فوائد من خطبة الوداع

حسن أبو الأشبال الزهيري

فوائد من خطبة الوداع [1]

فوائد من خطبة الوداع [1] تعتبر خطبة حجة الوداع من الخطب التي أرسى فيها النبي عليه الصلاة والسلام معالم هذا الدين، وحدد لهذه الأمة هويتها وشخصيتها، وبين مميزاتها وخصائصها عن سائر الأمم الأخرى، فعظم شأن الدماء والأموال والأعراض، وأبطل كل ما هو من أمر الجاهلية، وأوصى بالنساء خيراً، وأمر بالتمسك بكتاب الله عز وجل، فإن به النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.

دروس وعبر من خطبة حجة الوداع

دروس وعبر من خطبة حجة الوداع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين. صعد النبي صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع ليحدد لهذه الأمة هويتها وشخصيتها، ويبين لها ميزتها على بقية الأمم، فقال في نمرة في هذا المسجد المبارك -ومسجد نمرة بعضه في أرض عرفات، وبعضه الآخر في نمرة- وصية جامعة، سمعه فيها (114000) من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، فكان مما قاله كما عند الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وإنما دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، فإنه موضوع كله، وربا الجاهلية موضوع كله، وإن أول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه؛ فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي، وإنكم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: يا رسول الله! نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فأشار بالسبابة إلى السماء وهو يقول ثلاثاً: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد). يستشهد الله عز وجل على أصحابه الذين شهدوا أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذه وصية جامعة من وصاياه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته في عام حجة الوداع، بين فيها شخصية هذه الأمة، ومعالم الطريق لهذه الأمة المباركة حتى لا تضل.

حرمة الدماء وعصمتها في الإسلام

حرمة الدماء وعصمتها في الإسلام بين في هذا الحديث أن الدماء حرام، وأن الأصل فيها العصمة، وليس فقط دماء المسلمين، وإنما دماء المعاهدين وأهل الكتاب وغيرهم من الوثنين والمشركين الذين بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، ما داموا يحافظون على هذا العهد ويعملون بمقتضى هذا الميثاق، فإن نقضوا العهد والميثاق صاروا محاربين، ووجب على إمام المسلمين أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم، وهذه عزة الإسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، أتعلمون أن هذا البلد حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا اليوم حرام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فكما تعلمون ذلك فيجب عليكم أن تعلموا أن الأصل في الدماء العصمة، وأن الأصل في الدماء الحرمة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً حرمة دم المعاهد فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (من قتل معاهداً -أي: في عهده، سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم- لم يرح رائحة الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وروي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، قال عبد الله بن عمر -وهو راوي هذا الحديث، وهو أفهم الناس له ولروايته-: إن من ورطات الأمور التي إذا دخل فيها العبد ربما لا يجد منها مخرجاً: إصابة دم بغير حق. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، وربما ضاق على العبد بقتل نفس بغير حق. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)، فالأصل في الدماء الحرمة، وهي شهادة شرعية من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رب العزة قبل ذلك، حتى حرمة دماء الكافرين ما داموا يحترمون عهودهم ومواثيقهم، وما داموا يجنحون إلى السلم حقيقة لا زوراً ولا بهتاناً كما يفعله كفار هذا اليوم، فينادون بالسلام وهم أبعد الناس عن السلام، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال:61] أي: إن جنحوا هم مع الذل والصغار والهوان، ومع عزة الإسلام وارتفاع أهله، فحينئذ اجنحوا يا مسلمون إلى السلام ما دام أن أهل الكفر قد طلبوا ذلك منكم، إذ هو بمثابة طلب الأمان وحقن الدماء، فإن احترموا عهودهم ومواثيقهم فلهم ذلك، إلا أن يخونوا فلا نحترم لهم عهداً ولا نوفي لهم بذمة حينئذ؛ لأنهم بدءوا بنقض العهد كما هو حال الأمم الكافرة من اليهود والنصارى، وأقولها بملء الفم: إن اليهود والنصارى في هذه الأيام أو في هذه الأعوام لا عهد لهم ولا ميثاق في شتى بقاع الأرض؛ لأنهم هنا وهناك ينقضون العهد ويقتلون الأبرياء والمدنيين من المسلمين، رجالاً ونساءً وأطفالاً وأجنة، فيبقرون البطون ويخرجون الأجنة ويقطعون رءوسها ويلعبون بها كما يلعب الصبيان بالكرة، وما يحدث في أيامنا هذه أعظم ناقض للعهد. فهذه الدماء التي تراق في أفغانستان وفي فلسطين وفي الشيشان وفي بورما وفي كشمير وفي تايلاند وفي كل بلاد الإسلام والمسلمين لابد لها من ثمن، ولابد أن يدفع اليهود والنصارى ثمنها، إي والله، ولا خير فيكم إن لم تأخذوا بثأر إخوانكم، كما لا خير في حكومة تولت أمر المسلمين في بلد من البلدان أو في بقعة من البقاع ولم تأخذ على عاتقها رد كرامة وإهدار هذه الدماء، وهذا واجب على الشعوب كما هو واجب على الحكام جميعاً، وليس هناك حكومة شرعية ولا دولة إسلامية تحترم إلا إذا رفعت راية الجهاد، وأخذت بثأر إخواننا وأبنائنا ونسائنا وأطفالنا هنا وهناك، حتى يندحر العدو في بيته، وحتى يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، ثم إن الإذعان والخضوع لله عز وجل لا يكون إلا برفع راية الجهاد، فإذا كانت دماء المسلمين حراماً بين بعضهم مع البعض، فمن باب أولى أن تكون حراماً على غير المسلمين، ولكنهم لا يطالبون في أرجح الأقوال بفروع الشريعة، فحينئذ فإن الغنيمة الباردة أن يريقوا دماء المسلمين، فمن المسئول عنها حينئذ؟! أهؤلاء الأطفال والنساء والأبرياء الذين لا حيلة لهم ولا قوة؟! إن المسئول عن ذلك بالدرجة الأولى هم حكام المسلمين؛ إذ إن هذه الدماء معلقة في رقابهم يوم القيامة يسألون عنها؛ لأنهم هم الذين قتلوها بسكوتهم عن هذا العدو الغاشم الظالم.

وجوب عودة أبناء الأمة الإسلامية إلى الله لتحقيق التمكين

وجوب عودة أبناء الأمة الإسلامية إلى الله لتحقيق التمكين ولذا لابد لهذه الأمة أن تعود إلى الله عز وجل، وأن تدافع عن هذه الدماء، وأن تحمي هذه الشريعة، وأن تطبق حدود الله، وأن تحكم بشرع الله، بل لا عز لها ولا تمكين حتى تتكون هذه الأمة تكويناً صحيحاً كما كون النبي عليه الصلاة والسلام أمة الإسلام الأولى، فقد ظل عليه الصلاة والسلام سنين طويلة يربي أصحابه على العقيدة الصحيحة؛ إذ لا عزة لهذه الأمة إلا بعقيدة سلفها رضي الله تعالى عنهم. وعند ذلك فإن النصر آت لا محالة، وسيظهر دين الله لا محالة، ولذلك لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى. قالت عائشة: يا رسول الله! لما تلوت هذه الآية ظننت أن الأمر قد تم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سيكون من ذلك ما شاء الله أن يكون). وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم من حديث شداد بن أوس: (إن الله زوى لي الأرض) أي: جمعها وضمها، (فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها). وفي مسند أحمد وسنن الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة -وفي رواية: لا ينقضي الليل والنهار- حتى يظهر الله تعالى هذا الدين ويدخله في كل بيت مدر ووبر) يعني: في بيوت الحضر والبدو، لابد أن يسمع بهذا الدين كل أحد. قال عليه الصلاة والسلام: (حتى يدخل هذا الدين في كل بيت مدر ووبر بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله تعالى به الإسلام وذلاً يذل الله تعالى به الكفر). هذا الدين لابد أن يظهر، ولا يظهر جزافاً ولا فجأة، بل لابد من العمل لإظهار هذا الدين، ولذلك بشارة عظيمة جداً قالها النبي عليه الصلاة والسلام: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون فيكم خلافة راشدة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم إذا أراد الله أن يرفعها رفعها، ثم يكون ملك عاض، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا شاء أن يرفعه رفعه، ثم يكون ملك جبري) وهذا هو الذي تمر به الأمة اليوم، إذ يتجبر الطغاة ويتسلطون على هذه الأمة، ثم قال: (ثم يكون ملك جبري فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا شاء الله أن يرفعه رفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، ثم سكت النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا دليل على أن خلافة النبوة قادمة لا محالة، لكن لابد من العمل لها، ولابد من تهيئة الظروف والمناخ لهذه الخلافة الراشدة، ولا نركن لظهور المهدي أو ظهور الخليفة الراشد، وإنما لابد من العمل لهذه الخلافة الراشدة، بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحياء فريضة الجهاد، ودحر العدو في بيته، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، فيسمع العدو بجيش المسلمين على مسافة شهر كامل فينهزم نفسياً، وأعظم الهزائم الهزيمة النفسية، فإذا انهزم الإنسان في نفسه فلابد أن ينهزم مادياً، مهما بلغت قوته. وقال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فهذه رهبة للعدو، ونكر الله عز وجل (القوة) في سياق الأمر ليفيد العموم والشمول، فلابد من إعداد العدة حتى نبلغ أوج الدرجات وأعلى المراتب، قوة في السلاح وفي العدة والعتاد، قوة علمية وثقافية، قوة في التقدم، قوة في صناعة الطائرات والدبابات، قوة في شتى المجالات والميادين؛ إذ إن العدو لا يندحر إلا بذلك، مع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب سنة من سنن الله الكونية، ولذلك أعظم الناس وأكرم الناس على الله هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان بإمكانه أن يدعو وهو في بيته فينصره الله عز وجل، لكنه صلى الله عليه وسلم علم السنن الكونية الربانية في الخلق، وأنه لابد من اتخاذ الأسباب، فكان يجهز الجيوش، ويحثهم على العبادة والطاعة، ثم ينطلق بهم وهو في أولهم لمقاتلة العدو، فإذا ما نزل بهم البأس، وحشرجت الصدور، وبلغت القلوب الحناجر، توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ربه رافعاً يديه إلى السماء، فيدعو الله تعالى أن يغيثه بجند من السماء، كما حصل في غزوة بدر، فقد سقط رداء النبي من عاتقه، فأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضعه على عاتقه، وقال: يا رسول الله! والله لا يخزيك الله أبداً، والله إن الله سينجز لك ما وعدك {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط

التكوين طريق إلى التمكين

التكوين طريق إلى التمكين الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن حال المسلمين في كل مكان في قمة الحزن والأسف، والنهوض بهذه الأمة ليس من الأمر المستحيل كما أنه ليس بالأمر السهل، وطريق ذلك أن ترجع الأمة إلى ما كان عليه سلفها، إلى ما كانت عليه القرون الخيرية، في هذه القرون في عقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم وسلوكهم، لابد أن ترجع الأمة إلى ربها ودينها وشرعها، وإلا فهم والعدو سواء عند الله عز وجل نصراً وهزيمة، ولا تنتصر هذه الأمة إلا بتقوى الله عز وجل، ودون ذلك إن انتصر المسلمون مرة نصر الله عليهم العدو ألف مرة، فلابد من الرجوع إلى الله تعالى ولكتابه وسنة رسوله، ولابد لشرع الله أن يسود ولسنة النبي عليه الصلاة والسلام أن تحكم هذه الجموع الغفيرة من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. قال العلماء: لابد لهذه الأمة أن تبدأ من الآن مرحلة التكوين حتى يأتي بعد ذلك مرحلة التمكين، وقد صنفوا في ذلك كتباً كثيرة، منها: (دولة الإسلام بين التكوين والتمكين)، وأجمعوا جميعاً على لزوم مرحلة التكوين أولاً، وهذا مأخوذ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فقد كون العقيدة في قلوب أصحابه، ثم بعد ذلك انطلق ليبني الدولة في المدينة، ثم انطلق شرقاً وغرباً حتى اتسعت الفتوحات في زمن الخلفاء الراشدين لتشمل المعمورة كلها، فلما طغى الكفر والفسوق والعصيان على أهل الأرض جميعاً -إلا من رحم الله عز وجل- انتفش الباطل وعلا بساقه فوق هامات الموحدين، حتى صارت أحذية ونعال الكافرين فوق هامات المؤمنين؛ لأنهم أخذوا بأسباب النصر وتخلفنا نحن عن أسباب النصر، وأسباب النصر -كما سمعت في الآية- بوعد الله تعالى الذي لا يتخلف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:9]، فلابد من الإيمان وعمل الصالحات. وغير ما آية قرن الله تعالى فيها العمل الصالح بالإيمان، ويحفظها الكبار والصغار، بل لو قلت لطفل: (إن الذين آمنوا) لأكمل لك: (وعملوا الصالحات) فالإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن الأعمال ما هو شرط صحة في الإيمان، ومنها ما هو شرط كمال، وضابط ذلك: نص، أو إجماع علماء السنة وأهل الإسلام، ومن قال بغير ذلك فهو من المبتدعة، أي: قال بغير ما قال به النبي، وبغير ما نطق به القرآن، فلابد أن تستكمل الأمة أركان الإيمان وشروط الإيمان ومستحبات الإيمان حتى يكتب لها النصر، وأن تعمل بمقتضى هذا الإيمان، وأن تجد وتسعى في النهوض بشأنها، وأن تعرف دورها الريادي في العالم كله، وأن الله تعالى قد كتب لها الخيرية فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان؛ لأنه السياج الذي يحيط بالإيمان ويحفظه من كل جوانبه، وأعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد في سبيل الله عز وجل، إذ لا حياة لهذه الأمة إلا بإحياء هذه الفريضة، ولا عز لها إلا برفع راية الجهاد، وما دون ذلك خرط القتاد، فلابد لهذه الحكومات التي تولت أمر المسلمين أن ترفع هذه الراية، ثم إن الموت واحد والأسباب متعددة، فلم نضن على أنفسنا بموتة شريفة هنية في سبيل الله عز وجل؟! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فأعظم الإيمان وأعظم الجهاد: الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، وهما معاً أفضل الجهاد وأشرفه على الإطلاق، إلا أن يخرج رجل في سبيل الله بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء. و (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أفضل الجهاد فقال: من أهريق دمه وعقر جواده)، فتبذل مالك، وتقدم نفسك لله رخيصة في سبيل الله لهو من أعظم الأبواب التي تؤدي إلى الجنة، وإن الذي يفهم الجهاد على أنه إراقة للدماء وتشريد وتقتيل وفقر وظنك لا يعرف حقيقة الجهاد، ولا صلة له بالإسلام وأهله ولا يعرف الكتاب العزيز، كما أنه لا علاقة له بسنة النبي عليه الصلاة والسلام. أما الذين لهم علاقة قوية بالله تعالى فيتمنون أن يلقوا الله عز وجل، فهذا واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لما (قسم له النبي قسماً من الغنائم قال: ما هذا يا رسول الله! والله ما على هذا اتبعتك، قال: فعلى ماذا اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أضرب هنا. وأشار إلى حلقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك) فقامت المعركة فدخل هذا الرجل في ساحة الوغى فأصيب بسهم في نفس الموضع الذي أشار إليه، رجل صادق مع نفسه ومع ربه ومع دينه ونبيه وشرعه، وهذا هو الصدق مع الله، قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) صبروا وصدقوا، {

فوائد من خطبة الوداع [2]

فوائد من خطبة الوداع [2] لقد تضمنت خطبة حجة الوداع فوائد عظيمة، منها: تحريم الدماء والأموال والأعراض، والوصية بالنساء، والاستمساك بكتاب الله تعالى، كما أن من فقهها جواز القياس في الأحكام الشرعية.

فوائد من خطبة الوداع

فوائد من خطبة الوداع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

جواز القياس

جواز القياس فإن موضوعنا هو خطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي خطبها بعرفة في عام حجة الوداع، والتي حدد فيها هوية هذه الأمة ومميزاتها وخصائصها، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد). في مطلع هذا الحديث يتكلم عليه الصلاة والسلام عن جواز القياس، وكأنه قال: كما أنكم تعلمون حرمة هذا اليوم، وحرمة هذا الشهر، وحرمة هذا البلد؛ فكذلك يجب عليكم أن تعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم؛ لأنه ربما يجهل بعض الناس ذلك، فالذي يجهل حرمة الدماء أو حرمة الأموال أو حرمة الأعراض ينبغي عليه أن يعلم علماً يقينياً بحرمة هذا كما يعلم بحرمة الشهر واليوم والبلد، قال عليه الصلاة والسلام: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا). فهذا نص في جواز استخدام القياس الذي أنكره الظاهرية وقال به جماهير العلماء، وهو الحق من أقوالهم.

حرمة الدماء في الإسلام

حرمة الدماء في الإسلام كذلك بين عليه الصلاة والسلام حرمة الدماء، وقد تكلمنا عنها بما يغني ويكفي، لكننا نشير إشارة سريعة إلى أن الدماء مصونة في أصلها ومحرمة في مبدئها، ولا يجوز إهدارها إلا بحقها، وحقها قد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وذكرنا طرفاً من ذلك فيما مضى، ولأهمية الدماء قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء). وكأنه أشار إلى أن من نجا من هذا فهو لما بعده أنجى وإلا فلا، والدماء مصونة ليس فقط دم الغير من الاعتداء عليه، وإنما كذلك دم الذات والنفس، فلا يحل لأحد أن يقتل نفسه، ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه -أي: على سبيل الانتحار- فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن وجأ نفسه بحديدة -أي: طعن نفسه بحديدة- فقتل نفسه فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً). فهذا النص محمول على الوعيد الشديد، وإن كان لا يكفر الفاعل لذلك إلا إذا استحل مع قيام الحجة عليه، فإذا أصر على ذلك كفر وخرج من الملة؛ لأنه في هذه الحالة كفر باستحلال ما حرمه الله عز وجل لا بمجرد قتل نفسه، لذا فالإنسان مسئول عن بدنه فيم أبلاه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟)، فأنت مسئول عن المال، ولذلك عطفه النبي عليه الصلاة والسلام على الدماء فقال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، ولأجل ذلك حد الإسلام الحدود، ولما حدها وبينها قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، فلا يحل لأحد قط مهما كان شأنه وبلوغ أمره أن يتعدى حداً من حدود الله عز وجل، لا بالشفاعة ولا بالزيادة فيه ولا بالنقصان منه إلا أن يموت المحدود في أثناء قيام الحد، فيجب أن يتوقف الضارب لمن كان محدوداً. فإذا كنت تحده ثمانين جلدة فمات عند الثلاثين أو الأربعين أو أقل من ذلك أو أكثر فينبغي أن تمسك عن استمرار الحد، وبعض أهل العلم قال: يحد وإن مات، وهذا رأي شاذ ضعيف، فانظروا إلى حفاظ الإسلام على حرمة الآدمي، حتى وإن كان كافراً فإنه لا يضرب بعد موته ولا يمثل به، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل سرية قال: (سيروا باسم الله على بركة الله ولا تمثلوا) أي: لا تقطعوا الجثة أجزاءً بعد موتها، ولا تقطعوا أطرافها وهي حية احتراماً للآدمي، بصرف النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، فلا تمثلوا ولا تغدروا ولا تغشوا، وكذلك كانت وصية الخلفاء الراشدين لسراياهم وجيوشهم التي كانوا يرسلونها لمقاتلة الأعداء، وهناك قوانين شرعية اكتسبت منها القوانين الدولية البعض وتعامت عن الكثير، لكن الإسلام رحمة عظيمة جداً لأبنائه ولغير أبنائه، وكما قلت: هذه شهادة في الدماء والأموال والأعراض سجلها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام للحفاظ على آدمية الآدمي وإنسانية الإنسان، وليس كما تفعله تلك القوانين الجائرة التي يسمونها مرة بقوانين العدالة، أو قوانين الديمقراطية أو غير ذلك، فكل هذا كذب وزور، وهم يعلمون أنهم كاذبون ومزورون، والذين ينعقون خلفهم يعلمون أنهم ينعقون خلف الكذبة والمزورين كذلك، إذ إن شرع الله تعالى حق كله ومصلحة كله، وحيث ما كان الحق والمصلحة فثم شرع الله عز وجل، وما دون ذلك خرط القتاد، لذا لا يصح لأحد أن ينابذ بكتاب الله وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام قانوناً من تلك القوانين الأرضية السفلية، ومن رجح قانوناً أرضياً على قانون السماء أو ساواه به فقد كفر بالله عز وجل، وفارق ملة الإسلام، وانتقل منها إلى وحل الكفر والنكران والجحود، ومصيره يوم القيامة الخلود في نار جهنم مع فرعون وهامان. فشرع الله تعالى مصلحة كله، سواء كان هذا الشرع للمسلمين أو لغير المسلمين، والصادقون مع أنفسهم من أهل الكتاب يعلمون تلك الحقائق من دين الله عز وجل، ولذلك نجدهم أحياناً يثنون على دين محمد عليه الصلاة والسلام، فهم اتصفوا بالعدل في بعض القول لا في كل القول، وإلا فالأصل أن صدورهم قد امتلأت غلاً وحقداً وحسداً على الإسلام وأهله، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، فدين الله تعالى هدىً كله، أما القوة اللازمة لأهل الإسلام فهي قوة في قمة اليسر والسهولة، ولو أن كل مسلم أدى ما عليه لله عز وجل ولرسوله الكريم

