حرمات تلك الآثار الغالية واقتحم جلالها، وتفضيله الجهل البريء عليه معنى بديع جدًّا من صبري؛ لأن العلم لم يستطع

_ 1 السهكة: رائحة كريهة من صدأ الحديد على الأبدان، والسنور: السلاح التام، والبقار واد من أودية العرب اشتهر عندهم بالجن. 2 راجع الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث ص206 طـ السابعة.

حتى اليوم على الرغم من تبجحه أن يكشف عن كل عظمتهم، وأن يصل إلى بعض أسرارهم، ورحم الله أبا العلاء المعري حين قال: إذا علمي الأشياء جر مضرة ... إلي فإن الجهل أن أطلب العلما فالجهل بأسرار المصريين القدماء قد أضفى على آثارهم هالة من المجد الغامض، ونظرة من التقديس، أما العلم فقد حاول أن يفسر هذه الأسرار ويدنيها من عقول المعاصرين، وهذا يذهب من روعتها وقدسيتها. وتعد هذه القصيدة على الرغم مما ذكرت لك من أحسن شعر صبري، بل من أحسن الشعر الحديث، في غرضها ومعانيها وديباجتها، وحسبه هذا فخرًا. ومن الأغراض التي عقد لها باب خاص في ديوان صبري "الشكوى من الحياة" وهي من باب الزهد، وذم الدنيا، وتدل على نظرة متشائمة وهكذا كان صبري متبرمًا بالحياة، راغبًا عنها يتعجل الموت، ويتمناه، كما كان غير راض عن الناس، شأنه في ذلك شأن بعض الزاهدين الحكماء أمثال أبي العلاء، وأبي العتاهية، وصالح بن عبد القدوس وغيرهم، وإن لم يبلغ مبلغهم في زهدهم وفلسفتهم الحكمية. ومن القصائد الطريفة التي وردت في هذا الباب قوله عن "الساعة" وقد دخل مرة كنيسة "رمس" المشهورة بفرنسان، فرأى مكتوبًا على عقرب إحدى ساعتها ما ترجمته: "كلهن جارحات، والأخيرة القاتلة" يريد ساعات العمر، والساعة الأخيرة، فأوحت إليه هذه العبارة بالمعاني التي أتى بها في قصيدة "الساعة". كم ساعة آلمني مسها ... أزعجتني يدها القاسية فتشت فيها جاهدًا لم أجد ... هنيهة واحدة صافية وكم سقتني المر أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التالية فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضارية

حاذر من الساعات ويل لمن ... يأمن تلك الفئة الطاغية وإن تجد من بينها ساعة ... جعبتها من غصص خالية قاله بها لهو الحكيم الذي ... لم ينسه حاضره ماضيه وأمرح كما يمرح ذو نشوة ... في قلة من تحتها الهاوية فهي وإن بشت وإن داعبت ... محتالة ختالة عادية عناقها خنق وتقبيلها ... كما تعض الحية الباغية هذا هو العيش فقل للذي ... تجرحه الساعة والثانية يا شاكي الساعات أسمع عسى ... تنجيك منها الساعة القاضية وهي قطعة طريفة، جسم فيها الساعة الزمنية، ووهبها شيئًا من الحياة، فصارت تسقيه المر، وتسلمه إلى أختها التي بثها شكواه، وهذه الساعات فئة باغية، وقد تكون فيها ساعة جعبتها خالية من الغصص، فيجب على الإنسان أن يستمتع بها، ويكون منها على حذر، فهي غدارة محتالة، متعدية على الرغم من بشاشتها، وعناقها حنق، وتقبيلها سم فهذا التشخيص الذي أضفاه صبري على الساعة، جعل هذه القطعة حية قوية على الرغم من قرب معانيها، وأن فيها كثيرًا من المعاني المتداولة في عالم الزهد، وعند الشعراء الذين أكثروا من ذم الزمن والدنيا، كأبي العلاء، وأبي العتاهية وأضرابهم. فمثلًا قوله: "هل تشتكي جارحة الظفر إلي ضارية" قريب من المثل المشهور "المستجير من الرمضاء بالنار" والفكرة التي تدور حولها الأبيات: "فهي وإن بشت وإن داعبت ... إلخ" مأخوذة من قول الشاعر: دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدًا ونصيحته هذه بأن ينتهز الإنسان الفرصة المواتية، وساعة الصفو فيغتنمها ويتمتع بها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا مذهب طرفه بن العبد ومن أتى بعده منذ قال:

ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد وهذه الشكوى من الحياة وتمني الموت يرددها صبري في شعره، وله أبيات عنوانها: "راحة القبر" يقول فيها: إن سئمت الحياة فارجع إلى الأرض ... تنم آمنا من الأوصاب تلك أم أحنى عليك من الأم ... التي خلفتك للأتعاب لا تخف فالممات ليس بماح ... منك إلا ما تشتكي من عذاب وحياة المرء اغتراب فإن مات ... فقد عاد سالمًا للتراب وهذه نظرة سوداء للحياة، وفرار من ميدان النضال، لا تصدر إلا من نفس ضعيفة خوارة، وصبري كان يؤثر السلامة دائمًا في كل أموره، فأولى به أن يهرب من الحياة إن وجد فيها سأمًا ومللًا، وما أشبه البيت الأول بقول أبي العلاء: ضجعة الموت رقدة يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهاد 0ومعنى البيت الثاني وهو أن الأرض أم أحنى علينا من أمنا التي خلفتنا للتعب فيه روح أبي العلاء ونفسه، وهو تارة يدعو التراب أبًا. والتراب نقليه ظلمًا وهو ولدنا ... وكم لنا فيه من قربى ومن رحم وتارة يدعوه أمًا: أتعلم الأرض وهي أم ... خف زمان فما ازدهاها بأي جرم وأي حكم ... سلط ليث على مهاها وفي معنى البيت الثالث قال الشريف الرضي: فإن لم يكن فرج في الحياة ... فكم فرج في انقضاء العمر وقال المتنبي "كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا" وكذلك ليس في البيت الأيخرة جدة وقد قال المعري من قبل:

قد طال سيري في الحياة ... ولي ببطن الأرض منزل ولصبري غير هذه القطعة في شكوى الحياة ما لا يخرج في معناه عنها فالقبور مواطن الراحة، والميت هو ميت الأحياء: مقابر من ماتوا مواطن راحة ... فلا تك إثر الهالكين جزوعًا وإن تبك ميتًا ضمه القبر فادخر ... لميت على قيد الحياة دموعًا ولصبري بعض المقطوعات يناجي بها الله سبحانه وتعالى، ويسترحمه، ويطلب منه أن يعفو عن ذنوبه الكثيرة، وإن شط في بعضها شططًا كبيرًا كقوله: يا رب أين ترى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار؟ لم يبق عفوك في السموات العلا ... والأرض شبرًا خاليًا للنار أجل! إن رحمة الله وسعت كل شيء، ولكن هل اطلع صبري على جهنم فلم يجد في الأرض ولا في السماء شبرًا خاليًا من النار؟ إن هذا شطط، فقدرة الله أعظم من أن يحيط بها صبري، ولا شك أنها بلبلة استجار منها بقوله: يا رب أهلني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار ويتهكم الأستاذ العقاد بصبري حين يقول: ومر الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار يا عالم الأسرار حسبي محنة ... علمي بأنك عالم الأسرار فيقول:"إنه يستكفي الله الشطط لأنه لا يطيق العناء، وهو يستطلع الغيب؛ لأنه يتعب من الحيرة، ويجفل مما وراء الفناء، وهو يحن إلى المجهول، ولكنه لا يسعى إليه، ولا يتجشم المشقة فيه، بل يسأل الله أن يأمر الوجود ليشف عنه، ثم يسأله أن يشف عن لطف إذا شف عن غضب، وعن رحمة إذا تكشف عن جبروت1.

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.

ويقول أحمد محرم: "إنه يريد أن يرى الله، ولكن لغير ما يريدون هم: المتوصفة، فهم يطلبون المشاهدة لذاتها وأما شاعرنا فيريدها ليشهد نوعًا خاصًّا من الجمال، وحالة بعينها من العظمة والجلال، وهو يريد أن يرى الغضب قائمًا في اللطف والرحمة مائلة في الجبروت. والعقل والعلم الإلهي على اتفاق في هذا الوجود بنوعيه من كثيف أو لطيف لا يقوى أن يحجب الله جل شأنه بل هو كما قال العارفون مرآة قدرته، ومظهر صفاته"1. وأخيرًا ختم صبري هذه القطعة بقوله: أخلق برحمتك التي تسع الورى ... ألا تضيق بأعظم الأوزار وهذا رجوع إلى الثقة بالله بعدما فرط منه. وهو شبيه بقول أبي نواس: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم فهو يشك في رحمة الله طورًا: خشيتك. حتى قيل إني لم أثق ... بأنك تعفو عن كثير وترحم وطورًا يأمل في تلك الرحمة: عظمت آمالي وصغرت الورى ... من دالها إن لم تك المأمولا؟ وهو لا يدل بطاعته على الله: حاشا لمثلي أن يدل بطاعته ... فيها مسجلة على الغفار أو أن يعد وثيقة ينجو بها ... يوم القيامة من يد القهار لأنه يعتقد أن وجود الله أعظم من طاعته وما قدمت يداه: ما جئت أطلب أجر ما قدمته ... حاشا لجودك أن يكون قليلا ومن الأغراض التي احتلت صفحات عديدة في الديوان "الرثاء"، وقد رثى صبري بعض أصدقائه وأبناءهم، ورثى بعض أعضاء الأسرة الحاكمة، ورثاء صبري غاص بالحكم والواعظ من مثل قوله:

_ 1 مجلة أبوللو أكتوبر 1934 ص199.

يا من يغد بدنياه وزخرفها ... تالله يوشك أن يودي بك الغرر وقوله في مطلع قصيدته التي يرثى بها توفيق باشا. نحن لله ما لحى بقاء ... وقصارى سوى الإله فناء ويكرر قوله أن الدنيا غرارة، وكل من فيها إلى فناء، من يعيش ألف عام ومن يعيش أيامًا معدودات سواء، وهو معنى بديهي لا قيمة له، ولكنه أعجب به فذكره أكثر من مرة في قوله: سواء من يعيش الألف فيها ... ومن أيامه فيها قليلة وفي قوله: نحن لله راجعون فمن مات ... ومن عاش ألف عام سواء ولا تشعر في رثائه بلوعة الأسى وحرقه العاطفة، والتفجع والجزع، شأن الشعراء المرهفي الإحساس، الجياشي العواطف إلا نادرًا، من مثل التي قالها في الإمام الشيخ محمد عبده. تدفق دموعًا، أو دمًا، أو قوافيا ... مآتم أولي الناس بالحزن هاهيا أيجمل أن تنعى الفضائل للوردي ... ولم تك في الباكين ويحك باكيا وإن كان البيت الثاني قد جاء ضعيفًا متخاذلًا؛ لأنه لا يبكي إلا لأن ذلك لا يجمل به وهو يبكي مشاركة للباكين لا لباعث خاص سواء بكى الناس أم لم يبكوا، شأن المحزون الصادق الحزن: وقد بينا لك فيما سبق موقفه من رثاء مصطفى كامل، وكيف بكى فيه الصديق، ولم يبك فيه الزعيم الوطني، وأن رثاءه هين فاترن ومعظم معانيه في الرثاء مأخوذة من مراثي السابقين؛ لا سيما شعر الفحول أمثال أبي تمام وابن الرومي، فمن ذلك هذه الأبيات المشهورة التي يرثى بها "عمر" ولد الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد. يا مالئ العين نورًا والفؤاد هوى ... والبيت أنسًا، تمهل أيها القمر

لا تخل أفقك يخلفك الظلام به ... والزم مكانك لايحل به الكدر في الحي قلبان باتا يا نعيمهما ... وفيهما إذا قصيت النار تستعر وأعين أربع تبكي عليك أسى ... ومن بكاء الثكالى السيل والمطر قد كنت ريحانة في البيت واحدة ... يروح فيها ويغدو نفحها العطر ما كان عيشك في الأحياء مختصرًا ... إلا كما عاش في أكمامه الزهر فأرحل تشيعك الأرواح جازعة ... في ذمة القبر بعد الله يا عمر وقد تأثر في هذه الأبيات برثاء أبي تمام لولدي عبد الله بن طاهر وقد ماتا صغيرين. نجمان شاء الله ألا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا إن الفجيعة بالرياض نواضرًا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا لهفي على تلك الشمائل فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدرًا كاملًا وإن كان صبري قد تصرف في هذه المعاني، وزاد عليها، وألبستها ثوبًا رقيقًا جميلًا ومن مراثيه المشهورة قوله في رثاء صديقه أمين فكري وفيها يقول: وهبتك يا دهر من تطلب ... أبعد أمين أخ يصحب طويت المودة في شخصه ... فأي وداد امرئ أخطب وأي بديل له ارتضى ... وأي شمائله أندب أمين اتئد في النوى وارعني ... فبيني وبينك ما يوجب أتذكر إذا أنت مني النياط ... من القلب أو أنت لي أقرب وإذ نحن هذا لهذا أخ ... وهذا لذا ابن، وهذا أب حسبت بأنك لي خالد ... فكان الذي لم أكن أحسب ومطلع القصيدة فيه خلل فني واضح، رذ كيف يهب صبري للموت من يطلب -وهو من يحبه- في هدوء شامل وسخاء عميم؟ وهل يدل هذا على أنه

يحبه؟ إن المرء يتشبث بمن يحب، وينازع الموت عليه، ولو استطاع أن يستخلصه منه لفعل، وهذا هو الشريف الرضي ينبئنا عن شعوره إزاء الموت بقوله: لو كان يدفع ذا الحمام بقوة ... لتدكدست عصب وراء لوائي بمدربين على القراع تفيئوا ... ظل الرماح لكل يوم لقاء ولعل صبري يريد أن من مات "وهو أمين فكري" كان أعز إنسان لديه وليس بعده من الإخوان والأهل من يحرص عليه صبري، فإذا طلب الموت أحدًا بعده هان عليه أن يجود به؛ لأن الذي يحرص على حياته قد مات وهو معنى قديم جدًّا قاله امرؤ القيس حين بلغه أن بني أسد قتلوا والده: بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل ويقول صبري بعد هذه الأبيات شعرًا فيه محاكاة غير مرغوبة في عصرنا الحاضر للشعر العربي القديم، ذلك الذي يستمطر السماء على أجداث الموتى، وقد كان مقبولًا في الصحراء التي يشح فيها المطر، والذي يعد فيها الغيث رحمة. استمع لصبري يقول: ويا تربة حل فيها الأمين ... لأنت الفراديس أو أخصب حبست على رحمات الرحيم ... وجاءك رضوانه الصيب ولا زالت السحب منهملة ... وأنت لأذيالها مسحب وتشبيه القبر بالروضة ليس بالجديد، وقد قال تمام: مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غتداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر وقد بلغ المتنبي الغاية في هذا حيث يقول: وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الأرض طيبًا وأما الدعوة لهذا القبر بأن يجوده الحيا، فالأدب العربي القديم غاص به، ولا يحتاج منا إلى دليل فهو من التقاليد الموروثة منذ أن رثى شاعر جاهلي عزيزًا عليه. ولا تشعر في رثاء صبري بتلك اللوعة التي تحس بها في رثاء المفجوعين، وإنما يسير في رثائه على هينة كأنه يقص خبرًا من الأخبار ولقد صدق الأستاذ

العقاد حين قال في شعر صبري: "إن شعره لطيف لا تعمل فيه، ولكنه كذلك لا قوة فيه ولا حرارة. وإن شئت فقل: إن أدب الرجل كان أدب الذوق، ولم يكن أدب النزعات والخوالج، وأدب السكون، ولم يكن أدب الحركة والنهوض، وأدب الاصطلاح الحسن، ولم يكن أدب الابتكار الجسور" وضرب مثلًا على أن صبري ناعم يمثل الترف في حزنه، وحماسته، وعاطفته، وأنه تنقصه الحرارة والانفعال والعاطفة بقول: "إذا قال شاعر إن عزيمة البطل الممدوح تصدم الصخر الأشم فتهده وتمهده، قال صبري: إن عزيمة بطله "تلامس" الصخر فتنبت فيه الأزهار: وعزيمة ميمونة لو لامست ... صخرًا لعاد الصخر روضًا أزهرًا ولعلك ترى مما ذكرت لك من أغراض صبري الشعرية، ومن غرض بعض ما قاله، ودراسته أن صبري شاعر مقلد، ولم يوهب تلك الشاعرية المبدعة المبتكرة، وأنه كان قصير النفس، لا يستطيع نظم القصائد الطويلة، وأنه لم يكن شاعرًا محترفًا، وإنما كان يقول الشعر لخطرات ترد على ذهنه. هذا وقد كان صبري في مطلع حياته الشعرية مغرمًا بفنون البديع يتصنع التورية والجناس كقوله: وألبس على طول المدى حلل "الرضا ... بشعار مأمون ورشد رشيد وقوله: فيا "مالكي نعمان خدك شافعي ... لدى حنبلي العذل إذ قام بالعذر وقوله: عن رفده حدث فكم في رفده ... إنعام بحر وافر ومديد وقوله: يا عاذلي أقصر وكن عاذري ... ولا تطل لومي على سهدي وقوله: قد قلبي وانثنى معجبًا ... قال لي كيف ترى قدي إلى غير ذلك من الحلى اللفظية والمعنوية، وظل مغرمًا بهذا النوع حتى

أواخر حياته وإن خفت وطأته كثيرًا في شعره الأخير كما اختفى التاريخ الشعري، وقد ضربت لك منه أمثلة في أول هذا الفصل. لقد اشتهر صبري بحسن الديباجة، ورقة الشعر، والعناية باللفظ والأسلوب ومع ذلك وجدت له عدة أخطاء، وجل أخطائه في استعمال الكلمات والحروف من مثل قوله: حسبت بأنك لي خالد ... فكان الذي لم أكن أحسب يقال حسبته وحسبت أنه، فلا محل للباء في بأنك، ومن مثل قوله: غرها سعدها، ومن عادة السعد ... يؤاتى يومًا ويخذل دهرًا يقال من عادته أن يفعل كذا، فلا وجه لإسقاط أن، ومن مثل قوله: يا آسي الحي هل فتشت عنه في كبدي ... وهل تبيت داء في زواياها يقال: فتشت الشيء وفتشت عنه، لا فتشت في، ومثل قوله: إذا خانني خل قديم وعقني ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي ففوق السهم جعل له فوقًا، وهو موضع الوتر منه، وقد أتى الشاعر بهذه الكلمة مضمنًا إياها معنى سددت أو صوبت، والصحيح أن يقال: إلى مقاتله لا فيها، ومثل قوله: لك الإمارة والأقوام ما برحت ... بكل عاري الذرى في الكون تأتمر يقال ائتمر الأمر امتثله، وبه أمر نفسه. وائتمر فلانًا شاوره. وبفلان هم به "إن الملأ يأتمرون بك"، ولم يرد ائتمر به بمعنى اقتدى أو اتبع أمره. ومثل قوله: فأقمنا عليه في كل ناد ... مأتمًا داويًا بصوت البكاء والمعروف في كتب اللغة "مدويًا" بتشديد الواو. ومثل هذه الهنات غير قليلة في شعر صبري، وقد أتت له من الاستعمال الشائع في الصحف، وعدم التمكن في الدراسة؛ ولكنها لا تقدح في رقة ديباجته، وصقل شعره وعنايته الفائقة بأسلوبه، وهذه أظهر ميزاته الشعرية وهو بهذا يمثل أهم خصائص المدرسة التقليدية الحديثة.

محمد عبد المطلب

محمد عبد المطلب: وهاك شاعر آخر من شعراء المدرسة المحافظة على منهج العرب الأقدمين في شعرهم، يتميز عن إسماعيل صبري بعراقته في الدراسة العربية والدينية، وبأنه لم يتصل بالثقافة الغربية إلا عن طريق ما ترجم من الكتب، وقد كان قليلًا في الوقت الذي نضجت فيه شاعريته، وبأنه كان مبتديًا في خياله ومعانيه، وألفاظه، وطريقة حياته؛ وتسمع شعره فيخيل إليك أنك تسمع شاعرًا عربيًّا قديمًا عاش في العصر الأموي أو العباسي، بل يذكرك أحيانًا بشعراء العصر الجاهلي في متانة نسجه وإحكام قوافيه، وتشبيهاته واستعاراته المستمدة من حياة البادية. كان عبد المطلب على الرغم من كل هذا شاعرًا مطبوعًا، وأصيل الشاعرية، لا يفتعل هذه المحاكاة، ولا يملك أن يكون كما صوره شعره، وذلك بحكم نشأته وثقافته. ولد محمد بن عبد المطلب بن واصل بن بكر بن بخيت بن حارس بن قراع بن علي بن أبي خير حوالي سنة 1871 ببلدة "باصونه" إحدى قرى مديرية جرجا من أبوين عربيين ينتميان إلى أسرة أبي الخير، وأبو الخير هذا أبو عشيرة من عشائر جهينة تربو على خمسة آلاف عدًّا ويشاركها في الانتماء إلى جهينة عدة عشائر تناهز الخمسين ألفًا ينزل أكثرهم مديرة جرجا. وكان والده رجلًا صالحًا متفقهًا، متصوفًا، معتقدًا في بلدته، محبوبًا عند جميع عشائر جهينة، أخذ طريق الصوفية عن الخلوتية عن شيخ الطرق الشهير إسماعيل أبي ضيف ثم كان خليفة له بناحية جهينة. في هذه البيئة العربية الدينية المتزمتة نشأ محمد عبد المطلب، وحفظ القرآن -كما يقال- وهو دون العاشرة، وجاء إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ونزل وهو في هذه السن المبكرة ببيت الشيخ إسماعيل أبي ضيف بين أولاده وأسرته، ومكث بالأزهر سبع سنين، ثم التحق بدار العلوم، وتخرج فيها سنة 1896 بعد أن تتلمذ لكبار علماء عصره أمثال الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود العالم، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ سليمان العبد وغيرهم.

واشتغل بالتدريس في المدارس الابتدائية سنين عديدة قضاها في مدينة سوهاج، وتنقل بعد ذلك في عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير مدرسًا بالقضاء الشرعي قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم مدرسًا بمدارس الأوقاف الخصوصية إلى أن انتقل مدرسًا بدار العلوم في سنة 1921 وظل بها إلى أن أدركته المنية في أواخر سنة 1931. كان يحفظ القرآن الكريم، ويقرؤه ببعض الروايات. ويقول عنه زميله في التدريس بدار العلوم الأستاذ الشيخ أحمد الإسكندري. "كان حجة في الأدب واللغة، محيطًا بأكثر جزلها وغريبها، وكان شاعرًا منقطع النظير في شعره، لا يكاد سامعه يفرق بينه، وبين شعراء أهل القرن الثالث والرابع، فجدد ما كان يدرس من أساليب الشعر القديمة، وأحيا كثيرًا من غريب اللغة، ونظم من أكثر بحور الشعر وقوافيه. وكانت رحمه الله شديد الحفاظ على شعائر الإسلام، وآثاره، عاملًا على نشر آدابه، فهو من أكبر أعضاء جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية الإسلامية وله في كل منها آثار محمودة. وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها ومؤلفاتها، فلا يكاد يسمح بحديث مُزْزٍ عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور، فينبري له تزييفًا وتهجينًا، خطابة أو شعرًا أو كتابة"1. كان عبد المطلب كما رأيت عربي النشأة والمولد والبيئة معتزًّا بنسبه هذا كل الاعتزاز، يعرف للعرب فضلهم على الدنيا بكرم طباعهم، وشريف خصالهم، وأنهم أهل السماحة والنجدة، والإباء والكرم، وحسن العفو، وزادهم الإسلام فضلًا وأريحية، فكانوا النور الذي هدى العالم في حندس الجهالة والبغي، وأسسوا حضارة اقتبس منها وهو بعد يضرب في مجاهل الضلال، استمع إليه يفتخر بهذه العروبة: وأنا ابن الصيد من أنكرني ... ينكر الليث إذا ما انتسبا من أبيين كرام ضربوا ... فوق هامات المعالي قببا

_ 1 مقدمة ديوان عبد المطلب للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري.

وكفاني من فخاري نسبة ... جمعت في طرفيها العربا نحن رأس الناس في الناس ومن ... ذا يسوي بالرءوس الدنيا تركب الجلي ولا نرهبها ... يوم يلوي الناس عنها هربًا ويقول مفتخرًا بأسرته: نمت صعدًا في دوحة عربية ... هوت دونها الأفلاك منحدرات ويذكر فضل العرب على الشرق والغرب: فإن تبغنا في مشرق الأرض تلقنا ... بآثارنا معروفة في سماتها وإن تلتمسنا في بني الغرب تلقهم ... على ضوئنا يعشون في فلواتها فلله منا والعلا فقديمنا ... أحاديث حار الدهر في معجزاتها ولله ما يزها الورى من حديثنا ... إذا حدثت عنا ثقات رواتها فلم لا يفخر بنسبته إلى العرب: والدهر شاهد عدل أن لي نسبًا ... قد حل منه محل العقد في الجيد إنه من قوم سنوا للورى سنن العلاء فأحرى به أن يفتخر بانتسابه إليهم، وأن يستمسك بسننهم، ويتحلى بشيمهم. لقد سن قومي للورى العلا ... وما أنا عما سن قومي بحائد إذا افتخر الناس بمجدهم التليد فللعرب قصب السبق، وبما أنه منهم ويسير على سنتهم، فهو كذلك من السابقين يوم يباهي الناس بمجدهم: لنا قصب السبق يوم الفخار ... كما كان آباؤنا والجدود تراث لنا منذ عليا معد ... يدل به كهلنا والوليد ولا يكتفي بذكر مجد العرب هكذا مجملًا، ولكنه يحاول أن يذكر في شيء من التفصيل بعض فضائلهم الفطرية، ويتطرق من ذلك إلى ذكر نسبه وأن جهينة أصيلة في العروبة، وذلك حين يقول: ما البيض إلا لقوم بالفخار لهم ... على الزمان خلاعات وإدلال

في المطعمين على الحالين عافيهم ... إذا أصاب كرام الناس إمحال والمرحبين إذا ضاق الزمان بهم ... والمكثرين وفي الأيام إقلال والناقضين على الأيام ما عقدت ... وما لما عقدوه الدهر حلال من الذين إذا قالوا مقالتهم ... فالدهر ماض بما قالوه فعال من كل أروع في أعراقه كرم ... وفي شمائله لطف وإجمال ومن أهم صفات العرب الفصاحة، ولما كان شاعرًا فصيح البيان كان من الطبيعي أن يهتم بذكر فصاحة العرب وقوة حجتهم في الكلام: وشهرتهم في البيان. وإن تذكري أيامنا في قديمها ... سموت إلى ماض أغر نبيل سلي الشعر عنا إذا يسير قصيده ... مسير الحياة في قفرة ومحول ملأنا به الدنيا بيانًا وحكمة ... بها جاء في التنزيل خير رسول وشدنا به في كل دهر مكانة ... رست في قرار عزة وأثول ولا ينفك عبد المطلب يحدثك في كل قصيدة عن أمجاد قومه، وعن عظمة الأمة العربية التي ينتمي إليها، وهذا الشعور المتأصل في نفسه تأصل العقيدة هو الذي جعله يتشبث بمحاكاة الفحول المعرقين من شعراء العربية، ويود أن يصل إلى مرتبتهم متجاهلًا كل ما يتطلبه عصره وحضارته. زد على هذا أن محمد عبد المطلب نشأ نشأة دينية في بيت يفد عليه طلاب الهداية، ويحيطونه بالتجلة والاحترام، لاعتقادهم في والده. وهذه النشأة مع ما صاحبها من دراسة دينية في الأزهر ودار العلوم كفيلة بأن تجعل محمد عبد المطلب شديد الحفاظ على القديم، لا يفرط فيه أبدًا مهما كانت المغريات، نافرًا من كل جديد. مازوا الجديد من القديم وما دَرَوْا ... أن الجديد من القديم سليل حلبات إفك في مهالك فتنة ... هو جاء كيد غواتها تضليل دعوى وما ضربوا لنا مثلًا بها ... يجري عليه القياس مثيل وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... في العقل فهي على السفاه دليل

