فن المقالة

محمد يوسف نجم

مقدمة

مقدمة: تصدر هذه الطبعة من هذا الكتاب، على كره مني. فقد كنت أتمنى أن تتاح إعادة النظر فيه، بعد أن مضي على طبعته الأولى زهاء أربعين سنة. وكم كنت أود أن أرى لزملائي من الباحثين، في الجامعة وخارجها، دراسات تسند هذه الدراسة وتضيف عليها، وتوسع بعض جوانبها. على أن ذلك لم يحدث لا في بلادنا العربية، ولا في الخارج. ولعل انصراف النقد العربي عن هذا الموضوع هو جزء من انصرافه العام عن العناية بفنون الأدب الحديثة، من قصة وأقصوصة ومسرحية، وإيثاره الترجمة على التأليف. أما النقد الغربي فلم تصدر فيه في السنوات الأخيرة، فيما أعلم، دراسة بوسعها أن تصحح رأيا أو تضيف جديدا. وأكثر عناية مدرسي الأدب وفنونه في الجامعات الغربية، وخاصة الأمريكية، منصبة على قراءة النصوص وتحليلها واستخراج القيم الفنية من داخلها. يضاف على هذا كله أن المقالة لم تعد في هذا القرن فنا من الفنون الأدبية التي تتجلى فيها قدرة الأديب على الإبداع؛ إذ تحولت إلى أداة سريعة في يد الصحافة، أو غدت وسيلة من وسائل الباحث؛ يعرض فيها رأيا في موضوعه، أو يبسط نتيجة من النتائج التي توصل إليها خلال دراساته، مما لا يمتد ويتفرع ليشغل كتابا بكامله. ولذا أصبح البحث في فن المقالة اليوم، لا يدخل في نطاق دراسة النثر الفني، بل أصبحت قواعده وشروطه ادخل في قواعد المباحث العلمية. ونحن نرى اليوم العديد من الكتب يصدر

ليعالج وسائل الباحث الحديث ومناهجه، والباحث هنا هو مؤلف الكتاب أو الدراسة المطولة، ومؤلف المقالة العلمية أيضا على ما فيها من إيجاز واحتجاز. ولذا بقيت دراسة المقالة، باعتبارها فنا أدبيا، مقصورة على دراسة أعلامها السابقين ابتداء من مونتين، ومرورا بكتاب مقالة المجلات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومثل هذه الدراسات وإن كانت تجلو جوانب كانت خفية في ذلك التاريخ، أو تبسط أمورا كانت موجزة فيه، فإنها لا تضيف على دراسة هذا الفن إلا القليل. محمد يوسف نجم

القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين

القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين تمهيد ... القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين 1- تمهيد: تجمع مراجع التاريخ الأدبي على أن الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين، هو رائد المقالة الحديثة في الآداب الأوروبية. ولهذا يقسم مؤرخو الأدب تاريخ المقالة إلى طورين متباينين، يقف مونتين حدا فاصلا بينهما. والطور الأول هو الذي ظهرت فيه المحاولات المقالية في صورتها البدائية الفجة، حين كانت تجارب مضطربة لا يحكمها ضابط ولا يحدها قانون، وذلك قبل أن تتطور إلى صورتها الحديثة حين أخذت طريقها نحوالنضج والتكامل، واتخذت لها قالبا أضحى مقررا معروفا فغدت فنامن فنون الأدب المعترف بها، كالملحمة والقصيدة الغنائية والمسرحية والقصة والسيرة وما إلى ذلك. ولما كانت غايتنا في القسمين الأولين، أن نؤرخ بإيجاز لتطور هذا الفن الكتابي، رأينا أن نلم بتاريخ المحاولات البدائية التي تمت في الطور الأول، ثم نتقدم إلى تأريخ أدب المقالة، في طورها الحديث، الطور المونتيني، لكي يلمس القارئ بنفسه مدى التطور الذي لحق هذا الفن الأدبي في الطورين السابقين.

بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة

2- بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة: ظهرت بذور الأدب المقالي، بأنواعه المختلفة، في الآداب القديمة قبل القرن السادس عشر. وهذا الأمر ليس مظنة الاستغراب، فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها. وهذه ظاهرة نفسية رافقت الانسان منذ ظهوره على وجه الأرض؛ إذ هي مركبة في طبيعته، بل هي جوهر جبلته التي فطر عليها. وقد عبر عنها منذ فجر التاريخه في تهاويل السحر ورسوم الكهوف، ووجدت في أحاديثه ومسامراته قبل عهد التدوين متنفسا ومراحا, وأصبح من عادة هذا الإنسان المتأمل فيما بعد، أن يدون نتيجة تأملاته وخاطراته على صورة ساذجة تتسم بالبساطة والعفوية دون أن يشق على نفسه في خلق قالب فني محدد، أو لعله لم يكن من الفطنة والحذق بحيث يتيسر له ذلك. وهذا ما نجده في أمثال الأمم وجوامع كلمها وللعرب حظ عظيم منها يرجع إلى عهود موغلة في القدم، وعليها يعتمد الباحثون في دراسة تطورهم العقلي، والمرتبة التي بلغوها في تمرسهم بالحياة واختيارهم لها وتأملهم معانيها. ثم إن لها فائدة أخرى في نظر الباحثين، فهي تختلف عن الشعر بصدورها في الأكثر عن عامة أبناء الشعب وأوشابهم، بينما يصدر الشعر عن طبقة ترتفع بعقليتها عن مستوى العوام، وتلتمس لفنها ألوانا من الصقل والتهذيب، لا يأبه لها أصحاب الأمثال الذين اعتادوا أن يلقوا بها في المناسبات التي تعرض لهم، تعبيرا ساذجا سريعا عن إحساس فطري تلقائي. وهذا هو شأن الأمم جمعاء في أطوار بداوتها. والمثل قريب بطبيعة وضعه وصياغته من فن المقالة، التي أراد لها مونتين أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أي تشذيب أو تصنع. وخير صورة نقع عليها لمثل هذه الحكم الشعبية، ما نجده في بعض أسفار العهد القديم، وخاصة في أسفار الحكمة وهي "الأمثال" و"الجامعة" و"سفر يشوع بن سيراخ". فهذه الأسفار الثلاثة، توضح لنا المراحل الثلاث، التي تجتازها الملاحظات العابرة، حتى تغدو نوعا من الأدب المقالي. ففي المرحلة الأولى تظهر على صورة الأمثال والأقوال

السائرة، وجوامع الكلم التي لا تنتظمها وحدة شاملة1..وفي المرحلة الثانية تستقطب هذه الأمثال والأقوال الحكمية، حول فكرة واحدة، هي فكرة الملك والجاهل، وهذه الفكرة الموحدة، أو الموضوع العام، هي البداية الحقيقية لفكرة وضع عنوان لكل مقالة2. وفي المرحلة الثالثة، نجد أن هذه الأمثال التي دارت حول فكرة واحدة، قد اتسع نطاقها حتى شملت مجموعة من الأفكار التي تنتظمها وحدة موضوعية. فأصبح المثل الموجز المركز موضوعا عاما يتيح للكاتب أن يحيل قلمه في حديث مسهب، وأن يفيض في عرض أفكاره وبسط نظراته، وهنا نقع على الصورة الموجزة للمقالة الحديثة3. ويعكس لنا الأدب الصيني القديم الذي يدور حول الموضوعات الدينية والفلسفية مثل هذه المراحل أيضا، وخاصة في الأقوال المأثورة التي تنسب إلى كونفوشيوس "حوالي 500 ق. م"، وكذلك في آثار تسي زي في ذلك العهد، ثم في كتابات منشيوس "حوالي 300 ق. م"، أكبر أتباع كونفوشيوسي، وخاصة في تلك الفصول التي كتبها عن الحب الكوني. ثم في تعاليم لاووتس، في أوائل القرن السابع ب. م. التي ضمنها كتابه "الطريق".

_ 1 سفر الأمثال: الإصحاح 10-22، وسفر الجامعة، الإصحاح العاشر. 2 سفر الجامعة: من الآية التاسعة من الإصحاح الرابع حتى الآية التاسعة من الإصحاح الخامس. 3 سفر يشوع بن سيراخ الإصحاح الثالث، الآية 1-16 والإصحاح الثاني عشر "باطل الأباطيل" من سفر الجامعة.

في أدب الإغريق والرومان

3- في أدب الإغريق والرومان: بيد أننا نعثر في آثار الإغريق والرومان الأدبية أيضا، على صورة متطورة لهذه المحاولات البدائية، حيث نقع على تباشير المقالة الحديثة على أنواعها. والأدب الإغريقي قبل الفتح الروماني، لا يقدم لنا الكثير مما نستطيع أن نعتبره نماذج ساذجة للمقالة الحديثة، مع ما بلغه من تقدم في الفنون الأدبية الأخرى كالملاحم والمآسي والملاهي. ولكن تلك الفترة التي تنتهي حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، كانت المعين الثر الذي استقى منه أدباء الإغريق المتأخرون، وكذلك أدباء الرومان، الذين قدموا بين يدي المقالة الحديثة آثارا فذة، أتيح لهم أن يوفقوا إلى إنتاجها بسبب الظروف المواتية التي أحاطت بهم آنذاك. ولعل أجدرها بالذكر، تلك الفترة الطويلة من السلم والازدهار، وما هيأته لهم من الفراغ والدعة والطمأنينة، وما شملهم فيها من رعاية أولى الأمر وحدبهم وتقديرهم. وهذا لا ينفي أن تباشير المقالة قد ظهرت في آثار بعض كتاب الإغريق أمثال فيثاغورس وهيردوتس وثيوكديدس وأكزينوفون وديموسثنيس وأبيقور وبوليبيوس وديونيزيوس ولوسيان ولونجينوس وأثينايوس وسواهم، ممن عاشوا في الفترة التي امتدت من القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن الثالث بعده. كما أن أساليب بعض الفلاسفة والكتاب أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وثيوفراسطوس وفلوطارخوس، كانت ذات أثر مباشر في أساليب بعض أنواع المقالة الحديثة. فأسلوب الحوار ظهر مشرقا بارعا في آثار سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. وقد امتاز أفلاطون فضلا عن ذلك، بالحرية في التعبير والانطلاق في الحديث، وهاتان الميزتان ظهرتا

فيما بعد بجلاء في مقالات مونتين رائد المقالة الحديثة. كما أن كتابات أرسطوطاليس التي تميزت بالتركيز والشمول ودقة المنطق، كانت ذات أثر بالغ في مقالات باكون. زد على ذلك أنه قدم لنا أول مقالة نقدية تمتاز بعمق في التفكير ودقة في التحليل، وذلك في فصل المأساة من "كتاب الشعر". ويعتبر ثيوفراسطوس، تلميذ أرسطوطاليس، رائدا لمقالة الشخصيات وقد جال في كتابه "شخصيات"، جولات موفقة في تصوير بعض النماذج البشرية الشريرة، وهو بهذا يعتبر الكاتب الإغريقي الوحيد الذي استطاع أن يشق الطريق لهذا النوع من المقالة، وأن يضع خطوطها الأولى جلية موحية. أما فلوطارخوس فقد وضع أسس المقالة التأملية في كتابه "أخلاقيات" "Moralia" وخاصة في فصله الذي سماه "تأخير الطعام". وهو أقوى الكتاب القدامى، باستثناء سنيكا، أثرا في رائدي المقالة الحديثة: مونتين وباكون. وكذلك الشأن في الأدب اللاتيني، فإننا نجد آثار بعض أعلامه بذورا لبعض أنواع المقالة الحديثة، كالمقالة الوصفية والنقدية والتأملية. ونذكر منهم كانوا الأكبر يوليوس قيصر وسالوست وليفي وبليني الأكبر وتاكتوس وديوجينس ومرسيلينوس وكلوديان الشاعر. وهؤلاء جميعا عاشوا في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد، إلى القرن الرابع بعده. إلا أن هنالك بعض الكتاب الذين تركوا أثرا أبلغ، ومنهم هوارس الذي تعتبر رسالته "فن الشعر" مقالة نقدية كتبت نظما. وكونتليان "في القرن الأول ب. م" الذي عالج في كتابه "قواعد الخطابة"، ووسائل تدريب الخطيب، وطرفا من تاريخ الأدبين الإغريقي واللاتيني، وكان له بذلك

قيمة تربوية وتاريخية. وكذلك تلميذه بليني الأصغر، الذي تعتبر رسائله نوعا من مقالات الرسائل. ومنهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس "في القرن الثاني ب. م" الذي يعكس كتابه "التأملات" صفات المفكر المتأمل الذي يفيض خواطره على القرطاس بأسلوب متدفق حر طليق، وهو الأسلوب الذي كتب به المقالة فيما بعد. ولكن أهمهم دون شك، وأشدهم اتصالا بموضوعنا، شخصيات ثلاث تألقت في سماء الأدب اللاتيني وهم: شيشرون "106-43 ق. م" وسنيكا "توفي 65 ب. م" وأولوس جيليوس "في القرن الثاني بعد الميلاد". وقد قدم شيشرون لرواد المقالة الحديثة، وخاصة في مقالتيه "الشيخوخة" و"الصداقة"، مثلا يحتذى من حيث الصورة والمضمون. ولكن سنيكا تفوق عليه في ذلك إذ كانت رسائله إلى لوسيليوس، كما قفال باكون، نوعا من المقالات أو "المحاولات". وهي تعكس لنا مدى تحضره وعمق تأملاته الرواقية، وسموه عن مستوى العامة في التفكير، وبراعته في التحليل بأسلوب بليغ يجمع بين القوة والسلالة، وبهذا كانت معينًا ثرًّا نهل منه كتاب المقالة الأول في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل إن مونتين نفسه نظر إلى أسلوبها في عدد من مقالاته. و"الليالي الأتيكية" لجيليوس، من أقرب المحاولات الأدبية إلى صورة المقالة الشخصية التي عرف بها مونتين. وهي تحتوي تعليقات موجزة حرة، تتناول بعض الموضوعات التي عبر بها الكاتب أثناء مطالعته.

في العصور الوسطى

4- في العصور الوسطى: وعندما طويت صحفة الرومان في سجل التاريخ، وقامت على أنقاضهم المسيحية مسيطرة عصفت بالوثنية والإشراك، تردى الأدب في هوة لا قرار لها، واستمر في ترديه هذا فترة نيفت على قرون عشرة. وانتهت مقاليد الأدب إلى أيدي فئة من الوعاظ كان همهم الأول خلاص الإنسان من سجن الجسد وتحرره من ربقة الشهوات التي كان يرسف فيها سادرا في غية لا يثنيه رادع من اخلاق أو دين.. فكانت هذه الفترة مرحلة ركود اندثر فيها هذا النوع من الكتابة الأدبية أو كاد، كما اندثر غيره من الأنواع إلى أن قيض له الانتعاش ثانية على أيدي رجال النهضة. إلا أن نوعا واحدا من أنواع المقالة البدائية، التي بذرت بذورها في عهد الرومان، كتب له أن يوفق ويزدهر في هذه الفترة، وهو المقالة التأملية الفلسفية. فطبيعة الحياة آنذاك كانت تقتضي وجود مثل هذا النوع الذي كان يصطنع في أكثر الأحيان لجلاء العقيدة والذب عنها ورد كيد خصومها ومقارعتهم الحجة بالحجة. ثم إن منابر الوعظ ومحافل العبادة، كانت تهيئ الفرص للتنافس، وتغري بالاتقان والتجويد. ولعل "اعترافات القديس أغسطين" "حوالي 400 ب. م"، هي أبرع استهلال لهذا النوع. ثم تلتها "مباهج الفلسفة" لبوثيوس "حوالي 500 ب. م"، وبعد ذلك نستطيع أن نرصد تطور هذا النوع في كتابات بيد وألفرد الكبير وتوما الأكويني وجيرالدوس كمرنس وسواهم، حتى أواخر القرن الرابع عشر. ويدخل في نطاق هذه الفترة أيضا بعض المترسلين الفرس أمثال نظامي الكنجوي "في القرن الثالث عشر"، وسعدي الشيرازي "في القرن الثالث عشر" الذي اشتهر بكتابه "الكلستان" وبرسائله، وكذلك مندفيل وشوسر من الكتاب الإنكليز، وقد عكسا في كتاباتهما بعض سمات المقالة الوصفية، والمقالة القصصية.

عصر النهضة

5- عصر النهضة: وكان الانقلاب الذي رافق عصر النهضة، مدعاة إلى وصل ما انقطع من التقاليد الأدبية عند الإغريق والرومان. وهكذا عاد فلوطارخوس وسنيكا وشيشرون ثانية إلى تبوء مكان الصدارة. وظهر في هذه الفترة بعض الأعلام الذين مهدوا السبيل أمام ازدهار هذا الفن الأدبي.. نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، دانتي وبترارك ومكيافيلي وسانسوفدو وسافونا رولا وأرازمس ولوثر ومرغريت النافارية ورابليه. وهؤلاء جميعا عاشوا بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. وسارت المقالة في إنكلترا خلال ذلك، على مثل هذه الوتيرة، وظهرت بذورها في آثار بعض كبار الأدباء أمثال توماس أليوت، وروبرت أشام، وتوماس ولسون، وفيليب سدني، وجون ليلي، وروبرت جرين، وجورج غاسقوينه وصمويل دانيال، وتوماس مور، ووالتر رالي.

في الأدب العربي القديم

6- في الأدب العربي القديم: آثرت تأخير الحديث عن بذور المقالة في الأدب العربي، لكي أتناولها في شيء من التفصيل. فقد ظهرت المقالة في أدبنا منذ القرن الثاني للهجرة. وتمثلت على أحسن صورها في الرسائل، وخاصة الإخوانية والعلمية. فلو نحينا جانبا الرسائل الديوانية التي كانت تتحجر في كل عصر، في قوالب معينة يرثها الخلف عن السلف، والتفتنا إلى الإخوانيات، وما تدور عليه من مسامرات ومناظرات وأوصاف وعتاب، وإلى الرسائل التي كانت تتناول الموضوعات التي تفرد بها الشعر كالغزل والمديح والهجاء والفخر والوصف، لوجدنا أنها تعكس خصائص المقالة، لا كما عرفت في طورها الأول الذي استمر حتى القرن السادس عشر، بل كما عرفت عند رائديها في فرنسا وإنكلترا. ولولا أنها تطورت هذا التطور المرذول الذي طبعها بطابع الصنعة الثقيلة الممجوجة، في الأسلوب الإنشائي وفي الصور البديعية والبيانية، لكانت المثل البكر لفن المقالة كما عرفتها الآداب الأوروبية الحديثة. وإذا تصفحنا كتب الأدب ومصادر التاريخ وجدنا أمثلة كثيرة تدعم هذا الرأي الذي نذهب إليه. فصفة الإمام العادل، للحسن البصري، مثل جيد على المقالة الأخلاقية. وفيها يقول: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق، الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع المهلكة ويحميها من السباع ويكنفها من أذى الحر والقر. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله،

فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها. وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده. وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهليين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك. وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك". ففي هذه القطعة صورة دقيقة للإمام العادل كما يراه الحسن البصري، تتصل باتجاه الحسن الأخلاقي الوعظي أشد اتصال، وتعكس لنا حرصه على التشخيص وإخراج الصور من دائرة الرمز إلى دائرة الواقع المشرق لتكون أقوى دلالة وأكثر جدوى في إبراز الموعظة الحسنة. ورسالة عبد الحميد إلى الكُتَّاب، التي تضع دستورا للكتابة الديوانية ولأخلاق الكُتَّاب، قريبة الشبة بالمقالة النقدية الحديثة، من حيث الموضوع والأسلوب. وكذلك رسالته إلى ولي العهد، التي تدور حول ما يجب أن تكون عليه أخلاقه في سيرته الخاصة وفي علاقاته مع أفراد حاشيته من القواد والموظفين، وحول تنظيم الجيوش، تعتبر مقالة في السياسة وتدبير الحاشية. وكذلك رسالتاه عن الشطرنج والصيد تقتربان، إلى حد ما، من أسلوب المقالة الحديثة، ورسالة سهل بن

هارون إلى بني عمه في مدح البخل وذم الإسراف، مثل على المقالة الفكاهية وهي شديدة الشبه بمقالات أديسون وستيل. ورسالة الصحابة لابن المقفع، مقالة في سياسة الدولة وتدبير الرعية، وفي نقد نظام الحكم ووجوه إصلاحه، ورسائل الجاحظ، وفصول كتبه التي كادت تلم بكل موضوع، وما فيها من فكاهة عذبة، وانطلاق في التعبير وتحرر من القيود، وتدفق في الأفكار وتلوين في الصور، وتنويع في موسيقى العبارات، خير مثل على النموذج المقالي في الأدب القديم. وقد وصفها المسعودي في مروج الذهب، وصفا يدعم هذا الرأي، فقال: "وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان لأنه نظمها أحسن نظم ورصفها أحسن رصف وكساها من كلامه أجزل لفظ. وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة1. وحسبنا مثلا على مقالاته التصويرية، كتاب "البخلاء"، الذي صور فيه حياة البصرة وبغداد في عصره، أحسن تصوير وأدقه، وعرض نماذج رائعة من البخل، في أشخاص بعض معاصريه، وبعض من أبدعتهم مخيلته منهم، على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به وأصبح علما عليه. وفي القرن الرابع خطت الرسائل المقالية خطوة ذميمة نحو التكلف والرهق، فغدت، وإن تنوعت موضوعاتها، متحجرة الأسلوب، مما يبعدها في نظر النقد عما يقتضيه أسلوب المقالة الحديثة من تدفق وحرية وانطلاق. ولا نجد في هذا القرن كاتبا يعادل أبا حيان التوحيدي في طلاقة تعبيره وغزارة معانيه وبراعة تصويره. فرسائله -على ما يتسم به

_ 1 مروج الذهب 2: 344.

بعضها من الطول- شديدة الشبه بالمقالات الموضوعية الحديثة. وفي فصول مقابساته مشابه من المقالات التأملية والفلسفية، وفي "الإمتاع والمؤانسة" صور شخصية بارعة، ولعل أصلحها للتمثيل في معرض الحديث عن المقالة، وصف الصاحب بن عباد، فهي مقالة هجائية بارعة، التزم فيها أسلوبا هادئا رصينا، خاليا من التهجم المفضوح والسباب البذيء، حتى لا يفوت على نفسه الغرض الذي رمى إليه. وما أقرب روحها من روح مقالات أديسون وستيل الهجائية الساخرة، التي كانا يصطنعان لها أسلوبا مبطنا لا يتورطان فيه بالتهكم الصارخ والضحك المجلجل، قال: "إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء وأخذ من كل فن أطرافا. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وكتابته مهجنة بطرائقهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب. وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك. وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة. والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته. شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب بذيء اللسان يعطي كثيرا قليلا "أعني يعطي الكثير القليل". مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب بعيد الفيئة قريب الطيرة حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل وحقده سار إلى أهل الكفاية. أما الكُتَّاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون

فيخافون جفوته وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة، نخوة وتعنتا وتجبرا وزهوا وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائل منثورة ومنظومة، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان. فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورَق والوَرِق ويسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا. ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى -وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد، زه يا أبا عيسى، والله قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنية. ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم. لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا"1.

_ 1 الإمتاع والمؤانسة ج1 ص54-56.

فأي صورة أبلغ في الإزراء بصاحبها، والغض من شأنه، والإضحاك منه، على شهرته بين معاصريه، من صورة هذا المدعي الذي ينظم الشعر في مدح نفسه ثم ينحله الناس ليقولوه فيه. إنها مقالة رائعة في تصوير المساوئ والكشف عن المعايب، صاغها أبو حيان على غرار صور أستاذه الجاحظ التي ابتدعها في "البخلاء"، وفي "رسالة التربيع والتدوير". وبعد، فقد عرضت بعض المحاولات المقالية عند العرب، على مقاييس النقد الحديث، في تحديده للمقالة. ولعمري إن الفنون الأدبية تمر في أطوار من النمو والتطور والتنقيح، فينأى اللاحق منها عن السابق، حتى ليتباينان أشد التباين. وفي الأمثلة القليلة التي ذكرتها، دليل على أن العرب، في نطاق فهمهم للتعبير الأدبي، قدموا بعض الرسائل والفصول الأدبية الممتعة، التي يصح أن ندرجها تحت الأدب المقالي، مع شيء من التجاوز والاعتدال في التحديد، شأنهم في ذلك شأن أكثر الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم.

القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث

القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث مونتين "1533-1592" ... القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث 1- مونتين "1533-1592": يجمع مؤرخو الآداب الغربية، على أن المقالة الأدبية الحديثة، عرفت سبيلها إلى الحياة على يد الكاتب الفرنسي ميشل دي مونتين. وقد بدأت بذورها تتكون في نفسه عندما اعتزل الحياة العامة، حيث كان يعمل في المحاماة، وترك بوردو إلى مزارعه الريفية سنة 1570، وذلك ليعيش حياة يرف عليها الهدوء، وتخصبها القراءة، على حد قوله. ويمثل مونتين في ثقافته وذوقه، رجل النهضة الفرنسي أحسن تمثيل, وقد ألهبته حماسة أبيه وشغفه بالثقافة الإيطالية الإنسانية، فاتجه هو بدوره إلى دراسة اللاتينية، قبل أن يشدو في الفرنسية، وقد تتلمذ فيها لبعض المشاهير من علماء الكلاسيكيات في عصره. وهكذا استقطبت ثقافته حول اللاتينية. ومن خلالها استطاع أن يقرأ روائع الأدب الإغريقي، أما عنايته بالأدب الفرنسي، فقد اقتصرت على بعض المؤلفين وخاصة في حقل التاريخ. وعندما تقدمت به السن أخذ يعنى بمشكلات عصره الفكرية والاجتماعية التي انبثقت من نهضة الأدب الكلاسيكي والفلسفة القديمة، ومن اكتشاف العالم الجديد، وطغت موجتها حتى عمت أوروبا كلها. ولكنه بعد ذلك كله، آثر أن يلجأ إلى مكتبته في مقاطعته الخاصة باسمه. ولم يمض عليه فيها طويل وقت، حتى دفعته الرغبة في تخليد اسمه وجلاء أفكاره، إلى الكتابة والتسجيل. وأدار مونتين عينيه فيما حوله من أنواع الأدب المقروء والمسموع، فرأى سيلا طاغيا من الحكم والأمثال وجوامع الكلم، التي تحدرت إلى

أوروبا عن الآداب القديمة. وأخذ كتّاب عصر النهضة يختارون منها، ويزيدون عليها، ما يلائم ثفافة العصر وذوقه وروحه. ولهذا وجدناهم يجمعون الحكم والأقوال السائرة، التي تدور حول الحياة والموت، وحول بعض العادات الغريبة، وذكاء الحيوان وقوة الخيال، ولم يكن لهم فيها سوى فضل الاختيار والجمع والتنسيق، أما شخصياتهم فلم تظهر في هذه المجموعات، ولم يكن طبيعيا أن تظهر. وعندما بدأ مونتين الكتابة، حوالي سنة 1571، استوحى كتّاب هذه المواعظ والدروس الخلفية. ولم يكن شاذا ولا منحرفا في هذا الاستحياء؛ إذ إن الدافع الذي استحثه على الكتابة كان في طبيعته أخلاقيا تهذيبيا. ولم يكن يطمح آنذاك إلى أن يأتي بعمل فذ جديد، بل كان كل ما يطمح إليه، هو أن يضفر ضميمه من تلك العبارات والأفكار الجميلة الرائعة التي يعبر بها أثناء قراءته. وتبعا لذلك كانت آثاره الأولى لا تختلف اختلافا بينا عن آثار هؤلاء الجماع "المؤلفين"؛ فهي عبارات ملتقطة من هنا وهناك، تدور حول بعض المشكلات الخلقية والمعاشية. وكان كلما مضى في كتابته قدما، يضيف عبارة هنا أو تعليقا هناك. إلا أن هذه الآثار عامة كانت تخلو من العنصر الذاتي خلوا يكاد يكون تاما. وهذه المرحلة التجريبية تمثل الطور الأول من نمو مونتين الأدبي، وقد استغرقت العامين الأولين من أعوام عزلته. ولكنه ما عتم عقب ذلك، أن أخذ يشق طريقه نحو إبداع فن جديد، يبتعد فيه عن تلك الدروس الخلفية التي احتذى فيها آثار سابقية. وقد حدث ذلك حوالي سنة 1574م، وكانت النتيجة التي خلص بها في هذا الطور، هي إبداع هذا الفن الأدبي الجديد، الذي سجل له التاريخ فيه فضل الريادة، وكان ذلك قبل أن تظله سنة 1580م.

ولعل السبب الأول الذي أدى إلى هذا التطور هو مزاجه الخاص, والظروف التي أحاطت به آنذاك. فقد استغرق مونتين أثناء عزلته في بعض التأملات، وأخذ ينظر إلى مجتمعه بعين ناقدة، ويستبطن أعماق نفسه بعقل ممحص، وخاصة في فترة المرض الذي انتابه حوالي 1578. ولكن هذا كله لا يعلل هذا الاكتشاف الذي توصل إليه، بل كانت ثمة تيارات أدبية قوية، رفدت هذا المجرى الصغير في نفسه، واعدته للاضطلاع بهذه المهمة خير إعداد وأتمه. تنبئنا المصادر، أنه وقع في سنة 1572 تحت تأثير كتابات فلوطارخوس؛ وقد وجد فيها، وخاصة في "الأخلاقيات"، بعض النماذج الأدبية الحية التي تختلف اختلافا بينا عن تلك الشذور الجافة التي كانت عينه تقع عليها في آثار معاصريه، فتكون زادا لقلمه الغض الناشئ. ولم تكن كتابات فلوطارخوس تخلو من الأمثال والأوابد والأقوال السائرة، إلا أن هذه لم تكن قوام فنه الأدبي، بل كانت تمر عرضا أثناء تأملاته وتكتسي بحلة من بيانه الرائع، وتطفو إلى السطح بعد أن تنقحها آراؤه الشخصية، وتخلصها من شوائب الفتور والجمود التي تخالط الحِكم الشعبية عندما تنبت عن مناسباتها الأولى التي ألقيت فيها. وقد تأثر مونتين أيما تأثر بمسحة الطلاقة واليسر التي تلف كتابات فلوطارخوس فتخرج سليمة من التكلف والرهق. وقضى مدة طويلة عاكفا على هذه الآثار الممتعة يستنطقها فتجيب ويستلهمها فينهمر عليه وحيها، والعملية الأدبية سائرة في نفسه سيرتها الطبيعية، تصقل ذوقه وتنقح تعبيره وتمده بصور جديدة وأحاسيس مبتكرة. وسيرة هذا التحول تتضح في بعض كتاباته التي خطها ببراعه بين سنتي 1578 و1580، وخاصة في "تربية الأولاد" و"حب الآباء

للأبناء" و"الكتب" و"القسوة" و" من أشبه أباه فما ظلم". وهي تظهرنا على أن مونتين لم يعد قانعا بجمع تلك الفرائد والأقوال المأثورة، التي كانت تسقط في ساحته أثناء تمرسه بعملية القراءة والاقتباس، بل انتقل إلى مرحلة جديدة قوامها التأمل العميق في الموضوعات الخلقية والنفسية. إلا أنه لم يتنازل عن الأمثال وجوامع الكلم مرة واحدة، بل أخذ يختار منها ما كان صالحا للتضمين في كتاباته، ولجمع شتات أفكاره، ثم يرصع بها بعض الصور والحوادث التي يستمدها من ملاحظاته الخاصة وتجاربه الشخصية. ونحن نجد مصداق ذلك في مقالته عن "تربية الأولاد"، فقد استهلها بمبدأ عام يحدد القاعدة الأساسية التي ينبغي أن يستند إليها في تربية الأولاد. ثم انتقل إلى الحديث عن تربيته الخاصة، وعن بعض الأحداث التي مرت به أثناءها. وهكذا أخذ مونتين يغلب العنصر الشخصي في كتاباته على العناصر التي كانت ترفده من قراءاته المختلفة. ولكنه في معرض حديثه عن تجاربه الخاصة، لا ينسى أن يدعم أفكاره ببعض الأقوال المأثورة, والحكم الجارية مجرى المثل. وتمتاز مقالاته في الطور الثاني بأنها كانت أطول من سابقاتها، وبأنه لم يكن فيها حريصا على التصميم المحكم والتنسيق الدقيق، شأنه في محاولاته الأولى؛ لأنه أصبح يحس الآن بأنه امتلك ناصية الفن، وشق طريقه الخاصة فيه، فله أن يجيل قلمه في شتى الموضوعات بحرية وانطلاق وتدفق. وفي سنة 1580 جمع تلك الفصول التي كان قد كتبها، وعدتها أربعة وتسعون، ونشرها تفي بوردو في جزأين، وسماها "محاولات". وقد نبه القارئ في مقدمته التي كتبها، بأنه إنما يصور نفسه أو شرائح منها، في هذه الشذرات التي يعنى بنشرها على الناس.

وعكف مونتين على هذا المولود الجديد، يتعهده بالحدب والرعاية والسهر الطويل، إلى أن أتيح له في سنة 1588 أن يخرج طبعة جديدة نقح فيها مقالاته السابقة. وتولاها بالصقل والتهذيب، وضم إليها ثلاث عشرة مقالة جديدة، كان من بينها بعض تلك المقالات التي استهل بها شهرته الجديد. وقد تجلت فيها موهبته الأدبية كاملة مستحصدة. وتمتاز عما سبقها من مقالاته، بتألق العنصر الشخصي، ويتسم أسلوبها بالحرية والتدفق والتشعب، والسير على غير أصول مرعية، أو قواعد معينة. ولم تخل هذه المقالات من الأمثال والحكم السائرة خلوا تاما، إلا أنها كانت تأتي عرضا دون قصد أو تعمد، وكانت تقف على هامش العمل الأدبي، عنصرا ثانويا، بالسنة إلى ذلك الفيض من التأملات العميقة، والتجارب الشخصية الصادقة. وقد كان دأبه فيها، أن يمعن في الحديث عن نفسه، وعن ذكريات صباه وشبابه، وعن الأحداث الطريفة المعجبة التي مر بها في طور الرجولة والاكتهال، وكان لا يتورع عن كشف عيوبه للناس، وعرض صور من شذوذه، شذوذ كل أديب. ولهذا نجرؤ على القول بأن مونتين بذر في مقالاته هذه، بذور التراجم الشخصية التي استوت فيما بعد فنا قائما بذاته له أصوله ومشخصاته.

فرنسيس باكون

2- فرنسيس باكون: لقد طبقت شهرة مونتين ومقالاته أرجاء القارة الأوروبية، ولم يمض غير قليل وقت حتى عبرت المانش إلى إنكلترا، ففي سنة 1595، أي بعد وفاته بثلاث سنوات، ترجم جون فلوريو، أحد نظار المدارس الإنكليزية، هذه المقالات، في صورتها الأخيرة، ولعل هذه الترجمة هي التي امتثلت للطبع سنة 1603. وقد لاقت إقبالا منقطع النظير فطبعت مرات عدة، في أوائل القرن السابع عشر. وغدت بذلك غذاء دسما للقارئ الإنكليزي في عصر الياصبات، وعكف عليها وتأثير بها بعض كبار الأدباء في ذلك العصر. وأول أثر أدبي في اللغة الإنكليزية، اتسم بميسم هذا الفن الجديد، كان مجموعة من المقالات التي دبجها يراع محام ناشئ كان في خدمة الملكة آنذاك، وهو فرنسيس باكون، وكان ذلك سنة 1597. وكانت عدتها عشرا، لا تحمل منسمات فن مونتين إلا الاسم؛ إذ كانت أقرب إلى الأمثال والحكم منها إلى الفيض الأدبي المتدفق الذي عرفناه عند مونتين. وهي بهذا تنتمي إلى كتابات القرن السادس عشر، خارج الدائرة المونتينية، ففيها من تلك ذلك الحرص على إيراد الأقوال السائرة والأفكار الحكمية المركزة. وينعدم فيها العنصر الشخصي، وصور التجارب الخاصة. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذا الفرق بينه وبين مونتين فقال: "فمونتين فياض مسترسل كثير الأغواص متعدد الملامح الشخصية قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون -على دابة في جميع محاولاته- كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز ودسومة المادة الفكرية واجتناب الألوان الشخصية والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه"1. وهذا الفرق الذي لمسناه بينهما، والذي أشار إليه الأستاذ العقاد، ناجم عن تباين مذهبيهما في تلقي الحياة والصدور عنها. أما مونتين فقد اعتزل الناس والحياة ليخلو إلى نفسه يتأملها ويستبطن أغوارها، وهكذا

_ 1 عباس محمود العقاد: فرنسيس باكون، 82.

خرجت مقالاته مزيجا من تجارب الشباب ونزواته وتأملاته الكهولة وما تتسم به من رزانة وتحرج. وأما باكون فقد كان آنذاك في مطلع حياته العملية، وكان الطموح يملأ جانبيه ويملك عليه أقطار نفسه، ويرسم أما عينيه هالة المثل الأعلى في الحكم والرئاسة، ولذا جعل من مقالاته دروسا واضحة مركزة لأولئك الذين يكدون ويجتهدون حتى يبلغوا النجاح في حياتهم العملية. إلا أن أثر مقالات مونتين، ما لبث أن شق طريقه إلى الأدب الإنكليزي عريضا لاحبا، وكان ذلك على يدي وليم كورنوالس1، صديق بن جونسون، الذي أصدر مجموعة من المقالات في مجلدين ظهرا سنة 1600 و1601 على التوالي. وقد عرض فيها لبعض الموضوعات العامة التي عرض لها مونتين وباكون كالحب والمجد والطموح والشهرة والحزن والغرور والحظ وما إلى ذلك. وكتب أكثرها بضمير المتكلم، وأدارها حول نفسه، شأن مونتين الذي اعترف له كورنوالس بدين لا ينسى، في غير موضع من تلك المقالات. وقد استعان فيها ببعض الأقوال المأثورة التي استقاها من قراءاته، إلا أنه شأن مونتين أيضا، أضاف إليها الكثير من تجاربه الخاصة، وجعل منها معرضا لآرائه وذوقه وأحاسيسه. ونتيجة لذلك كله، لقيت هذه المقالات تقديرا كبيرا في الأوساط الخاصة والعامة، سحابة النصف الأول من القرن السابع عشر. وإذا عدنا إلى باكون ثانية، نجد أنه يصدر في سنة 1612 طبعة جديدة موسعة من مقالاته، وقد أصبح عددها ثمانيا وثلاثين، بعد أن

_ 1 راجع تفصيل أثر مونتين في كورنوالس في كتاب: The french influence in English Literature. by A.H Upham pp. 265-307.

كانت في طبعتها الأولى عشرا. وقد أعاد فيها طبع المقالات القديمة دون ما تعديل، واحتفظت بعض المقالات الجديدة بطابع الوعظ المركز، الذي يتسم بالدسامة والاحتجاز، على غرار المحاولات الأولى. إلا أن الكثرة الغالبة منها تؤرخ بداية اتجاه جديد في القالب والمحتوى. فمن حيث القالب نراه يعمد إلى كثير من التصميم والتنسيق. ومن حيث المحتوى نجد أنه يضرب صفحا عن الحكم المركزة والأقوال المأثورة، ويغادرها إلى شيء من الحديث المرسل المستفيض الذي ينضح بالحيوية والتدفق والألفة. وهذا التطور الذي بدت مظاهره الأولى في هذه المجموعة، أصبح مذهبا واضح المعالم في المجموعة الأخيرة التي أصدرها سنة 1625، وضمنها ثمانيا وخمسين مقالة، بما فيها مقالاته التي نشرها في مجموعتيه السابقتين. وقد أجال باكون قلمه في المحاولات السابقة منقحا ومهذبا، وخاصة المقالات الجديدة في الطبعة الثانية، فقد فازت بالنصيب الأوفى من عناية الكاتب، فأجرى عليها كثيرا من التعديلات لكي تلحق بمقالاته الجديدة من حيث المادة والصياعة. وقد مثلت هذه المقالات، مفارقة كبيرة بالنسبة إلى مقالاته السابقة، حتى إنها بانت عنها في أكثر من خاصة. إذا ازداد حظها من التصميم والتنسيق والإطالة، كما ازداد نصيب الموضوعات من الإسهاب والتحليل. فضلا عن أن أسلوبه تجلى في حلة قشيبة، فأصبح أمتن أسرا وأدق تعبيرا وأوسع خيالا وأحفل بالبلاغة والزخرف والتشويق، إلا أن الفرق الظاهر الذي يطغى على كل ما عداه، هو كثرة الاستشهادات التاريخية، والاعتماد على الآراء الشخصية والتجارب الخاصة في التفسير والتوضيح والاستدلال. وقد وصف الأستاذ العقاد مقالات باكون في هذين الطورين وأوضح

ما بينها من فروق فقال: "فمقالات باكطون في بواكيرها كانت طرائف من المتفرقات الفكرية تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد، غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه فهو غني عن تفصيلها وتوضيحها، لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليها. أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه. ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب. وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه وطرافة الأمثولة واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم وموقعها المنتظر"1. وقد اجتمعت عوامل عدة، لتؤدي إلى هذا التطور الواضح الذي تم بين عامي 1597 و1625. منها أن باكون كان يطمح دائما إلى تقعيد علم للأخلاق. وقد اقترح في كتابه "ترقية المعارف" الذي أصدره سنة 1623، وسيلة لتحقيق هذا المطلب، وهي أن تكتب مجموعة من الرسائل القصيرة تدور حول الشهوات والفضائل والنماذج الأخلاقية. ولم يحاول باكون أن ينفذ هذا المشروع وأن يخصه بجزء من نشاطه الأدبي، إلا أن بعض مقالاته الجديدة، التي ظهرت في الطبعة الأخيرة، تدور حول شيء من ذلك، كمقالته عن "الحسد" ومقالته عن "التظاهر والرياء".

_ 1 المرجع المذكور آنفا: 85، 86.

وهنالك عامل آخر أدى إلى هذا التغير الواضح في أسلوبه المقالي وهو "رسائل سنيكا" التي سبقت الإشارة إليها. فقد كان هذا الكتاب الأخلاقي، واسع الانتشار بين القراء آنذاك، وكثيرا ما اقتبس باكون منه في كتاباته. ويذكر مؤرخو الأدبي، أنه في مقدمة لم تنشر لمجموعة المقالات التي طبعت سنة 1612، ذكر في معرض حديثه عن عنوان الكتاب "إن الاسم حديث، مع أن الموضوع قديم؛ إذ إن رسائل سنيكا إلى لوسيليوس -إذا نظر إليها الإنسان بتمعن- ليست إلا مقالات، أي تأملات منثورة، مع أنها مجموعة من الرسائل". والعامل الأخير، الذي أدى إلى هذا التطور، هو أثر مونتين في باكون. فمما لا شك فيه، أن باكون بعد أن أقبل على هذا الفن واستغرق فيه، أخذ يراجع طريقته البدائية في الكتابة، عاد ثانية إلى مونتين، فقرأه بتمعن وتمحيص، فخرج منه بهذه السمات الجديدة التي وسمت مقالاته الأخيرة؛ فبتأثير مونتين، عني باكون بأسلوبه، فوفر له بعض القيم الجمالية والزخرفية التي لم يعرفها من قبل. وعني بموضوعاته، فمال عن ترصيع الحكم والمواعظ المركزة، إلى الحديث المسهب المتصل الذي يدعمه بالشواهد والإيضاحات، مما استمده من كتب التاريخ ومن تجاربه الخاصة. وأباح لنفسه أخيرا أن يعنى بإبراز العنصر الشخصي، لتتوفر لكتابته جميع مقومات الأدب الرائع. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذا التغير الذي طرأ على أسلوب باكون في مرحلته الأخيرة، وحاول أن يعلله فقال: "وقد لاحظ النقاد بحق أنها كانت في صيغتها الأخيرة أحفل بالبلاغة والزخرف وفنون التخيل والتشويق، منها في صيغتها الأولى. واستطرد بعضهم من هذا إلى ملاحظة عجلى ليس فيها بصائب؛ لأنه حسب أن

هذا الاختلاف بين أسلوب الشباب وأسلوب الشيخوخة ظاهرة متسغربة لا تجري مع المعهود من طبائع القرائح الإنسانية. فإن القرائح في الناس عامة، أخصب بالخيال والرونق أيام الشباب، خلافا لما بدا من أسلوب باكون في حالتيه على رأي أولئك النقاد. ولا حاجة هنا، على ما نرى، إلى مجاراتهم في اختراع بدعة غريبة من بدع القرائح الإنسانية عامة. إذ المألوف في الواقع، أن يكون الشباب أقرب إلى تكلف الوقار لأنه مظنة الخفة، وأن تكون الشيخوخة أقرب إلى الخفة لأنها مظنة الفتور والجمود. وثمة سبب آخر نرجع إليه قبل الوثوب إلى البدع والخوارق التي لا تشاهد في جميع الأحوال. فمما لا شك فيه أن باكون قد بدأ تجربته الأولى في فن المقالة، وهو مترفع عنه ناظر إليه نظرة المتحفظ الذي لا يوليه جهده من العناية والاحتفال. وقد كانت له قبل كتابة المقالات فصول تفيض بالتخيل والرونق، كما تفيض بهما مقالاته الأخيرة بعد أن عاودها وهو معني بها محتفل بتنميقها، فليس في قريحته من هذه الناحية ظاهرة جديدة أو غريبة تخالف المعهود والمألوف. وإنما هو اكتراث بعد تهاون، وإقبال بعد تردد. وما كان هذا التحول من التردد إلى الإقبال بالمستغرب، بعد شيوع المقالات وتسابق الخاصة والعامة إلى مطالعتها والاستزادة منها، وتلاحق ترجماتها بالفرنسية واللاتينية والإيطالية في سنوات قليلة. فقد تغير تقدير باكون لمقالاته تبعا لتقدير القراء والنقاد. وبدا منه الارتياح إلى رواجها والإعجاب بها في معارض شتى، فأشار مغتبطا إلى تكرار طبعها، وقال في خطابه إلى أسقف ونشستر: إنه لا يجهل أن هذا الضرب من الكتابة يضيف إلى اسمه سمعة وسطوعا فوق ما استفاده من الكتب الأخرى مع قلة الغناء فيه. وقال في رسالته إلى دوق بكنغهام: إن المقالات أروج أعماله؛ لأنها على ما يظهر أدنى إلى شواغل الناس وطواياهم"1.

_ 1 المرجع السابق: 83-85.

بين مونتين وباكون

3- بين مونتين وباكون: ولكن على الرغم من تأثر باكون في مقالاته بمونتين واقتدائه به في الصياغة والمحتوى وعناوين بعض المقالات، نجد أن بينهما فروقا أساسية تعزى في الأكثر إلى ما بينها من تباين من حيث الشخصية والمنزع الأدبي فمن حيث الصياغة والقالب، نجد أن مقالة باكون أدنى إلى القصر، وأشد إحكاما وأدق تصميما وأكثر اقترابا من الموضوعية. أما من حيث المحتوى، فإن غاية باكون كانت عملية؛ إذ كان يرمي من وراء هذه المقالات إلى تقديم بعض النصائح العملية لهؤلاء الذي تتطلع نفوسهم إلى العمل في البلاط، أو في مناصب الدولة العليا. وهي من هذه الناحية، تشبه إلى حد كبير تلك النصائح التي كان يوجهها الأدباء والكتاب إلى الناشئين من الكتاب ليتيسر لهم الاضطلاع بأعمالهم في خدمة الخلفاء على الوجه الأكمل. ومن هذا القبيل رسالة عبد الحميد المشهورة، وتلك الرسائل والكتب التي تدور حول أدب الكتاب في الإنشاء والسلوك. ونجد مصداق ذلك، في العنوان الذي توج به مجموعة مقالاته التي نشرها سنة 1625م. فقد دعاها "مقالات أو نصائح مدنية وخلقية". وهذا يعني أنه أراد من كتابه هذا، أن يكون دليلا أدبيا وسياسيا للناشئة من رجال البلاط أو رجال السياسة. ونستطيع أن ندرك غاية باكون تمام الإدراك، من تلك العناية الفائقة التي بذلها في مقالاته الاجتماعية والمدنية،

كمقالاته عن فائدة الزواج والعزوبة للرجال الذين يتولون المناصب العامة، وعن الرسائل التي تيسر الوصول إلى المناصب الرفيعة، وعن أحسن الوسائل لمعاملة الرعية الثائرة، وعن أثر السفر في تهذيب الرجال، وما إلى ذلك من المقالات التي تذكرنا بمقالات ابن المقفع في صحابة الخلفاء، وأدب الحاشية وواجبات الخليفة. ونستطيع أن نوجز ما مضى بقولنا: إن باكون الذي أفاد من مقالات مونتين، فائدة ظاهرة، استطاع أن يأتي بجديد في هذا الفن الناشئ1.

