فكر ومباحث

علي الطنطاوي

فكر ومباحث تأليف علي الطنطاوي نشر وتوزيع مكتبة المنارة مكة المكرمة -العزيزية- مدخل جامعة أم القرى هاتف 5566375 ص ب 2653

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين* إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين .. آمين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد * كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم * وبارك على محمد وعلى آل محمد * كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين * إنك حميد مجيد. اللهم علمنا ما ينفعنا * وانفعنا بما علمتنا * وزدنا علماً.

جميع الحقوق محفوظة يمنع النقل والترجمة والاقتباس للإذاعة والمسرح إلَّا بإذن خطي من المؤلف الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988م

لغتكم يا أيها العرب

لغتكم يا أيها العرب أذيعت سنة 1957 كنت أقلب أمس أوراقاً لي قديمة وأنا قاعد أفكر في موضوع أتحدث فيه اليوم إليكم فوجدت عدداً قديماً مصفراً من جريدة (فتى العرب) من يوم كنت أعمل فيها مع الأستاذ معروف، رحمه الله، من قبل سبع وعشرين سنة، فيه مقالة لي من سلسلة (أحاديث ومشاهدات) التي كنت أنشرها في تلك الأيام، ففرحت به وعدت إليه أقرؤه، لأني فقدت مع الأسف أكثر ما كتبته وضاع مني، وكانت المقالة موجهة إلى مجلس المعارف الكبير وقد استهلت بخلاصة قصة (الدرس الأخير) لـ (الفونس دوده). يقص فيها على لسان صبي من الألزاس، كيف هرب من المدرسة، وأخذ طريق الحقول، ليقطع النهار في اللهو واللعب، ثم بدا له، فعدل عن هذا وذهب إلى المدرسة، فإذا هو يرى الناس يسرعون السير في الشوارع، مصفرة ألوانهم، تبدو عليهم أمارات الذعر والألم، وإذا هو يرى الأستاذ يذهب ويجيء في باحة المدرسة، قلقاً مضطرباً، وقد قعد بعض أهل القرية على مقاعد الصغار، واجمين شاخصين، فانسل إلى مكانه متحيراً لا يدري ما الخبر، وإذا بالأستاذ يعلو المنبر ويقول بصوت مرتجف ورنة حزينة كأنها رنة بكاء مكتوم: أولادي. هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلها الألمان (وكان ذلك في حرب السبعين) وصارت دروسكم باللغة الألمانية فلا فَرَنسية بعد اليوم. وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فعاد يقول: والآن: أصغوا لي لألقي عليكم (الدرس الأخير) باللغة الفرنسية وقم أنت يا فلان.

قال الصبي: فما سمعت اسمي حتى ارتجفت ووقفت ساكتاً، ولم أكن قد حفظت درسي، فقال لي الأستاذ: اقعد، أنا لا أعنفك ولا أعاقبك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم (¬1). ... وتركت الجريدة القديمة، ووقفت عند هذه الجملة، وقفت لأذكر ما تبذل أمم الأرض في العناية بلغاتها وما نصنع نحن العرب بلغتنا، وقفت لأذكُرَ كَمْ أسمع كل يوم من العبث باللغة والنحو والصرف، ورفع المنصوب، ونصب المرفوع، لا من التلاميذ الصغار وحدهم، ولا من الناشئة التي قد تعذر إن لحنت على لحنها. بل من السياسيين والمحامين والمدرسين، في البرلمان وفي المحكمة وفي المدرسة، بل إني لأسمع اللحن من أفواه الأدباء وأقرؤه في كتبهم، المجلات مملوءة باللحن، والقصص المطبوعة مملوءة باللحن، والكتب الجديدة مملوءة باللحن، وفي كل مكان لحن ظاهر، يتأدب به الصغير، وينشأ عليه الناشئ. وممن سمَّاهم الناس أدباء وشعراء من لا ستطيع أن يكتب صفحة واحدة صحيحة، ولا يقدر أن يقيم لسانه في صفحة واحدة. لقد فشا اللحن، وانتشر الجهل، وعم الضعف، وفقدت العربية المدافع والمحامي. ولقد قلت لكم إن اللغة الإنكليزية (مثلًا) فيها حروف تكتب ولا تقرأ، وحروف تقرأ وهي غير مكتوبة، وحروف تقرأ مرة شيئاً، ومرة شيئاً آخر، ولا بد لكل طالب لهذه اللغة من أن يتعلم كيف يكتب كل كلمة فيها ثم يتعلم كيف تلفظ، وهي بعدُ لغةٌ سماعية، لايطَّرد فيها قياس، ولا تعرف لها قاعدة، ومخارج حروفها عجيبة، وألسنة أهلها ملتوية، ثم إنها لغة ليس لها نسب ثابت، ولا أصل معروف، ولا يفهم إنكليزي اليوم كلام الإنكليز في عصر المعري والشريف الرضي، فضلاً عن عصر امراء القيس وزهير. وألفاظها لُمامَة من الطرق، من كل لغة كلمة، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فَرنسية وكلمات من العربية. ¬

_ (¬1) من مقالتي في فتى العرب سنة 1930.

وهي على هذا الضعف، وعلى هذا العجز، وهذه المعايب كلها، قد سمت بها هِمَم أهلها، حتى فرضوها على ربع أهل الأرض، وأنطقوهم بها. ولغتنا العربية، وهي أكمل لغات البشر، وأجودها مخارج، وأضبطها قواعد، ذات القياس المطرد، والأوزان المعروفة، قد أضاعها أهلوها وأهملوها، لم يكفهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس كما فعل أجدادهم من قبل، بل هم قد تنكروا لها، وأعرضوا عنها، وجهلها حتى كثير ممن يدرسها، وجهلها حتى كثير ممن يدعون الأدب فيها، وأين اليوم من أدباء العربية كلهم من يروي من الشعر مثل رواية الشنقيطي؟ أو يعرف من علوم العربية مثل معرفة حمزة فتح الله؟ أو يتذوقها ويكتب فيها مثل كتابة الرافعي؟ أويحفظ من نوادر نصوصها مثل حفظ النشاشيبي؟ وإذا ولَّى غداً (بعد عمر طويل) هؤلاء النفر من أدباء مصر وكتابها، فمن يبقى المرجع في اللغة وعلومها؟. العربية في خطر يا أيها العرب، العربية في خطر يا من يعتز بالقومية، إن اللغة هي ركن القومية الركين ولقد عملت في بناء حضارتنا عوامل مختلفات منذ عهد العباسيين، ودخلت فيها (في الفكر وفي العادات)، عناصر أجنبية يونانية وفارسية وهندية، ولكن بقي الدين إسلامياً خالصاً، وبقيت اللغة عربية خالصة، فملكنا نحن هذا كلَّه ولم يملكنا وكان من أبناء هذه الشعوب غير العربية، علماء في ديننا، وأئمة في لغتنا وأدباء: شعراء وكتاب، في لساننا، ولم يخل عصر من العصور، من أئمة في اللغة وحفظة لها من عصور الانحطاط، التي توالت علينا منذ القرن الثامن الهجري إلى أن أشرق فجر النهضة الجديدة. وفي هذه العصور ألفت أكبر المعاجم اللغوية، (لسان العرب) و (شرح القاموس) وهذه أول مرة تتعرض فيها العربية إلى هذا الخطر، وهو أن تفقد الإمام اللغوي. ومن ظن أني أتشاءم أو أبالغ، فإني أعود فأساله أن يدلني على إمام في العربية ضليع فيها، يخلف هؤلاء النفر الباقين من شيوخ الأدب في مصر؟ لقد كدنا نجهل لغتنا ومن شك فليمتحن نفسه، فليفتح لسان العرب وليقرأ فيه عشرة أبيات متتابعة من شواهده، من أي صفحة شاء، فإن فهمها

كلها، واستطاع أن يشرحها، أو فهم نصفها أو ربعها واستطاع أن يشرحه، فأنا المخطئ ومن يرد علي هو المصيب. أنا لا أطلب أن يكون فينا من يؤلف مثل الكامل وأدب الكاتب والأمالي، بل أطلب أن يكون فينا من يقرؤها بلا لحن، ويفهم ما فيها بلا شرح. إن اللغة العربية معجزة الذهن البشري، وأعجوبة التاريخ في عصوره كلها، وإذا كان التاريخ يذكر ولادة كل لغة، ويعرف مراحل نموها، ومدارج اكتمالها، فإن العربية أقدم قدماً من التاريخ نفسه فلا يعرفها إلا كاملة النمو، بالغة النضج. فمتى ولدت؟ ومتى كانت طفولتها؟ ومتى تدرجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكملة لم تحتج إلى تبديل أو تعديل؟ بل لقد أمدت بما زاد عنها من ألفاظها أكثر لغات الأرض. ففي كل لغة منها أثر. هل في الدنيا لغة يستطيع أهلها اليوم أن يقرؤوا شعرها الذي قيل من أربعة عشر قرناً فيفهموه ويلذّوه كأنه قيل اليوم؟ هل في الدنيا لغة يستطيع أستاذ الطب في الجامعة وأستاذ الطبيعة، وأستاذ الفلسفة، أن يجد في ألفاظها التي كانت مستعملة قبل أربعة عشر قرناً ما يفي بحاجته اليوم، في قرن العشرين؟ أفليس حراماً أن نضيع هذه اللغة الأصيلة العظيمة، ويفرض الإنكليز لغتهم التي لا أصل لها على ربع العالم؟ أليس حراماً أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللَّسَن والبيان ويلحنوا فيها؟ أليس حراماً أن يكون فينا من الخوارج على لغتنا من ينصر العامية المسيخة أو يكتب بها؟ أليس حراما أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية الفرنسية والإنكليزية ننطق بها تظرفاً أو تحذلقاً وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها وتقوم مقامها؟ فيا أيها العرب لغتَكم. لغتَكم يا أيها العرب، تعلموها وحافظوا عليها وانشروها. إن أمامكم اليوم فرصة لنشر العربية إذا أضعتموها لم تلقوا مثلها خلال ألف سنة. فرصة تستطيعون أن تكسبوا بها ثمانين مليوناً آخر يتكلمون العربية ويتخذونها لسانهم.

تقولون: أين هذه الفرصة؟ في باكستان يا سادة، في باكستان والهند. إن نصف الباكستانيين في باكستان الغربية، ونصفهم في باكستان الشرقية، واللغة هنا الأوردية، وهناك البنغالية. والأوردية أكثر ألفاظها عربية وفارسية وتكتب بالحروف العربية، والبنغالية أكثر ألفاظها هندية وتكتب بالحروف السنسكريتية، ولا يمكن اتخاذ واحدة منهما لغة رسمية. ولا بد من اتخاذ إحدى اللغتين لغة رسمية: العربية أو الإنكليزية. ولقد كنت هناك عند وضع الدستور. وكنت أرى هذا الجدال على اختيار إحدى اللغتين وكنت أخشى أن تضيع الفرصة، ولقد كتبت إلى الحكومات العربية وإلى الهيئات العربية، وأخجل أن أقول إني لم أجد مجيباً. وقد أجلت المسألة ولم تضع الفرصة. فهل نعود فنستفيد منها؟. إن إقبال الباكستانيين على العربية لا يمكن أن يصوره لساني، لأنهم يرون فيها لغة القرآن، ولأنهم يتعلمونها ديانة وتقرباً إلى الله. ولقد درت على المدارس التي افتتحتها المفوضية السورية في كراتشي فرأيت فيها العجب، عشرون مدرسة يا سادة، في كل واحدة نحو مئة طالب، منهم الصبي ابن العشر، والشيخ ابن السبعين، إي والله وهم يتعلمون العربية نطقاً وقراءة، العربية الفصحى، خلال شهور. خلال شهور معدودات وكل هذا يقوم به أربعة مدرسين أوفدتهم وزارة المعارف، وقد افتتح قبل سفري من كراتشي، معهد لتخريج معلمين ومعلمات للعربية وقد خطبت في حفلة افتتاحه أنا والصديق الجليل عبد الوهاب عزام سفير مصر (رحمه الله) وقلت لهم: إننا نعلمكم العربية اليوم، ولكنا سنعود فنتعلمها منكم، كما تعلمناها قبل من الزمخشري ومن سيبويه ومن الصاغاني الهندي، ومن الزبيدي الهندي شارح القاموس. أربعة مدرسين قاموا بهذا كله، فلو أن كل حكومة عربية أوفدت مئة مدرس، لكسبت العربية ثمانين مليوناً ناطقاً بها. وليس القوم هناك بالغرباء عن العربية، فهم يقرؤون القرآن، وثلث لغتهم كلمات عربية، وهم يقرؤون

الكتابة العربية، لأنهم يكتبون في باكستان الغربية بها، وفي الهند علماء في العربية أجلاء، في معهد ديوبند وفي لكنو، والعلماء المسلمون في كل مكان يعرفون العربية. وهذا سر من أسرار القرآن. فما لنا نضيع هذه الفرص كلها؟. ما لنا نهمل لغتنا وهي أكمل اللغات وأشرفها، وهي أوسعها، وهي أبلغها. فيا أيها العرب .. عودوا إلى العربية فتعلموها وحافظوا عليها، وانشروها وأخلصوا لها، فإن من العار علينا أن تكون لنا هذه اللغة ونضيعها، من العار علينا أن يصل هذا الكنز إلى أيدينا وأن نفرط فيه. يا أيها العرب لغتَكم، لغتَكم يا أيها العرب. ***

آفة اللغة هذا النحو

آفة اللغة هذا النحو نشرت سنة 1935 أَستاذن الأستاذ «الزيات» فأستعير منه هذا العنوان. فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في «الرسالة» الثالثة عشرة: قال الأستاذ: «ليس من شكّ في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرّد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوّم تلك اللهجة، وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاَّب القديم، على ألاّ يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمَّة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟». ولقد صدق الأستاذ وبرَّ، وأصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ، قرؤوا النحو بضعة عشر عاماً، ووقفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كلّ مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول:

وقد روى السيوطي في) بغية الوعاة) أن الكسائي (¬1) قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية! وأن الخليل (¬2) لم يكن يحسن النداء. وأن سيبويه (¬3) لم يكن يدري حد التعجب! وأن رجلاً قال لابن خالويه (¬4): أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني! فأي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقى للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، وإذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع إلا لتسهيلها وتقريبها؟ ومن -ليت شعري- يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنو من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، وأتته منيته وهو في بعضها يقلب حصباءها، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟ ¬

_ (¬1) علي بن حمزة، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة، استنفد علم معاذ الهراء، وقرأ على الخليل، وخرج إلى البادية، فأفرغ في الكتابة عن العرب حبر خمس عشرة قنينة، قال ابن الأعرابي: كان الكسائي أعلم الناس، ضابطاً عالماً بالعربية، قارئاً صدوقاً، توفي سنة 182. (¬2) الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية والعروض، قال السيرافي: كان الغاية في استخراج مسائل النحو، وتصحيح القياس فيه، وهو أول من استخرج العروض، ورتب المعاجم، وهو أستاذ سيبويه. وعامة الحكاية في كتابه عنه، وهو على الجملة آية من آيات الله في الذكاء والفهم والعلم، على زهادة وشرف نفس، وانقطاع إلى الله، توفي سنة 175. (¬3) عمرو بن عثمان، إمام البصريين، أصله من أرض فارس ونشأ في البصرة، أخذ عن الخليل ويونس والأخفش وألف الكتاب في النحو، الذي يسمى شيخ الكتب، ارتحل إلى أرض فارس بعد مناظرته المشهورة مع الكسائي، ومات بها غماً سنة 180 وعمره 32 سنة. (¬4) هو الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي الإمام، قرأ القرآن على ابن مجاهد والنحو والأدب على ابن دريد ونفطويه، وابن الأنباري. سكن حلب واختص بسيف الدولة، وهناك انتشر علمه وروايته، وله مع المتنبي مناظرات، كان أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب وله تصانيف جليلة، توفي بحلب سنة 370.

وإذا كان (ملك النحاة) (¬1) بعد أن أنفق عمره كله في تعلم النحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصي عليه فيسميها «المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر» (¬2) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها فيه! فما بالك بأمثالنا من (السوقة)؟ وكيف نفهم هذا النحو وندركه إدراكاً بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخطأ في النطق وفي الفهم؟ ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التي تحوي كل مختلف من القول، وكل بعيد من التعليل، وفيها كل تعقيد، حتى ما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولا يستقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يردُّه ويعارضه، كالقائم على ظهر الحوت، لا يميل إلى جانب إلاَّ ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقاً في اليمِّ؟ وسبب هذا التعقيد -فيما أحسب- أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضاً من أعراض الدنيا، فعقَّدوه هذا التعقيد وهوَّلوا أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلَّا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا. روى الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال للأخفش: ما لك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً ثم تعود به كما بدأت؟ قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرَّهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فأخذت منهم! وروى السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة ابن خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ ¬

_ (¬1) هو الحسن بن صافي، كان أنحى أهل طبقته، وكان فهماً ذكياً فصيحاً إلا أنه كان عنده عجب بنفسه وتيه، لقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، استوطن دمشق آخر حياته ومات فيها سنة 568، قال عنه ابن خلكان: كان مجموع فضائل. (¬2) بغية الدعاة.

فقالوا: لا. فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟ فقال: أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟ قال: لا أقول لك إلَّا بألف درهم! وكان نفطويه (¬1) لا يُقرئ كتاب سيبويه إلَّا إذا أخذ الرسم، من أجل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطؤوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الرغبة فيهم، حتى إن أبا علي الفارسي (¬2)، لما سأله عضد الدولة ابن بويه أن يصنف له كتاباً في النحو - وصنف الإيضاح، وأوضح فيه النحو وقربه حتى أتى عليه عضد الدولة في ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، أحسَّ أبو علي بالخطأ، وشعر بأنه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لأنفسهم: خطة التعقيد ... فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو (¬3). وزاد النحو تعقيداً وإبهاماً وبعداً عن الغاية التي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني (¬4) من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو معاصر له: ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن محمد، ينتهي نسبه إلى المهلب بن أبي صفرة. لقب بنفطويه لشبهه بالنفط لدمامته وأدمته، وجعل على مثال سيبويه لانتسابه في النحو إليه وجريه على طريقته وتدريسه كتابه، جلس للإقراء أكثر من خمسين سنها، وكان عالماً بالعربية واللغة والحديث، مات سنة 323. (¬2) هو الحسن بن أحمد الإمام المشهور واحد زمانه في علم العربية، أستاذ ابن جني الإمام العلم البليغ، وله مصنفات كثيرة وجليلة، توفي ببغداد سنة 377. (¬3) بغية الوعاة ووفيات الأعيان. (¬4) هو علي بن عيسى بن علي المعروف بالوراق، الأخشيدي النحوي المتكلم أحد المشاهير، جمع بين الكلام وعلم العربية، وله تفسير القرآن الكريم، قال أبو حيان: لم ير مثله قط علماً بالنحو وغزارة بالكلام، واستخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تأله وتنزه ودين وفصاحة وعفاف ونظافة، مات سنة 384.

«إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء ...». فخرج النحو بذلك عن الجادَّة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا علماً مستقلاً معقداً مضطرباً لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسباً، حتى إن السيرافي (¬1) لما ألف كتابه الإقناع (الذي أتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فأصبح مفهوماً سهلاً، لا يحتاج إلى مفسر ولا يقصر عن إدراكه أحد، حتى قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الإقناع. ولما ألَّفه قاومه النُحَاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف أنه بقي منه بقية! وزاد النحو فساداً على هذا الفساد هذا الخلاف بين المذهبين (أو الدرستين على التعبير الجديد) المذهب الكوفي، والمذهب البصري، وما جرَّه هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظرة المشهورة بين الكسائي وسيبويه، حين ورد هذا بغداد على يحيى البرمكي فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة، فقال له الكسائي: - كيف تقول: قد كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فإذا هو هي، أو هو إياها. - فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. - فقال الكسائي: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فإذا زيد قائم أو قائماً. وسيبويه يمنع النصب. ¬

_ (¬1) الحسن بن عبد الله المرزباني، أبو سعيد السيرافي، كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله. كان يدرس ببغداد علوم القرآن والنحو واللغة والفرائض، قال التوحيدي: وكان إمام الأئمة فيها جميعاً مع الصلاح والأمانة. قضى ببغداد ولم يأخذ على الحكم أجراً. مات سنة 368 وكان معاصراً للرماني وأبي علي الفارسي.

فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فاسألهم. - فقال يحيى: أنصفت. وأحضروا فسئلوا، فاتَّبعوا الكسائي فاستكان سيبويه وقال: - أيها الوزير. سألتك إلا ما أمرتهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ! - فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد إليك من بلده مؤملاً، فإن رأيت ألَّا ترده خائباً. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس فمات بها بعد قليل غماً وأسى! في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، وأن الكسائي كان -كما يقول السيوطي- ممن أفسدوا النحو، لأنه كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً. وزاد النحو فساداً على هذا الفساد، ابتغاؤهم العفلَّة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذلك أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم. من ذلك ما رواه ابن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له: - بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً؟ قال الشيخ: بفعل مقدر. قال: كيف تقديره؟ قال: أستثني زيداً. فقال له: هلَّا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد! فانقطع الشيخ وقال:

- هذا جواب ميداني فإذا رجعت قلت الجواب الصحيح. ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه. قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الإيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا. قال: والمسألة فيها سبعة أقوال ... حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل إلى القول الذي ذكره أبو علي أولاً. ... هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقَّداً هذا التعقيد، مضطرباً هذا الاضطراب، بعيداً عن الغاية هذا البعد. «فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة -التي نلهجها- وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟». ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤهم برأيهم في سبيل الإصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البزم، وهو أول رجل أعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عاماً يعالج أدواءه ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذلك كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية، لماذا لا ينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطَّلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويُبْدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله، ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم (¬1) على أن كان أول من ولجه؟ ... ¬

_ (¬1) لم ينشر -رحمه الله- شيئاً، ولم ينتدب أحد من تلاميذه لجمع أوراقه، ونشر آثاره، بل هو لم يجد (ولا أستاذ الجيل محمد كرد علي وجد) من يقيم له حفلة تأبين!

بين العلم والأدب

بين العلم والأدب نشرت سنة 1937 قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتي، وحكم وهو المدَّعي، فلم يدع مذمَّة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزيَّة إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب ... فلم أدْرِ متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصَّة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذلَّه به؟ ... ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حيّ إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟ إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل ذلك أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً ... ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليها أشد، وبقاء النوع معلَّق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم ... ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل

أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليلبوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحسَّ الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك قوانين النواس ونظرية لا بلاس؟ هذه مسألة ظاهرة مشاهدة، وتعليلها بيِّنٌ واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم، والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فاعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في إلانسان من تقدير الحقيقة ... وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعنى بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعنى بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحسّ اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب -بهذا المعنى- مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً. ولْندع هذا التفريق الفلسفي ولْنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتَّكِئُ على الخيال. فلْننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعمّ في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال .. فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه. أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق، بل إن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي

حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية) ولا تبنى القانون العلمي إلى على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيتخيل القانون تخيُّلاً مبهماً ويضع الفرضية ثم يجربها فإما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبَّه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسية (أو غيره فلست أذكر) شبَّه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة. فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب. ثم إن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء. فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم ... أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب، ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذلك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم. فما كان يُظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة. والكتاب العلمي الذي ألِّف قبل خمسين سنة لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته، مهما اختلفت الأعمار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي، كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه ويُتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير. فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟ ... وعَدِّ عن هذا ... وخبِّرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي يطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟

تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات، إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشرُّه بخيره والنتيجة صفر. ودع هذا ... ولْنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلاً ... لا شك أن العلم سهَّلها وهوَّنها، فقرَّب البعيد، وأراح المسافر، ووفَّر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟ أحيلك في الجواب على (شبنكر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرَّائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاجُّ إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحسّ بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنيّاً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخِّن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عَدْواً، ونحن مغمضون عيوننا ... لم نر من لجَّة الحياة إلا سطحها الساكن البرَّاق!. ولْناخذ الطب ... وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكنَّ ذلك لا يُعَد مزيَّة لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة، فإذا سرق اللص مئة إنسان، ثم ردَّ على تسعين منهم بعض أموالهم أيعدّ محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟ انظر في أيّ مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر

انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أو ليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض، بل هو مسؤول عن نشرها كلِّها؟ وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة. فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر ... وكذلك الإنسان. لم تكن مطاليبه كثيرة في الماضي فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها. أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلى بعضها فهو غير سعيد! ... هذا وأنا لا أعني الأدب بمعناه الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً أو نظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر. أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه لا فرق عندي بين أن تعبِّر عن الجمال بصورة أو تمثال أو مقطوعة من الشعر. ولا فرق عندي بين أن تصور غروب الشمس بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان، فالموسيقي أديب، والمصور أديب، والنحَّات أديب، والشاعر أديب، والأدب بهذا المعنى أهم من العلم، وأنفع للبشرية ... ولو كره العالمون (¬1)! ... ¬

_ (¬1) هذا كلام أديب، قلته من نحو ربع قرن، ولست أقول به الآن، والتماثيل محرمة في الإسلام.

العقيدة بين العقل والعاطفة

العقيدة بين العقل والعاطفة على هامش المناظرة بين خلَّاف وقطب ذهبت مرة أزور الأستاذ «الزيات» في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبَّ شيء إليَّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقرب الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمها كل يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها ... أقول إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شاباً أسمر اللون لطيفاً هادئاً تبدو عليه سيما المسالمة والموادعة والإيناس، فقال لي: إني أعرِّفك بالأستاذ سيِّد قطب، وأحلف أني شدهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشاب أي إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أن أتخيل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقيناً بأن من الخطأ البينِّ أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضل فأهدى إليَّ كتابه «التصوير الفني في القرآن». لأني لم أتخيل سيد قطب إلا مقارعاً محارباً، ولم أعرفه إلا كاتباً مجادلاً مناضلاً، يهاجم مهاجماً ومدافعاً ومحايداً .. وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحاً والله جديداً، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادَّخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه، وشعرت عند قراءته بمثل ما شعرت به عند قراءة «دفاع عن البلاغة» لسيد البلغاء الزيَّات، وجرَّبت أن أكتب عنهما فما استطعت، إكباراً لهما وإعظاماً لشأنهما، وكذلك الأثر الأدبي إذا هبط إلى قرارة الفساد أو سما إلى ذروة الجودة، أعجز النقَّاد وابتلاهم في الكتابة عنه بأضعف التكاليف، فأنا أُقرُّ بالعجز عن نقد هذين الكتابين، وعن نقد (شعر ...) بشر فارس أو أبحاث سلامة موسى، لأن من تحصيل الحاصل أن تقول للجيد لا شك فيه، هو جيد، وأن تقول للفاسد المتَّفق عليه هو فاسد، لأنك كالذي يقول للشمس أنت مضيئة وللَّيل أنت مظلم!

وكتب عنه أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم خلاف صاحب الكتاب العبقري (أومن بالإنسان)، وردَّ الأستاذ سيد وكانت هذه المناظرة التي رأيت أن أُدْخل نفسي فيها لأقول كلمة على (هامشها ...)، وهذه هي المرة الثانية أتطفَّل فيها على مناظرات الأستاذ قطب، ولكن ليطمئن القراء فما هي كالأولى ولا هي منها في شيء، وأنا في هذه المرة مؤيد له وقد كنت في الأولى عليه، وهذه مناظرة هادئة باسمة، وقد كانت تلك معركة صاخبة مجلجلة كالحة الوجه عابسة، وأنا أعرف الآن الأستاذ قطب وكنت أتخيَّله تخيلاً، والأستاذ خلَّاف أخي حقيقة، والأستاذ قطب رفيقي في دار العلوم سنها 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الفلسطيني الذي نشر ذلك في الرسالة إبَّان المعركة الأولى (معركة الرافعي والعقاد)، فأنا لست إذن غريباً عن المتناظرين. ... لخَّص الأستاذ قطب الخلاف بينه وبين الأستاذ خلاف، في كلمات هي أنه (هل من الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة، وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود)؟ وأجاب عليها بالنفي. وأنا أجيب كذلك بالنفي، ولكني أمهِّدُ لذلك بتحديد معنى الذهن أو العقل (كما أفهمه أنا)، ومعنى العاطفة، وهذه طريقة علمائنا في الجدل، إذ ربما اختلف اثنان، وما اختلافهما في الحقيقة إلا على معاني الألفاظ، فكلٌّ يريد بها شيئاً، وليس بينهما لفظ جامع يرجعان إليه، ويستقرَّان من بعدُ عليه. وأعترف بأن هذا التحديد لا يمكن أن يكون تاماً، ولا نستطيع أن نضع لِكُل من العقل والعاطفة التعريف الجامع المانع، أو (الحدَّ) الذي يريده أهل المنطق، لأن مدلول كل لفظ يدخل في مدلول الآخر، فهما كدائرتين متقاطعتين، ففي كلٍّ قسمٌ متميِّز مختص بها، ولكن فيها قسماً لايدرى أهو منها أم هو من الأخرى، ثم إنه لا يصدق التشبيه ولا يكمل إلا إذا تصورت في الدائرتين حركة دائمة كحركة المدِّ والجزر، فهما لا تسكنان أبداً. على أن الأمم كلها قديماً وحديثاً قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت

القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقرّ العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب: أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الأولون والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلاً، فتراءى لي أن منشأه، أن الإنسان الأول لما بدأ يضع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عليه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطرب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير أحسَّ بألم من رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحبّ، والله أعلم! ولما سَمَتِ البشرية ووضع عِلْمُ النفس، أقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنيَّة على المحاكمة، والحياة الفاعلة المعتمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيَوات حدوداً تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا وليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقل لا عاطفة معه إنما نسمي كلَّا بالغالب عليه والظاهر فيه، فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية. واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنها لا تخلو من محاكمة خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذَّني لأنه جميل، وهذا قد لذني، فهذا جميل. وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار، وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة تعتمد على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، أعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطراً في نفسها، وأثراً في حياة صاحبها، وليعرض كل قارئ أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيِّره، ووجد أنه قلَّ أن يعمل عملاً، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.

ولا بد بعد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟ أما أنا فأطلق العقل وأريد القضايا العقلية المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد بالعقل، ومن هنا نقول مثلاً إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً وصحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، ولاختلاف الذهنين في القضية الواحدة، مع ادِّعاء كل منهما أن حكم العقل معه. ولا بُدَّ أيضاً من التفريق بين خَيِّر العواطف وشرِّيرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العدوان، والحب الموصل إلى الرذيلة عاطفة شرّ. ... ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده، أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممدودةً مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث! الإيمان محلّه القلب لأنه أكبر من أن تتَّسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسَّات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن له حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا ذكر القضاء فأمسكوا» أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد عليّ الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوكاً يجدها، قال: أوجدت ذلك؟ قال: نعم، قال: استعذ بالله. ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها - وهاك الفيلسوف الأكبر كانتْ يؤلف كتاباً برأسه هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل

علم ميتافيزيك) علم ما وراء الطبيعة، وجرى على ذلك إمام الفلاسفة الوضعيين أوغست كونت. فالعقل إذن قاصر حكمه على ما يدرك بالحس، وليس عنده إلا مجموعة تجاربه الحسية، فإذا جاوزها كان كالعدم، وحسب العقل هواناً في المجرَّدات، أنه ينكر أقدس شيئين في الوجود ولا يستطيع أن يفهمهما: الحب والإيمان. سلِ العقل، ما الحب؟ ينبئك بأنه جنون! وما الفرق عند العقل بين ليلى ولبنى وسلمى وأي امرأة أخرى، ما دامت الغاية عنده الحمل والولد وبقاء النسل؟ ومن يُقْدم في الحرب على الموت، هل كان يقدم لو نزعت الحماسة من نفسه وهي عاطفة وتركته لعقله ولما يحسن العقل من محاكمات جافة؟ هل يجود لولا هزَّة الأريحية جواد بنوال؟ هل يقبل إنسان على تضحية أو بذل لولا العاطفة؟ هل يعرف العقل إلا المنفعة؟ لقد أحسن التعبير عن العقل المتنبي حين قال: الجود يفقر والإقدام قَتّال ... سيقول قائل، إن أساس الإيمان، الاعتقاد بوجود الله، فهل هو غريب عن العقل؟ لا، إن الاعتقاد بوجود الله من بديهيات العقل، فلا يعيش عقل بلا اعتقاد بإله كما يقول (دوركيم)، والإنسان بهذا المعنى حيوان ذو دين، وذلك لأن تجارب العقل ومحسَّات الحواس التي يستند في حكمه إليها، توصل حتماً إلى الاعتقاد بوجود إله، وسواء كان منشأ هذا الاعتقاد الخوف أو التطلع إلى المجهول، كما هو مبين في كتب الميتافيزيك، فلا شك في أنه بديهي، أما ما عداه من شُعَبِ الإيمان وأركانه، كمعرفة صفات الله، والإيمان بالمغيبات، والقضاء والقدر، فلا يستطيع العقل أن يقيم الدليل على نقضها ولكنه لا يستطيع أبداً فهمها، ولا أظنني بحاجة إلى بيان الفرق بين الاعتقاد بوجود شيء وبين فهمه ومعرفة حقيقته، هذا وليس من مصلحة الدين ولا المتدينين أن نخلِّي بين العقل

وما يجب الإيمان به، بل المصلحة بالاطمئنان العاطفي والتصديق القلبي وما يعقبه من اللذة والاطمئنان. وهؤلاء العلماء المتكلمون الذين كانوا من رأي الأستاذ خلاف والذين حاولوا أن يجعلوا الإيمان إيمان عقل، عادوا كلهم وأنابوا واعترفوا بأن الإيمان بالقلب، هذا (ابن رشد) وناهيك به، عاد فقال في تهافت التهافت (الذي يرد به على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة): لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات شيئاً يعتدُّ به (¬1) وهذا (الآمدي) وقف في المسائل الكبار وحار، و (الغزالي) انتهى إلى التصوف والتسليم، وهذا (الفخر الرازي) قال بعد تلك المؤلفات الطوال: «نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن، أقرأ في الإثبات، الرحمن على العرش استوى، وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» انتهى كلامه ... وكلامي! وعلى الأخوين الكريمين خلاف وقطب تحيتي وسلامي. ... ¬

_ (¬1) وهذا ما يقوله في العصر الحاضر (كانتْ) والفلاسفة الذين يُعْتدُّ بقولهم وهو الحق.

من غزل الفقهاء

من غزل الفقهاء نشرت سنة 1964 قال لي شيخ من المشايخ المتزمِّتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب: - ما لك وللحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزَّه الله نبيَّه عن الشعر، وترفَّع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرَّح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك لكان أشعر من لبيد ... فضحكت، وقلت له: - أما قمتَ مرة في السَّحر، فأحسست نسيم الليل الناعش!، وسكونه الناطق ... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟ أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزَّت منك وتر القلب، ومسَّت حبَّة الفؤاد؟ أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخواناً كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهداً كان ربيع العمر فتصرَّم الربيع، فوجدت فراغاً في نفسك، فتلفتَّ تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟ أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟ أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟

فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذه النفسية وآلامك، وبؤسك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس ... فمن هم أهل القلوب؟ إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر! إن البشر يكدّون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة، هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وإن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال بعدُ أسّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمْنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟ فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً، ولم يرجُ مستقبلًا، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً، فليس بإنسان. ... ومن قال لك يا سيدي إن الله نزَّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعراً كمن عرف من الشعراء وردّ عليهم قولهم: «إنه شاعر» لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم! وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف

شعوراً نبيلاً؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه. ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفَّعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيِّد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء؟ أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد ... ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورَّعت عن سماعه .. وتصاممت عنه، وحسبت أن التقى يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه قائله: وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذي ظَلم إذا ابتسمت ... كأنها مَنْهل بالراح معلول هيفاء مُقبلةً عجزاء مُدبرةً ... لا يشتكى قصر منها ولا طول وأن عمر كان يتمثَّل بما تكره أنت .. من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغَزِلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر: اليوم عندك دَلها وحديثها ... وغداً لغيرك كفها والمعصم وأن سعيد بن المسبِّب سمع مغنياً يغني: تضوَّع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال: وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات وعالت فتات المسك وحْفاً مُرَحَّلاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات وقامت تراءى يوم جُمَع (¬1) فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات فكانوا يرَون هذا الشعر لسعيد بن المسيِّب! ¬

_ (¬1) جُمَع: مزدلفة.

وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا سرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى. هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خُلقت هواك كما خلقت هوى لها فبك الذي زعمت بها وكلاكما ... يبدي لصاحبه الصبابة كلها ويبيت بين جوانحي حبّ لها ... لو كان تحت فراشها لأقلها ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد ضَحِيت إذن لأظلَّها وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها! فدنا فقال، لعلها معذورة ... من أجل رِقْبتها، فقلت: لعلها هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل! وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليداً، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين: قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به): ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك وما ألقى على بصري هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً لا يطفئها إلا الوصال: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء الماء أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتَّقد؟! وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لَمجلس

من عبيد الله لو كان حياً، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحرِّيك وشدة تحفُّظك؟ قال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئاً كثيراً، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء! وهو مع ذلك الشاعر الغزِل الذي يقول: شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفُطور تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: «لا بد للمصدور من أن ينفث» فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل: كتمتَ الهوى حتى أضرَّ بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى قد نم لو نفع النم وزادك إغراء بها طول بخلها ... عليك وأبلى لحم أعظمك الهم فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة ... على إثر هند أو كمن سقي السم (¬1) ألا من لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم تجنبت إتيان الحبيب تأثماً ... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم فذق هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا ربما كذب الزعم ألا إن هذا هو الشعري. ¬

_ (¬1) قال البكري في اللآلئ: هذا من المقلوب كخرق الثوب المسمار، وترجمة النهدي هذا في الأغاني جزء (19).

واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره. هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي، المتوفى سنة 622هـ فاسمع من شعره ماترقص منه القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له: وهواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله ومتى وشى واش إليكِ بأنه ... سال هواك فذاك من عذاله أو ليس للكلف المُعنَّى شاهد ... من حاله يغنيك عن تَسْآله جددتِ ثوبَ سقامة، وهتكتِ ... ستر غرامه، وصرمتِ حبل وصاله أفَزلَّة سبقتْ له أم خَلة ... مألوفة من تيهه ودلاله أو ما سمعت شعر الشيخ الشهرزوري الصوفي هاك منه قوله: فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفة ... عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري وغابت شموس الوصل عني وأظلمت ... مسالكه حتى تحيرت في أمري وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي إسحق الشيرازي: وإني لأبدي في هواك تجلداً ... وفي القلب مني لوعة وغليل فلا تحسبن أني سلوت فربما ... ترى صحة بالمرء وهو عليل وقول أبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا لعلمت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعا والبيت الثاني من مرقصات الشعر. وكان مع ذلك علامة في الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحوين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:

ومن كان في طول الهوى ذاق لذة ... فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور، المتوفى سنة 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم ما فارقتكم. ويقول: سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف فوالله ما فارقتها عن قِلَى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت عليَّ بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف ويقول فيها: بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق وهو معنى جيد وتشبيه عجيب. وهو القائل: متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وإنَّ ترفُّع الوضعاء يوماً ... على الرُّفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله: ونائمة قبَّلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ فقلت لها إني (فديتك) غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد

خذيها وكفي عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد فباتت يميني وهي هِميان خصرها! ... وباتت يساري وهي واسطة العقد فقالت ألم تخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء صاحب الأبيات المعلمة المشهورة: يقولون: لي فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما وإني إذا فاتني الأمر لم أبت ... أقلب طرفي إثره متذمما ولكنه إن جاء عفواً قبلته ... وإن مال لم أتبعه لولا وربما وأقبض خطوي عن أمور كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العرض مكرما وأكرم نفسي أن أضاحك عابساً ... وأن أتلقى بالمديح مذمما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة؟ ... إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما ويا ليت كل عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه! والأبيات الأخرى: وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر

وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غَزَله فسهل حلو ومنه قوله: ما لي وما لك يا فراق ... أبداً رحيل وانطلاق يا نفس موتي بعدهم ... فكذا يكون الاشتياق وقوله: قد برح الحب بمشتاقك ... فأَوْلِهِ أحسن أخلاقك لا تجفه وارع له حقه ... فإنه آخر عشاقك وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من أهل القرن الثالث الذي يقول: سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عواري في أجلادها تتكسر وأخليت منها مخَّها فكأنها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر إذا سمعت باسم الفراق ترعدت ... مفاصلها من هول ما تتحذر خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنني أتستر! وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنها روح تذوب فتقطر وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيَّمَه حبه، قال القاضي التبريزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت ههنا. وألقى عليَّ فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما: أنا والله هالك ... آيس من سلامتي أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي ولما فشا أمره، منع الملك ابنه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال: إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي

لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمد إذا لم تركب لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي ومن البلية والرزية أنني ... أقضي ولا تدري الذي قد حل بي (¬1) قسماً بوجهك وهو بدر طالع ... وبليل طرَّتك التي كالغيهب لو لم أكن في رتبة أرعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولو ألح مؤنبي لكن خشيت بأن يقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي فارحم فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذيَّاك النبي لا تفضحن بحبك الصبَّ الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب وله فيه شعر كثير جداً. ومن شعر محمد بن داود الظاهري، وكان فقيهاً على مذهب أبيه داود وكان شاعراً: أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما ومن شعر أبي الفضل الحصكفي (¬2) الفقيه الشافعي: أشكو إلى الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي ومن سقامين: سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل في جسدي ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سري وواش منه بالرصد ومن ضعيفين: صبري حين أبصره ... ووده ويراه الناس طوع يدي ... ¬

_ (¬1) بل البلية والله أن تكون قاضيا وتعشق الغلمان! (¬2) نسبة إلى حصن كيفا في العراق، وأظنه هو المعروف اليوم بتل كيف، والتحقيق عند صديقنا الأستاذ العزاوي.

ولو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتاباً، فأين بعد هذا يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟ أما إنها لم تفلَّ ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر ... فهل لعلمائنا عودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟! ***

مقالة في التحليل الأدبي

مقالة في التحليل الأدبي نشرت سنة 1934 لما هممت بكتابة هذه المقالة، عرضت الفكرة على طالب من طلاب البكالوريا فأعرض عنها، وعجب مني إذ أخمِّلُ المسألة ما لا تطيق، وأنفق فيها من الجهد ما لا تحتاج إلى بعضه، وهي في ذاتها أيسر مما أظن ... وشرح لي كيف يكون هذا اليسر، فإذا المسألة كلها في استظهار الطالب طائفة من آراء النقاد القدماء والمحدثين في الأديب الذي يكلف بدراسته، وطائفة من آثاره الأدبية - أو أن يستظهر ما يسمعه من الأستاذ، أو يراه في كتاب ويكون له صلة لهذا الأديب، يصب ذلك كله في صحيفة الامتحان، فينجح ويحمل هذه الورقة السحرية .. فإذا كان له ذلك فهو منصرف عن الأدب ما عاش ... ومعنى هذا أنه يرى الأدب شراً، ولكنه -كما قال شيشرون عن الزواج- شرٌّ لا بد منه فهو يحمل منه أقل قسط ينجيه من هول الامتحان، ثم يقذف به ويفر منه ... ونحن نعيذ طلاب البكالوريا أن يكون رأيهم كلهم في الأدب، كرأي صاحبنا هذا وأن يكون همهم جواز الامتحان، وحمل الشهادة، لا درس الأدب لذاته، وإدراك لذَّته، وتلقيه على أنه مظهر من مظاهر الجمال السامي. ونعيذ صفوف البكالوريا من هذا الجمود، أن تستمر فيه. وأن تسلك أبداً هذه المناهج الملتوية التي لا تبلغ بسالكها الغاية، ولا تخرج للناس من تلاميذها كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً ولا شاعراً مطبوعاً .. ولا تأخذ بيد الحركة الأدبية في الشام، فتقيلها عثرتها، وتنهض بها منذ كبوتها. ونعيذ الوزارة من هذا البرنامج، أن تثبت عليه وأن تضطر الطلاب أبداً إلى دراسة هؤلاء الشعراء الماجنين وتفهم أشعارهم، والإحاطة بأخبارهم، وفي ذلك كله أشياء لا ترضى عنها الأخلاق، ولا تستقيم مع الحياء والعفاف. وإذا كان الأدب لا يهتم بالأخلاق ولا يمتنع من

درس الأدباء الجادين والماجنين على السواء، فإن الأمة تهتم بأخلاقها، والأدب شيء كمالي، أما الأخلاق فهي سر حياة الأمم، (فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا)! الحقيقة في الأدب: وأول ما ننبه إليه إخواننا طلاب البكالوريا هو أن الأدب لا يعرف الجزم في الحكم، ولا يستطيع أن يقول هذا قانون التحليل الأدبي، وهذا قانون النقد، كما يقول صاحب الطبيعة هذا قانون السقوط، وهذا قانون الجذب، وكما يقول صاحب الرياضيات هذا قانون تساوي المثلثات وهذا قانون التابع ... أي أن الأدب ليس فيه حقيقة كالحقيقة العلمية الموضوعية (Objectif) ولكن فيه حقائق نسبية ذاتية (Subjectif) وإني إذا وضعت للتحليل منهجاً، وعرضته في هذه المقالة. فلن أحمل أحداً على هذا المنهج، ولن أدَّعي أنه المتفرد بالصحة والاستقامة، ولكني أبين عن رأيي واجتهادي، وأنت إذا بحثت يوم الامتحان بحثاً دقيقاً، سرت فيه على طريق واضحة مستقيمة، فبلغت غاية لايرضاها الأساتذة المميزون أو خرجت برأي لا يرونه، فليس يحق لهم أن يتخذوا رأيهم مقياساً، وأن يعدوك مخطئاً، لأن تاريخ الأدب لم يدخل بعد في حظيرة العلوم. الأدب: والأدب هو مجموع الآثار الجميلة في لغة من اللغات. أو عصر من عصور هذه اللغة، فالأدب العباسي هو مجموع الأشعار التي تركها لنا شعراء هذا العصر من لدن بشار إلى أبي تمام إلى المتنبي إلى المعري، والرسائل التي خلفها كتابه من ابن المقنع وابن مسعدة، إلى ابن العميد والصاحب، والخطب التي ورثناها عن داود بن علي وشبيب بن شيبة وغير هذا وذاك - والأدب الفرنسي في القرن السابع عشر هو مجموع القصص التي وضعها كورناي وراسين، والمهازل التي ألفها موليير، والحكايات التي صنَّفها لافونتين، وكل كلام بليغ، ومقال شريف، أثر عن أهل ذلك الزمان، وكل ما يهز النفس، ويوقظ فيها الحسَّ بالجمال.

النقد: الأدباء هم الذين ينتجون هذه الآثار، وينسجونها من خيالاتهم وأفكارهم، أما النقَّاد فهم الذين يَزِنون هذه الآثار ويقوِّمونها. والنقد هو عرض هذه الآثار على الميزان الذي يتخذه الناقد لنفسه، والمبدأ الذي يصدر عنه في أحكامه. والنقد نقدان: نقد صوري (de forme) ونقد معنوي (de fond) والميزان في الأول اللغة وقواعدها وعلومها. مما لا مجال للرأي فيه ولا سبيل إلى الاختلاف في شيء منه. والميزان في الثاني مذهب الناقد الذي اتخذه لنفسه، وآمن به. ولكنك إذا حققت لم تجد في هذا المذهب إلا رأي الناقد وصورة من نفسه وأسلوبه. مهما حاول النقاد إثبات الموضوعية لمذاهبهم. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يتجرد في نقده من نفسه، وأن يبرأ من أسلوبه. ولعلي لا أكون مغالياً إذا قلت: إن النقد هو الموازنة بين أسلوبين ذاتيين ليس إلا! تاريخ الأدب: أما تاريخ الأدب فهو المرحلة التي تلي مرحلة النقد. بل هو الشكل الكامل للنقد. وهو تصنيف الآثار الأدبية (Classification) وبيان تسلسلها وارتباطها بما قبلها وما بعدها. وبعبارة جامعة هو كما يقول بعض الإفرنج: «مجموع القواعد المتعلقة بآثار الفكر والخيال» - وتاريخ الأدب أقرب إلى العلم من الأدب نفسه وإن لم يصبح بعد في مرتبة العلوم. عناصر التحليل الأدبي: إن على مؤرخ الأدب عند تأريخه أديباً، وتحليل شخصيته. أن يدرسه من حيث هو رجل له شخصية متميزة كوَّنتها طائفة من العوامل، ونتج عنها طائفة من الأخلاق والسجايا. ومن حيث هو أديب له آثار أدبية تتصل بنفسه صلة

ضعيفة أو قوية، ولها في سلسلة الآثار الأدبية مكان خفي أو ظاهر: أي أن يعرف العوامل التي عملت في تكوين الأديب- ويقف على ميول الأديب وأخلاقه- ويطلع على ترجمته وأخباره- ثم يعمد إلى أدبه فيفهم نصوصه ويحللها- وينظر مقدار صلته بنفس صاحبه- ومقدار تأثيره في عصره- وينطوي تحت كل جملة من هذه الجمل، عنصر من عناصر التحليل الأدبي. العوامل التي تعمل في تكوين الأديب: هل إلى حصر هذه العوامل من سبيل؟ هل تستطيع أن تعرف العوامل التي كوَّنت شخصيتك؟ هل تعرف كل خلق من أخلاقك، وطبع من طباعك، من أين مصدره، وما هو منحدره إلى نفسك؟ إن الشخصية تتكون في الإنسان تبعاً لماضيه، والأعمال التي قام بها في هذا الماضي والمكانة التي تبوَّأها، والخطيئات التي ارتكبها، وتتكون تبعاً لحاضره، فتختلف باختلاف منزلته في الحياة، والمرتبة التي حازها، والشهرة التي نالها، والمال الذي حصَّله، وتتكون تبعاً لمستقبله، والآمال التي يحملها في صدره، والسبل التي مهدها لبلوغ تلك الآمال، تتكون شخصية الإنسان تبعاً لعوامل كثيرة معقَّدة، منها الظاهر ومنها الخفي. ولا سبيل إلى استعراضها كلها، ولكنا نستعرض طائفة من العوامل نعتقد أنها ذات الأثر الأكبر في تكوين الأدباء. هي: الزمان - والبيئة - والثقافة - والوراثة - والتكوين الجسمي. الزمان: على إخواننا طلاب البكالوريا أن يتنبَّهوا إذا أخذوا في الكلام على زمان الشاعر، كيلا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه كثيرون، ويحترسوا من أن يكون كلامهم على الزمان كلام مؤرِّخ إذ إن المؤرخ يؤرخ كل شيء، ينال ببحثه السياسة والحروب، والعلم والعادات، وبلاط الملوك ومجامع السوقة، أما مؤرخ الأدب فلا ينبغي له أن ينصرف إلا إلى شيء واحد، يقصر عليه بحثه ويبذل في اكتشافه جهده، هو (الذوق الأدبي العام). لكل عصر ذوق أدبي عام خاص به، والأديب في كل عصر يحسُّ بضغط

هذا الذوق عليه وسلبه إياه شيئاً من حريته، ولا أحْسَبُ أن أبا نواس مثلاً كان يستطيع أن ينظم هذا الشعر المخجل (¬1) لو أنه كان في وسط لايقبل ذوقه الأدبي، هذا النوع من الشعر. وأرجو أن لا يفهم مني القراء أن عصر أبي نواس كان عصر مجون وتهتك، فما هذا أردت ولكني أردت أن أقول إن زمان أبي نواس كان فيه من يتذوق هذا النوع من الأدب ويسيغه، كما أن في زماننا من يتذوقه ويسيغه، ويردده بمناسبة وغير مناسبة! على أن الذوق الأدبي العام، ليس إلا نتيجة لهذه الحوادث السياسية والاجتماعية والعلمية فإذا نحن ألممنا بهذه الحوادث واستنبطنا منها طبيعة هذا الأثر من الوضوح، إذ إن الأدباء لا يتأثَّرون بالزمان على مقياس واحد، ولايخضعون له خضوعاً مطلقاً، بل قد ينشأ فيهم من يتمرَّد على هذا الذوق ويَخْرقه، ويقيم نفسه عدوّاً له. غير أن العداء لا يخرج في رأينا عن أن يكون (عملاً منعكساً) عن تأثير هذا الذوق فيه ولن تجد أديباً في نجوة من تأثير الزمان أو البيئة. البيئة: أما الزمان فقد عرفت أننا نعني به الذوق الأدبي العام، فماذا نعني بالبيئة؟ إن البيئة هي هذا الوسط الذي يعيش فيه الشاعر، وهذه البقعة التي يستنشق هواءها، ويتمتَّع بمشاهدها، ويرى وجوه أهلها، ويتكلم بكلامهم، ويقتبس عاداتهم، فيؤثِّر ذلك فيه من حيث يشعر أو لا يشعر ولهذا بالغ بعض النقَّاد في تقدير أثر البيئة في الأدباء، حتى زعموا أن الأديب ليس له من الأمر شيء، وما هو إلَّا مرآة تنعكس فيها صُوَر البيئة وأشكالها، وسواء أكنَّا من أصحاب هذا الرأي أم لم نكن، فإن البيئة من أكبر العوامل في تكوين أخلاق إلانسان. وإن البيئة الصالحة يكون حصادها أناساً صالحين، والبيئة الفاسدة تكون ثمرتها أناساً فاسدين، بل إن الرفاق وهم بعض من هذا الكلِّ الذي نسمِّيه البيئة، يرجع إليهم الفضل في صلاح رفيقهم وعليهم الوزر في فساده. ¬

_ (¬1) في أدباء الغرب كثيرون على غرار أبي نواس كويلد الإنكليزي وجيد الفرنسي!

فليس إذن لمؤرِّخ الأدب بدٌّ من العناية بدرس البيئة وأثرها في الأديب: أي لا بدَّ له من أن يعرف بلد الأديب وطبيعة هذا البلد، وأخلاق أهله، وحالته الاجتماعية، وأن يعرف -معرفة أدقّ- أسرة هذا الأديب، والطريقة التي تربِّي عليها أبناءها، والأخلاق التي تأخذهم بها، وأن يعرف كيف نشأ هذا الأديب، ومن هم رفاقه، وعلى الجملة فعلى مؤرخ الأدب أن ينقِّب عن كل ما له صلة بالشاعر، ووسطه الذي نشأ فيه، وأثر ذلك في تكوين أخلاقه وأدبه ولك في بشَّار وأبي نواس، بل لك ما الأدباء المعاصرين الذين تقرأ لهم وتحبّهم، دليل على قوة هذا الأثر. فلو نشأ أبو نواس في بيئة تقيَّة وَرِعة، ولو نشأ بشَّار في بيئة رفيعة نبيلة، بل لو نشأ أديب من أدباء مصر البارزين في بيئة قروية منعزلة لما كان أبو نواس ولما كان بشَّار ولما كان الأديب على الحال التي تعرفه عليها. كل هذا واضح لا مشقة في فهمه - ولكن المشقة في تطبيقه، والعُسْر كل العسر في درس هذه البيئة (بالنسبة لمؤرخ الأدب العربي على التخصيص) لأن الباحث المحقِّق الذي ألف البحث واستجابت له المراجع؛ يعجز عن أن يلقى في كتب الأدب العربي أخبار كثيرين من أعلام الأدب في شبابهم، ووصف أسرهم وأصحابهم ليؤلِّف منها صورة للبيئة، فما بالك بطالب البكالوريا الذي لم يعرف -وأحسبه لن يعرف بعد- كيف يفتِّش عن مسألة من المسائل في المكتبة العربية القديمة ولا يدري كيف يوفِّق بين الروايات المتضاربة والأخبار المتباينة، وكيف يصبر على تلاوة هذه التراجم والأخبار المتفرِّقة في عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة منثورة فيها نثراً بلا نظام ولا ترتيب، وإذا هو صبر وعرف كيف يفتش فلن يصل إلى شيء كثير - لأن كثيرين من أعلام الأدب كالجاحظ والبحتري مثلاً قد فقدت سِيَرُهمْ في شبابهم مرَّة واحدة. الثقافة: وهناك عامل آخر غير عامل البيئة له أثر كبير في تكوين الأديب، وقد يغلب في كثير من الأحيان على عامل البيئة وقد يقضي عليه ويمحو آثاره، ذلك هو عامل الثقافة، وفي كل إنسان -كما يقول غوستاف لوبون- شخصان مختلفان يتصارعان على الاستئثار بنفسه، والغلبة عليها، أولهما هذا الذي كوَّنته

البيئة، وثانيهما هذا الذي كوَّنته الثقافة. وليس في هذا القول شيء من الغلوّ، بل هو الحقيقة بعينها نراها في حياتنا اليومية في الكثير من الشباب الناشئين في بيئة عربية إسلامية؛ إذ تخالط قلوبهم الثقافة الغربية المشوَّهة، فلا تلبث حتى تجعل منهم شبَّاناً ملحدين؛ يعادون العربية ويؤذون الإسلام. وإن عاملاً له هذه القوَّة، لا بد لمؤرِّخ الأدب من العناية به، والجدِّ في درسه، ومن أن ينظر فيمن يدرس من الأدباء، هل كان نصيبه من الثقافة كبيراً؟ وما هو لون هذه الثقافة؟ وعمَّن تلقَّاها؟ وما هو أثرها في نفسه؟ وما هو أثرها في أدبه؟ هل استطاعت أن تعدِّل أثر البيئة؟ أو تضعفه؟ هل بدَّلت أخلاق الأديب وسجاياه؟ هل هضمها أم ظهرت كما هي في آثاره الأدبية؟ ما هي الصلة بين فلسفة المعرِّي وثقافته التي حصَّلها؟ ما هو عمل ثقافة الجاحظ في تكوين أدب الجاحظ؟ ثم إننا حيال لونين من ألوان الثقافة: الثقافة اللغوية - إن صحَّ تسميتها ثقافة - ولها عمل كبير في تكوين الأدباء العباسيين الذين كانوا عرباً فسدت لغاتهم، أو من غير العرب، ولم يكن لهم سبيل إلى إتقان العربية إلا بالتعلُّم والدرس والمثابرة، وكثرة الخروج إلى البوادي التي كانت تحتفظ بلغتها الأولى الصحيحة، وهذه الثقافة لا بدَّ منها، لأن اللغة هي وسيلة الإبانة والتعبير عما في النفس، ولايقوي الأدب إلَّا عليها، وعلى مقدار تفاوت حظوظ الأدباء منها تتفاوت حظوظهم من البلاغة والبيان. والثقافة الفكرية -أو الثقافة على الإطلاق- من دين وعلم وفلسفة، لم يكن للأدباء حظ واحد منها، وإنَّا لنعرف من الأدباء العباسيين من يجهلها مرَّة واحدة، وقد نسيت أن أستثني الدِّين الذي لم يكن يجهله (ولا ينبغي أن يجهله) أحد، ونعرف منهم من ألمَّ منها بطرف، ونعرف قليلاً من الأدباء كالجاحظ والمعري كان لهم منها أوفر نصيب. والخلاصة أن على طالب البكالوريا أن يعرف ميل الأديب إلى الثقافة ومبلغ اتِّصاله بها؛ ويعرف من هم شيوخه الذين أقرؤوه، وما هي الفنون التي قرأها، وما هو مبلغ تأثير ذلك في أدبه.

الوراثة: وللوراثة عملٌ في تكوين الأديب، ولكنه دون عمل الزمان والبيئة والثقافة، ولسنا نعني بالوراثة ما يرثه المرء عن أبيه من ميول وأخلاق فقط، بل نعني بها وراثة الدم، نعني هذه الصفات وهذه المزايا التي يمتاز بها شعب من الشعوب، والتي تظهر في أفراد هذا الشعب جميعاً، ولم لا؟ ألا تفهم إذا قيل لك (فلان إنكليزي) أنه بارد الدم لا يثيره شيء؟ ألا تفهم إذا قلت لك إني عربي أني رجل مروءة وشرف وأني لا أصبر على الضيم؟ ألا تشعر أن بعضاً من الصفات قد تقترن في نفسك ببعض الشعوب؟ هذه هي الوراثة التي أعنيها، وقد بسطت آراء الفلاسفة فيها في غير هذه المقالة (¬1)، فما أحب أن أعيدها هنا، وما كتبت هذه المقالة إلَّا موجزاً ما استطعت الإيجاز، ولكني أحب أن أظهرك على أنهم على خلاف في أمر هذه الوراثة، وأن من يقول بها لا يستطيع أن يثبتها أو يضع لها قانوناً كقانون ماندال في النوع الآخر من الوراثة وأن بعض المستشرقين المعروفين ممن يقول بها قد توصَّل إلى وصف الخيال السامي بأنه واسع وقليل العمق، والخيال الآري بأنه ضيق وعميق، أي أن السامي يصف لك أشياء كثيرة وصفاً سطحياً، والآري يصف شيئاً واحداً وصفاً عميقاً دقيقاً. وإذا نحن فرضنا هذا صحيحاً أو قريباً من الصحيح نستطيع أن نجد له أدلة من أدبنا في هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين امتازوا بالوصف الدقيق وكانوا جميعاً من غير العرب كبشَّار وابن الرومي وابن حمديس، ونحن إذا فرضناه صحيحاً نستطيع أن نتكئ عليه في بحثنا. التكوين الجسمي: ألا يؤثِّر التكوين الجسمي في التكوين الأدبي؟ أليست الحواسُّ منافذ النفس التي تطلّ منها على العالم الخارجي؟ أليس كل ما في النفس مستمداً من العالم؟ إذن فلِقوَّة الحواسِّ وضعفها، ولمتانة الجملة العصبية وتهافتها، عمل كبير ¬

_ (¬1) في كتابي عن بشار، المطبوع سنة 1930 وهو من آثار الشباب وقد نفدت نسخه من سنين طوال ولست أنوي إعادة طبعه الآن ...

في تكوين الأخلاق والميول، أي في تكوين الشخصية الأدبية .. وإذن فبنية بشَّار وحيويَّته المتدفقة، ومعدته القوية، هي التي صنعت غزل بشَّار، ولا غرابة في ذلك فإن خمسة غرامات من السكَّر في بول أشد الناس كفراً وإلحاداً، تجعله -كما يقول أناتول فرانس- أشد الناس إيماناً، وإذن فجمال أبي نواس، وطراوة جسمه، وبياض بشرته سبب نبوغ أبي نواس الشعري ... ولو أن بشَّاراً كان مسلولاً، ضعيف البنية، مهدود الجسم، لما مال إلى المرأة، ولما تغزَّل فيها هذا الغزل الزاخر بالميل الجنسي، ولو أن أبا نواس كان غلاماً بشعاً قبيحاً، لما حمله والبة معه، ولما علَّمه الشعر ولكان أجيراً ذكياً، يطوي الزمان ذكره كما طوى ذكر الملايين من أمثاله (¬1)! وطالب البكالوريا يدرك مقدار ما بين الجهاز الهضمي والجملة العصبيَّة من صلة، ويعرف أن التبدُّل الفيزيائي والكيميائي في ناحية من نواحي هذا الجهاز، يلازمه اضطراب في ناحية من الشخصية أي يلازمه اضطراب نفسي، بل إن قبضاً في الأمعاء، يلزم عنه صداع في الرأس يبدّل نظر المرء إلى الدنيا، فيجعله يائساً حزيناً إن كان شاعراً، ومتشائماً إن كان فيلسوفاً، أي أن الأدب والفلسفة قد يبدِّل طريقهما، ويحولهما عن وجهتهما، فنجان من زيت الخروع، أو حبَّة من البولدولاكسين ... وهذا بحث واسع جداً. قد يجرّنا الإيغال فيه إلى شهود المعركة التي لا تنقضي بين الفلاسفة الروحيين والماديين ... وكل ما يعنينا هنا أن هذا العامل من العوامل القويَّة في تكوين شخصيَّة الأديب، وإن لم يكن كما يرى بعض النقَّاد الذين غالوا في تقديره حتى قال أحدهم: صِفُوا لي الجملة العصبيَّة عند أديب أصف لكم أدبه. ميول الأديب وأخلاقه - حياته: فإذا نحن درسنا هذه العوامل وعرفنا أثرها في الأديب، انصرفنا إلى درس هذا الأديب نفسه، ودرس الأديب لا يكون باستظهار آثاره الأدبية فقط، ولا يكون بجمع أخباره وحوادثه، ولا يكون بإحصاء آراء النقاد فيه، أعني أن ¬

_ (¬1) ويا ليته طوى ذكره، وكفَّ عنا شرَّه.

الدرس لا يكون بواحد من هذه الأشياء، بل بها كلها، بل إنه يكون قبل هذه كلها، وبعد هذه كلها، بدرس ميوله وأخلاقه - قلت إن معرفة الميول والأخلاق قبل أخبار الرجل وآثاره الأدبية، لأنها هي الوسيلة إلى تمحيص الأخبار، وفهم الآثار الأدبية فهماً صحيحاً، والحكم عليها حكماً مستقيماً، وقلت إنها بعد الأخبار والآثار، لأنها لا تستنبط إلا منها. على أن هذه الصلة بين أخلاق الأديب وآثاره، ليست وثيقة في أدبنا كما هي في الآداب الغربية، وليس كل شعر نقرؤه في العربية يمثل أخلاق صاحبه وميوله، ولو أن ناقداً اقتصر في بحثه على تحليل الآثار الأدبية لشاعر عربي من غير أن يدرس حياته، وآراء النقَّاد فيه، لكانت نتيجة بحثه بعيدة كل البعد عن الحقيقة، بل إنه سيعتقد أن أبا العلاء كان من الشجعان المغاوير الذين لا يبالون بشيء كما يصوِّر نفسه في قصيدته اللامية، وأن أبا نواس كان متنسِّكاً مشتغلاً بإثبات الوحدانية والاعتبار بمخلوقات الله كما يبدو في مقطوعاته الزهدية! فلا بد إذن من العناية بآراء النقَّاد المعاصرين للأديب، وحكمهم عليه، على شرط أن يتنبَّه طالب البكالوريا إلى صلة هذا الناقد بالأديب، إلى ما بينهما من صداقة أو عداوة وأن يقدِّر قيمة الحكم بمقدار تنزُّهه عن الأغراض النفسية وبعده عن الرضا والسخط - كما يقدِّر القاضي قيمة الشهادة بمثل هذا المقياس. ولا بد له إذن من العناية بترجمة الأديب، وتاريخ حياته ولا بد له من تمحيص الرواية والتثبُّت منها قبل الاعتماد عليها. وليست ترجمة الأديب كما يظنُّ طائفة من الأساتذة - عملاً لا أهمية له، بل هي في الغاية من الأهمية واللزوم، وسرد حياة العظيم -مهما كان نوع هذه العظمة- أبلغ في الدلالة على هذا العظيم من درس خال من الأخبار والحوادث. وإذا أنكر بعض النقَّاد المعاصرين قيمة التراجم فإنما ينكرون الاقتصار عليها، والقناعة من البحث الأدبي بتاريخ ولادة الأديب ووفاته وسرد طائفة من أخباره. أما درس هذه الأخبار واستنباط أخلاق الشاعر منها، ومبلغ ظهور هذه الأخلاق في شعره، فلا يستطيع أن ينكره أحد، وماذا يبقى إذا محونا حياة الأديب؟ وكيف نبني البحث الأدبي إذا نحن أهملنا مواد البناء؟

فدرس حياة الأديب عمل في غاية الأهمية. وهذا البعد بين أخلاق الأديب وأدبه، الذي نلمسه أحياناً في أدبنا يزيد هذه الأهمية، ويحفزنا إلى الدقَّة والعناية بدرس أخلاق الأديب لندرس مقدار الصلة بينها وبين أدبه - وليس يكفينا أن نفهم غزل بشَّار دون أن نعرف شيئاً عن حبِّ بشَار: كيف كان يفهم الحب؟ وهل كان يحب هذه التي يتغزَّل بها؟ وإذا قرأنا فخر المتنبي وجب علينا أن نفهم شعور المتنبي بعزَّة النفس ويجب أن نفهم إباء المتنبي وكبرياءه. وإذا قرأنا مديحاً للبحتري وجب علينا أن نعرف مقدار تعبيره عما في نفسه وأن نعرف وفاء البحتري ومبلغ اعترافه بالجميل ... دراسة الآثار الأدبية: كل ما مرَّ بك إنما هو دراسة للرجل، والرجل بآثاره، بها يخلد، وبها يسمو على الألوف المؤلَّفة من أهل زمانه، الذين ضاعت أجسادهم في بطن الأرض، وضاعت أسماؤهم وذكرياتهم في بطن التاريخ، ونحن لا نصنع شيئاً حين ندرس الرجل ونهمل درس آثاره، ولا بدَّ لنا من العناية بهذه الآثار، ولا بد لنا من تحليلها وتصنيفها؛ واكتشاف مصادرها ومواردها، إذ إن الأثر الأدبي هو القسم المضيء من خط طويل غاب طرفاه في الظلام. ومن العبث أن نفتِّش عن فكرة أو صورة انبثقت من صدر صاحبها كاملة، ولم يكن لها بداية سبقه إليها غيره؛ ومن العبث أن نقول إن هذا الشاعر قد جاء بشيء جديد في جوهره وشكله، لأن النفس الإنسانية لا يخرج منها إلا ما دخل إليها من العالم الخارجي، فهي مصنع يأخذ المواد الأولية، ويعطي مصنوعات نافعة جميلة، ولكنه لا ينشئ شيئاً بلا مواد (¬1) ... وإذا اعتقد بهذا إخواننا طلَّاب البكالوريا كان لهم في الاقتباس الشعري، ¬

_ (¬1) هذا هو رأي الفيلسوف لوك والتجريبيين. وهو نفحة من حديث: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجسانه» رواه البخاري.

وفي السرقات الشعرية، رأي غير الذي يلقِّنهم إيَّاه مدرِّسوهم - وكنا نحبُّ أن نناقش هذا الرأي لولا أننا نريد الإيجاز ما استطعنا. فهم النصوص وتحليلها: إن أول ما يجب على الطالب عند درس الأثر الأدبي هو فهمه، وليس في الإمكان دراسة قصيدة أو قصَّة لم يفهمها صاحب الدرس، وليس في الإمكان فهم القصيدة، ولا سيَّما القصيدة من الشعر الجاهلي، إلا بالاطِّلاع الواسع على اللغة وقواعدها وعلومها. واللغة وقواعدها وعلومها مهملة بعض الإهمال في صفوف البكالوريا، وكثير من طلاب هذه الصفوف لم يتمكَّنوا من النحو والصرف والبلاغة؛ بل لا أغالي إذا قلت إن فيهم من لا يعرف كيف يفتِّش عن كلمة في اللسان أو القاموس، ومن لا يقيم لسانه في قراءة صفحة من كتاب، وهؤلاء يسترون ضعفهم بحفظ طائفة من الأشعار والرسائل، أو على الأصلح بحفظ كلماتها بالحركات التي تجري عليها ألسنتهم (¬1) والمعنى الذي يبتدر إلى أذهانهم، وكتابتها في ورقة الفحص؛ والفحص كتابي يأمنون فيه أن يفاجؤوا بسؤال يكشف عن ضلالهم في الفهم - في حين أن لدراسة الأدب غاية أسمى من جواز الفحص، والسعي وراء شهادة هي كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ... ووجد تعبه قد ذهب في غير طائل ... والوصول إلى هذه الغاية لا يكون إلا من سبيل فهم الآثار الأدبية حقَّ فهمها وذلك بفهم: كلماتها المفردة، والاستعانة بالمعاجم على تفسير غريبها؛ وحل عويلها - ثم فهم جملها؛ والرجوع في المشكل منها إلى أمثال العصر ومصطلحاته وشروح الشرَّاح ومذاهبهم - ثم فهم معنى القطعة كلها، وبيان أقسامها وتعيين الخطَّة التي يسير عليها الأديب حين يعرض الفكرة على القارئ، وبعبارة أخرى معرفة طريقة تفكير الأديب، ومقدار انسجام الفكرة، أو مبلغ تفكُّكِها - هذا إن كانت القطعة الأدبية فكرية، فإن كانت وصفيَّة بحث عن الصور وجمالها وارتباطها ¬

_ (¬1) هذا كلام قيل من ست وعشرين سنة فما بالك بالطلاب الآن: ربَّ يومٍ بكيتُ منه فلما ... صرتُ في غيره بكيتُ عليه

وتسلسلها، لأن الفكرة عماد الأولى، والصورة عماد الثانية ثم التفتيش عن طابع الأديب أي مقارنة هذه القطعة بسائر آثار الأديب، وتحرِّي روح الأديب وأسلوبه فيها، ولنضرب على ذلك مثلاً ابن المقفَّع وابن المقفَّع حين يريد الكلام في فكرة من الفكر، يعرضها موجزة على القارئ كما تعرض الدعوى الرياضية، ثم يثبتها بالجدل أو بالمثال كما يثبت صاحب الرياضة دعواه، ثم يسوق لك نتيجة هذا الجدل، أو مغزى هذا المثل، وإذا هي الفكرة بعينها، وإذا هو كالرياضي ينتهي به الإثبات من حيث بدأ الدعوى (وهو المطلوب!). وإني عارض عليك فقرة من كليلة ودمنة من الباب الذي أجمعوا على أنه لابن المقفَّع، وهو باب غرض الكتاب ولم أتخيَّرها تخيُّراً وإنما أخذتها كما اتَّفق، قال: (ومن استكثر من جمع العلوم، وقراءة الكتب، من غير إعمال الرويَّة كان خليقاً أن يصيبه ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز فظهر له موضع آثار الكنوز، فجعل يحفر ويطلب فوقع على شيء من عين وورق، فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلاً قليلاً طال علي وقطعني الاشتغال بنقله وإحرازه عن اللذَّة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواماً يحملونه إلى منزلي وأكون أنا آخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيء يشغل فكري بفعله، وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكدِّ بيسير أجرة أعطيها لهم، ثم جاء بالحمَّالين فجعل يحمل كل واحد منهم ما يطيق فينطلق به إلى منزله فيفوز به حتى إذا لم يبق منه الكنز شيء انطلق خلفهم إلى منزله فلم يجد فيه من المال شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، وإذا كل واحد من الحمَّالين قد فاز بما حمله لنفسه ولم يكن له من ذلك إلا العناء والتعب لأنه لم يفكر في آخر أمره). وهاك مثالاً آخر، تجد فيه الطريقة بعينها، كما تجدها في جميع آثار ابن المقفَّع الفنيَّة، وكدت أقول القصصية، وهذا المثال تتمة الكلام السابق؛ قال: (الفكرة) وكذلك من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه

ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطِّه ونقشه (المثال) كما لو أن رجلاً قدم له جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره. (المثال الثاني) وكان أيضاً كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس فأتى صديقاً له من العلماء، له علم بالفصاحة فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه، فانصرف إلى منزله فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها، ثم إنه جلس ذات يوم في محفل من أهل العلم والأدب فأخذ في محاورتهم فجرت له كلمة أخطأ فيها فقال له بعض الجماعة إنك قد أخطأت والوجه غير ما تكلمت به، فقال كيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهي في منزلي! (النتيجة) فكانت مقالته لهم أوجب للحجَّة عليه. وزاده ذلك قرباً من الجهل وبعداً من الأدب. ثم المقارنة بين هذه الطريقة التي يسير عليها الأديب في تفكيره، واللون الذي يصبغ به أدبه، وبين طريقة غيره من الأدباء. ... كل هذا من ناحية المعنى، ومن جهة طريقة التفكير، وهناك ناحية أخرى هي ناحية الألفاظ؛ وبالألفاظ وحسنها تتفاوت أقدار الأدباء، لأن المعاني ملقاة على الطريق يستطيع كل إنسان أن يلتقط منها! هذا ما يقوله نقَّاد العرب، وهذا ما يختلف فيه النقَّاد المعاصرون، على أننا إذا بذَّلنا كلمة الألفاظ بكلمة التعبير، أي إذا قلنا: الأفكار والمعاني ملقاة على الطريق وإنما تتفاوت أقدار الأدباء بتفاوت قدرتهم على التعبير عنها - لما بقي في الأمر خلاف. وذلك أن كل إنسان يحسُّ بالألم في موقف الوداع، ويحزُّ هذا الألم في نفسه، ويدع الدنيا مظلمة في عينيه، وليس في هذا الحسِّ شيء من النبوغ، ولكن النبوغ والتفوُّق في القدرة على التعبير عن هذا الألم، والقدرة على وصفه!

ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع، كما أنني لا أحب أن أدعه من غير أن أنبه إخواننا إلى أن الكتَّاب ثلاثة: كاتب همُّه أن ينقل الفكرة التي في رأسه إلى رأسك على أهون سبيل؛ فلا يتخيَّر من الألفاظ إلا أقربها دلالة على هذه الفكرة. ولا من الجمل إلا أقلها إتعاباً لك، وأشدها وضوحاً، وهذا هو أسلوب ابن المقفَّع. وكاتب يحافظ على الفكرة. ويريد أن ينقلها إليك، ولكنه يحبُّ أن يختار الألفاظ الجميلة، والعبارات الأخَّاذة ليحمِّلها فكرته، أي أنه لا يكتفي بوضوح الأسلوب، بل يفتِّش عن الجمال الفني في هذا الأسلوب، وهذه هي طريقة الجاحظ وابن العميد. وكاتب يصرف همَّه إلى هذا الجمال الفني اللفظي ولو ضاعت فيه الفكرة أو تقطَّعت أوصالها، وهذا هو أسلوب القاضي الفاضل، وهذا هو شرُّ الأساليب! وأن أنبِّههم إلى أن من الواجب عند دراسة الأثر الأدبي، دراسة أسلوبه، ومميزات هذا الأسلوب لا من ناحية المعنى فقط، ولا من ناحية الألفاظ فقط، بل من الناحيتين معاً، ولا يمكن أن تنفكَّ الألفاظ عن المعاني أبداً، ولا يمكن أن نذكر كلمة السماء من غير أن نفكر في مدلولها أي في السماء - وأن من الواجب مقارنة هذا الأسلوب بالأساليب الأخرى؛ والبحث عن مصادر هذا الأسلوب، أي عن الكتَّاب الذين تأثَّر بهم صاحب هذا الأسلوب، وعن الكتاب الذي أثَّر فيهم والذين احتذوا أسلوبه، ونسجوا على منواله. ... فإذا انتهينا إلى هذا الحدِّ من البحث، أي إذا عرفنا الرجل، وعرفنا آثاره، وجب علينا أن نبحث عن الصلة بينها وبينه، عن مبلغ تعبير أدبه عن أخلاقه، ومبلغ وصفه للحياة التي تحيط به، ومبلغ اقترابه من العواطف الإنسانية الثابتة، وتعبيره عنها، أي مبلغ دنوِّه من الخلود!