وقد عكف عبد المطلب في دار العلوم على دراسة الأدب العربي القديم بشغف ولذة، تغذيهما محبة قوية للعرب وتراثهم، وملكة شعرية فطرية، وإذا كان عند طالب دار العلوم أي موهبة أدبية، ولو بقدر يسير، سرعان ما تنمو وتترعرع وتزدهر في هذه البيئة العربية الخالصة، لكثرة ما يسمع الطالب في حجرات الدراسة من الكلم الفصاح، وروائع الشعر والأمثال، التي خلفها أدباء العربية في عصورها الذهبية، ولكثرة ما يحفظ من هذه الأمثال والحكم، والنوادر، والقصائد الخالدة، والحفظ هو سبيله إلى التزود من معين العربية ألفاظًا ومعاني. ولهذا تعجب كل العجب لدار العلوم، فهي في كل عهد تغص بمن يقرضون الشعر في أثناء الطلب، ويثبت منهم في الميدان، ويجلي في حلبة السباق من تعهد هذه الموهبة بالصقل والدراسة، وربما كانت دار العلوم متميزة عن سواها في هذه الناحية؛ لأن الدروس تلقي فيها بلغة فصيحة سليمة أدبية؛ ولأنها كلها تدور حول العربية، وإتقانها: نحوًا، وبلاغة، ونقدًا، وأدبًا، ولأن الطلب يأتي إليها وعنده ذخيرة سابقة من القرآن الكريم وعلوم الدين، وقدر لا بأس به من العلوم العربية، هذا فضلًا عن الرعاية والعناية والتوجيه والتشجيع من جانب الأساتذة الذين يوجهون الطالب الوجهة القومية التي تنمي من مواهبه وتدافعه قدمًا إلى الأمام فلا يلبث إلا قليلا في هذه البيئة الجديدة حتى تتفتح ملكاته اللسانية الكاملة، ويلهج بقول الشعر، ولقد صورها عبد المطلب أبدع تصوير، وبين فضائلها على اللغة العربية، وعلى الأدب والشعر بقوله يخاطبها: يا أم كم من شرعةٍ لك في الهدى ... لا وردها رنق ولا مملول وهديتنا سبل العلوم قواصدًا ... فالغور نجد والحزون سهول دان القريض لنا فأما روضه ... فجنى وأما صعبه فذلول ولنا إذا شئنا جزالة جرول ... وإذا نرق فتوبة وجميل ولربما ملك الندى خطيبنا ... والجمع بهر والمقام يقول أحييت أحياء الجزيرة من نما ... قحطان من ولد وإسماعيل

فبكل فصل منك مظهر أمة ... من أهلها وبكل يوم جيل ولو استدار به الزمان لأصبحت ... لك في عكاظ من البيان فصول هذه هي المدرسة العريقة التي درس فيها عبد المطلب اللغة والأدب على أعلامها في عصره ولهج لسانه وهو بعد طالب بالشعر القوي الفصيح، وهي بيئة عربية خالصة، لا تعرف من الثقافة الغربية إلا القدر اليسير الذي يمت إلى العلوم العربية بصلة أو يزود الطالب بحظ من الثقافة العامة، أما اللغات الأجنبية، فكانت على هامش الدراسة أحيانًا لا يعني بها الطلبة كثيرًا، وقد ألغيت في عهود مختلفة، ولم تحتل في نفوسهم مكانة ممتازة؛ لأنهم يتعملونها في الكبر، ولا ريب أنهم لم يعرفوا عن الأدب الغربي ومذاهبه وأنواعه إلا القليل عن طريق الترجمة، وقد كان هذا المترجم ضئيلًا في عهد عبد المطلب، وأشك في أنه كان يتذوق مثل هذا الأدب أو يعجب به. وقد أثرت هذه النشأة العربية الخالصة في أخلاق محمد عبد المطلب، فقد ورث عن العرب كثيرًا من صفاتهم، وأعجب بمثلهم الخلقية العليا، ومكن الدين الإسلامي الذي شب بين تعاليمه وتقاليده، ودرسه في الأزهر ودار العلوم هذه الصفات في نفسه، يتمثل هذا الخلق العربي الإسلامي في عبد المطلب حينما تقرأ شعره. إذ يطالعك في كل قصيدة بنفسه سافرة مجلوة، لا تضمر نفاقًا أو رياء. وللخلق والطبع أثر عظيم في اتجاه الشاعر؛ لأنه هو الذي يوجهه نحو الأغراض المختلفة، فإن كان كريم النفس أبيًّا، مترفعًا عن السفاسف ربأ بنفسه عن شعر المداهنة والرياء، والمدح الكاذب، والوصول عن طريق القول المزوق والخداع المنمق إلى ما تصبو إليه نفسه التي تستهين بالمثل العليا في سبيل غايتها، واتجه نحو الوطنية الصادقة، والحماسة للحق، والغرام بالخير إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة. تراه لا يرثي إلا صديقًا: ولا يمدح إلا شكرًا على مكرمة أسديت إليه، أو لأن الممدوح حقق هدفًا جميلًا من الأهداف التي ترمقها نفسه وترعاه، وهكذا كان عبد المطلب.

وحري بنا قبل أن نتعرف إلى الأغراض التي اتجه إليها شعره، أن نلقي نظرة عابرة على خلقه. كان عبد المطلب كما ذكرت بدوي الطباع، ومن شأن الطبع البدوي الجد والصرامة في الحق ومقاومة العسف. والقوة الهوجاء يمحقها ... حق قضى في أهله الغلبا وهو في هذه المقاومة، وهذا الجد لا يعرف اللين، أو الهزيمة أو النكوص عن غايته: أفتطمعون بأن تلين قناتنا ... لين الأبي على الشدائد عاب ومن شيمة الأبي الكريم ألا يتضجر أو يشكو إذا آده الحمل، وآذاه الجهاد: ليس من بشيمة مثلي أنه ... يشتكي البؤس ويخشى النوبا ويقول: أأشمت حسادي فأشكو وإنني ... أراه على الأحرار غير حلال بل يتجمل بالصبر، قوى العزم، مبرم الإدار، لا يفل له غرب، أو تهن له نفس سأصبر للأيام حتى أردها ... بصبري لما أرجوه منها حبائلا وأهمل فيها عزمة عربية تقوت ... العوالي إن مضت والعواملا ورجل من هذا شأنه في خلقه لا شك يتخلف في الحياة عن كثير من نظرائه الذين لا يثبتون في سبيل الحق وإعلاء كلمته مثلما يثبت، ولا يتمسكون بإبائهم وكرامتهم، وعزة نفوسهم ويضعونها في المنزلة الأولى مثلما يضع نفسه، وقد قال في هذا معبرًا عن ذلك النقص الاجتماعي: وإني سلبت قدري حقوقًا من العلا ... تحلى بها غير وأصبحت عاطلا فمن قبل كم عادت كريمًا وأنكرت ... حقوقًا له في أهلها وفواضلا

ولقد تغنى في شعره كثيرًا بأنه كريم النفس، والقلب واليد: ولي همامة نفس بالعلا كلفت ... قدمًا وقلب بأهل الفضل محلال يهوى الكرام وما غير الكرام له ... من البرية أخذان وأمثال أما كرم اليد فقد أفصح عنه بقوله: حبب الفاقة لي أني فتى ... يجمع الحمد ويفنى النشبا أما كرم القلب والحلم وامتلاك أزمة النفس حين يجتاحها الغضب فقد قال عن نفسه: إن الكريم إذا ما اهتاجه غضب ... لم يلوه عن طريق الحكمة الغضب ومن شأن هذه البدوي العربي، ولو كان في بيئة متحضرة يكثر فيها النفاق، وحب المنفعة الخالصة؟ وإيثارها على المثل العليا، أن يتمسك بالأصول الخلقية العربية النبيلة، إذا قواها في نفسه دين متين وعلم غزير، ونشأة في أحضان البادية منذ الصغر، وتطلب لفضائلها في كتب الأدب عند الكبر، من شأن هذا البدوي أن يكون وفيًّا لأصدقائه، عفيفًا في هواه، لا يعرف الصغائر والدنايا. أما وفاؤه فقد تمثل في ديوانه أتم تمثيل، استمع إليه يقول لصديق له: وكلما اشتد بي حال ذكرتك في ... سر فيفرج عن ذلك الحال يا روح روحي وريحاني إذا صرمت ... حبلى من الناس والأيام آمال خفض عليك فودى ليس يخلقه ... كر الجديدين أو في الناس أو مالوا إن الوفاء شيمة العربي، وقد زاده قوة في نفسه دينه الكريم: الله في الود والقربى فإن لها ... حقًّا على الناس جاءتنا به الكتب وترى هذا الوفاء في توديعه لأصدقائه وخلصائه الذين اصطفاهم لنفسه، ووافقت طباعهم طبعه، في مواساتهم إن ألم بهم خطب، وفي تهنئتهم إن ابتسمت لهم الحياة ببعض زخارفها وفي رثائهم إن أودوا واختارهم الله لجواره.

ألا ترى عبد المطلب في هذا الوفاء، وفي تلك السجايا الغر التي ذكرت لك طرفًا منها يمثل فتى من فتيان البادية الأقدمين وكأنك تتمثله عنترة الفوارس، أو عروة بن الورد أو حاتم طيئ، أو ربيعة بن مكدم في شهامته، وقوته، وكرمه، ووفائه، وذرابة لسانه، وبعده عن الدنايا: ومن كان مثلي في ذرا الأدب اعتلى ... يعاف الدنايا شيمة والرذائلا ورثت أبا بكر خفارًا وعزة ... ومن بعده أورثت في المد واصلا بها ليل في عليا جهينة أصعدوا ... على خير ما يحذو الأخير الأوائلا فذرني أسر حيث المكارم واحدلي ... على نغمات المجد إن كنت فاعلا وهو يتغزل على طريقة العرب ويبتدئ قصائده بالنسيب، وهذا لا شك تكلف منه لا يصدر عن عاطفة ولكن عبد المطلب يحب الجمال في عفة، وهو يتغزل في هذا الجمال، والعربي مرهف الحس، جياش العاطفة، ذواقة للجمال، وإذا أضيف إلى هذا الميل نحو الجمال، دين وخلق، شاعرية، رأينا عبد المطلب لا ينحدر في غزله إلى فحش اللفظ، والتغني بمفاتن النساء في مباذلهن ولا يصبوا إلى دنس الهوى. وما أنا من يصبو إلى دنس الهوى ... ولا ضل في نهج العفاف دليلي إنه يعشق الجمال، ويغري به؛ لأن له نفس شاعر، وذوق فنان، ولكنه لا يتبع النفس اللجوج هواها، ولا ينزلق في تيار الغرام وحسبه من ذلك الجمال هذه المتع المعنوية التي تنتشى لها نفسه، ولا يذهب في حميا هذه المتعة رشدها، إنه ينام ملء جفونه شأن من لم يعلق قلبه بشباك الغرام. وما شغلت عيني عن النوم صبوة ... بها شاقني طرف من العين أبرج1 ولم ينسنى حظى من الحلم والنهى ... جبين يروع الشمس بالحسن أبلج

_ 1 الأبرج: الذي يحيط بياض عينيه بسوادهما فيظهر السواد كله لا يختفي منه شيء.

ولا باب يغريني بمعسوله اللمى ... إذا ابتسمت ذاك الجمان المفلج ولكن هل يستطيع عبد المطلب أن يتصرف في فؤاده دائمًا، والحب إذا أتى فلا راد له لأن المرء لا يعرف متى يأتي، ولا كيف يأتي، ولا شك أن عبد المطلب قد غلب على أمره أحيانًا، ولكن دينه وخلقه صان هذا الحب عن الرجس. بتنا وكان العفاف سترًا ... بين الضميرين ليس يبلى وللتقى بيننا عهود ... تقدست في القلوب قبلا وما على الحب من مليم ... إذا الهوى بالتقى تحلى ومن أهم صفات العرب المتميزة الغيرة، وقد تجلت غيرة عبد المطلب وحماسته، وإباؤه الضيم في وطنيته الملتهبة الصادقة. لقد ملك حب مصر عليه شفاف قلبه. دع جانبًا تلك القصائد السياسية المتأججة التي أسلفنا القول عليها، بل تأمل عشقه لمصر، ولصعيد مصر، وترداده لذكرها بقلب مليء بحبها، مدله بها، يراها منبت المجد منذ نشأة الحياة على الأرض بل قبل ذلك: ولربما شهد الزمان وجوده ... والأرض ماء، والسماء ضباب النيل آيته، وسطر حديثه ... في العالمين، ولا بتاه كتاب1 حتى إذا برز الورى من غيبهم ... وتميزت ببنيهم الأنساب فإن عروس الأرض مصر يزينها ... أطام عز تعتلى وثياب وهو لا يتردد أن يفدي مصر بحياته، ويدعو الله أن تسلم من الأذى، وينزلها منزلة الأم: مصر أمي فداء أمي حياتي ... سلمت أمنا من العاديات

_ 1 اللابة: الحرة من الأرض أي السوداء منها، ويريد باللابتين الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية، والوادي بينهما.

ومن فرط حبه لمصر نسي أنه عربي بدوي، وراح يشيد بمناقب مينا وخوفو، ورمسيس، والحق ألا تعارض بين نسبه العربي، وفخره بمصر، وبمن شادوا مجدها القديم فهو اليوم مصر الموطن والمولد، ينعم بخيرات مصر، ويتمتع بجناتها وأجوائها، وقد دافع عن رأيه هذا بقوله: رويدك إنا في العلا يوم ننتمي ... كلانا أبوه النيل أو أمه مصر لنا آية الأهرام يتلو قديمها ... حديث الليالي فهي في فمها ذكر ملأنا بها لوح الوجود مناقبًا ... إذا ما خلا عصر تلاها به عصر وللعلم من آثارنا في جبالنا ... على الدهر آيات بها ينطق الصخر إذا جهلوا مينا وخوفوا وخفرعا ... فليس "برمسيس على ملكه نكر لنا كل ما في الأرض من مدينة ... بها تعمر الأمصار والبلد القفره لنا في الورى حق المعلم لو رعوا ... لنا ذمة وادهر شيمته الغدر ويقول في هذه القصيدة مضمنًا المثل الأوربي المشهور "الدين لله والوطن للجميع". كلاهنا على دين به هو مؤمن ... ولكن خذلان البلاد وهو الكفر إذا ما دعت مصر ابنها نهض ابنها ... لنجدتها سيان مرقس أو عمرو وهو في وطنيته هذه يأنف من الاحتلال وذل العبودية والاستعمار؛ شأن العربي الذي ألف الحرية المطلقة: حرام علينا أن نعيش أذلة ... وذو الذل أولى ما يكون به القبر ولما رأى الخلف دبب بين المصريين بعد ثورتهم العظيمة، وانقسموا شيعًا وأحزابًا وهنت بها قوى مصر، وخفت صوتها في المطالبة بحقوقها قال: فيا مصر إن عز الوفاء فإننا ... على العهد لا نلوي ولا نتغير

إذا صاع قوم بالخلاف رأيتنا ... لبرك أيقاظًا لضرك تحذر1 أتخذل مصرًا في بنيها وهذه ... ذئاب الليالي حولها تتنمر وقد ندد بهذا الخلاف في قوة وصرامة، وأنذر قومه عاقبة أمرهم، وأنها خسران مبين وضايع للوطن: عبثت بوحدتنا الخطوب وأعملت ... في غرس أيدينا يد الإتلاف والخصم يحجل بيننا للشر في ... ثوبين ثوب موافق ومنافي متنمر يغري العداوة بيننا ... بالكيد والتفريق والإرجاف أو ليس فيما قد مضى من عبرة ... لبني أبي والأسر ليس بخافٍ أو لم يروا أو يسمعوا نذر الورى ... تطوى إلينا لجة الرجاف2 ولعلك تذكر قول مطران في صعيد مصر، وتعليقنا عليه بأنه لم يكن محبًّا له، ولو كان محبًّا حقًّا لرأى مساوئه مفاخر، وشينه زينًا3 على حد4 قول الشاعر القديم: فتضاحكنَ وقد قلنَ لها ... حسنٌ في كلّ عين من تود وعبد المطلب كان عاشقًا لمصر ولصعيدها، يرى الجمال حيث لا يراه سواه والمحب مفتون. سر الجمال جمال مصر إذا سرت ... ريح الشمال بها وعب النيل بلد جريت إلى المنى في ظله ... سبحًا على اللذات وهي شكول أرد المرابع والمصايف سادرًا ... أختال بين ظلالها وأجول لي في الصعيد إذا شتوت منازل ... فيها سراة العالمين نزول بهرت مصانعها الزمان ولم تزل ... للعقل فيها حيرة وذهول

_ 1 صاع: تحامل بعضهم على بعض. 2 الرجاف: البحر: سمى بذلك لاضطرابه. 3 راجع ص171 من هذا الكتاب.

جلست على الآباد في جبرية ... يقف البلى من دونها، فيحول1 مشتى الملوك، مراد أرباب النهى ... هذا يحل بها وذاك يزول فيح إذا نهض القريض لوصفها ... يحلو القريض بوصفها ويطول وإذا بكى الأثلاث "يحيى" شاقه ... مغنى جفاه بقدر قرى ومقيل2 عنيت نشوان القريض يهزني ... سدر بريف جهينة ونخيل هذه هي نظرة المحب، وشتان بين نظرة عبد المطلب ونظرة مطران للصعيد، وقد بلغ من حبه لمصر وللنيل أن يطلب من محبوبته أن تحب النيل معه، أو أن تحبه حبًّا يعادل حبه للنيل: عديني حب النيل إني أحبه ... ولا تمطلي فالحر غير ملوم وأفصح عن هذه المحبة وهو بعد شاب، في أول عهده بالتدريس، وأخذ ينشئ تلاميذه على تقديس مصر والوطن والفناء في خدمتها ورقيها، فيحفظهم قوله: نعم لخدمة مصر ... نرى الكثير قليلا بلادنا ترتجينا لها ... النصير الكفيلا مصر لنا خير أم ... عن حبها لن نحولا فإن رأتنا صغارًا ... غدًا ترانا كهولا ذوي نفوس كبار ... نبغي المكارم سولا

_ 1 الجبرية: الجبروت والقهر والقوة، ويحول: يتحول. 2 الأثلاث: شجر الأثل، ويحيى هو ابن طالب الحنفي. وكان شيخًا فصيحًا يقري الناس. أثقله الدين بسبب ذلك فنزح عن قرقري، فلما وصل خراسان حن إليها، وتذكر أيامه في ظل أثلاثها فقال: أيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنينى إلى أطلالكن طويل ألا هل إلى شم الحزامى ونظرة ... إلى قرقرى قبل للمات سبيل

هذه قطرات من فيض الشعر الوطني الذي خلفه عبد المطلب، ولقد بينت بعض اتجاهاته في غير هذا الموضوع1، وكله ينبئ عن نفس حرة غيور تأبى الذلة، وتضيق بالعبودية؛ ولقد كان قاسيًا على الأعداء، سلط عليهم من لسانه نارًا حامية، بل كان من أجرأ الشعراء وأعظمهم أثرًا في الثورة ولا ريب أن النشأة البدوية العربية الدينية ولدراسته أثرًا قويًّا في هذا الاتجاه، وفي هذه الحماسة التي لا تهاب شيئًا. والآن، وبعد أن عرفت شيئًا عن خلقه وعن أثره في شعره، دعنا نلقي نظرة عجلى على هذا الشعر: شعره: ومحمد عبد المطلب شاعر غنائي ذو وتر واحد، ولكنه وتر قديم، وقد يترنم أحيانًا بنغمات جديدة حين يعرف أغنيات الوطنية أو يصور بعض الحالات؛ حاكى في شعره الأقدمين من فحول الشعر العربي ووعى من ذخائر اللغة ما مكنه من أن يتصرف في الألفاظ كيف شاء، ولا بدع فقد قرأ القرآن صغيرًا واستظهره، وقرأه بالقراءات، وحفظ دواوين الفحول. ومحمد عبد المطلب نسيج وحده في العصر الحديث؛ لأنه يتبدى في شعره: خيالًا ولفظًا، ومعنى، ولم يحد عن طريقة العرب في نظم القصيدة، وطريقتها، وإن كان قد حاول التجديد في القالب حين نظم مسرحية "ليلى العفيفة"، ومسريحة "المهلهل بن ربيعة وحرب البسوس"، وحين كتب قصة امرئ القيس، وطرزها بشيء من شعره، ولكن المعاني والخيالات ظلت بدوية شأن بقية شعره. قلنا إن محمد عبد المطلب نسيج وحده؛ لأن شعراء المدرسة القديمة أمثال صبري، والبكري، وحافظ، ونسيم وغيرهم حين حاكوا الشعر العربي القديم، لم يلجئوا إلى غريب اللغة، والعصر الجاهلي، وإنما حاكوا شعراء العصر العباسي الممتازين، وشعراء الصنعة في العصر المتأخرة، وشعراء مصر المشهورين بالرقة أمثال البهاء زهير، والشاب الظريف. أما محمد عبد المطلب فكان لتمكنه في اللغة، وحفظه لغريبها يحاكي شعراء بني أمية أو شعراء العصر الجاهلي.

_ 1 راجع ص129 من هذا الكتاب وما بعدها في شعر عبد المطلب السياسي.

إن محمد عبد المطلب كان يعيش بخياله الشعري في جزيرة العرب، يستمد منها تشابيهه ويرى معالمها بين خياله فيسجلها في شعره، أو كان روح شاعر من شعراء الجاهلية أو العصر الأموي قد تقمصت جسده، فهي تحكي ما كانت ترى في العصر الذي عاشت فيه، استمع إليه يقول: ولاحت لعيني تلك البروق ... بوادي تهامة والمنحنى ومرت تهادى نجارية ... لها زفرت ترج الفلا1 ذكرت ربوعًا لسلمى مضى ... منا لعيش في ظلها ماضي ولا شك أنه لم ير في مصر بروقًا، ولا وادي تهامة ولا المنحنى، وإنما سبح بخياله في تلك الديار، واستمع إليه يقول من قصيدة أخرى: سقيت الندى يا منزل الثمرات ... وجاءتك غر المزن منهمرات مغان بها عيش الصبا أن ناعمًا ... وغرس الأماني طيب الثمرات وقفت بها صحبي فحيت ركابنا ... ضواحك من أزهارها النضرات ولم ينسنى عهدي به منزل الغضا ... وغر ليال فيه مزدهرات ولا مسرح الآرام فيه أوانسًا ... تهادين في شرخ الصبا خفرات فمنزل الغضا، ومسرح الآرام ليس بمصر، وإنما هما في نجد أو الحجاز. إن عبد المطلب يتشوق أن يرحل إلى الحجاز أو نجد، ويستعيد عهد أسلافه، فروحه متعلقة بتلك الديار، ولا أدل على ذلك من قوله: برق يلوح، وسائق يحدو ... يا شوق هل لك غاية بعد ونوى تشط بنا مطرحة ... أنا فالغوير ودارهم نجد يا رحمتا كبد تخونها ... برح الغرام، ولاحها البعد ذكرت معاهدنا بذي سلم ... أفلا يعود لنا بها عهد2 لو أن أيام الغضا رجع ... أو أن ما سلفت به رد فهو يتشوق لنجد، وذي سلم، وقد شطت به النوى حتى تفطرت كبده من شدة الغرام وغيرها البعد؛ لأنها ذكرت معاهدة بذي سلم "موضع بالحجاز"

_ 1 تجارية: ذات نجار وأصل. 2 ذو سلم: موضع بالحجاز.

ويتمنى أن تعود تلك العهود، وترجع أيام الغضا، إلخ، وليس هذا شعر شخص يعيش في مصر ويرى النيل والجزيرة، وسيف البحر المتوسط، والمغاني العامرة، والجنان الفيح، والآثار الباهرة، إنه يعيش في مصر بجسده، ولكن روحه في رحلة طويلة إلى جزيرة العرب، وقد تعود فترتد مصرية الشعور والعاطفة. ولما قال شوقي قصيدته المشهورة "اختلاف النهار والليل ينسى" يتشوق فيها إلى الثغر والمكس، ويحن حنينًا شديدًا لمصر ويقول: يصبح الفكر والمسلة ناد ... يه وبالسرحة الزكية يمسي وينفثها نفثة الملتاع من حر للفراق، الذي تجسمت أمامه كل معالم مصر، وتفطرت نفسه حسرات أسفًا لغيابه عنها، وشوقًا إليها أجابه عبد المطلب بأنه إذا حن إلى مصر فإنه يحن إلى "الغوير وجلس" حين يقول: ما له في الحنين يضحى ويمسي ... شفه البرق لاح من "عين شمس واستخفت به الصبا فتناسى ... عهده في الوقار والشوق ينسى حن في شجوه إلى جبل الطيـ ... ـر حنيني إلى الغوير وجلس1 وهو يشبه نفسه بامرئ القيس إذ يبكي ما بين "حومل فالدخول": مالي وللربع المحيل ... أبكيه بالدمع الهطول نوع الحمامة رجعت ... بين المعاهد والطلول أو كابن حجر إذ بكى ... ما بين حوامل والدخول وقد تهيم نفسه، ويغلو في حنينه إلى تلك الديار التي يسبح خياله في عرصاتها ووديانها والتي تشبع بها عقله من كثرة ما قرأ في الأدب القديم ووعي منه، ولكثرة ما فكر فيها فيفضل الخزامى على رياض النيل، وثرى نجد وإن كان حجارة على تربة مصر الخصبة الممرعة، والسحب التي تمر بنجد وإن كانت جهامًا على النيل العظيم، وهذا غلو منه ولا ريب، وجموح في الخيال، ولم يصدر

_ 1 الغوير: ماء لبني كلب، وجلس: بلاد نجد.

عنه ونفسه في اتزانها وهدوئها، وعقله في تمام وعيه، ولكنه الهيام والشوق إلى معيشة البادية، والحنين إلى الماضي العتيق: فذكا الشوق بقلب لم يخن ... لربي نجد وإن شطت ذماما لم يخن عهدًا لأيام الغضا ... إن أيام الغضا كانت ذماما ما رياض النيل ما عهدي بها ... ناعم العيش كعهدي بالخزامى ما ثرى مصر وإن كان الثرى ... كثرى نجد وإن كان رضاما لا ولا النيل وإن كان الحيا ... كغواديها وإن مرت جهاما وشاعر هذا خياله البدوي، وهذا ثقافته القديمة لا ينتظر منه أن ينتزع تشبيهاته واستعاراته وألفاظه إلا من تلك البيئة المتبدية، وإلا أن يحاكي الشعراء الأقدمين، ويحاول جهده أن يكون مثلهم في كل شعره، فعاطف بركات حين مات تحمله "نجب الردى". وهل حملت نجب الردى مثل راحل ... بكته المعالي من بني بركات وعدلي وزملاؤه في الوزارة "أسد بيشة". في رفاق هم أسد بيشة بأسًا ... أو هم النجم في سناء ونبل1 وأحمد تيمور حين يموت جبل أشم يصير إلى القبر: وأرى المكارم يوم أحمد صورت ... فسعت إلى الأجداث وهي سرير يا حامليه إلى الثرى أرأيتم ... شم الجبال إلى الرجام تصير2 ويرى الموت يغتال عظماء مصر واحدًا بعد الآخر، فيرمي اليوم قارحًا، وفي الصبح غد جازلًا3، فرجال مصر في رأيه جمال. ما للردى في مصر مستأسدًا ... يعدو على أبنائها غائلًا

_ 1 بيشة: مكان على خمس مراحل من مكة جهة اليمن وبها نخل كثير، وفي وادي بيشة موضع مشتجر كثير الأسد. 2 الرحام: القبور أو الحجارة تنصب عليها. 3 قرح الفرس: بلغ الخامسة من عمره فهو قارح، ومثله الجمل، والعازل من الإبل ما كان في التاسعة من عمره، ويريد أن الموت يخترم رجال مصر شبانًا وشيبًا.

إذا رمى اليوم بها قارحًا ... منهم رمى صبح غدٍ بازلا وحين يرثي سعد زغلول يمدحه بأنه كريم النجار، شريف المحتد فيقول: أن "محتد خندفي"1. وعدلي يكن يسافر للمفاوضة فهو "يزجي إلى حلبات السلام النجب": قالوا السلام، فقام قائدنا ... يزجي إلى حلباته النجبا وحبيبته: ذليلة أجفان عزيزة معشر ... لها الأسد أهل والأسنة غيل بداوته، وعدم تأثره بالإسلام، وغاية الرقة عنده رقة "توبة" أو رقة جميل بن معمر: ولدا إذا شئنا جزالة جِرْوَل ... وإذا نرق فتوبة وجميل أما نسيبه وتشبيهات حبيبته في البداوة، ولا أستطيع أن أسوق هنا كل ما قاله في النسيب من هذا الطراز البدوي، وحسبي قطعة واحدة لأن كل نسيبه على هذه الشاكلة، قال فيما سماه "دالية أسوان". خليلي قلبي لسلمى عميد ... ووجدي بها كل يوم يزيد يذكرنيها إذ جن ليلي ... شمال تهب وغصن يميد وبرق يلوح وطير ينوح ... وحاد له في المطايا نشيد فأما الشمال فتهدي شذاها ... وكالغصن ذاك القوام الميود ونوح الحمام نشيد الغرام ... ينشف سمعي منه القصيد وما البرق إلا وميض الثنايا ... إذا ابتسمت فهي در نضيد وأبكي إذا ما حدا الركب حاد ... لما كان يوم افترقنا بعيد تناءى بك البين عن دار سلمى ... وكل قريب المطايا بعيد

_ 1 خندف، قبيلة عربية مشهورة بالكرم والنجدة ولعله يريد خندفيًّا من الخندقة وهي الإسراع لإغاثة الملهوف.