_ 1 راجع تفصيل تأثر باكون بمونتين في كتاب Upham المشار إليه سابقا.

نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية

4- نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية: في تلك الفترة التي انصرمت بين نمو البذور التي طرحها مونتين في حقل المقالة، وعودة الملكية إلى إنكلترا سنة 1660م، نلتقي بعض الكتاب المغمورين، الذي جربوا أقلامهم في تحبير المقالات، متأثرين بأحد الأسلوبين: أسلوب مونتين، وأسلوب باكون. ولكن واحدا منهم لم يترك أثرا ذا قيمة في هذا السبيل، إن في القالب أو في المضمون. وقد مرت المقالة في هذه الفترة بمحنة. ولعل ذلك عائد إلى انصراف أكثر الكتاب إلى معالجة "الصور الشخصية" أو إلى المشاركة في الخصومات السياسية والحزبية التي تلظى أوارها في ذلك الحين. ولكن ما لبثت المقالة أن استردت مكانتها، في فترة الهدوء التي عقبت عودة الملكية. وكان للتقليد الذي تركه مونتين فيها أثر كبير في نهضتها تلك. وقد يعزى ذلك إلى اتجاه القارئ الإنكليزي آنذاك نحو الاطلاع على الأدب الفرنسي، بعد عودة الأسرة المالكة من فرنسا. أو إلى كون

مقالات مونتين بما فيها من شك في القيم، ومن حرية في التفكير والتعبير، أكثر ملاءمة للمزاج الإنكليزي في ذلك الوقت الذي اختلت فيه المفاهيم واهتزت القيم. وقد ترجمت مقالات مونتين في هذه الفترة ترجمة جديدة متقنة، نسخت ترجمة فلوريو، وطبعت ثلاث طبعات قبل سنة 1700م. وقد جرى ذكر مونتين على أقلام أعلام الكتاب في تلك الفترة، ومنهم إبراهام كاولي "1618-1667م" ودريدن "1631-1700م" وويشرلي "1640-1716م". واشتهر منهم في كتابتها كاولي، الذي تزود لها بثقافة كلاسيكية عميقة شاملة، وبخبرة واسعة في الشئون العامة، فضلا عن أسلوبه العذب الرقيق، الذي اكتسبه نتيجه لتمرسه بنظم الشعر فترة من الزمن. ثم قدر له أن يعتزل الحياة العامة، بعد أن يئس من مكافأة الملك شارل الثاني له، لقاء ولائه للملكية ودفاعه عنها. وقضى سنوات عزلته الأربع في تأمل وكتابة. ونشرت مقالاته لأول مرة سنة 1668م، وهي تشي بتأثر شديد بالأسلوب المونتيني، وخاصة في بث أحاسيسه الخاصة تجاربه الشخصية وفي تضمين بعض الاستشهادات والأقوال المأثورة التي اقتبسها عن الكتاب المتقدمين، وفي أسلوبه الطلق الأليف، الذي يتدنى أحيانا إلى مستوى لغة الكلام العادي. وكذلك اشتهر في هذه الفترة سير وليم تمبل "1628-1699م" الذي أسهم في الحياة السياسية بنصيب كبير. وكان كلما خلا إلى نفسه في مقاطعته الخاصة في سري يدون بعض تأملاته بأسلوب أدبي حر طليق، في مقالات تدور في الفلك المونتيني ولا تند عنه، وقد نشرت مقالاته هذه في ثلاثة أجزاء. وقد عني بعض كتاب هذه الفترة بالمقالة، وتركوا فيها بعض الآثار

التي يتضح فيها تأثير مونتين وباكون. وبانتهاء هذا القول، ينتهي الطور الأول من تاريخ المقالة الإنكليزية، هذا الطور الذي يشمل مرحلة التأثر بمونتين أولا ثم به وبباكون ثانيا. أما الأول فقد طبعها بطابع الصراحة والحرية في التعبير والحرص على إبراز العنصر الشخصي. وأما الثاني فقد ترك فيها خصائصه في التركيز والاحتجاز والموضوعية. واجتمع أثرهما فيها فيما أبداه الكتاب من عناية بالموضوعات الأخلاقية بمعناها الواسع، على أن تعالج هذه الموضوعات في ظل الحِكم الكلاسيكية السائرة، أو بالروح الكلاسيكية في الأخلاق والتأملات. وكانت الفضائل والرذائل التي حرصوا على شرحها وبسطها للناس وتبيان منافعها أو أضرارها، تنعكس على شخصية المؤلف، فتتأثر بنظرته الخاصة إليها، منحية جانبا نظرة المجتمع الذي كان يتقلب فيه. أما شئون المجتمع المختلفة، من عادات ونظم وتقاليد، فقد كانت لا تلقى منهم إلا بعض العناية لأنهم كانوا ما يزالون يعيشون تحت وطأة النزعة الفردية العنيفة التي خلفها عصر النهضة في نفوس أبناء القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد كان لعصر النهضة أثرا آخر في أساليبهم يتضح لنا من توافدهم على الأدب الكلاسيكي، الإغريقي واللاتيني، وحرصهم على أن يقتبسوا منه، وعلى أن يشيروا إلى أحداثه وشخصياته، بمزيد من العناية والتوقير.

مقالة المجلات في القرن الثامن عشر

5- مقالة المجلات في القرن الثامن عشر: كانت المقالة في القرن السابع عشر، فنا ثانويا يعيش على هامش الفنون الأخرى كالشعر والمسرحية. وقد صد عنها أكثر الكتاب في هذا القرن. أما هؤلاء الذين عنوا بها، فلم يتفرغوا لكتابتها كل التفرغ، بل كانوا يتخذون منها وسيلة للتسلية ولتزجية الوقت في فترات الدعة والفراغ. وقد كان قراؤها كذلك أقلية ضئيلة، بالنسبة إلى مجموع القراء، وكانوا من الطبقة الممتازة التي تعنى بالأدب عناية خاصة. أما في القرن الثامن عشر، فقد انبرى لكتابتها أعلام الكتاب، وتفرغوا لها واعتبروها فنا قائما بذاته حسب الكاتب أن ينبغ فيه حتى تكتب له الشهرة والخلود. وقد لحقها تطور كبير في المحتوى، تبعا لذلك، فلم تقتصر على التأملات الذاتية في بعض المشكلات التي تعرض للإنسان في حياته الخاصة، أو في علاقته بالمجتمع، بل اتجهت نحو تحليل مظاهر الحياة المعاصرة، وتناولها بالنقد والتجريح. كما طرأ عليها تغير من حيث الأسلوب، فاصطنع لها أسلوب إنشائي جديد، وطرق مستحدثة في العرض والتحليل، حتى نستطيع أن نقول إنها غدت في هذا القرن فنا أدبيا جديدا. ويعزى الفضل في هذا التطور الذي لحقها، إلى جهود كاتبين برزا في هذه الفترة، هما رتشارد ستيل "1672-1729م" وصديقه جوزيف أديسون "1672-1719م". وقد توفرت لديهما الموهبة المبدعة، وأتيح لهما من الظروف ما ساعدهما على إبراز هذه الموهبة، وتعهدها بالصقل والتهذيب. وكان أعظم هذه الظروف أثرا في تطور المقالة على النحو الذي ألمحنا إليه تطور المجلات الأدبية في ذلك الحين. ففي السنوات القليلة التي عقبت 1688م، وما رافقها من ازدياد عناية الناس بالشئون السياسية، وتراخي قبضة الرقابة على الرأي العام، أخذت الصحف الحديثة تظهر على الناس في أعداد وفيرة. وخطر لبعض الكتاب أن

يصدروا بعض الصحف التي لا تقتصر على الأخبار والسياسة فحسب، بل تتعدى ذلك إلى بعض الشئون العامة التي كانت تشغل أذهان الناس آنذاك، كالأزياء والأدب والأخبار الاجتماعية. وقد استهل هذا العمل وراق يدعى جون دنتون، فأصدر سنة 1691 نشرة دعاها "الصحفية الأثينية" "the Athenian Gazette" ثم دعاها، "عطارد أثينا" "Athenian Mercury" وكانت غايته وغاية المحررين الذين أعانوه على إصدارها، نشر بعض الأخبار والمعارف العامة موشاة بالطرائف والأحاديث المسلية، على طريقة السؤال والجواب. فكانوا يتلقون من قرائهم الأسئلة التي تدور حول شتى أنواع المعارف، ويتولون الإجابة عليها. واستمرت هذه النشرة ست سنوات، وكانت أول صحيفة إنكليزية تخرج عن نطاق السياسة وتتولى نشر الأخبار والموضوعات والأبواب المتنوعة. وبعد احتجابها بقليل، أصدر الكاتب الساخر دانيال ديفو "1660-1713م" مجلة دعاها "مجلة أسبوعية خاصة بشئون فرنسا". وقد استمرت منذ سنة 1704م حتى سنة 1713م؛ وكانت غايته الأولى من إصدارها خلق وسيلة تساعده على بث آرائه الخاصة في الشئون العامة، وخاصة ذلك الصراع الذي كانت تدور رحاه مع فرنسا آنذاك، وتطور التجارة الإنكليزية. ولذا كان كل عدد منها يحتوي مقالة يدبجها هو حول أحد هذه الشئون. وقد دفعه حرصه على إرضاء ذوق القارئ، وملاقاته في منتصف الطريق، إلى أن يثير بعض المشكلات الهامة، بطريقته الفكهة المعروفة. فأخذ ينشر بعض النتف والشذرات تحت عنوان "نصيحة من نادي الفضائح"، وكانت تدور حول الأزياء والعادات والأخلاق والذوق العام

ما إلى ذلك من موضوعات، ويدعي أنها صادرة عن أقلام أعضاء هذا النادي المزعوم. وقد كان لهاتين الصحيفتين فضل في لفت نظر القارئ الإنكليزي إلى فوائد المجلات الأدبية والاجتماعية، إلا أن أثرهما في تطوير فن المقالة كان ضئيلا. ويعزى هذا التطور في المقام الأول إلى مجلتين ظهرتا خلال هذه الفترة، واتجهتا إلى الذوق الإنكليزي المحدث الذي تربى في صحيفتي دنتون وديفو. ففي سنة 1907م، حين كانت صحيفة ديفو في ربيع العمر، ظهر العدد الأول من صحيفة الثرثار "the Tatler"، والتي أصدرها باسم مستعار، رتشارد ستيل، محرر الجريدة الرسمية، وأحد أعضاء حزب الأحرار. وقد أعلن في العدد الأول منها، أن الصحيفة ستنقسم إلى بابين، أحدهما للأخبار الثاني للمقالات. وقد اضطلع ستيل بتحريرها منذ البداية، إلا أنه ابتداء من العدد الثامن عشر، أخذ يتلقى معونة من زميله وصديقه في الدراسة والحزب، جوزف أديسون. وقد ظل يساعده في التحرير حتى احتجاب المجلة سنة 1711، على كره من القراء وأسف شديد. ولكن لم يخل الميدان من نشاطهما المقالي سوى شهرين، إذ أصدرا مجلتهما الثانية "المراقب" "the Spectator"، وكانت تشبه الأولى في مظهرها الخارجي، ولكنها كانت تصدر يوما، خالية من الأخبار اليومية العابرة، وكانت محتوياتها لا تزيد على مقالة متوجة بعبارة لاتينية أو يونانية، وبعض الإعلانات. وفي هاتين المجلتين ظهرت المقالة الحديثة، مقالة القرن الثامن عشر، التي اختلفت عن المقالة القديمة في أكثر من خاصة. فقد كانت هذه

تنشر في المجلات لجمهور متباين الأذواق مختلف الاتجاهات، ولذا كان كتابها يحاولون دوما أن يضفوا عليها صفة الجماعية، لكي تلائم أكثر الأذواق. وكانت موضوعاتها تستمد من الأحداث اليومية ومن التطورات الاجتماعية التي كانت تطرأ على المجتمع آنًا بعد آن. وكان من نتيجة نشرها في المجلات ليطلع عليها الجمهور، أن اتجهت اتجاها إصلاحيا تهذيبيا. وقد نوه ستيل وأديسون في أعداد كثيرة بهذه الغاية الإصلاحية، التي كانا يشدان إليها, وبأنهما إنما وقفا قلميهما على خدمة المجتمع ومكافحة الآفات الضارة والخرافات الشائعة بين الناس. وقد كان هذا الموقف طبيعيا من كلا الكاتبين؛ إذ كان تيار الإصلاح الاجتماعي في إنكلترا آنذاك ينحدر بقوة واندفاع، عقب تلك الحرية التي رتع في ظلالها الشعب الإنكليزي حينا بعد عودة الملكية، والتي كان من أسبابها أو نتائجها، ظهور الطبقة الوسطى واضطرابها في لجة الحياة العامة. وثمة عامل آخر ساعد على تطور المقالة في هذا القرن، وهو انتشار المقاهي التي كانت بمثابة نوادٍ يلتقي فيها جمع وفير من أبناء الشعب، فيتناقشون في مختلف شئون الحياة من اجتماع وأدب وسياسة واقتصاد، وقد عودتهم تلك المناقشات أن يستقلوا بتفكيرهم، وأن يكونوا آراءهم الخاصة في مختلف الشئون التي تعرض لهم. واتجهوا نتيجة لذلك، إلى التبسط في الحديث والترخص في اللغة وأسلوب المحاورة. وكانت مقالة المجلات، بحكم طبيعتها ونوعها، التعبير الصحيح عن هذا الاتجاه من مختلف نواحيه الفكرية والأدبية. وكان كتابها يؤمون هذه المقاهي، ويشاركون في مثل تلك المناقشات، ليتصيدوا النماذج الحية، والصور الفكهة التي ينقلونها إلى صحفهم بعد أن يجيلوا فيها أقلامهم بالتشويه

والمسخ، ويعرضونها على القراء عرضا ينضح بالسخرية المرة والنقد اللاذع، بقصد إصلاح ما فسد وتقويم ما أعوج من أخلاق الناس وعاداتهم. وقد وجد كتَّاب هذه المقالات، أن مقالة القرنين السادس عشر والسابع عشر، بحدودها الضيقة الصلبة التي رسمها مونتين، ثم قفّى على آثاره فيها باكون وكاولي، لم تعد مطية ذلولا لهذه النزعة الإصلاحية القوية، ولم تعد أداة صالحة لتربية الذوق وتقويم الأخلاق وخضد شوكة النزوات. ولذا حاولوا أن يحتفظوا بقالبها العام في حدود ضيقة، وجدوا في خلق نوع جديد منها، يحتمل أغراضهم المستحدثة، ويصلح لقرائهم على اختلاف أذواقهم ومشاربهم. وكان من أهم ما أدخلوه إلى مقالتهم الحديثة هذه، الصور الشخصية، متأثرين بذلك التقليد الذي تركته شخصيات ثيوفراسطوس في الأدب الأوروبي عامة، منذ بدء النهضة، وفي الأدب الإنكليزي خاصة منذ أوائل القرن السابع عشر. وكان الكتَّاب الإنكليز يكتمون أعجابهم الشديد بهذه الصور الحية، ويودون لو استطاعوا أن يتأثروها في مقالاتهم، حتى خرج عليهم الكاتب الفرنسي لابرويير بنماذجه التي ترجمت إلى إلإنكليزية سنة 1699، فاستعلن هذا الإعجاب المستسر، وظهر تأثيره في مقالاتهم بعد بضع سنوات. وقد أفاد هؤلاء الكتاب أيضا من أسلوب الرسائل الأدبية، واستعانوا ببعض الحكايات والمواعظ القصصية ذات المغزى، التي وقعوا عليها في الآداب الكلاسيكية، من غربية وشرقية.

خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة

6- خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة: ولا بد لنا من أن نعرض لخصائص هذه المقالة بشيء من الإسهاب؛ لأن كتابنا المعاصرين تأثروا بها تأثرا بينا، ضاربين صحفا عن مقالات مونتين وباكون، شأنهم في ذلك شأن المقاليين الأوروبيين في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما من حيث المحتوى، فقد كانت هذه المقالات تدور حول الموضوعات العامة التي تتصف بصفة الاستمرار والثبات، وتعرض للمجتمع في مختلف مراحل تطوره، ومنها تلك الموضوعات التي تدور حول بعض الصفات الخلقية كالتواضع والحلم والسماحة والكرم والغرور والجشع، أو حول بعض العلاقات الاجتماعية كالصداقة، والزواج، وأدب الحديث، وحسن العشرة والتربية الصالحة وما إلى ذلك. أو حول الموضوعات الطارئة التي تجد في المجتمع عند تغيير بعض العادات والتقاليد والأزياء، كالحفلات التنكرية والمبارزات واستنشاق السعوط وتطور أزياء النساء والرجال وشيوع قراءة الصحف، وما يتصل بكل ذلك من أسباب. وأما من حيث الصورة، أو الإطار العام الذي كان ينتظم المقالة، فقد ظهرت الأنواع التالية: 1- المقالة الاجتماعية: وكانوا ينهجون في كتابتها مناهج مختلفة؛ منها أسلوب العرض المسهب الذي كان يكتفي بتخطيط الموضوع، بصورة عامة، دون الالتفات إلى التفاصيل والشواهد.

2- المقالة النقدية: وكانت تدور حول الموضوعات الأدبية، أو تتناول بعض الكتب بالنقد والتحليل، وكانوا يعمدون فيها إلى إيراد الشواهد الكثيرة، ويمعنون في الشرح والتفسير. 3- الصور الشخصية: وقد تأثروا فيها بأسلوب لابرويير كما ذكرنا آنفا، وتجلى أثره فيهم في الحوار والالتفات والوصف والقصص. 4- الاستشهاد بالحوادث الطارئة: وذلك لتوضيح بعض الصفات الخلقية أو نقد بعض العيوب الاجتماعية. 5- مقالات الرسائل: وكانوا يستقون مادتها من رسائل القراء، أو من رسائل من نسج خيالهم، يجعلون وكدهم أن يستغلوها خير استغلال لتصوير اتجاههم والتعبير عن آرائهم فيما يحيط بهم من مشكلات المجتمع. 6- المقالة القصصية: وكانوا يسردون فيها بعض القصص والحكايات الحقيقية أو المخترعة، ليصوروا بعض العادات أو ليرسموا صورة للمجتمع الإنكليزي في عصرهم. وبعد فهذه لمحة موجزة عن المقالة الحديثة التي نشأت وترعرعت في المجلات التي ظهرت في أوائل القرن الثامن عشر. ولم تأت سنة 1712، حين توقفت مجلة "المراقب" "the Spectator" عن الصدور، حتى كانت هذه المقالة قد استوت على ساقها، ناضجة مكتملة. ومنذ ذلك الحين ولفترة استمرت قرنا من الزمن، والمقالة الإنكليزية تدور في فلك ستيل وأديسون. وقد اشتهر من كتابها بعدهما، صمويل جونسون "1709-1784م" وأولفر غولدسمث "1728-1774م". أما الأول فقد قدم نفسه للقراء حين أخذ ينشر مقالاته في مجلة "السائح" "the Rambler". وحين

احتجبت هذه المجلة، غادرها إلى مجلات أخرى. ومقالته لا تخرج من حيث الصنعة الفنية، عن التقليد الأدبي الذي أرساه المقاليون الأول في هذا القرن، وقد وقفها على النقد والإصلاح. وكان في أسلوبه الإنشائي، وطريقته في تلمس الموضوع وعرضه، تلميذا مخلصا لستيل وأديسون، إلا أنه يباينهما في ناحيتين، الأولى: أنه كان يفضل معالجة الموضوعات الدينية والأبحاث الأخلاقية الجدية، على صور الحياة اليومية، والثانية: أنه كان لا يترخص في لغته ولا يتدنى في بيانه، بل كان يحتفل بأسلوبه فيعنى باختيار ألفاظه، وبتوفير القيم الزخرفية والبديعية لعباراته. أما غولدسمث فقد برزت مواهبه في كتابة المقالة، حوالي العقد السادس من القرن نفسه. واستهل عمله الأدبي بالنشر في المجلات، إلا أنه اشتهر بمجموعة من المقالات كتبها على صورة رسائل وأجراها على لسان صيني متفلسف، جاء إلى إنكلترا سائحا. وقد نفذ منها إلى نقد الحياة الاجتماعية في إنكلترا والسخرية من بعض العادات الشائنة والتقاليد السخيفة، ونشرها في كتاب سماه "المواطن العالمي". وقد تأثر فيها بأسلوب الرسائل الذي كان شائعا في إنكلترا آنذاك، نتيجة لنشر "الرسائل الفارسية" لمونتسكيو في ترجمتها الإنكليزية. واختار لنفسه أسلوب الفكاهة والسخرية الاجتماعية، إلا أنه لم يهجر الموضوعات الجدية هجرا تاما. واستأثر هذا التقليد الأدبي الذي أرسى قواعده هؤلاء الكتاب الأعلام بالمجلات الإنكليزية سحابة القرن الثامن عشر، واستمر فيها حتى مطلع القرن التاسع عشر.