وبعد، فهذه كلمة موجزة في هذا البحث - أرجو أن أكون قد وفِّقت فيها إلى إنارة السبيل إلى إخواننا طلَّاب البكالوريا الذين طلبوا ذلك إليَّ، وأن أعود إلى هذا البحث فأكتب فيه في وضوح وتفصيل. ***

الملكة والثقافة

الملكة والثقافة [سألني سائل هل الشعر مَلَكَة أم ثقافة، وأيهما أظهر أثراً في تكوين الشاعر.] وأنا أسأله قبل أن أجيبه: هل الصوت الحسن أظهر أثراً في تكوين المغنِّي المطرب أم الثقافة الموسيقية؟ وأنا أعرف أنه سيقول، إنه لا يكون مغنياً مطرباً حتى يجمع الحسنيين، فيكون حسن الصوت (بالخلقة) واقفاً على المقامات وأصول النغمات (بالتعلُّم). فإن اقتصر على حسن الصوت، لم يستقم غناؤه، ولم يحفظ عنه، وربما أفسد ملكته بجهله. وإن اقتصر على الثقافة الموسيقية، وكان قبيح الصوت، لم يُطرب ولم تُعجب. هذا حق، وكذلك الشاعر. لا بد للشاعر (أولاً) من ملكة شعرية: استعداد فطري، وحسّ مرهف وخيال مبدع، وما هو من هذا بسبيل، وهذا شيءٌ لا يحصل بالمرانة، ولا يُنال بالتعلُّم، وإنما هو فطرة، كالصوت الحسن، وإن كانت الملكة تصقل وتهذِّب، بالاطِّلاع على آثار البلغاء، كما يهذب الصوت الحسن ويصقل بحفظ أصوات المغنين. ولا بد له (ثانياً) من معرفة اللغة التي ينظم فيها، والوقوف على قواعد التعبير بها، وسنن أهلها في كلامهم، وأن ينظر في آثار أربابها، في عصورها كلها، ويرويها رواية فهم وتذوُّق. فإن اقتصر على الملكة وحدها، ولم يطَّلع على شيء من هذا كله، كان كشعراء العامة، وفي الشعر العامي ما يزري (بصوره وأخيلته) بكثير من الشعر الفصيح، ولكنه لاتبقى، فهو كتمثال فني بالغ من الجودة غايتها، غير أنه مصنوع من الثلج، فلا تطلُّ عليه شمس الغد حتى يذوب ...

وإن اكتفى بما يأتي به الدرس، ولم تكن له ملكة قط، جاء بشعر صحيح اللغة مستقيم الوزن، لكنه خال من الطبع ومن العاطفة ومن الروح، تقرؤه فلا يهز أوتار قلبك، ولا يثير فيها ذكرى محبَّبة، ولا أملاً مشتهى. وأكثر الشعراء يجمعون الأمرين، على تفاوت حظوظهم منهما، فمن غلبت عليه الملكة كان شاعراً مطبوعاً عبقرياً، ومن غلبت عليه الصناعة كان شاعراً نابغاً مجوداً. والفرق بين العبقري والنابغة، أن النابغة في كل فن من الفنون يمشي على رأس القافلة، سابقاً أبداً، أما العبقري فإنه يدع طريقها، ويذهب فيشق لنفسه وللناس طريقاً جديداً. وشاعر النبوغ والقريحة، لا يظهر فنّه إلا بعد أن يكتمل درسه وتحصيله، ويتدرَّج فيه تدرُّجاً، أما شاعر العبقرية فيظهر فنه فجأة، ويكون على الغالب مبكراً فيه، وربما كمنت عبقريته أيام الصغر إذا لم تجد ما يثيرها فظهرت عند الكبر. وشاعر القريحة يتبع نمطاً واحداً، فترى شعره كطيَّارات السياحة التي تطير على علوٍّ واحد، وسرعة واحدة، لا تخالفها، وشاعر العبقرية يأتي بالعالي النادر الذي لا يتعلَّق به أحد، ويأتي بالمضحك المزري أو المرذول التافه، كالطيارة المقاتلة تعلو حتى تسامي النجم، ثم تسِفّ حتى تمسّ الأرض. وشاعر القريحة يجود وينقح ويصحِّح، ويعود على ما ينظم بالنظرة بعد النظرة ولا يخرج شعره إلا بعد الزمن الطويل، وشاعر العبقرية، ينصبّ عليه الشعر انصباباً، فيتمخّض به تمخّض النفساء، فلا يهدأ حتى يأتي وليداً كاملاً وقلَّما يعود عليه بتنقيح وتصحيح. وإن شئت الأمثلة، فعندك امرؤ القيس وهو شاعر عبقري شقًّ للناس طرقاً في الشعر وعلَّمهم بكاء الديار والغزل العذري والقصصي والإباحي وإلى جنبه النابغة وزهير من شعراء القريحة. وبشَّار وأبو نواس وأبو العتاهية من

العباقرة، وإلى جانبهم شعراء العصر العباسي، مروان ومسلم وصريع الغواني وأشباههم. وأبو تمام وإلى جنبه البحتري، والمتنبي وإلى جنبه أبو فراس، وشوقي وإلى جنبه حافظ (¬1). ... ¬

_ (¬1) ولقد كان من أعجب العجب، ومن الكفر في شرعة الأدب، قرن الشاعرين معاً، فلا تسمع إلا (حافظ وشوقي) و (شوقي وحافظ)، وأعجب منه أن يقرن بهما خليل مطران، وهو ليس بشاعر قط، وشعره نثر موزون، ومن أنكر هذا القول مني، وصعب عليه أن يسمع ما خالف الذي تعارفه الناس من الباطل، فليأتني بخمس مقطوعات له، فيها وثبة شعرية، أو خيال مبتكر، ومن شاء فليقابل بين قصيدته (بعلبك) وهي خير ما في ديوانه وبن قول شوقي في مثل موضوعها: أفضى إلى ختم الزمان ففضَّه ... وحبا إلى التاريخ في محرابه وطوى القرون القهقرى حتى أتى ... فرعون بين طعامه وشرابه يجد الفرق بينهما كالفرق بين الغادة الفاتنة، والتمثال الرخامي البارد.

بحث في الوظيفة والموظفين

بحث في الوظيفة والموظفين الوظيفة في اللغة: ما يقدَّر للرجل في اليوم من طعام أو رزق أو نحوه؟؛ والوظيفة العهْدُ والشَّرْط؛ والتوظيف تعيين الوظيفة؛ والمواظبة الموافقة والمؤازرة. والوظيفة في العرف عملٌ يقوم به الرجل للمنفعة العامة، (أي المنفعة المشتركة بين جميع الأفراد الساكنين في المكان القومي) ويأخذ عليه أجرة من الخزانة العامة. طبيعة الوظيفة ومنشؤها: البحث في منشأ الوظيفة يقتضي البحث في ظهور الحكومة لأنها مجموع الموظفين، أو بالعبارة الثانية مجموع الأشخاص الذين يقومون بأعمال ضرورية لا تقتصر منفعتها عليهم وحدهم، بل تمتد إلى الهيئة الاجتماعية التي يكون لهم عليها حق الطاعة والانقياد. وقد أكثر الباحثون من الكلام في منشأ الحكومة وظهر في ذلك كثير من النظريات أشهرها نظرية (العقد الاجتماعي) التي أثارها الفيلسوف الإنكليزي هوبِسْ 1679 - 1988) (Hobbes)) واشتهر بها من بعد جان جاك روسو، وكان لها أكبر الأثر في الثورة الفرنسية الكبرى؛ غير أنها سقطت الآن، وأصبحت في رأي العلم أسطورة خرافية، وأجمع العلماء على اطِّراحها، لأن هذا العقد لم يوجد أبداً، وهوبِسْ وروسو وإن اختلفا في المبدأ - فرأي الأول أن الإنسان مفطور على الشر، وأن الإنسان ذئب الإنسان Homo homini lupus واعتقد الثاني العكس - وإن اختلفا في هذا فهما متفقان على أن الإنسانية اجتازت دوراً طبيعياً مطلقاً من كل القيود، قبل أن تدخل في

الحياة الاجتماعية وتنشئ الحكومة، وتلك فرضية باطلة. والحقيقة أن الإنسانية لم تعرف هذه الحياة الطبيعية أبداً، وإنما عاشت من البدء حياة اجتماعية ساذجة تتمثَّل في القبيلة والأسرة والجماعة. وهذا الذي يراه العلماء المحدثون مطابق لما جاء في الكتب السماوية. ولن نفيض في هذا البحث لأنه ليس من غرضنا تحقيق المقال في منشأ الحكومة، ولكن غرضنا عرض مسألة (الوظيفة والموظفين) عرضاً جتماعياً، وبيان صلتها بالحياة العامة، لتعالج وينظر فيها في هذا العهد الذي تقف فيه مصر والشام وغيرهما من الأقطار العربية على مفترق الطرق تصفِّي حساب الماضي تصفية عامة، فتبقي على الصالح وتلقي الفاسد. لذلك ندع الكلام في منشأ الوظيفة، وننظر إليها نظرنا إلى (ضرورة اجتماعية) نشأت من ميل الإنسان الفطري إلى الحياة الاجتماعية. وما ظهر في هذه الحياة من حاجات جديدة ليست حاجة فرد دون فرد، ولكنها حاجة المجموع، استلزم القيام بها انقطاع جماعة من الناس إليها تكفَّل لهم الناس بالمعيشة وعاهدوهم على الطاعة ليمكِّنوهم من إنجاز عملهم الذي انقطعوا له، على نحو ما يفعل الذين ينتسبون إلى جمعية أو ناد أو شركة، حين ينتخبون جماعة منهم يديرون الشركة أو الجمعية ويجعلون لهم راتباً معيناً ويعطونهم حقَّ اتخاذ القرارات ويتعهدون بطاعتها وتنفيذها؛ غير أن جماعة الموظفين أو الحكام لم تنشأ بعقد كهذا العقد، ولكنها نشأت بالتدريج وبشكل طبيعي. والراجح أنها كانت تستند في أول أمرها إلى القوة والطغيان، وأنها كانت إرادة طرف واحد، هو الطرف القوي (الحكَّام) اضطر الفريق الثاني (الشعب) إلى قبولها والخضوع لها، لأنه ضعيف ولأنه رأى وجود هذا الحاكم القوي الظالم أخفَّ الضررين وأهون الشرَّين، إذ لولاه لكانت الحالة فوضى وإذن يكون كل قويٍّ حاكماً على كل ضعيف، فيكون بدل الظالم الواحد ألف ظالم ثم تبدَّل هؤلاء الحاكمون الأقوياء على مرِّ الأيام حتى استحالوا أخيراً موظفين خاضعين لنوع من الأنظمة والقوانين يختلف رقيّها وشدَّتها باختلاف الممالك والبلدان. أما طبيعة هذه الوظيفة فليس لها شبيه في الحقوق الخاصة.

وخير ما يمكن أن يقال فيها إنها تمثيل شخصية الدولة الحقوقية، والتعبير عن إرادتها، وقديماً كان يشبِّهها فريق من العلماء بالوصاية، ويرون الحكام بمثابة أوصياء على الشعب، ثم اتَّضح أن الوظيفة لا تشبه الوصاية بشيء، وأنها أقرب إلى الوكالة. فَسادَ الرأيُ بأن الحكام وكلاء عن الشعب يقومون بأعمالهم بالنيابة عنهم، ويعبِّرون عن إرادتهم؛؟ بيد أن هذه الوكالة تحتاج إلى موافقة جميع الأفراد، وهذا غير واقع ولا ممكن. فما هي طبيعة هذه الوظيفة إذن؟ إنها كما قلنا من طبيعة خاصة لاشبيه لها في الحقوق الخاصة. «وغاية ما يستطاع أن يقال في هذا الشأن هو تشبيه الحكام - كما أشار إلى ذلك الأستاذ هريو (Hauriou) - بالمتبرعين بالعمل، أي بأفراد يقومون بإدارة مصالح الدولة من دون أن يعهد إليهم بها من قبل جميع الأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، ولكن هذا التبرع يختلف عن مثيله في الحقوق الخاصة بأنه لا يحتاج إلى إجازة المتبرع له» (¬1). وكون الوظيفة ضرورية يُبَرِّرُ هذا الوضع الشاذَّ للسلطة العامة، أو هيئة الحكام أو الموظفين. حقوق الموظفين ووجائبهم: تبينَّ أن تقسيم الهيئة الاجتماعية إلى طبقة الحكام (أعني الموظفين) والمحكومين (أي الشعب)، وتكليف المحكومين بالعمل والكسب لإعالة الحاكمين ضرورة حيوية، ولما كانت القاعدة في الضرورة أنها تقدَّر بقدرها، وأن لها أحكاماً خاصة، وجب أن يمنح هؤلاء الحكام (أي الموظفين) أقلَّ قسط ممكن من الحقوق، لتخفَّ أحمال الشعب، وتقلَّ أتعابه، ويحملوا أكبر مقدار من الوجائب، ليتحقق على أيديهم أكبر قسط ممكن من الخدمة العامة. أما أن يكون على الموظفين وجائب فأمرٌ أساسي اقتضته طبيعة الوظيفة؛ أما أن يكون لهم حقوق، فأمر ناشئٌ عن تلك الوجائب، يستحيل قيامهم بها دون الحصول على هذه الحقوق. ¬

_ (¬1) عن الأستاذ ج. ستيف في كتابه الحقوق العامة الشاملة.

وأول الوجائب في الوظيفة أن تكون الغاية من إحداثها تحقيق منفعة عامة ضرورية لا يستغنى عنها ولا يمكن تحقيقها إلا بإحداث هذه الوظيفة، وبغير هذا الشرط لا تكون الوظيفة مشروعة، بل تكون شكلاً من أشكال الاستبداد كما لو أحدثت لمنفعة شخص أو لإرشائه أو لتأمين مصلحة خاصة لحزب من الأحزاب، أو جمعية من الجمعيات السياسية. وثانيها أن يُختار من الأشخاص أقدرهم على تأمين هذه المنفعة وأن يُراعى في اختياره الكفاية الشخصية والمواهب الذاتية، لا الأسرة ولا اللون الحزبي ولا الشفاعات. ولهم بعد ذلك حقُّ الطاعة على الرعيَّة من غير أن تحتاج عقودهم وأعمالهم ومقرراتهم إلى المصادقة الفردية من جميع المحكومين أو تحتاج إلى حكم قضائي. يؤيد ذلك اعتبار الحكام (الموظفين) منتخبين من قبل الشعب، وحائزين لثقته، وأنهم (لما هم عليه من الصفات والمزايا) أقل خطأً من سائر الأفراد، وأنه لو أعطي الأفراد حق الاعتراض على كل العقود العامة وإقامة الدعاوى دائماً لأدَّى ذلك إلى الفوضى وعرقلة سير القضايا العامة وضياع المصلحة التي من أجلها أوجدت الحكومة. وبديهي أن حق الطاعة لا يكون للحكام إلا إذا اتَّبعوا الدستور وساروا على القوانين والعادات المرعية. ومن حقِّ الموظفين الذين انقطعوا عن الكسب لأنفسهم وعن تأمين مصالحهم الخاصة أن تؤمَّن هذه المصالح من قبل الدولة وأن يُمنحوا بعض الامتيازات، ويتمتعوا ببعض الحصانات. أي أن للموظف قبل كل شيء أن يأخذ راتباً من خزانة الدولة ولكن كيف يقدَّر هذا الراتب؟ وما هو الأسلوب الصحيح لتعيين مقداره المشروع؟ جاء في البخاري عن عائشة: «أن أبا بكر، رضي الله عنه، لما استخلف قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشُغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال».

وكان الذي فرضوا له بُرْدَيه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره (دابَّته) إذا سافر، ونفقته على أهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف؛ فرضي بذلك (¬1). وهذا الأسلوب طبيعي ومقبول، ولكنه شخصي لا يصحُّ اتخاذه قاعدة عامة، لأنه يؤدي إلى الفوضى، ولا يجعل للرواتب أسلوباً معروفاً، ولا أصلاً ثابتاً، ثم إن فيه حَيْفاً على الموظفين المقتصدين الذين كانوا يعيشون قبل الوظيفة عيشة ضيِّقة أو النابغين المفلسين الذين لا يجدون قبل الوظيفة ما ينفقون، كما أن فيه منفعة للمُسْرفين وتشجيعاً لهم على إسرافهم. وقد يرد هذا الاعتراض الأخير بأن الموظف لا يعطى إلا ما فيه تأمين حاجاته الضرورية، غير أن في ذلك ظلماً للموظف ظاهراً. فما هي القاعدة المقبولة إذن في هذه الرواتب؟ .. هي أن يعطى الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع أن يحصِّله من العمل الحر، أو ما يحصله رجل مكافئٌ له في المواهب والسجايا والكفاءة من عمل مشابه لعمله؛ وهذا تقدير معقول دائم الاعتبار يختلف باختلاف البلدان والشعوب، وغناها وفقرها، ورقيها وانحطاطها، وكون ما يُعطاه الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع تحصيله في العمل الحر، ناشئ عن فكرة الدوام في الوظيفة بالنسبة للعمل الحر والراحة والاطمئنان فيها؛ فالتاجر لا يضمن لنفسه مقداراً من الربح كل شهر، كما تضمن الدولة للموظف راتبه، والتاجر مهدد بالإفلاس والضياع، وليس على الموظف شيء من ذلك. ثم إن الدولة توفر للموظف من راتبه قسطاً كبيراً يكفيه ويغنيه أيام مرضه وتقاعده عن العمل، والتاجر موكول إلى نفسه. وللرواتب ضابط آخر هو ألَّا تزيد نسبتها في الميزانية العامة عن الخُمْس (عشرين في المئة) وهذا طبيعي لأن الغاية من الحكومة ضمان المنفعة العامة، وهؤلاء الموظفون وسيلة إلى هذه الغاية، أفيعقل أن تكون الوسيلة غاية؟ أيعقل أن يأخذ ¬

_ (¬1) أبو بكر الصدِّيق للطنطاوي، ص 199.

الأعضاء الإداريون في الشركة نصف الأرباح؟ كذلك لا يعقل أن يأخذ الموظفون نصف موازنة الدولة رواتب لهم. ... وقبل أن ندع الحديث عن وجائب الموظفين نعرض هذه المسألة: هل الموظفون عمال يقومون بعمل بعينه ثم إذا وفّوه كانوا أحراراً في أوقاتهم وأعمالهم، أم هم مقيَّدون خارج الوظيفة ببعض القيود؟ وبالعبارة الثانية: ما هي علاقة الأخلاق والسلوك بالوظيفة؟ لا أعني التفكير والاتجاه السياسي أو العمل الأدبي، فإنه لا خلاف في أن للموظف أن يفكّر كما يشاء أو يعمل أي عمل علمي أو أدبي أراد، ويأتي كل ما يجيزه القانون لغيره من الأعمال العامة (¬1) ولكن أعني السلوك الشخصي، وأكثر الناس على التفريق بين الأخلاق الاجتماعية، كالصدق والأمانة والأخلاق الشخصية كالعفاف فلا يرون ما يمنع الموظف إذا كان أميناً على أموال الدولة، قائماً بما أسندت إليه من عمل أن يسلك سبيل اللهو، وينتهز اللذَّات، ويلبِّي صوت نفسه وجسمه، ولا يرون ذلك قادحاً، ولا يجدون له صلة بالوظيفة. وهذا الرأي باطل كلّ البطلان، لا سيما في بلاد كبلادنا لا يزال الناس ينظرون فيها إلى الموظف (والموظف الكبير على التخصيص) نظرة إجلال وإكبار، ويتَّخذونه قدوة ويسلكون مسلكه، وقديماً قيل: الناس على دين ملوكهم، فإذا فسد الموظفون فسدت الأخلاق العامة، ثم إن من الوظائف ما له علاقة ماسَّة بالأخلاق وما ينبغي في صاحبه الكمال حتى يكون في نظر الناس سالماً من الشوائب منزَّهاً عن المعايب كوظائف المعارف (التعليم) والعدلية (القضاء). فما ظنُّك بمدرس يقوم في النهار واعظاً معلماً، يوفَّى التبجيل، يكاد يكون رسولاً ... فإذا كان الليل اجتمع هو وتلميذه في الحانة أو الماخور أو اجتمع معه على باطل ... ¬

_ (¬1) مقالي «الوظيفة والموظفون» الذي وجهته إلى وزير معارف سورية يوم كنت معلماً ابتدائياً في وزارته فقد أوضحت فيه هذه المسألة وعقدته على بيانها وهو في كتابي (مع الناس).

وما ظنك بمفتش يدخل الصفَّ على المدرِّس، ممثلاً القانون والأمة والدين، يُراقب ويسجل ويكون لقراره صفة التقديس فلا يردَّ ولا يكذب، وتكون مقدَّرات المدرِّس معلقة به، ما ظنك بهذا المفتِّش إذا ذهب في المساء يؤمُّ الحانات أو يطرق أبواب المعلِّمات ... أو يأتي المنكرات؟ وقل مثل ذلك في القاضي، بل ربما كان احتياج القاضي إلى الكمال، في كل أحواله، وفي كافة أموره، أشدَّ من احتياج المعلم، لأنه يجلس مجلس الأنبياء، ويقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك عنيت القوانين الشرعية، بأخلاق القاضي فلم تكتف بالعلم، وإنما اشترطت فيه بعض الشروط الأخلاقية، فأوجبت فيه أن يكون حكيماً فهيماً مستقيماً أميناً مكيناً متيناً (مجلة - مادة 1792) وقيَّدته ببعض القيود فألزمته اجتناب الأفعال والحركات التي تزيل المهابة (مادة: 1795) ومنعته من قبول هديَّة الخصمين أبداً (1796) ومن الذهاب إلى ضيافة كل من الخصمين قطعاً (1797) ... إلخ. فيا حبَّذا لو عمل بهذه الأحكام، ووضع مثلها للمدرسين ورجال المعارف خاصة، وللموظفين عامة. وقد يعترض معترض بأن هذه قيود لا يجوز أن يقيَّد بها الموظف، بل يجب أن يتمتَّع بحريته كما يتمتع بها كافة الناس، والجواب أنها قيود حقيقة، ولكنها ضرورية لتأمين الغاية من وجود الموظفين، وهي المنفعة العامة، فإذا كانت هذه القيود شاملة الموظفين، وإذا دخلوا في الوظيفة على معرفة بها، لم تعد قيوداً اضطرارية وإنما تكون بمثابة شرط اختياري، ثم إن في امتيازات الموظفين وحقوقهم التي يمتازون بها من سواد الشعب ما يبرِّر تقييدهم ببعض القيود اللازمة. تعيين الموظفين: درسنا الوظيفة على أنها ضرورة حيوية، الدافع إليها والغاية منها المنفعة العامة، وأبَنَّا أن الواجب في اختيار الموظفين، ملاحظة قدرتهم على تحقيق هذه الغاية وكفاءتهم للقيام بها، وهذا هو الحق الذي يقضي به العقل والنقل، جاء

في الحديث عن ابن عباس (¬1): من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وفي الحديث (¬2) عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال أبو بكر الصدِّيق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنَّم. وكان الشأن في المسلمين الأولين أنهم يفرُّون من الولاية ويخشونها، ولا سيما القضاء فربما عرض عليهم غأبوا، فنالهم أذى فصبروا واحتسبوا ولم يقبلوا. وحديث الأئمة في هذا الباب أبي حنيفة ومالك وغيرهما مشهور معروف، والأحاديث في التنفير من طلب الوظيفة كثيرة جداً حتى عقد لها الحافظ عبد العظيم في (الترغيب والترهيب) باباً مستقلاً. جاء في الحديث الصحيح (الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم) عن عبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها. وروى أبو داود والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدِّده. وروى مسلم وأبو داود عن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلَّا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. (¬2) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يولِّي أحداً حرص على الولاية أو سألها. جاء في الحديث (الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود) عن أبي موسى. قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولَّاك الله تعالى. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه. ... هذا هو الأصل في تعيين الموظفين، يُختار الأصلح للعمل، الأقدر عليه وهو مقيم في بيته، ويُحتال عليه بالإقناع وبالتهديد حتى يقبل مكرهاً فانتهى الأمر عندنا إلى ما يعلمه الناس كلهم، وأصبحتَ تعرض المئة من الموظفين فلا تكاد تجد اثنين من أهل الكفاءات، وإنما تجد من أدخلته الوظيفة شفاعة شفيع، أو جاه وسيط؛ وخير شفيع اليوم «شفيع النوَّاب» (¬1) وخير وسيط «الأصفر الرنان» أو غير ذلك مما يعلم ولا يقال، وما في قلب كل قارئٍ منه غصَّة، وما يحفظ منه كل قارئٍ حوادث وأخباراً ... ... ¬

_ (¬1) قال الفرزدق: ليس الشفيع الذي يأتيك متَّزراً ...

الحلقة المفقودة

الحلقة المفقودة (¬*) نشرت سنة 1937 نحن اليوم (في الشرق الإسلامي) في دور انتقال ليس له وضع ثابت، ولا صفة معروفة، فلا نحن نعيش حياة إسلامية شرقية كما كان يعيش أجدادنا، ولا نحن نعيش حياة غربية خالصة كالتي يحياها الأوروبيون، ولكنا نعيش حياة مختلطة مضطربة متناقضة فيها ما هو شرقي إسلامي، وفيها ما هو غربي أجنبي، وفيها ما ليس بالشرقي ولا بالغربي، ولكنه منقول نقلاً محرَّفاً مشوَّهاً عن هذا أو ذاك. بل أنت إذا دقَّقت وأمعنت النظر في حياتنا وجدت لها جانبين مختلفين، ولونين متباينين: الجانب الذي يميل إلى المحافظة، والجانب الذي يجنح إلى التجديد. وهذان الجانبان تلقاهما في كل عهد من عهود الانتقال في التاريخ؛ ففي مطلع العصر العباسي كنت تجد في بغداد المحدِّثين والزهَّاد والفقهاء كسفيان والفضيل وأبي حنيفة، وإلى جانبهم الفسَّاق والمجَّان كبشَار وأبي نواس، والمتعصبين للعربية والشعوبيين، ومن كل صفة زوجان، ولكل أمر ناحيتان، وكذلك كان شأن الرومان أول اختلاطهم باليونان. قف ساعة في أي شارع كبير في أي مدينة من مدن الشرق الإسلامي واعْرض الأزياء، تر الإزار والعقال إلى جانب العمامة، إلى الطربوش، إلى القبَّعة، إلى اللاطية. حتى إن أجنبياً وقف مرة هذا الموقف فظن أن القوم في عيد المساخر (الكارنفال). وادخل عشرة بيوت تجد البيت الشرقي ذا الصحن الواسع والإيوان المشمخر والبركة ذات النوافير، إلى جانب البيت الأوروبي المسقوف ¬

_ (¬*) أستعير هذا العنوان من الأستاذ الجليل أحمد أمين في مقاله المنشور في العدد الأول من الرسالة 18 رمضان سنة 1351.

المتداخل الذي لا ترى فيه السماء إلا من الشُّرَف. ولج البيت الواحد تجد الغرفة ذات الفرش العربي: الأسرَّة والمتَّكآت والوسائد والبسط والنمارق، إلى جانب الغرفة الأوروبية ذات المقاعد والمناضد ... واعرض أهل الدار تجد بين الأب وابنه قرناً كاملاً في اللباس والتفكير والعادات. وفتِّش عن الأب المساء تَلْقَهُ في المسجد أو قهوة الحي، ثم انظر الابن تجده في أحدث مرقص أو أكبر ناد للقمار أو للتمثيل أو للمحاضرات. وانظر إلى الأم المحتجبة المصلِّية الصائمة، وابنتها السافرة التي لا تعرف من أين القبلة، ولا تدري ما هو الصيام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تعدَّاه إلى الثقافة والعلم وسائر الأمور التي تتَّصل بحياة الأمة اتِّصالاً ماسّاً، فجعل منها هذا الازدواج وهذا التناقض. اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تَرَ الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجلّ تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسودَّ ماؤه -فيما نقلوا- من حبرها، ونكبة الاسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قروناً طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذِّي المطبعات في الشرق والغرب من مئة وخمسين سنة إلى الآن دَأباً بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في كل ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم. وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدِّه الذي كان قبل ثلاثمئة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبداً حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصوَّر العقل طريقة في التأليف أشدَّ عُقماً منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرِّس والتلميذ في فهم عباراتها وحلِّ رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل. فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية،

ولكنه لم يفهم شيئاً من روح العصر، ولا يسمع بالعلم الحديث، ورجل فهم روح العصر ودرس العلم الحديث، ولكنه لم يدرِ أن في الدنيا شيئاً اسمه ثقافة إسلامية ... فمن أي هذين الرجلين ننظر النفع؟ لا من هذا ولا من ذاك، ولكننا ننظر النفع من الرجل الذي عرف الإسلام وعلومه، وفهم روح العصر وألمَّ بالعلم الحديث (¬1)، هذه الطبقة المنتظرة من العلماء، هذه الحلقة المفقودة هي التي يرجى منها أن تقوم بكل شيء، وهي التي سينشئها الأزهر المعمور ودار العلوم العليا، والمدارس التي شيدت لتجمع بين الثقافتين كالكلية الشرعية في بيروت، ودار العلوم في بغداد، وينشئها من يتخرَّج في المدارس العليا والجامعات ويكون ذا ميل إلى الدين، ويكون له إلمام بعلومه. ... من هذه الطبقة ينتظر النفع والفلاح، وعلى هذه الطبقة واجبات كثيرة يجمعها أصل واحد، هو دراسة الإسلام على أساس العلم الحديث واستخراج رأيه في مشاكل العصر، وحكمه في الأحداث التي لم يعرفها الفقهاء ولم تحدث في أيامهم. وأهم من هذا كله الآن استخراج القوانين الأساسية والحقوقية والجزائية من الفقه الإسلامي، بدلاً من أخذ القوانين الأجنبية برمَّتها وتطبيقها في البلاد الإسلامية التي انبثق منها أعظم تشريع عرف إلى الآن وأرقاه. وهذا العمل يبدأ بالدراسات العلمية الفردية ثم يصل إلى الغاية المتوخَّاة، وهي أن تتم إحدى الحكومات الإسلامية العمل الذي بدأته لجنة المجلة (مجلة الأحكام العدلية) لكن بمقياس أوسع ونسبة أكبر، فلا تتقيَّد هذه اللجنة بمذهب واحد من المذاهب الأربعة، بل لا بأس أن تأخذ بعض الأقوال من مذهب آخر، ولا تتقيد بالمذاهب الأربعة، بل لا بأس أن تأخذ بقول لبعض الأئمة الذين اندثرت مذاهبهم، كالثوري والأوزاعي والليث والطبري والظاهري، إن صحَّ مستند هذا القول، ولا تتقيد أيضاً بهذه الأقوال، بل تجتهد كما اجتهد الأئمة، وتأخذ الأحكام من الكتاب والسنة رأساً، وأن تبحث عن المصلحة التي يقتضيها النص، فإن الشريعة ما أنزلت عبثاً، والأحكام لم تشرع لغواً، ولكن لكل حكم ¬

_ (¬1) انظر حاشية الصفحة (217) من كتابي (من حديث النفس).

مصلحة. ومن دقَّق في اجتهادات الخلفاء الراشدين وجد أنهم يدورون مع المصلحة أينما دارت. هذا عمر، رضي الله عنه، علم أن المصلحة المرادة من إعطاء المؤلَّفة قلوبهم سهماً من الزكاة إنما هي تقوية الإسلام وإعزازه، فلما حصلت المصلحة وعزَّ الإسلام أسقط سهم المؤلفة. وهذه مسألة طلاق الثلاث بكلمة واحدة كان يقع واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر فرأى عمر أن المصلحة (في أيَّامه) في إيقاعه ثلاثاً فأوقعه مع أن الآية صريحة في أن الطلاق مرتان (وقد عادت المصلحة اليوم في إيقاعه طلاقاً واحداً والرجوع إلى الأصل المعروف من الكتاب والسنَّة). وعطَّل عمر حدَّ السارق في عام المجاعة. وهذا عثمان جمع الناس على حرف واحد من حروف القرآن، لأن المصلحة تقتضي هذا الجمع. والحكومة الإسلامية التي يؤمَّل منها تحقيق هذا المشروع العظيم هي مصر وحدها، لأنها الحكومة الإسلامية الكبيرة، ولأنها وحدها التي ينصُّ دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، ولأن فيها الأزهر المعمور وفيها العلماء، ولأن فيها اتجاهاً إسلامياً قوياً ظهر في السنين الأخيرة، ودعوة قوية إلى استبدال القوانين الإسلامية بالقوانين الأجنبية. ولو أني وجَّهت هذه الدعوة قبل عشر سنين مثلاً لعرضت لها المعارضة من ناحيتين: ناحية المشايخ الجامدين، وناحية الشباب الجاحدين. أما الأول فلأنهم كانوا يعتقدون أن الاجتهاد سدَّ بابه إلى يوم القيامة (¬1)، وأن الفقهاء لم يدعوا شيئاً إلا بيَّنوا حكمه مع أن المسألتين مردودتان، لأن سدَّ باب الاجتهاد معناه الحظر على الله أن يخلق مثل أبي حنيفة، وهذا محال. وما دامت الأرحام تمتلئ، والنساء تلد، فليس مستحيلاً أن ينشأ مجتهدون وأئمة ونابغون يفوقون الأولين - ولأن الفقهاء وإن بذلوا الجهد، وفرضوا في كثير من المسائل أبعد الفرضيات، وبيَّنوا حكمها، فإن من البديهي أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ظهرت الآن ولم يعرفوها. وإذا كان الإمام الشافعي قد غيَّر رأيه في أكثر مسائل المذهب، حين ¬

_ (¬1) لا لم يسدَّ بابه، ولكنه لم يفتح كذلك للناس جميعاً، لكل من استطاع أن ينظر في كتب الحديث، ويعرف درجاتها وأسماء رواتها.

انتقل إلى مصر، ورأى أفقاً جديداً، حتى صار له مذهبان قديم وجديد، فَلِمَ لايتغيَّر الرأي في كثير من المسائل، وقد تغير العالم كله، وتبدَّلت الدنيا، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، والأحكام تتغير بتغيُّر الأزمان؟ أما الشباب الجاحدون فقد كانوا يعارضون هذه الدعوة لأنهم كانوا ينفرون من كل ما يتصل بالإسلام، أو يمتُّ إلى الدين بسبب، ويموتون عشقاً لأوروبَّة، ولكل ما له علاقة بأوروبة. أما الآن فقد اعتدلت الطائفتان، فلم يبق على وجه الأرض عالم مسلم يقول بسدِّ باب الاجتهاد، ويدَّعي أن الفقهاء لم يتركوا شيئاً كان أو يكون إلا بينوا حكم الله فيه؛ ولم يبق في الشباب المتعلمين (والمثقفين حقاً) من ينفر من الدين، ويفزع منه اسمه، بل إن العقلية العربية (ولا سيما في مصر) قد اتَّجهت نحو الإسلام اتجاهاً قوياً ملموساً؛ فعلماء مصر، وطلَّاب مصر، ورجالات مصر، مؤيدون للإسلام متجهون إليه، وهذا مما يسر، ويبعث الأمل في نشوء هذه الحلقة المفقودة، وإنجاز هذه الواجبات كلها. ... والمسائل التي تحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد كثيرة لا أستطيع الآن -ولا أريد- أن أستقريها كلها، ولكني أمثِّل لها بأمثلة قليلة قريبة. هذا رمضان قد جاء. أفلا يجب إعادة النظر (مثلاً) في مسألة ثبوت الهلال؟ أليست هذه الطريقة المتَّبعة اليوم في أكثر البلدان الإسلامية مؤدية إلى الفوضى الظاهرة والنتائج الغريبة المضحكة؟ ألم تمر سنوات ثبت فيها رمضان في بعض البلدان الإسلامية السبت، وفي غيرها الأحد وفي أخرى اللإثنين ... وهو يبدأ في الواقع في يوم واحد؟ ألا يبدو هذا مخالفاً لجوهر الدين؟. أنا لا أدعو إلى بدعة جديدة، فقد تكلَّهم الفقهاء في هذه المسألة، فمن فقهاء الحنفية من قال بأن رؤية الهلال في قطر توجب الصيام على الجميع، فلماذا لا تتَّخذ مرصداً منتظماً في إحدى البلدان الإسلامية، ثم تذاع نتائج رصده على البلدان الإسلامية كافة فيعمل بها؟ أنكون بذلك مخالفين أو مبتدعين، والفقهاء قد قالوا بهذا؟

ومن فقهاء الشافعية كالقفَّال والرملي وابن سريج من قال بالأخذ بالحساب، والاعتماد على العلم الثابت، فلماذا لا نأخذ بهذه الأقوال، ونحن في عصر ترقَّى فيه العلم، وصار يعرف موعد الخسوف مثلاً، بالدقيقة والثانية، ويثبت خبره عياناً، أفلا يعرف موعد ولادة القمر وظهوره؟ إن الاعتماد على الشهادة في رؤية الهلال ينتج أموراً عجيبة، من ذلك أن جماعة من قرية دوما شهدوا عند القاضي بدمشق أنهم رأوا الهلال، وأثبت القاضي رمضان اعتماداً على شهادتهم، فقال عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي: إن هذه الشهادة كاذبة وإن الهلال لا يمكن أن يُرى الليلة الثانية، فضلاً عن الأولى. وذهب مع القاضي وجماعة من وجوه الشام إلى دوما، وأحضر الشهود، ووقف معهم في المكان الذي زعموا أنهم رأوا منه الهلال في الجهة عينها، والساعة ذاتها، وسألهم: أين الهلال؟ فلم يروا شيئاً. ثم قال واحد: ها هو، فقال الجميع ها هو، فأخرج عمي نظارة مكبرة وأراهم، فإذا الذي رأوا غمامة طولها متران، انقشعت بعد ثوان! وقد حدث مثل هذا كثيراً. سمعت من مشايخي، ولم أر ذلك في كتاب، أن أنس بن مالك، رضي الله عنه، شهد عند شريح القاضي أنه رأى الهلال، فقال له: هلمَّ أرِنيه يا عم. وذهب معه، فقال: ها هو. فنظر شريح وهو الشابُّ الحديد البصر، فلم يَرَ شيئاً وأنس يقول: ها هو ... فنظر شريح فإذا شعرة من حاجب أنت بيضاء متدلية ويراها فيحسبها هلالاً ... فأزاحها فلم يعد يرى شيئاً. ومنها مسألة الطلاق، لقد بلغت مسألة الطلاق حداً لا يجوز السكوت عنه، ولا بدَّ من إعادة النظر فيها. وشَرْعِ قانون لها يؤمن المصلحة العامة، ويحقِّق غرض الشارع. يكون الرجل في السوق يبيع أو يشتري فيحلف بالطلاق على أمر، فتطلَّق امرأته وهي في دارها، ويتشرَّد أولادها، وتنهدم دار على رؤوس أهلها؛

أو يغضب من أمر فيحلف بالطلاق، مع أن الذي أفهمه أنا أن الزواج عقد يعقد قصداً يراد به ضمُّ حياة الرجل إلى حياة المرأة، وأن الطلاق عقد مثله يراد به حلُّ العقد الأول، ولا بأس أن يكون حلُّ العقد بيد الرجل وحده ولكن لا بدَّ من ثبوت القصد، وأعني بالقصد أن يطلِّق الرجل وهو يفكِّر في معنى الطلاق ونتائجه، ويقصد فكَّ الرابطة الزوجية فيجب أن يكون القصد شرطاً في وقوع الطلاق، ويجب أن نجد طريقة مادية لإثبات القصد، كأن يشترط تبليغ الزوجة الطلاق بواسطة موظف مخصوص ينصبه القاضي فإن طلَّق رجل وهو قاصد من غير واسطة هذا الموظف، يقع الطلاق ديناً، ولا تسمع به الدعوى. هذا وأنا لا أجتهد في هذه المسألة ولكن أدعو إلى الاجتهاد فيها ودرسها. وهناك مسائل كثيرة، لا أعمد الآن إلى استقصائها. ... متى وجدت هذه الحلقة المفقودة درست هذه المسائل كلها، فحققت حاجات العصر وأجابت مطالبه، ولم تخرج على أصول الإسلام ولم تخالف قواعده ودرست الإسلام من كافة النواحي العلمية والفنية والاجتماعية، فإن درسنا الحقوق الأساسية العامة، درسنا الحقوق الأساسية في الإسلام، وإن بحثنا في الاشتراكية بحثنا عن رأي الإسلام في الاشتراكية، وإن انقطعنا إلى التاريخ درسنا التاريخ الإسلامي درساً حديثاً، وإن اشتغلنا بالفلسفة درسنا تاريخها في الإسلام، وحكم الإسلام في نظرياتها ومسائلها ... (¬1) ¬

_ (¬1) حاشية كتبت لما طبع الكتاب الطبعة الأولى سنة 1379: كتبت هذه المقالة من أكثر من ربع قرن، وقد جاء فيها ما لا بد من التنبيه إليه، من ذلك أنه إن خالف عمر وعثمان وأمثالهم النص ظاهراً فإن لهم مستنداً شرعياً ولولاه ما أجمع الصحابة على الرضا بما صنعوا، وإجماع الصحابة دليل وليس لغيرهم أن يصنع مثلهم، وقد غلط في هذه المسألة كثيرون أولهم (الطوفي) وآخرهم الشيخ عبد الوهاب خلَّاف في (السياسة الشرعية)، ومنها أنه لا يجوز الاعتماد على الحساب وحده في إثبات رمضان، بل لابد من الرؤية.