فهل لك في صفو عيش رجاء ... ومن دون سلمى فياف وبيد رعى الله عهدك من عالج ... وحيا ربوعًا حوتها زرود1 وعهد الهوى بيننا قائم ... أو أخيه محكمة والعقود ليالي اللهو بها لا أخاف ... القلى والحواسد عنا رقود إلى غير ذلك من هذا النسيب الذي يدل بادء الأمر على أنه مفتعل لم يصدر عن عاطفة وإنما قيل محاكاة للأقدمين في ابتدائهم القصائد بمثل هذا النسيب، ويدل بعد ذلك على عدم ابتكار في أي معنى من معانيه، فكله ترديد لما قال شعراء الجاهلية والعصر الأموي، ولا أود أن أقول العصر العباسي لأن هؤلاء ربما افتنوا في المعاني، ويدل ثالثًا على خيال بدوي لشاعر يقيم في الصحراء، وتشتد حساسيته للبرق، ولقدوم الليل، ولريح الشمال حين تهب، وتحرك الغصن، وللطير حين ينوح، وللحادي الذي ينشد المطايا يستحثها على السير؛ لأن لهذه الأمور معنى لديه، إذ تذكره ببعض التغيير في حياته الرتيبة؛ ولأن في بعضها منافع له كالبرق وهو نذير المطر، والحادي وهو يقدم القافلة سواء كانت آتية بتجارة، أو ذاهبة بها، فهذه أمور تتصل بحياة البدور ويهتمون بها أكثر من اهتمام الحضر له. ثم ألا تراه يتذكر عهدها بعالج وزرود، وأين الشاعر من عالج وزرود وهو يعيش في حضن النيل العظيم وفي كنف القاهرة عروس الشرق؟. إن هذا تقليد عجيب عللنا له فيما سبق بأن خيال الشاعر يفلت منه أحيانًا، ويهيم بالبادية، ثم أين هو الحادي الذي يحدو الركب، فيبكيه ويشجيه، وليس في مصر إلا القطر البخارية؟ وهل حقًّا من دون سلمى فياف وبيد؟ أتقيم سلمى في مصر أم في الجزيرة العرب؟ إن كل هذا يدل، ولا ريب، على أنا الشاعر يحاكي بهذا البيت شعراء البادية، بل إن لشعراء البادية غزلًا عاطفيًّا جميلًا ينم عن لوعة ترعى الفؤاد، ونار غرام عاتية، وقد افتنوا في المعاني الغزلية، وأتوا بكثير مما يقال في إخلاف الوعد، والهجر، والشوق، والعذال، واللقاء، وحسبك أن تقرأ شعر جميل بن معمر. وكثير عزة، وقيس بن الملوح، استمع إلى قيس بن الملوح يقول في ريح الصبا وأثرها في نفسه ومنزلتها عنده:

_ 1 عالج: رملة بالبادية وقيل: هي رمل بين فيدو القريات ينزلها بنو بحتر من طيئ وهي متصلة بالثعلبة على طريق مكة، لا ماء بها ولا يقدر أحد عليها، وزرود: رمال بين الثعلبة والخزيمي بطريق الحاج إلى الكوفة.

أيا جبلى نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلى نسيمهم أجد بدرها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس محزون تجلت همومها هذا وحبيبة عبد المطلب -وإن كانت له حبيبة- ليست إلا ظبيًا أو جؤذرًا1 صب بربع البادنة الأخضر ... بات صريع الظبي والجؤذر وإذا ترك ربع البانة الأخضر وتذكر أنه في مصر، وانتقل بهذا الجؤذر إلى سيف الجزيرة على النيل. على النيل من سيف الجزيرة جؤذر ... هفا قائهًا والحسن بالتية يأمر أو انتقل به إلى "الحلمية": درجن من الحلميتين فما المها ... إذ ما توسطن الطريق وما العفر2 فهن كأسراب الحمام تتابعت ... سوابح مرماها الجزيرة والجسر لقد انطبعت هذه الصورة والتعبيرات في ذهنه، وكان له بها غرام، ولقد هام بغريب الألفاظ هيامًا عجيبًا، وضمن قصائده كثيرًا من أمثال العرب المشهور منها وغير المشهور مما يدل على غزارة محفوظه من التراث القديم، من ذلك قوله: عدونا إذا بانت بكم عن رباعنا ... نوى قذف بالعود، فالعود أحمد وقوله: أسعديهن بالهديل فقد عيَّ ... لسان القريض بالإسناف3 وقوله: وإن تر شعبًا بالجهالة سابحًا ... فقل لعداه رمد الضأن ربق

_ 1 الجوذر: البقرة الوحشية، وتشبه به الحسناء في جمال عينيها، وهفا: مر مسرعًا، وتائها: متكبرًا 2 المها: بقر الوحش واحدها مهاة والعفر من الظباء: التي يعلو بياضها حمرة. 3 الإسناف: مصدر أسنف بمعنى شد البعير بالسناف، والسناف للبعير بمنزلة اللبب للفرس ويقال "عي فلا بالإسناف" إذا دهش من الفزع كمن لا يدري أين يشد السناف.

مأخوذة من المثل: "رمدت الضأن فريق ربق"، ورمدت الضأن نزل لبناها قبل النتاج، وربق أي هيئ الأرباق وهي الحبال التي تشد فيها رءوس أولادها، ومعنى المثل إن الضأن قد عظمت ضروعها فأعد الحبال لأولادها، وهو يريد أن هذا الشعب السابح في الجهالة اليوم سيكون منه ما لا ينتظر وقوعه في غد. وهو يعدل عن الكلمات المألوفة إلى الكلمات الغربية لغير ما عذر أحيانًا مثال ذلك قوله: يلقى أخاه كما يلقى أباه على ... حال بها يتباهى الخيم والأدب فاستعمل كلمة الخيم بدل الطبع أو الخلق، و"الطبع" تستقيم في البيت، ومثل كلمة "الرجام" أي القبور في قوله: ما زلت سرًّا في الرجام محجبًا ... من دونه الصخر الأصم حجاب وله استعمالات مغرقة في الغرابة كقوله: وكواكب تجري على فَلَك الردى ... فاليومُ أيوم والنهار شرير وقوله: فما لداري أصبحت حجرةً ... فيها نبا جنبي عن مضجع حجرةً أي: كثيرة الحجارة، وقوله: فوارحمتا لابن الحكومة قوسه ... قلوع وهل يرجى سداد قلوع والقوس القوع هي التي تنفلت حين النزع فتنقلب، فلا يرمى بها، وإذا رمى بها فلا يصاف الهدف. وقوله: "نجلته أمهة" يريد أما1، والخمر عنده "جربال" في قوله: يهفو النسيم عبيرًا من شمائله ... كأنما هو في الألباب جربال ولا نشعر حين يختار القوافي الصعبة النادرة كقافية الجيم، أو القاف مثلًا أنه يتكلف هذه القوافي، أو أنها قلقة، أو أنه برم بها، فلا يلبث أن يوجز وينهي القصيدة، وإنما الأمر عنده على العكس فقصيدته القافية في حوادث الحرب الكبرى الأولى تزيد عن المائتي بيت جمع فيها كل قافية مستعصية مثل "الزنيم الخفلق2"، و"ميثاء سملق3" و "الحارس المتنفق4"، ومثل قوله:

_ 1 ص176 من الديوان. 2 الزنيم: الملحق بقوم ليس منهم كأنه زنمة، وهي ما يقطع من أذن البعير والشاة فتترك معلقة، والحقائق: الأحمق الضعيف. 3 الميثاء: الأرض السهلة، والسملق: الأرض المستوية الجرداء التي لا شجر فيها. 4 حرش: الضب صاده فهو حارش، وهو أن يحرك يده على جحرة ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وتنفق الرجل اليربوع أخرجه من نافقائه فهو متنفق.

فما لبثوا أن أرزم الموت بينهم ... بداهية من حول غزة بهلق1 ومثل قوله: فهذا فريق في التلال مصرع ... وذلك فوق الأمعر المتوهق2 وهذه القصيدة وحدها أكبر دليل على تمكنه من غريب اللغة. وله غيرها قصائد وعرة القافية واللفظ كقصيدته في رثاء حمزة فتح الله التي مطلعها: كبد بما صنع الأسى تتمزع ... بأن الخليط بها عشية ودعوا وكل شعره جزل قوي التركيب، شديد الأسر، محكم القوافي، غاص بالغريب، له جللجة ورنين في الأذن واسنجام موسيقي رائع، يدل على أن صاحبه لم يتكلفه وإنما كان ينطلق من لهاته كالسيل جارف. وإذا نظرنا إلى أغراضه وجدناه يقول في الأغراض المعروفة عند العرب من قبل، وإن كان قليل المديح؛ لأنه لم يك يرجو ثوابًا من أحد، أو يطمع من منصب، وليس من شعراء الحاشية وطبعه البدوي يربأ به عن الزلفى والنفاق، ولذلك لم يمدح إلا لفكرة، أو غاية سامية، وَجُلّ ثنائه على أصدقائه الذين أسدوا إليه جميلًا، وليس له في السطان عبد الحميد إلا قصيدة واحدة بمناسبة إعلان الدستور، وقد كان نافرًا من حكمه ينعى عليه استبداداه وجبروته، وقد ذم عهد عبد الحميد في قصيدة طويلة بعث بها إلى صديقه الشيخ عبد القادر المغربي، وكان مضطهدًا في عهد عبد الحميد وفيها أبيات تجري مجرى الأمثال، من هذا قوله: إذا الملك لم يعط الرعية حقها ... فغير عجيب أن يهان ويخلعا وقوله: وما الملك إلا ما أقامت له الظبا على الحق صرحًا سامي العرش أتلعا3 وليس له في الخديو عباس سوى قصيدتين إحداهما قالها حين عاد الخديو من الحج ولقد أفاد عبد المطلب من إنصرافه عن المديح، فعنى بالأمور العامة لوطنه، ومراثيه أكثر من تهانيه ومديحه، وهي قوية جدًّا، تنم عن عاطفة غلابة،

_ 1 أرزم الرعد اشتد صوته، والناقة جنت على ولدها، والبهلق: الداهية قال رؤبة: حتى ترىالأعداء مني بهلقا أنكر مما عندهم وأقلقا 2 الأمعر: المكان الصلب، الكثير الحصى، والمتوهق: الشديد الحرارة. 3 أتلعًا: مرتفعًا.

ولم يرث إلا صديقًا أو زعيمًا وطنيًّا، وقد علمت مبلغ وطنيته، وصدق ولائه لفكرة الوطن والاستقلال، وعداوته للمحتل الغاصب، فإذا مات الزعيم فقد فقدت الأمة قائدًا محنكًا وهي في أمس الحاجة إليه وإذا رثى أعطاك صورة واضحة عن المرثي، ولا يحفل بهذه الحكم المبتذلة، والمواعظ المتصنعة؛ وذلك لأنه يقول عن عقيدة وفكرة، ومرعفة تامة بخلال من يرثي وأعماله ومنزلته. خذ مثلًا رثاءه لسعد زغلول: نعى الناعي بجنح الليل سعدا ... فيا لله ما فعل الصباح جموع بالعراء مدلهات ... تموج بها على السعة البراح وأفئدة خوافق داميات ... تفري في جوانبها الجراح1 وأجفان أجف الدمع فيها ... جوى بالضلوع له التياح2 وأبصار سكرن فلا انطباق ... ترف به العداة ولا انفتاح وليل بالأسى والخطب ساج ... ويوم من جوى الأحشاء راح3 فلا تلم النفوس جرين دمعًا ... وراء الظاعنين غداة راحوا أتلحا أمة ثكلت أباها ... أضلهم الحجا فبكوا وناحوا إذا كتموا الأسى جلدًا ألحت ... عليهم لوعة البلوى فناحوا أن لولاه وما عرفوا حياة ... ولا عرفانًا للاستقلال راحو4 ثم يروح يصور لك سعدًا ومنزلته، وما صنعه لقومه تصويرًا بديعًا قويًّا، مشوبًا بعاطفة تضطرم بين جوانحه أسى ولوعة لفقد هذا الزعيم، وكل مراثيه عامرة بهذه العاطفة، مما يدل على أنه لم يكن يرثي مجاملة أو نفاقًا، وإنما كان يرثي لأنه محزون مكلوم الفؤاد، استمع إلى رثائه في صديقه الشيخ عبد العزيز جاويش بعد مضي عام على وفاته وكيف يبدأ قصيدته: ليل شربت به الهموم أجاجا ... جعل الأسى لكؤسهن مزاجا

_ 1 تفري: تقطع. 2 الالتياح: الحرقة والعطش 3 راح: شديد الريح. 4 راحوا -شموا.

خرست جوانبه ولج ظلامه ... يا ليل مالك بالدجى ملجاجا وله فيه قصيدة أخرى طويلة حين وفاته وفيها يقول: يا قوم من أبكى ومنذا الذي ... أنعى إليهم بالأسى ذاهلًا أنعى أخا العمر شقيق الصبا ... هيهات قد ولى الصبا حافلا من لمضيم لم يجد موئلا ... من ليتيم لم يجد عائلا من للتي تحت سواد الدجى ... يزري أساها دمعها إلهامًا ما بين أطفال كزغب القطا ... ما كسيت رفًا ولا طائلا1 عودها عبد العزيز الندى ... ترجو لديه غيثها الثاملا2 دار العلوم احتسبي فقده ... نجمًا هوى تحت الثرى أفلا أرسلته نحو العلا فانبرى ... لأواهن العزم ولا واهلا3 يغريه بالبأساء حب العلا ... يلذ فيها الموقف الهائلا سائل به "برلين" إن شئت أو ... لندن أو باريس أو نابلا وأسأل به "جيرون" أو أختها ... فروق وسائل به كابلا4 كل له فيها مقام على الـ ... إسلام لم تعدل به عادلًا مجاهد في الله لم يرتقب ... من أحد برًّا ولا نافلا ويؤسفني أن يضيق المقام عن إثبات هذه القصيدة كلها هنا؛ لأن ما اخترته منها ليس بخيرها، وهو غير مرتب؛ لأنها كسائر شعره في الرثاء من عيون القصائد، وإن كانت معانيه كلها قديمة، ولكن عاطفته وحسن تصويره لمواقف الحزن، وإشادته بمآثر المرثي تضفي على القصيدة روحًا جديدة. ولعلك تلحظ أنه

_ 1 الرف. صغار الريش، والطائل: القدرة والرغد من العيش. 2 الثامل: من ثمل قومه بمعنى أغاثهم وأطعمهم، وسقاهم وقام بأمرهم. 3 الواهل: الفزع. 4 جيرون: موضع عند باب دمشق، وفروق: اسم القسطنطينية.

يظهر اللوعة والألم وشدة الحزن في رثائه وهذا شأن الشعراء الذين يرثون وهم مفجوعون، ولا تجد له في رثائه بيت حكمة أو موعظة كما ترى عند شوقي، فالقصيدة كلها في المرثى، وبعد هذا الباب من أقوى أبواب شعره. وثمة غرض آخر من أغراض شعره كان فيه صادقًا لأصله العربي، وذلك هو الوصف، فقد اشتهر العرب بالدقة في الوصف، ولا سيما إذا كانوا بدوًا؛ لأن الصحراء قد أرهفت حواسهم، فعنوا بدقائق الأشياء، وقد بينت فيغير هذا الكتاب أثرها فيهم وفي أدبهم1. ومن الغريب أن عبد المطلب يحسن تصوير الحالات أكثر من تصوير الأشياء، ولعلك تتذكر ما نقله نجيب حداد عن الفرق بين الشعر العربي والغربي2 في هذا الموضوع، وأن الغربيين اشتهروا بوصف الحالات على العكس من العرب، وهذا يدل على شاعرية قوية لدى عبد المطلب، ولو أوتيت حظًّا من ثقافة غربية أو وجهت توجيهًا لأبدعت أيما إبداع. ومن تلك الحالات التي صورها فأجاد تصويرها حال المعلم، وتعسف الإنجليز في مصر وتصوير حاله وهو ضيف بقصر الباسل، وتصويره لموظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى، وما عاناه من غلاء، وبؤس وشقاء، وتصوير للجنود الإنجليز وسواهم بمصر أيام الحرب العالمية الأولى، إلى غير ذلك من الحالات التي أهاجت شاعريته، فاستجابت لها، وأبدعت في تصويرها. خذ مثلًا قوله يصف حال بعض الطلبة المصريين وقد هوى بهم قطار في طريقهم إلى برلين يطلبون العلم بعد الثورة المصرية: حملوا منى لو أن جذوتها ... لفحت جبال الألب تستعر بأبي نفوس في الدنا زهدت ... فمضت لدار الخلد تبتدر بأبي غرانيق الصبا ذهبت ... أشلاؤها في الترب تنتثر بأبي دم قانٍ هناك جرى ... فوق الثرى كالمسك ينتشر

_ 1 ارجع إلى النابغة الذبياني ص45 وما بعدها، وإلى الفتوة عند العرب الفصل الثاني. 2 راجع فصل النقد الأدبي من هذا الكتاب.

بأبي صريع ولا وساد له ... إلا الثرى المخضوب والحجر صاح يخد الأرض من ألم ... أو ذاهل مما به خدر ولربما نادى أبي ودعا ... أمي ودمع العين ينحدر لقد استطاع عبد المطلب في هذه القطعة أن يحلق في سماء الخيال ويستحضر المنظر البشع، ويعطيك منه صورة قريبة من الحقيقة وهذه هي الشاعرية المركبة كما مر بك، استمع إليه كذلك يصف حال المعلم وبؤسه، وكده في سبيل العيش، وسهره المتواصل في سبيل النشء، والناس يثرون وهو لا يزال في فقره. سلو عنه جنح الليل كم بات متعبًا ... تناز حواليه النجوم ويسهر سلو عنه يمينًا قرح السهد حفنها ... يخط عليها في الظلام ويسطر سلوا عنه جسمًا بات بالسقم ناحلًا ... فلا البرء مأمول ولا هو يعذر سلوا عنه أسفارًا قضى الليل بينها ... غريبًا عن الدنيا وأهلوه حضر سلوا عنه قلبًا بات يخفق رحمة ... على فتية من حوله تتضور يروعه صرف الليالي عليهم ... وعات حواليهم من البؤس يزأر فإن مد للدنيا يدًا يستمدها لهم ... عنه ولت وهي غضبي تشزر سلوا عنه غخوانه قضى العمر بينهم ... غدوًا في ثراء وهو بالفقر أخير وهذا وصف دقيق صادق لحال المعلم المخلص في عمله، ولا نجد له نظيرًا في أدبنا الحديث، وهاك ما قاله وهو ضيف بقصر الباسل، وهو على ما به من إيجاز يعطيك صورة واضحة عن حاله ثمة: وليال مضيت بالقصر غر ... ضافيات السرور والإيناس لم أكن فيه مثل ما ينزل الضيـ ... ـف غريبًا في حشمة واحتراس إنما كنت بين أهلي وإخوا ... ني مقيمًا في معشري وأناسي

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي 27.

وهاك ما قاله في موظف الحكومة إبان الحرب العالمية الأولى وقد اشتد به الضيق وحزبه الضر، من شدة الغلاء، وكثرة البلاء حتى وضعت منزلته بين قومه، وهان على الناس، وعلى حين أثرى الجهال وارتفع السفلة. طليح أسى كابن الحكومة لاحه ... تباريح هم بالفؤاد وجيع لقد كان في بحبوحة من حياته ... وحِرز عن الفقر المهين منيع يمر فيغضى الناظرون مهابة ... وإن هو حيا أومأوا بركوع فأصبح مهزول المكانة خاملا ... همامة حر في ثياب وضيع يرى الناس في أكناف مصر تربعوا ... منازل عيش باليسار وسيع فمن زارع ضاقت خزائن بيته ... بغلات بنات له وزورع ومن تاجر إن ترجع القول عنده ... حرمت إذا لم تأته بشفيع إن هذه صور زاهية فيها إلمام بالحالة النفسية والظاهرية، تدل على مقدرة، وعلى دراسة وتمكن من الموضوع، وعلى شاعرية وحسن أداء. ولا تحسبن أنه في وصف الأشياء دونه في وصف الحالات، فوصف الشيء هو ما برع فيه العرب، وقد أثبت ديوان عبد المطلب فيضًا من الموصوفات ما بين حسي ومعنوي وكان له غرام بوصف بعض المخترعات الحديثة كالقطار والطيارة، وتراه لا ينفك في كثير من القصائد يذكر البخار وعجائبه. فمن موصوفاته البديعة ما صور به مختلف الجهود التي جلبها الحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى إلى مصر، من طويل عملاق، وقصير قزم، وأسود، وأبيض، وأحمر، ووصف عربدتهم وفسقهم: تبصرخليلي هل ترى من كتائب ... دلفن بها كالسيل من كل مودق1 سراعًا إلى الحانات تحسبهم بها ... نعامًا تمشي زردقًا خلف رزدق2

_ 1 المودق: معترك الشر. 2 الرزدق. الصف من الناس معرب "رسته" بالفارسية.

يهزلك مرآها إذا اصطحبت بهم ... مواخير تجلو فاسقات لفسق إذا أجلبوا فيها حسبت حنادبًا ... تجاوبن إيقاعًا على صوت نقنق1 كأن بني حام بمصر تواعدوا ... ليجتمعوا من بعد ذلك التفرق زعانف شتى: من طويل مشذب ... طري القرا عاري الأشاجع أعنق2 وملتصق بالأرض تحسب خطوه ... إذا مر في أحيائها خطوه خرنق3 وأخنس ممحوق الحجاجين ينتحي ... لأصمع معروق العذارين أشنق4 وأسود نهد الوجنتين حديثه ... بجحفلة تهال عن شدق أفوق5 إنه تصوير رائع لهذا الخليط من البشر، وكل شخص من هؤلاء صورة حية. وقد وصف في هذه القصيدة ذات القافية المشهورة أعمال دانلوب مستشار وزارة المعارف الذي مرت علينا مساوئه في الفصل الأول من هذا الكتاب وصفًا قويًّا دقيقًا فقال: وبالعلم سل "دنلوبهم" لِمَ لَمْ يدع ... ذواقًا من العرفان للمتذوق رمتنا به حمى أصابت بلاده ... تطاير عنها كل فدم حبلق6 ولو وزنوا في غير مصر مقامه ... لأرخصه في السوم كل مدَنَّق فأصبح داء في المعارف قاتلا ... يسدد فيها كل سهم مفوق

_ 1 النقيق: أصوات الضفادع. 2 الزعنف: كل جماعة ليس لهم أصل واحد، المشذب: المنشور أو المقطوع الأطراف، وأمله يريد به المشوه، والقرأ بفتح القاف: الظهر، والأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف والأعنق: الطويل العنق. 3 الخرنق: الفتي من الأرنب. 4 الأخنس: الذي يتأخر أنفه عن وجهه مع ارتفاع قليل في الأرنبة. والحجاجان: العظمان اللذان ينبت عليهما الحاجبان، وممحوق الحجاجين: لا أثر لهذين العظمين لديه، والأصمع: الصغير الأذن، والمعروق: القليل اللحم، والعذار: هو من الوجه ما ينبت عليه الشعر المستطيل المحاذي لشحمة الأذن إلى أصل اللحى، والأشنق؟ ": الطويل الرأس. 5 نهد الوجنتين: بارزهما، والجحفلة من الحيوان كالشقة للإنسان، والأفوق: المتكسر الأسنان مأخوذون من قولهم: "سهم أقوف" أي كسر فوقه. 6 الفدم: العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة والحبلق: الصغير القصير.

فواها على تلك العقول التي ثوت ... بكفيه في لحد من الجهل ضيق ثلاثين عامًا يكسب النيل حسرة ... على العلم دمع الوالد المتشوق وله قصيدة في وصف ذهاب سعد زغلول إلى عميد بريطانيا يطالب هو وصحبه منه رفع الحماية عن مصر، وكيف كانت حالة البلاد في تلك الأيام، وكيف قابل الإنجليز هذا الطلب المتواضع بعنجهية وغلظة أديًا إلى قيام الثورة، وفيها يقول مخاطبًا سعد زغلول: ما ننسى لا ننسى يومًا قمت فيه على ... سجية الليث لا وهن ولا خور والناس هلكى تموج الحادثات بهم ... فالأرض ترجف والبأساء تستعر "لا نوم إلا على خوف وزلزلة ... فيها، ولاضوء إلا النار والشرر والحق بين القنا والبيض مختدر ... أو مضمر في بطون الغيب تستتر لم تخش وقع الردى لما صدعت ... به والسيف بلمع والخطي مشتجر عمادك الحق لا جند ولا حصن ... ولا حصون ولا بيض ولا سمر1 إلا عزائم أهلوها إذا زخرت ... ريح العظائم في تصريفها زخروا سكوا وجوه العوادي وهي تزجرهم ... إلى المصارع ما طاشوا وما ذعروا قامت تساورهم غضبي يؤيدها ... جند من البغي والعدوان مقتدر في كل شعواء ترتج البلاد لها ... تستنفد الصبر لا تبقى ولا تذر للنفي قوم وللإعدام طائفة ... وفي السجون فريق للردى حشروا وهذا وصف قوي لابتداء الثورة المصرية، وكيف صدع سعد بالحق في وقت اشتد فيه بأس العدو، وقد خرج مظفرًا من حرب طاحنة، وذهبت مصر تؤيد زعيمها، واضطربت البلاد وزلزلت زلزالًا شديدًا، والناس يطلبون حقهم من يد عدو قوي عنيف مدجج بالسلاح ولكن سعدًا لم يقدم على الثورة إلا معتمدًا على

_ 1 حصن: جمع حصان.

الحق وحده إذ ليس وراءه جند يؤازرونه، ولا حصون تحميه، ولا مدافع تؤيده، وما هي إلا عزائم قومه صكوا بها وجوه العوادي، وهي تزجرهم إلى المصارع ومع ذلك فلم تطش أحلامهم، أو يدب الذعر إلى قلوبهم، وقام العدو يردهم عن باطلة تؤيده جنوده ودباباته، يثب عليهم مرة بعد أخرى، وقد بغوا وطغوا فنفوا، وأعدموا وسجنوا كثيرًا من المصريين. ولكن يلاحظ أنه فيوصفه هذا ما زوال بدويًّا في تشبيهاته، فسعد في إقدامه "ليث" لا يهن ولا يخور، والحق بين "القنا والبيض مختدر" ولا قنا هناك ولا بيض، بل مدافع رشاشة، وبنادق سريعة، وسعد لا يعتمد على بيض ولا سمر. ويقول في هذه القصيدة يصف "سيشل" تلك الجزيرة التي نفى إليها سعد زغلول، وقد أجمل في بيت واحد مساوئ تلك الجزيرة، فأعطى صورة واضحة عنها؛ لأنها جزيرة موحشة، موبوءة الأمراض، لا يرتاح فيها ساكنها، أو يهدأ له بال حتى يغشى الكرى جفنيه. حتى أناخوا بأرض أمنها فزع ... والبرء فيها سقام والكرى سهر وله في وصف انقسام المصريين على أنفسهم، وتصدع وحدتهم، وشماتة العدو الجاثم في البلاد بهم قصيدة رائعة، ولكنها بدوية النسج، غريبة اللفظ إن كانت دقيقة الوصف، استمع إليه كيف يصور ذلك الانقسام الذي أدى إلى خذلان مصر في قضيتها: يا قوم ما هذا العداء، وكم هوى ... فدما بعز ممالك وملوك يرمون بالخطب الطوال وكلها ... خطرات أرعن أو سباب أفيك1 من كل مرتبك المقالة رأيه ... زيفان بين مسفه وربيك2 تركوا البلاد على الهوان تخب في ... أذيال أسود بالبلاء مَحُوك يذكي بها لهب العداوة بينهم ... خطَلُ السفيه وإمرة المأفوك

_ 1 الأفيك: الضعيف العقل. 2 زيفان: زائف.