المقالة في القرن التاسع عشر

7- المقالة في القرن التاسع عشر: عرف هذا القرن نخبة من المقاليين الذين تنكروا لمقالة القرن الثامن عشر، كما أرسيت قواعدها على أيدي ستيل وأديسون، وأحلوا محلها نوعا جديدا من المقالة، ظل متحكما بالتقليد الأدبي حتى اليوم. ومن أشهر هؤلاء الكتاب شارلس لام ولي هنت وهزلت ودي كونسي. وقد فارقت مقالة هؤلاء مقالة القرن السابق، في اعتبارات عدة، نذكر منها ما يلي: 1- اتساع نطاق الموضوعات التي أصبحت المقالة تدور حولها. فلم تعد مقصورة على حياة المدن، وأزياء المجتمع وصغاراته، وعادات السلوك والأخلاق، بل تناولت مختلف الموضوعات وصار الكاتب يكتب في الموضوع الذي يروقه، وأصبحت موضوعاته تعتمد على مدى اتساع ثقافته، وعلى مدى تنوع اتصاله بالحياة العامة. فلام مثلا كتب عن حياته المدرسية، وعن أعماله اليومية، وعن نزهاته ومغامراته فيها، وعن أصدقائه وأفراد عائلته، وعن الأشياء التي يحبها أو يمقتها. ولي هنت كان يكتب عن مطالعاته الواسعة، وعن تأملاته وأحلام يقظته. وهو يجلس إلى جانب المدفأة في الشتاء، وعن الشخصيات الطريفة التي كان يقابلها في الحياة، وعن التجارب التي يتمرس بها. وهزلت كان يحوم حول كتبه، أو يستعيد ذكرياته عن أولى مقابلاته للشعراء الذين نالوا حظا كبيرا من الشهرة فيما بعد، أو يسجل الأفكار التي كانت تجول في خاطره أثناء تجواله وحيدا في الريف، أو يتحدث عن المتعة التي يجد أثناء انزوائه في إحدى الحانات المسائية، أو يتحدث عن الممثلين، وعن التصوير والنحت وما إلى ذلك. وكان يطيب لدي كونسي أن يتحدث عن معارفه، أو يستعيد تفاصيل بعض الأحلام المزعجة، التي يقع تحت

كابوسها. وكان هؤلاء الكتاب يعيشون في لندن، ولذا نراهم يعنون بالحياة الاجتماعية فيها، إلا أنهم كانوا يقفون عند بعض مظاهرها الثانوية التافهة ويتحدثون عنها حديث المنتشي المستمتع. 2- ظهور شخصية الكاتب، واضحة جلية، دون التوقيع باسم مستعار، أو التستر خلف شخصية مخترعة كشخصية الصيني الفيلسوف. وحتى في الحالات التي كان يضطر فيها الكاتب إلى إخفاء اسمه، كانت شخصيته تبدو جلية من خلال كتابته، فلا يحجبها ذلك القناع الشفاف الذي كان يتقنع به مضطرا، وقد أهمل الكتاب بعض الأساليب التقليدية في صياغة المقالة وتوجيهها، فكانوا لا يعنون بحياة النوادي والمقاهي، أو بوسائل القراء، أو بالرؤى والحكايات ذوات المغزى، أو بالشخصيات الكلاسيكية الحقيقة أو المخترعة. ثم انهم انصرفوا عن الاستشهاد بالتاريخ القديم، وشوارد الحكم وجوامع الكلم، وآثروا استقاء شواهدهم من تجاربهم الحية، أو من تجارب أصدقائهم، ومن الأخبار السيارة، في الأدب والاجتماع بأسلوب طبعي بسيط، خال من الكلفة والتصنع والافتعال. ولم يكن هم هؤلاء الكتاب المحدثين أن يسوقوا مقالاتهم للعظة والاصلاح، شأن كتاب القرن الماضي. بل كانت مقالاتهم تعبيرا حرا طليقا عن الذات، يخلو من كل توجيه أو الالتزام. والحقيقة أن هذا العكوف على الذات، والاهتمام بتجليتها في الأدب، هو أبرز خاصة تميز بها أدب القرن التاسع عشر، عصر الرومانطيقية. 3- وقد ازداد طول هذه المقالة، ازديادا واضحا، وذلك بسبب تغيير نظام المجلات، واعتياد القراء قراءة الأبحاث الطويلة بعد أن ألفوا المجلات، مما فسح المجال أمام الكتاب لعرض آرائهم وصورهم في

إسهاب لم تعرفه مقالة القرن الماضي التي كانت تكتفي بعرض الصور القصيرة، وبتصوير بعض جوانب الموضوع. وهذه التغيرات الواضحة التي لحقت المقالة الحديثة، تعود إلى أسباب عديدة، نستطيع أن نجعلها فيما يلي: 1- طغيان موجة الرومانطيقية، التي غيرت مُثُل الناس وتقاليدهم في الأدب والحياة، فعكفوا على ذواتهم ونضوا عن أنفسهم أسمال الكلاسيكية، وجدوا في البحث عن وسائل جديدة، لاكتشاف ذواتهم والتعبير عنها. وقد تأثر المقاليون بطغيان هذه الموجة، شأنهم في ذلك شأن الشعراء، ولذا التقت المقالة الحديثة بالشعر الحديث في أكثر من خاصة. وهذه التيارات الجديدة في حياة الناس وأذواقهم ومُثُلهم، جرفت بعض أعلام الكتاب، فطوروا المقالة حتى أصبحت تحتمل هذه المثل الجديدة، وكان نجاحهم في ذلك، خير مشجع لغيرهم من الكتاب على السير وفق هذا النهج الجديد. وعلى هذا، لا يقل أثر لام ولي هنت وهزلت، في الحركة الأدبية الجديدة، عن أثر زملائهم من الشعراء أمثال وردزورث وبايرون وكيتس. وقد كان من شأن هؤلاء الكتّاب، الذين التفوا حول ذواتهم، أن يعودوا إلى الكاتب المقالي الذاتي الأول، مونتين، وبهذا استردت المقالة المونتينية مكانتها في نفوس الأدباء، وأصبحت دستور هذه الفئة الجديدة، يصبون على غرارها ويستشهدون بها، ويذكرون صاحبها بالتقدير والأعجاب. 2- ظهور المجلة الأدبية: وقد كان لظهور المجلة الأدبية في هذا القرن، أثر كبير في تطور المقالة الحديثة. فقد كانت المجلة القديمة، التي سارت على نهج مجلتي ستيل وأديسون، تتسع لأغراض شتى

وموضوعات متنوعة، ولذا كان نصيب المقالة فيها ضئيلا. وكان لمجلات الأحزاب شأن كبير في هذا التطور. فمجلة "Edinburgh Review" التي صدرت سنة 1802، كانت منبرا لأدباء حزب الأحرار. ومجلة "Quarterly Review" التي صدرت سنة 1809م، كانت تنطق بلسان أدباء المحافظين. وكانت المنافسة بينهما على أشدها. ولهذا كان كل منهما تبذل المال بسخاء، لاجتذاب كبار الكتاب إليها. ولكن المجلة الأدبية الأولى، التي صدرت في هذا العهد، كانت مجلة "المتأمل" "Reflector" "181-1812"، للي هنت. وقد قدمت خدمات جلى للحركة الأدبية الجديدة، ولكن عمرها كان قصيرا، وتولى تحريرها كبار كتاب العصر، وكانت خير تعبير عن الروح الجديدة التي شملت الأدب والحياة. وقد تركت هذه المجلات، آثارا بارزة في المقالة الجديدة؛ إذ استغنت عن المادة الصحفية التي كانت تضطر إليها المجلات القديمة، وبهذا فسحت المجال أمام كتاب المقالات لكي يعالجوا موضوعاتهم بإسهاب وإفاضة؛ إذ بينما كانت المجلة القديمة تخص المقالة بصفحة أو صفحتين، أصبحت المجلة الجديدة تفتح صدرها للمقالة، حتى إن بعض المقالات كانت تسود ما يقرب من عشرين صفحة. وبهذا ازداد حجم المقالة الحديثة، واتسع نطاق موضوعاتها تبعا لذلك. ومن ناحية أخرى، نجد أن المجلة الجديدة تركت أثرا كبيرا في المقالة الحديثة، وذلك بحرصها على اجتذاب أعلام الكتاب، ونفحهم المكافآت الضخمة وتركها الحرية لهم ليعالجوا الموضوعات التي يريدون. هذا فضلا عن أن سير هذه المجلات نحو التجديد بخط حثيثة،

وحرصها على أن تأتي بكل جديد مفيد، شجع الكتاب على أن يجربوا أقلامهم في موضوعات طريفة لم تخطر لأسلافهم من كتاب القرن الثامن عشر على بال. وحسب هذه المجلات فخرا أنها قدمت للأدب الإنكليزي، بل للأدب العالمي، مجموعة من أعلام الكتاب كان في طليعتهم لام وهزلت ودي كونسي ولي هنت، الذين عرفوا بتأثرهم بالمقالة القديمة، وبأثرهم الكبير في خلق المقالة الحديثة. ثم بخلود آثارهم الأدبية وبقائها على الزمن. وكان منهم مجموعة اشتهرت بتميزها في الفنون الأدبية الأخرى، وخاصة القصة، ومنهم دكنز وثكري وستيفنسون.

المقالة الحديثة

8- المقالة الحديثة: كان روبرت لويس ستيفنسون آخر كتَّاب المقالة العظام، في القرن التاسع عشر. إلا أن هذا الفن الأدبي لم يفقد روعته وسحره عند الكتاب المحدثين، ولكنه انطبع بما تجلى في هذا القرن من ميل إلى التخصص، بعد اتساع نطاق العلوم والفنون؛ وأخذت المقالة الذاتية تفقد روعتها تدريجا نظرا لطغيان النزعة العلمية، وأصبح هم الكتاب أن يقدموا لقرائهم مادة طريفة، تنم عن تفكير عميق، وطول تدبر وتمعن، مجلوة بأسلوب أدبي متقن. ولذا غلب فيها طابع الدرس والتمحيص على طابع التعبير الذاتي الحر الطليق، وصار الكتاب يتنافسون على التعمق في دراسة الموضوعات التي يعرضون لها، والتعبير عنها بأسلوب أدبي رصين. إلا أن فنا أدبيا قديما، أخذ يزاحم المقالة، ويحاول أن يجليها عن مكانتها المرموقة في الصحف والمجلات. وهذا الفن هو الأقصوصة، التي تطورت في القرن التاسع عشر، من الحكاية الساذجة

البسيطة، التي تخلو من الصنعة الفنية المتقنة، إلى عمل أدبي صرف له شروط دقيقة محكمة، ويحتاج كاتبه إلى فطنة وبراعة في اختيار المادة وإخراجها. والأقصوصة من بين ألوان الكتابة النثرية القصيرة، هي الزي الأدبي المفضل في النصف الأول من هذا القرن. وقد اشتهر من كتاب المقالة الشخصية في هذا القرن ماكس بيربوم وإدوارد لوكاس وهيلير بلوك وجون جولزورذي ووليم بتلر بيتس وجوزيف كنراد وستيفان ليكرك. واشتهر في كتابة المقالة النقدية والعلمية والفلسفية، فضلا عمن ذكرنا، جورج برنارد شو، وجورج مور، وهيو ولبول، وت. س. أليوت، وهـ. ج. ولز، وأرنولد بنيت، وبرتراند رسل، وسير أولفر لودج وسواهم. وقد شهدت المقالة ازدهارا عظيما في أميركا، وخاصة في وصف الطبيعة وفي النقد الأدبي. وشهرتها في سائر بلدان العالم لا تقل عن ذلك؛ لأنها أصبحت الوسيلة السريعة الأولى للاتصال بالقراء، وتزودهم بالمعلومات، وإثارة أفكارهم وعواطفهم، وذلك في الصحف السيارة وفي المجلات. وهذا مما يجعل أمر حصرها واستقصاء أنواعها وأسماء كتابها في هذا البحث الموجز، من الصعوبة بمكان عظيم.

المقالة في الأدب العربي الحديث

9- المقالة في الأدب العربي الحديث: يرتبط تاريخ المقالة في أدبنا الحديث بتاريخ الصحافة ارتباطا وثيقا. فالمقالة بنوعيها الذاتي والموضوعي، لم تظهر في أدبنا، أول ما ظهرت على أنها فن مستقل شأنها في فرنسا وإنكلترا. بل نشأت في حضن الصحافة، واستمدت منها نسمة الحياة منذ ظهورها، وخدمت أغراضها المختلفة، وحملت إلى قرائها آراء محرريها وكتابها. ولذا كان لزاما علينا أن نبحث عن تطور المقالة في الصحف اليومية أولا، ثم في المجلات، مع تقدير الفوارق الهامة بين أنواع المقالات التي تكتب للصحف وتلك التي تكتب للمجلات. إذا استعرضنا المقالات التي ظهرت في الصحف المصرية، خلال النهضة، نجد أنها مرت في أطوار أربعة: الطور الأول: طور المدرسة الصحفية الأولى، ويمثلها كتاب الصحف الرسمية، التي أصدرتها الدولة أو أعانت على إصدارها. ويمتد هذا الطور، حتى الثورة العرابية. ومن أشهر الكتاب الذين شاركوا في تحرير صحف هذه الفترة: رفاعة الطهطاوي وعبد الله أبو السعود وميخائيل عبد السيد ومحمد أنسي وسليم عنحوري. وقد نشروا مقالاتهم في الوقائع المصرية ووادي النيل والوطن وروضة الأخبار ومرآة الشرق على التوالي. وقد ظهرت المقالة على أيديهم، بصورة بدائية فجة، وكان أسلوبهم أقرب إلى أساليب عصر الانحطاط، فهو يزهى بالسجع الغث وبالمحسنات البديعية والزخارف المتكلفة الممجوجة. وقد كانت الشئون السياسية هي الموضوع الأول لهذا المقالات، ولكن الكتاب كانوا يعرضون أحيانا لبعض الشئون الاجتماعية والتعليمية. الطور الثاني: وفيه ظهرت المدرسة الصحفية الثانية، التي تأثرت بدعوة جمال الدين الأفغاني، وبنشأة الحزب الوطني الأول، وبروح الثورة والاندفاع التي سبقت الحركة العرابية. وكان للمدرسة السورية المتمصرة يد لا تنكر على تطوير المقالة في هذه المرحلة من حياتها. وقد برز في هذه المدرسة عدد من الشخصيات التي ارتبط تاريخها بتاريخ الكفاح الوطني في مصر، ومنهم أديب إسحاق وسليم النقاش وسعيد البستاني وعبد الله نديم ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي

ومحمد عثمان جلال وعبد الرحمن الكواكبي وبشارة تقلا. وقد تحللت هذه المدرسة من قيود السجع. إلى حد بعيد، وأخذت تقترب من الشعب شيئا فشيئا، وذلك بتأثير الشيخ محمد عبده وحركته الإصلاحية. ومن أهم الصحف التي كتبوا فيها: الأهرام ومصر والتجارة والفلاح والحقوق. الطور الثالث: وفيه ظهرت طلائع المدرسة الصحفية الحديثة، ومنهم علي يوسف ومصطفى كامل وعبد العزيز جاويش وولي الدين يكن وسليم سركيس ومحمد رشيد رضا وخليل مطران ونجيب الحداد وأمين الحداد ولطفي السيد ومحمد مسعود. وهذه المدرسة نشأت في عهد الاحتلال، وتأثرت بالنزعات الوطنية والإصلاحية التي سبقته وبالنزعات الحزبية التي تلته؛ إذ كان من نتيجة الاحتلال الإنكليزي لمصر أن ظهرت الأحزاب السياسية؛ لتنظم الكفاح ضد الإنكليز والأتراك، وفقا لفلسفتها ومثلها الخاصة. فكان علي يوسف يمثل حزب الإصلاح، ويحمّل جريدة "المؤيد" رسالته. وكان مصطفى كامل يمثل الحزب الوطني وينشر مبادئه على صفحات "اللواء". وكان لطفي السيد يمثل حزب الأمة الذي كان يضم مثقفي ذلك العصر، وينشر أفكاره السياسية والثقافية على صفحات "الجريدة" والحقيقة أن أكثر هذه الصحف اتجه اتجاها سياسيا قويا، فكانت المقالة فيه محدودة بحدود الموضوع، وهي أقرب إلى الخطبة الحماسية منها إلى المقالة الهادئة المتزنة. أما "الجريدة"، فقد تميزت في ذلك الحين بأنها تحمل دعوة التجديد والبعث، على أساس العلم الحديث؛ ولذا عنيت بشئون التربية والتعليم، وبشئون السياسية النظرية، وكانت خير مجال لتمثيل النزعات الأدبية الحديثة -نزعات المطربشين- وقد ربت عددا من الكتاب، الذين قادوا الحركة

الأدبية والاجتماعية فيما بعد، ومنهم: عبد الرحمن شكري وعبد الحميد حمدي وعبد الحميد الزهراوي وعبد العزيز البشري ومحمد السباعي وعبد السلام ذهني وإبراهيم رمزي ومحمد حسين هيكل وطه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد وعزيز خانكي ومصطفى عبد الرازق وسلامة موسى وتوفيق دياب. ومن السيدات: لبيبة هاشم ونبوية موسى وملك حفني ناصف. وهؤلاء في الحقيقة هم أساطين الحركة الأدبية الحديثة التي ظهرت بين الحربين، وقد توزعوا شئون الكتابة فيما بينهم، فكان منهم الناقد والمؤرخ والمربي والمتفلسف والخطيب والسياسي والقاص. ومن هنا ندرك أهمية الدور الذي لعبه لطفي السيد وجريدته، حتى أصبح الباحثون يدعونه: أستاذ الجيل1. وقد خطت هذه المدرسة بالأسلوب الأدبي خطوات جبارة، فخلصته من قيود الصنعة والسجع، وأطلقته حرا بسيطا، حمولته من الأفكار والمعاني تفوق حمولته من الزخرف والعبث البديعي. الطور الرابع: المدرسة الحديثة، وتبدأ بالحرب العظمى الأولى وما تلاها من أحداث جسام، قلبت الحياة المصرية رأسا على عقب، وصفت جوهر الشخصية المصرية حتى ظهرت على حقيقتها. وأهم هذه الأحداث الثورة المصرية الأولى سنة 1919م. وقد ظهر في هذه الفترة من الصحف التي تركت أثرها في الحياة الأدبية عامة، وفي المقالة

_ 1 لقد أتيح لي مراجعة جريدة "الجريدة"، وقراءة أكثر مقالاتها حين كنت أعد مواد الجزء السادس من كتاب "أدب المقالة الصحفية في مصر" للدكتور عبد اللطيف حمزة. وقد قسمتها آنذاك إلى موضوعات واستخرجت أسماء الكتاب والشعراء، فازددت اقتناعا بأهمية الدور الثقافي الذي نهض به أحمد لطفي السيد.

خاصة: جريدة السفور لعبد الحميد حمدي "1915"، وقد اجتذبت إليها أكثر كتاب "الجريدة"، و"الوجديات" لمحمد فريد وجدي "1921" ثم صحف الثورة وما بعدها، وخاصة صحف الأحزاب ومنها "الاستقلال" لمحمود عزمي "1921"، وقد شارك في تحريرها الدكتور طه حسين، و"النهضة المصرية" "1922" لعبد الحميد حمدي، و"السياسة" "1922" لمحمد حسين هيكل، وكانت لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، و"البلاغ" "1923" لعبد القادر حمزة، وكانت وفدية، و"كوكب الشرق" "1924" لأحمد حافظ عوض، وكانت وفدية أيضا، و"الأخبار" "1925" لأمين الرافعي، و"الأسبوع" "1926" لإبراهيم عبد القادر المازني. ثم ظهرت الصحف الحزبية والمستقلة الحديثة كـ"المصري" و"صوت الأمة" و"الدستور" و"الأساس" و"أخبار اليوم" و"الأخبار"، وكلها سارت على التقليد الصحفي الذي أرسى قواعده رجال الصحافة الحزبية في طورها الأول، مع بعض التجديد الذي اقتضاه اتساع الثقافة وتدرب الكتاب واستحصاد ملكاتهم بالممارسة، واتساع شئون الحياة السياسية بعد معاهدة 1936. وكان أثر هذه الصحف في المقالة محصورا في نطاق المقالة السياسية، أو افتتاحية التحرير. أما أثرها الأدبي فقد كان ضعيفا؛ إلا أنها قدمت للقارئ بعض كبار الكتاب، ومنهم محمد تيمور ومحمود تيمور اللذان ظهرا على صفحات "السفور"، والمازني الذي برز في تحرير "الأهرام" و"الأفكار" و"الرجاء" و"البلاغ"، وهيكل محرر "السياسة اليومية" و"السياسة الأسبوعية". وامتازت المقالة في هذا الطور بالتركيز والدقة العلمية، والميل إلى بث

الثقافة العامة لتربية أذواق الناس وعقولهم. أما أسلوبها فهو الأسلوب الأدبي الحديث الذي عرف به محرر هذه الصحف، وقد كان منهم نفر من أقطاب المدرسة الأدبية الحديثة. إلا أن الصحف اليومية بطبيعتها، توجه عنايتها في المقام الأول إلى شئون السياسة، ولذا نجد أن المقالة التي ظهرت فيها، اقتصرت على لون خاص؛ ولكن المجلات تعهدت بسد هذه الثلمة. وشأن المقالة الصحفية في لبنان يختلف عنه في مصر، فقد كان لبنان سباقا إلى التجديد، في مختلف فنون الأدب، بحكم ظروفه الاجتماعية وصلاته الثقافية المبكرة مع الغرب. ولقد اختصرت صحفة تلك المراحل العديدة التي تلكأت فيها الصحافة المصرية، وكان لظهور الصحف الشعبية فيه، في وقت مبكر، أثر كبير في ذلك. وكذلك كان لاضطلاع بعض الأجانب القائمين على شئون الصحف الدينية، بعملية التحرير والتنسيق أثر في تهذيب الذوق الصحفي في لبنان، بعاملي التقليد والتحديد. وكذلك كان للصحف العربية التي صدرت خارج لبنان كـ"عطارد" و"برجيس باريس" و"المشترى" في فرنسا أثر كبير في ذلك. وأول جريدة سياسية شعبية ظهرت في لبنان هي "حديقة الأخبار" "1858" لخليل الخوري. وقد أعانه على تحريرها بعض أدباء العصر ومنهم أخوه سليم الخوري وسليم شحادة وسليم الشلفون وميخائيل المدور. وبعد هذه الصحيفة، ظهرت صحف يوسف الشلفون وهي "الشركة الشهرية" و"الزهرة" و"النجاح" و"التقدم". ولم يخرج في أسلوبه الصحفي عن النهج الذي سار عليه محررو "حديقة الأخبار". هذه الصحف التي ذكرنا، هي التي وضعت الأسس التي سارت عليها المدرسة الصحفية الأولى، مدرسة القرن التاسع عشر والعقد الأول

من القرن العشرين: وقد تبعتها صحف أخرى، تولى تحريرها كبار كتاب العصر أمثال: بطرس البستاني وسليم البستاني وإبراهيم سركيس والشيخ يوسف الأمير وأنطون الجميل1 والشيخ إسكندر العازار وعبد القادر القباني وسليم سركيس ونقولا نقاش ولويس صابونجي وأديب إسحاق وسواهم من أدباء القرن الماضي في لبنان. وتطورت الحركة الصحفية بعد إعلان الدستور العثماني وانتشار الحرية الفردية والشعور بالكرامة؛ لتسهم في توطيد أسس هذا العهد الجديد؛ فلمع من الكتاب بشارة الخوري في "البرق" وجرجي شاهين عطية في "المراقب" وفيلكس فارس في "لسان الاتحاد" وعبد الغني العريسي في "المفيد" و"صدى المفيد" و"لسان العرب" و"الفتى العربي"، وكان أول كاتب صحفي درس أصول هذا الفن في أوروبا. وكان أقوى المدافعين عن القضية العربية حجة وأجرأهم لسانا وأمضاهم قلما. كما ظهر طانيوس عبده الشاعر الناثر في "الأيام" و"الراوي"، وقد خصصها للقصة. ومحمد الباقر في "البلاغ" وخليل زينية في "المرأة". وقد امتازت هذه الطبقة بازدياد حظها من الثقافة والحرية، ولذا تطورت المقالة الصحفية على يدها تطورا كبيرا. وقد فترت الحركة الصحفية أثناء الحرب العظمى الأولى، لتعود قوية نشطة بعدها. وكان للاحتلال الفرنسي أثر كبير في هذا النشاط؛ إذ إنه في ناحية حرص على نشر ثقافته ولغته بين الناس. ومن ناحية أخرى أخذ يرهق الناس بالضغط السياسي والتفرقة الطائفية واحتكار

_ 1 كان أحد محرري البشير، ثم انتقل إلى مصر وأنشأ مجلة "الزهور" وحرر في الأهرام، حتى غدا رئيسا لتحريرها.

اقتصاديات البلاد، وتوجيه أبنائها وجهة خاصة، تذلل له حكمهم والسيطرة عليهم. فكانت هذه الثقافة التي بذل المستعمر جهوده في تعميقها بين الناس، سلاحا حادا شهره الكتاب في وجهه. وبذا خطت الصحافة اللبنانية خطوة كبيرة ونشأت في هذا العهد طبقة من الكتاب بين مؤازر ومحايد ومعارض، اصطنعت الصحافة لتحقيق أهدافها وتجسيم مثلها، وكانت هذه الطبقة نواة للمدرسة الصحفية الحديثة في لبنان، التي لمع من كتابها جبران التويني وميشال زكور ومحيي الدين النصولي وعبد الله مشنوق ويوسف يزبك وميشال أبو شهلا وعمر فاخوري وسواهم.

المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة

10- المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة: كان للبنانيين، وخاصة رجال المدرسة السورية المتمصرة، أثر كبير في نشأة المجلة العربية وتطورها. فقد عرف لبنان المجلات في وقت مبكر من تاريخ نهضته؛ فظهرت "الجنان" و"الزهرة" و"المهماز" و"النحلة" سنة 1870، و"النجاح" سنة 1871، و"المقتطف" سنة 1876، و"المشكاة" سنة 1878، و"الجامعة"، سنة 1894، و"المشرق" سنة 1898، وسواها من مجلات القرن الماضي. وقد كانت "الجنان" بحق رائد المجلات العربية قاطبة؛ إذ إنها وضعت الأسس التي سارت عليها تلك المجلات فيما بعد، فالمقتطف، فيما يبدو لي، اقتبس خطتها ووسعها وتصرف فيها متعمدا على ذلك النبع الثر من ثقافة منشئية. وفي مصر كان للبنانيين أثر كبير في نشأة المجلات الثقافية والعلمية، وتطويرها وتهذيب أسلوبها. فقد أنشأ فيها لويس الصابونجي "النحلة الحرة" "1871"، وأنشأ خليل اليازجي "مرآة الشرق" "1882"،

وميخائيل جرجس عورا "الحضارة" "1882"، والدكتور شبلي الشميل "الشفاء" "1886"، وشاهين مكاريوس "اللطائف" "1886"، وانتقلت إليها المقتطف سنة 1885، وأصدر زيدان مجلة "الهلال" سنة 1892. وبعد ذلك أنشأ شاكر شقير "الكنانة"، وأنشأ إبراهيم اليازجي "البيان" و"الضياء". وقد أصدر عدد من الأدباء المصريين مجلات عدة كانوا ينهجون فيها نهج المدرسة السورية المتمصرة، من حيث التنسيق والتحرير والكتابة. والحقيقة أن المصريين لم ينتبهوا إلى أثر المجلة وأهميتها في النهضة الأدبية والاجتماعية، إلا بعد الثورة المصرية، التي انضجت بذور الوعي القومي في نفوس المصريين، ولهذا رأينا إقبالا كبيرا عليها في ذلك العهد. وقد امتازت المجلة آنذاك بالتخصص، فأصبح لكل فن من الفنون، ولكل فرع من فروع الصناعة مجلة خاصة، إلا أن هنالك بعض المجلات الأدبية التي غنيت بالمقالة الأدبية ومن أهمها: "الزهراء" و"الجديد" و"السياسة الأسبوعية" و"البلاغة الأسبوعي" و"الناقد" و"الرسالة" و"الفجر" و"المجلة الجديدة" و"أبولو" و"الشباب" و"الثقافة و"الكتاب المصري" و"الكتاب". عرضنا في ما ضي لأثر الصحف اليومية في تطور المقالة الأدبية ونهضتها، إلا أن أثر المجلة كان أعظم شأنا. فالمجلة بطبيعة حجمها، ومواعيد صدورها، تحتمل من الجد والإسهاب أكثر مما تحتمل الصحيفة اليومية. ثم إن غايتها تختلف عن غاية الصحيفة، نجد أن المجلة تعني بالثقافة والأدب في المقام الأول. ومن أهم المجلات التي لعبت دورا خطيرا في نهضتها الأدبية مجلة

"المقتطف"، التي وضعت أسس المنهج العلمي في الكتابة والتفكير. في العالم العربي. وكانت في طورها الأول الذي ينتهي بوفاة الدكتور يعقوب صروف، أكثر تعلقا بالأبحاث العلمية، ثم حدث فيها التوازن بين العلم والأدب حين تولى تحريرها الأستاذ فؤاد صروف، وكذلك "الهلال"، التي احتفظت بطابع البحث العلمي في التاريخ والأدب، على عهد منشئها، ثم مالت إلى التنويع، واجتذبت عددا كبيرا من كتاب الشرق العربي، بعد وفاته سنة 1914. أما المجلات الحديثة، فقد نشأت نتيجة للصراع بين الأحزاب، فعندما أصدرت "السياسة" محلقها الأدبي "السياسة الأسبوعية" في 19 آذار "مارس" سنة 1926، تبعتها "البلاغ" وأصدرت "البلاغ الأسبوعي" في 26 من تشرين الثاني "نوفمبر" من ذلك العام. وكان لهاتين المجلتين خدمات لا تنكر. فعلى صفحات "السياسة الأسبوعية" قرأنا أول دعوة للأدب القومي المصري، وقرأنا مقالات طه حسين في الأدب والنقد وصورة البشري التي سماها "في المرآة". وقرأنا مقالات محمد حسين هيكل النقدية والتاريخية والاجتماعية، وقرأنا لعدد كبير من كتاب النهضة. وفي البلاغ الأسبوعي، دخل العقاد طورا جديدا من حياته الأدبية بعد الطور الأول الذي قطعه في "البيان" و"الجريدة" وقرأنا قصص السباعي ومقالاته الأدبية. ثم مالت المجلات إلى التخصص، فخرجت "الرسالة" سنة 1933، وأسهم في تحريرها طه حسين وأعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر الذين استقلوا سنة 1939 بمجلتهم "الثقافة". وفي نهاية الحرب صدرت بعض المجلات الأدبية الرصينة، التي كادت تنسخ أثر الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال، ومنها الكاتب المصري

"1945-1948" التي تولى تحريرها الدكتور طه حسين، والكتاب "1945-1953" التي أصدرتها دار المعارف وتولى تحريرها عادل الغضبان. وفي لبنان، عدا ما ذكرنا من مجلات القرن الماضي، نجد أن المجلة الأدبية تقفز قفزة هائلة بين الحربين، ومن أهم المجلات التي ظهرت في هذا الطور: "المرأة الجديدة" "1921"، و"منيرفا" "1923" وهما نسائيان، و"الكشاف" و"المعرض" و"الجمهور" و"المكشوف" و"الأديب" وسواها. وقد كان لهذه المجلات أثر كبير في تطوير المقالة الأدبية، وكانت في اتجاهها العام أميل إلى المقالة الأدبية والنقدية، منها إلى المقالة الذاتية. وفي سائر أقطار العالم العربي، سارت الصحف والمجلات سيرتها في مصر ولبنان، وقد كان هذان القطران، وما يزالان عنوان النهضة الأدبية الحديثة، فلا عجب إذا رأينا هذه الأقطار تقلدهما في الصحافة والأدب بوجه عام. ونستطيع بعد هذا العرض التاريخي لحركة المجلات في لبنان ومصر، أن نوجز أثر المجلة في تطور المقالة بما يلي: 1- تطوير اللغة وتهذيب أسلوب الكتابة بحيث أصبح أداة مواتية لنقل الأفكار الحديثة. 2- اتساع صفحاتها لنشر مختلف أنواع المقالة من ذاتية وموضوعية. 3- خلق طبقة من الكتاب الذين عنوا بفن المقالة وجعلوها الوسيلة الأولى لنقل أفكارهم وإذاعة آرائهم. وقد برز من هؤلاء أعلام المدرسة الأدبية الحديثة في مصر ولبنان.

أعلام المقالين المحدثين

أعلام المقالين المحدثين ... 11- أعلام المقاليين المحدثين: قلنا إن المجلات ربت طبقة من الكتّاب الذين جعلوا من المقالة وسيلتهم الأولى لنشر آرائهم وإذاعة أفكارهم على جمهور القراء، وقد اتضحت أساليب بعض هؤلاء الكتاب واستبانت خصائصها ومميزاتها بطول الممارسة ومداومة المران. حتى أصبح لكل كاتب أسلوب خاص يعرف به ويميزه عن غيره من الكتاب المنشئين. فعرف يعقوب صروف أسلوبه العلمي الرصين الذي كان يقصد به إذاعة الحقائق العلمية وتبسيطها حتى يسلس قيادها للجمهور. وهذا الأسلوب يمتاز بالدقة والوضوح والتحديد والاستقصاء والقصد إلى الموضوع دون مداورة أو مقدمات. وفيه حرص شديد على تنزيل المصطلح العلمي في مكانه اللائق الذي لا يبدو فيه قلقا أو نابيا. وإنشاؤه سهل اللفظ بسيط العبارة منيع التركيب، يخلو من الحشو والاستطراد والتخلخل. وقد ورث عنه هذه الخصائص تلميذه القائم على تراثه الأستاذ فؤاد صروف، إلا أنه أشد عناية بصقل الأسلوب وتهذيب العبارة وتوفير الصور البيانية القوية الموحية. وامتاز المنفلوطي بأسلوبه الخطابي الذي كان تهذيبا لأساليب أمراء البيان في عصور العرب الزاهرة، بحيث تتلاءم مع حاجات الكتابة العصرية. وقد كان المنفلوطي يفلت من التقيد بتراث السلف في الصور والقوالب، إلا أنه احتفظ ببعض لوازم هذا الأسلوب كالإفراط في الترادف والتوازن، والإسهاب في عرض الأفكار وجلائها في أزياء مختلفة، والتورط في السجع والإسراف فيه في غير مواضعه المستحبة، في أحيان كثيرة، وقد برع في تخير الألفاظ ومراعاة المشاكلة في

رصفها وتنسيقها لكي تحجب ما في تفكيره وخياله من ضحالة وسطحية. ومال إلى المبالغة في التلفيق والتصنع، والغلو في إيراد الصفات المؤكدة التي تكسب الكلام قوة مفتعلة وعنفا في غير موضعه. وقد أشار المازني إلى ذلك في "الديوان" فقال عنه: "فهو لا يزال يعالج الإقناع والتأثير بضروب من التأكيد والغلو والتفصيل وغير ذلك، مما ليس أدل منه على الكذب والتزوير، لما وقع في وهمه من أنه يكسب الكلام قوة وشدة، لا يفيدهما أن يلقيه ساذجا ويدعه غفلا. وأول ما يستوقف النظر فيه من هذا، ولعه بالمفعول المطلق وتكلفه له لظنه أنه من المحسنات اللازمة للصقل، وأن العبارات بدونه تكون مبتورة، والجمل لا يجري فيها النفس إلى آخره دون توقف واعتراض"1. وأسلوب البشري وسط بين الترسل والسجع، يختار له الألفاظ المجلجلة ذات الجرس القوي والعبارات الضخمة الرنانة، لكي يستأثر بانتباه القارئ ويوهمه بأن الكتابة عمل ضخم رائع يحتاج إلى ذخيرة من الأوابد، ومقدرة على معاناة التفصح الثقيل والتعالم الممجوج. ولكن هذا الأسلوب يتفاوت بتفاوت الغرض، فهو حين يميل إلى الفكاهة والمداعبة، يلتزم تقصير الفواصل، وإيراد العبارات الرشيقة التي لا تعصف بما تحتاج إليه الفكاهة من سرعة ولمح. وأسلوب طه حسين يجمع بين موضوعية العلم وذاتية الفن، ففيه لذة للعقل والشعور والذوق معا. وهو متأثر بالجاحظ في حرصه على تلوين العبارة وتنويع الصور والأفكار بما ينفي الملل عن القارئ. وهو

_ 1 الديوان ج2: 22، 23.

"لا يهجم عليك برأيه فيلقيه إلقاء الآمر، وإنما يلقاك صديقا لطيفا، ثم يأخذ بيدك أو بعقلك وشعورك ويدور معك مستقصيا المقدمات محللا ناقدا، يشركك معه في البحث حتى يسلمك الرأي ناضجا ويلزمك به في حيطة واحتياط، ثم يتركك ويقف غير بعيد متحديا لك أو ضاحكا منك. وذلك في عبارات رقيقة عذبة أو قوية جزلة فيها ترديد الجاحظ وتقسيمه. فإذا قص أو وصف أخذ عليك أقطار الحوادث والأشياء ودخل إلى أعماق الشعور وجوانب النفوس مدققا متقصيا، يخشى أن يفوته شيء ولا يخشى الملال في شيء. دقيق الشعور، صافي النفس، نبيل الجدل حاده، يسير مع خصمه بعقله حتى إذا آنس منه الغضب أو التولي تركه وانصرف"1. أو هو كما قال الدكتور محمد مندور: "أسلوب سمح تسلم الصفحة من عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره. أسلوب واضح الموسيقى يكشف في سهولة عن أصالته"2. وقد رد المازني ما في أسلوب طه حسين من ترادف الجمل وتقطيعها ومن تكرار وحشو إلى تلك العاهة التي فرضت عليه أن يملي مقالاته إملاء، وإلى أنه أستاذ مدرس، والأستاذ حريص دائما على أن يبسط الموضوع لتلامذته لكي يتأكد من فهمهم له وإدراكهم لجزئياته. فقال: "ولا شك أن أظهر عيب في مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما هو منهما بسبيل، وعندنا أن علة ذلك ليست فقط أنه يملي ولا

_ 1 أحمد الشايب، الأسلوب ص104. 2 في الميزان الجديد ص10.

يراجع ما يملي، بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين: أولهما أن ما أصيب به في حياته من فقد بصره، كان له تأثير لا نستطيع أن نقدر كل مداه، في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته، وفي طريقة العبارة عن معانيه وأغراضه. ولسنا نتحرج أن نذكر ذلك، فإنه أعرف بنا من أن يشك في عطفنا، بل نحن أعلى به عينا وأسمى تقديرا من أن نعتقد أن به حاجة إلى هذا العطف. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغني في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية. وثاني هذين السببين أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك، والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح، والإطناب في الشرح والتكرير أيضا، بل تفعل ما هو شر من ذلك: وأعني أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أخرى تضطر المدرس أن يجتنب التعمق والغوص، وأن يكتفي -ما وسعه الاكتفاء- بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه"1. أما أحمد أمين، فشأنه غير هذا الشأن؛ إذ إن جانب العقل عنده يطغى على جانب العاطفة، وهو يتلقى الحياة بعقله وتفكيره ولا يلتهمها بقلبه وشعوره، وهو من أصحاب المعاني لا من أصحاب الألفاظ، ولذا امتاز أسلوبه بالوضوح في التعبير، والدقة في الوصف، والإيجاز في العرض، على طريقة الكتاب الذين يستمدون صورهم من واقع الحياة البسيطة التي يحيونها. وهو في حرصه على تصوير هذا الواقع لا يستنكف عن استعماله الألفاظ العامية والتعبيرات الإقليمية، التي يظهر أنه كان مفتونا بها، حتى

_ 1 قبض الريح: ص38، 39.

إنه أفرد لها أحد كتبه. وفي أسلوبه يقول الزيات: "كان همه من الكتابة أن يقرر ويقنع، لا أن يؤثر ويمتع، ولعل منشأ ذلك فيه أن عقله كان أخصب من خياله، وأن علمه كان أكبر من فنه، وأن حبه للحرية والصراحة كان يحبب إليه إرسال النفس على سجيتها من غير تقييدها بأسلوب معين، وعرض الفكرة على حقيقتها من غير تمويهها بوشي خاص. ومع ذلك كان لأسلوبه طابعه المميز وجاذبيته القوية. تقرؤه فلا تروعك منه الصور البيانية الأخاذة ولا الأصوات الموسيقية الخلابة، وإنما تروعك منه المعاني المبتكرة الطريفة والآراء الصريحة الجريئة والشخصية القوية المهيمنة. فأنت منه بإزاء عالم يبحث لينتج، أو مصلح يصف ليعالج، لا بإزاء مصور يلون ليعجب أو موسيقار يلحن ليطرب"1. وقد وصفه طه حسين أحسن وصف، حين نقد الجزء الأول من "فيض الخاطر" فقال: "ومع ذلك فهناك شيئا لا أستطيع أن أختم هذا الفصل دون أن ألم بهما وأشير إليهما: فأما أولهما فهو أن الأستاذ أحمد أمين يسرف في حبه للمعاني وإعراضه عن جمال اللفظ، وغلوه في أن يكون قريبا سهلا وسائغا مألوفا ومفهوما من العامة وأوساط الناس، حتى يضطره ذلك إلى أن يصطنع بعض الاستعمالات العامية التي لا حاجة إليها، ولا تدعو النكتة الفنية إلى استعمالها. وإنما هو تعمد من الأستاذ وتكلف يفسد عليه الجمال الأدبي أحيانا، ويغري بعض نقاده أن يزعموا أن إنشاءه ليس إنشاء أدبيا. وهو مع ذلك أحسن ما يكون الإنشاء الأدبي لو لم يتطرف صاحبه -أحيانا- بهلهلة نسجه، متعمدا لذلك متكلفا له مسرفا فيه ...

_ 1 أحمد أمين، بقلمه وقلم أصدقائه: ص16، 17.

هذا أحد الأمرين، والأمر الآخر يتصل ببساطة الأستاذ التي أشرت إليها في أول هذا الفصل. فما أكثر ما يقف الأستاذ عند الأوليات التي لا تخفى على أحد فيبسطها بسطا ويفصلها تفصيلا، ويطيل فيها كأنه يعالج بعض المشكلات الغامضة"1. وأسلوب الزيات يعتمد على الصنعة المحكمة والتكلف المرهق، وتوفير القيم اللفظية والتوازن الموسيقي، ولو أدى ذلك إلى هدر المعنى والافتئات على الفكرة. فهو ضفيرة منسقة من الألفاظ الموسيقية المجلجلة، أو قطعة عن الفسيفساء أبدعتها يد فنان صناع، أو هو قوالب جاهزة يلبسها لكل فكرة، ويلقيها على كل موضوع، دون أن يحاول الخروج عن النسق المعتاد، أو السنة المقررة، ودون أن يعني بتحوير القالب وتهذيبه بحيث يلائم الشكل المطلوب. وهو بهذه "اللفظية" المحكمة، يتنكر للبلاغة، ما دامت البلاغة ملاءمة الكلام لمقتضى الحال. ولا نستطيع أن نتحدث عن المازني، دون أن نلم بصديقه وعشير صباه العقاد، على ما كان بينهما من تباين، بل تناقض، في تناول الحياة والتعبير عنها، كأنهما جوادان شدا إلى عربة واحدة، كل منهما يجرها في طريق معاكس للآخر. فالعقاد كاتب متجهم القلم، ذو طبيعة جدية، يكتب كمن يحمل أعباء التاريخ على كاهله، أو كمن وكل بعقول الناس يتناولها بالتشذيب والتهذيب. لا يعبث بموضوعه ولا يحيله إلى مهرجان من السخرية والضحك، يعيش في برجه العاجي، ويرود آفاقا سامية نبيلة ولا يتدنى إلى العادي من مشكلات الحياة اليومية؛ وهو إن أراد أن يزيح عن كاهله نير الجد، وأن يطلق أساريره بالبشاشة والمرح، أو إذا ألحت عليه نزعة التطرف الذي عرف عنه في مجالسه الخاصة وندواته الأدبية،

_ 1 فصول في الأدب والنقد: ص20، 21.

لجأ إلى الشعر، فأحاله إلى عبث عابر سبيل. وعندما تجيل نظرك في مجموعات مقالاته. لا تقع عينك إلا على كل رصين متزمت من الموضوعات. وعنوانك كتبه توحي بهذا العبوس الجاد. على عكس المازني الذي نستطيع أن تلم بملامحه الفارقة. من أسماء كتبه، كقبض الريح، وخيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا، وحصاد الهشيم ... وهذا لا يعني أن المازني أقل حكمة وعقلا من رفيق عمره وعشير صباه. بل أن نظرته إلى الحياة، في بعض الأمور، أشد عمقا وأكثر أصالة. ولكنه مرح فكه ثرثار عابث، يرضيه أن يبث قارئه كل ما في قلبه، أما العقاد فلا يتيح لأفكاره أن تستقبل القراء إلا بعد أن يستن لها مقصا حادا قاسيا لا يرحم. والمازني كلما حاول الجد -وهو قلما يحاول ذلك- خانته طبيعته فاستثقل مسوح الوعاظ، وألقى عن كاهله طيلسان المفكر العابس، أو الأستاذ الجامعي المتزمت. فكأنه كان يكتب كتبه، ونصب عينيه قولة مونتين المشهورة ... "هذا الكتاب يقوم على موضوع بيتي خاص، وقد وقفته على أصدقائي حتى إذا ما افتقدوني -وهذا ما سيحدث سريعا- وجدوا فيه بعض ملامح من أحوالي وفكاهتي. وهكذا يتاح لهم أن يختفظوا بمعلوماتهم عني على صورة أكمل وبطريقة أكثر حيوية". ولذا فهو يسعى أن يعرض على القارئ صورة نفسه، صادقة واضحة، بما فطرت عليه من دمامة أو جمال، وبما امتازت به من أساليب في التفكير والتأمل، وما علق بها من غبار التجارب، وما جنته من ثمار الحياة، حلوها ومرها، ناضجها وفجها. وكان إذا ما وضع قلمه على القرطاس، انهالت عليه الأفكار الطريفة، والصور المونقة، واللفتات

البارعة، فتدفق في حديثه وتبسط، وأفرغ ما في نفسه دون تمويه أو تصفية؛ وكأنه يرى أن حياته الخاصة ملك للبشرية، فلا يضن بها على الورق، صدقهتا القارئ أو لم يصدقها. وهو لا يعرض الموضوع بمقدماته ونتائجه، ليقدم إليك صورة واضحة عن عملية التفكير، بل يحيلك إلى موضع الأسرار من نفسه، فيعرض عليك انبثاق التجارب فيها ونموها واكتمالها. وهو يرى أن كل شيء تقع عليه عينه يصلح لأن يكون موضوعا للكتابة، فهو يتقبل المنحة سواء كانت من يد عجوز شمطاء، أو من يد غادة لعوب. وعالمه هو عالم الأساطير والخرافات الشعبية، تتنزى فيه أشباح الموتى واللصوص وقطاع الطرق وخفافيش الليل. في صميم قلبه حزن دفين يعبث به ويخفف وطأته على نفسه بالسخرية والضحك، وإحساس بضياع الحقيقة في مجتمعه، فهو يدور من حولها، ويحوم ولا يرد. يضحك من نفسه ومن قارئه ويجسم عاهاته ونقائصه، ويتصرف تصرفات "دونكيشوتية"، ويجول في آفاق الحلم واليوتوبيا، وهو قادر على أن يفاجئك دائما وإن يأتيك من مأمنك، بذهن متوقد وحيوية متدفقة ومرح يبعث على الضحك المجلجل الصريح. يبدأ مقالاته أحيانا ببعض الخواطر العابرة أو الأفكار التافهة، ثم ينتقل إلى الجد، ولكن بطريقته الخاصة؛ وهو يخدع القارئ عن نفسه ويوقعه في حبائله بسهولة ويسر، حتى يظن أنه أمام عابث لاه، لا عمل له إلا السخرية والضحك، ولكنه في الحقيقة، بعيد الغور عميق القرار. فهو حين يحدثك عن خصوصياته، عن زوجه وابنته وأبنائه وجدته العجوز، يشعرك بأنه يجاذبك أطراف حديث سخيف، لتزجية الفراغ وقتل الوقت. فلا تنخدع بذلك، إنه يخفي عنك جوهر الحقيقة حقيقة النفس المتألمة الحزينة التي ترى أن خير وسيلة لنساين الألم، هي

مبادرته باللهو والعبث واللامبالاة. فمرحه مبطن بحزن دفين. فهذا المرح المولع بالفكاهة والنكتة يقشعر بدنه ويقف شعره عند ذكر الموت. وهذا الشاك الذي لا يؤمن بأي شيء، يتعلق دوما بحبال الدين، ويتدنى في إيمانه إلى منزلة إيمان العجائز. ويرنو بعينيه إلى المثل العليا، ولكنه يرى في نفسه عجزا عن بلوغها، منبعه كسل ركب في طبيعته، أو شك في مقدرته وفضائله. وهو أثناء ذلك كله متمسك بأثارة من الفكاهة التي تظهر على صور مختلفة، وتتجلى في مواقع متباينة، هي مرح سطحي هنا، وعبث لاه هناك، وسخرية لاذعة مرة هنالك. وبهذا وحده كان المازني نسيج وحده في أدبنا بل هو ظاهرة لم تتكرر في أدبنا المعاصر، وإن تكررت مرتين في أدبنا -في الجاحظ والشدياق. ويمتاز أسلوب مي بالتنوق في اختيار الألفاظ ذات الجرس المؤثر، والعبارات الأنيفة الرشيقة، والوضوح الذي ينفي كل لس وإبهام. وهو ينم عن عناية فائقة بالصقل والتهذيب، واحتفال شديد بتوازن العبارات في موسيقى عذبة هادئة. وهي تحرص على تنسيق الجمل في وحدات مترادفة متساوقة، على ألا يؤدي ذلك إلى الرتابة والإملال، بل هي في كل موقف تفجؤك بنغم جديد، يوقظ حواسك ويثير انفعالك، ثم تتبعه وتستقصيه، خافتة هنا، صاخبة هناك كأنها تعزف قطعة موسيقية بعيدة الأغوار متباينة الجرس إلا أنها منسقة الألحان، منسجمة الأنغام. ولعل لشغفها بالموسيقى وتدلهما بها إلى حد العبادة، وبراعتها في العزف على عدد من آلاتها، أثرا في خلق هذا الأسلوب الموقع المتماوج، وفي تراوح نغماته بين الغموض والوضوح، والشدة واللين، والقوة والضعف، تبعا لتغير الموضوعات واختلافها، بين خاطرة شعرية ومقالة اجتماعية ودراسة أدبية.