مسئولية الحكام تجاه المسلمين

مسئولية الحكام تجاه المسلمين قوله: (حرام عليكم) أي: أن الدماء والأقوال حرام كلها إلا ما أحله الله تعالى ورسوله، ومن باب أولى حرام على غيركم، فإذا اعتدى الغير على دمائكم وأموالكم وأعراضكم فيجب عليكم وجوباً شرعياً أن تنفروا جميعاً أو أشتاتاً لدفع هذا الظلم وهذا العدوان، حكاماً ومحكومين، والمسئولية بالدرجة الأولى لحماية الإسلام وبلاد الإسلام وشريعة الإسلام إنما هي على الحكام، وإلا فلماذا عينوا حكاماً؟! ولماذا تولوا ولاية الإسلام؟! إنهم في هذه المناصب وتلك الأبهات والكراسي، وهذه الصولات والجولات للدفاع والذود عن حياض الإسلام والحفاظ عليه من كل اعتداء في الداخل والخارج، فما بالنا في هذه الأيام نجد من الاعتداءات على كفاءات الإسلام وعلى قدرات المسلمين في الداخل أكثر منها في الخارج؟! فهؤلاء الكتاب والصحفيون والسفلة من علية القوم بضاعتهم الطعن في دين الله عز وجل، وتقييد القدرات، مع أنه لا تفلح أمة قط ينال من أبنائها، وما سمعنا أن حكومة اليهود قتلت أبناءها أو سجنت أبناءها، بل إن طلبة العلم من اليهود لهم ميزة خاصة على شعب اليهود عامة، ولا أقول: العلماء فيهم، وإنما طلبة العلم الذين يلبسون تلك القلنسوات السوداء على جانب من قرن رءوسهم، فمن خصائصهم وميزاتهم أنهم لا يحملون حقائبهم، وإنما يعين لهم من يحمل حقائبهم، ويعين لهم من يحمل نعالهم إذا خلعوها، ولذلك لما تزيا طالب فلسطيني بتلك القلنسوة وحمل شنطة في يده بها متفجرات أيقنوا أنه ليس يهودياً؛ لأنه لو كان يهودياً لكان معه من يحمل له الحقيبة، فقبضوا عليه فانفجرت الحقيبة به وبمن قبض عليه. والشاهد من هذا أن أهل العلم لهم منزلة ومكانة، وما سمعنا بأمة من أمم الكفر قبضت أو سجنت أو اعتقلت هذه الكفاءات عندها، فما بالنا قد وصل بنا الحال إلى هذا الحضيض والدون؟! اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم أمدهم بمدد من عندك، وأنزل عليهم جنداً من جندك، اللهم انصرهم وثبتهم على النصر يا رب العالمين، اللهم انصرهم وثبتهم على النصر يا رب العالمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

إبطال كل ما هو من أمر الجاهلية

إبطال كل ما هو من أمر الجاهلية ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام بنبرة استعلاء المؤمن بإيمانه على هذا الواقع الباطل: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فانظروا إلى هذه النظرة الاستعلائية على كل شيء من أخلاق الجاهلية، وصفات الجاهلية، وأعراف الجاهلية، وأحكام الجاهلية، ومنها: أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار من خلفه فوقع على الأرض، فقام الأنصاري وقال: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! أخذاً بأعراف الجاهلية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) على ظاهر النص. فلما اجتمع الصفان وكادا أن يلتحما خرج إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي مطأطئ الرأس، فقال: (دعوها فإنها منتنة)، فانصرف المهاجرون إلى رحالهم والأنصار إلى رحالهم عملاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام، وامتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام، وانتهت هذه الدعوى الجاهلية. وكذلك لما عير أبو ذر بلالاً بأمه فقال له: يا ابن السوداء! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، قال: أو على حين ساعة يا رسول الله! -أي: بعد هذا العمر في الإسلام والإيمان والعمل الصالح- قال: نعم، إنك امرؤ فيك جاهلية). وبوب البخاري لهذا الحديث بقوله: المعاصي من أمر الجاهلية. ولذلك كل من فيه معصية واحدة ففيه خلق من أخلاق الجاهلية، وإذا كان اثنتان فاثنتان، وعشر فعشر، ومن شاء أن يستزيد زاد، ومن شاء أن يستقل استقل، ففي كل منا أخلاق الجاهلية على قدر ما فيه من المعاصي التي حرمها الله علينا الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -يعني: أخلاق الجاهلية- وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها). فإما أن تدع أخلاق الجاهلية وإما أن تكون عند الله أهون وأحقر من تلك الحشرات التي تدفع النتن بأنفها، فتكون هذه الحشرات أكرم على الله عز وجل منك أيها العاصي والمنافق والكافر والمعاند لربك. فهذا حكم من عاند الله تعالى ورسوله، ومن جحد دين الله، وجحد شرع الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة إن لم تتب قبل موتها أتت وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض، ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، يعني: أفسدها على زوجها، وغير ذلك من أقواله: ليس منا، ليس منا، ليس منا، وكذلك قوله: من فعل كذا فأنا منه بريء، من فعل كذا فقد خرج من ذمة الله، وغير ذلك من النصوص الوعيدية التي تدل على أن الجرم كبيرة من الكبائر، وأن المجرم والفاعل لذلك يجب عليه أن يتوب إلى الله، أو يقام عليه الحد إن استوجب فعله الحد، أو أنه في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم القدوة من نفسه لهذه الأمة المباركة، حتى لا يقول أحد: لم يأمرنا النبي بفعل شيء ولا يفعله، أو ينهانا عن شيء ويأتيه؟ كما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى بالرجل في نار جهنم فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه الناس فيقولون: يا فلان ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فهذا جزاؤه وإن كان عالماً، وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا أنه استوجب النار بتركه العمل بما علم، وكذلك يمكن للمرء أن يكون عالماً عاملاً بما يعلم، لكنه ليس مخلصاً، فيكون جزاؤه النار كذلك. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة، وعدَّ: المجاهد والعالم والجواد)؛ لأنهم ما فعلوا ذلك، وما عملوا بما علموا إلا ابتغاء مدحة الناس، أما لو مدح المخلصون بغير طلب منهم ولا سعادة بذلك ولا انتظار لذلك فهذا من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا، بينما الإنسان الذي لا يعمل العمل إلا لأجل مدحة الناس وثناء الناس عليه فإن هذا قد أهلك نفسه بنفسه، ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبغض الناس إلى الله من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية)، أي: أبغض الناس إلى الله من حكم في المسلمين شرعاً غير شرع الله، كأن يحملهم على أحكام وقوانين أوروبا وأمريكا، فهذا لا ينفع المسلمين ولا ينفع بلاد الإسلام، وإن ينفع فر

إبطال الإسلام للربا

إبطال الإسلام للربا وكذلك الربا موضوع كله، فلا يحل لأحد أن يطالب به بعد الإسلام فيقول: هذا حقي الثابت لي قبل الإسلام. لا، ليس حقاً لك، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]، أي: الذين يضاعف لهم الثواب، وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:278 - 279] أي: أصول الأموال، {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. فهذا هو دين الله، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم -أي: أنه ربا- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا اثنان وسبعون حوباً، أيسره كالذي ينكح أمه في الإسلام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يزني بأمه في الإسلام). ولست بذلك أهون من شأن الزنا، وإنما أشدد في أمر الربا، وهكذا تحمل هذه الزواجر وهذه النواهي على المزيد في المبالغة في الزجر والوعيد والتهديد، لا التهوين من شأن المضروب به المثل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا عمهم الله بعذاب)، أي: الصالح والطالح، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وإنما تصيب العامة ويبعث الناس على نياتهم. لذا أقول: إن الربا قد دخل في كل بيت، بل للربا فتاوى رسمية وعمائم تبدو تارة حمراء، وتارة زرقاء، وتارة خضراء، فيزينون لهم القبيح ويحلون لهم الحرام! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله لديننا، حسبنا الله في نبينا، حسبنا الله لشرع نبينا، حسبنا الله للحلال والحرام الذي ضاع في هذا الزمان على أيدي أناس من أبنائنا، يتكلمون بألسنتنا، ويدينون بديننا، وينهجون غير نهج سلفنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الوصية بالنساء

الوصية بالنساء ثم قال عليه الصلاة والسلام: (واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال) في كل شيء، إلا في شيء خص الله به النساء أو خص الله به الرجال، أما تلك الدعوة المسعورة هنا وهناك بالتسوية والمساواة بين الرجل والمرأة، فهل يستطيعون أن يسووا بين الرجل والمرأة في الحمل والنفاس والرضاع والجهاد وغير ذلك من أحكام الرجال؟! يجب على هذه الألسن أن تخرس، وهذه الأقلام أن تكسر، فهذا هو دين الله، فإما أن تكسر هذه الأقلام وتخرس هذه الألسنة بالأدب وبالذوق وبسحب النائم كما يقولون، وإما أن تكسر بالقوة والشكيمة، إن لم يكن في الدنيا فلا أقل من أن يكون ذلك في الآخرة، فيقذفهم الله تعالى في نار جهنم غير مبال بهم. إن هؤلاء الذين يحاربون دينه بالليل والنهار حتى لا يكاد يجد الدعاة إلى الله وأهل العلم فرصة لتعليم الناس أمر دينهم، بل أصبحت معظم هذه الدعوة إلى الله ما هي إلا ردود أفعال، وردوداً على الشبهات، وما صرنا نتفرغ لتعليم الناس أمر دينهم، وما يكاد يمر يوم علينا إلا وتطرح شبهات وشبهات تحتاج إلى رد لعصمة الناس وحماية الناس وحفظ الناس من الاندراج في هذه الشبهات وتلك الأهواء والآراء، وما صرنا نجد وقتاً لطلب العلم أو لتعليم الناس، فأرهقونا وأنهكوا قوانا، والسبب في ذلك غياب الحارس، إذ لو كان الحارس قائماً بأمر الله لأخرست تلك الألسنة، وكسرت تلك الأسنة والرماح الباطلة. وقال: (فاتقوا الله في النساء)، وانظروا إلى كلمة: (اتقوا الله)، فالمؤمن التقي يقف عند هذا التنبيه، ويعلم أنه قادم على النار إن ظلم؛ إذ التقوى: أن تتقي عذاب الله، وأن تتقي نار الله، لذا فهم السلف ذلك ففازوا ونجوا، فهذا عمر رضي الله عنه عندما يكون في ثورة غضبه إذا قيل له: اتق الله يا عمر وقف وربما بكى؛ لأنه يعلم من هو الله، ويعلم من يتقي وماذا يتقي؟ بينما الواحد منا يأخذ هذه الكلمة بسخرية ضحك ولعب واستهزاء، وهي كلمة عظيمة ينبغي أن يتوقف عندها البدن ويخشع لها القلب ويذل وينكسر. قال: (فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم)، أي: أسيرات عندكم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من الليل؟!)، وقال عليه الصلاة والسلام: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، فلعله يطلبها من الليل؟!)، فأنا لا أتصور رجلاً صالحاً مؤمناً تقياً يتقي الله في نفسه ويضرب امرأته بالنهار ثم يطلبها للفراش بالليل، إن هذا ليس من شأن الحيوانات والله، فضلاً أن يكون هذا من شأن الآدمي أو المسلم أو المؤمن التقي. قال: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). قوله: (بكلمة الله) أي: بالإيجاب والقبول، قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فهذه امرأة طيبة طابت لك، وطيبها الله تبارك وتعالى لك، فلا تكن أنت فتنة لها وسبباً في بعدها عن دينها. ولكم عليهن ألا يدخلن بيوتكم من محارمهن أحداً، لا من الرجال ولا من النساء إذا علمت صراحة أو ضمناً أنك تكره هذا الشخص أو تكره تلك المرأة، وإن كان من محارمها فإنه لا يحل لها أن تدخله إلا برضاً منك، وإلا فهذا من المحرمات عليها (ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه) ومن حمل ذلك على الأجانب فقد أخطأ خطأً فادحاً؛ لأن المرأة لا يحل لها أن تدخل أحداً من الأجانب حتى وإن رضي زوجها بذلك، هذا من المحرمات وعلى ذلك الإجماع انعقد. قال: (فإن فعلن ذلك) وخالفن ما تحبون وما تكرهون (فاضربوهن ضرباً غير مبرح)، والتبريح ورد في رواية عند أبي داود: ألا تشق رأساً وألا تكسر عظماً. وإنما ضرب للتأديب كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعله مع عائشة أو غيرها، فيضربها بسواكه أو ينهزها بيمينه، قالت عائشة: (نهزني النبي عليه الصلاة والسلام في جنبي أو في منكبي نهزة أوجعتني) نهزة يسيرة، فما بالك بمن يجلد امرأته كما لو كانت قد ارتكبت حداً من الحدود؟! نستغفر الله تعالى مما كان، ونستغفر الله تعالى جميعاً مما كان، ونعاهد الله تعالى جميعاً أن نحسن فيما بقي من أعمارنا رجالاً ونساءً. قال: (اتقوا الله في النساء)، (فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)، وقال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها يوم القيامة