والليث منتشر المخالب فاغر ... يختال في جبرية وفتوك1 جاث يخاف النيل من غدراته ... بأساء يوم بالخطوب عتيك2 يا مصر مالك غير أهلك فتنة ... في الله ما لاقيت من أهليك ما أنت بالبلد الشقي وإنما ... جلب الشقاء على بنيك بنوك فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا ... منها على أهوائهم فتنوك فهل رأيت وصفًا أدق من هذا الوصف لتلك الحالة المزرية التي آلت إليها مصر على يد المتزعمين فيها، وهم يرمون بالخطب الطويلة، وكلها خطرات أرعن، أو سباب أفيك كذاب، والكتاب يزورون مقالات زائفة يحررها أحد رجلين، إما شخص سفيه الرأي، أو مرتبك لا يدري وجه الصواب، وقد ترك الجميع البلاد في هوان وذلة عليها ثياب الحداد وخزي الاستعمار، وقد أذكى العداوة بينهم خطل السفيه، وتزعم المأفوك، بينما العداوات الصغيرة والحزازات الوضعية سبب بلائها ومصدر شقائها، وقد رد على حافظ إبراهيم حين قال: فما أنت يا مصر دار الأديب ... وما أنت بالبلد الطيب فمصر عند عبد المطلب ليست بالبلد الشقي، وإنما جلب الشقاء عليها بنوها الذين يعتسفون الطريق، ولا يعرفون كيف يتحدون فيما بينهم على الأهداف الواضحة، ويدعون عدوهم يعيث في البلاد فسادًا، ويشغلون بتوافه الأمور، وبحزازاتهم الشخصية عن تنغيص مقامه عليه، وطرده من بلادهم لأنهم قد: فتنتهم الدنيا فلما استيأسوا ... منها على أهوائهم فتنوك وقد أولع عبد المطلب بوصف بعض المخترعات الحديثة كالطيارة، والقطار، والباخرة، وكأنه شعر بأنه لن يكون شاعرًا مكتمل الشاعرية، ممثلًا لعصره أتم التمثيل إلا إذا وصف هذه المخترعات، وهو الذي ينعته النقاد بالشاعر المبتدئ والشاعر المقلد، فأراد أن يبرهن على أنه على الرغم من نزوعه إلى القديم في

_ 1 جبرية: مصدر بمعنى القوة. 2 العتيك: الشديد.

شعره لا يقل عنهم احتفاء بالجديد من الموصوفات وقد أثار الأستاذ العقاد موضوع هذه المخترعات في كلمته عن عبد المطلب وقال: "ولما ظهر المذهب الحديث في الشعر حاول عبد المطلب أن يفهمه ليرد عليه ويتحداه، فلم يفهم منه إلا أنه وصف المخترعات العصرية، والآلات الحديثة والنظم في الطيارة كما كان الشعراء الأقدمون ينظمون في النوق والأفراس". وذكر أنه لقيه بعد أن سمع قصيدته "العلوية" وسأله عن رأيه فيها فأثنى على جودة سبكها ومتانة نسجها، وذكر أن هذا موضوع طيب للتحليل، ولكن عبد المطلب عالجه على طريقته القديمة، ولم يعالجه على طريقة المحدثين، فرد عبد المطلب بأنه وصف الطيارة، فتهكم به العقاد، وقال: إنك لم تصف الطيارة التي تود أن تلاقي بها الإمام على السحب إلا كما وصف الأقدمون الناقة التي توصلهم إلى الممدوح "وموطن الخطأ أنكم تحسبون الشاعر العربي يصف الناقة؛ لأنها أداة مواصلات، فتحسبون وصف هذه الأشياء في عصرنا فرضًا على الشاعر الحديث، وليس الأمر على هذا الحسبان" وذكر أن الشاعر العربي إنما كان يصف الناقة؛ لأنها جزء من حياته يحس بها الأنس في القفار الموحشة، ويأكل من لبنها ولحمها، وينسج ثيابه، ومسكنه من وبرها، ويعرفها وتعرفه كما يتعارف الصحاب من الأحياء "ويعيب على هؤلاء الذين يتلقفون ما تخرجه المصانع من مخترعات ويروحون يصفونها؛ لأنهم لا يدرون لماذا يصفون وينظمون، وهم في هذا الوصف محاكون أقدم من الشعر الجاهلي، وأبعد من الشاعر العصري عن واصف الناقة في البيداء؛ لأن الشرط الأول في الشعر الحديث أن يصف الإنسان ما يحس ويعي، لا أن يصف الأشياء مجاراة للأقدمين عكسًا وطردًا في أنواع المجاراة1. على أن وصف المخترعات الحديثة يجب ألا ينظر إليه هذه النظرة، فإذا كانت الناقة في القديم جزءًا من حياة العربي البدوي، وعاملًا مهمًّا فيها، فإن المخترعات الحديثة قد ينظر إليها الشاعر على أنها ثورة الإنسان على الطبيعة، وتغلبه عليها،

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص49-50.

وتذليله لها، وعلى أنها عامل مهم في حياته كذلك، قربت له البعيد، ومهدت له سبيل الثراء إلى غير ذلك من المنافع، ثم إنه قد يرى فيها حلمًا من أحلام الإنسانية صار حقيقة ملموسة فهو يتخذ من الجو بساطًا ممهدًا، يشارك العقبان في أجوائها، والهواء في مساربه، ويعتلي ظهر الماء آمنًا مطمئنًا سريعًا، بل يغوص في أغواره يشارك الحيتان، مسابحها، ويصعد فوق صهوات السحب ويلقي نظرة من عليائه على الدنيا فإذا المدن العظمية كأنها لعب أطفال فتثير هذه الحال في نفسه مشاعر وأحاسيس جديدة. وقد خلد بعض شعراء الغرب؛ لأنهم عنوا بمظاهر الحضارة الحديثة، ووصفها، وخصوها بحز كبير من شعرهم مثل كبلنج kiplina الشاعر الإنجليزي وهو من شعراء القرن العشرين وقد قال عنه نقاد الأدب الإنجليزي ومؤرخوه: "إنه عظيم لأنه كشف عن موضوع جديد للشعر وخلع عليه من خياله وحرارة وجدانه ما جعله موضوعًا شعريًّا جذابًا، إنه تميز عن سواه بوصف آلات الحضارة الحديثة، كالقطار، والباخرة، والمسرة، والبرق، والطيران ووجد فيها منبع إلهام، لم يتهيأ لسواه من الشعراء لاعتقاده أن الناس في هذه الأيام لا يرون زمانهم أجمل من زمن أسلافهم ويحلمون دائمًا بالماضي ويتحسرون عليهن مع أن جمال الحاضر أروع من جمال الماضي"1. وإذا كان عبد المطلب في وصفه للطيارة في مطلع القصيدة العلوية نهج سبيل العرب في وصفهم للناقة التي توصلهم إلى الممدوح أو إلى الغاية من رحلتهم وذلك حيث يقول: إذا ما هزمت في الجو خلنا ... جبال النجم تنهدم انهداما وإن زجر الرياح جرت رخاء ... وولت حيث يأمرها الزماما يسف على الثرى طورًا وطورًا ... تراه على الذُّرى شق الغماما أجدك ما النياق وما سراها ... تخوض بها المهامه والأكاما

_ 1 راجع. modern english litreature. by g., h maire anda. c. w and, p. 202

وما قطر البخار إذا استقلت ... بها النيران تضطرم اضطراما فهب لي ذات أجنحة لعلي ... بنا ألقي على السحب الإماما فإنه في غير هذه القصيدة قد أبدع في وصف الطيارة على طريقته، وذلك حين قدم الطائران التركيان لأول عهد الشرق بالطيران إلى مصر، وذلك حيث يقول: وقفت لك الدنيا فسيري ... مسرى الضياء من الأثير يا أخت سابحة النجو ... م وبنت سانحة الضمير من عهد آدم لم تزل ... عذراء مسبلة الستور بكرا تقلبها أكف ... الغيب في طي الدهور حتى جلتها للعيو ... ن منصة العهد الأخير ثارت لتأخذ باسمه ... عهدًا على ملك الطيور ملك البخار على السما ... ك بصولة الملك القدير في كل غواص ورسا ... ب بأحشاء البحور ثم أنثنى يرمي سما ... ك الجو بالجيش العزير فالنجم في فرق يجول ... بجفن مرتاع حسير والسحب من حذر البخا ... ر وبأسه حيرى المسير بامنذر الأفلاك هل ... للأرض دونك من نصير ما هذا الورق التي في ... الجو تعلو في الهدير غَيْرَي من الأطيار في ... أحشائها لهب السعير فتح مخالبها الحد ... يد وريشها نسج الحرير1 غنيت بمجبول الدمقـ ... ـس عن القوادم والشكير2 ترد السحاب الغر إن ... ورد الحمام على الغرير

_ 1 الفتح. لين المفاصل، ويقال للعقاب فتحاء لأنها إذا انحطب انكسر جناحاها وهذا لا يكون إلا من الين، وهو يريد أن يشبهها بالعقاب، وبأنها الحركات. 2 الشكير من الشعر والريش. صغاره بين كباره، والدمقس: الحرير الأبيض.

خشعت لها هوج العوا ... صف في الرواح وفي البكور وفي هذا الوصف خطرات شعرية رائعة لا تتأتى إلا للموهوبين وذلك حين وصف الطائرة بأنها نجم من النجوم وأنها "بنت سانحة الضمير" وفكرة ظلمت عذراء من عهد آدم مرخى عليها السترن بكر لم يفترعها عقل إنسان، تقلبها أكف الغيب في طي الدهر حتى جلت للعيون الحضارة الحديثة؛ وكأني به يتصور العالم العلوي دهشًا لهذا الشيء الذي يصعد إليه من الأرض، هل صعدت الطائرة لتأخذ ثأرًا من عقاب الجو أو النسر؟! وانظر النجم هلى تراه فزعًا مرتاع الجفن؟ والسحب ما بالها حيرى حذر البخار؟ أهي ورقاء في الجو تغلو بالهدير، وتغار من الأطيار فأضرمت الغيرة في أحشائها نارًا؟ ثم انظر معي لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، لهذا الخيال العجيب، أنها ورقاء ولكن ترد السحب لتشرب حين يرد الحمام الغدير، فهل عبد المطلب كما يقول العقاد كان يقول الشعر للمهارة اللغوية فحسب من غير أن يصدر عن خيال أو عاطفة؟ لم يصف عبد المطلب الطيارة وصفًا علميًّا، أو تاريخيًّا، وإنما وصفًا شعريًّا مبينًا أثر العقل الإنساني في تذليل قوى الطبيعة وتسخيرها لخدمة البشرية، وهذا ما يتطلبه الشعر، وحسبه هذه النظرة للمخترعات الحديثة. ولكننا نلاحظ أن عبد المطلب لم يعن بوصف الطبيعة ومناظرها، مصرية كانت أو غير مصرية، وفي البيداء التي يغرم بها مناظر ساحرة، خليق بشاعر حساس وروعتها، كما فعل أسلافه شعراء العربية، من قبل، ولست أدري سببًا لخلو شعره من وصف الطبيعة، ولعل نضوج شاعريته في سني الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة المصرية شغله بالنظر إلى الأحداث القومية والشئون الاجتماعية عن النظر إلى الطبيعة، ولم تكن هذا عيبه وحده، بل هو عيب لحق غيره من معاصريه، وقد تكلمنا عن موقفهم إزاء الطبيعة المصرية آنفًا. ويلاحظ كذلك أن عبد المطلب لم يلتفت أدنى التفاتة إلى الآثار المصرية كما فعل شوقي وإنما نظر إليها نظرة خاطفة حين افتخر بمصريته، وقد تبع هذا

الإهمال لآثار مصر أنه لم يعرج على التاريخ المصري القديم، ولكن عبد المطلب -والحق يقال- كان عربيًّا مسلمًا؛ ولذلك وقف بعض الوقفات أمام أحداث التاريخ الإسلامي كما سيأتي عند الكلام عن أثر الدين في شعره. على أن الشاعر المكتمل الشاعرية، القوي الإحساس بالجمال والعظمة لا يملك حين يرى الطبيعة في أوج حسنها، أو عنفوان سخطها إلا أن يتأثر وينفعل ويقول، كما لا يملك حين يفكر مليًا في عظمة آثار مصر، وكيف شيدت، وغالبت الدهر، ومرت عليها أحداث القرون في مواكب متتابعة ومصر الخالدة بنيلها وآثارها لم تتأثر بتلك الأحداث لا يملك حين يفكر في كل هذا إلا أن تتفتح أمامه مغاليق المعاني، ويسبح في سموات الخيال. ولعل العلة الحقيقية في عزوف كثير من شعراء الجيل الماضي عن وصف الطبيعة واستلهام التاريخ هي أنهم جروا في أغراض الشعر على مذهب الأقدمين، وشغلوا بأنفسهم عن العالم الخارجي، وكانوا ذاتيين لا موضوعيين، فجنى عليهم التقليد، وحبس شاعريتهم عن الانطلاق إلى آفاق جديدة إلا القليلين منهم. هذا ومن الأغراض الشعرية التي عنى بها عبد المطلب الحياة الاجتماعية بمصر. وقد سبق أن أشرنا إلى مواقفه من مشكلة الفقر والغنى1 وأنه اكتوى بنار العوز إبان الحرب العالمية الأولى، وكان من الطبقة المتوسطة في الشعب لم يرث مالًا، أو يحرز ثراء فلمس بنفسه ألم الحاجة، وكان من الكادحين في سبيل الرزق فعرف عن قرب مرارة الفقر والحرمان. ولعبد المطلب فيما يتصل بهذه الناحية عن قرب قصة طريفة لامرأة فقيرة عجوز جاءت وابنتها إلى القاهرة تبحت عن عمل يكفيها شر السؤال، وكانت هذه أول مرة تفد فيها إلى القاهرة، فما أن نزلت ميدان "باب الحديد" حتى بهرتها الأضواء والضوضاء وتعدد السبل فوقفت حائرة برهة ولكن عين الشيطان كانت ترقبها، فما أن لحظ ترددها وهيبتها حتى دلف إليها في صورة ملاك يتقدم للأخذ بيدها،

_ 1 راجع ص19 من هذا الكتاب.

وإرشادها إلى سواء السبيل، فأقبلت عليه بوجه باش تبثه خبيئة نفسها، وهو يبدي لها صنوف العطف والرحمة ما ألهج لسانها بالدعاء له، ولما رآها قد أمن جانبه قليلًا أخذ ينصب حبائله للظفر بالفتاة، بيد أن الأم التي نشأت في الريف، ولها طبيعة لم تتدنس، ارتابت في حركاته، وتودده لابنتها، وما أن تيقنت من كيده، ورأت بعين فطرتها الأخيرة أنه شيطان مريد، حتى حذرته، وخشيت سطوته، وأخذت تقاوم ألاعيبة وكيده، وهو يلين تارة ويشتد أخرى، ولم ينقذها طيب المأوى والرفد والعناية، ولأسمعك بعض هذه القصة؛ لأنها تدل على موهبة طيبة عند عبد المطلب في حياكة القصة شعرًا لو كان قد عنى بهذا واتجه إليه، وإن كان قد ساق هذه القصة بأسلوبه الجزل القوي ولم ينح عنها خياله البدوي: أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها باتت تكفكف بالوقار مدامعًا ... غلب الأسى عبراتها فأسالها تطوي على الآلام مهجة صابر ... قطع الزمان بريبه آمالها تبكي إذا انقطع الأنيس لصبية ... يتضورون يمينها وشمالها من كل ناعمة الحياة ومترف ... ورد الحياة معينها وزلالها يشكو الطوى فتفيض مهجة أمه ... شفقًا عليه وليس يدري حالها ولأخته عين تحدث أمها وحيا ... وقد حبس الحياء مقالها كلب الشتاء بجسمها فتعطفت ... تطوي على خاوي الحشا أوصالها ثم يتطرق من هذا إلى قصة تلك العجوز فيقول: ويتيمة شهد الزمان بيتمها ... في الحسن لم تلد الحسان مثلها خرجت من الإسكندرية غدوة ... تزجي إلى أكناف مصر رحالها حتى إذا وقف القطار بها على ... باب الحديد تلفعت أسمالها

وسعت تقلب مقلة محزونة ... في الذاهبين يمينها وشمالها حيرى يضيق بها المجال وطالما ... فسح اليسار على المضيق مجالها تقتاد في الطرقات فانية القوى ... محنية صبغ المشيب قذالها أربت على السبعين ما لمس الخنا ... يومًا مآزرها ولا سربالها وهناك أبصرها امرؤ دنس الهوى ... شرب المخازي علها ونهالها متكلف خلق بالكريم ببزة قد ... خاظ من وضر الفجور جلالها1 يدعو إلى دار الفسوق نقية ... عفت وما نقض العفاف حالها لما تبينت النقيصة أمها ... في حاجبيه تبينت ما هالها نظرت إلى الوجه الصفيق وأقبلت ... غضبي تصك بصفحتيه نعالها ويمضي في القصة على نحو ما ذكرت سابقًا، وينتهي بالحديث عن جمعية المواساة وآثارها الجليلة في المجتمع، ومن المشكلات الاجتماعية التي استرعت انتباهه ما أصاب اللغة العربية على يد الإنجليز، واللغة ظاهرة اجتماعية، وعنوان على ضعف الأمة ورقيها، وقد حاول الإنجليز كما علمت في الفصل الأول أن يبلبلوا ألسنة المصريين، ويضعفوا لغتهم فتضعف قوميتهم، وكان "دانلوب" مستشارهم في المعارف هو المنفذ لهذه السياسة حتى بلغ من سخرية القدر أن الحال السيئة حتى أخرج "دانلوب" من مصر، وجاءت الثورة وعهد الاستقلال، وتولى وكالة المعارف خرج "عاطف بركات" وهو من أبناء دار العلوم النابهين، ودار العلوم حصن اللغة العربية الحصين، فكان حريًّا به أن ينهض باللغة، وأن يلتفت عبد المطلب إلى هذه المأثرة حين رثاه فقال: وكدنا نرى أم اللغي قبل عاطف ... فريسة عاث بالمعارف عاتي يريد بها السوءى ويحمل أهلها ... على جنف من بغيه وأداة تلين لأيدي الغامزين قناتها ... لقلة أنصار وضعف حماة

_ 1 الجلال: جمع جل الكساء.

ويؤنسنا منها أناس نعدهم لكف ... أذى عنها ورد عداة فلما تولاها تحول نجمها ... إلى اليمين عن أيامها النحسات وكان من الطبيعي أن يخوض عبد المطلب في مشكلة المرأة، وجنوحها إلى السفور، وهو الشيخ المتدين المحافظ على شعائر الدين، فيقول للنساء في حفل خاص بتربية الطفل حضرته أكثر من ألف وخمسمائة سيدة من عقائل مصر، مزينًا لهن الحجاب بخياله الشعري: زعموهن بالحجاب عن العلـ ... ـم ونور العرفان محتجبات بنت مصر كالشمس يحجبها الليـ ... ـل وراء الآفاق والظلمات وهي في أفقها ضياء ونور ... ساطع في بدورها النيرات أو هي المسك ينفذ العرف عنه ... من وراء الأستار والحجرات فينفي أن الحجاب يحجبها عن العلم، ويصفها بأنها كالشمس والحجاب كالليل يحجبها وراء الآفاق والظلمات، وإن لم يوفق في هذا التشبيه على الرغم من محاولته بترديديه في البيت التالي بأنها في أفقها ضاء ونور ساطع في أبنائها الذين يشبهون البدور، أي أنها تعكس ضوءها على أبنائها، ولكن هل يغني البدر عن الشمس؟ أو ليس مغيب الشمس مبعثًا لليل ووحشته، والظلمة ورهبتها، أو ليس محوًا لوجود، ودعوة إلى الهدوء، والركود في معترك الحياة؟ على أن لعبد المطلب قصيدة أخرى أفردها لهذه المشكلة نعي فيها على المرأة المصرية تبذلها في ذلك النقاب الذي تدعوه حجابًا، وما هو بحجاب، بل يزيد في مفاتنها، وهي التي آثرت هجر البيت، وغشيان الحدائق، والمتنزهات ودور اللهو، ورأى أن الحجاب الحقيقي هو ما دعا إليه الشرع، وأنكر الدعوة إلى السفور. ما هذه الحبرات تهـ ... ـفو في الخمائل والحقول نكر العفاف ذيولها ... ومن الخنى قصر الذيول إن ينتسبن إلى الحجا ... ب فإنه نسب الدخيل

يختلن أبناء الهوى ... بالدلَّ والنظر الختول من كل خائنة الحليل ... تهيم في طلب الخليل نقم الضحى منهن ما ... خجلت له شمس الأصيل بكت الخدور جفونها ... وهجرنها هجر الملول ما لابنة الخدر المصو ... ن وربة المجد الأثيل أودى شفيف نقابها ... بكرامة الأم البتول وإنجاب جيب قميصها ... عن وصمة الشيخ البجيل وعلى رنين حجولها ... أسفًا على الذيل الطويل فإذا مشت هتاك النقا ... ب محاسن الوجه الجميل وجلا المقور تحته ... رخصًا من الصدر الثقيل وهكذا يمضي عبد المطلب في وصف تبرجها، ويأسف لحالها، وحال ولي أمرها، ويرى أن هذا الذي سمته حجابًا، وهو يفصح عن زينتها ويزيدها فتنة ليس هو الحجاب الشرعي، وأنها ليست بالمرأة المسلمة المتمثلة لأوامر الدين: أهي التي فرض الحجا ... ب لصونها شرع الرسول جعل الحجاب معاذها ... من ذلك الداء الوبيل يا منزل القرآن نو ... رًا النيل عن وضح السبيل عميت بصائر أهل وا ... دي النيل عن وضح السيل ذهلوا عن الأعراض لو ... يدرون عاقبة الذهول ومن المظاهر الاجتماعية التي اهتم لها، واحتمل بها، وصارت غرضًا واضحًا في شعر فساد الأخلاق وانحلالها، وتفشي الإلحاد، وضعف وثاق الدين على النفوس، وللدين عند عبد المطلب -كما عرفت في ترجمته- منزلة مكينة في قلبه، تشرب حبه صبيًّا، وشب على تعاليمه، ودرسه وتفهم أهدافه السامية، وقد كثر نحيبه وبكاؤه لما أصاب الدين في مصر من وهن، وانصراف أهله عن التمسك.

به، والمحافظة على شعائره، وذلك ولا ريب أثر من آثار الحضارة الأجنبية التي فتن بها كثير من المصريين المسلمين، ونتيجة طبيعية لتلك السياسة التي أتبعها المستعمر الغاصب؛ لأنه يعلم حق العلم أنه لن يستقر له بمصر قرار ما دام هذا الدين العظيم يسيطر على نفوس أبنائها، ويدعوهم إلى العزة والأنفة من ممالاة الأجنبي أو الرضا بحكمه، وهو الذي جعلهم أعزة، وملكهم العالم يومًا ما. والشعر الديني عند عبد المطلب ألوان: فمنه تشوق ومدح لمهبط الوحي والأرض التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم داعيًا إلى تلك الرسالة الخالدة: منازل جبريل، ومثوى محمد ... جوانبها في ظلمتيه سواء ومبعث أرواح السعادة في الورى ... إذا الناس فوضى، والحياة شقاء ومطلع ما في العالمين من الهدى ... إذا الكفر داء في النفوس عياء ومشرع ما في الأرض من مدنية ... لها نضرة في أهلها ونماء ومنه فخر بأيام الإسلام الخالدة التي مكنت له في الأرض، ونصرت دعوته يوم بدر، ويوم حنين، ويوم الفتح، وفخر كذلك برجاله الأماجد أمثال أبي بكر وعمر وخالد وعلي والأنصار الذين آووا رسول الله وعزروه ونصروه: وسل عنهم بدرًا وسل أحدًا وسل ... عصب الأحزاب يوم تحزبوا سل الخيل إذ جالت ببطحاء مكة ... وود العدا لو أنهم لم يكذبوا ويقول عن أبي بكر رضي الله عنه: جزى الله خيرًا شيخ تيم وجنده ... وراياته في الشرق والغرب تضرب كأني بركن الدين يهتز خيفة ... عشية مات الهاشمي المحبب فقام بأعباء الخلافة شيخها ... وأصحابه من شدة الخطب غيب فما شهد الإسلام رأيا كرأيه ... وقد قام في يوم السقيفة يخطب

وإذا كان عبد المطلب لم يلتفت إلى التاريخ المصري القديم إلا نادرًا، فإنه عنى أشد العناية باستلهام التاريخ العربي الإسلامي، وجاءت هذه القصيدة البائية وغيرها حافلة بذكر كبريات الأحداث، وبعظماء الرجال الذين جاهدوا في سبيل نصرة الدين، وتثبيته في العالمين وهو في كثير من قصائده الدينية يعرج على ماضي الأمة الإسلامية، ويذكرها بأمجادها لعلها تخجل مما أصابها من وهن، ومما حل بها من فساد، فتهب لاسترجاع ذلك المجد وتستأنف سيرها في موكب العزة والسؤدد استمع إليه يقول: أنكرت قومي فلا قربى ولا رحم ... وأنكروني فلا أم ولا ولد يا رحمتا لغريب بين عترته ... نبا به العيش حتى أوحش البلد يذري الدموع إذا ما الركب أزعجهم ... داعي السرى فتنادي البين وانجردوا يا نازلي ذلك الوادي تموج بهم ... بطاح مكة والعلياء والسند1 هل يبلغ الركب عن قلبي إذا نزلوا ... ذاك الحمى لوعة الوجد الذي يجد أحبابنا ضاقت الدنيا بما رحبت ... والدهر في صرفه يغلو ويحتشد أكل يوم لنا في الدين مرزؤة ... تهتز من وقعها الدنيا وترتعد في كل واد على الإسلام منتحب ... وكل واد به للدين مفتقد يسعى الفساد إليه غير متئد ... لما رأى أهله في نصره اتأدوا يا منزل الدين أهل الدين قد خرجوا ... بغيًا عليه وعن منهاجه حردوا ضلوه جحدًا لما أودعت من حكم ... فيه ولو أنهم ذاقوه ما جحدوا ما الدين إلا نظام للحياة إذا ... سار الأنام على منواله سعدوا ويمضي عبد المطلب في تعداد فضائل الدين، ولعلك لحظت أنه يتألم غاية الألم لما أصاب الدين، وأصبح يرى نفسه غريبًا في قومه؛ لأنهم فتنوا عن دينهم وفرطوا في شعائره، ودب الفساد إلى حياتهم من جزاء ذلك الإهمال ولو أنهم تمسكوا بالدين لاستعادوا عزهم المفقود واسترجعوا مجدهم وهو:

_ 1 العلياء والسند: مكانان بالبادية.

مجد به تشهد الدنيا وإن عميت ... أبصار قوم مما راءوا ولاشهدوا1 ومنه مدح للنبي عليه السلام، وهو من الأغراض القديمة التي حفل بها الشعراء ولا سيما في العصور التي ضعفت فيها الأمة العربية، وكثر فيها الفساد في الأرض فتوسلوا بالنبي، وتشفعوا لعلهم يصيبون من الله مغفرة، ولعل مجد الإسلام يرجعه الله، ولكن هيهات فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن تلك المدائح النبوية تلك القصيدة التي قالها عبد المطلب في حضرة سيد المرسلين حين ذهب للحج سنة 1899. إليك أجل المرسلين مدائح ... توافيك ما غنى على الأيك صائح وهي لا تخرج في معانيها عما تداوله الشعراء في مثل هذه المناسبة من قبل. ندامة على ما فرط من الذنوب، وخوف من يوم الحساب وخزي المقصرين، وتوسل بالنبي عليه السلام ليشفع له. فكن يا شفيع المذنبين شفيعه ... إذا شهدت ويمًا عليه الجوارح إلى غير ذلك من المعاني التي يتطلبها الموقف. وله في سيد المرسلين قصيدة أخرى طويلة سماها "ظل البردة" ولعله تابع شوقي حين نظم "نهج البردة" فأبى إلا أن يحاكي بردة البوصيري مثله، وهذا ميدانه، وليس ميدان شوقي فقال: أغرى بك الشوق بعد الشيب والهرم ... سار طوى البيد من نجد إلى الهرم يا ساري الطيف يجتاب الظلام ... إلى جفن مع النجم لم يهدأ ولم ينم ويسير في هذه القصيدة متتبعًا أثر البوصيري، وشوقي، فيتحدث عن مجد الإسلام الغابر وأن هذا المجد خلفه لنا رسول الله بعد أن وضع أساسه: مجد بناه الذي فاض الوجود به ... نورًا له قامت الدنيا من العدم

_ 1 راء: لغة في رأي.