القسم الثالث: فن المقالة

القسم الثالث: فن المقالة تمهيد وتعريف ... القسم الثالث: فن المقالة 1- تمهيد وتعريف: هناك نفر من الناس يجدون لذة فائقة في الحياة عندما يخلون إلى أنفسهم ليفكروا في أمر هذا العالم الذي يحيط بهم. وهم يجدون في هذه الحياة التي يحيونها متعة لا تعدلها متعة، لا لأنها تتيح لهم أن يستغرقوا في أعمالهم ويعكفوا عليها بل لأنها تهيئ لهم ساعات من الفراغ يقضونها في التأمل والتفكير. ولا يجد رجل الأعمال متعته في اضطلاعه بعمله وتمرسه به؛ لأنه لا يعتبر هذا العمل هواية يمارسها ويشغف بها لذاتها، ولكنه يتخذ منه وسيلة لتحقيق هدفه الأول وهو الكسب المادي. أما رجل الفكر والتأمل فلا تعنيه مثل هذه الغايات في حد ذاتها، بل يبحث عن التجارب الحيوية التي يغوص في لجتها ويستغرق فيها لأنه يجد في التجربة ذاتها لذة ومتعة وترويحا عن النفس. فإذا ما اجتاز مثل هذا الرجل مرحلة التأمل والاستيعاب إلى مرحلة التعبير، فإن وسيلته الأولى هي المقالة. وإذا ذهبنا نبحث عن تعريف جامع مانع للمقالة، أعيانا البحث وضلت بنا سبله، شأننا في ذلك شأن هؤلاء النقاد الذين عجزوا عن أن يحيطوا هذا الفن الأدبي بتعريف دقيق؛ نظرا لتشعب أطرافه واختلاطه بالفنون الأخرى على صورة من الصور. فالدكتور جونسون يعرف المقالة بأنها "نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في كاتبها. وليس الإنشاء المنغم -في نظرة- من المقالة الأدبية في شيء". وهذا التعريف إن صدق على المقالة في طورها الأول، فهو لا يصدق عليها اليوم، بعد أن تنوق كتابها في إحكام نسجها وإتقان تأليفها.

أمأ موري في قاموسه، فقد تنبه للتغيرات التي طرأت على المقالة الحديثة، فعرفها بأنها "قطعة إنشائية ذات طول معتدل تدور حول موضوع معين أو حول جزء منه". ثم مضى قائلا: "وكانت في الأصل تعني موضوعا يحتاج إلى مزيد تهذيب، ولكنها أصبحت الآن تطلق على أية قطعة إنشائية، يختلف أسلوبها بين الإيجاز والإسهاب ضمن مجالها الموضوعي المحدود". والذي نستبينه من هذا التعريف، أن المقالة بمرور الأيام واختلاف الكتاب أصبحت عملا منظما، يتطلب مزيدا من إحكام الصنعة وضبط التصميم، إلا أنها مع هذا، لا تبلغ مبلغ الكتاب أو البحث الكامل. وقد عرف أدموند جوس المقالة في بحثه المنشور في دائرة المعارف البريطانية بقوله: "المقالة باعتبارها فنا من فنون الأدب، هي قطعة إنشائية ذات طول معتدل تكتب نثرا، وتلم بالمظاهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلة سريعة، ولا تعنى إلا الناحية التي تمس الكاتب عن قرب". من هذه التعريفات المختلفة نخرج بتعريف يكاد يشملها جميعا، وهو أن المقالة الأدبية قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع، تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من الكلفة والرهق. وشرطها الأول أن تكون تعبيرا صادقا عن شخصية الكاتب. وهذا التعريف ينطبق على المقالة بمعناها الفني الضيق ويحتفظ لها بصفتها التي أرادها لها مونتين حين سماها "محاولة".

التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية

2- التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية: وحوالي نهاية القرن الماضي أصبحت المقالة مطية ذلولا لجميع الكتاب يلجئون إليها لعرض تأملاتهم الذاتية أو أفكارهم الموضوعية، دون أن يتقيدوا بالتقليد الذي وضعه مونتين أو باكون. وهكذا وسعت المقالة خواطر شارلس لام ومقطوعاته التي تتسم بميسم الغنائية الذاتية، كما وسعت دراسات كارليل التاريخية، ودراسات ماثيو أرنولد النقدية، ومباحث الدوس هكسلي العلمية. وبهذا نضت عنها الثوب القديم؛ إذ بدا مهلهلا، وأرتدت ثوبا قشيبا، وغدت في عرف الأدباء والدارسين قطعة نثرية تدور حول موضوع من الموضوعات، ومن شأنها أن تروق القارئ وتستهويه؛ لأن الكاتب بذل جهده في تجلية ذاك الموضوع في حلة أنيقة ملائمة. ومن طبيعة الفنون الأدبية إلا تنحصر في نطاق محدود صلب الأطراف، بل هي كالأواني المستطرفة، يعدو كل منها على أخيه، ويفيد منه. وهكذا استغلت المقالة الفنون الأخرى فأخذت من السيرة والقصص رسم الشخصيات ومن المسرحية الحوار ومن القصيدة النائية النفحة الشعرية. وتسهيلا للبحث، نلجأ إلى تقسيم المقالة الحديثة إلى نوعين هما: المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية. بيد أنه ليس من السهولة بمكان وضع حدود فارقة بين هذين النوعين، إلا أن محك التمييز الصادق بينهما، هو مقدار ما يبثه الكاتب في كل منهما من عناصر شخصية. ففي النوع الأول تبدو شخصية الكاتب جلية جذابة تستهوي القارئ وتستأثر بلبه، وعدته في ذلك الأسلوب الأدبي الذي يشع بالعاطفة ويثير الانفعال، ويستند إلى ركائز قوية من الصور الخيالية والصنعة البيانية والعبارات الموسيقية والألفاظ القوية الجزلة. والمثل الواضح على ذلك مقالات لام في الأدب الإنكليزي ومقالات المازني في أدبنا. وفي النوع الثاني تستقطب عناية الكاتب، ومن ثم القارئ، حول موضوع معين، يتعهد الكاتب بتجليته، مستعينا بالأسلوب العلمي الذي ييسر له ذلك. ومن خصائص

هذا الأسلوب الوضوح والدقة والقصد وتسمية الأشياء بأسمائها. ولا يبيح الكاتب لشخصيته وأحلامه وعواطفه أن تطغى على الموضوع. ومن ذلك أنه يضحي بحريته في عرض أحاسيسه الخاصة في سبيل الحفاظ على حدود الموضوع ومنطقه الخاص وبنائه القائم على المقدمات والعرض والنتائج. فالفروق الأساسية بين هذين النوعين إذًا هي أن المقالة الذاتية تعني بإبراز شخصية الكاتب، بينما تعني المقالة الموضوعية بتجلية موضوعها، بسيطا واضحا خاليا من الشوائب التي قد تؤدي إلى الغموض واللبس. والمقالة الذاتية حرة في أسلوبها وطريقة عرضها، لا يضبطها ضابط، بينما تحرص المقالة الموضوعية على التقيد بما يتطلبه الموضوع من منطق في العرض والبحث والجدل وتقديم المقدمات واستخراج النتائج. ولكنهما أخيرا تنبعان من منبع واحد، هو رغبة الكاتب الملحة في التعبير عن شيء ما. وقد يكون هذا الشيء تأملاته الشخصية في الحياة والناس، فيكتب مقالة ذاتية. وقد يكون موضوعا من الموضوعات، فيعمد إلى المقالة الموضوعية، وفي كلتا الحالتين يهتدي الكاتب إلى الأسلوب المعبر الذي يعينه على تجلية غرضه.

المقالة الذاتية

3- المقالة الذاتية: تبين لنا مما سبق من حديث، أن المقالة الذاتية هي التي احتفظت بالمعنى الأدبي والتاريخي للاصطلاح؛ إذ كانت المقالة في أصلها، كما ذكرنا آنفا، تكتب لتوفر قيما أدبية خاصة، أي أن كاتبها كان يصطنع النثر الفني وسيلة للتعبير عن إحساسه بالحياة وتجربته فيها. وهي في هذا تقابل القصيدة الغنائية "لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون. فكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة. تعلو وتتناغم فتكون قصيدة أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية"1. ولعلنا نقع على خير صورة لهذا النوع من المقالة عند مونتين؛ إذ جعل "نفسه" المحور الذي تدور عليه جميعا، وانصرف إلى التحدث إلى قرائه، عارضا عليهم تأملاته ونظراته في الحياة والناس، مقبلا تارة مدبرا أخرى، محبا هنا مبغضا هناك. وهو في ذلك لا يعني بتهذيب أفكاره ونظراته وتشذيبها، فقد يسهب في موضع حين يجد مجال القول ذا سعة، وقد يوجز في موضع آخر حين يكل قلمه أو لا يلفي في نفسه رغبة في الإسهاب. بيد أنه في كل ذلك، كان ينظر إلى شئون الحياة والأدب بمنظاره الخاص، معريا نفسه للقارئ، نابشا عن أعمق أعماقه، بأسلوب ساذج رخو، هو أسلوب الحديث العادي الذي يمتاز بالبساطة واليسر والسلاسة والتنوع. وقد لاحظنا من التعريفات السابقة، أن من شروط المقالة الذاتية أن تكون على غير نسق من المنطق وأن تسير رخاء دون تكلف للتنسيق أو افتعال للترتيب، ودون أن يتورط كاتبها في الإسراف في الوعظ والإرشاد. وقد عبر أحد المقاليين عن هذه المعاني جميعا حين خاطب كتاب المقالة عندنا بقوله: "كلا ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها نقط ولا تبويب ولا تنظيم. فإن كانت كذلك فلا عجب أني ينفر القارئون -أيها الأدباء- من قراءة ما تكتبون. لا تعجبون يا قادة الأدب المصري ألا يقرؤكم إلا قلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه

_ 1 زكي نجيب محمود: جنة العبيط ص10.

موقف المعلم لا الزميل، موقف الكاتب لا المحدث، موقف المؤدب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصل نفسه بنفسه. وإلا فحدثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟.." ثم يقول: "فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطعة صورة، عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة كأنما هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية. فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصور الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته. وقد تعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس اصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أولى خطوات الإصلاح المنشود"1. وهذا يعني أن تأملات الكاتب يجب أن تكون ممتعة في ذاتها فلا يحسن أن تكون وسيلة لغاية تختفي بين سطورها، فتوجه المقالة توجيها وعظيا يضعف من

_ 1 المرجع السابق ص7-9.

قيمتها، بل يقضي عليها بالفناء العاجل ... وهي بهذا تختلف عن البحوث والدراسات؛ لأن هذه تفنى متعتها عندما يستنزف القارئ ما فيها من معلومات أو عندما تتغير بعض الحقائق التي اشتملت عليها، بتقدم العلم، أو اختلاف الأذواق. وليس هذا مصير المقالة بمعناها الأدبي الصحيح؛ إذ إنها في هذه الحالة، لا تشتمل على قيم خارجة عن نطاقها الخاص، أي أنها تكون ممتعة في ذاتها، وبهذا وحده يكتب لها الخلود، لا بما تحتويه من المعلومات الموثوقة أو التحليل العلمي الدقيق. وكذلك لا تقوم المقالة على الجدل والنقاش؛ لأن المجادل يسعى دوما إلى عرض الحقائق كما يراها من زاويته الخاصة، وكما ينسقها بمنطقه الخاص. وهو بهذا يدافع عن رأي ارتآه، أو مذهب اعتنقه. ولكن المقالة لا تعنى بشيء من ذلك، بل تعنى بالتعبير عن تجربة حيوية تمرس بها الكاتب وتقلب على جمرها، ويشترط في كاتب المقالة الذاتية أيضا ألا ينظر إلى الحياة نظرة جادة، بل عليه أن يلمحها بعين ساخرة متسامحة تغضي على القذى وتستمرئ العلقم. فلا يندفع في تيار المواعظ التي تصبح غاية في نفسها، بحيث تمحي معالم شخصية الكاتب فينحرف عن مهمته الأولى وهي التعبير عن نفسه، تعبيرا صادقًا ممتعًا.

ألوانها وأشهر كتابها

4- ألوانها وأشهر كتابها: ليس من اليسير تحديد الموضوعات التي يتاح لكتاب المقالة الذاتية، أن يديروا حولها مقالاتهم. فهي متنوعة تنوع التجارب الإنسانية، متباينة تباين شخصيات الكتاب، فكل كاتب من الكتاب، صورة متميزة بألوانها وخطوطها. وقد تتقارب الألوان وتتلاقى الخطوط، إلا أن كل شخصية تحتفظ بطابعها الخاص وقسماتها الفارقة. وقد رأينا تسهيلا للبحث أن نعرض أهم ألوان هذا النوع من المقالة، كما ظهرت على أقلام أشهر كتابها: 1- الصورة الشخصية: وهي خير ما يمثل هذا النوع؛ إذ إنها تعبير فني صادق عن تجارب الكاتب الخاصة والوراسب التي تتركها انعكاسها الحياة في نفسه. وهي في أحسن حالاتها ضرب من الحديث الشخصي الأليف، والثرثرة والمسامرة، والاعتراف والبوح. ولكنها تمتاز إلى جانب ذلك بروعة المفاجأة وتوقد الذكاء وتألق الفكاهة. ولا تخلو من السخرية الناعمة أو الحادة، تبعا لاتجاه الكاتب وألوان شخصيته. وقد حدد الدكتور زكي نجيب محمود شروط هذا النوع من المقالة واتجاه الكتاب فيها بقوله: "شروط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما، وإن تكون النقمة خفيفة يشيع منها لون باهت من التفكه الجميل. فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنكليزية "أديسون" ما كتب، فلن تجده إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح. نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه. نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا، يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره، يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن

سامعه الحكمة صبا ثقيلا. نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث. لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب"1. وخير من يمثل هذا النوع من المقالات في الأدب الأوروبي، مونتين وشارلس لام وأولفر وندل هولمس. وقد كان لكل منهم طريقة خاصة، غدت بين الكتاب عرفا شائعا، ونبراسا تعشو إليه أبصارهم. فطريقة مونتين ومن اهتدى بهديه من الكتاب تقوم على الموضوع والتألق، وتعكس كبيرا من الفكاهة الحلوة والسخرية الناعمة. ويبدو لنا الكاتب من خلالها، رجلا اختبر الحياة وتمرس بآفاقها وتجرع كأس الشقاء حتى الثمالة، وخرج من كل ذلك بابتسامة المدرك الواعي، الذي اطلع على صغار الناس، وعرف دواعيه ونتائجه، فوقف منه موقف المشفق المتسامح. وقد أدرك أن طموح الإنسان وآماله العريضة في الحياة، إن هي إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا أتاه لم يجده شيئا، فأحر به أذن أن يزور عن الحياة أو أن ينظر إليها بعين مستخفة ساخرة انبثاق بعض الحقائق التي تمثل أمام ناظريه وتحمله على أن يتدبرها، أو يلقاها بالجد الصارم بادئ ذي بدء، ثم يحدب عليها بعطفه، أو يذرف عليها دمعة رثاء. وهو رضي النفس دمث الخلق لا يشمخ بآنفه، أنفة وكبرياء، ولا يتصرف تصرف الجلف الجافي الطباع، بل يحتفظ باتزانه وهدوئه دوما. ثم إنه يقف إلى جانب الحق دائما، ويعليه على كل اعتبار، بيد أنه لا

_ 1 المرجع المذكور آنفا: ص5، 6.

يندفع في ذلك متحمسا طائشا، بل يكبح جماح أهوائه، ويكفكف من غرب نزواته. وأسلوبه بسيط رخي، فهو لا يسهب مثرثرا، ولا يبيح لقلمه أن يجول على وجه القرطاس ويصول، دون ما رادع أو زاجر. وهو أخيرا رجل متحضر مثقف. صقلت أخلاقه المدنية، وهذبت ميوله اختباراته الواسعة في الحياة. أما شارلس لام ورجال مدرسته، فإنهم يؤثرون المبالغة ويشقون على أنفسهم في التهويل ويسرفون في عواطفهم إلى غير غاية. والكاتب من هؤلاء يمتاز بتأثره الشديد بالجمال، ويكون عبدا للحالات النفسية التي تنتابه، فهو تارة حزين مسرف في الحزن، والفرح في نفسه مدثرة أو مائعة، فهو هوائي المزاج، يضحك حتى تطفر من عينيه دمعة الرضا والبهجة، ولكنها سرعان ما تنقلب إلى دمعة حرّى سخينة، هي دمعة الحزن العميق، والألم العاصف. وهو لا يرمي بضحكه إلى تهذيب، ولا يستهدف به إصلاحا، بل يجد في البحث عن النكتة، ويجعلها وكده، حتى ولو أقام نفسه محورا للتفكه والتندر. وهو شارد اللب موزع الخاطر في بعض الأحيان قد يركب رأسه وتجمع به نزوات الغضب. ولكنه يحتفظ دوما بصفته الأساسية وهي الوداعة والتسامح وصفاء النفس. وهو يحب الأطفال ويحدب عليهم، ويحترم السيدات ويقف لهن إجلالا ويركع أمامهن متعبدا. وله في اختيار أنواع الطعام وتمييز ألوان الشراب ذوق صادق لا يخطئ، ولكنه إذا طولب بتعليل لهذا الاختيار أو ببرهان على إيثار هذا اللون على ذاك، لجأ إلى المداورة والتحيل، وتورط في بعض الأدلة المضحكة والآراء المستهجنة

وخبرته في الآثار والعادات، لا تقل عن خبرته في تمييز المآكل والمشارب، فإذا ما دخل بيتا من البيوت، أخذ يتلفت يمنه ويسره باحثا عن خزانة الصيني، ليجلو عينيه بمرأى قطعها النفيسة. فإذا افتقدها، بحث عن الكتب القديمة والمخطوطات النادرة، أو حدق في قطع الأثاث التاريخية والرياش النفسية، يتأملها تأمل الهاوي الخبير. أما أولفر وندل هولمس، فإنه يتميز بالنوادر العملية التي تنضح بالذكاء وتشي بالمهارة وخفة اليد. وله عين لاقطة تلمح المفارقات المستغربة والصور العجيبة في الحياة. ولا يذهب به التطرف إلى أن يجعل من مقالته مكرضا للغو والهذر، بل يحرص أشد الحرص على أن يوفر لكتابته الكثير من القيم الاجتماعية التي تمس المشكلات الأساسية في بيئته. ولا يفهم من هذا أنه كان يترخص في كتابته، فقد كان الرجل واسع الاطلاع محيط الثقافة، لا يعجزه أن يستغل علمه الغزير فيما يكتب، وذلك لكي يبرز الأشياء المألوفة في حلة قشيبة من البداهة والذوق وحسن التعليل، يبطنها بفكاهة خبيثة ذكية. وقد كان لوراثته البيوريتانية أثر في اتجاهه الوعظي، فقد كان يلتزم الدفاع عن تقاليد بيئته الموروثة؛ لأنه كان يشعر بأنه يعيش في عصر يميل أهله إلى التحرير، بل إلى الإباحية في كثير من الأحيان. وكان يتجنب الألفاظ التافهة الخاوية التي لا تنطوي على مدلول اجتماعي قوي واضح. وكان لخبرته التي اجتناها من احتكاكه ببعض الشخصيات، ومن تمرسه بمختلف ضروب النشاط الحيوي، فضل في ما امتازت به مقالته من النظر الاجتماعي والتحليل الخلقي. وهذه الأساليب جميعا موجودة في أدبنا المقالي عند الكتاب المشاهير، أمثال محمد السباعي والمازني والعقاد وأحمد أمين ومي زيادة

وميخائيل نعيمة. 2- مقالة النقد الاجتماعي: وقوامها نقد العادات الناخرة والتقاليد البالية التي ترسبت في المجتمع، على مدى الدهور. ولا تعفي الأزياء الطارئة والبدع المستحدثة من سخريتها وعبثها. ويعزى فضل إدخالها إلى الأدب الإنكليزي إلى أديسون وستيل كما ذكرنا سابقا. والمبرر الطبيعي لذيوع مثل هذا النوع من المقالات، في مجتمع ما، هو ما يطرأ عليه من مستحدثات الحضارة في الأزياء والعادات والأخلاق ووسائل اللهو والتسلية. أو ما يحتدم فيه عادة من صراع بين القديم والجديد، في فترات الانتقال. يتمثل في أكثر الأحيان في ذلك التباين الذي نلمحه بين ما يتمسك به الآباء من تقاليد، وبين ما ينزع إليه الأبناء من تجدد وتغيير. وعدة الكاتب في هذه المقالات ملاحظة دقيقة وقدرة على إحكام الوصف وإجادة التحليل، واتزان في الحكم وعمق في التأمل، وبراعة في التهكم والسخرية، حتى لا تخرج المقالة من بين يديه جثة هامدة، لا تسمع لها نأمة ولا تبدو لها حركة، فتزول قيمتها بزوال المؤثرات الطارئة التي دعت إلى كتابتها. وفي زمن أديسون وستيل كان "للموضة" أهمية خاصة؛ إذ كان الإنسان يدرك قيمة السيدة ويقدر منزلتها الاجتماعية عندما يلحظ طريقتها في اللبس ونوع الملابس التي ترتديها والحلي التي تتزين بها. ولذا كان لمقالات الأزياء والعادات متعة خاصة عند قراء القرن الثامن عشر. وقد احتدم الصراع في مصر بين القديم والجديد في فترة ما بين الحربين، وتجلى هذا الصراع واضحا في العادات والأزياء، وفي الأدب بمختلف فنونه وأساليبه. فلا عجب إذا رأينا أكثر كتاب المقالة عندنا، كأحمد أمين والمازني وطه حسين والرافعي والعقاد، يخوضون هذه المعركة في مختلف

ميادينها، فيتحيز أحدهم للقديم، ويتصدى له الآخر، يرد دعواه ويبطل آراءه، وتمثلث هذه المعركة على صفحات الرسالة والثقافة في ميدان الأدب. وخير ما يمثلها في الميدان الاجتماعي مقالة "سلطة الآباء" لأحمد أمين. وهو يتحدث فيها أولا عن ذلك الزمان الذي كان فيه الأب هو الآمر الناهي في الأسرة، والحاكم المطلق في جميع شئون أفرادها، من دينية ودنيوية. ثم ينتقل إلى الحديث عن هذا الزمان الذي صار فيه الأبناء آباء والمرءوس رئيسا والرئيس مرءوسا. وعرض لمشكلة لا بد من أن تحدث في كل أسرة، وهي مشكلة زواج الفتى والفتاة، وشرح المطالب الفادحة والشروط القاسية التي تتقدم بها الزوجة، بأسلوب ساخر فكه، يبين مدى الفرق بين الزواج العصري، والزواج القديم. ثم تحدث عن حياة هذه الأسرة الجديدة، حين عمر بيتها البنون والبنات، فقال: وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات. وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبيرة التفات فلم يعيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا, ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير أذان الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وجمحت تخيلاتهم. وقال الأبناء لأبيهم: إنا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية

نفوسنا، فإن حاولت ذلك فإنما تحاول إدخال الثور في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال: نعم. قالوا: وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوروبية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة. وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت ميزانية، فأنت تعطي "ماهيتك" لأمنا تنفق من غير حساب فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وإن تقدم الكمالي على الضروري فأطعت، فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية دقيقة لمصلحة وميزانية الدولة مبعثرة! قال: نعم. قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا فلمَ تفرض سيادتك علينا؟. ورضيت بالخضوع لها فلمَ تأباه علينا وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال: نعم. قالوا: وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبيا، وخضعت للفقيه في المكتب، وللمدرس في المدرسة، فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك وغضضت بصرك. واسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول. فلما صرت "موظفا" وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائما وتطيع دائما، ولم يجر على ذهنك يوما تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية. أما نحن فحريتنا في بيتنا حررتنا على أساتذتنا، ونادينا بالحرية القومية فتبعتمونا في شيء من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم، وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوتة، قال: نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعا في كل شيء: في البيت

وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط، ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنودا وإلا لم نرض عنكم جنودا ولا قادة. وقالت البنات لأبيهن: يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سرا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبا فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا، قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإنا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا. فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظاما عتيقا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم. قلن: على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا أحرارات وعاشوا أحرارا، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقدا مدنيا. قال الأب: وما تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيرا في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرا فليعش كما شاء القدر،

ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طولا، ولا يتدخل في شئوننا كثيرا ولا قليلا. قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك. دع هذا يا أبانا والبركة أخيرا فيك. أما بعد فقد خلا الأب يوما إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة قال: لقد قالوا إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبداد في البيت، إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلمانا صغيرا يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي زوجته، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء. وقالوا تنازل عن سلطتك طوعا وإلا تنازلت عنها كرها، وقالوا إن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة. وقالوا إن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ، فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ رأيت كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا شخصي، ولم أر البيت برلمانا، بل رأيته حماما بلا ماء وسوقا بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستانا، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة، ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أروربا، إلى ما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصى. وأخيرا يتفقون على كل شيء إلا على

رأيي. فوالله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما تزوجت، فإن كان ولا بد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطارا إلى القاهرة والإسكندرية لها يد صناع في عمل "الأقراص" ورأس صناع في حمل "البلاص". أيتها الزوجة! ويا أيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوم ذل. 3- المقالة الوصفية: وتعتمد قيمتها الحقيقية على دقة الملاحظة وعلى التعاطف العميق مع الطبيعة الذي لا يحور إلا عاطفية مسرفة. ثم على الوصف الرشيق المعبر الي ينقل أحاسيس الكاتب وصورة الطبيعة كما تنعكس على مرآة نفسه، بصدق وإخلاص. والغاية الأولى في مثل هذه المقالات هي تصوير البيئة المكانية التي يعيش فيها الكاتب كما تتراءى لإنسان عميق الإحساس حاد البصر نافد البصيرة. وهذا الامتزاج مع الطبيعة، والتعبير الإنساني عنه، هو ما يميز مثل هذه المقالة عن مقالات العلماء وأبحاثهم في عالمي النبات والحيوان. ولعل مما يفسد هذه المقالة، ويعصف بقيمتها الفنية، اتجاه الكاتب إلى السفسطة والتفلسف والتحليل والتعليل. فالتصوير الساذج البسيط، هو الخاصة الأولى للمقالة الفنية، كما أنه الخاصة الأولى للقصيدة الغنائية. ومن خير أمثلتها في أدبنا "وحي البحر" و"بجوار شجرة ورد" و"مع الطير" لأحمد أمين1 و"الصخور" لميخائيل نعيمة2 و"جمال الطبيعة" للعقاد3 و"الربيع" للرافعي4.