عند ذلك يمَّحي هذا الازدواج، وهذا التناقض من حياتنا، ونحيا حياة كاملة قد اصطبغت كل ناحية فيها بالصبغة الإسلامية وهذا هو مثلنا الأعلى الذي يجب أن نطمح إليه ...

من شوارد الشواهد

من شوارد الشواهد نشرت سنة 1947 سألني سائل عن بيت: فما كان قيس هلكهُ هلكَ واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدَّما المروي في عدد الرسالة الأخير، لمن هو؟ فقلت: لعَبْدة بن الطبيب، واسم الطبيب يزيد بن عمرو، وهو شاعر مخضرم معروف من قصيدته التي يرثي بها قيس بن عاصم المنقري وقبله: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحَّما تحيَّةَ من غادرته غرض الردى ... إذا زار (عن شحط (¬1)) بلادَك سلَّما ففرح بذلك فرح من كان عنده لقيط فعرف نسبه، وكنت قد واليت البحث عن أمثاله من الأبيات الشاردة - التي لا تكاد تجد أديباً ولا متأدِّباً لا يتمثل بها إذا كتب أو خطب، وقلَّ في المتأدبين من علم أنسابها، وعرف أصحابها - حتى اجتمع لي طائفة صالحة، تملأ مجلَّدة لطيفة، فرأيت أن أنسب بعضها في الرسالة. من ذلك: 1 - لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم للمتوكِّل الليثي، وهو شاعر إسلامي، كان يمدح معاوية وابنه يزيد. من قصيدته التي يقول فيها: للغانيات بذي المجاز رسوم ... فببطن مكة عهدهنَّ قديم ¬

_ (¬1) الشحط: البعد.

فَبِمَنْحَرِ البُدْن المقلَّد من مِنى ... حِلل (¬1) تلوح كأنهنّ نجوم 2 - أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح لمسكين الدارمي وهو ربيعة بن عامر بن أنيف، قدم على معاوية وسأله أن يفرض له، فأبى، فخرج من عنده وهو يقول: أخاك أخاك ... (البيت). وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح وما طالب الحاجات إلا مغرر ... وما نال شيئاً طالب كنجاح 3 - العبد يقرع بالعصا ... والحرُّ تكفيه المقاله لأبي الأسود الدؤلي. وقبله: أعصيتَ أمر أولي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله أخطأت حين حرمتني ... والمرء يعجز لا محاله (¬2) 4 - فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكنَّ عين السخط تبدي المساويا لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان صديقاً للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وكانا يُرميان بالزندقة، فجرى بينهما شيء، فقال له: وإن حسيناً كان شيئاً مُلَفَّفاً ... فكشَّفه التمحيص حتى بَدَا ليا فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا ¬

_ (¬1) ج حلة بالكسر، وهي المحلة. (¬2) لا محالة: أي لا بد (والبدُّ: المناص والمخلص)، والذي أحفظه (والمرء يعجز لا المحالة)، والمحالة: الحيلة، وهو من أمثال العرب، وأنشد في اللسان لأبي دؤاد: حاولت حين حرمتني ... والمرء يعجز لا المحاله والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعاله وثعالة: الثعلب.

فلا زاد ما بيني وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا فعين الرضا ... (البيت). كلانا غني عن أخيه حياتَه ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا (¬1) 5 - فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأَدركني ولما أمزَّقِ لشاس بن نهار من قصيدة قالها لعمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان وهو عمرو بن هند (¬2)، وهند أمُّه عمة امرئ القيس الشاعر؛ لما همَّ بغزو قومه عبد القيس، فلما سمعها تركهم، وتمثَّل به عثمان يوم الدار. وبه سمي الممزق (بالفتح) وقيل بالكسر والتحقيق أن الممزق (بالكسر) شاعر آخر متأخر يعرف بالممزِّق الحضرمي. 6 - كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يَضرْها واعياً قرنه الوعل للأعشى (¬3) من قصيدته التي مطلعها: ودع هريرةَ إن الركب مرتحل ... وهل تُطيق وداعاً أيها الرجل وقبله: ألست منتهياً عن نحت أَثْلتنا ... ولست ضائرَها ما أطَّت الإبل (¬4) تُغري بنا رهطَ مسعود وإخوته ... يوم اللقاء فتُردي ثم تعتزل ومنها البيت المشهور: قالوا: الطرادُ! فقلنا: تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُل 7 - عقم النساء فلم يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم ¬

_ (¬1) روى هذا البيت القالي في ذيل الأمالي لغيره (ص 75) أميرية. (¬2) وهو المحرق (الثاني) وهو اللقب بـ (مضرِّط الحجارة). (¬3) وفي (المؤتلف والمختلف) الآمدي ذكر لسبعة عشر شاعراً كلهم يعرف بالأعشى، وإن أطلق الاسم انصرف إلى الأعشى الكبير ميمون. (¬4) الأثلة: الأصل، ونحت أثلته: قال في حسبه، وأطَّت: صوَّتت. وفي حديث أم زرع: (فجعلني في أهل صهيل وأطيط): أي خيل وإبل.

لأبي دهبل (وهب بن زمعة) الجمحي. مدح معاوية ومدح ابن الزبير وولَّاه عملاً في اليمن، قاله ابن الأزرق، عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزون وبعده: نزْر الكلام من الحياء تخاله ... ضَمِناً (¬1) وليس بجسمه سقم 8 - وكنا كندماني جَذيمة (¬2) حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا لمتمم بن نويرة من قصيدته المعروفة في رثاء أخيه مالك وبعده: فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً وتمثَّلت بهما عائشة لما وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن. 9 - وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكنْ ألقِ دلوك في الدلاء لأبي الأسود الدؤلي، قاله لابنه أبي حرب لما قعد عن الكسب وقال: رزقي يأتيني، وبعده: تجئك بمائها يوماً ويوماً ... تجئك بحَمْأَة وقليل ماء 10 - يا ربَّة البيت قومي غير صاغرة ... ضمِّي إليك رحالَ القوم والقربا لمرَّة بن مَحكان، شاعر إسلامي مقلّ، يُعدُّ في الأشراف الأجواء، وبعده: في ليلة من جمادى ذات أندية (¬3) ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطُنُبا ¬

_ (¬1) الضمن: الزمن وزناً ومعنى، والضمانة: الزمانة. (¬2) جذيمة (كسفينة) الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس ملك الحيرة، وأخباره مع الزباء ونديميه معروفة مشهورة. وحسب قوم أن الزباء هي زينب (زنوبيا) ملكة تدمر، وليست بها، وأظن أن قصة الزباء مصنوعة. (¬3) جمع ندى على الشذوذ لأنه (في القياس) جمع لما كان ممدوداً مثل كساء وأكسية. ويروى لحاتم الطائي.

لا ينبح الكلب فيها غيرَ واحدة ... حتى يلفَّ على خيْشومه الذَّنَبا قالوا، وكان الضيف يستبقي معه سلاحه مخافة البيات، فهو يقول لها: ضمِّي سلاحهم إليك فهم عندي في أمان. 11 - عن المرء لاتسأل وسلْ عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي لعدي بن زيد العبادي، من قصيدته التي مطلعها: أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم ورماك الشوق قبل التجلد (¬1) 12 - أريد حياته ويريد قتلي وتتمته: عذيرك (¬2) من خليلك من مراد من قصيدة قالها عمرو بن معد يكرب لقيس بن مكشوح المرادي، (قالوا) وتمثَّل به علي بن أبي طالب لما رأى عدوَّ الله عبد الرحمن بن ملجم المرادي. 13 - إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع لعمرو أيضاً من قصيدته التي مطلعها: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرِّقني وأصحابي هجوع 14 - ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ... فنعلفها خيول المسلمينا لابن مفرّغ الحميري، واسمه يزيد بن ربيعة، شاعر إسلامي أولع بهجاء آل زياد بن أبي سفيان، وهو جدّ السيد الحميري، قاله في عبَّاد بن زياد وكان عظيم اللحية. ¬

_ (¬1) ويروى البيت لطرفة. (¬2) العذير: النصير، والعاذر وهو منصوب بتقدير الفعل (اطلب)، وقد نسبه في اللسان لعلي بن أبي طالب وإنما تمثَّل به علي.

15 - وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما فيَّ إلا تلك من شيمة العبد كذلك هو على ألسنة الناس، وروايته: وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا للمقنَّع الكندي وهو محمد بن ظفر بن عمير وسمي المقنع لأنه كان لجماله يخاف العين فيتَّخذ اللثام، شاعر إسلامي مقلّ، معدود في الأجواء والأشراف، والبيت من قطعة له هي: يعاتبني في الدَّين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا أسدّ به ما قد أخَلُّوا يضيَّفوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا إلى أن قال: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وَفرْت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيَّعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هُمْ هوُوا غيِّي هَوِيت لهم رُشدا وإن زجروا طيراً بنَحْس تمرُّ بي ... زجرت لهم طيراً تمُرُّ بهم سعدا (¬1) ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وليسوا إلى نصري سراعاً وإن همُ ... دعوني إلى نصر أتيتهم شَدَّا لهم جُلُّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قلَّ مالي لم أكلفهمُ رفدا وإني لعبد الضيف ... (البيت). 16 - تمتع من شميم (¬2) عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار للصمَّة بن عبد الله القشيري، شاعر إسلامي غَزِل مجيد، من أبياته المعروفة، وقبله: ¬

_ (¬1) من أمور الجاهلية زجر الطير، والتفاؤل بها أو التشاؤم (إن طارت يميناً أو شمالاً)، وهو السانح والبارح، وقد أبطل ذلك الإسلام فيما أبطله من ضلالات الجاهلية. (¬2) الشميم كالشم. والعرار: نبت في البادية طيب الرائحة.

أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار وبعده: ألا يا حبذا نفحات نجد ... ورَيَّا روضه بعد القِطار وأهلك إذا يحلُّ الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زاري شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار وروي: غبَّ القطار وهو المطر. وروي: شهور قد مضين. والسرار: آخر الشهر. 17 - كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر (منسوب) لمضاض بن عمرو الجرهمي (¬1)، من قطعة (زعموا أنه) قالها يتشوَّق بها إلى مكة لما أجلت خزاعة قومه عنها، وبعده: بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضَّتنا السنون الغوابر وبدَّلنا ربي بها دار غربة ... بها الذين يعوي والعدو المكاشر فسحَّتْ دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمنٌ وفيها المعاشر 18 - وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر لأعرابي، نظر إلى امرأته فرآها تتجمَّل وهي عجوز، فقال لها: عجوز تُرَجِّي أن تكون فتية ... وقد لحب (¬2) الجنبان واحدودب الظهر تَدُسُّ إلى العطار سِلْعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر فأجابته ببيتين، وجمعت عليه نسوتها فضربنه. ¬

_ (¬1) وما هذه لغة جرهم - ولا هذا شعرها إن كان لها (في عربيتنا هذه) شعر. (¬2) أي ذهب لحمها، ورجل ملحوب: قليل اللحم.

19 - ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيّ كف تَبَدَّل لمعن بن أوس المزني، شاعر مخضرم مجيد معمَّر، من قصيدته التي يقول فيها: لعمرك ما أدري وإني لأوْجَل ... على أيّنا تأتي المنيَّة أوَّل وإني أخوك الدائم العهد لم أخن ... إنَ ايزاك خصم أو نبا بك منزل أحارب من حاربت من ذوي عداوة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل وإن سُؤْتني يوماً صبرت إلى غد ... ليعقب يوماً منك آخرُ مقبلُ ستقطع ... (البيت). وفي الناس إن رثَّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القِلى متحوَّل إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدَّ السيف من أن تضيمه ... إذالم يكن عن شفرة السيف مزْحل وهي طويلة جيِّدة، ومنها البيت السائر: إذا انصرفت نفسي عن الشيءلم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل 20 - فهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وجشمت قلبي صبره فتشجعا لدعبل يعاتب مسلم بن الوليد، من قصيدته التي يقول فيها: أبا مَخْلَد كنَّا عقيدي مودة ... هوانا وقلبانا جميعاً معاً معا فصيَّرتني بعد انتكاثك (¬1) متهماً ... لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا غششت الهوى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلت الودَّ حتى تقطَّعا وأنزلت من بين الجوانح والحشى ... ذخيرة ود طالما قد تمنعا فلا تَلْحيَنِّي ليس لي فيك مطمع ... تخرَّقت حتى لم أجد لك مرقعا فهبك ... (البيت). ¬

_ (¬1) انتقاضك وتحولك.

21 - فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثِّي من سميني وإلا فاطَّرحني واتخذني ... عدوّاً أتَّقيك وتتَّقيني للمثقب العبدي (¬1)، وبعده: فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أَاَلخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي يبتغيني 22 - إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يشعب لصالح بن عبد القدوس، ومن قصيدته الطويلة في الحكم، ومطلعها: صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تصرُّم وتقلُّب فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... واجهد فعمرك مَرَّ منه الأطيب وبعدهما البيت السائر: ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب ومنها: لا خير في ودِّ امرئ متملِّق ... حلو اللسان وقلبه يتلهَّب يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروي منك كما يروغ الثعلب 23 - تمسَّك إن ظفرت بذيل حر ... فإن الحرَّ في الدنيا قليل من شعر الفقهاء، وهو لأبي إسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي العالم العَلَم المعدود من أعلام الملَّة وقبله: سألت الناس عن خلٍّ وفيٍّ ... فقالوا: ما إلى هذا سبيل! 24 - إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن لأبي تمام. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره.

25 - حسن قول (نعم) من بعد (لا) ... وقبيح قول (لا) بعد (نعم) للمثقب العبدي وهو عائد بن محصَن بن ثعلبة (¬1)، شاعر جاهلي قديم كان في زمن عمرو بن هند وعُمِّر حتى أدرك النعمان بن المنذر، سمي المثقب (بالكسر) لبيت قاله وهو: ظهرن بكلَّة وسدلن رقماً ... وثقبن الوصاوص للعيون من قطعة له يقول فيها: لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء: (نعم) حسن قول (نعم) ... (البيت). إن (لا) بعد (نعم) فاحشة ... فبـ (لا) فابدأ إذا خفت الندم وإذا قلت (نعم) فاصبر لها ... بنجاز الوعد إن الخلف ذم أكرم الجار وراع حقَّه ... إن عرفان الفتى الحقَّ كرم إن شرَّ الناس من يمدحني ... حين يلقاني وإن غبت شتم 26 - مَنْذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط للحريري، من المقامة الشعرية، وأول المقطوعة: سامح أخاك إذا خَلَطْ ... منه الإصابة بالغلطْ وتجافَ عن تعنيفه ... إن زاغ يوماً أو سقطْ واعلم بأنك إن طلبـ ... ـت مهذباً رمت الشطط 27 - وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا ما جنى لسعيد للمعلوط بن بَدَل القُريعي (¬2) وقبله: متى ما يرى الناس الغنيَّ وجارُه ... فقير يقولوا عاجز وجليد ¬

_ (¬1) وقيل اسمه شاس بن عائد، وقيل غير ذلك. (¬2) روى الأبيات حبيب في الحماسة ولم يسمِّه، وسماه صاحب اللسان.

وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ (¬1) قسمت وجدود إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد وكائن رأينا (¬2) من غنيٍّ مُذمَّم ... وصُعلوك قوم مات وهو حميد وإن امرأً ... (البيت). 28 - نوائب الدهر أدَّبتني ... وإنما يوعظ الأديب لسليمان بن وهب وزير المهتدي، قاله في نكبته، وبعده: قد ذقت حلواً وذقت مرّاً ... كذاك عيش الفتى ضروب ما مر بؤس ولا نعيم ... إلا ولي فيهما نصيب 29 - أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا لمحمد بن بشير الرياشي، شاعر عباسي ماجن ظريف هجَّاء، لم يفارق البصرة ولم يتكسَّب بشعره، وقبله: كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا (¬3) لا تيأسن -وإن طالت مطالبة- ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا إن الأمور إذا انسدَّت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتيجا (¬4) أخلق بذي الصبر ... (البيت). 30 - من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور لسَلْم الخاسر، ابن عمرو بن حماد، وسمي الخاسر لأنه باع (كما قالوا) مصحفاً كان له واشترى بثمنه طنبوراً، أخذه من قول (أستاذه) بشَّار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج ¬

_ (¬1) لا يجمع في القياس حظ على أحاظي. (¬2) أي كثيراً ما رأينا. (¬3) ظفر وفاز. (¬4) انقفل، وروي: يفتق، بدل يفتح.

31 - فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء رواه أبو تمَّام في الحماسة، ولم ينسبه، وقبله: وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي بطني انطواء يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا وأبيك ... (البيت). 32 - يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء لقيس بن الخطيم الأوسي، شاعر فارس، قتل على جاهليته من قطعة له يقول فيها: وما بعض الإقامة في ديار ... يهون بها الفتى إلا بلاء وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البطن ليس له دواء يريد المرء ... (البيت). وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدَّتها رخاء ولا يعطى الحريص غنى لحرص ... وقد يَنمى (¬1) على الجود الثراء غنيُّ النفس (ما عمرت) غنيُّ ... وفقر النفس (ما عمرت) شقاء 33 - أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد (¬2) ثغر للعرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، شاعر إسلامي حجازي كان ينحو منحى ابن أبي ربيعة في غَزَله، قاله لما حبس، وبعده: وصبر عند معترك المنايا ... وقد شرعت أسنَّتها لنحري أُجرَّر في المجامع كل يوم ... فيا لله مظلمتي وقسري ¬

_ (¬1) واوي ويائي: أي ينمو وينمي. (¬2) راجع قصة أبي حنيفة وجاره، وقصة المأمون في سداد (بالفتح) وسداد (بالكسر) وهما مرويتان في أكثر كتب الأدب.

كأني لم أكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو عسى الملك المجيب لمن دعاه ... سينجيني فيعلم كيف شكري فأجزي بالكرامة أهل ودِّي ... وأجزي بالضغائن أهل وتري 34 - أشاب الصغير وأفنى الكبير (م) ... كر الغداة ومرّ العشي للصلتان العبدي (¬1)، وهو قثم بن خبيه من عبد القيس، شاعر إسلامي خبيث اللسان، وبعده: إذا ليلة هرَّمتْ يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي ويسلبه الموت أثوابه ... ويمنعه الموت ما يشتهي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي 35 - لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرَّني أني خطرت ببالكِ لابن الدُّمَينة، عبيد الله بن عبد الله الخثعمي، والدمينة أمه، شاعر إسلامي غَزِل مجيد، من قصيدته التي أرويها كلها لنفاستها: قفي يا أميمَ القلب نقضِ لُبانة ... ونشْكُ الهوى ثم افعلي ما بدا لك سلي البانة الغيناء بالأجرع (¬2) الذي ... به البان هل حيَّيت أطلال داركِ وهل قمت بعد الرائحين عشَّة ... مقام أخي البأساء (¬3) واخترت ذلك وهل هملت عيناي في الدار غدوة ... بدمع كنظم اللؤلؤ المتهالك (¬4) أرى الناس يرجون الربيع وإنما ... ربيعي الذي أرجو نوالُ وصالكِ ¬

_ (¬1) وهو غير الصلتان الضبي، وغير الصلتان الفهمي، الذي روى الجاحظ بيت: (العبد يقرع بالعصا) له، والصحيح أنه لأبي الأسود. (¬2) الأجرع: المكان السهل المختلط بالرمل، والغيناء: الوارفة الظل. (¬3) أي البائس الفقير. (¬4) المتساقط.

أرى الناس يخشون السنين وإنما ... سِنِيَّ (¬1) التي أخشى صروف احتمالَكِ (¬2) ومنها: ليهنئْكِ إمساكي بكفِّي على الحشا ... ورقراق عيني رهبة من زِيالكِ ولو قُلتِ طَا في النار أعلم أنه ... هدىً منك أو مُدْن لنا من وصالكِ لقدَّمت رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أوضَلَّةً من ضلالكِ أبيني: أفي يُمنى يديكِ جعلتِني ... فافرحَ أم صيَّرتِني في شمالكِ لئن ساءني ... (البيت). تعاللت كي أشْجى وما بك علَّة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلكِ 36 - ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح له (¬3) من قصيدة له فيها إقواء. وبعده: أبى الناس وَيْبَ الناس لا يشترونها ... ومنذا الذي يشري دَوَىً بصحيح (¬4) 37 - كل امرئ صائر يوماً لشميته ... وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حين لذي الأصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرم، من قصيدة له طويلة (¬5) أولها: ¬

_ (¬1) يخلط الناس في الاستعمال بين العام والسنة، وهما مترادفتان ولكن ليس في اللغة كلمتان بمعنى واحد (انظر كتاب الصاحبي وكتاب الفروق اللغوية) ولا بد من اختصاص كل لفظة بشيء لا تدل عليه الأخرى، فالسنة في الأصل للشدَّة والقحط والعام لليسر والرخاء (إقرأ آيات سورة يوسف) والسنة عند العرب مرادفة الشدة والبلاء، تقول: أصيبوا بالسنين وأصابتهم السنة، والعام للسنة الشمسية والسنة القمرية، ومن تتبَّع كلام العرب وجد ذلك مستفيضاً وقد نبَّه عليه شيخنا المغربي في الرسالة من أمد بعيد. (¬2) ارتحالك. (¬3) في رواية القالي وياقوت، وتروى لمجنون ليلى. (¬4) ويب الناس: ويح الناس، والدوى: شدَّة المرض. (¬5) القصيدة في الأمالي (الجزء الأول).

يا من لقلب طويل البث محزون ... أمسى تذكر رَيّاً أمّ هارون ومنها: ولي ابن عم على ما كان من خلق ... مختلفان فأقليه ويقليني أزري بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلْته دوني لاهِ ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت ديّاني فتخزوني ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ... فإن ذلك مما ليس يشجيني 38 - فإن تكن الأيام فينا تبدَّلت ... ببؤْسى ونعمى والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ... ولا ذلَّلتنا للتي ليس تجمل لإبراهيم بن كُنيف النبهاني، من شعراء الحماسة، من قطعة له، منها: تعزَّ فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معوَّل فلو كان يغني أن يرُى المرء جازعاً ... لحادثة أو كان يغني التذلل لكان التعزِّي عند كل مصيبة ... ونائبة بالحر أولى وأجمل فكيف وكلٌّ ليس يعدو حمامه ... وما لامرئ عما قضى الله مزحل فإن تكن ... (البيتين). ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تُحمَّل ما لا يستطاع فتحمل وقينا بحسن الصبر منا نفوسَنا ... فصحَّت لنا الأعراض والناس هزَّل 39 - وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض لحطان بن المعلَّى، شاعر إسلامي من شعراء الحماسة، من قطعة له يقول فيها: أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفضِ وغالني الدهر بوفر الغنى ... فليس لي مال سوى عرضي

أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي لولا بُنَيَّات كزُغْب القطا ... رُددن من بعض إلى بعضِ لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا ... (البيت). لو هبَّت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني من الغمض 40 - إذا ما غضبنا غضبة مضريَّة ... هتكنا حجاب الشمس أو أقطرت دما للقُحيْف بن خُميْر (أو خميَّر) (¬1) بن سُليم النديِّ (أو البديِّ) شاعر إسلامي كوفي أدرك الدولة العباسية، أخذه منه بشَّار فأدخله في قصيدته، وقبله: لقد لقيت أفناء بكر بن وائل ... وهِزَّان بالبطحاء ضرباً غشمشما (¬2) 41 - ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعدَّدت الأسباب والموت واحد لابن نُباتة السعدي (¬3) الشاعر عصريِّ المتنبي (¬4)، روى ابن خلكان أنه قال: كنت يوماً في دهليزي فدق عليَّ الباب، فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المشرق. قلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل (وذكر البيت)؟ فقلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ قلت: نعم. فمضى. فلما كان آخر النهار، دق عليَّ الباب. فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المغرب. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت ¬

_ (¬1) والذي في القاموس غلط. (¬2) أفناء الناس وأفناء القوم: من لا يعرف من أين جاء، والمشهور أنه ليس له واحد ولا يوصف به الواحد، وقيل واحده: فنو وفناً، وهزان: قبيلة، والقحيف هذا من بني عقيل وهم موالي بشار، أعني أنه مولاهم والمولى من الأضداد. (¬3) وهو غير ابن نباته خطيب سيف الدولة، المتوفى قبله بسنين، صاحب ديوان الخطب المشهور الذي لم يؤلف مثله، والذي كثرت شروحه، وآخرها ومن أجودها شرح الشيخ طاهر الجزائري، وغير ابن نباته المصري، المتوفى في القرن الثامن، صاحب (سرح العيون) وغيره. (¬4) يقال هو عصريه، ولا يقال معاصره.

القائل (وذكر البيت)؟ قلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ قلت: نعم. وعجبت كيف وصل إلى المشرق والمغرب (¬1)! 42 - والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى لأبي بكر بن دريد، الإمام اللغوي، من مقصورته المشهورة، التي يقول فيها: من ظلم الناس تحاموا ظلمه ... وعزَّ عنهم جانباه واحتمى من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما ... راح به الواعظ يوماً أو غدا من لم تفده عبراً أيامه ... كان العمى أولى به من الهدى من عارض الأطماع باليأس رنت ... إليه عين العزِّ من حيث رنا من عطف النفس على مكروهها ... كان الغنى قرينه حيث انتوى وقد عارضها هازلاً محمد بن عبد الواحد الشاعر المعروف بصريع الدّلاء، بمقصورة عجيبة، أسوق أبياتاً منها، وإن لم تكن من صلب موضوعي، قال: من لم يرد أن تنتقب نعاله ... يحملها بكفِّه إذا مشى ومن أراد أن يصون رجله ... فلبسها خير له من الحفى من دخلت في عينه مسلَّة ... فاسأله من ساعته عن العمى من أكل الفحم تسوَّدْ فمه ... وصار صحن خده مثل الدجى من صفع الناس، ولم يدعهم ... أن يصفعوه فعليهم اعتدى من ناطح الكبش تفجَّرر أسه ... وسال من مفرقه شبه الدما من طبخ الديك ولا يذبحه ... طار من القدر إلى حيث يشا من شرب المسهل في فصل الشتا ... أطال ترداداً إلى بيت الخلا من مازح السبع ولا يعرفه ... مازحه السبع مزاحاً بجفا ¬

_ (¬1) قلت: ودعاية الأدباء لأنفسهم قديمة ومن أعجبها شيء يقال له كتاب (أنا والنثر).

من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حد سوا والدرج (¬1) يلفي بالنشا ملتصقاً ... والسرج لا يلصق إلا بالغرا والذقن شعر في الوجوه نابت ... وإنما الأسْتُ التي تحت الـ (كذا) فاستمعوها فهي أولى بكم ... من زخرف القول ومن طول المرا فتلك (¬2) كالدر يضيء لونها ... وهذه في وزنها مثل الخـ ... 43 - إذالم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس لابن خالويه الحسين بن أحمد اللغوي النحوي، وكان له شعر حسن رواه في اليتيمة، وبعده: وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس! 44 - ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأيَّ باب أقرع؟ لأبي القاسم عبد الرحمن الخطيب الأندلسي الشاعر الصوفي، توفي في مراكش في أواخر القرن السادس الهجري. من قطعته المشهورة عند الصوفية، وهي: يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدُّ لكل ما يتوقع يا من يرجَّى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي ... (البيت). من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن عبيدك يمنع حاشا لمجدك أن تُقنِّط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع ¬

_ (¬1) الورق. (¬2) تلك يعني الدريدية.

45 - إن الثمانين (وبلغتها) ... قد أحوجت سمعي إلى ترْجمان (¬1) لعوف بن محلَّم الشيباني، شاعر مجيد كان نديماً لطاهر بن الحسين ثلاثين سنة لا يفارقه ثم لابنه من بعده. من قصيدة قالها لعبد الله بن طاهر، وقد دخل عليه فكلَّمه فلم يسمع، فارتجل هذه القصيدة، وقبله: يا ابن الذي دان له المشرقان ... طراً وقد دان له المغربان وبعده: وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة (¬2) تحت السنان وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان ولم تدع فيَّ لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان 46 - لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها للأبْلَه البغدادي محمد بن بختيار من شعراء الخريدة (¬3)، شاعر مولَّد رقيق، توفي في أواخر القرن السادس الهجري، لقِّب بالأبله لقوة ذكائه ... 47 - ما أنت أول سار غرَّه قمر شطر بيت للحريري صاحب المقامات، وبعده: ورائد أعجبته خضرة الدمن (¬4) فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيديِّ فاسمع بي ولا ترني (¬5) 48 - منذا يعيرك عينه تبكي بها ... ورأيت عيناً للبكاء تعار للعباس بن الأحنف، وقبله: ¬

_ (¬1) بضم التاء والجيم وفتحهما، وبالفتح والضم وهو الأجود. (¬2) الرمح هو الزج والقناة والسنان. والصعدة: القناة المستقيمة. (¬3) للعماد الأصبهاني الكاتب. (¬4) إشارة إلى حديث: إياكم وخضراء الدمن. وهو من جوامع الكلم والدمن في الأصل المزابل. والحديث لم يصحَّ فيما أذكر. (¬5) إشارة إلى المثل المعروف: لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ...

نزف البكاء دموع عينيك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرار 49 - قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جُبَّة وقميصا لأحمد بن محمد الأنطاكي المعروف بأبي الرقعمق، المتوفى في نهاية القرن الرابع، شاعر يغلب على شعره الهزل كابن حجاج وصريع الدلاء، وقبله: إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... فأتى رسولهم إليَّ خصوصا وله في الهزل قصيدة طويلة، أولها: وقَوققي وقوققي ... هدية في طبق أما ترون بينكم ... تيساً طويل العنق 50 - والناس من يلْق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأمِّ المخطئ الهبل للقطامي واسمه عمير بن شُيَيْم التغلبي، شاعر إسلامي متقدم من الفحول ولقِّب القطامي ببيت قاله، وقبله: والعيش لا عيش إلا ما تقرُّ به ... عين ولا حال إلا سوف ينتقل وبعده: 51 - قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل 52 - وربما ضرَّ بعض الناس حزمهم ... وكان خيراً لهم لو أنهم عجلوا (¬1) 53 - فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغْو لا يعدم على الغيِّ لائما ¬

_ (¬1) وقد روي البيت رواية أخرى.

للمرقَّش الأصغر، واسمه عمرو (وقيل ربيعة) بن حرملة (¬1) وقبله: أمن حُلُم أصبحت تمكث واجماً ... وقد تعترىِ الأحلام من كان نائماً 54 - ألهى بني جُشَم (¬2) عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم لِمَوْج بن قيس بن مازن وهو ابن أخت القطامي شاعر خبيث اللسان، وبعده: يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مَسْؤوم إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فلَّه الأيام محطوم 55 - لو بغير الماء حلقي شَرِقْ ... كنت كالغصَّان بالماء اعتصاري لعدي بن زيد العبادي، من أبيات له يستعطف بها النعمان. وقبله: أبلغ النعمان عني مألكاً (¬3) ... أنه قد طال حبسي وانتظاري وبعده: ليت شعري من دخيل يعتري ... حيث ما أدرك ليلي ونهاري قاعداً يكرب نفسي بثّها ... وحراماً كان سجني واحتصاري 56 - جاء شقيق عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح لجَحل (¬4) بن نضلة الباهلي، جاهلي، وشقيق هذا هو شقيق بن جزء بن رياح (¬5) من بني قتيبة بن معن. ¬

_ (¬1) وهو أشعر المرقشين وهو عم طرفة، والمرقش الأكبر عمه. (¬2) وروايته على الألسنة: ألهى بني تغلب. (¬3) رسالة كالالوكة. (¬4) الجحل في الأصل: نوع من الحرباء سمي به. (¬5) عند الآمدي رباح، وتصحيحها من الاشتقاق لابن دريد.

57 - عليَّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر للبحتري. 58 - يا أيها الرجل المعلِّم غيره ... هلَّا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصحَّ به وأنت سقيم لأبي الأسود الدؤلي، من قصيدته التي يقول فيها: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم (¬1) 59 - قومي همُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي للحارث بن وعلة الجرمي من شعراء الحماسة، من قصيدته التي مطلعها: لمن الديار بجانب الرضم ... فمدافع الترباع فالرجم وبعده: فلئن عفوت لأعفونْ جَلَلاً ... ولئن سطوت لأوهننْ عظمي 60 - أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني (¬2) لسُحيم بن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب الرياحي من قصيدة له طويلة، وقبله: ¬

_ (¬1) ورووا له فيها: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم والبيت الأول للمتوكل الليثي، والله أعلم. (¬2) جلا اسم من أسماء العرب، وابن جلا كناية عن الواضح الأمر، وطلَّاع: صفة لـ (أنا)، والثنايا ج ثنية في الجبل، يريد أنه يطلع في الغارات من ثنية الجبل على أهلها. وقوله: متى أضع العمامة، كناية عن الحرب.

أنا ابن الغرِّ من سلفي رياح ... كنصل السيف وضَّاح الجبين وبعده: عذرت البُزْل إن هي صاولتني ... فما بالي وبال ابني لبون 61 - وماذا تبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذَّني مداراة الشؤون سأجني ما جنيت وإن ظهري ... لذو سند إلى نضد أمين 62 - شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات للقاضي الأرَّجاني، وهو ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين، قاضي تُسْتَر، شاعر فقيه (¬1)، وبعده: فالعين تبصر منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة وله البيت المشهور الذي تَقْلب حروف صدره فيجيء معك عجزه: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم 63 - فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى ... كما فرَّ عيناً بالإياب المسافر لمعقر بن حمار البارقي، شاعر جاهلي محسن متمكن، واسمه عمرو، وفي نسبه اختلاف (¬2). وسمي معقراً لقوله في هذه القصيدة: لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر ¬

_ (¬1) وهو القائل، وأظنه لم يجاوز الصدق: أنا أفقه الشعراء غير مدافع ... في العصر لا بل أشعر الفقهاء (¬2) بين الآمدي والمرزباني (راجع معجم الشعراء والمؤتلف والختلف).

64 - فيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف للفارعة (¬1) بنت طريف بن الصلت الشيبانية، ترثي أخاها الوليد الشاري البطل الخارجي، الذي خرج أيام الرشيد في نصيبين والخابور وتلك النواحي، من قصيدة لها معروفة، ومنها: فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قني وسيوف حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرضَ الندى بحليف فقدناك فقدان الشباب وليتنا ... فديناك من فتياننا بألوف وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجي لعدو أو لجاً لضعيف ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض هفَّت بعده برجيف وللبدر من بين الكواكب قد هوى ... وللشمس لما أزمعت لكسوف وللَّيث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف عليك سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقَّاعاً بكل شريف ... ¬

_ (¬1) وقيل اسمها فاطمة.

القضاء في الإسلام

القضاء في الإسلام قطعة من محاضرة ألقيت سنة 1942 وضاعت تتمتها يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشيَّة مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الآذان إغراقاً وتهويلاً، فإذا سمعتم مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلَّقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال: «أنا عربي»، أو قال: «أنا مسلم» ... وكانوا أعلام الهدى في طريق العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذُّوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، وما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون! إني والله آخذ تاريخهم فأختصره وألخِّصه وأعرضه عليكم، وربما أشرت إشارة عابرة إلى القصة لو سمعتموها على أصلها ما دريتم لفرط ما يخالطكم من السموِّ والزهو وهزَّة الطرب وإخذة العجب، أفي أرض أنتم أم في سماء ... لاتعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء! وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها. ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القوي من بني آدم الضعيف، وإن معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحيوات والحريَّات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء.

والقضاء (عند المسلمين) أقوى الفرائض بعد الإيمان، وهو عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال: {فالله يحكم بينهم} و {إن ربك يقضي بينهم}، وأمر به نبيَّه فقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيُّون}، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتَّبع الهوى}. والقضاء أول ما تعقد عليه أمة خناصرها، إذا عدَّدت أمجادها ومفاخرها. وإذا استدلَّ بفرد على سلائق جيل، كان القاضي العالم العادل أظهر دليل على مكارم شعبه ونبل أمته. وإذا كان بين الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه، وعزته ومضائه، ففاخروه يا شبابنا بقضائكم يكن لكم الفخار، وتعقد على جباهكم تيجان (الغار)، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد، بل انهضوا فَصِلوه بمجد لكم جديد! ... يا أيها السامعون! إني لا ألقي خطابيات، ولكن أسرد حقائق: هذا قضاؤنا، فمن عرف قضاء أشدَّ منه استقلالاً؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ماكان لقضاتنا؟ لم يكن القاضي مقيداً بمذهب بعينه لا يد له في مخالفته، ولا مربوطاً بقانون بذاته لا يملك الخروج من ربقته، وليس لخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام، تبدَّلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيِّرون وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم ولا يمسّه خليفة حق ولا سلطان جائر ... القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنَّة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه إيمانه ويقينه.