طه أبو قاسم المبعوث من مضر ... إلى البرية من عرب ومن عجم ويصف حال الدنيا قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما كانت عليه من الفوضى والاضطراب والظلم، وما كان عليه الناس من جهل مطبق، فقد أضلهم الشيطان وأعمى أبصارهم وبصائرهم فاتخذوا من الحجارة آلهة لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، وهام بعضهم بالأفلاك، وآخرون بالنار. تفرقوا شيعًا في الكفر وانقسموا ... شتى فباءوا بما يخزي من القسم هذا عن الحق بالأفلاك في عمه ... وذاك بالنار عن نور الجلال عمى وذا يؤله من لا يستجيب له ... من ناطق بشرًا أو صامت صنم أضف إلى كل هذا كثرة الأحقاد، واستبداد الملوك والرؤساء، واستعباد الرعية، ثم يصل من هذا إلى أن رحمة الله شملت العالم، فجاء محمد بن عبد الله يهديهم إلى سواء السبيل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، ويتكلم عن مولده، وأن ليلة ولادته كانت وحيدة في الزمن. تنفست عن سنا شمس الوجود بدا ... في موكب من جلال الله منتظم روح الحياتين نور القريتين إما ... م القبلتين صفي الله في القدم ويمضي في وصف الرسول وتعداد شمائله الكريمة، وكيف ربى يتيمًا، وكيف نما وترعرع بعيدًا عن جنف الإثم، ودنس الأوثان ومساوئ الجاهلية، وكيف تعبد وتحنث بغار حراء، وحتى أتاه الوحي الكريم من الله العظيم. بالنور بالحق بالعرفان أرسله الله ... الذي علم الإنسان بالقلم وتذكر صراعه مع الكفار في سبيل نشر دعوته، وكيف تحداهم بكتاب الله وآياته المحكمات حتى خرست ألسنتهم، وهم المشهورون بالفصاحة والبيان. لم يبق حين تحداهم به لسن ... إلا تردى شعار العي واللسم1

_ 1 للسم: السكوت عيا.

وهكذا يمضي في قصيدته مبينًا جهاد النبي في نشر الدعوة، ومعرجًا على مواقفه الرائعة، وهجرته وغزواته، فالقصيدة تحوي سيرة النبي عليه السلام، وليس فيها جديد من الخيالات، أو الأفكار، وقد يستطيع شاعر نابغة أن يصنع من حياة محمد عليه السلام ملحمة قوية، غاصة بالمشاهد العظيمة، ولكن عبد المطلب تبع البوصيري، ثم شوقي، فلم يجدد في فكرته أو طريقة عرضه، وكان واجب الدراسة يقتضي أن نعقد موازنة بين شوقي والبوصيري وعبد المطلب، ونرى أيهم كان أقوى عاطفة، أو أصدق حديثًا وأغزر شاعرية، وأسمى خيالًا، بيد أن هذه الموازنة تخرج بنا عما قصدنا إليه في هذا الكتاب، ومهما يكن من أمر، فعبد المطلب في قصيدته "ظل البردة" دونه في قصائده الأخرى؛ وذلك لأنه وضع أمام ناظريه قصيدتين عامرتين في مثل موضوعه وبحره وقافيته، وأهم ظاهرة تحس بها في قصيدة عبد المطلب أنه على الرغم من تدينه، وشدة عاطفته الدينية لم يستطع إبراز هذه العاطفة على حقيقتها في تلك القصيدة لأنها تقليد. ومن الألوان الدينية في شعر عبد المطلب نشيد الشبان المسلمين، وعبد المطلب كان من رجال النهضة الدينية، وله أثر محمود كما ذكرنا عند ترجمته في جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وجمعية الهداية الإسلامية، فلما دعت جمعية الشبان المسلمين الشعراء إلى نظم نشيد يكون شعارًا لها تقدم عبد المطلب في من تقدم وقال نشيده: داع من العليا دعا ... يدعو بنيها مسمعًا يدعو الشباب الأروعا ... يدعو شباب المسلمين ولكن نشيده لم يكن في مزلة نشيد الرافعي "يا شباب العالم المحمدي" فلم يكتب له الخلود. ومما يتصل بهذا الشعر الديني أو الذي تأثر فيه الشاعر بالدين قصيدته "العلوية" التي ألقاها بالجامعة المصرية في 7 من نوفمبر سنة 1919، وهي تزيد

على ثلاثمائة بيت. وحياة علي بن أبي طالب حافلة بأحداث جسيمة، ويصح أن تكون مأساة شعرية، لأن عليًّا قد أسلم وهو لم يبلغ العاشرة، وشب في حضن الدين الجديد. ونشأ في بيئة معادية لدينه، وحرص على الدفاع عنه ومناوأة أعدائه، فتهيأت له بذلك الفرصة ليكون خصمًا قويًّا، وبلغ الإسلام على عهد النبي عليه السلام غايته، وعلي في شرخ شبابه! فكان فتى قوي الشكيمة، أبلى في الحروب بلاء مبينًا، وتميز عن سواه من شباب المسلمين، ينتدب نفسه لكل كريهة، ويخرج منها مظفرًا، وقد شهد كل غزوات النبي إلا واحدة. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رنت عينه إلى الخلافة، وهو ابن عمه وزوج ابنته. ولكن إجماع المسلمين كان على غير رأيه فامتنع عن البيعة قليلًا ثم دخل فيما دخل فيه المسلمون ومضت خلافة أبي بكر، وعمر، ومعظم خلافة عثمان، وعلي مرموق المكانة من الخلفاء يحتل منزلة المستشار والوزير، وفي أخريات عهد عثمان ظهرت الفتنة الكبرى، أودت بحياة عثمان، واتهم علي بممالأة الثائرين، وطالبه معاوية بأن يسلم له قتلة عثمان، وبايع أهل الحجاز عليًّا وامتنع معاوية عن البيعة، وخرجت عائشة وطلحة والزبير إلى العراق، وحدثت معركة "الجمل"، ثم "صفين"، وانتهى الأمر بمقتل علي رضي الله عنه، وهو خارج لصلاة الفجر على يد أحد الخوارج، وكانت فيه صفات تؤهله للزعامة والسيادة أهمها: الشجاعة الفائقة والفصاحة النادرة، والعدل الشامل، ولكنه كان سيء الحظ، فلم تيسر له الأمور كما يسرت لمن قبله من الخلفاء، وخرج عليه بعض أنصاره وجادلهم، وحاربهم، ثم حارب معاوية وأهل الشام، وكانت ملاحم دامية، وفتنة فظيعة. إن هذه الحياة تستغرق جزءًا حافلًا من حياة الإسلام، والجهاد الحر في سبيل دعوته، وخروج العرب من جزيرتهم إلى شتى البلاد المجاورة، مما غير الحياة العربية وتقاليدها إلى شيء جديد وجعلها أمة ممتازة: دينًا وجيشًا، وحضارة، ولغة، والشاعر الموهوب يستطيع أن يقف وقفات طويلة أمام السمات البارزة لهذه الحياة، ويصورها تصويرًا دقيقًا بشيء من التفصيل، والخيال، ولكن عبد المطلب أجمل القول في كثير من الأحيان، ومر على بعض المشاهد الرائعة مرورًا سريعًا؛ لأنه تقيد بقافية واحدة، ولأنه كان أقرب إلى سرد الحقائق التاريخية منه إلى التصوير الشعري.

وأغلب الظن أن محمد عبد المطلب لم ينظم هذه القصيدة إلا تحديًا لعمرية حافظ إبراهيم التي ألقاها في 8 من فبراير سنة 1918 بمدرج وزارة المعارف أي قبل علوية عبد المطلب بأكثر من عام. وقد ابتدأ قصيدته العلوية بالحديث عن الإنسان وطموحه، وباختراعه الطيارة، وود أن توهب له طيارة ليلقي بها الإمام على هامات السحب: فهب لي ذات أجنحة لعلي ... بها ألقى على السحب الإماما وأخذ يتحدث عن الإمام ومكانته ومقامه، وأنه: مقام دونه بحب القوافي ... وإن كانت مسومة كرامًا وأخذ يقدم المعذرة بين يدي سامعيه إذا قصر في وصف مناقب الإمام: وما أدراك ويحك ما علي ... فتكشف عن مناقبه اللثامة وبعد أن انتهى من هذه المقدمة، قسم القصيدة إلى فصول صغيرة، فتحدث عن علي في صباه، وإسلامه، وكيف جنب الرجس والشرك، ودنس الجاهلية وكيف لبى دعوة الإسلام صغيرًا بينما صدف عنها الشيوخ والكهول. فكهل في جهالته تولى ... وشيخ في ضلالته تعامى وكيف كان معتزًا بإسلامه لا يخاف فتنة قريش للمسلمين، وإيذائهم لهم: يروح على مجامعهم ويغدو ... كشبل الليث يعتزم اعترامًا صغير السن يخطر في إباء ... فلا ضيمًا يخاف ولا ملاما ثم ينتقل إلى فصل آخر عن استخلافه ليلة الهجرة، ولكنه أجمل فيه القوم، ولم يصور تأمر قريش على قتل النبي تصويرًا شعريًّا مفصلًا، ويضفي على هذه الحادثة التي غيرت وجه التاريخ شيئًا من الخيال الشعري ليظهرها في جلالها وروعتها، ويبين عظم المعجزة وكل ما وصف به قوة قريش ومؤامراتهم هو قوله:

وأقبلت الصوارم والمنايا ... لحرب الله تنتحم انتحاما1 وهذا قول موجز، فيه توعر في الألفاظ، وكان يستطيع أن يصور هؤلاء الأوشاب الذين اجتمعوا من قبائل شتى، وهم يتسللون في جنح الليل إلى دار النبي عليه السلام يقدمهم الشيطان، ويهيمن عليهم الشر، وكيف منوا نفوسهم الآثمة بقتل سيد الخلق عليه السلام ولكن الله العلي القدير الذي حفظ نبيه وأراد نشر دينه كان لهم بالمرصاد، ثم يستطيع أن يصور في خيال شعري رائع عليًّا وهو نائم في بردة النبي وخروج الرسول على الكفار وقد عميت أبصارهم عن رؤيته، وما تهامست به نفسه حين رأى جمعهم وشبابهم وسيوفهم، وتغلب إيمانه وثقته بربه على همهمات نفسه، وكيف مر من بينهم سالمًا إلى آخر قصة الهجرة. ولكن عبد المطلب لم يشأ أو قل لم يستطع أن يحلل، ويسبر غور النفوس ويصور تلك المؤامرة الرهيبة والليل دامس، والكون كله يترقب نتيجتها، وتاريخ البشرية يتطلع إلى إخفاقها كي يحظى بخير شريعة على يد أفضل نبي، واكتفى بأن أجمل القول في هذا كله: وأغشى الله أعينهم فراحت ... ولم تر ذلك البدر التماما عموا عن أحمد ومضى نجيا ... مع الصديق يدع الظلاما ويعقد ببعد ذلك فصلًا عن علي بالمدينة، وقد صور فيه شجاعة علي في غزوة بدر في إيجاز واستمع إليه يقول في هذا: كأني بابن عتبة يوم بدر ... يعاني تحت مجثمة جثامًا2 ولو علم الوليد بمن سيلقى ... لألقى قبل مصرعه السلاما رويدًا بني ربيعة قد ظلمتم ... بني الأعمام والرحم الحراما وصلناكم بها وقطعتموها ... فكان الحزم أن تردوا الحماما

_ 1 الانتحام: الصوت والجلبة من النحيم وهو صوت الفهد، وهو أيضًا بمعنى الاعتزام. 2 الجثام: الكابوس.

ثم تكلم عن زواجه من فاطمة الزهراء، وأن قرانه بها: قرآن زاده الإسلام يمنا ... وشمل زاده الحب التئاما أما يوم أحد فقد وفق فيه بعض التوفيق، إذ صور هزيمة المسلمين وعلل لها: وكيف أرجف المشركون بقتل رسول الله، وكيف ارتاع علي لهذه الفرية وراح يبحث بنفسه بين القتلى عن رسول الله. أتى الشهداء مفتقدًا أخاه ... لعل الموت عاجله اختراما أخي! بأبي! يخيم؟ ويفر؟ حاشا ... أخي في الخطب جبنًا أو خيامًا1 أم اجترأت عليه يد العوادي ... فغالته اجتراء واجتراما ثم انتقل إلى يوم الخندق ومبارزة علي لعمرو بن ود، وموقفه يوم خيبر وقتله مرحب بن منسية، ثم انتقل إلى مواقف علي في السلم، وصور خلقه في إيجاز وقيامه الليل وتقواه، وقد تأثر في هذا الوصف بكلمة ضرار الصدائي عن علي بن أبي طالب المذكورة في كتب الأدب ثم تكلم عن مقتل عثمان ونفى عن علي اشتراكه في القتل أو علمه به قبل أن يحدث له: وحاشى أن يريد أبو حسين ... بذي النورين سوءًا أو ظلامًا علي كان أول من وقاه ... ومن ذا الردى عنه وحامى ومضى في سيرة علي إلى نهايتها على طريقته في التصوير الموجز، والتزام الحقائق التاريخية إلى حد سردها، من غير إبداع في التصوير أو اهتمام بالتحليل، أو جنوح إلى الخيال، كل ذلك في أسلوب جزل، وفصاحة بدوية، ومهما يكن المقياس الذي وضعناه لهذه القصيدة فهي تعد من القصائد الممتازة في الشعر من حيث موضوعها، وقوتها ومتانة نسجها، وطولها، وهي تدل على قدرة فائقة في اللغة، ونفس مديد في قرض الشعر، وتمكن من القافية وإلمام بالغريب.

_ 1 يخيم: يجبن.

هذا هو محمد عبد المطلب في شعره، وقد أتيت على أهم الأغراض التي قال فيها: وقد احتل بإيثاره الأسلوب الفحل، والقول الجزل، والخيال البدوي، منزلة تفرد بها بين شعراء زمانه، وقد قال فيه العقاد: "ولكن عبد المطلب كان وحيدًا في مدرسته الأدبية التي استقامت لها صحة الأسلوب من طريقة الدعوة الدينية وكان أوضح دليل على فائدة الدعوة الإسلامية قبل نيف وستين سنة في إراحة العربية من آفات البهارج والطلاوات"1. وكا يحتل كذلك منزلة رفيعة في نفوس زملائه الشعراء، ورثاه كبارهم، فهذا شوقي يؤبنه ويمتدح بداوة شعره: شاعر البدو ومنهم جاءنا ... كل معنى رق أو لفظ عذب قد جرت ألسنهم صافية ... جريان الماء في أصل العشب سلمت من عنت الطبع ومن ... كلفة الأقلام أو حشو الكتب ويثني على أخلاقه ووطنيته التي كانت أكبر ملهم لشاعريته، والتي فاض بها ديوانه: القريب العتب من معنى الرضا ... والقريب الجد من معنى اللعب والأخ الصادق في الود إذا ... ظهر الإخوان بالود الكذب قلد الأوطان نشئًا صالحًا ... وشبابًا أهل دين وحسب وقد رثاه مطران وأشاد بتملكه لزمام اللغة، ورد على من عاب جزالة لفظه، واهتمامه بالغريب. فكلام بدوي لو بدا ... فيه لون لم يكن إلا الذهب خالص النسبة في العتق إذا ... ما دعا للفخر داع فانتسب

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص52.

ومعان حضريات جلا ... حسنها منه طراز لم يعب رب ممرور من الجهل نعى ... صحة القول عليه فنعب خال إغاربًا وما الإغراب ... في ذلك اللفظ الأسيل المنتخب إنما الإغراب فيه أنه ... عربي بين أهليه اغترب أخذ المعدن من منجمه ... هل عليه حرج: يا للعجب ويطري كذلك خلقه الكريم، ويشيد ... بوفائه وحرية رأيه وصراحته كان حر الرأي لا ... يرطفه رغب لما رآه أو رهب وافيًا مهما يسمه عهده ... صادقًا مهما يقم عذر الكذب حسن السيرة في أسرته ... حسن الخيرة فيمن يصطحب بالغًا في كل نفس رتبة قصرت ... عن شأوها أسمى الرتب هذا وقد أقيمت له حفلتا تأبين وقد رثاه فيهما أكثر من ثلاثين شاعرًا وأديبًا: وقد جمعت هذه المراثي في عدد خاص أصدرته مجلة الهداية الإسلامية1.

_ 1 ج4 م 4 رمضان 1350- يناير 1932.

السيد التوفيق البكري

السيد التوفيق البكري ... السيد توفيق البكري: وهاكم نموذج آخر لشعراء المدرسة القديمة، الذين طغى حب المحاكاة للقديم على ما لهم من ثقافة حديثة، ومعرفة باللغات الأجنبية وآدابها، ومشاهدة لحضارة أوربا عن كثب بالزيارة والاختلاط، وتجدون هذا النموذج ممثلًا في السيد توفيق البكري. وهو أبو النجم محمد بن علي بن محمد الملقب بتوفيق البكري الصديق العمري التميمي الهاشمي القرشي، وسبط آل الحسين، ونقيب الأشراف بمصر، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية. ولد البكري1 بقصر والده المطل على النيل بجزيرة الروضة في يوم الجمعه السابع والعشرين من جمادي الآخرة عام 1287هـ - 1870م. قرأ القرآن، وتعلم مبادئ اللغة العربية في بيته، ثم دخل المدرسة العلية التي أنشأها الخديو توفيق لأنجاله، وكان يلتحق بها أبناء السادة والعظماء من المصريين، فقرأ ثمة طائفة من العلوم العقلية والنقلية، وأظهر من التفوق والنجابة ما جعله أول التلاميذ. وألغيت هذه المدرسة في سنة 1885، وسافر أنجال الخديو إلى أوربا ليتموا تعليمهم بها فأحضر له ذووه مهرة المدرسين في البيت ليتم ما بدأ من صنوف العلم، وفي سنة 1889 تقدم لامتحان "البكالوريا" بنظارة المعارف فجاز الامتحان، ونال الشهادة وكان الأول بين جميع الناجحين. ثم أبت عليه نفسه الطموح أن يقنع بهذا الحظ من التعليم، فتقدم للشيخ الإنبابي شيخ الأزهر حينذاك ليختبره بنفسه فيما يدرس الأزهر من علوم وليمنحه الإجازة فامتحنه ومنحه الإجازة وقال فيها. "ممن اعتنى بعد ما اقتنى، وقطع المفازة فطلب الإجازة

_ 1 ترجم البكري لنفسه في صحيفة أو دعها عند خلفه وابن أخيه السيد عبد الحميد البكري قبل مرضه ومنها استقينا هذه المعلومات عنه؛ وقد ضنت الكتب عليه بترجمة وافية.

ولدنا النبيل العالم النجيب الجليل، فخر السلالة الهاشمية، وطراز العصابة الصديقية، السيد محمد توفيق، نخبة نسل الرسول، وصاحب رسول الله أبي بكر الصديق بعد أن قرأ على رسالة الأوائل للشيخ عبد الله بن سالم البصري، ونبذة من الأصول والفقه، والحديث والتفسير، وطرفًا من العلوم العربية كالنحو والصرف والمعاني والبيان البديع -مع جودة الألفاظ، وحسن التوضيح والتقرير، فلما لاح كوكب صلاحه، وفاح لي نشر مسك فلاحه ورأيته أهلًا لتلك الصناعة، جدير بتعاطي هاتيك البضاعة، حيث أفاد وأجاد وأجاب، وكشف عن المعاني النقاب، وأخذ من الفنون بأقوى طرف، وأراد الافتداء في أخذ الأسانيد عن السلف بادرت لطلبه بإعطائه بلوغ أربه". وفي سنة 1893 توفي أخوه السيد عبد الباقي البكري بعد وفاة خديو مصر توفيق باثني عشر يومًا، فولاه الخديو عباس الثاني وظائف بيتهم جميعًا: المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، ونقابة الأشراف. وفي شوال 1309هـ الموافق مايو 1893 عين عضوًا دائمًا في مجلس شورى القوانين وفي الجمعية العمومية، وأنعم عليه بكسوة التشريفة من الدرجة الأولى وبالنيشان المجيدي الثاني. وفي أواخر تلك السنة رحل إلى أوربا فقابل كثيرًا من وزرائها وعلمائها وأدبائها ثم قصد القسطنطينية فأكرمه السلطان عبد الحميد واحتفى به وقابله مرارًا، وقلده بيده "النيشان" العثماني الأول، ومنحه رتبة الوزارة العلمية، وهي قضاء عسكر الأناضول. وفي 25 من رجب 1312 الموافق 1895 طلب أن يعفى من نقابة الأشراف، فأجابه عباس إلى طلبه، وقد قال السيد توفيق في سبب تخليه عن هذه الوظيفة "والسبب في ذلك أنني حين كنت رئيسًا لجلسة الميزانية في مجلس شورى القوانين طلبت أن يرتب للأزهر مبلغ من المال، ثم سعيت حتى رتب له ألف جنيه ولم يكن له غرض في ذلك إلا مساعدة العلماء، فوشى بعض أعدائي بي إلى جناب الخديو، وزعم أن لي في ذلك مقصدًا سياسيًّا، فتغير خاطره الكريم مني فرأيت من الواجب المبادرة بالاستعفاء، وقد أظهرت الأيام كذب الواشين،

وإخلاصي له فرجع سموه إلى جميل رعايته وعنايته، وأهداني صورته موقعًا عليها بخطه الكريم إظهارًا لثقته ورضاه". وفي سنة 1897 أنعم عليه السلطان عبد الحميد بمداليتي الامتياز الذهبية والفضية. وفي سنة 1900 أنعم عليه بمدالية اللياقة الذهبية، وعلى والدته بنيشان الشفقة المرصع من الدرجة الأولى. وفي سنة 1903 أعاد له الخديو عباس نقابة الأشراف. ومكث مدة يتولى هذا المنصب حتى مرض، ثم بعد ذلك يسكت البكري فلا يحدثنا عما انتابه، ولا يظهر السبب في مرضه1، ولكن يظهر أنه لما وفد البكري على السلطان عبد الحميد ومنحه تلك الأوسمة نَمَّ إلى الخديو عباس أن البكري قال: "لن يظفر سمو الخديو بالإنعام على رتبة الوزارة العلمية على مصر غيري" فغضب الخديو، وأنعم بالنيشان العثماني الأول على الشيخ الإنبابي شيخ الأزهر، وعلى المفتي، وعلى الشيخ محمد العباسي المهدي، وعلى قاضي القضاة جمال الدين أفندي، ثم أرسل إلى السلطان ملتمسًا الإنعام على شيخ الأزهر والمفتي برتبة الوزارة العلمية وهي قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاء عسكر الرومللي، فلم يصادف طلبه قبولًا. وكان إخفاق الخديوي مضاعفًا لغضبه، فتوعد البكري، وبلغ البكري هذا الوعيد فأزعجه، واستولى عليه الهم حتى خيل إليه أن أعوان الخديو يطاردونه لقتله، فلجأ إلى إحدى حجرات بيته، ولزمها، وامتنع عن الزوار، حتى لم يعد أحد يطرق بابه إلا لماما. وكان البكري يبعث في أثناء ذلك برسائله إلى المحافظة، وإلى النائب العام، وإلى رئيس النظار يستنجدهم ويطلب حمايتهم ولما لم يجده ذلك نفعًا، ذهب الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد -وكان من خلصاء البكري- إلى الخديو عباس يتوسل إليه أن يصفح عن البكري، ثم أطلعه على ما صار إليه أمره من سوء. وأمر عباس رئيس ديوانه أحمد شفيق باشا أن يذهب إلى البكري ويبث في روعه الأمن، ولكن الداء كان قد استحكم، والمرض قد استعصى على العلاج. وبعد سنوات ثلاث قضاها في آلام حتى لا يكاد يرشد، نقل إلى مصحة العصفورية

_ 1 يظهر أن هذه المحنة لم تشتد إلا في سنة 1909 لأنه ظل في قواه العقلية الكاملة حتى سنة 1906 حين كتب الرسالة المفتوحة لولي عهد إنجلترا لما زار مصر، وذكر في تاريخ مرضه أنه مكث سنوات حتى أرسل إلى العصفورية سنة 1912.

بلبنان سنة 1912 وظل ثمة حتى سنة 1928، ثم نقل إلى مصر لم يزايله المرض، وعاش ما بقي من عمره في ظلام خياله وأوهامه حتى يوم السبت 31 من أغسطس سنة 1932. وقد حدثنا عن دراسته وما قدمه من خدمات لوطنه بقوله: أما العلم، فقد اختصصت منه بعلم الأدب، والاختصاص سر النجاح؛ لأن العلم يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك ... وقد تم لي من مؤلفات: صهاريج اللؤلؤ1، وأراجيز العرب2، وفحول البلاغة3، وبيت الصديق4، وبيت السادات الوفائية5؛ وأما العمل فإما عمل في بيت، أو وظيفة، أو أمة، فما يتعلق بالبيت، فقد ثبت عقده، وضاعفت مجده6، وما يتعلق بالوظائف فقد توليت مشيخة المشايخ وأمرها فوضى، فاستصدرت لها لائحة رسمية سنة 1312هـ "1894"، فأصبحت بها أشبه بحكومة منظمة، وإدارة مقومة، ثم رسمت بوضع كتاب "التعليم والإرشاد" ليستنير به المشايخ الصوفية وخلفاؤهم في تربية المريدين، وإرشاد السالكين، وطبعته ووقفته لله.

_ 1 سنتكلم عنه بعد قليل. 2 مختارات من أراجيز العرب، وشرحها، وقد قرظه علي باشا رفاعة الطهطاوي بقوله: منها خذوا أوفى نصيب وفر ... قد شرحت ما كان شبه الجفر نورًا كزهر وشذا كزهر وقال عنه الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر: فكان أول دليل، وأعظم برهان على فضل مؤلفه علامة الزمان. 3 مختارات من شعراء العصر العباسي الفحول. وقال في مقدمته: "إنه كان كالنقطة الصغيرة من العطر، نحصل جملة كبيرة من الزهر". 4 يشتمل على أخبار البيت البكري بمصر، وعلى تراجم رجاله، وينتسب البيت البكري إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أول خلفاء المسلمين، ويرجع تاريخ إنشائه إلى أيام الفتح الإسلامي على ما كتب في التاريخ، فهو قائم منذ أكثر من ألف وثلثمائة سنة، وقد ظهر منه رجال من أهل الطبقة العليا والطراز الأول في كل عصر "راجع بيت الصديق للبكري". 5 وأما بيت السادة الوفائية فينسبون إلى وفاء الإمام المشهور المتصل بالأدارسة، ملوك العرب من آل الحسين بن أبي طالب، وأنشئ بمصر من أوائل القرن الثامن حتى انتقل إليه ملوك المغرب وكان رجاله يتمتعون بمنازل رفيعة ومقامات سامية بمصر منذ ذلك الوقت "راجع بيت السادة الوفائية للبكري". 6 يشير إلى مصاهرته السيد عبد الخالق السادات، وإلى مصاهرة ابن أخيه السيد عبد الحميد له وحين توفي السيد توفيق عين السيد عبد الحميد في مشيخة السادة الوفائية، وأصبح بذلك هذان البيتان بيتًا واحدًا.