_ 1 فيض الخاطر ج1: 2، وج3: 259، وج4: 6 على التوالي. 2 البيادر: 173. 3 الفصول: 128. 4 وحي القلم ج1: 22.

4- وصف الرحلات: وقيمتها متأتية من أنها تصور لنا تأثر الكاتب بعالم جديد لم يألفه، والانطباعات التي تركها في نفسه، ناسه وحيوانه ومشاهده الطبيعية وآثاره، فهي بهذا مغامرة ممتعة تقوم بها روح حساسة في أمكنة جديدة وبين أناس لم يكن لها بهم سابق عهد. والرحالة العابر الذي يكتفي بحسو الطائر لا يستطيع أن يقدم لنا صورة حية عن رحلته، بوسعنا أن نألفها ونتعاطف معها ونعيد تجربته فيها بأنفسنا. بينما الرحالة المتبصر المتأمل، يسحب صفاته العقلية والنفسية على تلك المشاهد التي تقع عليها عينه، ويجمع الملاحظات ويقارن بينها ويتناولها بالنخل والاصطفاء، ويحاول أن يفهم المعاني الحقيقية التي تكمن وراء المرئيات التي تقع عليها عينه. فالرحلة إذن في نظره، ليست سوى تجربة إنسانية حية يتمرس بها ويجعل التعرف إلى دقائقها واستكناه خفاياها وكده، فيخرج منها أكثر فهما وأصدق ملاحظة وأغنى ثقافة وأعمق تأملا. وهي تتطلب منه عقلا حساسا مرنا سريع التأثر والتكيف والاستجابة، بوسعه أن يدرك معاني المرئيات وأن يحللها إلى خصائصها الأساسية ويقدر قيمتها حق قدرها. وشر ما يعتري هذه المقالة تدنى الكاتب إلى العاطفية المسرفة، وتكلفه المواقف التي وقفها غيره أمام المشاهد التي يستوعبها بصره وبصيرته. فهنا التزييف والتصوير والتمويه. ثم إن كتب الجغرافيا وخرائط البلدان، تستطيع أن تقدم للقارئ مادة علمية تتسم بميسم الصدق والدقة، إلا أن هذه الحقائق التي تعرضها على القارئ هي الحقائق العلمية الجافة، التي كثيرا ما تكون عرضة للهدر والتجاوز إذا ما اتسع نطاق الاكتشافات أو ازدادت معرفة العلماء بحقائق هذا الكوكب الذي نعيش عليه. والقارئ الذواقة لا يبحث عن شيء من ذلك، بل يعنيه أن يرى التفسير الذي تجود به شخصية إنسانية ملهمة، دقيقة الإحساس بارعة

التصوير لما تجول فيه عيناها من مشاهد المدن والبلدان. وكلما كان الكاتب عميقا في إحساسه دقيقا في تصويره، ازدادت متعة القارئ بما يقرأ ومحاولته أعادة تشكيل التجربة التي مر بها الكاتب في نفسه. ويمثلها في أدبنا "رحلة" لأحمد أمين1 و"رغيف وإبريق ماء" و"غدا تنتهي الحرب" لميخائيل نعيمة2 و"في الزورق" للعقاد3. 5- مقالة السيرة: وهي صورة حية لإنسان حي. تختلف عن الترجمة في النوع والدرجة الفنية. فكاتب التراجم يعنى بجمع المعلومات وتنسيقها وعرضها عرضا علميا واضحا، ولكنه يتوارى خلف موضوعه، ولا يحاول أن يكشف الغطاء عن شخصيته في كثير أو قليل. أما كاتب السيرة المقالية، فإنه يصور لنا موقفا إنسانيا خاصا من شخصية إنسانية، فيعكس لنا تأثره بها وانطباعاته الخاصة عنها ويحاول أن يخطط معالمها الإنسانية تخطيطا فنيا واضحا، معتمدا على التنسيق والاختيار، بحيث تتراءى لنا الشخصية الموصوفة، وكأنها حية متحركة تحدثنا ونصغي لها وتروقنا بعض صفاتها فنعجب بها أو تسوءنا فننفر منها، ومقالة السيرة بالنسبة إلى السيرة الكبيرة، كالأقصوصة بالنسبة إلى القصة. الأولى تصور شريحة من الحياة أو قطاعا من الشخصية بلمسات سريعة موحية، والثانية تعرض حياة متكاملة، بريشة متأنية بطيئة تعنى بجزئيات الخطوط، وتبرز مختلف الملامح والقسمات بألوان قد تكون فائقة قوية هنا، وباهتة ضعيفة هناك. ومن أمثلتها في أدبنا "شخصية عرفتها" و"الشيخ مصطفى عبد

_ 1 قبض الخاطر ج2: 100، ج3: 178. 2 البيادر: 166، 195. 3 الفصول: 251.

الزراق" لأحمد أمين1 و"حافظ" للبشري2 و"القاسم أمين الفنان" للعقاد3 و"طه حسين" و"العقاد والمازني" لتيمور4. 6- المقالة التأملية: وهي تعرض لمشكلات الحياة والكون والنفس الإنسانية، وتحاول أن تدرسها درسا لا يتقيد بمنهج الفلسفة ونظامها المنطقي الخاص، بل تكتفي بوجة نظر الكاتب وتفسيره الخاص للظواهر التي تحيط به. وخير ما يمثلها في أدبنا الأستاذ ميخائيل نعيمة الذي جعل وكده في مقالاته، الكشف عن روح الشرق وصوفيته العميقة، والتنبيه إلى خصائصه الروحية والفكرية، والتنويه بطاقاته والأخذ بضبع أبنائه حتى يبلغ بهم إلى ميدانهم الأصيل الذي يناسب طبعائهم ويفتح مواهبهم. ومقالاته في "البيادر"5 تعكس هذه المعاني جميعا. وقد اشتهرت المدرسة المصرية في كتابة المقالة، بتلوين المشكلات الاجتماعية تلوينا تأمليا، لا يبلغ في عمقه مبلغ مقالات نعيمه، وهذا واضح في مقالات أحمد أمين ومنها: "فلسفة المصائب" و"نظرة في الكون" و"الحظ"6.

_ 1 فيض الخاطر ج5: 265، ج7: 312. 2 في المرآة: 13. 3 بين الكتب والناس: 277. 4 ملامح وغضون: 54، 99. 5 راجع في هذا الشأن كتاب "كتاب وشخصيات" للأستاذ سيد قطب ص212-224. 6 فيض الخاطر ج2: 117، ج3: 36 وج6: 141.

تحليل المقالة الذاتية

5- تحليل المقالة الذاتية: دراسة المقالة وتحليلها إلى أجزائها، تجربة هامة وافرة النفع كبيرة الجدوى؛ لأنها تظهر لنا كيف يعمل عقل الكاتب، حين يتمخض بالعمل الأدبي. والغاية الأخيرة لهذه الدراسة هي تذوق العمل الأدبي ثم تقدير حظه من البراعة والاتقان. وبوسعنا، تسهيلا للدراسة، أن نقسم المقالة إلى عنصرين اثنين، هما: المضمون والقالب. والقالب بدوره ينقسم إلى قسمين هما: التصميم والأسلوب. أول سؤال نلقيه على أنفسنا بعد الفراغ من قراءة المقالة هو: ما الذي أراد الكاتب أن يقوله؟ والجواب على هذا التساؤل أصعب مما يبدو لنا في الظاهر؛ لأن كاتب المقالة ليس واعظا ولا خطيبا ولا معلما. وإنما هو أديب يتأمل الحياة ويصور انعكاساتها في نفسه وأثر وقوعها على وجدانه. وعمل الدارس أن يكشف طريقة الكاتب في تفسير المادة التي وقع عليها نظره واستوعبتها عين بصيرته، ثم طريقته في عرض هذا التفسير ونشره على الناس. وعليه أن يستبين الخطوات المنطقية الخفية، التي كانت سدى العمل الأدبي، وهي أكثرها تقوم على المقارنة والمعارضة والتقسيم وتحليل العلاقات وملاحظة أوجه الشبه إذ ليست المقالة الأدبية رايا جامعا مانعا، وليست هي حكمة موجزة أو مثلا سائرا أو جامعة من جوامع الكلم. وإنما هي تجربة عقلية ووجدانية مر بها الكاتب وتمثل خطوطها وألوانها وعبر عنها بأسلوبه الخاص الذي يحمل طابع شخصيته. فهي بهذا تنضح بالذاتية، وتمثل شخصية الكاتب أصدق تمثيل. وليس من الطبيعي أن يتناسى الدارس الشق الثاني من البناء المقالي

-وهو ناحيتها الشكلية التي تنهض على تكأتي التصميم والأسلوب- أثناء تحليله للشق الأول. فالمضمون والصورة لا ينفصلان في العمل الأدبي الذي يتمثل كما قال عبد القاهر الجرجاني في عملية النظم. ولكن تسهيلا للدراسة، كما أسلفنا، لا بد لنا من أن نعالج كلا منهما على حدة. وقد عرف والتر باتر تصميم المقالة، في مقالته المعروفة عن الأسلوب بقوله: "هو ذلك التصور البنائي للموضوع الذي يرهص بالنهاية منذ البداية ولا يرفع عينه عنها. وهو في أي جزء من الأجزاء، يلتفت إلى الأجزاء الأخرى، إلى أن تكشف العبارة الأخيرة عن كنه العبارة الأولى وتبرر وجودها دون أن تحس بأي فتور"1. وإذا اتخذنا مقاله "فن السرور" لأحمد أمين2 مثلا، وحاولنا أن نكشف التصميم الذي وضعه الكاتب في نفسه لها، وجدنا أولا تلك المقدمة التي يتحدث فيها عن هذه النعمة الكبرى التي منحها الله الإنسان وعن مظاهرها في مشاهد الطبيعة وفي حياة الإنسان، ويقرر أن السرور لا يعتمد على الظروف الخارجية، بل يعتمد على النفس وقدرتها على اجتلاب السرور، فيقول: "نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كان أسبابه، ويخلقها إن لم تكن. يعجبني القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنًّا وسرورا وبهاء ونورا. ويعجبني الرجل أو المرأة، يخلق حوله جوا مشبعا بالغبطة والسرور، ثم يتشربه فيشرق في محياه ويلمع في عينيه.

_ 1 A.R.W. Pater. "Style" "Theories of Style in Literature". p. 399". 2 فيض الخاطر ج2: 200.

ويتألق في جبينه ويتدفق في وجهه. يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية فيشترط ليسر مالا وبنين وصحة؛ فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء. وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضحكات عالية عميقة واسعة بأتفه الأثمان، وبلا ثمن". ونجد ثانيا ذلك العرض الموجز لأسباب قلة السرور في مصر والشرق عامة ومحاولته تعليله ورده إلى أسبابه النفسية في أمم الشرق، ثم تلك المقارنة التي عقدها بين أمم الشرق وأمم الغرب من حيث تكوين النفسيات والظروف الخارجية والداخلية التي تترك أثرها في ذلك. وثالثا: تلك الخاتمة التي بسط فيها الوسائل التي يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على مصاعبه، فيخلق هالة من السرور تحيط به، وقد جعلها على صورة دروس، يلقنها الإنسان لكي يجعل من حياته سرورا دائما ومرحا مقيما. والأسلوب هو الشق الآخر من الصورة الفنية الظاهرة للمقالة. وإذا لجأنا ثانية إلى والتر باتر، في مقالته تلك، وجدناه يصف التصميم بأنه "العقل في الأسلوب" أما الصورة الفنية للعمل الأدبي فهي على حد قوله "الروح في الأسلوب". ويعني بها الطريقة التي يعمد إليها بعض الكتاب في اصطناع اللغة واستغلال طاقاتها التعبيرية، بحيث تستطيع أن تعبر عن تلك الروح التي ترفرف في نفوسهم، قلقة حائرة تريد الانطلاق تعبيرا كأنه الوحي المنزل. وقد عرف الناقد و. س. برونل. الأسلوب، بأنه "ذلك الركن من

أركان العمل الأدبي، الذي يحتفظ في كل جزء من أجزائه بروح الصورة العامة للأثر الأدبي بأجمعه. وهو روح دالة، تنتظم العمل الإنشائي، وفكرة تتجلى في صور مختلفة. وهو يكشف عن العلاقات، ويدلي بالآراء، وينظم التنوع في الوحدة". وهو يعني بذلك أن الاسلوب هو طريقة التفكير والتصوير والتعبير مجتمعة. إذًا ينبغي للدارس أن ينظر إلى الأسلوب من ناحيتين، هما شخصية الكاتب ثم طريقته في التعبير عن هذه الشخصية. أما الناحية الأولى، فإنها تتطلب تمعنا ونفاذ بصيرة ودقة في التحديد. وعلى الدارس حين يفرغ من قراءة المقالة، أن يحاول الإجابة على هذا السؤال: أي نوع من الناس هذا الذي قرأت مقالته؟ ومن اليسير عليه أن يجيب على هذا السؤال إذا تمعن في دراسة مادة المقالة، وتناولها بتؤدة وتأن. وطريقة الكاتب في التعبير عن شخصيته تقودنا حتما إلى دراسة بلاغية، تكشف لنا عن خصائص أسلوبه، وترشدنا إلى اتجاهه في تناول المادة، واصطناع اللغة: مفرداتها وتراكيبها، بيانها وبديعها، للتعبير عن فكرته. ولعل من المفيد هنا أن نوجز ما قاله الكاتب المقالي العظيم، روبرت لويس ستيفسون، عن هذا الموضوع في مقاله له عن العناصر الفنية للأسلوب1؛ لأنه يكشف لنا، بطريقة غير مباشرة، عن طريقته الخاصة في كتابة المقالات. يذهب ستيفنسون في هذا المقال إلى أن الأسلوب الأدبي يقوم على العناصر التالية:

_ 1 R.L. Stevenson. "On Some Technical Elements of Style in Literature" "Theories Of Style in Literature PP. 365 - 385".

1- اختيار الجمل وتنسيقها. 2- تركيب الجمل. 3- إيقاع العبارات. 4- مضمونها. وهو يرى أن العنصر الأول، هو أقل هذه العناصر شأنا، وأهم منه، في نظره، تركيب الجمل، أو نسجها على حد تعبيره؛ لأنه يرى أن الغاية الأولى والأخيرة في كل فن من الفنون، هي إبداع الصورة الفنية. ويرى أيضا أن المهمة الحقيقية للكاتب، هي تضفير معانيه، وتنسيقها في نسيج محكم السرد، بحيث تتوالى الجمل والعبارات في سلسلة واحدة مستمرة، ثم تأخذ في التكشف والانجلاء. فالأسلوب في نظره إذًا هو نسيج حسي منطقي في آن واحد. ومهما يكن من أمر، فإن الأسلوب المقالة لا يحتمل الصنعة والتشذيب والتهذيب؛ لأن اتجاه الكاتب وحرصه على مثل هذا، يخرج به عن حدود الطبيعة والألفة والمسامرة التي يجب أن تتسم بها المقالة، إلى حدود الصنعة المرهقة والافتعال الممجوج.

نحو دراسة المقالة الذاتية

6- نحو دراسة المقالة الذاتية: ولما كانت غايتنا في هذا الكتاب أن نيسر على القارئ، وعلى طالب الأدب، تفهم الأدب المقالي وتحليله تحليلا يكشف عن عناصره الأولى وقسماته الفارقة، رأينا أن نوجز له الآراء والأفكار التي أسلفنا الحديث عنها، على صورة واضحة جلية، يسهل عليه فهمها واستيعابها. تستهل أكثر المقالات الذاتية بفكرة عامة، أو بخاطرة من الخواطر، يقيم عليها الكاتب بناء موضوعه، ثم يتتبعها بالشرح والتفسير والتعليق -كما رأينا في تحليلنا لمقالة "فن السرور"- وهذه الفكرة الموجزة المركزة هي نواة المقالة التي تستقطب ما حولها. وبعد أن يفرغ الكاتب من وضع هذه الفكرة وجلائها على وجه من الوجوه، يتقدم إلى شرحها وتوسيعها، وذلك بأن يقدم بعض الأمثلة الواقعية المحسوسة التي يستمدها من تجاربه في الحياة وتمرسه بها. ولاستهلال المقالة أهمية خاصة في نظر الكتاب والقارئ؛ إذ إن القارئ -وهو المقصود في كل عمل أدبي- لن يقبل على قراءتها بلذة ونهم إلا إذا طالعته بادئ ذي بدء بصورة جذابة مشوقة، مجلوة بأسلوب طبيعي سلس، هو أسلوب المسامرة والحديث العادي. وبفكرة طريفة متألقة، تسترعي عنايته وتجتذبه إليها بقوة وإغراء. ولتيسير الأمر على الدارس، نضع له فيما يلي بعض المقترحات والأسئلة، التي تساعده على دراسة المقالة واستيعاب مادتها وتفهم أسلوبها: 1- بعد أن تقرأ المقالة: قراءة عميقة مستوعبة، حاول أن تكتشف الفكرة الأساسية التي جعلها الكاتب محور مقالته. وحاول أن توجز هذه الفكرة في عبارة واحدة، تستمدها من موضوعها، أو من الأقوال السائرة والأمثال. 2- حاول أن تتبين الطريقة التي اصطنعها الكاتب في تتبع هذه الفكرة ومعالجتها وشرحها، حتى نمت بين يديه واتسع مداها حتى شمل الحياة المحلية في بيئته أو مجتمعه، أو الحياة الإنسانية عامة. وتأمل طريقته في اقتباس الأمثلة المحسوسة التي يستمدها من تجاربه الخاصة أو من ثقافته العامة في الأدب والتاريخ والاجتماع.

3- لاحظ مدى اعتماد الكاتب على أسلوب العرض، ومدى استعانته بأساليب الإنشاء الأخرى كالقصص والجدل والحوار والوصف. ثم تبين الفوائد الأدبية التي جناها من كل ذلك. 4- تأمل موضوع المقالة، وأثر شخصية الكاتب ونفسيته وأسلوبه في جعل ذلك الموضوع مقبولا مشوقا يحظى بموافقة القارئ ورضاه. وتبين أيضا إلى أي مدى استطاع الكاتب أن يكشف عن معالم شخصيته للقارئ، وكيف تيسر له ذاك وإلى أي حد وفق فيه. وهل الموضوع لاذ ممتع في ذاته أم أنه اكتسب ذلك من طريقة المؤلف في علاجه وعرضه. 5- حاول أن تحلل أسلوب الكاتب، فتكشف عن خصائصه، وتستجلي عيوبه. ثم حاول أن ترى مدى ملاءمته لطبيعة الموضوع، ونفسية الكاتب. هل الأسلوب هو أهم ما لفت نظرك في المقال، وأية صفة من الصفات التالية تنطبق عليه: سهل، متدفق، متوازن، موسيقي، متماوج، رشيق، مصور، مباشر، جزل، قوي، واضح، شعري، مركز، فصيح، مصقول، مهشم، مضطرب، دقيق، مهذب، سطحي، لفظي. 6- لاحظ الفقرات والجمل والألفاظ، وهل هي قصيرة أو طويلة. هل هي محكمة التركيب وثيقة النسج أو مفككة مخلخلة ضعيفة النباء. وهل للكتاب اتجاه خاص في اختيار الألفاظ. 7- لا تتوان عن اللجوء إلى المعاجم والموسوعات، إذا أشكلت عليك فكرة من الفكر أو عبارة من العبارات. فلمعاني الألفاظ وتركيبها ولدلالة الإشارة التاريخية والأدبية والموسيقية، وما إلى ذلك، أثر كبير في جلاء الموضوع والكشف عن أجزائه، وفي توثيق عرى المحبة والألفة بين القارئ والكاتب. 8- أكثر من قراءة الأدب وتأمل أساليبه. وعندما تقرأ المقالات خاصة حاول أن تتبين بنفسك خصائص هذا الفن الأدبي، فإن الدراسات النظرية لن تجديك نفعا إذا لم تدعمها بقراءات واسعة في الفن الأدبي نفسه. وحاول دائما أن تكون لنفسك آراءك الشخصية وإن تنمي شخصيتك الأدبية بما تقرؤه وتتذوقه، وذلك لكي تبلغ مرتبة التذوق المبني على التحليل والتعليل.