وسيأتي الكلام في صفات القاضي، وأن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلِّدين. ولقد رأيت في تراجم بعض القضاة أنهم كانوا يرجعون إلى الخلفاء يسألونهم ويستفتونهم، وأن من الخلفاء من كان يذيع من (البلاغات) ما ظاهره إلزام القاضي بقول أو مذهب. وتحرير الكلام في هذه المسألة أن من أعمال الخلفاء الاجتهاد والفتوى والقضاء وقيادة الجيوش وسدِّ الثغور، ومن شرائطهم العلم، فإذا رجع القضاة إلى الخلفاء، فإنما يرجعون إليهم لعلمهم وفقههم لا لسلطانهم ومنصبهم، وأكثر ما رأيت من السؤال إنما هو لعمر بن عبد العزيز وأمثاله. ولقد كانوا يقولون: «العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة» ... ولم يكن القضاة ملزمين بالعمل بجواب الخليفة أو بلاغه. ولقد ردَّ القاضي المصري بكَّار بن قتيبة بلاغ الموفَّق العباسي، لما ثبت عنده أنه مخالف للحكم، مناهض للدليل وأسقط العمل به (¬1). ولعمر الحق ما فرَّط قضاتنا بهذه الأمانة ولا أضاعوها، بل كانوا أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيراً ولا صغيراً يقيمونه على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوي العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوَّحت لهم بالموت منشوراً، بل كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتاً، وفي إنفاذه كالصواعق مضاءً وانقضاضاً، وسيأتيكم حديث محمد بن عمران قاضي مكة، الذي ادَّعى لديه جمَّال على أمير المؤمنين، العظيم المخيف، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة جلب)، فجاء في خفٍّ وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمَّال. وشُرَيْك قاضي الكوفة حين ادَّعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكماً غيابياً، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسَّل إليه بكاتبه، فحبس ¬

_ (¬1) راجعوا الكندي وذيوله.

القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغضب الأمير وبعث من أخرجهم. عند ذلك -أيها السادة- عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزَّة الإيمان فقال: «والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلَّدناه لهم». ثم ختم قمطره، وجمع سجلَّاته، واحتمل بأهله، فتوجَّه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: «لا والله حتى يردَّ أولئك إلى الحبس، فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت»؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أُرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسُقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلَّم عليه بالإمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا آمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له شُريك: أيها الأمير، ذاك حقُّ الشرع، وهذا حقُّ الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من عظَّم أمر الله، أذلَّ الله له عظماء خلقه! هذا قضاؤنا، فهل سمعتم عن قضاء أنه بلغ في التسوية بين الخصوم مبلغه؟ لقد سووا بينهم في المجلس والخطاب والبِشْر، واللفتة العارضة، والبسمة البارقة، بله الحكم. وقد بلغ التدقيق في تحقيق هذه التسوية مبلغاً لا غاية وراءه، فاقترن في هذه المسألة العلم بالعمل، وحقَّق القضاة ما دوَّن الفقهاء، فافتحوا أقرب كتاب فقه إليكم تروا ماذا دوَّنوا ... وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلَّم منه نفسه، فترادَّا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك يحيى بن أكثم، فدعا به المأمون فقال له: اقض بيننا؛ قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم؛ قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كانت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة)؛ قال المأمون: قد جعلت داري

مجلساً للقضاء. قال: إذن فإني أبدأ بالعامة ليصحَّ مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية)؛ قال المأمون: افعل؛ ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وأذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلِّم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال، أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المحضر: «عبد الله المأمون»! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلَّى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلَّى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه والقصة طويلة عجيبة، تتمتها أعجب من فاتحتها، فاقرؤوها في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي، الجزء الثاني الصفحة 151، وإنكم لتحارون بعدُ مِمَّ تعجبون: من جرأة الرجل، أو من صلابة القاضي، أو من أخلاق المأمون! ومن قبله غضب عليٌّ (كما قيل) حين كانت له دعوى مع اليهودي، لأن القاضي ناداه: يا أبا الحسن، ودعا اليهودي باسمه، فرأى في ذلك تعظيماً له وإخلالاً بالمساواة بين الخصوم، والله أعلم بصحَّة ما قيل. ونزل ضيف بخير بن نعيم قاضي مصر فأطعمه وأكرمه، ثم علم أن له خصومة لديه، فتركه في الدار، وذهب يفتِّش عن خصمه حتى جاء به فأجلسه معه على المائدة. وقد حدَّثني حمي القاضي صلاح الدين الخطيب عن عمِّه قاضي يافا في زمانه العالم الجريء المشهور صاحب النوادر الشيخ أبي النصر الخطيب بمثل هذه القصة ... وما كان الخير لينقطع في أمة محمد إلى يوم القيامة. هذا قضاؤنا، فهل سمعتم أن قضاءً أسرع في إحقاق الحق منه، وأبعد عن التعقيد والالتواء والتسويف والتأجيل؟ إن الحق اليوم لا يكاد يصل إليه صاحبه حتى تنقطع دونه الأعمار، وما جَدَى حق يأتي من دونه المدى الأطول؟ لقد كانت بيننا وبين آل الصلاحي في دمشق دعوى على أرض لبثت في المحاكم ثلاثاً وثمانين سنة وخمسة أشهر ... أقامها جدّهم على جدِّي الذي قدم من (طنطا)، وانقرض منا ومنهم بطنان والدعوى قائمة، وقد خسرناها أخيراً.

وصدِّقوني إذا قلت لكم إني لم أدر إلى الآن مع من منا الحق، ولم أفهمها، وكيف أدرس ملفّاً فيه من الأوراق المكتوبة بالعربية والتركية والفرنسية أكثر مما في تاريخ ابن جرير الطبري؟ أما قضاؤنا، فكان يبتُّ في القضية مهما عظمت في جلسة أو جلستين، لا يعرف هذا التطويل وهذا التأجيل. ولقد حكم قاضي مصر محمد بن أبي الليث في دعوى بني عبد الحكم المشهورة بمبلغ مليون وأربعمئة وأربعة آلاف دينار ذهبي في جلسة واحدة يوم السبت 8 جمادى الأولى سنة 237هـ، ورضي بحكمه الفريقان. روى ذلك الكندي. وهل مثل قضاتنا في التنزُّه عن كل ما يقدح بحشمة القاضي ووقاره، وفي التحرُّز من أدنى التهم، وأضعف الميل؟ وهل للقضاة في أمة اليوم مثل ما كان لقضاتنا من رفيع الشأن وعظيم القدر؟ يا أيها السادة! اذهبوا إلى سوق الكتب فاطلبوا كتاب «الخراج» الذي ألَّفه القاضي الإمام أبو يوسف للرشيد واقرؤوا مقدمته، واذكروا عظمة الرشيد وكبر نفسه وجلال ملكه، ثم انبشوا تواريخ الأمم الماضية وأخبار الأمم الحاضرة، وانظروا ... هل تجدون قاضياً، أو عالماً، يقول لملك دون الرشيد بمئة مرة مثل هذا الكلام أو قريباً منه: «الله الله، إن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار، فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديَّان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذَّرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سُدَى، وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فأعدَّ يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت قد أثبت فهو عليك غداً يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد». أيها السادة، هذا بعض ما خاطب به أبو يوسف القاضي هارون الرشيد أمير المؤمنين والحاكم المطلق في ست عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام! ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولَّى القضاء سناً معينة لا بد من إكمالها وامتحاناً مسلكياً. والشرع لم يشترط في السن إلا البلوغ. ولما قلَّد المأمون

يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنِّه، فكتب إليه المأمون: كم سنُّ القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سنِّ عتَّاب بن أسيد لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه. والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. وردَّه إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم واختبره عمليّاً، معروف معلوم. ... هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلِّد أحداً شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قلَّد رجلاً عملاً وفي رعيَّته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين». وكان الخليفة هو الذي يقلِّد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولَّاه الخليفة ذلك وصرَّح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حقِّ الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون من بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تُجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيى بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له ابن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا

يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولِّي علينا من غيرنا. قال المنصور: فسمِّ رجلاً. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكنْ به صمم، ولا يصلح الأصمُّ للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فابن لهيعة. انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيَّته على بعد ما بين العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال ابن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حقُّ المجاملة وأني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت: انظروا إلى حبِّ أهل مصر بلدهم وقديم عصبيَّتهم له! ... ونصَّ الحنفيَّة على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء في السلطان الجائر إذا كان يمكِّنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشرٍّ ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلُّد من أهل البغي، كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلّده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى! وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا ينساه، وكأنَّ أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي نجد فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولَّاها الجاهلون ... وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولُّون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس. ***

وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقَّع ويقنع بالزيت، وكان عليٌّ تُجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمئة درهم في الشهر، وكان مرتب ابن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب ابن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجري مثل ذلك على القاضي المفضل بن فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وراتب الفضل بن غانم مئة وثمانية وستين ديناراً في كل شهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مئة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: ما لي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطِّي بالرديء! وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزَّان بيت المال. فأَعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الأخر سنة إحدى وثلاثين ومئة، عشرين ديناراً، واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومئة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتَّبات. نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعفَّ نفوسهم عن حرامه اكتفاءً بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضاتنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلُّوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره. ولقد كانوا على هذا المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولي تقشُّف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدَّث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على القاضي ابن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدَّى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبقِ خوص وكعك وماء. فقال: ابللْ وكلْ، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!

وأيُّ حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم، حقوق المسلمين. أبلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك. واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقَّق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً. هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز! ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسَّب أخذ بيد رفيقه فادَّعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدَّعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين اضاقة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم)، فقال لبعض أصدقائه: قُدني إلى القاضي فلعلَّه يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيَّد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستُّون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقرَّ. فقال: أعطه حقَّه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدَّعي: إن رأيت أن تنظره. قال: لا. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلَّاه فأخرج دراهم فعدَّ منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل. قال صاحب القصَّة: وآليت ألَّا أعود لمثلها! وكان بمصر أخوان توأمان تكهَّلا ولا يفرِّق بينهما من رآهما من قوةِ الشبه بينهما، فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائراً له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجَّه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فاحضرهما وقال: أيُّكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟

على أن في القضاة من كان يقضي بالمجان. قال ابن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدَّقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكَّار بن قتيبة لما همَّ ابن طولون بخلع الموفَّق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكَّاراً، فطلب أن يلعنوا الموفق فامتنع بكار فألح عليه فأصرَّ على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها. ... على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته. وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتَّصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصدِّيقين، قد بوِّبت في ذلك الأبواب، وصنِّفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخُبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد المتعلق منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استشعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن عليٌّ، رضي الله عنه، قاضياً فقال له: بِمَ صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حُق لك أن تقضي. ونصُّوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألَّا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس عليَّ غضبان. وهذه يا أيها السادة مزلَّة أقدام القضاة، ولا سيَّما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعلم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخلُ من أعداء يشونَ به إلى أولي أمره، ويسوِّدون

ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخِّرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضى عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولاتضجُّ ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركَّبه الله له، ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه الخامل، والكبير والصغير. وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبيراً من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزَّهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جرِّبت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام. وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق، ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويردَّ رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتي خراجك، هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطَّاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر. ... أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرقّ وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلِّف من الناس لذوي الإمارة، وهدَّدوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفلَّ بعزيمته حدَّ سيفه. وبقي على موقفه

منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. يا أيها السادة. إن منَّا قضاةً كانوا يبيعون الملوك (¬1)! القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار ... كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتَّصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أبا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجَّته من صاحبه فأقضي له فإنما أقضي له بقطعة من النار (¬2) وكيف يهدأ له بال، ويقرّ له قرار، ويلتذّ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقِّق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسمِّيها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟ لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفرُّوا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظلَّ على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارَض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطُلب ابن وهب ليولَّى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعلَّ الله يحيي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟ ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يا رب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يا رب، ولو قُرضْتُ بالمقاريض! ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفِّياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فرَّ إياس من ¬

_ (¬1) انظر الخبر في كتابي (رجال من التاريخ). (¬2) أخرجه الستة وقد نقلته هنا بالمعنى.

القضاء، فلما تعذَّر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلاً باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدَّة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي. خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون مامغبَّتها، وبلاء لايعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم. وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه صاحبه بالمذبوح بغير سكين (¬1)، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار (¬2). ... نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنَّة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجلِّ الطاعات، فرغبوا فيه، وتقرَّبوا إلى الله به. قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إليَّ من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدلَّ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين، إحداهما: رجل آتاه الله علماً، فهو يعلِّمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إليَّ من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسَّر عليٌّ، رضي الله عنه، والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما، قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم (¬3). وفسَّروا حديث المذبوح بغير سكِّين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجُرْ، يسدِّده للحق ما لم يردْ غيره (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي (¬2) أبو داود. (¬3) وأخرج ذلك أبو داود مرفوعاً. (¬4) كذلك جاء لفظه في كتب الحنفية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر وقال: غريب.

وقد فصَّل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحبّاً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه لرهله وقلة علمه، أو لأنَّ من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتِّباع المغريات. ... وليس كل طالب للقضاء يُولَّاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتولِّيه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأً أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت (¬1) ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمرُّ من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار من أرباب المكان وخلاصة السكان، فإذا عدونا ذلك لم نجد في أصول تقليد القضاء عندنا مغمزاً. وتعالوا قابلوا بين شرائط تقليد القضاء اليوم، وقد نصَّ عليها القرار ذو الرقم 238 وبين ما اشترطه الفقهاء في القاضي تروا أمرها من أمره قريب، فقد شرط القرار أن يكون القاضي سورياً، لأن القضاء مظهر من مظاهر السيادة، وأداة من أدوات السلطان، فهو يوسد إلى أبناء البلد تثبيتاً لسيادتها وتقوية لسلطانها. وشرط الفقهاء أن يكون مسلماً، لأن الجنسية عند المسلمين هي الدين، وقد منعوا سماع شهادة غير المسلم على المسلم، لأنها ولاية، والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}، والقضاء بذلك المنع أولى. ¬

_ (¬1) وسدَّت وهي الجزيرة كانوا لا يشترطون في القاضي يرسل إليها ما يشترط في قضاة غيرها من ولايات الشام وبقي ذلك إلى سنوات خلت.

واشترط القرار ألا يكون القاضي محكوماً بعقوبة شائنة، وأن يكون فاضل الخلق، واشترط الفقهاء العدالة فيه، وإن ذهب الحنفية إلى صحَّة ولاية الفاسق إن لم يجاوز في أحكامه حدَّ الشرع مع تأثيم من يولِّي فاسقاً. واتفق القانون والشرع على اشتراط صحة الحواسِّ في القاضي، لأن بها تمييز ما بين الخصوم، وتمييز المحقِّ من المبطل، وعلى اشتراط الذكورة في القاضي، ولم يجوَّز القانون تقليد امرأة القضاء بين الناس، وقد قال أبو حنيفة، رحمه الله، بجواز تقليدها القضاء فيما تصحُّ به شهادتها، أي في الشرعيَّات والمدنيَّات دون الجنائيات، فمن لي بإفهام هؤلاء الذي يسمُّون أنفسهم أنصار المرأة أن الشرع أعطاها أكثر مما يطلبون لها، وأن مذهبهم يقوم على واحد من شيئين: إما الغفلة وابتغاء ما لا يكون أبداً من تساوي المرأة بالرجل، وإما المجانة واتخاذ هذه الدعوة مطيَّة يبلغون بها حاجات في نفوسهم. ولم يَرْوِ لنا التاريخ خلال هذه العصور الطويلة أن امرأة وليت القضاء ولا يكاد يسيغ العقل ذلك ولا الطبع يألفه، وقد قال الله تعالى: {الرجال قوَّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض}؛ وفسَّروا الفضل بأنه العقل والدين. واتفقت قوانين اليوم وأحكام الفقه على اشتراط العلم في القاضي؛ غير أن القانون أوجب نيله ليسانس الحقوق قاضياً شرعياً كان أو مدنياً. وأكثر الفقهاء شرطوا في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، واحتجُّوا بحديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: بِمَ تحكم؟ قال بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنَّة رسول الله. قال: فإن أتجد؟ قال: أجتهد رأيي، فارتضى ذلك رسول الله، وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسوله (¬1)؛ واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيما لم يُوحَ إليه حكمه، ويقضي باجتهاده (ولكن الله لا يقرُّه على الخطأ)، وأن الاجتهاد كان جائزاً للصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بمتَّصل.

وجاء في المبسوط: إن للقاضي أن يجتهد فيما لا نصَّ فيه، وإنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه، فكما أنه لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النصِّ، لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه. غير أن الحنفية ذكروا أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية لا شرط صحة التولية، وأنه يصح قضاء المقلِّد إذا قضى بفتوى غيره (الهداية والهندية)، أما المفتي، فأجمعوا على اشتراط كونه من أهل الاجتهاد، أو النظر في الدليل. قال أبو حنيفة: لا يحلُّ لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعرف من أين قلنا. وهذا منتهى ما تصل إليه حرِّية البحث، وما تبلغه الروح الاستقلالية في العلم. قال في المبسوط: «وإذا لم يكن القاضي من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل، سأل المفتين (أي المجتهدين)، ونظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه، وهذا اجتهاد مثلِهِ، ولا يعجل بالحكم إذا لم يَبِنْ له الأمر حتى يتفكَّر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا يستدرك ذلك إلا بالتامُّل والمشورة». ومهما كان من أمر، فالأصل في القضاء الاجتهاد، ولا يكون إلا كذلك، لأن النصوص محدودة، والوقائع لا حدَّ لها، ولا ينقطع الاجتهاد في المسائل الجزئية أبداً، ومن قال بسدِّ باب الاجتهاد، إنما أراد به الاجتهاد في غير موضع الحاجة أو الاجتهاد المطلق، أما الاجتهاد عند وقوع الواقعة لا بدَّ من معرفة حكم الله فيها، أو عند تبدُّل العرف الذي بني عليه الحكم الاجتهادي، فلم يمنعه أحد ولم ينقطع أبداً، ولا يقلِّد في هذا الموطن إلا عصبي أوغبيّ كما قال القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب: قال الطحاوي (أبو جعفر الإمام الحنفي الكبير)، وكان كاتب هذا القاضي: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسالة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي، أو كل ما قال أبو حنيفة أقول به؟! قال: ما ظننتك إلا مقلِّداً، قلت: وهل يقلِّد إلا عصبي؟ قال لي: أو غبي.

فطارت هذه الكلمة في مصر حتى صارت مثلاً، وكان ذلك في أول القرن الرابع. ... سمعتم خلاصة الكلام في هذه المسألة، وعلمتم أن العزيمة هي كون القاضي من أهل الاجتهاد، والرخصة التي قال بها الحنفية هي جواز كونه مقلِّدأ يا أيها السادة: إنهم كانوا يختلفون في القاضي هل يجوز له التقليد، فلم يبق خلاف بيننا اليوم في أن القاضي لا يجوز له الاجتهاد! ونقل للماوردي، أن السلطان إذا قال للقاضي قد ولَّيتك فلا تحكم إلا بمذهب فلان (من الأئمة) كان الشرط باطلاً، وكان له أن يحكم بما أدَّاه إليه اجتهاده. ومن الاجتهاد اختيار من يفتي بقوله من المفتين كما جاء في المبسوط. أما القضاء اليوم فالأهلي منه على مذهب (أئمة) الإفرنج، كأننا أمة من البرابرة لا دين لها ولا فقه، ولا كتاب. وقد بَدَتْ في سواد هذا الليل خيوط الفجر، وأوشك أن يفيق النائمون. وأما الشرعي فعلى مذهب أبي حنيفة، إلا مسائل بأعيانها جرى العمل فيها (في مصر) على غيره، منها ما عدل فيه إلى قول معتمد في أحد المذاهب الثلاثة، ومنها ما خولفت فيه المذاهب الأربعة اجتهاداً ورجوعاً إلى دليل كمسألة طلاق الثلاث دفعة واحدة ووقوع طلقة واحدة به، ومنها ما خولفت فيه بلا دليل شرعي كمنع سماع دعوى الزواج ممن لم تبلغ سنها السابعة عشرة أو ما لم تسجل في كتاب وقد مات أحد الزوجين - ولو أنهم اجتهدوا في مصر ونظروا في الأدلَّة لهان الخطب، ولكن سبيلهم أن يهوِّنوا حكماً، كتوريث ابن الابن مع الابن، فيحتالوا عليه، وصيَّة إجبارية، أو يجدوا له مستنداً قولاً لمجتهد من المجتهدين الأولين ولو كان مرجوحاً أو منقطعاً سنده، فيأخذوا به، وهذا ما سمَّاه ابن عابدين في رسالته اتِّباع الهوى. أما القضاء عندنا فليس فيه ابتداع أو مخالفة إلا في مسألة واحدة ولكنا خالفنا فيها ظاهر القرآن وثابت السنة والإجماع. لا تعجبوا يا سادة قبل أن تسمعوا البيان:

نصَّت المادة 7 من قرار حقوق العائلة (¬1) على أنه لا يجوز لأحد أصلاً أن يزوِّج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة ولا الصغيرة التي لم تكمل التاسعة. ونصَّ في المادة 52 منه على أن هذا النكاح فاسد. وفي المادة 77 على أن البقاء على الزوجية ممنوع في هذا النكاح فإذا لم يفترقا يفرِّق بينهما القاضي. أما خلافها لظاهر القرآن (وظواهره حجَّة كما هو محرَّر في كتب الأصول) فلقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدَّتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ...} (¬2). ففهم من ذلك صحة زواج المرأة وطلاقها قبل بلوغها سن الحيض. أما السنَّة فلزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في السنة السادسة من عمرها، والحديث (كما قال في فتح القدير) قريب من المتواتر. وقد انعقد الإجماع على أن حكمه عام وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بعائشة. وقد زوَّج الزبير ابنته لقدامة بن مظعون يوم ولدت، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة مع علمهم به. أفنكاح قديمة بنت الزبير نكاح فاسد يا أيها السادة؟ أم أنه يجب التفريق بين محمد سيِّد النبيين وإمام المرسلين، وعائشة أم المؤمنين، لأن قرار حقوق العائلة يمنع بقاءهما على الزوجية؟ أم إنه يزعم أن أحكام الإسلام تتبدَّل ولو نطق بها القرآن وجاءت بها السنة المتواترة وانعقد عليها الإجماع؟ سيقول قائل منكم أو من غيركم إن قانون العائلة وضعه فحول من العلماء، وعرض على شيخ الإسلام وأمر به السلطان واستند فيه إلى اجتهاد ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم. لا يا سادة، إنه لا شيخ الإسلام، ولا السلطان، ولا مئة مجتهد يستطيعون مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، وما أحسب قاضياً يخاف الله ويعرف طرق العلم يحكم بغير ما أنزل الله فيصح فيه الوصف بالفسوق والظلم والكفر، وقد وصف الله بها من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف بمن يحكم بخلافه؟! ¬

_ (¬1) وهذا القرار ألغي سنة 1953 وأحلَّ محله (قانون الأحوال الشخصية). (¬2) سورة الطلاق.

وإني أحب أن أسرَّكم فأخبركم بأن هذه المادة قد وضعت من أكثر من ثلاثين سنة، ولكن قاضياً واحداً لم يقض بها، فلم يبق منها إلا سواد الحبر في بياض الورق (¬1)، ذلك لتعلموا أن هذا القرآن قد تولى الله حفظه وحمايته {إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون} وإن قلعةً يدافع عنها الله لا يستطيع أن يقتحمها بشر (¬2)! ... ¬

_ (¬1) ونحن مع ذلك ننصح الناس ألا يزوّجوا الصغيرات حتى يبلغن، ونؤخر عقودهنَّ في المحكمة، ولا نسجل عقداً إلا لبالغة مبلغ النساء، ولكنا لا ننقض عقداً أبرمته الشريعة، ولا نحرم ما أحلَّ الله، ولا يسوقنَّ أحد ما في تزويج الصغار من مضرَّة يراها، بل السبيل أن يسوق من شاء الكلام شرعياً أصولياً فينظر في الأدلة وقوَّتها وما يفهم منها؛ فإذا صحَّت الأدلة وكان ذلك جائزاً في الشرع قبلناه لأن الشرع في نظر المسلم يكفل المنافع ويدرأ المفاسد كلها، ولا يقرّ مفسدة، والفرق واضح بين عدم تزويج الصغار، وبين الحكم بفساد العقد بعد عقده، لأن التزويج للمولى أو القاضي إن كانت الولاية إليه له أن يزوِّج أو يدع، ولكن العقد إن أبرم لله لا ينقض إلا بموت أو طلاق أو تفريق أمر به الشرع. (¬2) هذه القطعة من تلك المحاضرة وهي طويلة، وعندي بعض أوراقها وأضعت بعضاً، وعجزت عن العودة إليها وإكمالها.

الحجاب

الحجاب ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب الأمراء، وإن كان الصنفان يتشابهان في أمور كثيرة: في الحروف (امرأة. أمراء) كلها من (ام ر). وأثقل القول على النفس فعل الأمر. وفي أنَّا إن خضعنا للنساء طغيْنَ طغيان الأمراء، وإن لِنَّا للأمراء (تدلَّلوا) دلال النساء. وفي الحجاب الذي يغري ولا يعطي، ويطمع ولا يطعم، يلبس النساء العديد من الثياب ولكنها ثياب لا تستر جسداً، ويتَّخذ الأمراء الواسع من الأبواب، ولكنها أبواب لا تدخل أحداً. والحجاب عند الصنفين زينة وفخر، لو كان النساء عاريات أبداً كسائر المؤنَّثات ... من إخواننا (باقي المخلوقات) لفقدْنَ تسعة أعشار فتنتهن ونصف العشر أيضاً. ولو تعرَّى الأمراء عن الشارات والزينات والأبواب والحجاب لخسروا مثل ذلك من هيبة الحكم. وأرجو أن لا أكون قد أوقعت نفسي في ورطة، فأسخطت عليّ أقوى صنفين من البشر: الأمراء والنساء، وأنا لم أدخل بعد في الموضوع. وليس اختيار هذا الموضوع من عملي، وليس من عادتي الإغراب في الموضوعات، ولا الرجوع إلى الكتب، ولكنه سؤال ورد على المجلة فأحالته عليَّ،

يسأل فيه صاحبه، عن آية «وكان سهل الحجاب» في أي سورة من القرآن؟ وعن أي نبي من الأنبياء؟ وعن الحجاب في الإسلام، كيف كان. والجواب أن هذه الآية (!) في السورة التي لم تنزل، عن النبي الذي لم يرسل، أعني أنها ليست آية! أما حجاب الأمراء في الإسلام فليست له حالة واحدة، ولكنه مرَّ بأدوار، لو أردت أن ألخصها لك لأتت الخلاصة في عشر صفحات، وهي مكتوبة تحت يدي، ولكن المجلة شرطت عليَّ أن تكون المقالة في صفحتين لذلك أكتفي بهذه الإشارة ... ... كان الرسول يصرِّح دائماً أنه ابن امرأة من قريش. وأنه ليس ملكاً ولا يريد الملك، فلم يكن دونه حجاب، ولا على بابه بوَّاب. ولم يميز نفسه من أحد من أصحابه في طعام ولا لباس، ولا مجلس، وكان يكره حتى مظاهر الاحترام المألوفة، فيمنع أصحابه أن يقوموا له إذا دخل، ويأبى إلَّا أن يجلس حيث ينتهي به المجلس. وكان يشارك قومه في كل عمل، لمَّا بنوا مسجد المدينة اشتغل في البناء كواحد منهم، ولما حفروا الخندق حفر معهم، وكانوا إن طلعت عليهم صخرة صلْدة عجزوا عنها، رجعوا إليه فضربها هو، وإذا اشتدت المعركة احتموا به، وكان يصبر على شظف العيش ويحيا حياة أفقر واحد من الناس: أما بيته (القصر النبوي)، فكان سلسلة من الغرف الصغيرة في ركن المسجد، كل غرفة منها دار لإحدى زوجاته مبنيَّة من اللبن والطين، ومع ذلك فلم يكونوا يتركونه يستريح فيها؛ أو يتحدَّث أو يأكل، وكان يستحي منهم أن يمنعهم حتى أنزل الله قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنَّ ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق}. ولم تبق هذه المزيَّة للرسول وحده، بل نزلت آيات سورة النور، فقررت (حريَّة المساكن) للجميع، وجعلتها قواعد عامة، فمنعتهم أن يدخلوا بيوت

الآخرين إلا بإذن من أصحابها {حتى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها} ولو كانت خالية {فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها} باستثناء حالة واحدة {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم}. فكفَّ المؤمنون عن إزعاجه صلى الله عليه وسلم بدخول بيته في أوقات راحته، ولكنهم (أي بعضاً من أعرابهم) صاروا ينادونه من وراء الجدران ليخرج إليهم، وفي ذلك إزعاج أكبر فأنزل الله فيهم: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم}. ولمَّا توفي رسول الله سار خلفاؤه على طريقه، فلم يختبئوا وراء الأبواب، ولم يحتموا بالحجاب، ولم يمنعوا ذا الحاجة، وإذا قرأتم أن (يرفأ) مثلاً كان حاجب عمر، وأن عثمان حجب أبا سفيان مرة، وأمثال هذه الأخبار، فالمراد منها أن هذا الحجاب كان على المساكن الخاصَّة، في غير أوقات العمل، وهو حق للناس جميعاً، ولولاه لما ترك الناس الخليفة ينام أو يستريح أو يجالس أهله، أما النهار كله فكان لأمور الرعية، ومصالح الناس. لا يحول باب بين الخليفة وبين الناس، ولا يحجز بوَّاب. ولما اتَّخذ سعد أمير العراق داراً لنفسه في الكوفة، وجعل لها باباً مغلقاً بعث عمر محمد بن مسلمة (المفتِّش الإداري العام) فأمره أن يكسر الباب ويرجع. وأول من اتَّخذ لنفسه مظاهر السلطان وحوَّلها من خلافة إسلامية، إلى ملكية قيصرية، هو معاوية، وإن لم يتَّخذ من هذه المظاهر إلَّا الشيء القليل الذي تحتمله طبيعته العربية، وطبيعة هذا الشعب العربي، الممعن في فكرة المساواة، الذي يأبى على الأمير أقلَّ امتياز ولا يطيقه، وكان من ذلك اتَّخاذه الحاجب. رفض الناس هذا الحجاب الخفيف وأبوْه. وغضب منهم كرامهم، وقالوا فيه شعراً كثيراً، منه قول عبد العزيز بن زرارة، وكان يسمَّى فتى العرب:

دخلت على معاوية بن حرب ... وذلك إذْ يئست من الدخول وما نلت الدخول عليه حتى ... حللت محلَّة الرجل الذليل وأغضيت الجفون على قذاها ... ولم أسمع إلى قال وقيل يشير أنَّ الناس لاموه على احتماله ذلك الحجاب ولكنه أغضى عنهم، وذلك أن الناس ينتظرون من الشريف أن يترفَّع وينصرف كما انصرف أبو الدرداء عن باب معاوية، وقال ما معناه: «إن أغلق بابه فإن باب الله مفتوح». واشتدَّ الحجاب بعد ذلك ولكن بقيت في الأمراء السليقة العربية، فنهى زياد حاجبه عن منع صاحب الحاجة، ورسول الثغر، وحاجب الطعام، وداعي الصلاة. وقال خالد القسْري لحاجبه: إِذا أخذت مجلسي فلا تحجبنَّ عني أحداً، فإن الوالي لا يحتجب إلا لثلاث: عيب يكره أن يطَّلع عليه أحد، أو عيٌّ يخاف أن يظهر، أو بخل يكره معه أن يسأل شيئاً. فلما آل الأمر إلى عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، ترك قصر الخلافة، أي الدار الخضراء (في موضع المصبغة الصفراء في القباقبية) وسكن في داره (السميساطية) وفتح بابه للناس كلهم. فلما آلت الخلافة إلى بني العبَّاس، وأخذوا أساليب الحكم الفارسي، صار للحجابة قواعد وقوانين، وصار الحاجب من أركان الدولة (الأمين العام للقص). واشتهر من الحجَّاب جماعة كان لهم أثر ظاهر في سياسة الدولة كالربيع وولده الفضل، والمنصور في الأندلس الذي استبد بالملك وأنشأ دولة لبثت أمداً، ونشأ عن ذلك شعر وحكم وقصص ملأت كتب الأدب، حتى أنه لو حاول أحد طلَّاب كلية الآداب إعداد رسالة (أطروحة) في (أدب الحجَّاب) لنال شهادة الدكتوراه. ووقف الناس من هذا الحجاب مواقف. منهم من كان يمثل النظرة الإسلامية التي تأبي الحجاب، وهم العلماء الذين كانوا يعظون الخلفاء دائماً، ويبيِّنون لهم كراهية الإسلام لهذا الحجاب،

ويروون لهم الأحاديث فيه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من ولَّاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلَّتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وفقره (¬1). وقوله: «من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن أولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة» (¬2). أي أن العلماء لم يعترفوا أبداً بهذا الحجاب، ولبثوا ينكرونه كما ينكرون سائر المنكرات. ومن أباه كرامة ورجولة، وهم الشعراء الذين ملأوا الدنيا أشعاراً بذمِّه والتشنيع عليه، حتى أن المرء ليستطيع أن يجمع من ذلك ديواناً قائماً برأسه، من ذلك قول أبي تمام: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخفَّ قليلا إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا وقول محمود الورَّاق: شاد الملوك قصورهم فتحصَّنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب فإذا تلطف في الدخول إليهم ... راج تلقَّوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضراعة طالباً من طالب وقول أبي مهر: إني أتيتك للتسليم أمس فلم ... تأذن عليك ليَ الأستار والحجب وقد علمت بأني لم أردَّ ولا ... والله ما ردَّ إلا العلم والأدب وقول أبي العتاهية: لئن عُدْتُ بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم متى ينجح الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم؟ ¬

_ (¬1) قال الشيخ ناصر: أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وأحمد. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. (¬2) قال: أخرجه أحمد والطبراني وهو حديث حسن، وقال المنذري: إسناده جيد.

ومنهم من كان يتوسَّل بطريف الوسائل للدخول بعد الحجاب. ولا يتسع المجال إلا لإشارة منها إلى بعض هذه الأخبار فمن ذلك قصة إسحاق مع المأمون، لما توسَّل إليه بأبياته الدالية المشهورة، وقصة الرجل الذي كتب بيتاً على خشبة وأجراها في الساقية إلى معن بن زائدة، وقصة الأعرابي الذي سخر من حاجب عبد الملك لما فسَّر له (إذا الأرطي توسَّد أبرديه) بأن ذلك صفة البطِّيخ الرمسي، وقصة الرجل الذي أبى الحاجب أن يدخله إلا إذا أعطاه نصف جائزته، فلما خيَّره الأمير في الجائزة طلب أن يضرب مئة مقرعة ليأخذ الحاجب نصفها، والأخبار كثيرة مستفيضة بها كتب الأدب. وكان للخلفاء الأمويين والعباسيين مع ذلك أيام يفتح فيها الباب للجمهور وأيام يجلسون فيها للمظالم ويسمعون الشكايات من كل شاك. والخلاصة أن الدين والعقل، يمنعان الناس من أن يدخلوا على الأمير، أو الموظف، في كل وقت، فيمنعوه من عمله، ويحرموه من راحته، ويمنعان الأمير أو الموظف، من أن يغلق دائماً بابه، وينصب بوَّابه، فلا يراه أحد ولا يصل إليه، ويوجب أن يخصِّص وقتاً للمراجعة، وأن يكون للمراجع المسكين، والمرأة الفقيرة، من وجهه ومجلسه مثل ما يكون للغني والقوي وذي السلطان، وأن يعلم أن شدَّة الحجاب تورث العداوة والبغضاء وغضب الناس وسخط الله: إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم ***

التشجيع

التشجيع قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نموُّ العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيِّمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: إنها في تلك السنّ، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير. وإن من أظهر الأسباب في ركود الأدب في الشام في القرن الماضي، وانقطاع سبيل التأليف، هو فقدان التشجيع، وذلك «الاحتكار العلمي» الذي قتل كثيراً من النفوس المستعدَّة للعلم وخنق كثيراً من العبقريات المتهيئة للظهور، فقد كان العلم في الشام مقصوراً يومئذ على بيوت معروفة لا يتعدَّاها ولا يجوز أن يتعداها، هي: بيت العطار، والحمزاوي، والغزي، والطنطاوي، والشطِّي، والخاني، والكزبري، والإسطواني، والحلبي ... وكانت كلها متجمعة حول المدرسة البادرائية؛ في القيمرية والعمارة، وزقاق النقيب، حيث يسكن الأمير العالم المجاهد عبد القادر الجزائري، رحمة الله عليه وعليهم، وكان لهذه البيوت كل معاني الامتياز و «الاحتكار العلمي»، فإذا سُمع أن شاباً اشتغل بالعلم من غير هذه البيوت، وقدَّروا فيه النبوغ، وخافوا أن يزاحمهم على وظائفهم الموروثة، بذلوا الجهد في صرفه عن العلم، والعدول به إلى التجارة؛ أو ليست الوظائف العلمية وقفاً على هذه البيوت؟ أو ليس للولد ولاية العهد في وظيفة أبيه، تنحدر إليه الإمامة أو الخطابة أو التدريس عالماً كان أوجاهلاً، فكيف إذن يزاحمهم عليها أبناء التجار، وهم لا يزاحمون أبناء التجار على «حوانيتهم»؟ أو لا يكفي أبناء التجار هذا القسط الضئيل من النحو والصرف والفقه والمنطق الذي يمنُّ به عليهم هؤلاء العلماء؟ ...

حتى أنه لما نشأ محمد أمين (ابن عابدين) وأَنِسوا منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقِّد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه امرأً تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكَّب به طريق العلم، وجعلوا يكلِّمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب «الحاشية»، أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي. بل أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلَّامة محمد بن كرد علي عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آل ... بشقيقين قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنها قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً -فما زالا بأبيه - ولم يكن أبوه من أهل العلم- ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسَّب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة ... ويلحَّان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ كرد علي أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية (¬1) ومفخرتها، والذي من مصنَّفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية .. والمقتبس ... ومن مصنفاته: «المجمع العلمي العربي بدمشق»، ومن مصنفاته هؤلاء «الشعراء والكتَّاب من الشباب»! ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين أو ككرد علي. وها هو ذا العلامة المرحوم الشيخ سليم البخاري مات وماله مصنفٌ رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنَّف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عي هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنَّبه، وقال له: ¬

_ (¬1) سابقاً.

أيها المغرور! أبلغَ من قدرك أن تصنف، وأنت ... وأنت ... ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة .. فكانت هي أول مصنفات العلَّامة البخاري وآخرها! وقد وقع لي أني كنت في المدرسة وكنت أحاول أن أنظم الشعر، فآخذ أبياتاً قديمة فأغير قوافيها، وأبدل كلماتها، وأدَّعيها لنفسي، كما يفعل اليوم بعض الأدباء «التراجمة» حين يترجمون الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية حتى إذا بلغوا التوقيع ترجموه هو أيضاً، فكانت ترجمة اسم المؤلف أو الكاتب اسم الترجمان أو «السارق»! وكان الكتاب أو الفصل المترجم من وضع أديبنا البارع ... كنت أنظم أبياتاً من الشعر أو أسرقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركياً يسمَّى إسماعيل حقي أفندي، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر مني وسبني وتهكَّم عليَّ، وجاء من بعدُ أخي أنور العطار - فنظم كما كنت أنظم حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع، عرضه على الأستاذ كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية!. فكانت النتيجة أني عجزت عن الشعر، حتى لَنَقْلُ البحر بفمي أهون عليَّ من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب! وأول من سنَّ سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة المرحوم مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، الفيلسوف المؤرِّخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كرد علي بك، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب ... ومما كتب في ذم التثبيط: «... وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبَّه فيه الغافل ... وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم يُرَ أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي

للجرائد الكبيرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم». وكان الشيخ في حياته يشجِّع كل عامل، ولا يَثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام، فلا تقل له إن هذا غير ممكن. فتفلَّ عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبِّب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته. ثم إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ وربَّ ولد من أولاد الصنَّاع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبَّة. نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عامياً، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدَّ ذلك عن عزمه، فاشترى الكتب يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محلِّه يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء. وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربَّصوا بالشيخ وأضمروا له الشرَّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في «القيمرية» وهو على أتان له بيضاء، فيسلِّم فيردون عليه السلام، فمرَّ يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخاً للمفتي، فردَّ عليه السلام، وقال له ساخراً: - إلى أين يا شيخ، أذاهب أنت إلى (اسطمبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟

وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: - إن شاء الله! وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر! وما زال يفارق بلداً، ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيِّه أنه عربي فيحترمونه ويجلُّونه، ولم يكن الترك قد جنُّوا الجنة الكبرى بعدُ ... فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً ... واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم: - إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيَّرت علماءها ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعلَّ الله يفتح عليك بالجواب؟ قال: نعم. قال: سر معي إلى المشيخة. قال: باسم الله. ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلَّب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من منطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سوَّد عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب. فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضي دهشة وسروراً.

- وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟ - قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت ... - قال: عليَّ به. فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلِّم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره، منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه ... إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئاً. ودخل على شيخ الإسلام، فقال له: - السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه. وعجب الحاضرون من عمله ولكن شيخ الإسلام سرَّ بهذه التحية الإسلامية وأقبل عليه يسأله حتى قال له: - سلني حاجتك؟ - قال: إفتاء الشام وتدريس القبَّة. - قال: هما لك. فاغد عليَّ غداً! فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيساً فيه ألف دينار. وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه ودار حتى مرَّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخر وقال: - من أين يا شيخ؟ - فقال الشيخ: من هنا، من اسطنبول. أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني. ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، فركع له وسجد وسلَّم الشيخ عمله في حفلة حافلة. ***

ومن هذا الباب قصة الشيخ علي كزبر، وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمداً وهو لا يفارق دكَّانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم. فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرِّس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه. ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاؤوا به، فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب به الحاضرون وطربوا له. فعينِّ مدرساً ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم (¬1). على أن للتشجيع عيباً واحداً هو الغرور، فأنا أعوذ بالله أن أغتر فأصدِّق أني أهل لكل ما تفضل به عليَّ الأستاذ من النعوت، وأرجو أن أوفق إلى الجد والتقدم بتشجيع الأستاذ وفضله، وأشكر للأستاذ الزيات باسمي واسم إخواني هنا، أياديه علينا وعلى الأدب العربي، الذي سمت وتسمو به «الرسالة»! ... ¬

_ (¬1) ومدرِّس القبة الرسمي اليوم شاب أوروبي الزي، أوروبي اللسان، أوروبي الزوجة. لا يدخل المسجد مرة في العام، ولكنه مدرس القبة!

الفتح الإسلامي

الفتح الإسلامي نشرت سنة 1936 «الفتح الإسلامي» (¬1) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروعُ أحْجيَّة من أحاجي النبوغ، وأجلُّ مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطاً في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هيِّنة ضئيلة، بعد أن كانوا يرونها لغزاً لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كُنْهَها. وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تاريخ البشر حادثاً أعجب وأعظم من «الفتح الإسلامي». إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوُّع أشكالها، لا تعدو أن تكون واحدة منذ ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفَّهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدَّته بأسباب القوة والنضج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسُبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب. ¬

_ (¬1) انظر مقالة (الفتح الإسلامي) في كتابي (أخبار عمر)، طبع دمشق سنة 1959.

«والفتح الإسلامي» أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تاريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث. أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيراً من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحاً أوسع ولا أسرع من «الفتح الإسلامي» الذي امتدَّ في اثني عشر عاماً فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها ... على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعَة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبدي، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا بلاداً وخرجوا منها (¬1)؛ ذلك أنهم لايفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقي السيف مصلتاً فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرَّة، وآنسوا منهم ضعفاً وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أميركا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شأن لها، وليس فيها دين يناوئ ديناً، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنكليز الحاكمين، فإنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أميركياً واحداً يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية -كل مسلم صحيح- يتحسَّر على الوحدة الإسلامية -ويسعى إليها- ولا يقبل بها بديلاً، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة القوميات وبدعة الوطنيات، وما أقاموا بين الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مرَّ على هذه التفرقة ¬

_ (¬1) إلا الأندلس وما يلحق بها، وقد بقيت روح العرب المسلمين في الأندلس برغم نصرانيتها وإسبانيتها، وبرغم ما حاربوها به من وسائل وحشية همجية -حتى ظهرت أخيراً على ألسنة كبار شعرائها، وأعاظم ساستها، واقرأ نبأ ذلك في (حاضر العالم الإسلامي).

من سنين وأعوام. ذلك لأن «الفتح الإسلامي» فتح أبديّ، مستقر في القلوب، لا تقوى قوة بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ. أما في العلم والثقافة؛ فقد كان «الفتح الإسلامي» أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرَّر عقولها بالتوحيد، وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار، والنيران والأخشاب، والقسس والأشراف. ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكُّر في خلق السموات والأرض، ويَحْفِز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنَّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء فما إن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد (والمساجد برلمانات المسلمين وجامعاتهم العلمية) يُدرسون ويُقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدِّثون، والفقهاء والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص والمؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدَّروا بعدُ للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوروبا، وكانوا أساتذة العالم الحديث. فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية -التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم- لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر. ومن لعمري ينسى البخاريّ والطبريّ والأصبهاني والهمدانيّ والشيرازيّ والسَّرَخْسي والمرْوَزي والرازيّ والخُوارزْمي والنَّيْسابوريّ والقزوينيّ والدِّينوَري والسِّيرافي والجُرجاني والنَّسائي وغيرَهم وغيرَهم ممن لا يحصيهم عدّ؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملَّة وأعلامها؟ ألا نحلُّ كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألايؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مئة حكومة

من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنَّة (هذا الآخر ...) في تركيا. هذا هو فضل الفتح علينا وعلى الأجيال الآتية، أما فضله على العقل البشري فحسبك أن تعلم أنه لولا الفتح الإسلامي، ولولا علماء المسلمين وفلاسفتهم لم يكن عقل القرن العشرين. أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنَّة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله. فضلاً عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثراً صغيراً من آثار العرب -ليس بأعظمها ولا أكبرها- لا يزال إلى اليوم محطَّ ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدراً مالياً لحكومة من كبار حكومات أوروبة تعيش إلى اليوم بفضل العرب، هي حكومة اسبانيا. ولقد حاول الإنكليز على قوتهم وغناهم -في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء- أن ينشئوا مثل «الحمراء» فأنشؤوا قصراً في سيدنهام يعدّ من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل (¬1) فكيف بمن بنى الأصل في ذلك العصر الغابر؟. وكيف لو بقيت «الزهراء» التي حيَّرت رُسُل الإفرنج، أو بقي «التاج» في بغداد، أو «دار الشجرة» التي أدهشت وفود الروم؟ ... ¬

_ (¬1) حضارة العرب، لأسعد داغر، ص 256.

إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى (¬1) وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها. فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حيَّر نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحيَّر المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بُداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون ... إذا وجد العربي من القبيلة قافلةً من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا ديناً مضحكاً سخيفاً، دين من يتخذ رباً من التمر، فإذا جاع أكله، كما (أكلت حنيفةُ ربها ...)، أو من ينحت من الصخر صنماً ثم يعكف عليه عابداً داعياً، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعاً للفرس والروم وجنداً لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثاً عجيباً يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمراً نادراً يلبث حديث الناس أياماً وليالي ... فكيف يتَّحد العرب كلهم، عدنانيّهم وقحطانيّهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يهابونها ويرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة ¬

_ (¬1) المذهب الصحيح في القرون الوسطى هو ما ذهب إليه المؤرخ الألماني (شبنكلر) وغيره من أن هذا التقسيم إلى قرون قديمة ووسطى وحديثة -إن صح وقبل- فلا يطلق على غير أوروبة، ولا علاقة له بالشرق، لأن لكل حضارة مميزات خاصة، ومن الخطأ الجسيم سحب صفات القرون الوسطى على الشرق المسلم الذي كان إلى ذلك العهد في ذروة الرقي.

للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بُدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محواً، وقامت مكانها أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يوماً من الأيام على غير الإسلام؟ أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها ... أكان هذا التبدُّل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغير كل شيء فيها وأنشأها إنشاء جديداً لأن رجلاً قام في مكة، يتلو كتاباً جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تاريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟. هذا هو اللغز الذي حيَّر المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلاً معقولاً! على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلَّت قدرته، أظهره على يد سيد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك أن «الفتح الإسلامي» معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم. ... هذا وإن من الخطأ أن نعدُّ الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازاً عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ باباً خاصاً، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضمَّ البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحاً يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية ضمَّ البلدان إلى الوطن الإسلامي، وامتصاص دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردها الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدي القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضاً عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فإن قبلوا به واتَّبعوه ونطقوا بكلمة

الشهادة انصرفوا عنهم وعدُّوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق والواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمَّة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم ... ثم لم يكرهوا أحداً على الإسلام لأن في صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما (دين محمد دين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون، ولكنهم دعاة أقوياء يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحاربهم أدَّبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم. ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفاءهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء؛ وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكِّد طبيعة «الفتح الإسلامي» ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر! وهذه هي التواريخ فاستقروها واحكموا!. ***

كيف تكون كاتبا

كيف تكون كاتباً نشرت سنة 1932 هذا حديث أوجِّهه إلى الطلاب التجهيزيين المحرومين من دروس الإنشاء، والذين يكلَّفون بكتابة المقالة (أو الوظيفة) في الموضوع الثقيل الذي لا يألفونه ولا يفهمونه من غير أن يكون أمامهم ما ينسجون على منواله، ويقتفون أثره، ومن غير أن يكون تحت أيديهم من القواعد ما يعلِّمهم كيف يسيرون، وهم في حالهم هذه كالرجل يريد أن يعلِّمه أبوه السباحة فلا يزيد على إلقائه في الماء وأمره بأن يسبح! ولكنه يموت قبل أن يتعلم السباحة، ويملُّ هؤلاء قبل أن يتعلموا الكتابة ولست أريد انتقاص الأساتذة أو احتقارهم. وبعدُ، فماذا يصنع المدرِّب القدير ليعلِّم السباحة؟ أيلقي الطالب في الماء فيدعه يختنق؟ لا، بل هو يبدأ بالقواعد الأصلية وهو على الشاطئ ثم ينزل معه إلى الماء، فيبدآن بالمكان السهل الضحل، فيشرح له كيف يسبح، ويعاونه ويصلح أخطاءه، ويضرب له الأمثلة من نفسه ليرى كيف تكون السباحة الجيِّدة، ثم يدعه يسبح مستقلاً. وهكذا يكون معلم الإنشاء القدير، يبينِّ لتلاميذه أنواع الإنشاء: من (الإنشاء الخطابي)، إلى الإنشاء الوصفي، إلى الإنشاء القصصي، وكيف أن الأول يعتمد على العاطفة الثائرة والجمل القصيرة ذات الرنَّة الموسيقية، وكيف أن للقصة عناصر لازمة هي الحادثة وظروفها (زمانها ومكانها) وأشخاصها، وكيف أن للقصة أنواعاً مختلفة كالمأساة (Tragédie) التي تنتهي بفاجعهَ مؤلمة، والدرام والمهزلة (Comédie) وكيف أن الإنشاء الوصفي يكون خيالياً

(Idéalisme) ويكون واقعياً (Réalisme) وما هي الفوارق بين المذهبين، والأمثلة عليهما من آثار الكتَّاب البارعين، إلى آخر ما هنالك ثم يعطيه موضوعاً هيِّناً ويشرح له عناصره، ويقرأ له أمثلة عليه من القطع الفنيَّة. فإذا كتبه التلميذ قرأه هو بنفسه على المعلم على مسمع من إخوانه الذين ينقدونه ويناقشونه ثم يبين الأستاذ حكمه في الوظيفة ويقدِّم نصائحه للتلميذ، ولست أعني النصائح اللغوية والنحوية وحدها، بل الفكرية والفنية أيضاً. ... ومن الخطأ بعد هذا كله أن يعتقد امرؤ أن الكتابة شيء يكون بالتعليم فهي شيء فطري في الإنسان والكاتب كما قالوا يولد كاتباً، كما يولد الإنسان ذا صوت جميل، أوجسم قوي (¬1)، ولكن الصوت الجميل يبقى ناقصاً إذا لم يدرس صاحبه الموسيقى؛ والجسم القوي لا يستكمل قوته؛ ما لم يربِّه صاحبه التربية البدنية، والملَكَةُ الكتابية لا تكمل ولا تنتج الآثار البارعة ما لم تنضجها الدراسة الأدبية العميقة، وخير سبيل لإنماء هذه الملكة عند الطلاب هو أن يقرؤوا كتب الأدب القديمة ليتعلَّموا منها الأسلوب العربي ثم يقرؤوا لأهل البيان من كتَّاب العصر ثم يقرؤوا روائع الأدب الغربي لتعينهم على إتقان الأسلوب الفني. فإذا قعد بعد ذلك ليكتب، فلا بد له من أن يمرَّ على المراحل الآتية: 1 - عملية الجمع: وأعني بها جمع الأفكار والصور، يجمعها من مشاهداته في الحياة ومطالعاته في الكتب، وتنتهي هذه العملية حينما يشعر الكاتب أن هذه الأفكار قد أصبحت واضحة في ذهنه يستعرضها بسهولة ويستطيع الإحاطة بها. 2 - عملية الاصطفاء: فإذا انتهت هذه العملية شرع باصطفاء الصور والحالات التي توافقه وتلذُّه؛ ونبذ الباقي فإذا بقيت هذه الصور وحدها واضحة في ذهنه، انتقل إلى العملية الثالثة وأمسك حينئذ بالقلم فبدأ. ¬

_ (¬1) في هذا مبالغة ولكن له أصلاً.

3 - عملية الترتيب (أو التصنيف): وذلك بأن يضع كل صورة أو فكرة في المكان الملائم لها، وليس هناك قاعدة صحيحة للبداءة بالقصة، بل أن ذلك منوط بذوق الكاتب، وكثير من الكتَّاب يبدؤون بعرض أبطال القصة أولاً وبعضهم يبدأ بالزمان والمكان، أو الحادثة. ولزيادة الإيضاح آخذ مثالًا أطبِّق عليه هذه العمليات وليكن (فاجعة في شارع): 1 - أستعرض أولاً الحالات الممكنة للمكان وهي: (أ) شارع وسط المدينة. (ب) شارع وسط الحقول. (جـ) شارع على شاطئ البحر. (د) شارع على شاطىء نهر. (هـ) شارع على سفح جبل. (و) شارع وعر. (ز) شارع سهل معبَّد. (ح) شارع مأهول كثير المارة. (ط) شارع منقطع ... إلخ. وأستعرض الحالات الممكنة للزمان وهي: (أ) في الصباح (قبل الشمس). (ب) في المساء (بعد الشمس). (جـ) في الظهيرة. (د) ليلاً. (هـ) السماء صاحية. (و) السماء غائمة. (ز) السماء ماطرة.

(ح) السماء مثلجة. (ط) الوقت حرّ. (ي) الوقت برد ... إلخ. 2 - فإذا انتهيت من عملية الجمع أبدأ بعملية الاصطفاء فأختار إحدى الحالات الممكنة وليكن: (أ) شارع على شاطئ البحر -وعر- منقطع. (ب) ليلاً-السماء ماطرة- الوقت برد، ذلك لأن الحادثة التي تريد وصفها هنا فاجعة لا يصلح لها إلا هذه الظروف، وأشرع بعدُ بتصنيفها فإذا تمَّ التصنيف بدأت العملية الرابعة: 4 - عملية اختيار الأسلوب: فأتصور نوع الأسلوب الذي أكتب به المقالة والألفاظ والتعبيرات التي أستعملها فيها وما إلى ذلك (مما يسمَّى بالفرنسية (La forme) ويقابله (Le fond) للمعاني والأفكار) ومن المعروف أن الأسلوب يختلف باختلاف الموضوعات، فلا تكتب المقالة الوصفية بالأسلوب الخطابي ولا المذكرات والرسائل العائلية بأسلوب القصص المسرحية، ومن المعروف أن لكل أسلوب قواعد تختلف عن قواعد الأسلوب الآخر، يجب على مدرس الإنشاء بيانها للطلاب، فليس في وسعي أن أبيِّنها في مقالة صغيرة كهذه، ولقد صرفت وقتاً طويلاً في دراستها بنفسي بعد أن خرجت من التجهيز خالي الوفاض منها؛ لم أدرس منها شيئاً. 5 - ثم يبدأ بالكتابة مراعياً التصنيف الذي وضعه لنفسه، ويضع لكل مقال مقدمة جذَّابة يكون فيها براعة استهلال، وخاتمة مؤثرة، فيها حسن الاختتام. أما الألفاظ فما أحب أن أكلم فيها إخواني الطلاب وإنما أقول لهم إني كلما تقدمت شعرت من نفسي بميل إلى انتقاء أسهل العبارات وأقربها إلى اللغة المألوفة، ونفور من زخرفة الجمل والعناية بالألفاظ.

وقد كانت هذه الزخرفة وهذه العناية بالألفاظ أكبر همِّي أولاً حتى لقد كنت أحسب البراعة في الكتابة بمقدار ما فيها من رنَّة موسيقية، لا بمقدار ما فيها من أفكار، ولا أبالي بنقد الناقدين لهذه الطريقة اللفظية الجوفاء، ولا أقيم له وزناً، كما أن إخواننا هؤلاء لا يبالون (كما أقدِّر) بهذه الكلمة مني، ولا يقيمون لها وزناً! بقي عليَّ كلمة واحدة وهي: إن كثيرين من الكتاب يميلون إلى معرفة آراء الناس بكتاباتهم ويهتمُّون بهذه الآراء جداً، حتى أنها لتشجعهم إذا كانت حسنة وتذهب عزائمهم إذا كانت سيئة، وهؤلاء الكتاب يخسرون كثيراً من مواهبهم، وينحطُّون عن المنزلة التي وضعهم فيها الله، يوم جعلهم كتَّاباً واختارهم لتبليغ رسالة القرون الآتية، فلا تعتادوا هذه العادة ولا تبالوا بأذواق الناس إذا خالفت أذواقكم، ولكن استمعوا إلى نقدهم إذا كان يستند إلى أساس علمي صحيح. أما إذا استند إلى الذوق وحده فلا .. ولو كان ذوق أستاذكم. ***

في النقد

في النقد نشرت سنة 1936 وعدت أستاذنا الجليل شاكر بك الحنبلي أني سأتشرف بالكتابة بـ (قلمه) البليغ، وذهبت أفتِّش عن موضوع خفيف عليَّ؛ حبيب إلى القرَّاء فأنتهز ساعة أفرغ فيها من عملي المتواصل في تأليف كتابي الجديد (عمر بن الخطاب) لأكتبه، وأوافي به جزءاً صغيراً من الواجب الكبير عليَّ واجب المساهمة في الكتابة بـ (القلم)، فلما أخذت العدد الجديد من مجلة القلم، ورأيت أنها قد أعلنت في ظاهرها عن غاياتها الأربع: النقد والعلم والأدب والسياسة. قلت: الحمد لله، قد وجدت الموضوع! سأكتب، في النقد، لامقالة ولا مقالتين ولكن سلسلة طويلة أنفِّس بها عن بعض ما أجد من الضيق بالأدباء. وآثارهم القليلة وكسلهم الطويل وأقذف في وجوههم بما عجزت عن حمله من اليأس والقنوط والخيبة والألم، فقد طال ركودها الأدبي. وامتدَّ نوم أدبائنا وزادت ثقتهم بنفوسهم وغرورهم حتى كادَ والله يتسرَّب إلى نفوسنا الخوف من «الإفلاس الأدبي» ولكنَّا لم نكن نجد الجريدة التي تتَّسع للنقد، وتفهمه على وجهه، وتعلم أنه شيء لا شأن له بالصداقة وأنه ما دام وجيهاً معقولاً، يجب أن يقبل وينشر سواء أكان موجهاً إلى صديق أم إلى عدو ... وقد كتبت منذ أمد قريب، مقالة في «النشيد الوطني» بمناسبة تأليف الشباب الوطني، وعرضت فيها بالنقد إلى نشيد الجمهورية الذي نظمه الأستاذ خليل مردم بك ولم يوفَّق فيه أبداً وأخذته إلى القبس وهي اليوم أدنى جريدة إلى الأدب لمكان الدكتور العجلاني فيها. فاعتذرت من نشره بأن خليل بك صديق الجريدة! ... ونسيت أني أنا أيضاً صديق الجريدة وأن خليل

بك صديقي، ونسيت أن خليل بك في منزلته الأدبية أحق الناس بتقدير النقد وتشجيعه. إذا كان نقداً فنياً صحيحاً ... ويمنع بعض جرائدنا من نشر النقد، أن بعض القائمين عليها لا يفهمون من الأدب إلا الشهرة الواسعة، والألقاب الطنَّانة، فإذا سمي النشاشيبي «أديب العربية الأكبر ...» وأطلقت ذلك خمس جرائد تعيش من فضلات ماله، كان معنى ذلك أن الأستاذ النشاشيبي منزَّه عن النقد، مبرَّأٌ من الذم، لا يجوز أن تكتب في جريدة كلمة تسوؤه، ولو ألَّف هو كتاباً سمَّاه، الإسلام الصحيح. فأساء فيه إلى الإسلام، وسفَّه الأمة، وضلَّل المسلمين كلهم منذ أحد عشر قرناً. وجعلهم جهلة مخرِّفين، وحمقى جاهلين خفي عليهم الحق ... فلم يروه حتى يتدارك الله الإسلام بهذا النشاشيبي ليأتي في آخر الزمان! فيرجع إلى الأصول، ويفهم منها ما لم يفهمه أحد من زمن الشافعي إلى زمان الناس هذا! ... على أن الأمر لو وقف عند الجرائد لهان الأمر وسهل الإصلاح، ولكن هذا المرض قد سرى إلى الأدباء ... إلى الأدباء الكبار على وجه التخصيص، فغدوا يفزعون من النقد، ولو كان مسّاً رفيقاً، وغدا أديب كبير منتج هو الأستاذ معروف الأرناؤوط الذي يعدُّ في رأس الأدباء القليلين الذين قاموا بما يطلب منهم أو بأكثر مما يطلب منهم، هذا الأديب قد غضب من جملة كتبتها عنه في فصل (الحياة الأدبية في دمشق) المنشور في الرسالة، وعاتب عليها مرَّات كثيرة ... فما بالك بمن ليس في منزلة (معروف) وفهمه للأدب، إن مثل هذا يعادي الناقد، ويقيم له حرباً، على كلمة نقد ... من أجل ذلك مات النقد في بلادنا، وجهله الناس: ولم يبق من يفرق بينه وبين السبِّ والشتم ويعلم أن الذي ينقد ليس عدواً ليسبَّ ويشتم؟ ولا خصماً يريد أن يهدم الأديب الذي ينقده، ولكن الذي ينقد أديب له ميزان حساس. وصنجات موزونة، وعنده مثل أعلى فهو يقيس عليه القطعة التي ينقدها ويبينِّ مقياسها ويعطيها ما تستحق من التقدير. هذا هو النقد الذي سأكتبه، وسأجتهد أن أدنو به من قواعد النقد

الأدبي، وسأفتح صدري لكل جواب يأتيني، أو اعتراض يرد عليى، وسأزنه بميزان الحق، ثم أحكم به لي أو عليَّ. لأننا -والحق يقال- إذا شكونا من جزع أدبائنا من النقد، وإساءة فهمهم إياه، فإننا نشكو أكثر من ذلك من رقاعة أكثر من يتصدَّون للنقد، وجهلهم بأصوله وفروعه، وخبطهم خبط عمياء في طرق لايعرفونها، ومسالك لا يألفونها، كالذي وقع لي أمس في القهوة، حين جاءني أستاذ لنا قديم متخصِّص في علوم الطبيعة، ينتقد علي أني قلت في قصتي الأخيرة في الرسالة (النهاية) إن في المهاجرين أشجاراً، والمهاجرين ليس فيها أشجار فلم أدر من أي أمريه أعجب، أمن غفلته في باب القصة، أم من غفلته عن حدائق بيوت المهاجرين ... وأعجب منه تلميذ علم أن الاستعارة غير الكناية، فأقبل ينتقد طه حسين! ولئن شكا أدباء مصر من حالة النقد في مصر وأقاموا الدنيا وأقعدوها، لما يشاهدون من ضعف النقد في مصر، فنحن أحق بالشكوى من موت النقد في بلادنا، غير أننا أحق أيضاً بالاغتباط بان أستاذنا الحنبلي قد فتح صدر مجلته للنقد، وأعلن لأصدقائه وأعدائه أنهم لديه سواء، لا يجامل صديقاً لصداقته، ولا يظلم عدواً لعداوته، بل يدع النقد يجري في مجراه، فينشر فصل الناقد، وينشر جواب المنقود، ثم يكون هو والقرَّاء الحكم؟ فإذا رضي الأستاذ ونشر هذه القطعة -بحروفها- لأني أحب أن لا يتوسط أحد بيني وبين قرائي، وأفضل أن أواجههم بخطئي عن أن أقابلهم بصواب صاحب الجريدة! - فإلى الملتقى القريب وإن لم يرض بنشرها ...

الأدب العربي في مدارس العراق

الأدب العربي في مدارس العراق نشرت سنة 1937 إذا كان الفيلسوف هو الذي يبحث ويستنتج، والعالم هو الذي يستقرئ ويعلِّل، فالأديب ولا شك هو الذي يتذوَّق ويشعر، والأدب إذن أساسه الجمال، كما أن العلم أساسه الحقيقة، والأخلاق أساسها الخير. هذه هي الفكرة التي يجب أن تلاحظ دائماً في تدريس الأدب، لئلا يخلط بينه وبين العلم، ويتحول إلى مقاييس جافة، وحدود باردة، تفقده الجمال، وتنبو به عن الذوق، ويجب أن ينظر الطالب إلى درس الأدب، نظره إلى المتعة الحلوة، لا إلى الواجب الثقيل. فهل تلاحظ هذه الفكرة الآن في مناهج الأدب، وفي دروسه؟ هل يقبل الطلاب على درس الأدب برغبة قوية، وميل دافع، كما يقبلون على درس الرسم والموسيقى؟ لا يشك مدرِّس واحد، في أن الجواب: لا، ولا يستطيع مدرس واحد، أن ينكر أن الطلاب ضعاف في العربية، مقصِّرون فيها، وأنهم على ضعفهم يكرهونها ولا يميلون إلى دروسها. فما هي الطريق إلى علاج هذا الداء؟ هذا ما أحب أن أبينه في مقالتي هذه. ولا بدَّ لي أولاً من الكلام في الأدب وتاريخ الأدب، وإن كان ذلك معروفاً، لأضع للقراء الكرام أسساً بيِّنة، نبني عليها بحثنا، ونقيم نتائجنا. الأدب له معنيان: فهو أولاً فن من الفنون الجميلة، التي تصف الجمال وتعبِّر عنه، فهو إذن مثل التصوير والموسيقى والنحت.

وأي فرق بين أن تعبر عن الجمال، بصورة، أو تمثال (¬1)، أو قصيدة من الشعر؟ وأي فرق بين أن تصوِّر مشهد الغروب بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان؟ ينتج عن ذلك أمران: الأول أن الأدب هو الجمال، هو العاطفة، فكل من يتذوق الجمال، ويحس في صدره عاطفة، فهو أديب بالضرورة، أي أن كل إنسان أديب، لأن كل إنسان يسرُّ ويحزن، ويذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويهزه مشهد الجمال في الطبيعة وفي الإنسان. وهذه النتيجة تنفعنا جداً من الناحية التعليمية، لأننا نستطيع أن نجعل كل طالب، منصرفاً إلى الأدب، مهتماً به، يحبُّه ويميل إليه، إذا درَّسناه الأدب من هذه الناحية، وعقدنا الصلات بينه وبين نفسه. ولقد جربت ذلك بالفعل في الصفوف العلمية التي أدرِّس فيها، فكان الطلاب معرضين عن الأدب كل الإعراض فما زلت بهم، أقرأ عليهم أجمل الآثار الأدبية، وأهز في نفوسهم حسَّ الجمال، ومثوى العاطفة، حتى غدوا وهم منصرفون إلى الأدب، يدرسونه، وينشؤون فيه. والنتيجة الثانية: أن الأدب ما زال يقوم على الجمال، لا يعرف الحقيقة، وليس عنده قوانين ثابتة كالقوانين العلمية، لأن فكرة الجمال نسبية، لا تتم قانوناً، ولا تسير على قاعدة، فمن الناس من يرى جمال الطبيعة في الجبال، ومنهم من يراه في السهول والأنهار، ومن الناس من يرى الجمال في المرأة في سواد عينيها وسمرتها، ومنهم من يراه في شقرتها وزرقة عينيها، فأنت لا تستطيع أن ترغم هذا أو ذاك على العدول عن رأيه في الجمال، كذلك لا تستطيع أن تجبر التلميذ على اتِّباع رأيك في قصيدة من الشعر، أو قطعة من النثر. وهذه النتيجة تنفعنا من الناحية التعليمية، إذا تعلمنا أن نبتعد على قدر الإمكان عن تطبيق ¬

_ (¬1) والتماثيل محرمة في الإسلام.

الطرق العلمية على الأدب، أو نعطي الطلاب بحوثاً نضطرهم إلى حفظها واتباعها، وتعلمنا أن نربي في الطالب الملَكَة الأدبية، وندلَّه على طريق البحث، ثم ندع له اختيار النتيجة. أما المعنى الثاني للأدب: وهو أقرب إلى الموضوع التعليمي، فهو أنه (مجموع الآثار البيانية الجميلة في لغة من اللغات). فالأدب العربي مجموع ما في اللغة العربية من نثر جميل، وشعر جيد، وأمثال وخطب ورسائل، والأدب الإفرنسي، مجموع ما في اللغة الفرنسية من قصص وأقاصيص ومذكرات وقصائد ورسائل وخطب. ودرس هذه الآثار هو المسمَّى هنا بدرس (النصوص) وسنعود إلى الكلام فيه. نحن إلى هنا في أدب شخصي (Subjectif) يستند على تصوير الجمال (الإنشاء) وعلى تذوق هذه الصور (النصوص)، ولكن عندنا أدباً آخر، أقرب إلى الموضوعية (Objectif) وأمسَّ بالعلم وأدنى إلى قوانينه، وهو (النقد) والمراد بالنقد وزن الآثار الأدبية وتقويمها، فالأديب يحس ويشعر ويعبر عن حسه وشعوره، فعمله إنشائي بحت، أما الناقد فيزن هذه الآثار بميزانه، ويطبقها على مقاييسه، ويفاضل بينها وبين المثل الأعلى الذي يتصوره، والنقد قسمان، نقد صوري (C. de forme) للألفاظ وصحتها والجمل ومتانتها، والأسلوب وقوته، ونقد فكري أو معنوي (C. de fond) للفكرة وتسلسلها، والصورة وجمالها، والنتيجة التعليمية لهذا التقسيم، هو أن الطالب يحتاج إلى النحو والصرف والبلاغة وما إليها من علوم الأدب لينقد نقداً صورياً شكلياً، ويحتاج إلى تربية الذوق الفني الفكري المعنوي، على أن لا ينسى المدرس أو واضع المنهج أن هذه العلوم وسيلة إلى الأدب، يؤخذ منها بمقدار الحاجة، وليست هي الغاية، ولا هي المقصودة بالذات. وهناك ما هو أوسع من النقد وهو (تاريخ الأدب)، وعلى مؤرِّخ الأدب -عدا عن تقويم الآثار- أن يرتبها، وينصفها، وهذا التصنيف هو الأساس في تاريخ الأدب.

ويلاحظ اتجاه جديد في النقد، منذ منتصف القرن التاسع عشر، الغاية منه تحويل النقد إلى علم موضوعي، والخروج به عن هذا النطاق الشخصي الضيق، ولا أراني بحاجة إلى ذكر مذاهب تين (Taine) وسانت بوف (Saint beufe) وبرونتير (Bruntayère) في هذا المقام، وإنما أشير إلى ذلك إشارة. تلخَّص معنا إذن، أن هناك شعوراً بالجمال ووصفاً لهذا الشعور، وهذا هو درس الإنشاء. وأن هناك فهماً لهذا الوصف وتذوُّقاً له وهذا هو درس النصوص، وأن هناك تقويماً لهذا الوصف، وبياناً لمواطن الجمال ومواضع النقص فيه، وهذا هو النقد. وأن هناك ترتيباً وتصنيفاً، ودرساً شاملاً، وهذا هو تاريخ الأدب. وسأتكلم على كل درس من هذه الدروس بإيجاز واختصار. الإنشاء: أستأذن أولاً زملائي الكرام في عرض هذه الآراء، فلست ألقي عليهم دروساً، ولا أزعم أن ما أقوله هو الصواب بعينه، ولكني أعرض تجاربي، وأنا قد درَّست العربية، والإنشاء بوجه خاص، منذ عشر سنين فوجدت أن أسباب تقصير الطلاب في الإنشاء تتلخص كلها في أمرين: الأول: أن الطالب قد لا يميل إلى الموضوع الذي يفرضه عليه المدرس، ولا يتصوره، أو لا يهيج من نفسه عاطفة أو ذكرى، فلا يحسن الكتابة فيه، وقد لقيت أنا البلاء الأزرق من هذا الأمر، وكنت آخذ أبداً شرَّ الدرجات في الإنشاء، برغم أنني كنت خيراً من رفاقي في الإنشاء وأقوى، ولا أذكركم من عشرات المرات، سألنا المدرسون أن نكتب (في وصف روضة) وأي روضة هي؟ هي التي حصباؤها ياقوت، وماؤها ذوب اللجين، وفيها البلابل وما لست أدري ماذا؟ فإذا كانت روضة ليس فيها حصباء، وكان فيها حمام أو عصافير، كانت الوظيفة سيِّئة في رأي المدرس، ولا أذكر كم سألونا: (ماذا تريد أن تكون في

المستقبل)، حتى مللت المستقبل، وكرهت الرياض، ووددت لو أني هجرت الكتابة فلم أخطَّ فيها حرفاً. والثاني: أن الطالب يكتب الوظيفة، فينتقده المدرس، ويبينِّ له ما فيها من نقص ولكنه لا يبين له وجه الصواب ولا يعرفه الطالب من نفسه، فيرجع إلى خطئه ويرجع المدرس إلى نقده، وهكذا دواليك حتى يملَّ الطالب فلا يكتب، أو يكتب ولكنه ييأس من الإجادة، وتموت في نفسه ملكة الكتابة. والدواء الذي أراه: 1 - هو أن يتكلَّم المدرِّس في كل مناسبة في قواعد الكتابة ونظرياتها وأنواعها، فيبحث في ألوان الكتابة من القصة والأقصوصة والوصف والمذكرات والإنشاء الخطابي والشعر، ثم يفهم الطلاب قواعد القصة وعناصرها، والزمان والمكان، والأشخاص، والحادثة، وأنواعها، من المآسي إلى الملاحم (الدرام) إلى المهازل، ومن القصة الطبيعية إلى الواقعية إلى الخيالية إلى النفسية، ويلخص لهم بين ذلك بعض القصص المشهورة، لبعض الأدباء الكبار المعروفين، من عرب أو إنكليز أو روس أو طليان، فإن الأدب عالمي لا وطن له ولا جنسية. 2 - أن يقرأ عليهم في كل درس قطعة من الأدب العالي، ويدرسها مع الطلاب، ثم يسعى لاستيحاء موضوعات جديدة من هذه القطعة، ويعتمد في ذلك على تربية تداعي المعاني (Association des idées) عند الطلاب، حتى ينتقلوا بسرعة من معنى إلى معنى، ومن صورة إلى صورة. 3 - أن تكون موضوعات هذه القطع مما له صلة بنفوسهم، وما له علاقة بحياة الشباب، فلا يختار لهم شيئاً من الفلسفة العميقة، أو المواعظ الجافة. 4 - أن يسألهم الكتابة في موضوع يستوحونه من هذه القطعة، على أن يدع لهم الخيار في أن يكتبوا غيره إذا شاؤوا، ولهذه الحرية في اختيار الموضوعات فائدة عظيمة جداً، لأنها تفسح للطلاب سبيل الابتكار والتجديد، ومعلوم أن حسن اختيار الموضوع، أهم بكثير من الكتابة فيه.

5 - بقي علينا مسألة أراها مهمة، هي أن يكون الطالب حراً وصريحاً، يكتب ما يخطر في باله، ويصوِّر أفكاره وعواطفه، ولو كان في رأيه ما لا يعجب المدرِّس أو يروق له. وليس على المنهج اعتراض من جهة الإنشاء، ولكن الاعتراض عليه من جهة النصوص. النصوص: أحب أن أبين أولاً كيف تدرس النصوص، ثم أعود إلى ذكر ملاحظتي على المنهج، لا بد قبل كل شيء من قراءة النص قراءة صحيحة وفهمه فهماً مستقيماً، وهذا لا يكون إلا بالوقوف علي علوم الأدب، وإتقانها في حين أن الذي رأيته من الطلاب، هو الضعف البينِّ في هذه العلوم، إلى درجة أني سألت مئتي طالب من طلاب الثانوية إعراب بيت سهل، هو: اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... ربَّ ذكرى قرَّبت من نزحا فما عرف إعرابه إلا خمسة عشر طالباً. فكل درس للنصوص قبل تقوية علوم اللغة عند الطلاب، إضاعة وقت، وعبث من العبث. فإذا فهم الطلاب النص، قسموه بحسب الأفكار أو الصور التي فيه، ثم درسوا مزاياه وملامح أسلوبه، ثم بحثوا عن الصلة بينه وبين نفس صاحبه ومبلغ تصويره لأخلاقه وأفكاره. وأنا أرى أن يكون مدار اختيار النصوص، لا على اللغة وضخامة الأسلوب، ولكن على الجمال والقرب من أفهام الشباب وميولهم أو يترك الخيار للمدرس إن أمكن، وذلك أحسن. تاريخ الأدب: بقي علينا الكلام في النقد أو تاريخ الأدب، والكلام فيهما الآن واحد. الدرس الأدبي، فيما أفهم، ليس معناه الإحاطة بترجمة الشاعر أو الناثر، ولا حفظ أمثلة ونماذج من آثاره ولا معرفة ما قال فيه النقَّاد وأئمة الأدب، ولكن

الدرس الأدبي معناه البحث أولاً عن شخصية الأديب، وأثرها في شعره، ثم البحث عن أدبه ومزايا هذا الأدب، ومكانه في أدب أمته. والبحث عن شخصية لا يكون إلا بمعرفة العوامل التي كوَّنت هذه الشخصية، وكانت مصدر أخلاق الأديب وطبائعه، وهذه العوامل كثيرة، لا سبيل إلى حصرها، غير أن المهم منها، هو: الزمان – والبيئة – والثقافة – والوراثة - والتكوين الجسمي. وقد بيَّنت هذه العوامل في موضوع آخر، فلن أعود إلى شرحها وبيانها، وإنما أشير هنا إلى أهميتها في درس الأديب ذلك أن لكل زمان ذوقاً أدبياً، واتِّجاهاً فكرياً، يؤثر في الأدب الذي ينشأ فيه فيجب معرفة هذا الاتجاه، ويجب على مؤرِّخ الأدب أن يبدأ بدرس الزمان من هذه الناحية، لا من ناحية السياسة والحروب، فذلك شيء يهم المؤرخ السياسي وقد أخطأ كثير من الكتَّاب فحسبوا أن درس الزمان هو درس ما وقع فيه من حروب، وما كان فيه من أحداث سياسة. أما البيئة فهي الوسط الذي ينشأ فيه الشاعر، والأسرة التي ينحدر منها، والبلدة التي يعيش فيها، كل هذا يؤثر في الأديب، ويعمل في تكوين أخلاقه، فلو لم يعش أبو نواس في هذه البيئة الماجنة الخبيثة بيئة والبة وأصحابه ما كان أبو نواس شاعر الغزل الفاحش والخمر، ولو لم ينشأ بشَّار في أسرة منحطة، ولو لم يكن أبوه طيَّاناً ما كان بشَّار هجَّاءاً خبيثاً، وشاعراً داعراً، بل إن من النقاد الأوروبيين أصحاب المذاهب، من جعل البيئة هي العامل الوحيد في تكوين الأديب فيجب أن نبحث عن أسرة الشاعر ووسطه الذي عاش فيه، كما نبحث عن ثقافته التي تلقاها، والكتب التي قرأها، والشيوخ الذين لازمهم، وعن صلة ذلك كله بأدبه، وستجد أن ثقافة الجاحظ من أكبر العوامل في تكوين الجاحظ، وأن دراسة الزهاوي كان لها أثر في شعر الزهاوي، وكفر الزهاوي، وسنلاحظ أن الشعراء على قسمين: قسم ينبثق منهم الشعر منذ الطفولة، وتغلب عليهم الطبيعة والملَكَة كبشَّار وأبي العتاهية، وقسم لا يأتيهم الشعر إلا بعد الدرس والقراءة كأبي تمام.