وما يتعلق بالأمة، فقد نشأت في بلاد ترسف في الأغلال. ضائعة الاستقلال، فرأيت أن أول ما يندب على المرء أن يسعى فيه هو إرجاع استقلالها الإداري، ثم استقلالها السياسي، فرفعت صوتي بطلب الأول، كنت أول مصري نادى به في زمن الاحتلال وذلك في رسالة كتبتها لجريدة التيمس في مايو سنة 1893 "وفيها يقول: وقد أنشئ في مصر مجلس نواب بعد أن ساد فيها الاستبداد والظلم أربعة آلاف سنة، فألغاه الاحتلال واستبدله بمجلس شورى القوانين، وهو مجلس ليس له إلا إبداء رأيه كما يبديه محرر جريدة فقط، فإلغاء مجلس نوابنا هذا نقطة من أشد النقط سوادًا في تاريخ الاحتلال"، ويواصل حديثه عن عمله فيقول: ثم لم أفتأ أعمل لهذا الغرض بما يؤدي إليه، ويبعث الهمم للحصول عليه وسأثابر إن شاء الله على ذلك. ولما جاء ولي عهد الدولة الإنجليزية إلى مصر في سنة 1906 كتبت له الكتاب المفتوح الذي قالت عنه جريدة المؤيد: "إنه فعل بمصر في النفوس والعقل ما تفعله شعلة النار ألقيت في بحر من البترول". ولقد كان البكري ذا مكانة، ومنزلة رفيعة، وكانت داره ندوة العلماء والأدباء والحكام، ومقصد ذوي الحاجات، وكان في بحبوبة من العيش. أنيق الملبس، حسن البزوة راجح العقل، تدل على ذلك حكمه الكثيرة المنثورة في ثنايا كتابه صهاريج اللؤلؤ: ولعلك رأيت من تاريخه هذا أنه نشأ في بيت دين وحسب على قوله: وإني من البيت الذي تعلمينه ... أقام عمود الدين لما تأودا وأول هذا الأمر نحن أساته ... وآخره حتى يكون كما بدا وقد جاءه التزمت، والتمسك بتقاليد العرب في الأدب من جهتين: من جهة حسبه ودينه، ومن جهة دراسته الأدبية العميقة لآثار العرب إنه له فطرة شاعر وإحساس فنان، وذوقًا مصقولًا مهذبًا، وعقلًا حكيمًا مجربًا، ولكنك تتخيل كأنه في صراع بين حاسته الفنانة وبين حنينه للقديم. لقد حفظ كثير من أمثال

العرب وحكمهم، وشعرهم، وأحاط بغريب اللغة إحاطة عالم، وقد حشد ذلك كله حشدًا في كتابه صهاريج اللؤلؤ. وصهاريج اللؤلؤ هو ذلك الكتاب الذي أودعه السيد توفيق البكري ما قاله من شعر ونثر أدبي، وتكلف فيه تكلفًا كثيرًا، وحرص على أن يظهر فيه أديبًا غزير المحفوظ واسع الاطلاع على ما خلف العرب من كتب أدبية ودواوين شعرية، وأمثال وحكم وحكايات، ولغويًّا كثير المحصول من غريب اللغة على نمط ما كان يفعل كتاب المقامات مع فارق بينه وبينهم، وهو أنه كان يمثل عصره، وآراءه وحضارته، وأنه لم يكن يحكي قصة تنقصها الحبكة الفنية، وإنما كان يكتب مقالة مسجوعة في موضوع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وأنه كان يوفق في بعض أجزائه حتى ليحلق في سموات الخيال البديع، ويقدم باقة منمقة من الشعر المنثور. والذي يعنينا في كتابنا هذا من صهاريج اللؤلؤ هو شعر البكري، بيد أنه في نثره كان شاعرًا كذلك. ولولا أنه أراد أن يحاكي أدباء العصر العباسي في لغتهم وأسلوبهم حتى جنت عليه هذه المحاكاة، فلم ينطلق على سجيته، وصار يتصيد الألفاظ الغريبة، والأمثال والإشارات التاريخية، لولا هذا كله لاحتل بين أدباء عصره منزلة سامية. ولقد صدقت فيه نظرة الشاعر خليل مطران حيث قال: "أما نظمه فمتين، وله فيه نظرات إلى زمانه، ولكنه أشبه شيء بنظرات موجهة من عهد عهيد إلى عهد جديد ليس له فكر عام ثابت يتجه إليه، ولو التفاتًا في أكثر ما ينظمه، كما يلتفت حافظ إلى اجتماعياته وشوقي إلى خلقياته، فهو يقول إجابة لدعوات الطوارئ ويلبس لكل حالة لبوسها. على أننا إنما أشرنا إلى انتفاء الجامعة التي تجمع، ولو بصلة ضعيفة، بين أقسام شعره لأسباب منها: أن السيد شاعر مباه بالشاعرية عن حق، وكان من وسعة أن يحل في الرتبة الأولى من شعراء زمانه، ولو أنه أراد أن يكون من زمانه، ولكنه انتهى إلى عصر آخر، فلم يبلغ ولن يبلغ هو ولا سواه أدباء ذلك العصر؛ لأنهم كانوا يأخذون اللغة رضاعًا وفطامًا وعادة يقظة ومنام، وعشرة ومعاش،

ومنها أن السيد طالع شعر الإفرنج، وعلم منه المهمة العليا التي ينتدب لها الشاعر لا بين أمته منفردة بل بين الأمم جمعاء أحيانًا، ومنها أن سماحته أدري بأن الشعر في بلد محتاج إلى التربية والتأديب كمصر، إذا لم يكن إلا طوائف أسطر الشعر في بلد محتاج إلى التربية والتأديب كمصر، إذا لم يكن إلا طوائف أسطر ترسم مقسومة إلى أشتر ففضل الشاعر رب المقاصد والمعاني على الوزان مقطع عروض الكلام ليس بالكبير وهو إذا بما يقتضيه من المنازلة والتجلة غير جدير. هذا وللسيد من المقاطيع الشعرية ما لا يدع في معناه مقالًا لقائل، ولا مجالًا لجائل فلو جارى في كثيره قليله لأصبح قطبًا من أقطاب الزمان في الجمع بين البلاغة والبيان، أما طريقته العامة ما وصفناه، فالكلمة التي تغلب في وصف شعره أنه في القرن الرابع عشر المحمدي شعر البعثة الجاهلية"1. وهذا النقد المركز الذي صور به مطران أن شعر البكري صادق في جملته، ويحتاج إلى شيء من التوضيح؛ فالبكري جنت عليه محاكاته للقديم، ووعى من كتب الأدب الشيء الكثير، وقد يمكن أن يفيد الأديب مما قرأ في كتب الأدب من غير أن يفقد شخصيته، ومن غير أن يستغلق على القارئ، ومن غير أن يتكلف الوعورة والفخامة، واقتناص الأمثال الشاردة، والألفاظ الغريبة ولكن البكري لم يفعل ذلك بل استمد صوره وخيالاته وتعبيراته من بطون الكتب القديمة التي كان يعيش فيها بعقله وفكره ووجدانه. وإذا تصفحت صهاريج اللؤلؤ وجدت أن البكري مغرم بحشد الأمثال، والإشارات التاريخية والألفاظ الغريبة، كأنه يباهي بكثرة ما وعت ذاكرته من ذلك، خذ مثلًا قوله في وصف "غابة بولونيا" الذي أثر أن يعبر عنه نثرًا مع أنه موضوع شعري جذاب "وكأنما كل بستان شعب بوان2 وكل حائط سد ذو

_ 1 مختارات المنفلوطي ص76 ط ثانية. 2 شعب بوان: بأرض فارس بين أرجان. والنوبندجان، وقد اشتهر بجماله، لكثرة أشجاره وأغاريد أطياره، وتدفق عيونه وطيب فاكهته، وقيل فيه: إذا أشرف المحزون من رأس قلعة ... على شعب بوان استراح من الكرب والهاء بطن كالحريرة مسه ... ومضطرب يجري من البارد العذب وطيب ثمار في رياض أريصة ... على قرب أغصان جناها على قرب وفيه يقول المتنبي: مغاني الشعب طيبًا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان

القرنين، وكل طريق واد بين الصدفين، وكل قنطرة قنطرة خرازاذ1، أو قنطرة البردان2 ببغداد، وكل قصر قصر المشتهي3، وكل كنيسة كنيسة الراها4. وهاك مثلًا آخر يريك ولوعه بضرب الأمثال والإشارات التاريخية والأدبية، وإن لم تفد فائدة جديدة في إيضاح المعنى، وإنما ساقها للتعالم، وعلى طريقة المقامات "وإذا هو أجود من حاتم5، وأبا أي من حنيف الحناتم6 وأحزم من سنان7، وأعدل من الميزان وأحمى من مجير الظعن8، وأعقل من ابن تقن وأحيا من كعاب9، وأحلم من فرخ عقاب10 وأجمل من ذي العمامه11، وأثر من كعب بن مامة12، وأجسر من قاتل عقبة13، وأحكم من هرم بن قطبة14، وأبطش من دوسر15 وأجرأ من قسور16.

_ 1 قنطرة خرازاذ: منسوبة إلى خرازاذ أم أرادشير، وهي بسمرقند بين "إيدج والرباط" وكانوا يعدونها قديمًا من عجائب الدنيا؛ لأن طولها ألف ذراع وعلوها مائة وخمسون، وأكرها مبنى بالرصاص والحديد. 2 قنطرة البردان: نسبة إلى قرية قريبة من بغداد على سبعة فراسخ، وفيها يقول جحظة: في رقة البردان بين مزارع ... مجنوفة ببنفسج وبهار بلد يشبه صيفه بخريفه ... رطب الأصائل بارد الأسحار 3 وقصر المشتهي: أحد القصور التي أعدها الفاطميون للنزهة بمصر. 4 كنيسةالرها: نسبة إلى مدينة الرها -بالجزيرة بين الموصل والشام. 5 هو حاتم الطائي الجواد المشهور، وقد ذكرنا قصص جوده في كتابنا "الفتوة عند العرب" ووضعنا له صورة تاريخية واضحة بعنوان "فتى كريم" ص382 ط ثالثة. 6 أباى: من البأى وهو الفخر، وقد بلغ من فخر حنيف وزهوه أنه لم يكن يكلم أحدًا حتى يبدأه بالكلام. 7 سنان: هو سنان بن أبي حارثة، وقيل لم يجتمع الحزم والحلم في رجل فسار بهما المثل إلا في سنان. 8 مجير الظعن: والظعن جمع ظعينة وهي المرأة في هودجها ومجير الظعن هو ربيعة بن مكدم وقد وضعنا له صورة كاملة زاهية في كتابنا "الفتوة عند العرب"بعنوان "حامي الظعينة" ص342 ط ثالثة. 9 ابن تقن: يقال إنه من قوم "عاد"، وقد أراد لقمان أن يشتري إبلا له أعجبته، فامتنع ابن تقن عن البيع، فاحتال لقمان لسرقتها، فلم يتمكن لفرط حذره وفيه قال الشاعر: تجمع إن كنت ابن تقن فطانة ... وتغبن أحيانًا هنات دواهيًا فضرب بعقله المثل. الكتاب: الفتاة الناهد، وتكون عادة أشد حياء من غيرها من النساء الكبيرات. 10 أحلم من فراخ عقاب. ذكر الأصمعي أنه سمع أعرابيًّا يقول: "سنان بن حارثة أحلم من فرخ عقاب" فقال له وما حلمه: قال. يخرج من بيضة على رأس تبق، فلا يتحرك حتى يقر ريشه، ولو تحرك سقط، فضرب به المثل. 11 ذو العمامة: هو سعيد بن العاص بن أمية، وكان في الجاهلية إذا لبس العمامة لا يلبس قرشي عمامة على لونها، وإذا خرج لم تبق امرأة إلا برزت للنظر إليه من جماله ولما أقضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان خطب بنت سعيد إلى أخيها عمرو بن سعيد الأشدق فأجابه عمرو بقوله: فتاة أبوها ذو العمامة وابنه ... أخوها فما أكفاؤها بكثير ويصح أن يكون هذا اللقب لرياسته لا لجماله، وكان يلقب كذلك بذي العصابة. 12 كعب بن مامة الإيادي: جواد مشهور ذكرنا قصة إيثارة، حتى ضحى بنفسه في سبيل غيره في كتابنا: "الفتوة عند العرب" في باب الكرم ص184 ط ثالثة. 13 عقبة: هو عقبة بن سلم من بني هناءة من أهل اليمن وكان أبو جعفر المنصور، قد وجهه إلى البحرين، وأهلها من ربيعة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وانضم إلى خدمته رجل من عبد قيس لازمه سنتين فلما عزل عقبة ورجع إلى بغداد رحل معه العبدي، وبينما عقبة واقف بباب المهدي، بعد موت أبي جعفر وجأه العبدي بسكين في بطنه فقتله أخذًا بثأرقومه. فضرب بجسارته المثل؛ لأن عقبة كان مهيبًا جدًّا. 14 هرم بن قطبة: هو الذي تحاكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة الجعفر بأن، فقال لهما: أنتما كركبتي البعير تقعان معًا، ولم يفضل أحدهما على الآخر فضرب به المثل. 15 الدوسر: الجمع الضخم أو الأسد الصلب والدوسر كان يطلق على كتيبة النعمان بن المنذر وبها يضرب المثل. 16 القسور والقسورة: الأسد وجرأته معروفة.

فهذه مجموعة من الأمثال العربية؛ لأنه قصد بها وصف شخص من الأشخاص، وأنه قد اجتمعت فيه كل تلك الصفات المجيدة التي بلغت في هؤلاء الأشخاص الذين ضرب بهم المثل الغاية التي ليس وراءها مزير حتى تميزوا بها عن سواهم؛ لأن مثل هذا الشخص من نسيج الخيال ولا سيما وهذا الذي يصفه مولود لم يعرف من الدنيا شيئًا، فأي مبالغة وأي تكلف! وما قصد توفيق البكري إلا أن يسوق هذه الأمثلة للإفادة على طريقة المقامات أو لإظهار علمه، وكثرة إطلاعه ومعرفته بأمثال العرب. وحسبي هذان المثلان للتدليل على غرامه بحشد الأمثال والإشارات التاريخية، وفي صهاريج اللؤلؤ مجموعة من هذه الأمثال يصح أن يؤلف في شرحها كتاب خاص، أما عن توخيه شدة الأسر في عبارته، واصطياد غريب الألفاظ، فقد أشرنا إلى أنه اهتم بجمع مختارات من أراجيز العرب وشرحها، وكلنا يعلم أن الرجازين الذين اشتهروا في العصر الأموي كانوا مثالًا في معرفة اللغة، وأن أراجيزهم كانت منبعًا يستقي منه الأدباء والشعراء، فلا بدع إذا حين نرى البكري ملمًا بكثير من غريب اللغة، مجيدًا لاستعماله. هذا وقد اختار لفحول الشعراء في العصر العباسي مثل أبي نواس ومسلم بن الوليد، وأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي، وابن المعتز، والمتنبي، وأبي العلاء، وشرح مختاراته هذه، فاجتمع له من الأراجيز، ومن الشعر العباسي المنخل المختار مدد من الفصاحة والبيان أعانه على أن يظهر في صهاريج اللؤلؤ بمظهر المتبحر في آداب اللغة المطلع على أسرارها. على أنك تجد البكري في شعره لا يعمد إلى الغريب إلا في النادر، على حين يهتم في نثره بهذا كل الاهتمام، ولعله رأى الشعر لا يحتمل مثل هذه الألفاظ الوعرة المطمورة في ثنايا المعاجم، وأنه مقيد بالوزن والقافية، أما النثر فأمامه متسع لأن يغير ويبدل، ويضع الكلمة التي يريدها، وقد يعينه هذا الغريب على طريقته التي آثرها في الكتابة، وهي طريقة السجع ولذلك لا تجد له شعرًا مثل شعر عبد المطلب في طول القصيدة، وكثرة ما بها من ألفاظ غريبة. استمع إليه يصف متنزه "البندلر" في القسطنطينية: "وقد حف الشجر

الدواح1 بتلك البطاح، فمن شوع2 ودر ماء3، وخلاف4، وطحماء5، وريحان نضر، وعيدانة6 مرجحنة7 من سدر، وقد تلاحقت غصونها، وتعرشت خيطانها وفتونها، وخضب بينها العرفج8، وأزهر الياسمين والبنفسج، فكأن تحت كل عرش إيوانًا، وفوق كل فرش ديوانًا، وفي كل ترب جونة9 عطار، أو مسك بين أفهار10. ولا ريب أن البكري لم يكن يعرف أسماء الأشجار التي رآها في هذا المتنزة، ولو عرفها بالتركية لعجز عن أن يجد لها نظيرًا بالعربية، فأين ما ينبت في الجزيرة الحارة من شجر ونبات يحتمل الحر الشديد، مما ينبت في بيئة باردة غزيرة الأمطار؟ ولكنه استعار أسماء يعرفها في العربية معرفة قراءة لأشجار أخرى لا تنطبق عليها هذه الأسماء. وهاك مثل آخر يصف فيه معركة "أسترليتز"11: "كأني أنظر إيه يوم "استرليتز" وقد خرج لقتاله القيصران، في يوم أرونان12 "فصابت بقر"13 و"ما يوم حليمة بسر"14 فاصطف حيالة الروس، كالسطور في الطروس، وثبتوا في الأخاديد كالجلاميد وابذعروا15، في السهول كالوعول، وأقبل النمساوي في كتيبة جأواه16 وململمة17 شلاء، وينزل أولادها، وليس بنازل ويرحل أخراها براحل، فقابلهم الفرنسيس بالدهياء الدردبيس18.... إلخ.

_ 1 الدواح: الشجر العظيم. 2 الشوع: شجر البان وينبت في السهل والجبل، ويقال لثمره حب البنان، ولزيته دهن البان. 3 الدرماء: نبت أحمر الورق. 4 الخلاف: نوع من الصفصاف. 5 والطحماء: النجيل. 6 العيدانة: أطول ما يكون من الشجر. 7 المرجحنة: المائلة المهتزة. 8 العرفج: شجر ينبت في السهول واحدته بهاء. 9 جونة عطار: الجونة. سلة صغيرة مغشاة بالجلد تكون مع العطار. 10 الأفهار: جمع فهر وهو حجر يدق به. 11 استرليتز: اسم الموقعة التي هزم فيها نابليون جيوش الروس والنمسا معًا في 2 ديسمبر سنة 1805، وقد شهد الموقعة قيصرًا الروس والنمسا. 12 يوم أرونان: صعب شديد. 13 صابت: من الصوب وهو النزول، والقر: القرار، وصابت بقر أي استقرت في مقرها، ويقال هذا المثل عند شدة المصيبة أي أن الشدة صارت في قرارها متمكنة. 14 حليمة: هي بنت الحارث بن أبي شمر الغساني، ويوم حليمة كان بينه وبين المنذر بن ماء السماء وفيه قتل المنذر. واشتهر هذا اليوم لأن حليمة حببت فيه جند أبيها في قصة معروفة. 15 ابذعروا: تفرقوا وانتشروا. 16 جأواء: كدراء اللون في حمرة من صدأ الحديد. 17 الململمة: المخيفة، والشملاء: الشعلة المتفرقة. 18 الدردبيس: الداهية العظيمة.

ولعلك رأيت من هذه الأمثلة أن البكري كان يعدل عن الكلمة المعروفة إلى الكلمة غير المألوفة ولو كانت مما يغفر منه السمع مثل "ابذعروا" أو "جأواء"، و "دردبيس"، وأنه كان يجمع بين المثل الشارد واللفظ الغريب أحيانًا. وإذا نظرنا إلى شعر البكري وجدناه كما قال مطران، لا تنتظمه فكرة. أو يصدر فيه عن مذهب خاص معين، بل كان الشعر عنده وسيلة من وسائل التعبير، وحسبه أن يظهر بأنه يملك هذه الوسيلة، حتى لا يكون أدنى من سواه ممن يتصدورن في موكب الأدب، ولما كان البكري من رجال الدين وشيخ الطرق الصوفية كان من الطبيعي ألا ينطلق على سجيته في الشعر، ويخوض في كل أغراضه، ويعبر بحرية عما يجيش في نفسه. الشعر فيض الوجدان يظهر في صورة موسيقية جذابة، والوجدان ينفعل بمؤثرات عديدة فإذا كان الشاعر غير متزمت، أو متحرج مما يصدر عنه جاء شعره صادق العاطفة، معبرًا عن حقيقة نفسه، ولكنه إذا كان مثل البكري رجل دين، وسيدًا من الأشراف الذين يحتلون في المجتمع منزلة رفيعة كان من الطبيعي ألا يستجيب في شعره لكل ما ينفعل له وجدانه. ولهذا لا نرى للبكري غزلًا عاطفيًّا قويًّا وإنما هو نسيب يأتي به في أوائل القصائد محاكاة للأقدمين في طريقتهم وتشبيهاتهم، ووقوفهم على الأطلال من غير أن تكون ثمة أطلال، واستمع إليه يقول من قصيدته ذات القوافي: سقى دور مية بالأمرع ... مسف من الدجن لم يقلع1 ولو ترك الشوق دمعًا بجفني ... سقيت المنازل من أدمعي شجى يحن لألافه ... ويصبو إلى دهره الغابر فهل عائد لي زمان مضى ... بعنف الغوير إلى الحاجر2

_ 1 الأمرع: المكان فيه سهول ورمل، وهو هنا مكان بعينه. 2 النعف: المكان الرتفع، والغوير تصغير غور، وهو ما تداخل وهبط، والأغوار في جزيرة العرب كثيرة والحاجر: منزل للحاج في البادية.

ولا ريب أن البكري لم يكن خبًّا لمية وديارها بالأجزع، وإنما هو محاكاة لطريقة الأقدمين في نظم الشعر، ولم يكن البكري ممن يصبو إلى زمن الغابر ويتمنى عودته إلى نعف الغوير والحاجر إلا على التأويل أنه قرأ عن هذه الأماكن كثيرًا ويود لو أتيحت له الفرصة ليراها رأي العين، فليس البكري كعبد المطلب في حنينه إلى البادية؛ لأن عبد المطلب كان يحن إليها عن عاطفة وإخلاص، لنشأته في بيئة قريبة منها، ولاعتزازه بانتسابه إلى البدو، أما البكري فقد نشأ في بيت ترف ومجد في أحضان القاهرة، ورأى من معالم الحضارة الأوربية الشيء الكثير، ولم يكن على الرغم من شرف محتده وعلو نسبه ممن يشتهي الرجوع إلى البادية أو يعتز بها، ولكنه حنين أتى إليه من الكتب ومن المحاكاة. والأبيات ليست فيها أي عاطفة أو سمات تصح عن شخصية الشاعر. وكثيرًا ما يلجأ إلى هذا النوع في ابتداء القصائد التي يحتفي بها كقصائد المديح متبعًا في ذلك خطة كبار الشعراء الذين يعارضهم أو يعجب بهم، فأبو نواس على الرغم من ثورته على هذه الطريقة ظل يتبعها حين يمدح أمير المؤمنين أو أحد الولاة. ونرى هذا لدى البكري عن مدحه للخديوي عباس ألا جمعى شمل الدموع المبددا ... وردى لجفنيك المنام المشردا وإن تجزعي للبين لست بجازع ... ولا تارك رأي الصواب المسددا والجزع وسح الدموع ساعة الفراق مما ردده كثير من شعراء العربية؛ وهذا هو المتنبي يقول: ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعثن إلينا القتل من كل مشفق عشية يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذة التوديع خوف التفرق نرى هذا كذلك في أول قصيدته مصر التي أشرنا إليها فيما سلف عند الكلام على التغني بالطبيعة المصرية في الشعر الحديث: أديار مي تنظر ... فدموع عينك تمطر

أم أبرق العلمين أم ... سفح اللوى تتذكر1 أم تام قلبك جؤذر ... أحوى المدامع أحور2 فما زال ينظر إلى ديار مية، وأبرق العلمين، وسفح اللوى، ولا زالت المرأة عنده جؤذرًا. وفيما عدا هذه الابتداءات لا ترى للبكري غزلًا أو تشبيهًا في المرأة، وتزمتًا منه، وحرصًا على مكانته في المجتمع، وهو الحسيب النسيب، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية. وإذا انتقلنا إلى غرض آخر من أغراض الشعر وهو المديح، وجدنا أن البكري ربا بنفسه أن يمدح إلا الملوك على حد قول النابغة: وكنت امرءًا لا أمدح الدهر سوقة ... فلست على خير أتاك بحاسد وقد انحصر مديحه في أمير المؤمنين "عبد الحميد" وقد علمت كيف احتفى به، وأغدق عليه من الأوسمة والرتب ما ألهج لسانة بالثناء المستطاب، وفي عباس وهو أمير البلاد، وهو الذي ولاه مشيخة الطرق الصوفية، وإن كان قد نفس عليه مكانته من الخليفة، وجفاه، بل اشترك في المؤامرة التي حيكت لاتهامه بالجنون. وله في عبد الحميد قصيدة واحدة أثنى فيها على بلاء جيوشه في محاربة أعداء الدين، وعرج على وصف بعض الملوك، وأثنى فيها على كرمه وجوده حتى انطلق الشعراء بمدحه، وهو في وصف المعارك يخلط الجديد بالقديم، فيصف عدة السلاح التي عرفها العرب من السيف والرمح والدرع، ويصف المدفع وقصفه وحصده للنفوس. وهو يتوخى غريب اللفظ كعادته ويلجأ إلى محفوظه من التشبيهات العربية القديمة، وهاك بعض ما قاله في تلك القصيدة: أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم

_ 1 الأبرق: ج برق وهو المكان الذي اجتمعت فيه الحجارة والرمل والطين، والعلمان: مثنى علم وهو الجبل: أبرق العلمين: مكان بعينه. واللوى: ما استرق من الرمل، وسفح اللوى: مكان بعينه. 2 الجؤذر: ولد البقرة الوحشية وتشبه به الحسان لجمال عينيه؛ والأحوى: من به لون الحوة وهي سواد إلى الخضرة، والأحور: من اشتد بياض عينيه وسواد سوادهما.

لقد سر هذا النصر قبرًا بطيبة ... وبيتًا ثوى عند الحطيم وزمزم وهذا مدح ينكره الواقع فلم يقم عبد الحميد عن كل مسلم بالإسلام، بل هو الذي طوح بالإسلام حتى عرفت تركيا في عهده بالرجل المريض، ونهب الأعداء ولايات عديدة من تركيا مثل طرابلس وتراقيا وغيرهما، وإذا كان عبد الحميد وجنده قد انتصروا في بعض المواقع، فإن العاقبة كانت وخيمة، ويقول في مدح عبد الحميد كذلك: له في الأعادي حملة يعرفونها ... وأكبر منها حملة في التكرم عطايا تظناها لإعظام قدرها ... أماني نفس أو رؤى من مهوم أياديه أبدت خافي الشعر للورى ... وكان مجنًا مثل سر مكتم كذلك زهر الروض يبدو من الثرى ... إذا ما سقاه مسجم بعد مسجم والمدح بالشجاعة والكرم -وهما أعظم خلتين لدى العرب- قديم جدًّا في الشعر العربي، وقد أفتن الشعراء في توليد المعاني منهما، ولم يدعوا مجالًا لقائل، ومن قوله يصف جيوش عبد الحميد: أسأل جفاج الأرض بالجند يلتوي ... كأغدرة الوديان في كل مخرم وقد نظر في هذا البيت إلى قول الشاعر: "وسألت بأعناق المطي الأباطح" يموج بها الماذي في رونق الضحى ... كما ماج لج بين أرجاء عيلم فمن كل مغوار ترى الروم دونه ... طرائد وحش بين أظفار قشعم ومن كل ذيال كأن هويه ... هوى شهاب أو عقاقب محوم ومن كل حصداء دلاص كأنها ... على عاتق الأجناد بردة أرقم فهو يشبه الجيش في الضحى بالأمواج المتدفقة في بحر كبير، ويشبه التركي الشجاع بالنسر الذي يطارد وحشًا، ويصف الفرسان بأن هويها كالشهاب أو العقاب، ويصف الدروع الواسعة السابغة بأنها على أكتاف الجنود كأثواب الثعابين في نمنمتها ونقشها، وهذا كلها أسلحة قديمة، وأوصاف مطروقة من قبل، ويطول بنا الحديث لو تعقبناه عرفنا مآخذه، ومن وصفه للمدفع قوله:

ومن منجنيق يستطير شواظه ... بفوهة فيه كباب جهنم عليه دخان يقطر الجمر بينه ... كأسود دجن بالصواعق يرتمي وقد سمى المدفع منجنيقًا لأن العرب كانت تعرفه، ولم تعرف المدفع، وشتان بينهما، وفي مدحه لعباس تراه يبتدي بذلك النسيب الذي أشرنا إليه ثم يعرج على وصف السفينة التي أقلته إلى مصر، وقد عدل عن وصف الناقة التي كانت توصل الشاعر إلى الممدوح وتشق به الصحارى إلى السفينة التي أوصلته إلى مصر وشقت به عباب البحر، وقد وصف عباسًا بالحلم في حزم، وإنجاز الوعد، والكرم، وبأنه حسام في يد الإسلام وبأنه كالنجم الثاقب في الرأي، ثم انتقل إلى مدح الأسرة العلوية مشيدًا بفتوحهم وبلائهم في خدمة مصر، ومن قوله يصف السفينة والبحر: أخوض عبابًا فوق فلك تظنها ... على سروات الماء قصرًا مشيدًا1 تهادي به مثل العقاب، وتارة ... ترقى من الأمواج صرحًا ممردا وترزم حينًا فيه حتى كأنها ... تجوز على العلات حزنًا وقرددًا2 خضارة مرآة السماء فلم تزل ... ترى وجهها فيها وإن بعد المدى3 فإن أشرفت فيه الغزالة خلتها كعين ... بجوف البحر تقذف عسجدا وإن لاح تحت الماء بدر رأيته ... كماوية يعلو على متنها الصدا وربما خلت النجوم عشية ... لآلئ في قاعيه مثنى ومفردا كأنا وقد جزنا لمصر فرنجه حنيف ... تخطى من ضلال إلى هدى تؤم بها العباس في دست ملكه ... كما أم سفار على الجهد موردا وهنا ترى البكري يلجأ إلى القديم تارة، ويجدد في صوفه أخرى، فإرزام السفينة من إرزام الناقة وهذا قديم، كما أن تشبيه هويها بهوى العقاب قديم

_ 1 السروات: جمع سراة وهي من الطريق أعلاه ومتنه. 2 إرزام الناقة: صوتها حين التعب، ويريد هنا أن السفينة تتعثر في الموج، والعلات: الحالات المختلفة وجرى على علاته أي على كل حال، والحزن: ما غلظ من الأرض، والقرددا: الأرض الغليظة المرتفعة. 3 خضار: علم البحر.