الوصية بالتمسك بكتاب الله عز وجل

الوصية بالتمسك بكتاب الله عز وجل الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فقال عليه الصلاة والسلام: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي). إن كتاب الله دستور -إن صح اللفظ والمصطلح- لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واعقد مقارنة بين كتاب الله وبين حثالة عقول البشر منذ أن أرسل الله تعالى رسوله إلى قيام الساعة أو إلى ساعتنا هذه، فلا تجد قانوناً من القوانين الأرضية لا يمر عليه عام إلا ويبدل أو يغير أو يحذف منه أو يزاد عليه أو يثبت بطلانه أو غير ذلك، فهل تجدون شيئاً من ذلك في كتاب الله؟! حاشا وكلا، فكلام اللطيف الخبير الذي خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم وما يضرهم، فأمرهم بالتمسك بهذا الكتاب، قال عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله هو حبله المتين، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به، وعليكم بسنتي). وانظروا أيضاً إلى الوصية الجامعة كما عند الترمذي وأبي داود بسند صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: (وعظنا النبي صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة -ذات غداة- ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! لعلها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة -لأهل العلم والأمراء ما داموا موحدين- وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فقد أمرنا بتقوى الله، والسمع والطاعة لمن أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر من السلاطين والحكام والأمراء والعلماء، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أنه ربما يكون هناك من السلاطين عبيد، مع أن العبد لا يتولى إمرة الحر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يضرب أسوأ الفروض ويمثل بها، وفي هذه الحالة يجب السمع له والطاعة من باب حقن الدماء، ولذلك قال: (فاسمعوا له وأطيعوا)، ثم قال: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فيه حض وحث وأمر، ثم يأتي الشق الثاني من النصيحة مشتملاً على التحذير فيقول: (وإياكم ومحدثات الأمور)، أي: البدع والأهواء المضلة والفتن المتلاحقة، (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، نعم، فلا يستقيم الأمر إلا بالتقرب إلى الله بأخذ ما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، وهذا هو دين الله عز وجل، وهذا هو الحلال والحرام، وأعظم ذلك العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف، أما رأيتم أن أهل البدع إذا ما وجدوا أحداً يكفرونه أو يفسقونه أو يضللونه استداروا على أنفسهم فكفروا أنفسهم؟! لأن أخلاقهم قد جرت على التكفير والتفسيق والتبديع بغير حق، أما أهل السنة والجماعة فلا يكفرون إلا من استحق التكفير بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما يشهد به القرآن والسنة، أما غيرهم فيأتون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وهذه ميزة أساسية تميز أهل البدع عن غيرهم، إذ إنهم يسبون ويشتمون أهل السنة والجماعة؛ ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يسب أهل الحديث فاعلم أنه زنديق. لأن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). ولما سئل الإمام أحمد عن تلك الطائفة المنصورة الظاهرة قال: إن لم يكن هم أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ وعليه فإذا رأيت الرجل يقع في أهل العلم وفي أهل السنة والجماعة فاعلم أنه على غير الهدى المستقيم، وأنه على غير صراط النبي عليه الصلاة والسلام. لذا نجد في بلاد الحجاز من يسب العلماء وطلاب العلم، كما نجد في مصر من يسب أهل العلم وطلاب العلم، ويزعمون أنهم هم السلفيون، فأي سلفية هذه؟! وأي دين هذا؟! وأي أخلاق هذه التي تبيح لهم السباب؟! والعجب أنهم يطلقون على أنفسهم علماء الجرح والتعديل، وفي الحقيقة هم -والله- علماء السباب والشتائم والجرح وليسوا من أهل التعديل، بل إنهم من ساقطي العدالة، فلا وزن لهم ولا كرامة حتى يرجعوا إلى عقيدة ومنهج السلف في الآداب والأخلاق، لذا فإن الذي يتقرب إلى الله بسب أهل العلم وشتمهم، في الوقت الذي يثني فيه على أهل الباطل وأهل الفساد إنما هو على دين أهل البدع والأهواء، ومن قال بغير ذلك فهو ملحوق بهم تابع لهم، وإني أدعو هؤلاء جميعاً، سواء في اليمن أو في مصر أو في بلاد الحجاز، وإن شئت فقل: في أمريكا وأوروبا؛ لأن تلاميذهم قد انتشروا انتشار النار في الهشيم، والبدعة سهلة على القلوب، والسنة ثقيلة على القلوب؛ لأنها تكليف بشيء ثقيل، ولذلك سمى الله تعالى التكاليف الشرعية والأحكام الشرعية تكاليف فقال: {لا يُكَلِّفُ

فوائد من خطبة الوداع [3]

فوائد من خطبة الوداع [3] لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع جملاً عظيمة من مهمات التشريع، فقد عظم فيها صلى الله عليه وسلم جناب الدماء والأموال، ووضع فيها أمور الجاهلية وأخلاقها تحت قدميه.

الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع

الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: إخوتي الكرام الأعزاء! في العام التاسع الهجري أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد هذه الأمة المباركة في حجته المشهورة حجة الوداع، هذه الحجة التي لم يحج غيرها عليه الصلاة والسلام، كما أخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم من المدينة للحج، فأخبرهم وأعلمهم، بل رأوه عياناً في مناسك الحج، ومن بين هذه المناسك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بطن وادي عرنة -وهو ليس من عرفة على الراجح- صعد فخطب خطبة عصماء بين فيها هوية هذه الأمة، وأنها تختلف عن بقية الأمم، فقد أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كونوا كأنكم شامة بين الناس)، أي: علامة ظاهرة، هذه الأمة لها شخصيتها التي تختلف عن بقية الشخصيات، ولها هويتها التي تختلف عن بقية الهويات، ولها سمتها التي تختلف عن بقية السمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)، أي: أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذه من آخر وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث فيه من الفوائد والشواهد والفرائد الشيء الكثير، ويكفي أنه كان نصيحة عامة حضرها الألوف المؤلفة ممن حج مع النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعت بها الأمة بأسرها، أقصاها وأدناها، قريبها وبعيدها، لكن من عمل بها؟

تعظيم شأن الدماء وجرم إراقتها بغير حق

تعظيم شأن الدماء وجرم إراقتها بغير حق إن النبي عليه الصلاة والسلام (سأل الناس في يوم النحر فقال: في أي يوم أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظناً منهم أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه ذلك اليوم؟! ثم قال لهم: في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنا منهم أيضاً أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه أن الحج في أشهر الحج؟! ثم قال: في أي بلد أنتم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، ومن يخفى عليه أنه في ذلك اليوم في منى أو في مكة المكرمة؟! ولكنه الأدب بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام أنهم ينسبون العلم إلى الله عز وجل وإلى رسوله، ثم قال: ألستم في بلد الله الحرام؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أليس هذا يوم النحر؟ أليس هذا شهر ذي الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا). أي: لما كانت الحرمة لهذا اليوم ولهذا الشهر ولهذا البلد مستقرة في نفوس العباد جميعاً -حتى قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام- أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يلحق بهذا المعلوم يقيناً، ربما كان مجهولاً لدى البعض في الدماء والأموال، وكأنه قال: كما أنكم تعلمون أن هذا اليوم حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا البلد حرام؛ فإن دماءكم حرام عليكم، أي: أن الدماء لا بد أن تحفظ، ولا بد أن تصان، لكن لو نظرنا إلى دماء المسلمين لوجدنا أنها تراق في أنحاء كثيرة من العالم، وأن الذي ينظر إلى خريطة العالم الآن لا بد أن يجد البقعة الإسلامية فحسب ملتهبة مشتعلة دامية، على أيدي اليهود والنصارى ومن عاونهم ممن كلفهم الله عز وجل في بلاد المسلمين بحفظ الدماء عامة، وممن يدور على مائدة اتفق عليها اللئام في الداخل والخارج، لذا لو نظرت مثلاً إلى اليهود والنصارى في أمريكا -بل في العالم أجمع- لوجدت أن أمنيتهم واحدة بمجرد أن ظهر البترول في السعودية، وهي: أن نبني لهم قواعد عسكرية في وسط بقعة الخليج العربي، لكن ردهم فيصل عليه رحمة الله، وردهم خالد رحمه الله، وسعى القاصي والداني في إبعادهم وعدم الاستجابة لمطالبهم، مع أنهم كانوا يبذلون المال لدول العرب من أجل الحصول على قواعد عسكرية، وقواعد للطيران في أرض الجزيرة، فلما لم يفلحوا يمنة ولا يسرة لعبوا لعبة خبيثة، فلم يجدوا في المنطقة العربية أخبث ولا أنكى من ذلك الطاغية صدام حسين قصمه الله عز وجل بقدرته، فاتفقوا معه على تلك المسرحية التي يسمع بها كل إنسان الآن، مع أن أمريكا غير عاجزة عن أن تبعد صدام من حكم بلاده بعد أن نشرت تفصيلاً دقيقاً عن ملابسه الداخلية، لكنه الورقة الرابحة لها، ووجوده ضرورة حتمية لأجل بقائهم في هذه البلاد، والجنود يأتيهم الطعام من دول أوروبا وأمريكا، في الوقت الذي لا يجد أي جيش من جيوش العرب لقمة العيش، بل يعيش على ما دون الكفاف. إذاً: وجود صدام كان لقمة سائغة وغنيمة باردة، وهذه المسرحية مكشوفة وأكذوبة مفضوحة لا تنطلي على أهل البصائر بإذن الله، وصدام حسين ليس حامي الحمى، وهو الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، لكن من أحصاها دخل النار، بخلاف الجبار تبارك وتعالى الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وانظروا إلى ما فعله صدام، لا أقول: بجيش العراق، ولا بشعب العراق الذي جوعه وأعراه وأنهكه في عقر داره، وإنما تعدى شره للشعب المسلم السني، أعني: شعب الأكراد، فسحقه سحقاً وسحله سحلاً، تارة بالكيماوي، وتارة بالدبابات، فكيف يؤتمن هذا على دين الله؟! بل كيف يؤتمن هذا على حزمة بقل؟! وانظروا -يا معشر الكرام- إلى شعب كوسوفا أو شعب البوسنة أو شعب فلسطين، إذ كل يوم نسمع عن دماء تراق بالمئات والألوف، وعلى مرأى من أسماع وأعين المسئولين وغير المسئولين ولا مجيب ولا أحد يتحرك، وكأن هذا الذي قتل أو أريق دمه ليس منا ولسنا منه، فهل لأننا نفهم القضية جيداً؟ أبداً، أم هل لأننا نخاف عدونا؟ نعم، والله نخافه؛ لأننا لا نخشى الله عز وجل، ولأننا حرصنا على الدنيا، فهذه الملايين المملينة التي وضعت في تلك البنوك الغربية والشرقية أعظم عند أصحابها من إراقة دماء الأمة بأسرها. قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء)، أي: أول قضاء يقضى بين يدي الله عز وجل هو في فصل الدماء، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام (إن أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة)، فإن هذا حساب مخصوص لكل شخص، أما القضاء وفصل النزاع بين الناس فإنه يبدأ بالدماء أولاً، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات التي تؤدي بأصحابه