قيمة المقالة الذاتية

7- قيمة المقالة الذاتية: تعتمد قيمة المقالة الذاتية إلى حد ما على قيمة الأفكار التي يبثها الكاتب فيها. فإذا لم يكن لديه شيء قيم يقوله -كما هو شأن الرافعي والزيات مثلا- فإن مقالته سرعان ما تطوي في ثياب النسيان. إلا أن الأفكار ليست كل شيء في المقالة. فالعمل الأدبي لا يعتمد على صحتها من الناحية العقلية والعلمية، بقدر ما يعتمد على طريقة تجليتها وعرضها في حلة أدبية رائعة. وتعتمد المقالة أيضا، إلى حد كبير، على أسلوبها؛ فالبراعة الأدبية سبب قوي في أسباب المتعة التي يجدها القارئ في تذوق الأدب. ولعل جزءا كبيرا من شهرة طه حسين الأدبية قائم على أسلوبه الموسيقي العذب المتموج الذي تميز به بين الكتاب. ولكن القيمة الحقيقية للمقالة، تعتمد في المقام الأول، على مدى تجليتها للشخصية الإنسانية التي تتوارى خلفها، في خفر وحياء. فإذا قرأنا إحدى مقالات مونتين، فإننا لا نعجب بما احتوته من أفكار، ولا تروقنا الحلة اللفظية التي أبرزت فيها، بقدر ما نعجب بشخصية الكاتب. نفسه. فالناس في كل زمان ومكان، يؤخذون بالذكاء المتوقد والعقل المغامر الجريء، الذي يستطيع أن يزن أقدار الناس ويكشف عن انبعاثاتهم، الأصلية، وصغاراتهم وحقاراتهم، ولكنه يتعالى عليها وينظر إليها على أنها طبائع ركبت في جبلة الإنسان، لا يستطيع عنها محيدا. وكذلك مقالات شارلس لام، فإن ذخيرتها من الأفكار العميقة هزيلة، إلا أن شخصية الكاتب الأليفة العذبة، هي التي تستهوي القارئ وتملك عليه أقطار نفسه، بما فيه من خفة وسحر وجاذبية وتألق، وذوق مصقول لا تفسده فظاظة، ولين لا يتدنى إلى درجة الميوعة. وكذلك مقالات المازني، لا تستهوينا بما فيها من الأفكار العميقة والآراء النيرة، بل بما فيها من براعة في التصور ومقدرة على انتزاع الفكاهة من أكثر وجوه الحياة عبوسا وتجهما.

المقالة الموضوعية

8- المقالة الموضوعية: منذ أواخر القرن الماضي، أخذ رجال البحوث العلمية يستعينون بالصورة المعروفة للمقالة الأدبية، لنشر آرائهم وإذاعة نظرياتهم. وقد ضعف شأن المقالة الأدبية الصرف في المائة سنة الأخيرة، وأخذت المقالة الموضوعية تحل محلها، وتعم بين الكتاب بانتشار الصحف والمجلات المتخصصة، حتى شملت جميع فروع العلوم الطبيعية والإنسانية. ونرى في بعض الأحيان، أن بعض الكتاب يتقربون من منهج المقالة الذاتية، وذلك بما يحاولونه من إبراز شخصياتهم وتأثراتهم الخاصة في الموضوع الذي يكتبون. إلا أن الغالب عليها، هو منهج البحث العلمي وما يقتضيه من جمع المادة وترتيبها وتنسيقها، وعرضها بأسلوب واضح جلي، لا يورط القارئ في اللبس، ولا يقوده إلى مجاهل التعمية والإبهام. ولذا يعنى الكاتب بوضع تصميم دقيق وخطة محكمة لما يكتب، حتى لا يضل

قارئه السبيل. وقد حدد أحد المؤلفين، خطة المقالة الموضوعية بما يلي: "وأما خطة المقالة "Plan" فهي أسلوبها المعنوي من حيث تقسيمه وترتيبه، لتكون قضاياه متواصلة، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها مقدمة لما بعدها حتى تنتهي جميعا إلى الغاية المقصودة. وهذه الخطة تقوم على المقدمة، والعرض والختام. فالمقدمة تتألف من معارف مسلم بها لدى القراء، قصيرة متصلة بالموضوع معينة على فهمه بما تعد النفس له، وما تثير فيها من معارف تتصل به. والعرض -أو صلب الموضوع- هو النقط الرئيسية أو الطريقة التي يؤديها الكاتب، سواء انتهت إلى نتيجة واحدة أم إلى عدة نتائج هي في الواقع متصلة معا، وخاضعة لفكرة رئيسية واحدة. ويكون العرض منطقيا مقدما الأهم على المهم، مؤيدا بالبراهين قصير القصص أو الوصف أو الاقتباس، متجها إلى الخاتمة لأنها منارة الذي يقصده. والخاتمة هي ثمرة المقالة وعندها يكون السكوت، فلا بد أن تكون نتيجة طبيعية للمقدمة والعرض، واضحة صريحة، ملخصة للعناصر الرئيسية المراد إثباتها، حازمة تدل على اقتناع ويقين، لا تحتاج إلى شيء آخر لم يرد في المقالة"1. وهذا النوع من المقالة، هو اللون الغالب على أدبنا المقالي اليوم، بل على الأدب المقالي في العالم. وأهم ألوانه: 1- المقالة النقدية: في حقول الأدب والفن، ويرجع تاريخها في الأدب الأوروبي إلى فترة مبكرة، فنحن نجد جون دريد يكتب مقالة طويلة عن الشعر المسرحي، سنة 1668. ونرى كتابا آخر يتناولون بعض الموضوعات الأدبية بالنقد والتحليل، في القرن الثامن عشر. إلا أن

_ 1 أحمد الشايب: الأسلوب ص74.

هذا النوع من المقالة، بصورته الشائعة اليوم، ثمرة من ثمرات ظهور المجلات الأدبية في أوروبا وأميركا والشرق. وازدادت حصيلته بازدياد العناية بالموضوعات الأدبية منذ النصف الثاني للقرن الماضي. وتعتمد المقالة النقدية على قدرة الكاتب على تذوق الأثر الأدبي، ثم تعليل الأحكام وتفسيرها وتقويم الأثر بوجه عام. ومن أشهر كتابها عندنا: العقاد والمازني وأحمد أمين وطه حسين. 2- المقالة الفلسفة: وهي تعرض لشئون الفلسفة بالتحليل والتفسير. ومهمة الكاتب هنا دقيقة صعبة؛ إذ عليه أن ينقب عن الأسس الحقيقية للموضوع، وأن ينظر إليها نظرة إنسانية، حتى لا تندثر قيمة مقالته بتقدم العقل الإنساني وتجدد مكتشفاته النظرية. وعليه أن يعرض مادته بدقة ووضوح حتى لا يضل القارئ سبيله في شعاب هذا الموضوع الشائك. وقد اشتهر من كتاب المقالات الفلسفية في أدبنا أحمد لطفي السيد والدكتور زكي نجيب محمود. 3- المقالة التاريخية: وتعتمد على جمع الروايات والأخبار والحقائق، وتمحيصها وتنسيقها وتفسيرها وعرضها. وللكاتب أن يتجه في كتابتها اتجاها موضوعيا صرفا. تتوارى فيه شخصيته، وله أن يضفي عليها غلالة إنسانية رقيقة، فيوشيها بالقصص، ويربط بين حلقات الوقائع بخياله حتى يخرج منها سلسلة متصلة مستمرة. 4- المقالة العلمية: وفيها يعرض الكاتب نظرية من نظريات العلم أو مشكلة من مشكلاته عرضا موضوعيا بحتا، وهذا شأن العلماء المتخصصين. أو عرضا موضوعيا يمتزج ببعض عناصر الذات، وهذا شأن العلماء الذين يحاولون تبسيط العلوم وإذاعتها بين عامة القراء. وممن برز في كتابة هذه المقالات في أدبنا الحديث الدكتور يعقوب صروف

والدكتور فؤاد صورف والدكتور أحمد زكي. 5- مقالة العلوم الاجتماعية: وهي تعرض لشئون السياسة والاقتصاد والاجتماع، عرضا موضوعيا، يعتمد على الإحصاءات والمقارنات، وعلى التحليل والتعليل، والتنبوء في بعض الأحيان. والخطة في جميع هذه المقالات، يجب أن تقوم على تصميم محكم وتنسيق دقيق، كما أن أسلوبها يجب أن يكون واضحا دقيقا خاليا من الحشو والاستطراد والالتفاف، قوامه المصطلحات العلمية المتداولة بين ذوي الاختصاص. وبعد، فإن التمييز بين أنواع المقالات مهمة شاقة عسيرة، إن ارتضيناه لأنفسنا تسهيلا للبحث، فإن طبيعة هذا الفن الأدبي لا تقره ولا توافق عليه؛ إذ إن بعض الكتاب يجمعون في مقالاتهم بين طرفي الموضوع والذات، ويمسكون الحبل من منتصفه، فتطغى الصفة الذاتية على بعض المقالات الموضوعية، أو تنعكس الآية فتطغى الصفة الموضوعية على بعض المقالات الذاتية. وهذا واضح في أدبنا المقالي الحديث، فإن كتابنا إذا ما عرضوا لمشكلة من مشكلات السياسة أو الاجتماع، لا بد من أن يضفوا عليها مسحة ذاتية صريحة وهذا ما نجده في أكثر مقالات العقاد والمازني وأحمد أمين وطه حسين. ولعل هذا هو شأن المقالة الأوروبية اليوم، خارج دائرة الاختصاص الضيق المحدود. فكتاب الاختصاص، هنا وهناك، هم الذين يلتزمون الحدود الموضوعية لا يتعدونها، أما الكتاب المحترفون الذين يجيلون أقلامهم في كل فن وعلم، فإنهم يمليون إلى التبسيط والتبسط، وإلى تلوين المقالة بلون شخصي يبث فيها الحياة والإشراق، على حساب موضوعية العلم ونظرياته.

المراجع والمصادر

المراجع والمصادر: المراجع والمصادر العربية: أحمد أمين - فيض الخاطر: لجنة التأليف والترجمة والنشر. عبد العزيز البشري - في المرآة: مطبعة دار الكتب المصرية 1927. أبو حيان التوحيدي - الإمتاع والمؤانسة "ج1": لجنة التأليف والترجمة والنشر 1949. محمود تيمور - ملامح وغضون: المطبعة النموذجية 1950. طه حسين - فصول في الأدب والنقد: دار المعارف 1945. مصطفى صادق الرافعي - وحي القلم "ج1". الطبعة الثانية: مطبعة الاستقامة 1941. أحمد الشايب - الأسلوب. الطبعة الثانية: مطبعة الاعتماد 1952. عباس محمود العقاد - بين الكتاب والناس: مطبعة مصر 1952. - فرنسيس باكون مجرب العلم والحياة: دار المعارف 1945. - الفصول: مطبعة السعادة 1922. سيد قطب - كتب وشخصيات: مطبعة الرسالة 1946. إبراهيم عبد القادر المازني - الديوان "ج2": 1921. "بالاشتراك مع العقاد". - قبض الريح: المطبعة العصرية 1927. زكي نجيب محمود - جنة العبيط أو أديب المقالة: لجنة التأليف والترجمة والنشر 1947. المسعودي - مروج الذهب.

محمد مندور - في الميزان الجديد: لجنة التأليف والترجمة والنشر 1944. ميخائيل نعيمة - البيادر: دار المعارف 1945. أحمد أمين بقلمة وقلم - الكتاب المقدس. أصدقائه: لجنة. التأليف والترجمة والنشر 1955.

المراجع والمصادر الأجنبية

المراجع والمصادر الأجنبية ...

الفهارس

الفهارس فهرس الأعلام والكتب والصحف ... فهرس الأعلام والكتب والصحف: أ- أبو السعود، عبد الله:54. أبو شهلا، ميشال:60. أبيقور: 12. أبو حنيفة: 20. أبو عيسى بن المنجم: 21. أبولو: 61. الاتحاد: 70. أثينايوس: 12. أحمد أمين: 67، 68، 85، 86، 91، 93، 94، 96، 105، 106. أحمد زكي: 106. أحمد لطفي السيد: 55، 56، 105. الأخبار "أمين الرافعي": 57. الأخبار "مصطفى أمين": 57. الأخبار: 57. أخبار اليوم: 57. الأخلاقيات: 13، 27. الأديب: 63.

أديسون، جوزيف: 19، 20، 40، 44، 43، 46، 48، 50، 86. أرازمس: 16. أرسطوطاليس: 12. أرنولد. ماثيو: 77. الأساس: 57. الأسبوع: 57. الاستقلال: 57. إسحاق، أديب: 54، 59. الأسير، الشيخ يوسف: 59. أشام، روبرت: 16. اعترافات القديس أغسطين: 15. الأفغاني، جمال الدين: 54. الأفكار: 57. أفلاطون: 12. أكرنفون: 12. الفرد الكبير: 15. اليوت، توماس: 16. اليوت، ت. س.: 53. الإمتاع والمؤانسة: 20. أنسى، محمد: 54. الأهرام: 57. أولوس، جيليوس: 14. الأيام: 59. ب- باتر، والتر:96، 97.

الباقر، محمد: 59. باكون، فرنسيس: 13، 14، 29، 36، 31،/ 32، 33، 34، 36، 37، 39، 44، 45، 77. بايرون، جورج: 50. بترارك: 16. البخلاء: 19، 22. برجيس باريس: 58. البرق: 59. برونل، و. س.: 97. البستاني، بطرس: 59. البستاني، سعيد: 54. البستاني، سليم: 59. البشري، عبد العزيز: 56، 62، 65، 94. البلاغ: 57، 62. البلاغ "محمد الباقر": 60. البلاغ الأسبوعي: 61، 62. بلوك، هيلير: 53. بليني الأصغر: 14. بليني الأكبر: 13. بن جونسون: 31. بنيت، أرنولد: 53. بوثيون: 15. بوليبيوس: 12. البيان "اليازجي": 61. البيان "البرقوقي": 62. بيد: 15. بيربوم، ماكس: 53.

تاكتوس: 13. التأملات: 13. التربيع والتدوير: 22. ترقية المعارف: 33. تسي زي: 11. التقدم: 58. تقلا، بشارة: 55. تمبل، وليم: 38. التوحيدي، أبو حيان: 19، 22. توما الأكويني: 15. التويني، جبران: 60. تيمور، محمد: 57. تيمور، محمود: 57، 94. ث- الثرثار: 42. الثقافة: 61، 62. ثكري، وليم: 52. ثيوكيديدس: 12. ثيوفراسطوس: 12، 52. ج- الجاحظ: 19، 22، 65، 72. الجامعة: 60.

جاويش، عبد العزيز: 55. الجديد: 61. الجرجاني، عبد القاهر: 96. الجريدة: 55، 56، 57، 62. جرين، روبرت: 16. جلال، محمد عثمان: 55. الجمهور: 63. الجميل، أنطون: 59. الجنان: 60. جوس، أدموند: 76. جولزوردي، جون: 53. جونسون، صمويل: 46، 75. ح- الحداد، أمين: 55. الحداد، نجيب: 55. حديقة الأخبار: 58. الحسن البصري: 17، 18. حصاد الهشيم: 70. الحضارة: 61. حمدي، عبد الحميد: 56، 57. حمزة، عبد القادر: 57. خ- خانكي، عزيز: 56. الخوري، بشارة: 59. الخوري، خليل: 58.

الخوري، سليم: 58. خيوط العنكبوت: 70. د- دانتي: 16. دريدن، جون: 38، 104. الدستور: 57. دنتون، جون: 41، 42. دانيال، صمويل: 16. دائرة المعارف البريطانية: 76. دكنز، شارلس: 52. دي كونسي، توماس: 48، 52. دياب، توفيق: 56. ديفو، دانيال: 41، 42. ديموشنيس: 12. الديوان: 65. ديوجينس: 13. ديونيزيوس: 12. ذ- ذهني، عبد السلام: 56. ر- رابلة، فرنسوا: 16. الرافعي، أمين: 57. الرافعي، مصطفى صادق: 86، 91، 102.

رالي، والتر: 16. الراوي: 59. الرجاء: 57. الرسالة: 61، 63. رسالة الصحابة: 19. رسائل سنيكا: 34. الرسائل الفارسية: 47. رسل، برتراند: 53. رضا، محمد رشيد: 55. رمزي، إبراهيم: 56. روضة الأخبار: 54. ز- زكور، ميشال: 60. الزهراء: 61. الزهراوي، عبد الحميد: 56. الزهرة: 58، 60. زيدان، جرجي: 61. زينيه، خليل: 59. الزيات، أحمد حسن: 68، 69، 102. س- سافونارولا: 16. السائح: 46. سألوت: 13. سانسوفينو: 16. السباعي، محمد: 56، 62، 85.

ستيفنسون، ر. ل.: 52، 98. ستيل، رتشارد: 19، 20، 40، 42، 43، 46، 48، 50، 86. سدنين، فيليب: 16. سركيس، إبراهيم: 59. سركيس، سليم: 55، 59. سعدي الشيرازي: 16. سفر الأمثال: 10. سفر الجامعة: 10. سفر الحكمة: 10. سفر يشوع بن سيراخ: 10. السفور: 57. سقراط: 12. سلامي موسى: 56. سنيكا: 13، 14، 16، 34. سهل بن هارون: 18، 19. السياسة: 57، 58، 62. السياسة الأسبوعية: 57، 61، 62. ش- الشباب: 61. شحاده، سليم: 58. شخصيات: 13. الشدياق، أحمد فارس: 72. الشركة الشهرية: 58. الشفاء: 61. شقير، شاكر: 61.

شكري، عبد الرحمن: 56. الشلفون، سليم: 58. الشلفون، يوسف: 58. الشميل، شبلي: 61. شو، جورج برنارد: 53. شوسر: 16. شيشرون: 14، 16. ص- الصابونجي، لويس: 59. الصاحب بن عباد: 20. الصحيفة الأثنية: 41. صدى المفيد: 59. سروف، فؤاد: 62، 64، 106. صروف، يعقوب: 62، 64، 105. صندوق الدنيا: 70. صوت الأمة: 57. ض- الضياء: 61. ط- طه حسين: 56، 57، 63، 65، 66، 68، 77، 94، 102، 105، 106. الطريق: 12. الطهطاوي، رفاعة: 54.

ع- العازار، اسكندر: 59. عبد الحميد بن يحيى "الكاتب": 18، 36. عبد الرزاق، مصطفى: 59. عبد السيد، ميخائيل: 54. عبده، طانيوس: 59. عبده، محمد: 54. العريسي، عبد الغني: 59. عزمي، محمود: 57. عطارد: 58. عطارد أثينا: 41. عطية، جرجي شاهين: 59. العقاد، عباس محمود: 30، 32، 34، 56، 62، 69، 70، 85، 86، 91، 93، 94، 105، 106. علي يوسف: 55. عنحوري، سليم: 54. العهد القديم: 10. عورا، ميخائيل جرجس: 61. عوض، أحمد حافظ: 57. غ- غاسقوين، جورج: 16. الغضبان، عادل: 63. غولدسميث، أوليفر: 46، 47.

ف- فاخوري، عمر: 60. فارس، فيلكس: 59. الفتى العربي: 59. الفجر: 61. فريحة، سعيد: 73. فروطارخوس: 12، 13، 16، 27. فلوريو، جون: 29، 38. فن الشعر "هوراس": 13. فيثاغورس: 12. فيض الخاطر: 68. ق- القباني، عبد القادر: 59. قبض الريح: 70. قواعد الخطابة: 13. ك- الكاتب المصري: 61، 62. كاتو الأكبر: 13. كارليل، توماس: 77. كاولي، إبراهام: 38، 44. الكاتب: 61، 62. كتاب الشعر "أرسطاطاليس": 12. الكشاف: 63.

الكلستان: 16. كلوديان: 13. كمبرنسس جير الدوس: 16. الكنانة: 61. الكواكبي، عبد الرحمن: 55. كورنالس، وليم: 31. كوكب الشرق: 57. كونتليان: 13. كونفوشيوس: 11. كيتس، جون: 50. ل- لابروبير: 44. لام، شارلس: 48، 50، 52، 77، 83، 84، 103. لاووتس: 11. لسان الاتحاد: 59. لسان العرب: 59. اللطائف: 61. اللواء: 55. الليالي الأتيكية: 14. لوثر، مارتن: 16. لودج، أولفر: 53. لوسيان: 12. لوكاس، إدوارد: 53. لونجينوس: 12. ليفي: 13. ليكوك، ستيفان: 53.

ليل، جون: 16. م- ماركوس أوريليوس: 14. المازني، إبراهيم عبد القادر: 56، 57، 65، 66، 69، 70، 77، 86، 94، 103، 105، 106ز مباهج الفلسفة: 15. المتأمل: 51. مجلة أسبوعية خاصة بشئون فرنسا: 41. المجلة الجديدة: 61. محاولات: 28. محمود، زكي نجيب: 82، 106. المدور، ميخائيل: 58. المرآة: 59. مرآة الشرق: 54، 59. المرآة الجديدة: 63. المراقب: 42، 46. المراقب "جرجي عطية": 59. مرسيلينوس: 13. مارغريت النافارية: 16. مروج الذهب: 19. مسعود، محمد: 55. المسعودي: 19. المشتري: 58. المشرق: 60. المشكاة: 60. مشنوق، عبد الله: 60.

المصري: 57. مصطفى كامل: 54، 55. مطران، خليل: 55. المعرض: 63. المفيد: 59. مقالات أو نصائح مدنية وخلقية: 36. المقتطف: 60، 61، 62. بن المقفع: 19، 37. مكاريوس، شاهين: 61. المكشوف: 63. ميكافيل: 16. مندفيل، جون: 16. مندور، محمد: 66. منشيوس: 11. المنفلوطي، مصطفى لطفي: 64. منيرفا: 63. المهماز: 60. المواطن العالمي: 43. مور، توماس: 16. مور، جورج: 53. موري: 76. مونتسكيو: 47. مونتين، ميشيل دي: 9، 10، 13، 14، 25، 27، 28، 29، 30، 31، 34، 36، 37، 39، 44، 45، 50، 76، 79، 83، 103. المويلحي، إبراهيم: 54. المؤيد: 55.

مي زيادة: 72، 85. ناصف، ملك حفني: 56. الناقد: 61. نبوية موسى: 59. النجاح: 58، 60. النحلة الحرة: 60. نديم، عبد الله: 54. النصولي، محيي الدين: 60. نظامي الكنجوي: 16. نعيمة، ميخائيل: 86، 91، 93، 94. النقاش، سليم: 55. النقاش، نقولا: 59. النهضة المصرية: 57. هـ- هاشم، لبيبة: 56. هزلت، وليم: 48، 50. هكسلي، الدوس: 77. الهلال: 61، 62. هنت، جيمس هنري لي: 48، 50، 51، 52. هوراس: 13. هولمس، أولفر وندل: 83، 85. هيرودوتس: 12. هيكل، محمد حسين: 56، 57، 62.

و وادي النيل: 54. وجدي محمد فريد: 57. الوجديات: 57. وردزورث، وليم: 50. الوطن: 54. الوقائع المصرية: 54. ولبول، هيو: 53. ولز، هـ. ج.: 53. ولسون، توماس: 16 ويشرلي، وليم: 38. ي- اليازجي، إبراهيم: 61. اليازجي، خليل: 60. يزبك، يوسف: 60. يكن، ولي الدين: 55. يوليوس قيصر: 13. بتس، وليم تلر: 53.

فهرست

فهرست: 5 مقدمة الطبعة الثالثة 7 القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين 9 تمهيد 9 بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة 12 في أدب الإغريق والرومان 15 في العصور الوسطى 16 عصر النهضة 16 في الأدب العربي القديم 23 القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث 25 مونتين 29 فرنسيس باكون 36 بين مونتين وباكون 37 نهضة المقالة الإنكليزية بعد عودة الملكية 39 مقالة المجلات في القرن الثامن عشر 45 خصائص هذه المقالة في المحتوى والصورة 48 المقالة في القرن التاسع عشر 52 المقالة الحديثة 53 المقالة في الأدب العربي الحديث 60 المجلات وأثرها في تطور المقالة العربية الحديثة 64 أعلام المقاليين المحدثين

73 القسم الثالث: فن المقالة 75 تمهيد وتعريف 76 التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية 78 المقالة الذاتية 81 ألوانها وأشهر كتابها 95 تحليل المقالة الذاتية 99 نحو دراسة المقالة الذاتية 102 قيمة المقالة الذاتية 103 المقالة الموضوعية 107 المصادر والمراجع العربية 109 المصادر والمراجع الأجنبية 111 فهرس الأعلام والكتب والصحف 127 فهرست الكتاب

§1/1