كذلك، وتشبيه البحر بأنه مرآة للسماء ترى فيه وجهها على الرغم من بعد الشقة، وتصوير الشمس المشرقة في البحر بأنها عين تقذف عسجدًا، وتشبيه البدر بأنه مرآة صدئة وصف جديد حقًّا. وطريقته في التخلص من وصف السفينة إلى المدح هي طريقة القدامى في التخلص من وصف الرحلة والناقة إلى المدح تمامًا: ومن قوله يمدح عباس: حليم يزيد الحلم منه حفاظه ... كما خشن اللين الجراز المهندا1 أجل أمير قام بأسًا ونائلا ... وأنجزهم طرًا وعيدًا وموعدًا تراه بمصر بعد والده الرضى ... كمثل الربيع الجون خلفه الجدا يذود عن الإسلام حتى كأنه ... حسام به الإسلام أضحى مقلدًا له شيمة فيها ثوى الفضل كله ... كما قد ثورى كل الكلام بأبجدا ورأى إذا ما أظلم الخطب خلته ... كنجم في ظلمة الخطب يهتدي وفكر كمرأة المنجم في الورى ... يرى اليوم فيها ما يبين لهم غدا ولعلك تلحظ ظاهرة واضحة في شعر البكري، بل وستجدها في كل آثاره الأدبية وهي فرط غرامه بالتشبيهات، فكل صفة مهما بلغت من الوضوح لا بد لها عنده من تشبيه يؤكدها، وقد يوفق في بعض هذه التشبيهات ويبتكر، وقد يخفق في التجديد، ويحاكي الأقدمين، وكأن التشبيه لديه مقصود لذاته، وربما أتى هذا لاعتقاده أنه مظهر الخيال، وهو يريد أن يباهي بخياله الأدبي، ويظهر للملأ أنه يحتل منزلة لا تداني في هذا المديان. فوصف الأمير بالحلم مع الحفاظ والذود عن المكارم وصف قديم وأشهر ما قيل في هذا قولهم "لين في غير ضعف"، ووصفه بالشجاعة والكرم وبإنجاز الوعد والوعيد ليس فيه جديد، أما عن تشبهه بالربيع الذي خلفه المطر فقديم كذلك، ومن أحسن ما قيل في هذا قول الشاعر:

_ 1 الجراز المهند، هو السيف، والحفاظ: الشدة والبأس، والحرص على الكرامة والذب عن المحارم.

وما روضة حل الربيع نطاقها ... وجرت بها الأنواء احاشية البرد إذا حدرت فيه النعامى لثامها ... تثني عطفه الحوذان والتف بالرند بأطيب نشرًا من خلائقه التي ... تنم برياها عن العنبر الورد ثم ألا ترى معي أن أضعف الوصف حين شبهه بحسام تقلده الإسلام بقوله: "حتى كأنه حسان" وتشبيه الأمراء والقواد والممدوحين بالسيف معرق في القد: وما أردأ قوله: "كمال قد ثوى كل الكلام بأبجدا" فليس فيه أي رائحة من الشعر، وكان في غنى عن الالتجاء إلى التشبيه إذا أعوزته المقدرة على الابتكار. وتشبيه الرأي بالنجم الثاقب من التشبيهات المتداولة المعروفة منذ أن نظر شاعر عربي في صفحة السماء في ليلة بالنجوم ويخيل إليك أنه جدد في وصف فكر الأمير بأنه كمرآة المنجم يرى فيها اليوم ما سيأتي به الغد، ولكن ألا ترى أن هذا المعنى قد أتى في قول البحتري: تشف أقاصي الرأي في بدأته ... لعيني، وستر غير رقيق ولم يتورط بذكر المنجم الذي يوفق حينًا، ويضل في أغلب الأحيان؟؟ ومرأة المنجم هذه ليست مما يؤمن به العصر الحاضر وقد كانت شائعة في القديم وهي معرفته بحساب الجمل والحصر الذي أدعى الناس أن أهل البيت هم الذين ألفوا فيه، قال أبو العلاء المعري: تعد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم من مسك جفر ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر ولعل مرآة المنجم اليوم هو ما يسمى بالمندل، وهذا كله رجم بالغيب وقد تفرد الله بعلمه. وبعد أن انتهى الشاعر من مدح عباس والثناء على خلاله وسجاياه، ومدح آباه وأثنى على شجاعتهم وقيادتهم الجيوش يدافعون عن الخلافة، وعن البيت الحرام1: ففسل جموع الخارجين ببأسهم ... وأتهم فيهم بالفتوح وأنجدا وحامي عن القبر الذي عند طيبة ... وذاد عن البيت الذي عنده كذا

_ 1 يشير إلى معاوية الجيوش المصرية للخليفة في غزوة كريت، وتهدئة الثورة في اليونان، ومحاربة الوهابيين.

ولم يمدح البكري كما ذكرنا غير الخليفة والخديو، وليس له في منهما سوى قصيدة واحدة وإن مدح عباسًا في خلال قصيدته التي يصف بها مصر بما لا يخرج عما قاله في هذه القصيدة، ومن ذلك قوله: ملك بضوء جبينه ... تسقي البلاد وتمطر السيد المحض العلا ... والجوهر المتخير العدل مما ينشر ... والمجد مما يذخر خلق حوى كل الفضا ... ئل فهي عنه تؤثر جود وباس في الورى ... بهما يخص ويشهر وهذا الوصف ليس فيه جديد يضيفه إلى قصيدته السابقة، وقد خلا مديحه من الاستجداء، ولم يطل فيه ضنًا بكرامته وشرفه، ولعله أتى من قبيل أداء الواجب وهو الشاعر المباهي بشاعريته، والذي ينتظر منه أن يقدم ولاءه لخليفته وأميره، ولو قصر لليم على تقصيره ولعلك رأيت أنه وصف عباسًا بكثير من الصفات التي لم يتحل بها على عادة الشعراء القدامى في المدح. ومن الأغراض التي أجاد فيها الوصف، ولكنه قليل من شعره، بل إن شعره كله قليل، وقد وصف مصر في قصيدة عامرة له فيها لفتات شعرية سامية، ومن هذه القصيدة التي أشرنا إليها في غير هذا الموضع1 قوله يصف جمال مصر: والنيل في لباتها ... عقد يلوح مجوهر والجو صحو مشرق ... وكأنما هو ممطر والظل من خلل الشمو ... س مدرهم ومدنر وعصونها لد ... ن تميد بما تقل وتثمر فكأنهن ولائد ... في حليها تتكسر هي نسج وشى ... نيلها فيه الطراز الأحمر

هي مثل لوح صور الـ ... ـفردوس فيه مصور يا جنة يجني الجنى ... فيها ويجري الكوثر أنا شاعر في وصفها ... لكنها هي أشعر وفي بعض هذا الوصف جدة، فتشبيه النيل بأنه عقد جوهر يجلي جيد مصر، وتشبيه الأغصان المحملة بالثمار المختلفة الألوان بالولائد اللاتي يتكسرن في مشيتهن وهن حاليات، وتشبيه مصر بأنها لوح صورت فيه الجنة، قوله: إنها بجمالها أشعر منه في شعره الذي يمدحها به من الجديد في الوصف. ويدل على حبه لبلاده وعلى خيال سام في تصويرها. وتراه في بعض أبيات هذه القصيدة يقتفي أثر البحتري في وصف إيوان كسرى، استمع إليه يصف قصر "عابدين" والصور التي تزين جدرانه وقد مثلت عليها وقائع حربية: فترى الوقائع منظرًا ... وكأنما هي مخبر والجند تخطر في الـ ... ـحديد فدارعون وحسر والخيل بين عجاجها ... تخفي وحينًا تظهر وتظن أحياء بها ... فتمس كيما تخبر ففي هذه الأبيات شبه كبير وتأثر واضح بتلك الأبيات التي وصف فيها البحتري معركة أنطاكية. والمنايا مواثل أنو شروان ... يزجي الصفوف تحت الدرفس وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منهم وإماض جرس من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس تصف العين أنهم جد أحيـ ... ـاء لهم بينهم إشارة خرس يغتلي فيهم ارتيابي ... حتى تتقراهم يداي بلمس

وقد وصف البكري في هذه القصيدة الجزيرة وخروج النساء للنزهة بين أرجائها من مركباتهن وقد أبدع في الوصف حين قال: عجلاتها فلك ... بأشباه النجوم يدور من كل خركاة ... بحسناء تضيء وتقمر فكأنها المشكاة ... والمصباح فيها يزهر والخركاة مركبة النساء في المواكب، وتصويره المركبة بأنها كالمشكاة والحسناء فيها كالمصباح تصوير طريف، وتراه بعد ذلك يصف حديقة الحيوان: فيها النعامة والحبا ... رى والمها والقسور كسفين نوح أظهرت ... ما كان فيها يضمر وترى الغصون على الأرا ... ئك تلتوي فتشجر وجداول كسبائك ... بسنا الأصيل تعصفر وقد نظر في البيت الأخير إلى قول الشاعر: "ذهب الأصيل على لجين الماء" ماء كبلور يذو ... ب وأدمع تتقطر يروي القطا الكدري منه ... وينتحيه الجؤذر في حافتيه الورد والنـ ... ـسرين والنيلوفر وعليه من نسج الصبا ... درع هناك ومغفر وفي هذا المعنى قال ابن المعتز يصف روضًا: فكأن الروض وشى ... بالغت فيه التجار نقشه آس ونسر ... ين وورد وبهار وقال في وصف غدير: غدير ترجرج أمواجه ... هبوب الرياح ومر الصبا

إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبًا1 وقال الطغرائي في وصف غدير كذلك: حصباؤه در ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدرر2 وقد كسته الريح من نسجها ... درعًا بها يلقى نبال المطر وألبسته الشمس من صبغها ... نور به يخطب نور البصر كأنه المرأة المجلوة على ... بساط أخضر قد نشر ولم يزد ما قاله البكري عما أتى به ابن المعتز والطغرائي شيئًا: ومن الجدير في هذه القصيدة قوله في وصف المتحف. وقد حشدت فيه أجساد الفراعنة: نشرت به أمواتهم ... فكأنما هو محشر رمسيس أين مطارف الد ... يباج أين الجوهر؟ أين السرير وأين تا ... ج الملك أين العسكر؟ نم في رقاد ليس في ... أحلامه ما يذعر فالموت نوم أكبر ... والنوم موت أصغر دنيا تشابه ملعبًا ... والليل ستر يستر والفصل يضحك والثر ... يا الشمس فيه تنور جند هناك وسوقة ... ومتوج ومسخر فإذا طرحت ثيابهم ... ساوى الأعز الأحقر

_ 1 الجوش، الدرع. 2 الرضراض: صغار الحصى والعسجد الذهب، وسحالته: برادته.

وتشبيه الدنيا بأنها ملعب تمثل فيه رواية الحياة، والليل هو الأستار التي تسدل على المسرح قبل الرواية، والشمس هي الثريا التي تضيء المسرح، والناس هم الممثلون، وهذا يمثل جنديًّا، وهذا سوقة، وهذا ملك، وهذا خادم، ولكنك إذا طرحت هذه الثياب وجدتهم جميعًا سواء في التركيب الجسماني -لعمري لفتة شعرية بديعة من البكري، ومن الجديد في تلك القصيدة التفاته إلى خلق المصريين ووداعتهم، وقلما التفت من وصفوا مصر من الشعراء إلى خلق أهلها: وطن الغريب وداره ... وقبيله والمعشر وقد تكلم عن مجد مصر القديم وأنه كلما ازداد قدمًا ازداد حسنًا وروعة: والمجد مثل الخمر يكـ ... ـرم ما توالي الأعصر كانت سلاطين الورى ... فيه تشيد وتعمر والغرب من أعماله ... والقبلتان وتدمر1 والخيل خيل الله تر ... كب والطوائف تنصر وفرنجة ومليكها ... تغري بمصر وتؤسر هذي مناقب مصر تر ... وي في الأنام وتسطر ولم يكتف بذكر الماضي، ولكنه نظر إلى المستقبل، وكان متفائلًا في نظرته، محبًّا لبلاده: ولسوف يرجع ما مضى ... ويعود ذلك المفخر وكذا الزمان يدور والـ ... ـقدر المغيب محور والبدر إن وافى السر ... ار فبعد ذلك يبدر والعود يبس برهة ... فإذاه عود أخضر

_ 1 يشير إلى امتلاك المصريين لبلاد المغرب أيام الفاطميين ولبيت المقدس والحجاز. وقلعة تدمر.

ومن روائع وصفه "النيازج" في إحدى حفلات القصر الليلية، وقد خرجت منها مناظر عدة، فمن ثعابين، وطيور، وأزهار ونخيل، في ألوان وأصباغ مختلفة. فمن شهب تمتد في الجو مصعدًا ... وتلوي على جنبيه مثل الأراقم وتمطر فيه لؤلؤا وزبرجدا ... شآبيب منها ساجم بعد ساجم فطور نرى أن السماء حديقة ... تفتح فيها النور بين الكمائم وحينًا نرى أن الحديقة في الدجى ... سماء تهاوي بالنجوم الرواجم ولكنك لا تجد له شعرًا كثيرًا في الوصف، فهو مقل جدًّا، ولو أنه عنى بالشعر واحتفل به، ولم يأنف من أن يصير شاعرًا مكتمل الشاعرية يخوض في كل أغراض الشعر ويستجيب لانفعالات قلبه ووجدانه، لكان في طليعة شعراء مصر. وله قصيدة في الفخر والرثاء معًا بعنوان: "أبي" عارض فيها المتنبي حين رثى جدته حين قال: ألا لا أرى الأحداث مدحًا ولا ذمًا ... فما بطشها جهلًا ولا كفها حلمًا أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمتواها التراب وما ضما وإن لم تكوني بنت أكرم والد ... فإن إباك الضخم كونك لي أما وقد قال البكري من نفس البحر والقافية: سقت رحمة الله الضريح وما ضما ... وروت به هامًا وروت به عظمًا يغز على العلياء أن يسكن الندى ... ترابًا وأن نلقى به الحسب الضخما وفيها يقول واصفًا خلال والده:

وكفان كانا كالفرات ودجلة ... يريشان من خصا بجود ومن عما وعلم هو اليم الذي قد تنورت ... أواذيه الوراد فاستصغروا اليما وبطش لمن عاداه تحسب أنه ... شهاب هوى في إثر عفرية رجما وصدر هو الدهناء في الأزم فسحة ... وليلة سر عند إسرافه كتما وقول عريق في الفصاحة لوغدت ... تساجله عرب إذا أصبحوا عجمًا وعدل هو العدل الذي قد قضى به ... أبو حفص الفاروق في طيبة حكما فهذا أبي من بيت تيم بن مرة ... إلى نضد من هاشم يفرع النجما وما ذاك في مديحه شعر ... وإنما خلائقة در أجدت له نظمًا هذا يقف وقفة على قبور آل الصديق يتذكر فيه أمجادهم، فتأسى نفسه لما أصابهم. وإما تراءت هيلت النفس عندها ... قشعريرة للهيب أو وجمت وجما أهيل على مثل العوالي ترابها ... ووارت لدى إطباقها الدين والعلما على أن البكري أشعر ما تراه في مقطوعاته الصغيرة، وقد ضمنها بعض الحكم والأفكار الجديدة، والخطرات العارضة، فمن ذلك قوله في ظلم السادة للرعية، وفي هيبة الناس الملوك وخشيتهم إياهم مع أنهم هم الذين ملكوهم. لا تتعجبوا للظلم يغشى أمة ... فتنوء منه بفادح الأثقال ظلم الرعية كالعقاب لجهلها ... ألم المريض عقوبة الإهمال وقوله في هذا الغرض كذلك: والناس يخشون من بطش المليك به ... وما له دونهم بأس ولا جاه كصانع صنمًا يومًا على يده ... وبعد ذلك يرجوه ويخشاه فهو وإن نظر إلى قول المعري:

من المقام فلا أجاور أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستباحوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم جراؤها إلا أنه جدد وابتكر وما أبدع قوله: "كصانع" في وصف علامة الرعية بمليكها ومن هذه الحكم قوله: وفي وسعة المرء نيل العلا ... وقد يمنع المرء ما يمنع صغير من الأمر يلهيه ... عن بلوغ العظائم أو يقطع كعين تحيط بهذا الوجود ... جميعًا ويحجبها إصبع وفي هذا التشبيه براعة وتجديد، ومن قبيل هذا قوله في وصف شقيين: شقيان في خلق واحد ... تؤلف بينكما الزندقة كشقي مقص تجمعتما ... على غير شيء سوى التفرقة وله في قصيدته التي سماها "ذات القوافي" خطرات بارعة مثل هذا الذي ذكرناه، حى يصل فيها إلى القمة فمن ذلك قوله متغزلًا: نحلت فلو ذدتها ما خشيـ ... ـت رقيبًا يراني فيمن يرى ولو زرت مية في يقظة ... لظنت بأني خيال سرى يمر ولم أدر شهر فشهر ... كأني في فلك لم يدر وأتراح إما تمنيتها ... ويا رب أمنية كالظفر أسير ولا ارتضى بالعتاق ... ومضنى وأجزع أن أبرأ وإن سلمت خلتها ودعت ... وأحسب مقتربي منتأى

إذا كنت وحدي أكون وإيا ... ك أو خاليًا فاشتغالي بك وأطلب المجد والمكرما ... ت لتحسن لي شيمة عندك ليحنو قلبك رفقًا علي ... فالصخر بالماء تقد ينبجس وصوني الوداد وفيه الذماء ... فلن يورق العود إما يبس وما أجمل قوله في ختام هذه القصيدة: زمان إذا ما تذكرته ... تخيلته حلمًا في الكرى وعهد الشباب كرؤيا إذا ... مضت أدركتها نفوس الورى ومن هذه المقطوعات الصغيرة قوله في الشيب: أشعرة بيضاء ... أم أول خيط الكفن أم تلك سهم مرسل ... لا يتقي بالجبن والزرع إن هاج فقد ... حان الحصاد وأني وقد قال ابن الرومي في هذا المعنى: لم أخضب الشيب للغواني ... لأبتغي عندها ودادًا لكن خضابي على شبابي ... لبست من بعده حدادًا وقد علق الأستاذ العقاد على قول الشاعرين في الشيب بقوله: "كذلك الفرق بين خضاب الحداد، وأول خيط الكفن، فكلاهما مغالطة لا تعبر عن الواقع، ولكن وصف الخضاب بالحداد تهكم جائر من حيث لا يجوز أن يخطر ببال أن شعره الشيب الأولى خيط من خيوط الكفن لا على سبيل الجد، ولا على سبيل التهكم". ولكن يخطر على البال أن الكفن أبيض اللون، وكذلك الشيب، وأن الشعرة الأولى إذا انضمت إليها شعرة أخرى، وأخذ شعر المرء في البياض دل ذلك عادة على شيخوخة وضعف، فإذا تم الشيب فكأنما تم نسج الكفن في انتظار المنية.

ومن قبيل هذا قوله: وما أذن النوم لما أقاموا ... صلاة الجنازة يوم الوفاة وأذن للطفل يوم الولاد ... فهذا الأذان لتلك الصلاة وقد اقتفى فيهما أثر ابن الرومي عن قوله: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد وقد علق الأستاذ العقاد على هذه المعارضة بقوله: "إنه يعتسف أحيانًا ويهتدون، ومن أمثلة ذلك فيما تقدم قوله في أذان الولادة وصلاة الجنازة، وقول ابن الرومي في بكاء الوليد عند استهلاله، فإن بكاء الطفل وهو يخرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا مثل صادق من تصاريف الحياة، ومثل شائع بين جميع الناس، وأما النسبة بين أذان الولادة وصلاة الجنازة فهي مناسبة "موضوعة طارئة" لا توافق هذا المعنى المتصل بالمولد والممات، وهما أعم شيء وأعمقه في وجود الإنسان، وقد كان جائزًا أن يختلف الأمر فنصلي شكرًا للولادة تؤذن إعلانًا للوفاة، وقد جاز عند ملايين من الأحياء ألا تقام الشعيرتان، فالفرق بين معنى ابن الرومي ومعنى البكري هو الفرق بين المناسبة الموضوعة والمناسبة الصادقة التي لا يؤثر فيها اختلاف الشعائر والعادات والأقوام والأزمان"1. هذا هو كل ما قاله البكري من الشعر، لا يزيد عن أربع قصائد وبعض مقطوعات وشذرات ضمنها آراءه العارضة وخطراته، وبهذا يصدق عليه قول مطران: بأنه لم تكن له جامعة تربط بين أجزاء شعره، وأنه كان مقلًا في هذا الشعرن وقد علل الأستاذ العقاد لهذه القلة بأن البكري كان يكتب كثيرًا، ولا ينظلم إلا عرضًا في أثناء الكتابة، أو في خاطره عابرة قلما يسترسل معها إلى الإطالة، فاتسعت له في النثر مجالات السليقة الشاعرة، ظهرت فيه لفتات الشاعر وأغراضه وخصائص ذوقه وفكره، ولعله لو أطال النظم كما أطال النثر لكثرت موضوعاته، وتساوت في هذه المزية قصائده ومقاماته، وربما كان البكري ممن يرون كما كان يرى الأقدمون "أن الشعر أسرى مروءة الدنى، وأدنى مروءة السرى"، وأن الانقطاع له والإكثار منه لا يجملان بصاحب المقام الديني والحسب

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص57- 58.

العريق، وليست الكتابة كذلك عند أصحاب هذا الرأي، ولا سيما الكتابة التي صاغ في قالب الرسائل بين الأكفاء ولا يطلع عليها القراء إلا إذا طالعهم بها أديب من محترفي الصناعة، ليتولى هو شرحها وتقديمها إلى الناس، كما جرى في كتاب صهاريج اللؤلؤ ديوان البكري الجامع لنخبة نثره وشعره1. وفي الحق إن نثر البكري شعرًا لا ينقصه إلا الوزن، فكثير من موضوعاته التي يدبجها نثرًا، لا تصلح إلا للشعر، وقد استطاع -على الرغم من أنه قيد نفسه بالفخامة والجزالة، وتصيد الغريب، وإيراد الأمثال العربية القديمة، وبالعبارة المسجوعة- أن يقبس من سموات الخيال الشعري قبسات مشعة، وأن يمثل عصره أتم تمثيل في فكرته لا في عبارتهن وفي خياله لا في صياغته. دعنا نستعرض نثر البكري لنتبين هذه الحقيقة فأول موضوعات صهاريج اللؤلؤ عن رحلته إلى القسطنطينية، وفيها وصف للسفينة والبحر والليل والقطار والبسفور، ونساء الأتراك ومتنزهات المدينة وهي كلها من الموضوعات التي يصح أن ينظم فيها شاعر حساس ذو خيال ووجدان، ولم يتعرض البكري لوصفها نثرًا إلا لأنه يملك هذه الحاسة الفنية، ويملك الخيال الذي يصور به مشاعره. ولعله لم يجد القدرة في الشعر حتى يؤثره بتسجيل خواطره، ولم يكن أمامه إلا البارودي وكان لا يزال في منفاه، ولم يضرب في كل ميادينه ولم يجمع شعره إلا بعد عودته من المنفى، ولعله برم بالشعر لتقيده بالوزن والقافية، فأثر العبارة المنثورة لتحمل خياله المجنح، وتتسع لوصفه البديع. ولا يسعنا أن نأتي على كل موصوفاته، ولنتخير من وصفه للقسطنطينية قوله في وصف البحر "والبحر أونة كالزجاج الندى أو السيف الصدى، يلوح كالصفيحة المدحوة2 أو المرآة المجلوة، وحينا يضرب زخاره، ويموج مواره، فكأنما سيرت الجبال، وكأنما ترى قبابًا فوق أفيال، وكأن قبورًا في الين تحفر، وألوبة عليه تنشر، وكأن العد3 يمخض عن زبد، وكأن الدوى من جرجرة الأذى زئير الأسد وهزيم الرعد.

_ 1 المصدر السابق ص7. 2 الدحوة: المبسوطة. 3 العد بالكسر: البحر، ويمخض: يحرك.

يكب الخلية ذات القلاع ... وقد كاد جؤجؤها ينحطم1 فإذا كان الأصيل، وسرى النسيم العليل رأيت البحر كأنه مبرد، أو درع مسرد2 أو أنه ماوية3 تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية، وكأنما كسر فيه الحلى، أو مزج بالرحيق القطريلي4 وكأنما هو قلائد العقيان، أو زجاجة المصور يؤلف عليها وصفًا دقيقًا جميلًا. واستمع له كذلك يصف الليل وهو على ظهر السفينة، وماذا عسى أن يرى الناظر بالليل، والبحر أمامه ساكن أسود وستر الليل يحجب عنه الدنيا، والسفينة ماضية في طريقها، ولا تخشى ضيرًا، ولا تلوي على شيء، ولا تسمع إلا جرجرتها وهدير الأمواج من حول كأنها تتألم من وقع خطاها، ولكن الشاعر يرى ما لا يراه الناس، ويحس ما لا يحسنون، ويسبح خياله في عالم قل أن يدركوه إلا أن يحققه لهم في نثره الشعري، أو شعره القوي، قال البكري: "حتى إذا أخضل5 الليل. وأرخى الذيل، بدا الهلال كأنه حنجر من ضياء يشق الظلماء، أو قلادة، أو سوار غادة، أو سوار لواه الضراب، والليل فيل وهو ناب، أو عرجون قديم، أو نون من خط ابن العديم6، أو برثن ضيغم، أو مخلب

_ 1جؤجؤ السفينة: صدرها ومقدمتها، والخلية العظيمة. 2 المبرد: المثقب. 3 الماوية: المرآة. 4 القطريلى: منسوب إلى قطريل بلد بالعراق اشتهر بالخمر في القديم. 5 أخضل: أظلم، وأقبل طيب برده. 6 ابن العديم: هو كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي حرارة ولد في سنة 586هـ وكان محدثًا حافظًا مؤرخًا صادقًا، وفقيها مفتيًا، منشئًا بليغًا؛ وكان رأسًا في الخطب المنسوب ولا سيما النسخ والحواشي وله من المصنفات: تاريخ حلب، وكتاب الداري في ذكرى الدراري، وكتاب في الخط وعلومه وضروبه توفي سنة 666هـ.

قشعم1 أو ماء في أنبوب في روض، أو ثمد2، في أسفل حوض، أو وشى مرقوم أو دملج من فضة مفصوم، أو قلامة ظفر، أو صنار في شبك في بحر. أيا ضوء الهلال لطفت جدًّا ... كأنك في فم الدنيا ابتسام يحبب لي سناك العشق حتى ... يصاحبني وأصحبه الغرام ثم إذا غاب الهلال، وتوارى في الحجال ألفيت الكون من السواد في لبوس حداد، وكأنما الماء سماء، وكأن السماء ماء، وكأن النجوم در تموج في بحر، أو ثقوب في قبة الديجور، يلوح منها النور، أو سكاك دلاص3، أو فلق رصاص، أو عيون جراد، أو جمر في رماد، أو الماء صفائح فضة بيضاء سمرن بمسامير صغار من نضار، فلا تفتأ السفينة تكابد الويل من البحر والليل، حتى يلوح من الأفق الضياء كابتسام الشفة اللمياء، فإذا السفينة كأنها سر كتمه الظلام وكشفه الضرام". لقد أفتن البكري أيما افتتان في وصف الهلال في ظلمة الليل، ولم يدع تشبيهًا يخطر على البال، وقد لا يخطر على بال أحد إلا أتى به، وكذلك فعل في وصف النجوم، وقد أبدع في وصف النجوم حين عكس الماء صورتها بأن الماء صفيحة فضة سمرت بمسامير من ذهب، وهذا الوصف قيل لذاته لا يحمل إلا فكرة شعرية. وللبكري غير هذا النوع من الوصف الذيب تردد في غير ما موضع من صهاريج اللؤلؤ موضوع اجتماعي جذاب هو "العزلة" وصف فيه مجتمعة ولم آثر العزلة؟ أبناء العزلة: وصف فيه الحاكم وغطرسته وجهله، واستعباده للمرءوسين، ووصف فيه أبناء الخاصة وزهوهم، وتبديدهم للمال الذي يجمعوه بالكد والكدح ولم يعرفوا مقداره، وصف أبناء العامة، وشقاءهم، وله فيه خطرات اشتراكية تدل على سعة أفق، وعلى نفس حساسة تتألم للبشر وللفقر الذي

_ 1 القشعم: النسر الكبير. 2 الثمد: الماء القليل لا مادة له. 3 الدلاص: الدرع الملساء اللينة.