حرمة قتل المسلم نفسه

حرمة قتل المسلم نفسه كما أنه ليس للمسلم أن يقتل نفسه ويقول: أنا حر في بدني أفعل به ما أشاء، والدليل على ذلك: ما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً -أي: شرب سماً ليقتل نفسه، وما أكثرهم- فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها)، أي: يضرب بها بطنة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بشيء عذبه الله تبارك وتعالى بما قتل به نفسه)؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وامتنع النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يصلي على من قتل نفسه، وليس كفراً، وإنما زجراً للأحياء أن يعملوا بعمله، أو أن يهتدوا بهديه ويستنوا بسنته، و (أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة من غزواته عن رجل لم يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا تبعها وقتلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم: والله ما نرى فلاناً إلا من أهل الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو من أهل النار، ففزع الصحابة فزعاً شديداً، حتى قال أحدهم: لأتبعنه. فسار خلفه، فإذا وقف وقف، وإذا أقدم أقدم، حتى أصيب ذلك الرجل بسهم لم يقض عليه، فوضع ذبابة سيفه على صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره فمات، فعاد الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن الرجل الذي قلنا عنه كذا وقلت عنه كذا قد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

مسئولية الحكام تجاه الدماء التي تراق في بلاد المسلمين

مسئولية الحكام تجاه الدماء التي تراق في بلاد المسلمين وأقول: إن هذه الدماء التي تراق في بلاد المسلمين، وهذه الشعوب التي تباد بأسرها ليست من شأن الأفراد، فالله عز وجل لا يحاسب الفرد لم ترك المسلمين يموتون ويقتلون وتبقر بطون الحبالى في كوسوفا أو في البوسنة أو في فلسطين أو في كشمير أو غيرها؟ وإنما سيسأل الحكام عن ذلك؛ لأن هذه مسئوليتهم، ولا فكاك لهم أمام الله عز وجل إلا أن يرفعوا راية الجهاد، ولو رفعوها حتى كذباً لاندحر العدو في بيته، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، فلو أن العدو سمع بجيش المسلمين الذي يبعد عنه مسيرة شهر لانهزم نفسياً في عقر داره؛ لأنه يعلم أن المجاهد حقاً إنما أراد إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إما النصر في الدنيا والغنيمة، والعيش غنياً بعد أن كان فقيراً، وإما أن يعيش في غنىً دائم في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فالعدو يعرف هذا، وكثير من المسلمين -للأسف- لا يدركون هذه الحقيقة، أما دماء المسلمين في الداخل فالمسئول عنها جهات متعددة، فقد يدخل فيها الأفراد؛ لأن الأفراد تمتد أيديهم كذلك بالقتل، ولا نعدم صحيفة أو مجلة كل يوم إلا وفيها: أن فلاناً قتل أباه يتعجل الميراث، أو أن فلاناً قتل أمه، وامرأة قتلت زوجها، وزوجاً قتل امرأته، مع أن ذلك كله ليس من أخلاق أهل الإسلام.

بيان جرم العبث بأموال المسلمين

بيان جرم العبث بأموال المسلمين قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، فحرام تبذير وإسراف المال، ووضعه في غير موضعه، وحيازته من غير طريق شرعي، وإنفاقه في غير ما أمر الله، وحرام نهب أموال المسلمين جميعاً وعلى رأسها أموال البترول التي هي ملك للأمة جميعاً، لقد أخذوا بضاعتنا وتفاخروا علينا بعد ذلك بمدنيتهم وحضارتهم، ونسي هؤلاء أنه لولا نحن ما كانوا هم، وكان بإمكاننا أن نمنع عنهم البترول، لكن تلك العقول السخيفة التي عاشت لنفسها ولشهواتها تأنف أن تستثمر أموالها في بلاد المسلمين، وإنما تستثمرها في أمريكا أو في سويسرا أو في أي بنك ربوي من بنوك العالم الغربي، ولو نظرتم إلى تلك الحرب المصطنعة التي نشبت في أرض الجزيرة في التسعين على يد الغاشم المجرم صدام حسين، واعتدائه على العزل والأرامل، بل والمرفهين والمترفين في الكويت، لوجدتم في أعقاب ذلك -بل في أثناء الحرب- أن رجلاً من الكويت سافر إلى بريطانيا وتصدق بعشرة ملايين دولار لحديقة حيوانات في لندن! فأي نصر نرجو؟! وأي تأييد وتمكين ننتظر إذا كانت العقول هكذا؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، إن بعض المسلمين اليوم أصيب بتخمة عظيمة جداً من كثرة المال لا علاج لها، وإن كثيراً من المسلمين أصيب بضعف وهزال وأنيميا لا علاج لها قط، مع أن هذا من فرائض الإسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال: (يا معاذ! إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله عز وجل فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله عز وجل افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) فأين الأغنياء؟ بل أين الأثرياء؟ أين أصحاب الملايين والمليارات؟ أين هم من اليتامى والمساكين والأرامل وذي الحاجة وابن السبيل؟ أيعيشون في غفلة؟ أم أنهم أفقه من النبي عليه الصلاة والسلام؟! أم أنهم يردون ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله؟! فليختاروا لأنفسهم أي ذلك شاءوا، فإنهم معرضون وبعيدون عن الله عز وجل، لا تزول أقدامهم في موطن الحساب إلى الجنة إلا أن يأتوا بين يدي الله عز وجل بجواب سديد، فليختاروا لأنفسهم ما شاءوا.

عزة المسلم واستعلاؤه على الباطل

عزة المسلم واستعلاؤه على الباطل ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)، ولا يكون هذا إلا من عزيز يشعر بعزة الإسلام، ويستعلي بنفسه، ويرتفع بأنفه على هذا الواقع الباطل التي تموج به الدنيا من حوله، وانظروا إلى الموطن الذي قال فيه هذا القول، موطن عظيم جداً، ولذلك لما نودي في المدينة أن النبي عليه الصلاة والسلام سيحج عامه هذا أتاه الناس من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق، يريدون شرف الصحبة مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحج، فكان عدد المسلمين إن لم أوهم (114000) حاجاً، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا في أول البعثة، فلم يخبر أن أخلاق الجاهلية تحت قدميه؛ لأن الوضع لا يسمح، والمسلمون ما زالوا في ضعف، لكن لما اشتد عودهم، وفتحت البلدان، وقويت شوكتهم، وأصبحت لهم دولة وقوة قال هذا، وقال هذا في مكة التي حاربته وطردته، وآذته في نفسه وفي بدنه، وفي أصحابه وفي دعوته، قال هذا مستعلياً؛ لأنه عالٍ أولاً وآخراً، وقوله: (تحت قدمي موضوع)، أي: باطل لا قيمة له، فأخلاق الجاهلية وسماتها وعاداتها إن خالفت سمات الإسلام وسنن الإسلام وهدي الإسلام فلا قيمة لها، وهي باطلة وغير ملزمة لأهل الإسلام.

حديث حذيفة في سؤاله عن الخير والشر

حديث حذيفة في سؤاله عن الخير والشر فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فيما رواه البخاري في كتاب الفتن ومسلم في كتاب الإمارة يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر)، وهذا تقرير من حذيفة يصف ما قبل البعثة، (فجاءنا الله بهذا الخير)، أي: بالإسلام، فهو خير كله، (فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأحياناً يقولون بالحق وأكثر أحوالهم يقولون بالباطل، أي: شر ودخن وغبش عكر هذا الخير وأثر في هذا الإسلام، (قلت: فهل بعد هذا الخير الذي فيه دخن من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم)، الدعاة دائماً على باب الجنة يدعون الناس إلى الخير، لكن تصور أن إماماً تكون إمامته في الشر، وفي الدعوة إلى النار والعياذ بالله، ثم يرفع النبي عليه الصلاة والسلام حجة الأتباع فيقول: (من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فلا حجة لك في أن تتبع أئمة الضلالة، (قلت: يا رسول الله! صفهم لنا)، تصور حذيفة أن هؤلاء الدعاة ليسوا من أبناء الملة، فرد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، أي: يقولون: قال الله وقال رسوله، لكنهم يلوون النصوص ويصرفونها ويؤولونها على غير مراد الله عز وجل، وعلى غير مراد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. قلت: (يا رسول الله! -في وسط هذا المأزق- فماذا تأمرني إن أدركني ذلك اليوم؟) فالله عز وجل قد هيأ لك حذيفة ليسأل هذه الأسئلة؛ لأنها تلزمك في كل عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)؛ لأنها نجاة، ومن فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية، (قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فماذا أصنع؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك). الشاهد من الحديث: (إنا كنا في جاهلية وشر)، والجاهلية هي تلك الحقبة الزمنية التي سبقت مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على العموم والإطلاق، لكن هناك نوع آخر من الجاهلية يكون في الإسلام وفي أبناء الإسلام، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: (كنا في غداة مع النبي صلى الله عليه وسلم فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين)، كل ينادي على قومه وعشيرته، حتى اصطف الناس: الأنصار في ناحية والمهاجرون في ناحية، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومشى بين الصفين فقال: ما هذا؟ ينكر خلقاً ليس من أخلاق الإسلام، ثم قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فقالوا: يا رسول الله! أي دعوى جاهلية ونحن قد أسلمنا؟! ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها)، أي: دعوى الجاهلية، (فإنها منتنة)، ثم تركهم وانصرف، وسار كل قوم إلى خيامهم، وهم يعلمون علم اليقين أن ما كانوا عليه في الجاهلية هو خلق ذميم، أي: أن تنصر العشيرة ولدها في حالة ظلمه أو في حالة ظلامته، في حالة أن يكون له الحق أو عليه، ولذلك أرسى النبي عليه الصلاة والسلام القاعدة الأم في النصرة فقال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أن تكفه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)، من منا يفعل هذا؟ إن الواحد منا إذا سمع أن أخاه في شجار أو خصومة دون أن يتحقق من شيء، ودون أن يسمع شيئاً، لا بد أن أخاه المنتصر، لا بد أن أخاه المظلوم، وأنه سينتصر له عاجلاً أو آجلاً، حتى وإن كان الجذع في عينه، أي: حتى وإن كان مخطئاً لا بد وأن ينتصر له، فأي أخلاق هذه؟! إنها أخلاق الجاهلية، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة لنا ولكم في ديننا ودنيانا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أخلاق الجاهلية ومظاهرها