أما عمل الوراثة، فهو أضعف مما تقدم، والوراثة النفسية لم تثبت ثبوت الوراثة الجسمية التي وضع فيها (مندل) قانونه المشهور، وقد نقل (ريبو) في كتابه أن أثر الوراثة قد استقري في مئة عالم وأديب فوجد متخلفاً ولم يقطع فيه إلى اليوم، على أن الذي يهمنا من الوراثة، ما نسميه بوراثة الدم، وهو هذه الصفات العامة في شعب من الشعوب، وأثر هذا النوع من الوراثة ظاهر في أدبنا، ولولاه ما اختلف مذهب ابن المقفَّع في الكتابة عن مذهب عبد الحميد، وهما عصريان يعيشان في بيئة واحدة تقريباً، ولا ابن الرومي عن البحتري. أما التكوين الجسمي فأثره قوي جداً في تكوين أدب الأديب، ولست في حاجة إلى إثبات هذا الأثر، لأنه لا ينكر أحد صلة الأعصاب بالعواطف والأفكار، ولا ينكر أحد أن للحياة الفسيولوجية تأثيراً في الحياة النفسية، وأن الحواس هي النوافذ التي نطلُّ منها على العالم الخارجي، وأن نظرنا إليه يختلف باختلاف صحتها ومرضها، وكمالها ونقصها، فتصور بشَّار الأعمى للجمال غير تصور البصير، وجسم بشار الضخم وحيويته المتدفقة هي التي زادت في حاجته إلى المرأة فتغزل بها وأفحش، فحال الناس بينه وبين ما يريد، فهجاهم فأقذع، فأنت ترى أن جماع فن بشار، وهو غزله وهجاؤه راجع إلى حالته الجسمية، وقل مثل ذلك في جمال أبي نواس، ثم إن عند السيكولوجيين نظرية مركب النقص، وهي التي عبَّر عنها العرب بقولهم: كل ذي عاهة جبَّار، وهي تثبت هذا الذي نتحدث عنه. فإذا انتهيت من درس هذه العوامل، درست نتائجها في أخلاق الشاعر وميوله، وأثر هذه الأخلاق والميول في شعره. ثم درست مزايا شعره، ومصادره، وأثره في الأدب. هذه هي الدراسة الكاملة، ولكن هل يمكن تطبيقها في المدارس؟ أكاد أقول: لا. وأنا مطمئن إلى صحة ما أقول، ذلك أن واضعي المنهج لم يجعلوا غايتهم مثل هذه الدراسة، ولم يلاحظوها، وإنما لاحظوا اطلاع الطالب على أكبر عدد ممكن من الشعراء والكتاب وصفات العصور الأدبية.

فهل هم على صواب؟ هل الغاية من درس الأدب، أن يملأ الطالب ذاكرته بأسماء الشعراء والكتاب أو يدرس عدداً قليلاً جداً، دراسة نموذجية تمكِّنه بعد ذلك من دراسة من شاء من الأدباء، ويقرأ آثارهم قراءة تذوُّق وفهم؟ هنا الخلاف، فالذي أراه أنا، والذي يطبَّق عندنا في سورية، هو أن يختار عدد قليل من الشعراء والكتاب يدرسون دراسة واسعة، ويتذوق التلميذ الجمال في آثارهم، ثم يترك له هو أن يدرس من شاء بعد ذلك. وقد نجحت (تلك) الطريقة وكونت من الطلاب شباباً يدرسون ويبحثون، بينما لاتكوِّن (هذه) الطريقة باحثاً ولا دارساً، لأن الطالب لا يعرف مطلقاً سبيل البحث والدرس. هذه كلمة موجزة أرجو أن تحمل على أحسن المحامل، وأن تقبل قبولاً حسناً.

أدب إقليمي

أدب إقليمي نشرت سنة 1936 أريد أن يكون لكل قطر من الأقطار العربية (أدب إقليمي) يصف طبيعة الإقليم الذي نشأ فيه، وجمال هذه الطبيعة، ويصور البيئة التي ظهر فيها وعادات أهلها، وأخلاقهم ومشاعرهم، ويكون من الأدب المحض، لأنه تصوير للجمال وعرض للحياة، ويكون من العلم، لأنه مصدر التاريخ الاجتماعي للأمة. وهذا الأدب هو الذي نريده عندما نقول إن دمشق مثلاً ليس فيها أدب، أي ليس فيها شعر ولا نثر يصف طبيعة بلادها وجمالها وعادات أهلها، وإذا أنت علمت أن فرنسا مثلاً لم يكد يبقى فيها جبل مشهور ولا بحيرة ولا نهر إلا وصفه الشعراء والكتاب ولم يبق في تاريخها حادثة كبيرة إلا استغلَّها الأدب. ورأيت بلادنا (وهي أجمل بلاد الدنيا) مهملة لم توصف ولم تذكر ورأيت تاريخنا (أحفل تاريخ في الوجود بالعظمة والمجد) منسيّاً متروكاً كأنه المنجم البكر، أو الأرض الخصبة العذراء، لعجبت وطوَّح بك العجب. وما لي أذهب بك بعيداً. وهذه جبال بلودان، يصطاف فيها كل عام جلَّة شعرائنا (¬1) فكم قصيدة قالوا فيها؟ وهذا وادي بردى والعين الخضراء، وقلمون ومنين وتلفيتا وصيدنايا، بل هاك بردى، ألا نزال (من الفقر) ننشد في بردى بيتاً قيل منذ ألف وأربعمئة سنة: بردى يصفِّق بالرحيق السلسل ولا نعرف لشعرائنا في بردى مقطوعة مشهورة؛ أو شعراً سائراً .. ¬

_ (¬1) منهم شفيق جبري الذي أمضى فيها عشرين صيفاً ولم يقل فيها عشرين بيتاً.

وماذا لنا لولا شاعرا الإسلام وعلما الشعر؛ حسان الأول (ابن ثابت) وحسان الأخير (شوقي)؟ ... أما أن يكون هذا الأدب الإقليمي علماً ويكون منبع التاريخ الاجتماعي واضح لا يحتاج إلى دليل، وذلك أننا (نحن العرب خاصة) في أشد الحاجة إلى الأدب. لأن تاريخنا العلمي والاجتماعي. لم يكتب بعد ولم يفرد بالتأليف، بل ظلَّ متفرقاً في ثنايا القصص الأدبية والأخبار والتراجم، يحتاج إلى الاستقراء الشامل والتقاط هذه النتف وتنظيمها واستنتاج المعلومات منها، على نحو ما فعل المستشرقون وليس هذا الأمر بالسهل الميسور، كما أنه ليس بالصعب المتعذر. وإني لأذكر أنَّا كنا نقرأ السنة الماضية (أنا والطلاب) قصة من كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي، يتحدث فيها الفضل بن الربيع عما جرى له في اختفائه واشتداد المأمون في طلبه، فمر في القصة أن جندياً طلبه ففر منه حتى أدركه على الجسر وهمَّ بالقبض عليه فمن حلاوة الروح دفعه فسقط هو ودابته في بعض سفن الجسر. فوقفت وساءلت الطلاب أي شيء هذه السفن؟ إنها لا تعدو أن تكون سفناً عادية تكون تحت الجسر فأضيفت إليه، وهذا مقبول ولكنه بعيد، وأقرب منه أن تكون السفن لا صقة بالجسر، بمعنى أنه قائم عليها وهذا أقرب، أفلا يكون معنى هذا الفرض إذا صحَّ أن الجسر كان من زمان المأمون (كما هو الآن) (¬1) قائماً على عوامات، أي كان جسراً متنقلاً؟ أحسب أنه لا شك في ذلك. وأن المسألة من الوضوح بمكان. وعلى هذا لم أجد من ذكر هذه المسألة بالنص من المؤرخين. ووجدنا في هذه القصة، أن الفضل عرف الجندي لأنه من الذين كانوا ينوبون في داره أيام وزارته، ففهمنا من ذلك أن الوزراء إذا تولَّوا الوزارة، قام على أبوابهم حرس يحرسون بالنوبة، على نحو ما عليه الحال اليوم، وهذه المسألة على ضآلتها قد تفيد المشتغلين بأوضاع الحكومة الإسلامية، ولم أجد من نص عليها. ¬

_ (¬1) أي عند كتابة المقال.

ووجدنا في هذه القصة أن الفضل أمسى عليه المساء وهو هارب ماش في الطرقات فلما كان بعد العشاء أغلقت أبواب الأحياء، ففهمنا من هذا أن التجول ليلاً لم يكن ميسوراً، وأن العسس كانوا يغلقون الأبواب. وهذا الأمر معروف في دمشق وفي القاهرة. وأنا أذكر البوَّابات وكيف كانت تغلق، وآخر ما بقي منها (أو ما أعلم أنه بقي) بوابة عند حمام أسامة (قرب البادرائية). استطردت هذا الاستطراد الذي كاد يخرج بي عن الموضوع لبيان أن التاريخ الاجتماعي لا يستخلص إلا من الأدب، وأن تاريخنا الاجتماعي والعلمي لم يكتب، وإنما كتب التاريخ السياسي، أو كتبت مصادره على الأصح. هذا هو الأدب الإقليمي الذي أريده، ولست أريد أن يكون لقطر من الأقطار العربية أدب مستقل في لغته، خارج على العربية لغة الجميع، وأن يهجر كل أدب أخاه فلا يعرفه، وأن تأخذ كل قوم العصبية لأدبهم؛ فتنقطع أوصال الأدب العربي، وتتفكك أجزاؤه. وينبتر من ماضيه، وهذا ما لا نحسبه يكون لمكان القرآن من هذه اللغة، ولأن الله يحفظها به وله، ولأن هذه العربية أكثر من لغة هي رابطة متينة لا تحلها يد أجنبي أو منافق أو ضعيف جهلها فعاداها. والقطر الشامي أبعد الأقطار بحمد الله عن هذه العصبية الباطلة، وأشدها تسامحاً، ولكنه (بالغ في الرقة حتى انخرق) واشتدَّ به التسامح حتى صار ضعفاً وتفريطاً وصار الشاميون؛ أعني صرنا نسيء الظن بأنفسنا حتى لا نجد نابغاً ينبغ فينا إلا فتَّشنا عن عيوبه وحططنا منه. ولقد فكرت في هذا الأمر أمس فوجدته واقعاً وحقيقياً؛ ووجدتني أنا من أكثر الناس التباساً به. حتى أنني (والله) أسيء الظن ولا أرضى عن شيء كتبته قط. أقول إننا قد بالغنا في التسامح فنحن في حاجة إلى شيء من العصبية؛ كما أن إخواننا في لبنان ومصر في حاجة ماسة إلى شيء من التسامح. أما لبنان فيذم أدباؤه الفئة المختارة من رسل البيان ولسن القرآن كالرافعي والزيَّات والبشري وشوقي ويقيم الدنيا ويقعدها دعاية لفئة من الأدباء الناشئين أكبر ما يقال فيهم إن لهم بصراً بفن القصة ويحسنون الوصف على ركاكة وبعد

عن البلاغة. وكل حسنة عند إخواننا اللبنانيين لمصري أو دمشقي سيئة لأنه ليس عليها طابع لبنان، وكل سخافة يأتي بها لبناني أدب وكل سيئة أكبر الحسنات. وأما مصر فلا يكاد يعرف كثير من أهلها أن في الدنيا بلاداً عربية فيها أدب وحياة فهم يقنعون بمصر ويسمّون مصر (أم الدنيا) ويجهلون أحوال البلدان المجاورة سياستها وأدبها وطبيعتها، وعندي في هذا الباب نوادر منها أنني سمعت مرة قاضياً شرعياً يتحدث عن عكا فخلط في موضوعها خلطاً ظاهراً فسألته فلم يدرِ أين تقع من القدس أو من دمشق وآخر من المتعلمين لم يفرِّق بين سورية وفلسطين ونحن معه أنهما كلهما سورية ما خلق الله إلا هذا، ولكنه لم يدر أنهما اليوم حكومتان. بينما تجد الشاميين أو العراقيين يعرفون من أحوال مصر وسياستها أكثر مما يعرف الكثرة من المصريين أنفسهم. ومصر متعصِّبة لأدبها وعلمها، فالأثر الأدبي الذي لا يكون مصرياً، أو لا يطبع في مصر، لا يكتب له الرواج الواسع في مصر. يعرف ذلك الورَّاقون ومن درس حالة المكتبات وسوق الكتب في البلدين وقد وصل هذا الأمر إلى النقاد، فأرسل الأستاذ معروف الأرناؤوط (كتاب سيِّد قريش) إلى كثير من ناقدي مصر كالعقاد وطه حسين فلم يكتبوا عنها. ولا أدع هذا البحث قبل أن أشير إلى حادثين كان لهما أكبر الأثر في إضعاف العصبية المصرية؛ وتعرُّف المصريين: كتَّابهم وأدبائهم، الأقطار العربية الأخرى بعض التعرف: أولهما حادث ظاهر في تاريخ الأدب العربي الحديث. وباب وحده فيه سيتَّسع ويشغل من هذا التاريخ يوم يكتب صحائف كثيرة؛ ذلك هو إنشاء الأستاذ أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة لأنها أولا مجلة مصرية كبيرة كسرت هذا الحاجز وفتحت صدرها للأقطار العربية جمعاء. فكانت كبرى المجلات العربية وأرقاها ولا خلاف، وكانت أجل صلة بين أبناء العربية وكانت الندوة التي يلتقون فيها، ففيها من كل بلد طائفة من أهله: من الشام وفلسطين والعراق والحجاز والمغرب وأوروبا وأميركا وسنغافورة، وصاحبها من أكابر أدباء العصر،

وأبلغهم وله في صدور الرسالة آيات بينات تتخذ مثالاً يحتذى، وإماماً يقتدي به البلغاء في فن الإنشاء، فنالت الرسالة بهذا من المنزلة في القلوب؛ والذيوع في البلدان والشهرة والمكانة ما لم تنله مجلة عربية قط. وثانيهما هو انتشار الفكرة الإسلامية في مصر، ويرجع الفضل فيها لكثير أولهم وأظهرهم وأعمقهم فيها أثراً لأستاذ محب الدين الخطيب وجريدته (الفتح). ... كان يحمل هذه الفكرة طائفة من الكتَّاب على رأسهم إمام الأدب وحجَّة العرب الرافعي، رحمه الله، وكانوا يسمُّونهم المحافظين، والأستاذ العلَّامة السيد رشيد رضا صاحب المنار، ثم أنشأ الأستاذ محب الدين الخطيب (الفتح) فحملت هذه الرسالة بقوة، وكان من أثر الفتح وأثر الأستاذ محب الدين، إنشاء جمعية الشبَّان المسلمين، وقد أنشئت في دار المطبعة السلفية، ثم اتَّسعت وعظمت حتى بلغت اليوم هذه المنزلة من الفخامة والضخامة وكثرة الفروع، ثم أنشئت الهداية الإسلامية، والجمعيات الأخرى، ثم أنشأ الأستاذ العبقري الشيخ البنا (الإخوان المسلمين) وانخرط في سلكهم القسم الأعظم من طلَّاب الجامعة والمدارس العالية ثم أنشئت (الرسالة) واتَّجهت هذا الاتجاه، وأنشأت أعداداً خاصة كل سنة في ذكرى الهجرة، والمواقع الإسلامية، ثم انضم إلى هذه الجبهة الكاتب الكبير حسين هيكل، بل انضم إليها طه حسين وتوفيق الحكيم أيضاً، ولم يبق إلا هذا الصعلوك الشعوبي سلامة موسى، ومن هذه الجهة أجل علماء مصر كالغمراوي أستاذ الكيمياء في الجامعة، وأحمد زكي رئيس مصلحة الكيمياء وأبو شوشة وغيرهم. وبعد فإننا نريد أدباً إقليمياً، ولكنه عربي اللغة، بليغ العبارة، بعيد عن العصبية الإقليمية الباطلة، قريب من الحق والفضيلة. ***

الحياة الأدبية في دمشق

الحياة الأدبية في دمشق نشرت سنة 1936 لا شك أن (الرسالة) بسموِّها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في الدين، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحة في اللغة، والجمال في الأسلوب، وبالتجديد في الأدب .. سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية بما سنَّت من هذه السنة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كبريات مجلات مصر إلا قليلاً، وبما بلغته من الجمال والإتقان، في الشكل والموضوع؛ وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي، بما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيت من الأسلوب العربي، وما قبست من روائع الآداب الأجنبية؛ وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العام، بما دعت إليه من الوحدة العربية، وما نشرت من أمجاد السلف، وما وضعت في نفوس الناشئة من قرائها، من العمل للجامعة العربية الواسعة، لا للإقليمية الضيقة ... ولا شك أن «الرسالة» اليوم للأقطار العربية كلها، لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح «الرسالة» أبوابها للمقالات الوصفية والقصصية، وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية، والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحب بعض الناس ألَّا ينكشف عنها الستار؛ وليس من مصلحة الأدب في شيء أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام، ومغترين بها، وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء

كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم (¬1)، ومبلغ قوتها أو ضعفها، وسبب تقدمها أو علة قصورها، وأن يحلِّلوا أدواءها وأمراضها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها، وتقويتها وشد أزرها؛ والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج، إذا كان في الشام حياة أدبية، لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها؛ وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها، لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق -كما يعلم الناس جميعاً- عاصمة من عواصم البيان العربي ... ولقد رجعت أعرض تاريخ الأدب في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم، وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق في هذه الخمسة عشر عاماً، فلا أجد إذا استثنيت مجلتي الرابطة الأدبية والميزان، ورواية سيِّد قريش لمعروف الأرناؤوط، وكتابي المتنبي والجاحظ لشفيق جبري، ورسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك، إذا استثنيت هذه الكتب، وكتابين آخرين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب الأستاذ محمد كرد علي: خطط الشام والإسلام والحضارة، وغيرها ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة (¬2)، وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع مقالي. على أنَّ هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينا نعدُّ (سيد قريش) عملاً فنياً كبيراً على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها، نعد رسائل (أئمة الأدب) لخليل مردم بك، كتباً مدرسية، موضوعة ¬

_ (¬1) كان لهذه المقالة دوي في العالم العربي واستجاب لها الكتاب فكتب في الرسالة عن الحياة الأدبية في بغداد وفي تونس وفي الحجاز وفي السودان وفي الأردن وفي فلسطين وفي لبنان وفي المغرب وفي المغرب الأقصى، وأعقبت مناظرات في مجلة المكشوف في بيروت بين المؤلف وجماعة من الكتَّاب ستقرؤونها في كتابي (مناظرات وردود). (¬2) وإن كان له (رحمه الله) أسلوب في الترسُّل المطبوع يزاحم في ميدان البيان الفحولة الأولين السابقين.

لطلاب البكالوريا لا تبلغ أن تعدَّ في الدراسات القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة، وتكشف عن نواح مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه؛ ثم إن هذه الكتب نفسها إذا قيست بمدينة كدمشق، في مدة طويلة كهذه المدة، لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلاً لا يدل على حياة ... وهذا الأثر على ما فيه من ضعف ينحصر في فنين من فنون الأدب هما: القصة التاريخية، والدراسة التحليلية؛ أما سائر فنون الأدب كالقصة التمثيلية، والأقصوصة القصيرة، والصورة الوصفية، والمذكرات الأدبية، والتأملات الفلسفية والشعرية، والدواوين القيمة، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب، فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يذكر. من أجل ذلك لم أقل إن في دمشق حياة أدبية، لأن ما نحن فيه ليس بالحياة ولا يشبه الحياة، ولم أنف هذه الحياة لأن في دمشق أدباء ينتجون، أو يستطيعون أن ينتجوا شيئاً، وإنما أقول إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحيحة، هي السبات العميق، والنوم الطويل الذي يشبه نوم الضفادع طول الشتاء، إذ تدخل في ثقب من الثقوب، فتلبث الفصل كله كأنها قطع الحجارة، لا تأكل ولا تشرب، ولا تنق ولا تتحرك ... وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي الشاعر أن يقول كل خمسة أعوام قصيدة واحدة تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون فيها أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكاتب أن ينشر كل عامين مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر فلا يقول شيئاً وهو يرى كل يوم ما يُنطق الصخر بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل وهمومه هو ومصائبه وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟ .. أليس في حياته سرور وألم، وأمل وقنوط، وضحك وبكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغنِّي، ويبكي فلا ينوح، وتهز قلبه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوَّر كاتباً أو شاعراً، لا يكتب ولا ينظم، وكل ماحوله يهيج نفسه، ويثير عاطفته ... إن أدباءنا يحتجُّون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب

سبيلاً إلى النشر ضعفت همته، وانكسر نشاطه، ولم يجد حافزاً إلى العمل، لأن فقد عنصر النشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي .. وهذا صحيح لا غبار عليه. وليس في دمشق مجلَّات أدبية، إلا مجلة صغيرة اسمها (الطليعة) يصدرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون الشهادات العالية من أكبر معاهد أوروبا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وهي تمشي بخطى مضطربة. وربما اضطر أصحابها إلى إغلاقها كما اضطر من قبل أصحاب (الثقافة) إلى إغلاقها، برغم أن أصحابها من أدبائنا ومفكرينا، وهم: خليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني؛ ثم إن الجرائد اليومية لا تعنى بالأدب، ولا تخصص له صفحات دائمة تنفق عليها بسخاء، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تزين بها صدور بعض جرائدنا اليومية صفحات فارغة، لا أظن أن أحداً له صلة بالذوق الأدبي يرضى عنها، وما أظن أن أصحاب الجرائد والقائمين عليها يرضون عنها، أو يجدون فيها وفاء مما يؤملون. وإذا ألَّف الأديب كتاباً أو قصة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترها أحد، لأن دمشق بلد تقرأ كثيراً ولكنها لا تشتري؛ وهذه مجلة (الرسالة)، لا تجد في دمشق أديباً أو متأدِّباً إلا اعترف لك بأنها خير مجلة أخرجت للناس، وأن العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدباً إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمئة عدد ... هذه حجَّة الأدباء في تقاعسهم عن النشر، وهي كما ترى حجة مقبولة، ولكنك إذا سألت القراء لم لا يشترون، احتجوا بأن الأدباء لا ينشرون، وإن تقاعسهم وكسلهم علم القراء الزهد في الآثار القيمة والانصراف عن شرائها، وأنه لا بد من أن يضحِّي الأدباء بقسط من أموالهم وشهرتهم حتى يستعيدوا القراء الذين فقدوهم. على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرِّسين، لا ذنب الأدباء ولا ذنب القراء، فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلا هذا المقدار القليل الذي يتعلمه الطالب في مقرَّر البكالوريا. وهذا المقدار لا يُحق

حقاً، ولا يُبطل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تنفير الطلاب من الأدب، وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شعب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق أعوج أبعد ما يكون عن بثِّ الملكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوّن الملكة الأدبية طائفة من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، ويحتفظ بها في دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدَّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظن أن معنى (بكالوريوس في الآداب) كاتب أو أديب، فزهد في المطالعة، وانصرف عنها أو طالع ما يقع تحت يده من الكتب والمجلات حتى ابتلي بسوء الهضم، وأصيب بالتخمة العقلية ... فترك القراءة وذهب إلى الندى (القهوة) يقطع عمره في النرد والشطرنج ثم يعمد إلى الكتابة في موضوع علمي أو فلسفي دوِّنت فيه عشرات المجلدات من غير أن يقرأ منها شيئاً ... ثم إن طلاب شعب الأدب في صفوف البكالوريا لا يستطيعون أن يستعينوا بالثقافة العامة التي يتلقونها في المدرسة، ولا يعرفون كيف يستفيدون من علم الغريزة (الفسلجة) أو علم النفس أو التاريخ في بحوثهم الأدبية ولا يعرفون شيئاً من مناهج النقد، وقواعد التحليل الأدبي، لا لأن الطلاب كسالى أو بلداء، فالطلاب يدرسون الأدب الفرنسي فيسيغونه، ويدرسون الرياضة فيفهمونها، ويدرسون أشياء كثيرة غير هذه يضيقون ببعضها ويتبرَّمون به، ويقبلون على بعضها ويحبونه، ويجدون لذلك كله أثراً في نفوسهم، فإذا جاء الأدب العربي وجدت أكثر الطلاب لم يلذّوه ولم يبق في نفوسهم أثراً. وسبب ذلك أن أكثر المدرسين عاجزون عن أداء هذه المهمة التي انتدبوا أنفسهم لها، أو انتدبهم لها من بيدهم مقاليد الأمور، لشهرتهم الأدبية أو لشهادتهم العالية، أو لشيء غير ذلك له صلة ضعيفة، أو لا صلة له بالأدب قط. وأكثر المدرسين اليوم بين رجلين: رجل ثقف الأدب العربي القديم ثقافة حسنة، وضرب بالسهم الوافر في علوم العربية نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، ونقدها وروايتها، وحفظ أيام العرب وأمثالهم واستطاع أن يفهمها حق فهمها، وينقدها نقد بصير بها، ولكنه عجز عن أن يدرسها ويدرس رجالها دراسة تحليلية صحيحة لجهله الآداب الأجنبية، وجهله قواعد النقد الحديث.

ورجل درس الآداب الأجنبية أو واحداً منها دراسة عميقة، وعرف مناهج البحث، ومذاهب النقاد، وأحسن نقلها إلى الأدب العربي، ولكنه عجز عن فهم الشعر العربي، وجهل علوم العربية، فغدا لا يستطيع إدراك معنى النص العربي فضلاً عن نقده أو الحكم عليه. ثم إن أكثر المدرسين من غير رجال الأدب؛ وإن فيهم من لم يعرفه الناس شاعراً مطبوعاً، ولا كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً، ولا أكثر من ذلك ولا أقلّ. فكيف لعمري نطلب منه غرس الملكة الأدبية في نفوس الطلاب؟ إن مثل هذا الطلب هدم للمنطق الذي يقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه. ... هذه قيمة الحياة الأدبية في الشام؛ وهذا موطن الضعف فيها؛ فلا صلاح إلا بتقويته، ولا نجاح لأمة لا تسخر أدبها لخدمة قضيتها. فهل يبدأ في حياتنا الأدبية «عهد الإصلاح» المنتظر؟ ***

الترجمة والتأليف

الترجمة والتأليف نشرت سنة 1945 ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقَّى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدري القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعدُّدها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقريّ في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أحْصِ السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمَّت أسماءهم صحيفة، ثم اذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفَّسوا الهواء الذي كانوا يتنفَّسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنَّون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محَّص الحقائق ومَازَ الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبَدٌ يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فربَّ كتاب يطبَّل له ويزمر، ويقام له ويقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر: «لقد نسي التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني». كما نسي التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلَّده شاعر حين أمرَّ اسمه على لسانه في قصيدة من قصائده. هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وإذهاب روعتها، هذه الكتب

(قدر مشترك) بين أبناء الشعوب المتمدنة كلها، ليست لشعب ولا لجيل، لأنها حديث القلوب فهي لكل ذي قلب، ولغة القلوب واحدة وإن اختلفت الألسنة وتعددت البلدان، فما يليق بأمة لها شعور وكرامة وعقل، أن تجهل هذه الكتب ولا هؤلاء الرجال. ... أكتب هذا تعليقاً على مقالة الأستاذ الزيات في العدد الماضي من الرسالة. ولقد عادت بي مقالة الأستاذ إلى أيامي الخوالي حين قرأت قصة (رفائيل) أول مرة، بإذن أستاذنا شيخ أدباء الشام سليم الجندي، وكان يحرم علينا أن نلمَّ بشيء من الأدب الحديث أو ننظر في جريدة من الجرائد، قبل أن نتمكن من الأدب القديم، ونألف الصياغة العربية، وتستقيم مَلَكاتنا على طريق البلاغة السويِّ خشية أن تدخل جراثيم العجمة إلى أسلوبنا، وأن يفشو الضعف في بياننا، فلما سألته عن قصة رفائيل غداة صدورها هل أقرؤها؟ نظر فيها ثم أذن لي بقراءتها لأنه رآها بليغة الأسلوب، صافية الديباجة، سليمة اللغة، سامية البيان، فكانت من أوائل ما قرأت من الأدب الحديث بعد (النظرات) لا أستطيع أن أصف أثرها في نفسي ولا في خيالي ولا في قلمي تلك الأيام، ولا أملك حتى الإلمام بذلك إلماماً، لأنه شيء فوق الوصف وإنما أعترف أنها أحد المصنفات القلائل التي كانت غذاء أدبي من الكتب الجديدة بعد أن غذيته بأمهات كتب الأدب القديم. وقرأت (آلام فرتر) فكان لها مثل ذلك الأثر؛ ثم افتقدت هذا اللون من الأدب فلم أجده؛ ثم وجدت شبهه في مثل (عطيل) مطران و (مرجريت) زكي و (فاوست) عوض وإن كانت هذه من قماش وتلك من قماش، وإن اختلف النسج وتغيَّرت الديباجة، وأمثال (تأبين فولتير) التي نقلها المنفلوطي إلى العربية بقلم أحسب لو أن (هوغو) كان عربياً ما كتبها بأبلغ منه (¬1)؛ كما أن لامارتين لم يكن ليكتب قصته ولا جوت كتابه، خيراً مما كتبهما الزيات ولو خلقا عربيين من أبين العرب. وإني حين أقرأ اليوم هذه الروائع من ¬

_ (¬1) وهي الأنموذج الأكمل للإنشاء الخطابي.

أدب الغرب مترجمات في (روايات الجيب) مثلاً أكاد أخرج من ثيابي غيظاً وغضباً لهذه المعاني الكريمات تجيء في هذه الكلمات، وأسفاً على هذه العرائس الفاتنات تخرج في هذه الثياب الأخلاق الباليات، وأفكر لو أن الله قيَّض لقصة (ذهب مع الريح) مثلًا أو (الفندق الكبير) أو (الأم) وأمثالها الكثيرات من عبقريات القصص العالمية التي ترجمها كتاب روايات الجيب، ونشكرهم على كل حال على حسن اختيارها، وبذل الجهد فيها، إذ لم يدَّخروا في التجويد وسعاً؛ لكن البلاغة درجات، والكتَّاب طبقات؛ لو أن الله قيض لها قلماً لدناً قوياً، لا يشتد فيجرح ولا يضعف فينكسر، فترجمت بأسلوب عذب بليغ، لا يصح من غير جمال فيجف ويجمد، ولا يحمل من غير صحة فيميع ويسيل، لكان منها لهذا النشئ مدرسة، الله وحده يعلم كم كانت تخرِّج لهذه الأمة من كتاب. وليست العبرة في الترجمة بنقل المعنى المجمل للقصة، بل بنقل التفاصيل الفنية الدقيقة والصناعة الناعمة، وطريقة عرض الفكرة، وأسلوب تصوير المشهد. ولو أن المعنى المجمل هو المقصود للخصت قصة يوسف مثلاً في كلمات وضاع إعجاز السورة وجمالها الإلهي، ولكانت قصص الحب في الأدب متشابهة لا تخرج عن أن رجلاً أحب امرأة حباً عاطفياً أو جسمياً، فوصل إليها أو حيل بينه وبينها؛ فهذه أنواع أربعة للقصص الغرامية ينشأ منها أربع قصص فقط ويكون الباقي كله لغواً، مع أن في كل قصة جوّاً خاصاً بها ودنيا لها وحدها، لا تغني في المتعة الروحية بها قصة منها عن قصة، وما ذاك إلا لاختلاف الدقائق والتفاصيل، ولا يظهر هذه الدقائق والتفاصيل إلا قلمُ بليغ، بصير بمواقع الكلام، عارف بأوجه الدلالة في الألفاظ، له الحاسَّة الخفية التي يفاضل فيها بين الكلمات ويحسن انتقاءها، إذ ربَّ كلمتين بمعنى، وبين إحداهما والأخرى مثل ما بين البلاغة والعيّ. ورب كلمة في لسان لها جوٌّ ولها مدلول، وتحيط بها ذكريات عند أهل ذلك اللسان، لا يمكن أن تجيء بها مرادفتها في اللسان الآخر، ومن هنا علت بعض النصوص كالقرآن مثلاً عن الترجمة واستحال أن تنقل إلى غير لغتها. ***

ونحن اليوم أشبه العصور بعصر المنصور والمأمون، أمة كانت معتزلة منطوية على نفسها، ثم اتَّصلت بأمم غيرها لها مدنيات ولها علوم، فإذا استمرت على عزلتها علت عليها تلك الأمم بعلمها وقويت، وإن تعلمت ألسنتها لتفهم علومها، أضاعت لسانها وعصبيتها، فلم يبق إلا أن تنقل كتب الأمم إلى لسانها، فتزداد به غنى في الأفكار وفتى طرق التعبير، ثم تفهمها وتسيغها وتهضمها كما يقولون ثم تنشئ مثلها إنشاء. ونحن في الواقع لا نستغني عن الترجمة ولانقلّ منها، ولكنا نسيء الاختيار فندع الكتاب العبقريّ الفذَّ الذي يعدّ واحداً من مئة كتاب هي خلاصة آداب الأمم كلها ونترجم الكتاب الذي لا فائدة فيه، ثم نسيء التعبير فلا ننقل هذه الكتب إلى العربية وإنما نضع في مكان ألفاظها الأعجمية ألفاظاً عربية، ولايقدر على الترجمة الصحيحة إلا متمكِّن من اللغتين، بليغ في اللسانين، يقرأ الفقرة ثم يفهمها ثم يدعها تخالط روحه وتصير كأنها له، ثم يعبِّر عنها بلسانه، ويزيِّنها بجمال بيانه. ***

النفقات والتكافل الاجتماعي

النفقات والتكافل الاجتماعي [ألقيت في الحلقة الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية ومثِّلت فيها دولها كلها، وكنت مندوب الجمهورية السورية فيها وأحد الثلاثة الذين انتخبوا للجنتها العليا (لجنة الصياغة)] مقدمة: كنت قاضياً في القلمون (من أقضية دمشق) سنة 1941 و1942 حين اشتدَّت أزمة الحرب، واستحكم الغلاء، وكانت سنة ضيق. والقلمون بطبيعته ضيِّق الرقعة المزروعة، قليل الموارد، أكثر أرضه جبا مقفرة، وأكثر ناسه فقراء، وقليل منهم الموسرون. وقد قامت الحكومة يومئذ بتخصيص يوم للإسعاف العام والتبرعات سمَّته (يوم الفقير) جمعت فيه ما جاد به الناس، وواليت العمل بعد ذلك على إسعاف المحتاجين، وألَّفت لجنة لذلك كنت أبتدع لها الطرق الجديدة للجمع. ومن ذلك (مشروع الرغيف) الذي ابتكرتُه، وهو مشروع سهل جمّ الفوائد، خلاصته أن نأخذ من كل دار رغيفاً في اليوم، يسهل على المعطي إعطاؤه، ويعظم عند الأخذ نفعه. ولكني وجدت ذلك كله غير واف بحاجات الفقراء. فرجعت إلى أحكام الفقه الإسلامي، وفقهنا ذخر لا ينفذ في كل باب من أبواب الإصلاح، فأوعزت إلى خطباء المساجد أن يبينوا للناس أحكام نفقات الأقارب، وأن يرشدوهم إلى الادِّعاء بها وتتابعت الدعاوى في المحكمة، وألزم غنيُّ كل أسرة بفقيرها. فكان ذلك أجدى من كل ما كان جمع من التبرعات. من ذلك اليوم علمت أن نفقات الأقارب، إذا طبقت أحكامها الشرعية

على وجهها تكون أعون على الإصلاح الاجتماعي، وأدعى للتكافل بين الناس، ودفع غائلة الفقر والحاجة، من كل تبرع أو إحسان. من هم الأقارب: نحن نقصد بلفظ الأقارب في هذا البحث أفراد الأسرة الواحدة، سواء أكان مصدر هذه القرابة الزواج أو الولادة أو الجوامع العائلية الأخرى. وإن كان لنفقة الأقارب في الاصطلاح الفقهي معنى أضيق من هذا المعنى. القاعدة العامة في النفقة: هي أن نفقة كل امرئ في ماله إن كان له مال، إلا الزوجة. فالزوجة سواء أكانت غنية أم فقيرة. يكلف بنفقتها الزوج. وذلك في مقابلة تقيدها بالبقاء على عصمته والاحتباس لأجله. والاعتراف له بالرياسة في الشركة الزوجية. وغير الزوجة من الأقرباء نفقة كل منهم في ماله إن كان ذا مال، ولو كان أباً أو أماً عجوزاً أو طفلاً، لا يكلف أحد بالإنفاق عليه. فإن لم يكونوا ذوي مال، وكانوا قادرين على التكسُّب كلِّفوا به ولم يسمح لهم الشرع بالبطالة، والعيش عالة على الآخرين. إلا إذا كانوا من الأصول فإن للأصل الفقير (للأب مثلاً والجد) حقَّ الاستراحة والاعتماد على ولده الغني، أو الفروع المؤنَّثة الفقيرة فإن الشرع لا يكلِّف الإناث العمل للعيش، والكدح للمعيشة، ولهن قريب موسر. الأحكام المعمول بها في سورية: هذا هو المعمول به في سورية -وهو المذهب الحنفي- وهو يجعل اعتبار القرابة الشديدة في وجوب النفقة لغير الزوجة والولد مقدماً على اعتبار الإرث. فيجعل النفقة على الخال ولو لم يكن وارثاً، ولا يلزم بها ابن العم مع أنه هو الوارث. ولا أجد حاجة لبيان هذه الأحكام فهي معروفة مقررة، يمكن الرجوع إليها في كتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا. المعتبر في سورية بمثابة

النص القانوني فيما لم يرد في قرار حقوق العائلة تعديل له (¬1). وكتاب النفقات لعلي حيدر، وهو أوسع مرجع في هذا الباب، وهو مطبوع في (قاموس الحقوق). التعديلات التي أقترحها في هذه الأحكام: 1 - في الموضوع: (أ) القاعدة العامة في الحقوق والواجبات أن الغرم بالغنم. والخسار بالربح، فمن كان يرث المرء إذا مات غنيّاً، أولى بان ينفق عليه إذا عاش فقيراً. ولو كان أبعد درجة من القريب الذي لا يرث. وهذا هو مذهب الإمام أحمد (¬2). وأنا أقترح أن تأخذ به الدول المشتركة في هذه الحلقة في تشريعاتها المتعلِّقة بالأحوال الشخصية. (ب) إن حدَّ اليسار الذي يجب به الإنفاق على المدَّعى عليه، وتمتنع به النفقة عن المدَّعي. غير واضح في الأحكام المعمول بها. ومن الفقهاء من اعتبر فيه يسار الفطرة، ومنهم من اعتبر نصاب الزكاة. وأنا أقترح تحديده بالعرف، وإناطته بالقاضي. (جـ) وقد شاهدنا في المحكمة مراراً حالات يكون فيها لطالب النفقة حصَّة من عقار أو حصص من عقارات مشاعة، لا تباع ولا ينتفع بمواردها، لسبب من الأسباب، كأن تكون حصصاً ضئيلة لا يرغب بشراء مثلها، أو تكون محتاجة إلى معاملات انتقال وفراغ يعجز صاحبها عن أدائها، ويعيش فقيراً في الواقع، مع أنه غني في نظر القانون بهذه الحصص، وأنا أقترح أن يسنَّ تشريع يتفق عليه في الدول المشتركة في هذه الحلقة يلزم به القريب الموسر بإدانة الطالب في مثل هذه الحال وتخويله حق الرجوع عليه متى أيسر ببيعها أو من طريق آخر (¬3)، على أن توضع إشارة الرهن على هذه العقارات لمصلحة الدائن. ¬

_ (¬1) لم يكن قد صدر القانون المعمول به الآن. (¬2) قبل هذا الاقتراح وصدر به قانون الأحوال الشخصية. (¬3) العمل على ذلك الآن.