يرزح تحتهما الشعب المصري المسكين، وعلى ثورة نفسية على الوضاع السيئة في المجتمع المصري، ومالي أتكلم عن البكري وقد أبدع أيما إبداع فلأدعك وإياه. قال: "كتابي إلى السيد أيده الله وكلأه ورعاه، وأنال على بقري السواد، وريف البلاد، بعيد عن المدينة، وما فيها من الشينة والزينة، في عزلة عن الناس، بين سقى وغراس، سليم الجسم من السقم، والنفس من الألم، والحمية من الأنام كالحمية من الطعام، شفاء من كل داء، وخليق بمن أرطم، في المزدحم، أن يصاب ببعض الأوصاب". وهذا لعمر الحق قول سديد، ورأى رشيد في العزلة، يدل على تبرم بالمجتمع، وهو فلسفة من يريد العافية بالعزلة. ويقول واصفًا الريف: "ياما أحيلي الوحدة والريف، وذلك المشتى والمصيف، والجو السجسج1 والظل الوريف. فجر يلوح في الأفق، كالنور في الأعين الزرق، وضياء، ينبثق في الفضاء كما ينبثق الماء، وشمس تبدو للإشراق في الآفاق كبودقة فيها ذهب، أو قنبلة ترمى باللهب، فيرتفع جرس كل حيوان كممنون في الأوثان2"، ويقول في وصف النواعير: "ونواعير كأنها عشاق بعد فراق، لم يبق فيها غير ضلوع، وأنين ودموع، قد أوشم3 النبت حولها وطر، واستدار الحدج واخضر" وبعد أن وصف الريف وما فيه من ماشية وزروع، وأنهار وغدران، وما فيه من حر لافح في الصيف، وبرد قارس في الشتاء وما فيه من طعام مليء بالخيرات والدسم، إلخ ذكر أنه في عزلته هذه لا يصحب إلا العلماء والأدباء ذوي الألباب والأفهام منهم: أبو تمام، والحارث بن همام، وعروة بن الورد، وطرفة بن العبد، والمعري، ويقول: ذريني وكتبي والرياض ووحدتي ... أظل كوحشي بإحدى الأمالس4 يسوف أزهار الربيع تعلة ... ويأمن من البيداء شر المجالس5

_ 1 السجسج: الوقت الذي لا حر فيها ولا قر، وهو بين طلوع الشمس وطلوع الفجر، والوريف: المتسع الممتد. 2 ممنون: تمثال لبعض آلهة المصريين القدماء بجوار مدينة طيبة، وكان إذا أشرقت الشمس صاح صيحة واحدة، وربما كان ذلك حيلة من الكهنة. 3 أوشم: أبتدأ يلون. وطر: ظهر. 4 الأمالس: جمع أملس وهي الفلاة ليس بها نبات. 5 يسوف: يشتم.

يسأل صاحبه: لماذا يدعوه إلى هجر الريف. والحضور إلى المدينة: "أأفعل ذلك، وأقطع تلك المسالك رغبة في جوار حاكم ديوان، أو جوار صحبان وخلان، أو لمنافسة أبناء السامة، أو ملابسة هذه العامة". ويأخذ بعد ذلك في الحديث عن كل واحد من هؤلاء: عن الحاكم وعن الأصحاب وعن أبناء الخاصة، وعن عامة الشعب. "أما الحاكم فأكثر ما لقيت امرؤ إن أونس تكبَّر، وإن أوحش تكدضر، وإن قصد تخلف وإن ترك تكلف، إمع1، لا يضر، ولا ينفع، على شخص في مرسح التمثيل، فإن طرحت الألقاب، ونزعت هاتيك الثياب، ألفيت تحتها العجب العجاب. أبا الأسماء والألقاب فيكم ... ينال لا مجد والشرف اليفاع لا عدة ولا عدد، ملك أقامه الله بلا رجال، كما رفع السماء بغير عمد: ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود إلى تيه وخيلاء، وعنجهية وكبرياه، كأنه جاء برأس خاقان2، أو أدال دولة بني مروان". وهذا وصف صادق للرؤساء والوزراء الحقيقيين، والمصريون دمى تحرك من وراء ستار؛ ولقد أدى إخفاق الثورة العرابية إلى فقدان المصريين الثقة بأنفسهم، وخضعوا لأوامر المحتل الغاصب، الذي نازع حاكم البلاد وأميرها سلطانه في شخص ممثلة بمصر اللورد كرومر، وكثير من هؤلاء الذين تولوا إدارة البلاد على عهد الإنجليز يصدق عليهم هذا الوصف، يظهرون هذا الصلف والكبرياء لمواطنيهم، تعويضًا عن الذلة

_ 1 الإمع والإمعة: الرجل الذي يتبع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء. 2 خاقان أحد رؤساء الترك خرج على الخلافة من ناحية باب الأبواب، وظهر على أرمينية وقتل الجراح بن عبد الله عامل هشام بن عبد الملك فبعث إليه هشام سعيد بن عمرو الحرشي، فأوقع سعيد بخاقان ففض جمعه وأخذ رأيه وبعث به إلى هشام فعظم أثره. وضرب به المثل.

والضراعة التي يظهرونها أمام المحتلين وعميدهم بمصر، ولم يدركوا التبعة الملقاة على عاتقهم، حتى أتى مصطفى كامل وزار زأرته، وصال صولته، وبرهن على أن هذا المحتل أدنى من أن يهابه الوطني الحر الجريء، وظل أمر هؤلاء الذين طبعهم الإنجليز بطابعهم على ما هو عليه إلى أن ماتوا، ولا تزال منهم بقية في دواوين الحكومة حتى اليوم تضرب المثل على صدق هذا الوصف الذي سطره توفيق البكري. ويقول عن أبناء الخاصة في مصر، وهم الطبقة التي تقتني العقار والضياع وتبدد الأموال ذات اليمين وذات اليسار من غير أن تؤدي للدولة عملًا، ويعيثون في البلاد فسادًا. "وأما أبناء السامة1. فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، وينظر في مرآة ولا ينظر في كتاب، وإنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب. وهل ينفع الوشى الشحيب مضللًا ... وإن ذكرت في القوم قيمته خزي2 رماد تخلف عن نار، وحوض شرب أوله، ولم يبق منه غير أكدار، آباه وأحساب وحال كشجر الشلجم3 أحسن ما فيه ما كان تحت التراب "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" إلى رطانة بالعجمة بين الأعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب" "لو كان ذا حيلة لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول". وقح تواصوا بترك البر بينهم ... تقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا ميسر يلعب، ومال يسلب، وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح: وفرس يضبح4.

_ 1 السامة: الخاصة من الناس. 2 السحيب: المسحوب. 3 الشلجم: اللفت ويريد أن آباءهم الذين وأراهم التراب أحسن منهم. 4 الضبح: صوت أنفاس الخيل عند عدوها.

أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فضل إعجابه ولا في فراهة بِرْذَوْنه ... ولا في نظافة أثوابه1 أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، إن المال وسيلة لا غاية، فإن أصبت منه الكفاية، فقد بلغت النهاية". وهذا لعمري وصف خالد لهؤلاء الفتيان الذين ورثوا المال الجم عن آبائهم، فلم يعرفوا في جمعه عناء ولا رهقًا، ولم يأبهوا للمجد يشيدونه أو للفخر يحرزونه، وإنما همهم التطري والزينة وعقولهم هواء، وأفئدتهم خاوية إلا من الشر، فهم رماد تخلف عن نار ومثلهم كشجر الشلجم أحسن ما فيه ما كان تحب التراب، وكثيرًا ما نراهم حتى اليوم يباهون برطانة أعجمية، ويتنكرون للغتهم القومية، ولكنهم والحق يقال عاجزون عن الإفصاح وعن العمل، وليس في مقدورهم أن يغيروا من حالهم، يجتمعون للفساد، ويفترقون على ميعاد لا تعرف أيهم أسوأ نفسًا، يقتلون الوقت في لعب الميسر، وفي سلب أموال الفلاحين الكادحين، ولقد صورهم أحسن صورة في قوله: "خدع يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح، وفرس يضبح" هذا هو كل ما يشغلهم في الحياة، فقد ظل عالة على المجتمع، ومن الأسف أنه على الرغم من تقدم الأمة خطوات واسعة في سبيل المساواة الاجتماعية بانتشار التعليم، وبتغير الأفكار، ووجود الأنظمة الديمقراطية، فقد ظل نفر كبير من أبناء الخاصة لا يدركون خطورة حالهم، وأنهم يفتنون الفقراء باستهتارهم، يستمطرون على أنفسهم اللعنات بتبذلهم وقحتهم وتبذيرهم المال في غير ما شرع له إلى أن قضت عليهم الثورة. ثم أرأيت هذه النظرة السامية "المال وسيلة لا غاية فإن أصبت منه الكفاية فقد بلغت النهاية"، ولكن أنى لهؤلاء أن يدركوا هذه الحقيقة، إنهم ينعمون، ويدعون سواهم من أفراد الشعب يتصورون من الجوع، ويموتون من الألم والمرض.

_ 1 البرذون: البغل.

إن البكري في هذا تأثر على أوضاع شاذة في مصر، مع أنه من أبناء الخاصة الذين شبوا في حضن النعيم، ولكنه كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رشيد، وقلب رحيم، وعقل حكيم، ولعله رأي في رحلاته إلى أوربا مبلغ ما وصل إليه الناس من المساواة، وأن أبناء الخاصة يعملون لنفع أمتهم كما يعمل أبناء العامة، وربما كانت آراؤه هذه هي التي تأذى منها "عباس" فنظرته إلى الحكام، وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية لم يكن يرضى عنها عباس، وهو الذي اشتهر بحبه لجمع المال، وبعداوته للنظم الديمقراطية وحرم الأمة مجلسًا نيابيًّا صحيحًا. ثم استمع إليه كيف يصور أبناء العامة, ويصف شقاءهم وتعاستهم، والتفاوت العظيم بينهم وبين أبناء الخاصة الذين وصفهم من قبل. "وأما العامة أيدك الله فهم عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأسور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي. وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد1 وأرى رجالًا لا تحوط رعية ... فعلام تؤخذ جزية ومكوس ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها فبينما ترى قصورًا وثراء، وحبورًا، وسراء وعربات تترى، يعدو أمامها السليك الشنفري2. ويقودها داحس والغبراء3 على بساط الغبراء، وخراج قرية أو قريتين يذهب في لهو ليلة أو ليلتين، تجد أرملة صناعًا، وأيتامًا جياعًا، وشيخًا يعمل وهو في أرذل العمر، يقعده العجز، ويقيمه الفقر، أو عذراء كانت تبيع عرضها للاحتياج، أو مريضًا عاجزًا عن العلاج، وبينما ترى وذاحًا4 في جيدها عقد، كأنه فرود حضار5، وفي أخمصها نعل في نضار، ترى بائسة في عنقها عقد من دموع، وفي بيتها فقر وجوع، حال تطرف العيون وتثير الشجون". إن هذه آراء متقدمة على زمانة ولا سيما في مصر، وإذا كان جمال الدين قد نبه المصريين إلى المطالبة بالشورى، فإنه لم يعن العناية الكافية بالإصلاح الاجتماعي على الرغم من صيحته المدوية للمصريين بأنهم نشئوا في الاستعباد،

_ 1 الفد: السير من جلد مدبوغ. 2 السليك والشنفري: من العرب العدائين. 3 داحس والغبراء: جوادان قامن بسبب سباقهما حربي طويلة بين عبس وذبيان في الجاهلية. 4 الوذاح: الفاجرة. 5 فرود حضار: كواكب، وحضار اسم كوكب يشبه بسهيل قال الشاعر: أرى نار ليلى بالعقيق كأنها ... حضار إذا ما أعرضت وقودها

وربوا في حجر الاستبداد، وعلى الرغم من تحريضه لهم على الثورة1؛ لأن غايته كانت سياسية، وإن كان بعض تلاميذه قد تأثر بدعوته إلى الإصلاح الاجتماعي، مثل عبد الله نديم، ونادى في جرتدته "التنكيت والتبكيت" بإصلاح المفاسد الاجتماعية، ولكن آراءه لم تبلغ في جرأتها، وتقدمها نحو المساواة الحقيقية بين طبقات الأمة مثل آراء توفيق البكري، وإن لم يكن لها الصدى الذي تستحقه؛ لأن الأسلوب الذي صيغت فيه يعلو على مستوى أبناء الخاصة وجمهور العامة في ذياك الوقت. لقد ابتدأ حديثه عن العامة بتقريره أنهم أصحاب السلطان الحقيقي وأنهم أشبه بسيد مأسور والإخشيد في يد كافور، فالإخشيد هو الملك الشرعي وكافور هو الملك الفعلي، وأنهم أشبه بيتيم غني في يد وصي يستبيح ماله وينهب حقوقه من غير أن يراعي في هذه الحقوق إلا أو ذمة، ويصور هذا الغيظ الذي يضطرم في نفوس العامة من الشعب، ولكنه أشبه بغيظ الأسير المغلول اليد، لا يستطيع إلا أن يغتاظ من غير أن يحطم قيده، ثم يبدى رأيًّا جريئًا، تنادى بها الشعوب الحية اليوم: إذا كان حكام الأمة لا يولونها عناية أو رعاية فعلام يدفع الناس الجزية والضرائب؟ إنه تمرد على الظلم، وحث على الإصلاح، ثم يقتبس بيت أبي العلاء المعري الذي يقرر فيه أن الحكام هم أجراء لدى الأمة، ومع ذلك يظلمونها وهذا أعجب العجب. ويعقد موازنة بين هذه الفئة القليلة من الأغنياء التي تبعثر على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وهم يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسغبة والفاقة، ويتضورون من الجوع والعري، ويتلوون من السقام والأوصاب وله في غير هذا الموضع بيتان صور فيهما العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر: حمق الألى يحكمون الناس يضحكني ... وسوء فعلهم في الناس يبكيني ما الذئب قد عاث بين الضأن أفتك من ... هذي الولاة بهاتيك المساكين

_ 1 انظر الأدب الحديث ج1 ص243 ط سابعة.

إنه صور الآفات الاجتماعية التي تفتك بهذه الأمة المسكينة وهي الفقر والجهل والمرض، وعرض في إيجاز أدبي مشكلة التشرد والبؤس، ووازن بين الفقيرة الكادحة في سبيل العيش والفاجر التي تتحلى بالدر، وتنتعل الذهب، وذكر أن هذه حال تطرف العيون وتثير الشجون. ويطول بنا المقام لو تتبعنا البكري في كل موضوعاته الطلية، وأوصافه المبتكرة، ولكنا نرى أنه حقًّا شاعر في نثره، لولا أنه كان متزمتًا، مؤثرًا للغريب وإيراد الأمثلة القديمة، والإشارات التاريخية والأدبية، ولو لم يتكلف السجع، ويتنكر للطبع لكان البكري في مقدمة أدباء جيله، وقد علق الأستاذ العقاد على نثر البكري بقوله: "وفي هذه الفقرات وفي أمثالها من نثره المجود موضوعات شعر، ولفتات شاعر، ولكن الصدمة أفسدت الطبيعة، والمحفوظ جنى على الملحوظ، أَوْلَكَ أن تقول إنك تلمح هنا مجس شاعر يضرب مواضع الماء في الأرض، ولكنه يقف عند حجارة من التقليد، ولا ينفذ بعدها إلى النبع المخبوء على مدى أصبعين من مجسه": ويقول عن أدبه شعره ونثره: "وأحسب أن القارئ قد تبين أن الشعر عن البكري كان مسألة إحساس مرهف وشاعرية مطبوعة، وقد تقصر هذه الشاعرية فلا توفى على الغاية، أو تطفو فلا تتغلغل إلى الأعماق بيد أنها من معدن الفن ولبابه. إن القديم كان يستولي من البكري على جانب التعليم والقصد والتكلف والصناعة فيه، وإن الحديث كان يستولي منه على الإحساس والسجية وما يصدر عن النفس بلا كلفة ولا إرادة"1.

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص15.

المراجع

المراجع: 1- المراجع العربية الدكتور إبراهيم ناجي: اتجاهات الشعر الحديثة "الأهرام 20/ 9/ 1936م". إبراهيم المازني: 1- إبراهيم الكاتب. 2- قبض الريح. 3- حصاد الهشيم. 4- الديوان. 5- ديوان المازني. 6- الشعر غاياته ووسائطه. 7- شعر حافظ. إبراهيم البازجي: 1- اللغة والعصر "مختارات المنفلوطي". أحمد أمين: 1- مقدمة ديوان حافظ إبراهيم. 2- مقدمة ديوان إسماعيل صبري. أحمد حسن الزيات: 1- وحي الرسالة ج1، 2. 2- دفاع عن البلاغة. أحمد زكي: مقال عن شوقي "مجلة أبوللو ديسمبر سنة 1932". أحمد زكي أبو شادي: 1- أنداء الفجر. 2- قطرة من يراع في الأدب والاجتماع. 3- مجلة أبوللو أحمد الزين: مقدمة ديوان إسماعيل صبري. أحمد الإسكندري: مقدمة ديوان عبد المطلب. أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي. أحمد شوقي: الشوقيات. الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم في مصر. أحمد فتحي زغلول: 1- سر تقدم الإنجليز السكسونيين. 2- ماهية اللغة "مختارات المنفلوطي". أحمد الكاشف: الديوان. أحمد محرم: 1- الديوان. 2- دراسة عن إسماعيل صبري "مجلة أبوللو سنة 1934". الدكتور إسماعيل أدهم: مطران أنطون الجميل: 1- مقدمة ديوان إسماعيل صبري.

2- مقدمة ديوان ولي الدين يكن أنيس المقدسي: العوامل الفعالة في الأدب الحديث. بطرس البستاني: أدباء العرب ج3. تشارلتن: فنون الأدب "ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود". توفيق البكري: 1- بيت الصديق. 2- تاريخ السادة الوفائية. 3- فحول البلاغة. 4- أراجيز العرب. 5- صهاريج اللؤلؤ. حافظ إبراهيم: 1- ديوان حافظ. 2- ليالي سطيح. حامد عبد القادر: دراسات في علم النفس الأدبي. حسين شوقي: مقال عن شوقي "أبوللو سنة 1932". حسين عفيف: الشعر المرسل "الأهرام 20/ 9/ 1936". خليل سكاكيني: مطالعات في اللغة والأدب خليل مطران: 1- ديوان الخليل. 2- الشعراء المعاصرون "مختارات المنفلوطي". 3- المجلة المصرية سنة 1900، 1901م. داود بركات: مقال عن شوقي "أبوللو 1932". رثيف الخوري: الدراسات الأدبية. رشيد رضا: 1- مجلة المنار. 2- تاريخ الشيخ محمد عبده "ثلاثة أجزاء". رمزي مفتاح: رسائل النقد. روكسي العزيزي: مطران والوطنية. الدكتور طه حسين: 1- حافظ وشوقي. 2- حديث الأربعاء. 3- في الأدب الجاهلي. 4- مستقبل الثقافة في مصر. 5- مقدمة ديوان صبري. الطيب حسن: أثر الثقافة الغربية في الأدب الحديث "مخطوط".

عباس محمود العقاد: 1- جورج برناردشو "سلسلة اقرأ". 2- ديوان أعاصير مغرب. 3- ديوان عابر سبيل. 4- الديوان في النقد والأدب. 5- ساعات بين الكتب. 6- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي. 7- معراج الشعر "مقال في مجلة الكتب أكتوبر سنة 1947". 8- مطالعات في الكتب والحياة. 9- مقدمة بلاغة العرب في القرن العشرين. عبد الحميد حسن: الأصول الفنية للأدب. عبد الرحمن الرافعي: 1- مصطفى كامل. 2- محمد فريد. 3- ثورة سنة 1919 ج1، 2. عبد الرحمن شكري: مقدمة الجزء الخامس من ديوان شكري. عبد العزيز محمد: التربية الاستقلالية "ترجمة". على مبارك: الخطوط التوفيقية. عمر الدسوقي: 1- في الأدب الحديث الجزء الأول. 2- ترجمة للشيخ على يوسف صاحب المؤيد "الكتاب يولية سنة 1948". 3- الفتوة عند العرب. 4- دراسة أدبية جزء أول. الأمير عمر طوسون: البعثات العلمية في عهد محمد علي وعهد عباس الأول وسعيد. فيليب دي طرازى: تاريخ الصحافة العربية. قاسم أمين: 1- تحرير المرأة. 2- المرأة الجديدة. الأب لويس شيخو: الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين.

محمود تيمور: وميض الروح. الدكتور محمد حسين هيكل: 1- أوقات الفراغ. 2- تراجم شرقية وغربية. 3- ثورة الأدب. 4- مقدمة الشوقيات. محمد الخضري: ضرورة التعريف "مختارات المنفلوطي". محمد خلف الله: من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده. محمد رفعت: تاريخ مصر السياسي. الدكتور محمد صبري: أدب وتاريخ. محمد عبد المطلب: الديوان. محمد فريد أبو حديد: شكسبير - سلسلة اقرأ. الدكتور محمد مندور: الميزان الجديد. مختار الوكيل: رواد الشعر الحديث. مصطفى صادق الرافعي: 1- تاريخ آداب العرب. 2- على السفود. 3- وحي القلم. مي: باحثة البادية. ميخائيل نعيمة: الغربال. نجيب حداد: بين الشعر العربي والأفرنجي "مختارات المنفلوطي". نسيب عازار: نقد الشعر. ولي الدين يكن: الديوان.

الدوريات أبولو 1932- 1933 1934 الأهرام البلاغ الأول سبتمبر 1934 البلاغ الأسبوعي 1926- 1927- 1928- 1929 الجديد للمرصفي 1928 المجلة الجديدة لسلامة موسى 1930. مجلة سركيس 1913 الرائد المصري لنقولا شحاته اللبناني 1896. الزهور لأنطون الجميل وأمين تقي الدين السياسة الأسبوعية. اللواء: 1904- 1905- 1906- 1907 المؤيد 1904- 1905- 1906- 1907 المقتطف 1921- 1926. المنار -الهلال 1901- 1902- 1907- 1913- 1925. الوقائع المصرية 1914- 1920. تقارير وإحصاءات: الإحصاء الحكومي العام سنة 1907. إحصاء قسم التسجيل والامتحانات بوزارة المعارف 1921- 1932. الإحصاء العام 1945 المطبوع 1948. تقرير مستر بويد كابنتر رئيس التفتيش بوزارة المعارف. تقرير مستر كلاباريد السويسر 1928. تقرير مستر مان عن التعليم في مصر 1928. تقرير لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الفرنسي "الأهرام 1938". تقرير نجيب الهلالي عن التعليم 1935. تقرير وزارة المعارف عن التعليم 1931- 1932. تقويم جامعة "فؤاد الأول" 1950 السجل الثقافي 1947، 1948، 1949، 1950. قانون المطبوعات: محاضرة يعقوب أرتين في المجتمع العلمي المصري 1905م. ميزانية الدولة لسنة 1951 "الأهرام 2/ 4/ 1951" وسنة 1959.

المراجع الأجنبية

المراجع الأجنبية ...

الفهرس

الفهرس: الموضوع الصفحة مقدمة الطبعة الأولى 3 مقدمة الطبعة السادسة 8 الفصل الأول: المؤثرات العامة في الشعر الحديث: 9- 84 الثقافة الأجنبية المدارس الفرنسية بمصر - الإرساليات الإنجليزية - آثار كرومر الإصلاحية في مصر - سياسة دانلوب التعليمية - نقد الإنجليز لسياسة دانلوب - أثر سياسة دانلوب في الأدب الحديث - مخالفة سياسة دانلوب للتربية في إنجلترا - أثر دانلوب في العقلية المصرية -عدم ابتكار الشعراء - المنافسة بين الثقافتين الإنجليزية والفرنسية - ضعف نفوذ اللغة العربية - دعوة الإنجليز للنهوض بالتعليم باللغة العامية - مناهضة المصريين لهذه الدعوة - المطالبة بإعادة اللغة العربية إلى المدارس - الآثار العامة للثقافة الأجنبية في مصر - تقليدنا للحياة الأوروبية - تقليدنا لمذاهب الأدب الأوربي وأغراضه - الترجمة - تعريب الكلمات الإصلاحية - حرية المطبوعات في عهد كرومر - حرية الأحزاب في عهد كرومر - حزب الأمة وأثره - الحد من حرية المطبوعات بعد كرومر. الفصل الثاني- النهضة القومية: - المظهر السياسي- آثار الثورة العرابية في نفوس المصريين - عباس يشعر بوطأة الاحتلال - الأحزاب المصرية والصحافة في ظلال الاحتلال - موقف الأحزاب إزاء تركيا - أثر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في الشعر - شوقي وتركيا - حافظ وتركيا - ولي الدين وتركيا - مصطفى كامل والإحياء الوطني - شعر شوقي السياسي في عهد كرومر - حادثة دنشواي - أثرها في السياسة - أثرها في الأدب - وفاة مصطفى كامل - نفي شوقي - حافظ والخلافة - علاقته بالإنجليز - حافظ ووطنياته - رثاؤه لمصطفى كامل - حافظ بعد الاستقلال - شوقي بعد عودته من المنفى ووطنياته - إسماعيل صبري وشعره السياسي - علاقته بالإنجليز - أثر حادثة دنشواي في شعره - رثاؤه لمصطفى كامل - صبري في ظل الحماية - عبد المطلب والوطنية المصرية - عبد المطلب والثورة - خليل مطران والوطنية المصرية - ولي الدين يكن والوطنية

الموضوع الصفحة المصرية- ولاؤه للإنجليز- أحمد محرم والوطنية المصرية- أحمد الكاشف والوطنية المصرية- الأناشيد الوطنية- وصف الطبيعة المصرية من صميم الأدب القومي- البارودي والطبيعة المصرية- عبد المطلب والطبيعة المصرية- توفيق البكري والطبيعة المصرية- شوقي والطبيعة المصرية- خليل مطران والطبيعة المصرية. المظهر الثقافي- إنشاء الجامعات المصرية وتطورها- اهتمام المصريين بالتعليم- إحياء الكتب القديمة ودور النشر- انتشار المطابع العربية- النهضة باللغة- ترجمة الإلياذة- أثر انتشار الثقافة في الأدب. المظهر الاجتماعي: مشكلة الفقر وعلاجها- حافظ إبراهيم شاعر الشعب- شوقي ومشكلات الشعب- إسماعيل صبري والحياة الاجتماعية- عبد المطلب والمشكلات الاجتماعية- أحمد محرم ومشكلة الفقر- العناية بمظاهر النهضة والإشادة بها في الشعر- الشعراء والنهضة النسائية- الشعر والأدواء الاجتماعية- النهضة الدينية في مصر وتطورها- النهضة الاقتصادية وأثرها في الأدب. الفصل الثالث - النقد الأدبي 221- 302 حسين المرصفي- محمد المويلحي- شكيب أرسلان- المنفلوطي- أحمد فارس الشدياق- محمد فريد ينقد الشعر- الشيخ نجيب الحداد يوازن بين الشعر العربي والغربي- الشعر المرسل- رأي الرافعي فيه- أثر شعراء المهجر في الأدب- هيكل يدعو إلى الأدب القومي- هيكل يدعو إلى وضوح الشخصية في الأدب المصري- شكري وآراؤه- العقاد والمدرسة الإنجليزية- العقاد متأثر بهازلت- أراء العقاد في توجيه الشعر الحديث- مقاييس الشعر في رأي العقاد- المازني وآراؤه في نقد الشعر- مطران يواجه الشعر الحديث- الدكتور على حسين والنقد الأدبي- الموازنة بين المدرستين الإنجليزية والفرنسية في الشعر والنثر- تأثر شعرائنا بهاتين المدرستين- الرافعي الناقد. الفصل الرابع- الشعر بعد البارودي 303- 334 تطور الأغراض في الشعر الحديث- الشعر الديني- تطور الأسلوب- الشعر التمثيلي- الثقافة من شروط الشعر الحديث- تطور المعاني- الخيال الشعري- موازين الشعر في نظر الفرنجة

الموضوع الصفحة الفصل الخامس، المدرسة التقليدية وخصائصها 335- 482 - إسماعيل صبري، أخلاقه، شعره، المدبح عند صبري، التقاريظ والتهاني في شعر صبري، الغزل في شعر صبري، الاجتماع في شعر صبري، سياسات صبري، الوصف في شعر صبري، نظرة صبري إلى الحياة، الرثاء عند صبري. -محمد عبد المطلب -ترجمة حياته، اعتداده بنشأته العربية، اعتزازه بالعرب، أخلاق عبد المطلب، شعره، خياله بدوي، النسيب في شعره، الوصف في شعر عبد المطلب، الحياة الاجتماعية في مصر في شعره عبد المطلب، الحجاب والسفور، عبد المطلب وفساد الأخلاق، الشعر الديني عند عبد المطلب، القصيدة العلوية، منزلته في الأدب. -السيد توفيق البكري -حياته، مؤلفاته تأثره بالقديم، رأي مطران في شعره، ولوعه بالأمثال القديمة، ولوعه بالغريب، شعر البكري، النسيب، المديح، الوصف، الفخر والرثاء، الحكمة، نثر البكري، الوصف في نثره، آراؤه الاجتماعية، رأي العقاد في أدبه. - المراجع العربية 483 - المراجع الإفرنجية 488 - الفهرس 489

§1/1