أخلاق الجاهلية ومظاهرها

الفخر بالأحساب والأنساب

الفخر بالأحساب والأنساب الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المعرور بن سويد أنه قال: (مررنا بـ أبي ذر في الربذة -اسم مكان- وعليه برد وعلى غلامه برد، فقلنا: يا أبا ذر! لو جمعتهما لكانت حلة -والحلة عند العرب هي ما كانت من ثوبين، والبرد: ثوب واحد- فقال أبو ذر: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام -وهو بلال بن رباح كما جاء ذلك مبيناً في رواية أخرى- وكانت أمه أعجمية، فعيرته بها، وفي غير الصحيح أنه قال له: يا ابن السوداء! فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! أفي يومي هذا؟)، أي: بعد هذا العمر الطويل ما زالت عندي آثار الجاهلية، قال: (نعم، هم إخوانكم وخولكم -أي: وخدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل إلا ما يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم). وقد أخرج البخاري عليه رحمة الله تعالى هذا الحديث في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية؛ إذ إن كل من وقع في معصية ففيه شعبة من شعب الجاهلية، لكن هل يبقى في هذا المجتمع المسلم أو في أمة الإسلام سنن حية كما كان ذلك في الصدر الأول أم أنها الآن أمة جاهلية؟ انظروا إلى حلم الله ولطفه بهذه الأمة التي ظهرت فيها جميع المعاصي والخطايا والبلايا، والتي كانت المعصية الواحدة سبباً في إهلاك أمة من الأمم، فاللواط مثلاً كان سبباً في إهلاك قوم لوط، وتطفيف الكيل والميزان كان سبباً في إهلاك قوم شعيب، فتأمل أن هذه المعاصي جميعاً وغيرها مما لم يكن موجوداً في الأمم السالفة قد اجتمعت في هذه الأمة، مع أن هذه الأمة ما زالت باقية، فهل لكرامة هذه الأمة على الله؟! أم هل لأن الله يحب المعاصي، أو يحب أن يعصى؟! أبداً والله، وإنما ذلك لحكمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فاتقوا الله عز وجل أيها الإخوة الكرام، فإن صاحب المعصية هو صاحب جهالة، وفيه خلق من أخلاق الجاهلية، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا، وإنما ذلك من أخلاق الجاهلية، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض ليضل الناس، ليس منا من أظل الأعمى عن الطريق)، أي: يسأله شخص عن المكان الفلاني فيضله عنه، فهذه ليست من أخلاق المسلمين، وإنما هذه من أخلاق الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية)، أي: أخلاقها وسماتها، ففرض عليكم ألا تتخلقوا بذلك، فالناس مؤمن تقي، وفاجر شقي، ولا ثالث لهما، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أنتم لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)، فأنت الآن إذا قلت لرجل قائم على معصية: لم فعلت هذا يا فلان؟ يقول لك: ومن أنت حتى تأمرني؟ أما علمت أنني ابن فلان، وأبي الأمير فلان، أو أبي شيخ في الأزهر، أو تقول له: لم تفطر في نهار رمضان؟ سيرد عليك: أما علمت أن والدي من أكابر أهل العلم! وغير ذلك من الردود الجاهلة. قوله: (ليدعن أقوام فخرهم بآبائهم)، فإن هذا من أخلاق الجاهلية، (أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان)، أي: تلك الحشرات التي لا قيمة لها، والتي تدفع النتن بأنفها، إذ إنها تعيش في النتن والجيف.

الطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم

الطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن)، أي: أربع خصال هي من الجاهلية، وليست من الإسلام في شيء، ثم قال: (الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وإن النائحة إذا لم تتب -أي: قبل موتها- تبعث يوم القيامة وعليها درع من قطران)، أنها صواعق تنزل على قلوبنا وأسماعنا، لكن في النهاية لا مجيب؛ لأننا أكبر من ذلك كله. قوله: (أربع في أمتي)، يقولها النبي عليه الصلاة والسلام بحسرة؛ لأنه قال: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية)، أي: ينبغي أن تعملوا لذلك، وأن تتخلصوا من أعمال الجاهلية، ثم يقرر أن هذه الخلال أو الخصال قائمة في الأمة لا تدعها، ولا تتخلى عنها أبداً، فيفتخر بحسبه، بأبيه وأمه وعمه وخاله وجده وجدته، ولا يتكلم عن نفسه قط، مع أنه لا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا ينجو بنفسه بين يدي الله إلا بالتقوى، لكنه يستند على تقوى والده إن كان تقياً، أو علم والده إن كان عالماً، مع أن العلم وحده لا ينفع، وإنما الذي ينفع هو: العلم والعمل والإخلاص فيهما. ثم الطعن في الأنساب وما أكثره، فتجد الغمز والهمز والإشارات والإيماءات والتلميحات أن هذا ليس ابن فلان، كيف؟ أما علمتم أن هذا يترتب عليه حد القذف، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن مثل هذا لا يثبت إلا بأربعة شهود رأوا ذلك عياناً بياناً، لكن الألسن تنطلق بالقذف، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة في النار إلا حصائد ألسنتهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من صمت نجا)، أي: من صمت عن الشر نجا، ولا يحل لأحد أن يسكت أو يصمت عن الشر، وإنما لا بد من تغييره، كما روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فلا يحل السكوت عند رؤية المنكر، كما لا يحل الكلام في معصية الله عز وجل. ثم الاستسقاء بالنجوم، فقد روى الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب). وأنتم تعلمون تلك الهيئة التي أرصدت وخصصت لمعرفة ذلك، فتجزم أن المطر ينزل في الساعة الفلانية وينتهي في الساعة الفلانية، وأن موجة الحر وموجة البرد تكون كذا، وغير ذلك مما هو من ضروب السحر، ولا مجال للمخاصمة في هذا الأمر؛ فإن هذا شيء من الاستسقاء بالنجوم لا بأس أن تكون الدراسة فيه من باب الاستئناس، أما أن تكون عقيدة ترسخ في القلوب والأذهان فلا وألف لا. والنياحة أيضاً من أمر الجاهلية، وهي أن تقول المرأة لفقيدها: يا رجلي! يا سبعي! يا جملي! من لنا بعدك؟! فما الذي يمنع الناس أن يصححوا عقائدهم في الله عز وجل؟!

الحكم بغير ما أنزل الله

الحكم بغير ما أنزل الله وأعظم مظاهر الجاهلية الحكم بغير ما أنزل الله، سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد، مع أن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق ويعلم بهم، فإذا كان الله عز وجل هو الذي خلقك وعدلك وسواك فلا بد أنه المستحق وحده لأن يعبد، وأن يحكم ويؤله، ولذلك لما عدل الناس عن شريعة الحكم الحق أنكر الله عز وجل ذلك فقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] و (إن) هنا نافية، بمعنى: ليس الحكم إلا لله، كما نعى الله عز وجل عليهم تنكبهم الطريق ومخالفتهم الصراط فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، أي: أفحكم الجاهلية تريدون، وتعدلون عن حكم الحكم الملك الحق الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها؟! يقول ابن كثير عليه رحمة الله في هذه الآية: ينعى الله عز وجل على من ترك حكمه وذهب إلى حثالة عقول الناس وضلالاتهم، خاصة ما كان من التتار الذين أخذوا دينهم عن ملكهم جنكيز خان الذي ألف لهم (الياسق)، وهو كتاب أخذه من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلام، ومعظمها من نظره وهواه، فجاء أبناؤه من بعده فاتخذوا هذا الياسق ديناً لهم، وللأسف لا تزال الأمة إلى يومنا هذا تتخذ دينها وحكمها من عصارة وحثالة العقول الشرقية والغربية، وكنا نقول سابقاً: إن هذه القوانين الوضعية لا تصلح إلا في بلاد أنتجتها وخرجت منها، لكنا صححنا ذلك الآن فنقول: إن هذه البلاد والعباد لا يصلحها إلا شريعة الحكم تبارك وتعالى، وأن هذه القوانين الوضعية لا تصلح لإصلاح واحد فقط من العباد، لا مؤمنهم ولا كافرهم، حتى يحكم ويتحاكم إلى شريعة الله عز وجل، ولذلك يقول ابن كثير: فمن تحاكم إلى هذا الياسق فهو كافر خارج من الملة حتى يحكم شرع الله فيه. كما ذكر عز وجل خلقاً آخر من أخلاق الجاهلية في أمر النساء فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] قوله: (وقرن في بيوتكن) أمر يفيد الوجوب، (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) والجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام بلا خلاف، لكن كيف كانت هذه الجاهلية؟! يقول مجاهد: كانت المرأة تخرج فتضرب الخمار عليها ثم تمشي بين الرجال. فهذا تبرج في الجاهلية الأولى! بل هي المرأة الملتزمة في هذا الزمان، ودعونا من قول مجاهد إلى قول مقاتل بن حيان: تبرج الجاهلية الأولى هو أن تضرب المرأة الخمار، لكنها لا تشده على رأسها، أي: لا تربطه وتحكمه، فيبدو خرصها وعنقها وقلادتها. فلو بعث فينا مقاتل ورأى هذا العري وهذا الفجور وهذا السفور والمرأة لا تكاد تخفي شيئاً لزوجها ماذا يقول عنها؟ ولذلك صدق النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (صنفان من أمتي)، أي: نوعان من أمتي، (لم أرهما)، أي: لم يكونا موجودين في زمن النبوة، (هما من أهل النار)، أي: أن حكمهم النار، (قوم معهم سياط كأذناب البقر)، أي: كذيول البقر، (يضربون بها الناس)، فمنهم من يضرب الناس بهذه الأذناب لأجل مخالفاتهم ومعاصيهم وكفرهم، ومنهم من يضرب الناس بهذه السياط لأجل توحيدهم وعبادتهم لربهم ونشرهم لسنة نبيهم ودعوتهم إلى الله، والكل معروض على الله عز وجل، (ونساء)، وهو الصنف الثاني، (كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة)، فتمشي المرأة تتبختر وتتكسر وتتغنج، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وفي رواية (ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)، فهؤلاء لا يشمون رائحة الجنة؛ لأنهم محرومون منها بسبب معاصيهم وتسلطهم على أهل الإيمان والتوحيد. أسأل الله تبارك وتعالى أن يتجاوز عن هذه الأمة، وأن يغفر لها زلاتها، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ولنا وقفة أخرى في أيام مقبلة بإذن الله تعالى لإتمام الحديث.

فوائد من خطبة الوداع [4]

فوائد من خطبة الوداع [4] تميزت خطبة حجة الوداع بإيضاح معالم عظيمة من معالم الشريعة، حيث تضمنت إهدار السيئ من عادات الجاهلية، كالثارات والربا، وفيها أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء مع بيان حقوقهن وواجباتهن، وختمها بالإقرار بأداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانة التبليغ إلى الأمة جمعاء.

معالم في خطبة حجة الوداع

معالم في خطبة حجة الوداع

جاهلية المعاصي

جاهلية المعاصي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: في تلك الخطبة العصماء العظيمة التي حدد فيها النبي عليه الصلاة والسلام معالم هذه الشريعة الغراء، ووضع اللبنات النهائية لهذا الدين، وسنذكر بهذه الخطبة مرة أخرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاستوصوا بالنساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد). في الخطبة الماضية تكلمنا عن صدر هذه الخطبة، وتكلمنا عن حرمة الدماء والأموال، وقلنا: إن هذه المكائد التي تكاد للأمة الإسلامية إنما هي من تخطيط أوروبي وتنفيذ عربي، ثم تكلمنا بعد ذلك عن معالم الجاهلية، وأن المعاصي تدل على الجاهلية بدلالة حديث أبي ذر رضي الله عنه لما عير بلالاً بأمه وقال: يا ابن السوداء، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية. قال: أو على ساعتي هذه يا رسول الله؟!) أي: أبعد هذا العمر الطويل لا تزال في آثار الجاهلية؟! قال: (نعم، إنك عيرته بأمه)، ولذلك بوب البخاري لهذا الحديث: المعاصي من أمر الجاهلية، فكل معصية تظهر في مجتمع أو تظهر في شخص فإنما فيه من الجاهلية على قدر ما فيه من المعاصي، وقلنا أيضاً: إن المجتمع المسلم لابد أن يتميز، وأن يختص بمميزات وخصائص وسمات تختلف عن بقية المجتمعات، وكذلك كل ابن من أبناء الإسلام، وكل فرد من أفراده ينبغي أن يكون شامة وعلامة بين الناس أجمعين، حتى إذا سار في الشوارع والطرقات قال الناس: هذا مسلم، ولذلك هذه القدوة العظيمة تحققت بأكملها في شخص واحد، ألا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك رضيه إلهه تبارك وتعالى قدوة وأسوة لنا فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فهو الأسوة وحده، وهو القدوة وحده، وانظر إلى آثار ذلك في هذا الحديث.

إهدار جاهلية الثارات

إهدار جاهلية الثارات قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ودماء الجاهلية موضوعة) فهذه الحروب الطاحنة التي دارت بين أهل الجاهلية لم يكن لها أساس ولا حتى شبه شرعي، بل كان الأوس والخزرج يتحاربون ويتقاتلون من أجل ناقة أكلت من أرض الغير، فدارت بينهم حروب ومطاحن هلك فيها آلاف الأنفس، فانظروا إلى سفاهة العقول وسذاجة الفطر التي كان عليها أهل الجاهلية، ولذلك لما أرادوا الانتقام بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن هذه الدماء موضوعة وباطلة، ولا حق لأحد أن يطالب بها، فقد نشأت قبل الإسلام، والإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، وكذلك التوبة تجب ما قبلها، أي: تغفر ما قبلها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام ليتأسى به من بعده: (وإن أول دم أضع)، أي: أول دم هدر لا قيمة له، ولا أطالب به، هو دم طفل رضيع صغير لقريش، وهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان مسترضعاً في بني سعد، واسمه: إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد كان يجوب بين البيوت فأصابه حجر من هذيل فقتله، فقامت قريش بأسرها تطالب هذيلاً بأسرها! وهذا من العجب أن تقتل أمة بواحد، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، مع أنه موت وقتل، إلا أن لنا فيه حياة، ووجه الحياة فيه: أن النفس بالنفس دون تعد وظلم، وحتى تبقى بعد ذلك المجتمعات، وأن الذي يقتل هو الذي يقتل لا غيره، وفي الجاهلية كانوا إذا اصطلحوا على أن يقتل واحد فقط من القبيلة في مقابل ما قتلوا من القبيلة الأخرى؛ كان لأهل القتيل أن يتخيروا من يشار إليه بالبنان من تلك القبيلة الأخرى، حتى يكون ذلك أبلغ في النكاية، فيختار عظيمهم وشريفهم وسفيرهم وزكيهم، فجاء الإسلام فأبطل هذا كله، وقال: النفس بالنفس، فالذي قتل هو الذي يقتل، مع أن هذا كله في الإسلام موضوع، إلا ما كان بعد الإسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام بعمله قبل قوله، قال: (وأول دم أضع هو دمنا)، أي: دم قريش، دم بني عبد المطلب، دم إياس بن ربيعة فلا نطالب به، ولذلك العالم إذا دعا الناس بعمله فهذا أبلغ من دعوتهم بعلمه، ويا ويل من خالف ما قال، أو ترك العمل بما علم، جاء في الصحيح من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيدور في النار كما يدور الحمار في الرحى، حتى تندلق أقتاب بطنه -أي: تنزل أمعاؤه- فيجتمع إليه الناس فيقولون له: يا فلان ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). وأبلغ من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة)، وللوهلة الأولى ربما يظن السامع أنهم أصحاب كبائر، لا وألف لا، بل هم أصحاب أفضل الأعمال وأشرف الرئاسات وأحسن السؤدد في الدنيا، رجل عالم علم الناس، لكنه ما كان مخلصاً في هذا، وإنما علمهم ليقال: عالم، فيؤتى به بين يدي الله عز وجل فيقال له: عبدي علمتك كيت وكيت، ويذكره بنعمه عليه فيذكرها، ثم يقول له: ماذا عملت بها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم، أي: تعلمته خالصاً لك، وعلمته الناس، فيقال له: كذبت، وإنما علمتهم ليقال: عالم، أي: ليس لك أجر، فيؤمر به فيسحب على وجهه في نار جهنم، مع أن الذي يسحب إنما يسحب على بطنه أو على ظهره أو على جنبه، أما سحبه على وجهه فهذا أمر لم يشهده أحد من الخلق، وكذلك المجاهد والمتصدق. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا) أسوة وقدوة أخرى لمن أراد الاقتداء، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح: (من اقتدى بي فإنه مني)، وأخرج مسلم في حديث طويل أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أما لكم في أسوة؟ أما ترضوني أسوة لكم؟)، كالمستنكر لهم، وذلك لما فاته الصبح حتى صلى بعد طلوع الشمس، ففزع الصحابة أشد الفزع وقالوا: يا رسول الله! ما حكم صلاتنا هذه؟ فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أول من ضربته الشمس فاستيقظ، فغيره من باب أولى، ولست بهذا أعطي رخصة لمن أراد أن ينام حتى تطلع الشمس، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة في غزوة من الغزوات لحقهم التعب والكلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (من يرقب لنا الفجر؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله!)، فقد اتخذ الأسباب للاستيقاظ، فلما ناموا نام معهم بلال، فكان أول من أيقظته الشمس هو النبي عليه الصلاة والسلام، فجيء بـ بلال بين يديه يعاتبه، فقال له: (أي بلال! فقا

إبطال الربا وتحريمه

إبطال الربا وتحريمه ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)، والعباس بن عبد المطلب كان يرابي في الجاهلية بأسوأ أنواع الربا، وهو ربا النسيئة الذي جاء تحريمه في كتاب الله عز وجل، وجاء تحريم بقية أنواع الربا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك بدأ بعمه الذي كانت له أموال طائلة من الربا فقال: كل ذلك باطل وموضوع ولا قيمة له، ولذلك أنكر الله عز وجل على المرابين في كتابه الكريم، ثم بين حال الذي يتعاطى الربا فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] وكذبوا، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، أي: يربيها وينميها، كما جاء في الحديث: (وإن أحدنا لا يتصدق بصدقة إلا تقع في يد الله عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: ابن الفرس، فيربيه صغيراً حتى ينمو ويكبر، وكذلك الزكاة نماء وطهارة، والربا يمحق هذا كله، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، أي: يربيها وينميها ويزكيها ويجعلها مطهرة وزكاة للنفس، كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وقال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] أي: لا يزيد عند الله، وإن ازداد في نظر الغبي والعاصي فإنه لا وزن له عند الله، فأين مال قارون؟ لقد خدع به أصحاب الجهل، أما أهل العلم فقالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80]، أي: ويلكم فأنتم لا تعلمون عاقبة الأمور، ولذلك قال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]، أي: الذين يضاعف الله عز وجل لهم الحسنات، ويكثر لهم من الأجر، ويحط عنهم من السيئات، ويخاطب الله عز وجل أهل الإيمان بأن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، ولا يسعهم إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وهذا هو شعار الموحد، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وليس له إلا ذلك، ثم قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، أي: إن كنتم صادقين حقاً في ادعائكم الإيمان فذروا الربا، فإنه مهلكة الشعوب والأبدان والأفراد، وخراب الديار وفساد العباد، وما تعاطت أمة الربا إلا أهلكها الله عز وجل، وحرم عليها الطيبات، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:160]، أي: من اليهود، {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، أي: طيبات كانت حلالاً لهم فحرمها الله عز وجل عليهم بسبب ظلمهم {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]. فالربا سبب لمحو البركة، وسبب لتحريم الطيبات على الأمم التي سبقتنا، ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279]، أي: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، أي: أن الذي يتعاطى الربا إنما يأذن بالحرب بينه وبين الله، سوء كان ذلك بين الأفراد وبين ربهم، أو بين الشعوب وبين ربهم، أو بين الأمة بأسرها، وإن هذه الأمة قد أعلنت الحرب مع الله عز وجل بتعاطيها الربا، بل وبنائها للمؤسسات الربوية التي تحمي هذه المعصية، ومن ورائها جنود الباطل يحمونها ويسمونها بغير اسمها، ويحتالون على معاصي الله بأدنى الحيل كما فعلت اليهود، فيحتالون ويسمون الأشياء بغير اسمها طلباً لجوازها وحلها، وهيهات هيهات! فقد سموا الخمر مشروبات روحية، وسموا الزنا والخنا حرية شخصية، وسموا الربا فوائد وعوائد بنكية، وسموا التخلف التي هي المدنية التي تأتينا من هنا وهناك تقدماً وتحضراً، كما سموا الإسلام رجعية وتخلفاً، وهذا القول وحده كفيل بأن يكفر صاحبه، وأن يخرجه من الملة، فما بالكم لو أن مع

الوصية بالنساء وبيان حقوقهن وواجباتهن في بيت الزوجية

الوصية بالنساء وبيان حقوقهن وواجباتهن في بيت الزوجية ثم ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى موضوع في غاية الأهمية، فيقول: (فاستوصوا بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمان الله)، أي: بالعهد والميثاق، (واستحللتم)، أي: صارت هذه الفروج حلالاً لكم بكلمة الله، (كلمة الله) على الراجح من أقوال أهل العلم: قول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، وقيل: هي كلمة التوحيد، وقيل: هي إسلام المرأة؛ لأنها لا تحل لمشرك ولا كافر. قوله: (ولكم عليهن)، بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بحق الرجل أولاً؛ لأن من أعظم قوامة الرجل على المرأة أن تثبت حقوقه أولاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه)، أي: لا تأذن المرأة لأحد محارمها من الرجال والنساء، سواء كان لأبيها لعمها لخالها لابنها من زوجها الأول، أن يدخل بيت زوجها إلا بإذنه الصريح أو الضمني أو المعروف عرفاً، فإن علمت أنه يكره دخول أبيها أو عمها أو خالها أو أخيها أو ابنها فيحرم عليها أن تدخله، إلا أن يأذن أو يحضر، ولماذا يكره الزوج ذلك؟ وهل لو كره الزوج دخول رجل من أهل الإيمان من محارمها من أهل الصيانة والعفة والحرية أن هذه الكراهية معتبرة؟ A لا، وإنما المعتبر أن يغلو المرء في قطيعة الرحم بين زوجه وبين أهلها. لذا فإن كثيراً من الشباب إذا عقد قضى مدة العقد على مضض، فإذا بنى بامرأته قال لها في ليلة عرسها: أين أنت الآن؟ تقول: أنا في بيتك، يقول: انظري إلى هذه العتبة، فإنها محرمة عليك أن تخرجي منها إلى أهلك، أو أن يأتي أهلك إليك! والرد عليه إن كان من أهل الإيمان: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] فقطيعة الرحم من الإفساد في الأرض، ولا يحل لرجل أن يمنع محارم المرأة من زيارتها، إلا أن يخشى عليها من فساد دينها، فكثير من الناس الآن لا دين له ولا خلق، والمعاصي التي تحدث الآن بين المحارم من زنا وخنا وقتل وغير ذلك لم يكن أهل الجاهلية يسمعون بها، فإذا كان منع الزوج لمحارم الزوجة من هذا الباب فمنعه معتبر، وهنا يحرم على المرأة أن تدخل أحداً من محارمها إلا بإذن الزوج أو علمها أنه يرضى بذلك. قوله: (فإن فعلن ذلك)، أي: إن خالفن ما يحب الزوج فاضربوهن ضرباً للتأديب غير مبرح، والضرب المبرح هو الضرب الشديد الذي فيه شج رأس وكسر عظم، فلا يبلغ التأديب إلى هذا المبلغ، ولذلك يقول تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فضرب الزوجة للتأديب مشروع وجائز، والمرأة لابد أن تحرص على إرضاء زوجها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صامت المرأة شهرها، وصلت خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)، ودخلت امرأة على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لها: (أذات بعل أنت؟)، أي: ألك زوج؟ (قالت: نعم يا رسول الله، قال: كيف أنت منه؟ قالت: ما آلوه جهدي إلا ما عجزت عنه)، أي: لا أفرط قط في خدمته واسترضائه إلا شيئاً أعجز عنه، قال: (انظري أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)، لذا فأيما امرأة لها زوج فلتعلم أن بينها وبين الجنة باباً مفتوحاً، فإن شاءت أغلقته وإن شاءت ولجته ودخلت فيه. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حسن العشرة: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، فلعله يضاجعها من آخر يومه)، أي: يجلد أحدكم امرأته بالنهار جلد العبد ثم يضاجعها بالليل، فأي خلق وأي دين يأذن بهذا؟! أتى معاوية بن حيدة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح)، أي: لا تقل: قبح الله وجهك، (ولا تهجر إلا في المضجع)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمك، قالت: وأي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى مقرراً أن الحقوق والواجبات متبادلة بين الزوجين: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، ويقول المولى تبارك وتعالى آمراً الرجال بحسن العشرة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال).

الوصية بالتمسك بكتاب الله تعالى

الوصية بالتمسك بكتاب الله تعالى قال: (وإني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله) كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو أنك نظرت -يا عبد الله- لمقومات أي أمة من الأمم لوجدت أن هذه الأمة أغنى الأمم بهذه المقومات، لكن لم لا تقوم؟! ولم لا يرجع كل واحد منا التهمة إلى نفسه؟! إن النقد إذا وجه قال المستمع: إنما وجه لغيري، ولو أنه اعتبر نفسه المفرط والمقصر، وكذلك كل واحد في الأمة؛ لتغير الوضع بإذن الله تعالى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به)، شرطية (لن تضلوا)، لكن لو أننا لم نتمسك لابد وأن نحتار، وأن نتوه في الأرض كما تاهت بنو إسرائيل، وأن نكون أحقر وأسفل أمة، وأن نكون أمة لا خير فيها مع أنها خير أمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، والذي يؤمن بالله لابد وأن يحيط هذا الإيمان بسياج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قدمه على الإيمان، مع أن الذي يكفر بالله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يقبل منه ذلك، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إثبات خيرية هذه الأمة على الإيمان به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو السياج الذي يحافظ على هذا الإيمان. وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إن هذا القرآن هدى الله، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم)، فانظر إلى هذا الحبل الموصول بينك وبين الله، فإذا استمسكت به كنت موصولاً بالله، ولذلك قال: (ما إن تمسكتم به)، وكذلك التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذات غداة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي)، أي: فاسمعوا له وأطيعوا، قال: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، أي: وإياكم والبدع، فإن كل بدعة ضلالة، يقول ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، وأمر الله تعالى بطاعة رسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ونفى الله عز وجل الإيمان عمن لم يقبل حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يسلم له ويرضى به فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. عباد الله! إن الرجوع إلى الكتاب والسنة هو النجاة، وهو المخرج من المأزق، ومن كل بلية نزلت بهذه الأمة في كل زمان ومكان، وقد كان أسلافنا إذا نزلت بهم بلية اجتهدوا في النظر في كتاب الله، بل وفي قراءة البخاري ومسلم، وهذه الأمة الآن إذا نزلت بها بلية كأنها لا تشعر، أذن من طين والأخرى من عجين، وكأنها ليست تابعة لنبيها، وكأن الله تعالى لم يرسل إليها دستوراً لتقيم به حياتها، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أي: ليس فيه اختلاف، بل كل ائتلاف، وكله خير ومصلحة، وأينما كانت المصلحة فثم شرع الله عز وجل.

الإشهاد على تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أمر دينها

الإشهاد على تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أمر دينها الرؤية سوداء والكلام فيها يطول، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ العهد والميثاق على هذه الأمة فيقول (وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)، وهنا يبكي الصديق رضي الله عنه، فقالوا جميعاً: (نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، هذه شهادة الأمة التي تعبت في حمل هذا الدين إلينا، وهي شهادة لكل مسلم إلى قيام الساعة، وليس الصحابة فحسب، نعم الدين قد بلغ، وحجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لكن من يطلب الحق؟ بل من يريد الحق؟ من إذا ذهب الحق إليه قبله؟ ولذلك رفع النبي عليه الصلاة والسلام سبابته إلى السماء وينكتها إلى الناس ثلاثاً بعد أن أقروا على أنفسهم أن رسول الله قد بلغ ونصح وقضى ما عليه: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه أنه قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال (يؤتى بنوح يوم القيامة، فيقول الله عز وجل له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت أمتك؟ فيقول نعم يا رب! فيؤتى بأمته ويسألهم الله وهو أعلم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير)، كذبوا يهود، خنازير، بل حكم عليهم رجل منهم، عبد الله بن سلام حبر من أحبارهم من أهل المدينة، فقد سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فأتاه وأسلم بين يديه وقال: (يا رسول الله! إنك تعلم منزلتي عند يهود، فلا تخبرهم بإسلامي حتى تسألهم عني، فجاء اليهود فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ فقالوا: فقيهنا وابن فقيهنا، وعظيمنا وابن عظيمنا، وشريفنا وابن شريفنا، وكان عبد الله في الحجرة الأخرى فخرج وقال: إني أسلمت لله رب العالمين، فقالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا)، إنهم اليهود أهل غدر وبهت بشهادة عبد الله بن سلام، حيث قال: سلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فإنهم قوم بهت، أي: قوم ظلم وتعد وغدر وخيانة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأخذ العهد والميثاق على عباد الأصنام والأوثان، ولم يثبت أنهم خانوا، لكن لم يثبت أن اليهود احتفظوا بعهد قط، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أخذ العهد على أصحاب عباد الأوثان أمن جانبهم؛ لأنهم رجال، فهذا أبو سفيان بن حرب لما سأله هرقل عظيم الروم عن النبي عليه الصلاة والسلام نظر أبو سفيان إلى أصحابه، فقالوا: أجب يا أبا سفيان! أي: قل قولاً غير ما تعلمه عن محمد، قال: أخشى أن تعيرني العرب وتقول يوماً: إن أبا سفيان كذب. أما اليهود فلا عهد ولا أمان لهم، ومن رام منهم صلحاً أو عهداً أو ميثاقاً فليعلم أنه إنما يجري خلف سراب، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. فهذه هي أمة اليهود، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فالحجة قد قامت، وإن عيسى ابن مريم -يا معشر النصارى- حي رفعه الله تبارك وتعالى إليه، فهو في السماء حي عند ربه، وسينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو واحد من أفراد أمة محمد، وعندما ينزل في آخر الزمان يُدعى إلى أن يصلي بالمسلمين فيأبى ويقول: ليصل بكم رجل منكم، فيصلي بهم وبعيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا ظهر أحرق وهدم رموز النصارى التي يتمسكون بها، فيقتل الخنزير وهو طعامهم، ويكسر الصليب وهو معبودهم، فهذه براءة من الآن لمن أراد أن يتوب منهم، وأن يقبل الحق ويرجع إلى صوابه، وأن يترك ما عليه من كفر، وأن يدخل في حظيرة الإيمان. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فهو النبي الذي رفع قدره وذكره فوق قدر وذكر كل الخلائق حتى الأنبياء، أما قوله: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)، فإن هذه الخيرية إنما هي في مبدأ الإيمان؛ لأننا مطالبون بالإيمان بجميع الرسل على درجة واحدة، فلا يقل أحد: أنا مؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام إيماناً كاملاً، لكن مؤمن بعيسى نصفاً ونصفاً، وبموسى نصفاً ونصفاً، لا، فلست مؤمناً، بل أنت كافراً؛ لأن من أصول الإيمان أن تؤمن بجميع الرسل إيماناً واحداً كما تؤمن بجميع الكتب التي نزلت من السماء قبل التحريف والتبديل على الإجمال دون التفصيل، وتؤمن بالكتاب الذي أرسله الله إليك على سبيل الإجمال والتفصيل كذلك. وعليه فالذي يقول من أبناء المسلمين: أنا مؤمن بمحمد كافر بعيسى؛ فقد خرج من الملة وهو لا يدري؛ لأن عيسى ابن مريم قد برئ من النصارى بمجرد أن بدلوا وحرفوا، وبمجرد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ

§1/1