(جـ) مكرر - والعجز عن الكسب المعتبر الآن هو العجز الصحي، ومن المشاهد أن المرء قد يكون صحيح الجسم قادراً على العمل ولكنه لا يجد عملاً لبوار صناعته أو لانتشار التعطُّل الإجباري أو لسبب آخر، وهو في الواقع بحكم العاجز صحيّاً - وأنا أقترح أن يطبَّق في هذه الحال ما اقترحته في الفقرة (جـ). (د) العمل في سورية على اعتبار نفقة الزوجة من تاريخ الادِّعاء، وغيرها منذ تاريخ الحكم، وقد تطول المحاكمة شهوراً أو سنة أحياناً، وقد وقع ذلك مراراً، وأنا أقترح أن يعتبر فيها جميعاً تاريخ الدعوى (¬1). يلزم المدَّعى عليه عند الحكم عليه بالنفقة بأدائها من ذلك التاريخ. وليس في الشرع مانع من ذلك والمسألة اجتهادية وفي أقوال الفقهاء ما يوافقه. (د) مكرر - وقد يكون الزوج فقيراً أو عاجزاً (مع فقره) عن كسب مثله، والزوجة غنيَّة وأنا أقترح الأخذ بقول من يرى إلزامها بنفقته، فتديِّنه في الحالة الأولى إلى وقت اليسار، وتنفق عليه في الثانية بمقدار إرثها منه، مع ملاحظة أن التشريع المصري الجديد في الميراث أخذ بقول عثمان في الرد على الزوجة، وأن من المستحسن أن تأخذ بذلك سائر الدول المشتركة في الحلقة (¬2). (هـ) إن الأب قد يكون شاباً قوياً ويؤثر البطالة تعنُّتاً وكسلاً وهرباً من العمل وفي إلزام ولده بنفقته في هذه الحالة تشجيع له على البطالة، وإضرار بالمجتمع. وأنا أقترح حرمانه في هذه الحالة من النفقة (¬3)، موافقين في ذلك أحد قولي الشافعي. 2 - في الشكل: (أ) دعاوى النفقات من الدعاوى المستعجلة، وفي اتباعها قواعد المرافعات العامة. ومدد التبليغ والاستمهال للإثبات ودعوة الشهود والبيِّنة ¬

_ (¬1) جرى العمل على ذلك الآن. (¬2) أخذ بذلك في قانون الأحوال الشخصية الذي وضع بعد إلقاء هذه الكلمة وكنت أنا الذي وضع مشروعه. (¬3) أخذ بذلك أيضاً في قانون الأحوال الشخصية.

المعاكسة تطويل قد يضيع الغاية من إقامة الدعوى، عدا عمَّا في ذلك من نفقات يعجز عنها المدَّعي المفروض فيه أنه لا يجد ما يتبلَّغ به وأنا أقترح الاتِّفاق بين الدول المشتركة في الحلقة على سنِّ تشريع يبسط إجراءات هذه الدعاوى (¬1) ويقلِّل نفقاتها ويقصر مددها، ويسهال تنفيذها. (ب) العمل الآن على أن مقدار النفقة يحدده خبير أو ثلاثة خبراء في ذلك تقييد للقاضي وتطويل للمرافعة. وما يضعه الخبير من البحث والسؤال يمكن أن يضعه القاضي، وأنا أقترح على الدول المشتركة في الحلقة جعل ذلك منوطاً بالقاضي على أن يبينِّ أسباب التقدير (2) ويكون بحث هذه الأسباب خاضعاً لإشراف المحكمة العليا. (جـ) في بعض القوانين الجديدة في سورية مثلاً ما يضيع الغاية من إقرار أحكام نفقات الأقارب، من ذلك قانون العمل الذي يمنع أن يقتطع من راتب العامل أكثر من الثلث. وهذا القانون نافع لحماية العامل من أرباب العمل وغيرهم. ولكن من يحمي أولاد العامل وزوجته منه؟ وماذا يصنعون إن كانوا سبعة أو ثمانية أمّاً وستة أولاد أو سبعة بثلث الراتب مثلاً؟ وهل يكون له وحده أكثر مما يكون لهم جميعاً (¬2)؟. إلزام الخزانة العامة بنفقة من لا قريب له: الحكم الشرعي على أن الفقير المزمن العاجز عن الكسب والمرأة التي لا معيل لها، وأمثال هؤلاء ممن يستحق النفقة وليس له من تجب عليه، نفقتهم في بيت المال، وقد حكمنا بذلك مراراً ولكن وزارة المال لم تنفِّذ، وأنا أقترح على الدول المشتركة في الحلقة إحياء هذا الحكم والنص على إجابته بقانون يلزم خزانة الدولة بنفقة من لا يقدر على الكسب. ولا مال له ينفق منه ولا قريب ينفق عليه. ¬

_ (¬1) و (2) أخذ بذلك أيضاً في قانون الأحوال الشخصية. (¬2) أخذ بهذا الاقتراح.

مشكلة: الحكم الشرعي على أن هذه النفقة حقٌّ شخصي لصاحبها. ليست لغيره أن يطالب به، ويمكن في رأيي تنظيم أمر النفقات وجعلها مصدراً مالياً لمشروعات التكافل، من غير إخلال بالحكم الشرعي، بأن يوقِّع الفقير الذي يستحق هذه المعونة العامة وكالة (لمصلحة التكافل)، وهي تخاصم عنه قريبه، وما تحصِّله من القريب يكون مورداً للمصلحة، مقابل ما تدفعه للفقير، على نحو ما جرت عليه مصر في أجور الخبراء بعد إنشاء إدارة الخبراء في وزارة العدل المصرية. والمشكلة هنا هي أننا في هذا التوحيد للواردات والمصروفات، نكون قد ألزمنا زيداً من الناس بنفقة من لا تلزمه نفقته. أي أنه إذا كان لدينا فقيران، قدِّرت النفقة لأحدهما على قريبه الغني بمئة ليرة في الشهر، وللآخر بثلاثين، والمعونة المخصصة لكل منهما هي خمس وستون، فيكون القريب الغني للأول قد ألزم بنفقة الفقير الثاني. وإن جرينا على الحكم الشرعي وكانت المصلحة واسطة للتحصيل فقط، ولم توحِّد الأموال التي تحصلها، تكون قد أعطت فقيرين متماثلين، مبالغ متفاوتة جداً. وهذه المشكلة تحتاج إلى بحث في اللجنة. مورد آخر لتمويل المشروع: وما دمنا نبحث في تمويل المشروع من الزكاة والوقف ونفقة الأقارب فإنني أذكر بالمناسبة مورداً آخر غزيراً جداً هو الوصايا، ونحن نسجِّل في المحكمة الشرعية في دمشق كل سنة وصايا بمبالغ طائلة يكون أكثرها في البدع والمخالفات (¬1) وللدجَّالين وأصحاب الطرق، وقد حاولت تنظيم أمر صرفها ¬

_ (¬1) من قانون الأحوال الشخصية الوصيَّة بهذا كله واعتبرها باطلة.

بإرشاد الموصين إلى أوجه البر والخير فيها، فلو أن المصلحة التي ستنشأ للتكافل الاجتماعي فكَّرت في طريق هذا التنظيم لكان لها من ذلك مورد كبير ولدفعت به عن الأمة هذا الشرَّ المستطير. ***

تعبير الرؤيا لابن قتيبة

تعبير الرؤيا لابن قتيبة وصف وتلخيص لنسخة ثمينة من كتاب مفقود نشرت سنة 1935 [يزاول ابن قتيبة في هذا الكتاب بأسلوبه المتين، وطريقته السوية، بحثاً هو اليوم جديد في اللغات الأوروبية، لم يكد يعرفه أصحابها قبل فرويد النمساوي وأصحابه: يونج السويسري، وادلر الألماني، وبودوان الفرنسي، ورفرز الإنجليزي، وهو يتفق وهؤلاء الباحثين في كثير من مسائل هذا البحث، وإنما يختلف عنهم في أنه استمدَّ من معين النبوَّة، فأصاب كبد الحقيقة، وتمكن من سواء الثغرة. واتكلوا على ظنونهم، فحاموا حول الورد، وصدروا من غير ري! والكتاب كما سترى في وصفه من الكتب الجليلة التي نرجو أن يتيح الله لها ناشراً، وهذه النسخة التي نصفها من مخطوطات (المكتبة العربية) العامرة (بدمشق).] ... أما تعبير الرؤيا فقد ثبت في الدين، ونطقت به السنَّة، وتواترت به الأخبار: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة». وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن سَمُرَة بن جُندب، أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون، وبينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يديَّ سواران من ذهب، فكبرا عليَّ وأهمَّاني، فأوحي إليَّ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا. فأوَّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء (أي الأسود) وصاحب اليمامة (أي مسيلمة).

والأخبار في ذلك مستفيضة. وأما ابن قتيبة، فهو الإمام العَلَم. صاحب التصانيف الجليلة: أدب الكاتب، وعيون الأخبار، وطبقات الشعراء، والميسر والقداح، والمعارف (¬1) وغيرها ... قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص: «هو لأهل السنَّة مثل الجاحظ للمعتزلة»، وقال الحافظ السيوطي في البغية: «كان ابن قتيبة رأساً في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة ديِّناً فاضلاً»، وقالت القاضي ابن خلكان: «وكان فاضلاً ثقة وتصانيفه كلها مفيدة»، وقال الخطيب البغدادي: «كان ثقة ديِّناً فاضلاً»، وقال الحافظ الذهبي: «ما علمت أحداً اتَّهمه في نقله»، وقال ابن النديم: «كان صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه، والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف، توفي ابن قتيبة سنة (276) وله (63) سنة. أما كتابه تعبير الرؤيا فقد ذكره ابن النديم في الفهرست في باب الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا، وسمَّاه تعبير الرؤيا. وذكره أبو الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) كما نقل الأستاذ محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح) (¬2). وذكره في كتاب (فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنَّفة في ضروب العلم وأنواع المعارف الشيخ أبو بكر بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي (طبع سرقسطه سنة 1893) باسم (عبارة الرؤيا) قال: ¬

_ (¬1) ذكر الأستاذ المحقق محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح) أن في الخزانة الظاهرية كتاباً باسم تاريخ ابن قتيبة (تحت رقم 80 تاريخ) وأن صاحب كشف الظنون أشار إليه، وتابعته في ذلك دار الكتب في مقدمة (عيون الأخبار) وقد أخبرني صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عبيد، أن الكتاب الذي في الخزانة الظاهرية هو كتاب (المعارف) ذاته. (¬2) قال: وهو من نفائس مخطوطات الخزانة التيمورية وهو فيها (تحت رقم 1425 تاريخ).

كتاب عبارة الرؤيا لابن قتيبة؛ حدثني به أبو بكر بن محمد بن أحمد بن طاهر، رحمه الله، عن أبي علي الغساني، قال: حدثني به أبو العاصي حكم بن محمد الجذامي، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل المهندس. عن أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة. ثم ذكر لروايته طريقاً أخرى، والنسخة التي نصفها مرويَّة من طريق أقصر وتلتقي برواية أبي بكر هذا عند أحمد بن مروان المالكي، وهذا مما يثبت صحة نسبة هذه النسخة لابن قتيبة، رحمه الله. وقال الزمخشري في (الفائق) في مادة (جنه) وهو يفسر بين الفرزدق (¬1): في كفِّه جُنَهيٌّ ريحهُ عَبقٌ ... من كفِّ أرْوعَ في عرنينه شَممُ قال القتيبي (يعني ابن قتيبة) الجنهي، الخيزران. ومعرفتي بهذه الكلمة عجيبة، وذلك أن رجلًا من أصحاب الغريب سألني عنه (الجنهي) فلم أعرفه. فلما أخذت من الليل مضجعي أتاني آت في المنام، فقال لي: ألا أخبرته عن الجنهي؟ قلت: لم أعرفه، قال: هو الخيزُران! فسألته شاهداً، فقال: «هدية طرفنَّه، في طبق مجنَّه»، فهببت وأنا أكثر التعجب، فلم ألبث إلا يسيراً، حتى سمعت من ينشد: في كفِّه جنهي ... وكنت أعرفه: في كفِّه خيزران ... قال في (تاج العروس) في تفسير الجنهي: هو الخيزران، رواه الجوهري، عن القتيبي قال (يعني ابن قتيبة): وسمعت من ينشد: في كفه جنهي ... والقصة التي رواها الزمخشري مروية في الورقة الخامسة عشرة من المخطوط الذي نصفه، وهذا مما يثبت صحة نسبته إلى ابن قتيبة، ومما يثبت هذه النسبة أسلوب الكتاب، فإنه لا يكاد يختلف عن الأسلوب الذي نعرفه لابن قتيبة، في تحقيقه اللغوي وتفسيره الغريب، وإكثاره من الشواهد. ¬

_ (¬1) المشهور أنه للفرزدق ويقول كثير من المحققين إنه للحزين الليثي الشاعر. راجع الأغاني.

أما هذه النسخة فتقع في (134) صفحة من القطع الصغير في كل صفحة (15) سطراً، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، على ورق صقيل، ويزيد عمرها على (500) سنة. في الصفحة الأولى منها، اسم الكتاب: كتاب عبارة الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوَري، رضي الله عنه. وفيها كتابات أخرى، أكثرها ممحوٌّ: من مواهب ذي الكرم على عبده رجب الأعلم اشتريته من سي يحيى الذهبي، وقيل في المعاني: ونكس الرأس أهل الكيميا خجلاً ... وقطروا أدمعاً من بعد ما سهروا إن طالعوا كتبه بالدرس بينهم ... صاروا ملوكاً وإن هم جربوا افتقروا تعلقوا بحبال الشمس من طمع ... فتى منهم قد غرَّه القمر ونو -الشمسي خادم - الفقير - لسنة 1209 - من شهر ذي الحجة من تركة الشيخ عمر بن عبد الهادي، رحمه الله. وفي الصفحة الأخيرة، هذه العبارة مكتوبة بخط الناسخ: «آخر كتاب تعبير الرؤيا لابن قتيبة، رضي الله عنه، قابلناها على نسخة الأصل بقدر الإمكان: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد وقع الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة الموسومة بكتاب عبارة الرؤيا على يد العبد الضعيف النحيف الراجي إلى رحمة الله الباري يحيى بن محمد البخاري في عشرين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثمانمئة بدمشق المحروسة صانها الله تعالى عن الآفات والنكبات، اللهم اغفر لكاتبه ولن نظر فيه آمين يارب العالمين».

وفيها أسماء بعض المالكين: دخل هذا الكتاب في نوبة العبد الفقير رجب الأعلم المجاور بمدرسة العمرية عفا عنه آمين. الحمد لله مالكه من فضل ربه الهادي، الشيخ عبد الرزاق الهادي غفر الله له آمين، كتبه الفقير ابنه محمد. ساقها الرب الهادي، إلى محمد الهادي. والنسخة مشكولة ولكنه شكل لايعتدُّ به، وليس في هوامشها تعليقات تذكر. ... رواية الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. كتاب تعبير الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة. قرأت على الشيخ الصالح أبي الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقري المعروف بابن أبي الفتح المصري، أخبركم أبو حفص عمر بن عراك الحضرمي قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة الدِّينوَري، قال: مقدمة الكتاب: الحمد لله الذي رفع منار الحق وأوضح سبيل الهدى، وقطع عذر الجاحدين، بما أشهدنا من صنعته الظاهرة، وآياته الباهرة وأعلامه الدالَّة عليه، وآثاره المؤدِّية إليه. في كل ماثل للعيون. من فلك دائر، وكوكب سائر، وجبال راسيات، وبحار طاميات ورياح جاريات، وفُلك في البحر مسخَّرات بأمره ... إلخ.

(قال) حدثني محمد بن عبيد، عن ... عن ... عن أم كرز الكعبية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوَّة وبقيت المبشرات (¬1) وحدثني محمد بن زياد عن ... عن ... عن عروة أنه قال في قول الله عز وجل: {لَهمُ البُشرَى في الحَياة الدُّنيا وفي الآخرَةِ} قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له (¬2). (قال أبو محمد) وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم، ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو أغمض وألطف، وأجلَّ وأشرف، وأصعب مراداً وأشكالاً، من الرؤيا، لأنها جنس من الوحي، وضرب من النبوة ... إلخ. ولأن كل علم يطلب فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، والطريق إليه قاصد، والسبب الدال عليه واحد، خلا التأويل: فإن الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس في هيئاتهم، وصناعاتهم وأقدارهم، وأديانهم، وهممهم، وإراداتهم. وباختلاف الأوقات والأزمان فهي مرَّة مثل مضروب يُعبّر بالمثل والنظير، ومرَّة مثل مضروب يعبّر بالضد والخلاف، ومرَّة تنصرف عن الرائي لها إلى الشقيق أو النظير أو الرئيس، ومرَّة تكون أضغاثاً. ولأن كل عالم بفن من العلوم، يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا: فإنه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ليتَعبَّرهما في التأويل. وبأمثال العرب، والأبيات النادرة، واشتقاق اللغة، والألفاظ المبتذلة عند العوام، وأن يكون مع ذلك أديباً لطيفاً ذكياً، عارفاً بهيئات الناس وشمائلهم وأقدارهم وأحوالهم، عالماً بالقياس حافظاً، ولن تغني عنه معرفة الأصول، إلا أن يمدَّه الله بتوفيق، يسدِّد حكمه للحق، ولسانه للصواب، وأن يحضره الله تعالى تسديده، حتى يكون طيب الطعمة، نقياً من الفواحش، طاهراً من الذنوب، فإذا كان كذلك، أفرغ الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ: لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة. (¬2) قال في تيسير الوصول في حديث المبشرات المتقدم: رواه مالك عن عطاء مرسلاً، وزاد: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تري له.

عليه من التوفيق ذنوباً، فجعل له من مواريث الأنبياء نصيباً. وسأخبرك عن كيفية الرؤيا، بالاستدلال على ذلك من كتاب الله والحديث، إذ كنت لم أجد فيه مقالاً كافياً لإمام متبع، وأقدم قبل ذلك ذكر النفس والروح، إذ كنت لا تصل إلى علم كيفيتها إلا بمعرفتهما، وفرق ما بينهما. وعلى الله أتوكل فيما أحاول وأستعين. (إلى أن قال) وقد اختلف الناس في النفس والروح، فقال بعضهم، هما شيء واحد يسمَّى باسمين، كما يقال، إنسان ورجل، وهما الدم أومتَّصلان بالدم، يبطلان بذهابه، والدليل على ذلك، أن الميت لا يُفقد من جسمه إلا دمه، واحتجُّوا لذلك أيضاً من اللغة: بقول العربي: نُفست المرأة (إذا حاضت) ونَفِست (من النفاس) وبقولهم للمرأة، عند ولادتها: نُفَساء، لسيلان النفس وهو الدم. وبقول إبراهيم النخعي: كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء ... إلخ. والعرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه وفاضت، وخرجت روحه منه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متَّصلان لا يقوم أحدهما إلَّا بالآخر، وكذلك يسمون الجسد نفساً، لأنه محل النفس، قال ذو الرُّمَّة حين احْتُضِر: يا قابض الروح من نفسي إذا احتُضِرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار ويسمون الدم جسداً لأن الجسد محله. قال النابغة الذبياني: فلا لَعَمْرُ الذي قد زُرته حِججاً ... وما أُريق على الأنصاب من جسدِ والمهجة عندهم الدم. قال الأصمعي: سمعت أعرابية ... إلخ. وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ... إلخ. وأرواح أهل النار ... إلخ.

(قال أبو محمد): ولما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من اختلاف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها، بالزيادة الداخلة، والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشرِّ باختلاف الهيئات واختلاف الأزمان والأوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرَّة من معناه، ومرة من ضدِّه، ومرة من كتاب الله، ومرة من الحديث، ومرة من البيت السائر والمثل المشهور، احتجت إلى أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل، لأرشدك بها إلى السبيل. فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ ... إلخ. قال: وأخبرنا محمد بن عبد العزيز عن ... عن ... عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني في دار عقبة بن رافع وأُتيت برطب من رطب ابن طاب (نوع من تمر المدينة)، فأوَّلته أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة وأن ديننا قد طاب (¬1). أخبرنا أبو حاتم ... إلخ. (قال أبو محمد): وربما اعتبر من الاسم إذا كثرت حروفه البعض ... إلخ. قال الشاعر: أهدت إليه سفرجلاً فتطيَّرا ... منه وظل نهاره متفكراً خاف الفراق لأن أول ذكره ... سفر وحق له بأن يتطيَّرا وكذلك السُّوسَن ... إلخ. قال الشاعر: سوسنة أعطيتنيها فما ... كنتِ بإعطائها محسنه أولها سوء فإن جئت بالآ ... خر منها فهو سوء سنه وأما التأويل بالقرآن فكالبيض يعبر بالنساء لقول الله عز وجل {كأنهنَّ بيض مكنون} ... إلخ. وكالحبل يعبر بالعقد لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً}، ولقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلَّة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس}،، أي بأمان وعهد. والعرب تسمِّي العهد حبلاً، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود.

وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها وكاللباس يعبر بالنساء لقوله جل وعزَّ: {هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن}. قال النابغة الجعدي، وذكر امرأة ... إلخ. وأما التأويل بالحديث فالغراب هو الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه فاسقاً، والفأرة ... إلخ. وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبذول كقولهم في الصائغ: إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم: فلان يصوغ الأحاديث إذا كان يضعها ... إلخ. وكقولهم في الماسح: إنه ذو أسفار، لقولهم لمن كثرت أسفاره هو يمسح الأرض. قال الشاعر في هذا المعنى: قبَّح الله آل برمك إني ... صرت من أجلهم أخا أسفار إن يكن ذو القرين قد مسح الأر ... ض فإني موكلٌ بالغبار ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن الدجَّال إنما سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض إذا خرج أي يسير فيها، ولا يستقر بمكان، وأن عيسى عليه السلام إنما سمِّي بذلك لأنه كان سائحاً في البلاد لا يقيم بشيء منها ولا يوطنه، ومن ذهب إلى هذا جعله فعيلاً في معنى فاعل مثل قدير ورحيم؛ ويرى قوم أن الدجال سمِّي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين. وهذا وإن كان وجهاً فالاشتقاق الأول أعجب، لأن تسميتهم إياه الدجال تشهد له (¬1)، والدجالة هي الرفقة في السفر والقافلة، قال خداش بن زهير: فإن يك ركبت الحضرمي غرامة ... فإن كِلا ركبيكمُ أنا غارم سأغرم من قد نالت الحجر منهم ... ودجالة الشام التي نال حاتم يعني قافلة أصابها حاتم ... إلخ. ¬

_ (¬1) (قال في اللسان): الداجل المموِّه الكذَّاب، وبه سمِّي الدجال لأنه يدجل الحق بالباطل؛ وقيل بل لأنه يغطِّي الأرض بكثرة جموعه، وقيل لأنه يغطي على الناس بكفره ... إلخ. (وقال في التاج): وقيل هو من دجل الرجل: إذا قطع نواحي الأرض سيراً. (الطنطاوي).

وكقولهم فيمن غسل يديه بأشنان، إنه اليأس من الشيء يطلبه، لقول الناس لمن يئسوا منه: قد غسلت يدي منك بأشنان، قال الشاعر: فاغسل يديك بأشنان وأنقهما ... غسل الجنابة من معروف عثمان وكقولهم في الكبش ... إلخ. وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ما لم يكن معه رنَّة ولا صوت، وفي الفرح والضحك إنه حزن ... إلخ. وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقص فكقولهم ... إلخ. وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم وأقدارهم وأديانهم، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذاباً ... إلخ. حدثنا محمد ... إلخ. قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي بكر، فرأى سلمان لأبي بكر رؤيا فجانبه وأعرض عنه، فقال له أبو بكر: أي أخي! ما لك قد أعرضت عني وجانبتني؟ قال: رأيت كأن يديك جمعتا إلى عنقك، فقال أبو بكر: الله أكبر! جمعت يداي عن الشرِّ إلى يوم القيامة. حدثني محمد عن ... عن ... عن عطاء، قال: كان محمد بن سيرين يقول في الرجل يرى له أنه يخطب على منبر: إن كان ممن ينبغي له السلطان أصاب سلطاناً. وإلا فإنه يصلب. شبَّه الجذع بالمنبر. وقال الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة! قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع ... إلخ. ومن عجب الرؤيا أن الرجل يكون مفحماً لا يقدر على أن يقول بيت شعر، أو بكيّاً يتعذر عليه القليل منه إلا في المدة الطويلة، مع إعمال الفكر، وإنعام الروية، فينشد في المنام الشعر الجيد لم يسمع به قط فيحفظه أو يحفظ منه البيت أو البيتين، ويكون عيِيّاً أو أعجمياً، فيتكلم بالكلمة من الحكمة البليغة ويوعظ بالموعظة الحسنة، ويخاطب بالكلام البليغ الوجيز الذي لا يستطيع أن يتكلَّف مثله في اليقظة بعرق الجبين، وهذا من أدلِّ الدلائل على اللطيف الخبير.

روى الرازي ... إلخ. وروى واصل ... إلخ. وأما الشعر فإن أبا اليقظان قال: تزوج رجل امرأة، فعاهد كل واحد منهما صاحبه ألَّام يتزوج الأخر بعده، ومات الرجل، فلما انقضت عدَّة المرأة أتاها النساء فلم يزلن بها حتى تزوجت، فلما كانت ليلة أدائها أغفت بعد ما هُيِّئت فإذا هي بالرجل آخذاً بعضادتي الباب يقول: ما أسرع ما نسيت العهد يا رباب! ثم قال: حييت ساكن هذا البيت كلهم ... إلا الرباب فإني لا أحييها أمست عروساً وأمسى منزلي جَدَثاً ... إن القبور تواري من ثَوَى فيها فانتبهت فزعة، فقالت: والله لا يجمع رأسي ورأسه بيت أبداً، ثم تخالعا. وروى ابن الكلبي عن جبلَّة بن مالك الغسَّاني قال: سمع رجل من الحيِّ قائلاً يقول في المنام على سور دمشق: ألا يا لقومي للسفاهة والوهن ... وللعاجز الموهون والرأي ذي الأفن ولابن سعيد بينما هو قائم ... على قدميه خرَّ للوجه والبطن رأى الحصن منجاة من الموت فالتجا ... إليه فزارته المنيَّة في الحصن فأتى عبد الملك بن مروان فأخبره، فقال: ويحك، هل سمعها منك أحد؟ قال: لا. قال: فضعها تحت قدميك. ثم قال، عبد الملك عمرو بن سعيد، عن عقيل ... عن ... أن رجلاً ... إلخ. (قال أبو محمد) وسأخبرك في هذا الباب بأعجوبة عن نفسي: سألني رجل من أصحاب الغريب كان يكثر الاختلاف إليَّ عن جنهي ما هو؟ ولم أعرفه ... إلخ. ورأيت أيضاً في المنام وأنا حديث السن كتباً فيها حكم كثيرة بألفاظ غريبة - كنت أحفظ منها شيئاً ثم أنسيت ذلك إلا حرفاً وهو: وبلغت إليه صلَّة الهواء، وما كنت أعرف في ذلك الوقت ما الصلَّة، ثم عرفتها بعد، والصلة: اليبس.

ومن عجائب الرؤيا أن الرجل يرى الشيء لنفسه أو يُرى له فيكون ذلك لشقيقه أو ابنه أو شبيهه أو سميِّه ... إلخ. قال (أبو محمد) وحكى أبو اليقظان ... إلخ. (قال أبو محمد): وما أشبه هذا الحديث بحديث رجل رأى في المنام -أيام الطاعون- أن الجنائز تخرج من داره على عدد من فيها، فطعن أهل الدار جميعاً غيره، فبقي ينتظر الموت ولا يشك في أنه لاحق بهم، فدخل الدار لص، فطُعن فيها فمات في الدار، فأخرجت جنازته منها وسلم الرجل. (حدثنا أبو محمد) قال: حدثني بعض الكتاب ... إلخ. وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لاتلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأرجيتها، وإن اشتبه عليك الأمر، سألت الرجل عن ضميره في سفره إن كان رأى السفر، وفي صلاته إن كان رأى الصلاة، وفي صيده إن كان رأى الصيد، ثم قضيت بالضمير، وإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالأسماء على ما بينت لك. وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها، يعرفونها من أنفسهم، فيكون ذلك أقوى من الأصل، فتسأل عن طبع الرجل، وما جرت عليه عادته ... إلخ. وإن كان الأصل طائراً ... إلخ. وإن كان غراباً ... إلخ، وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد إليك: غراب نوح، وإن كان عقعقاً كان رجلاً لا عهد له ولا حفاظ ولا دين. قال الشاعر: ألا إنما حملتم الأمر عقعقا وإن كان عقاباً ... إلخ. ... هذه فقرة من المقدمة القيِّمة التي قدم بها الكتاب وهي تقع في أكل من أربعين صفحة، وتأتي من بعدها أبواب الكتاب وهي ستة وأربعون باباً، فيها من نوادر الشعر وطرائف اللغة ودرر الأدب مثل ما في المقدِّمة، ولولا أن هذا الفصل قد طال، لاخترنا منها فقراً رويناها في (الرسالة)، والكتاب على الجملة من نفائس تراثنا العلمي، ومكانه من الخزانة العربية لا يزال خالياً لم يشغله كتاب. وإنا لنأمل له من رجال الأدب ومن الناشرين الاهتمام اللائق به. ***

الأبيوردي

الأبيوردي نشرت سنة 1936 بين المعرِّي والبارودي عصر أدبي مديد قد نسي اليوم أو كاد، فمحي من برامج التعليم عندنا، وحكم عليه جملة واحدة بأنه عصر انحطاط في الأدب وجفاف في القرائح، وضعف في الإنشاء، وقحط في الرجال، وانصرف عنه الناس -إلا الخاصة من أهل الأدب- وزهدوا فيه، وارتضوا لأنفسهم الجهل به، وانقطعت الصلة بينهم وبينه، فلا تقرأ لأحد بحثاً فيه، ولا تحليلاً لشاعر من شعرائه. ولا تسمع اسم رجل من رجاله يتردد على أطراف ألسنة الخطباء، وأسلات أقلام الكتاب، كما تردد اسم بشار والبحتري والمتنبِّي والمعري، في حين أن هذا العصر الطويل قد أنجب شعراء إذا هم لم يضارعوا الفحولة السابقين، فليسوا خالين من كل مزيَّة، ولا عاطلين من كل حلية، بل إن فيهم لشعراء، زوَّدوا الأدب العربي بزاد قيم، وأورثونا أدباً جماً، وشعراً كثيراً من حقه أن يحفظ وينظم، ويدرس ويحلل. لا سيما ونحن في إبان نهضة أدبية شاملة ... وقد أحببت أن أفتح هذا الباب في «الرسالة» لأنها اليوم بمثابة الإمام في الأدب العربي، ولأن في يدها دفَّة السفينة فهي التي توجِّهها الوجهة الصالحة إن شاء الله. ولست أسوق هذه الكلمة على أنها دراسة كاملة لهذا الشاعر. ولكن على أنها كلمة موجزة عن نفسيته وشعره، بمناسبة ذكرى وفاته، علَّ هؤلاء الشعراء المنسيين يُبعثون كما بعث ابن الرومي من قبل. فيقام للأبِيَوَرْدي مهرجان كمهرجان المتنبي بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته. ***

قال الأبِيورْدي: تنكَّر لي دهري ولم يدرِ أنني ... أعزُّ وأحداث الزمان تهون فبات يُريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبتُّ أريه الصبر كيف يكون والأبيوردي هو أبو المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي المعاويّ الأمويّ العبشميّ الذي يقول: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة أُمراؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها ... هذه نفس الأبيوردي، وهذا شعره. قال الشعر فأكثر، وسار فيه على سنن من تقدمه وعاصره، فمدح وهجا وتغزَّل، واستنفد المدح أكثر شعره، وعُني بالصناعة البديعية، وغاص على المعاني المبتكرة، والتوليدات الدقيقة؛ وكان شأنه في ذلك شأن جمهرة الشعراء المدَّاحين لم يأت فيه بجديد، ولم تكن له ميزة في شيء منه، ولكن ميزته في شيء وراء ذلك كله، هو أن له شخصية قوية واضحة تشبه شخصية المتنبي في كثير من نواحيها، وأن هذه الشخصية تظهر في شعره كله، في المدح وفي الهجاء وفي الغزل. وستفهم هذه الشخصية، وترى مبلغ ظهورها في شعره حين تعرف نسبه وأخلاقه، وتقرأ ما سأعرض عليك من شعره. أما نسبه فقد علمت أنه يتصل بأبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس جد الخلفاء الأمويين، الذين ملكوا الدنيا، وفتحوا المشرق والمغرب؛ وقد كان الشاعر معتزاً بهذا النسب لا ينساه ولا يكتمه، ولا يحجم عن أن يواجه به الخلفاء من بني العباس، وأن يفاخر به في وجودهم!

كتب مرَّة إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله رقعة على رأسها الخادم المعاويُّ، فغضب الخليفة وأخذ الوقعة فكشط الميم من المعاويّ وردَّها إليه ... وكان مرَّة يمدح الخليفة المقتدي العباسىِ، ففخر أمامه بنسبه الأموي، ووازاه بنسب الخليفة، ولم يزد على أن جعل جدَّ الخليفة العباس «ساقي الحجيج» نِدّاً لجده وقريعاً، قال: وقد ولدتني عصبة ضمَّ جدَّهم ... وجدَّ بني ساقي الحجيج عروق وإني لأبواب الخلائف قارع ... بهم ولساحات الملوك طروق ولم يكن يمتنع من أن يفخر بأجداده الأمويين، ويملأ الدنيا ثناء عليهم، ويفضلهم على الناس كلهم، على مسمع من العباسيين أرباب السلطان وأولياء الأمر، وأن يعرض في فخره بالدولة العباسية وزوالها، قال: أنا ابن الأكرمين أباً وجداً ... وهم خير الورى عماً وخالاً أشدَّهم إذا اجتلدوا قتالاً ... وأوثقهم إذا عقدوا حبالا وأرجحهم لدى الغمزات عوداً ... إذا الخفرات خلَّين الحجالا (إلى أن قال): وهم فتحوا البلاد بباترات ... كأن على أغرَّتها نمالا ولولاهم لما درَّت بفيء ... ولا أرعى بها العرب الفصالا وقد علم القبائل أن قومي ... أعزَّهم وأكرمهم فعالا وأصرحهم إذا انتسبوا أصولاً ... وأعظمهم إذا وهبوا سجالا مضوا وأزال ملكهم الليالي ... وأية دولة أمنت زوالا؟ أما أخلاقه فقد كانت أخلاق الصِّيد من الملوك، لا أخلاق المدَّاح من الشعراء، فقد ذكروا أنه كان عالي الهمة، عزيز النفوس، متكبراً تيَّاهاً، ذا باو وصلف وعجب، وكان يتخذ العبيد والغلمان، ويأمر من يمشي بين يديه بالسيف فعل الملوك، وكانت له آمال سياسية، كان يرجو أن يبلغها من طريق المرتبة والولاية، فطلبها وألح في طلبها؛ فلما أيس منها عزَّى نفسه بأنه سيطلبها

بالسيف، فهو يشبه في هذا المعنى المتنبي شاعر العرب الأكبر؛ يدل على آماله السياسية وطموحه إلى الملك شعره الذي سيمر بك عما قريب، ودعاؤه عقب كل صلاة: «اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها»، وتيهه على ممدوحيه من الملوك والوزراء، وفخره بنفسه بين أيديهم. أما الشعر فكان ينظمه ترويحاً عن نفسه، وترجمة عن أدبه، ويمدح به من يمدح للأدب لا للنشب، وللوفاء لا للعطاء: ولم أنظم الشعر عجباً به ... ولم أمتدح أحداً من أرب ولا هزَّني طمع للقربـ ... ـض ولكنه ترجمان الأدب ... إني بمدحك مغرى غير ملتفت ... إلى ندى خضل الأنواء مطلوب وكان يترفع عن أن يستجدي بالشعر، وأن يعد من الشعراء السؤَّال. ويرى نفسه نداً لممدوحيه. فهو ينظم لهم هذه القصائد المعجزة، يبتغي بها ودهم وإخاءهم لا نوالهم وعطاءهم: ولولاك لم تخطر ببالي قصائد ... هوابط في غور طوالع من نجد لحقت بها شأو المجيدين قبلها ... وهيهات أن يؤتى بأمثالها بعدي فهن عذارى مهرها الود لا الندى ... وما كل من يعزى إلى الشعر يستجدي ولم يكن يسلك سبيل شعراء المدح في الكذب والغلو والمبالغة. ولكن سبيله وصف ما يرى من صفات ممدوحيه وخلالهم وصفاً صادقاً، لا كذب فيه ولا إغراق: وصدق قولي فيك أفعالك التي ... أبت لقريضي أن أوشحه كذباً ... لا زلت تلقح آمالاً وتنتجها ... مواهباً يمتريها كل محروب وتودع الدهر من شعر أحبره ... مدائحاً لم توشح بالأكاذيب

وكان عارفاً بقيمة شعره، مؤمناً بعلو منزلته وجلالة قدره، فهو يوجه إليه أنظار ممدوحيه ويدل به عليهم، ويمن على من يمدحهم بأن ملوك الأرض يتمنون أن يمدحوا به، ولكنه لا يتنازل إلى مدحهم، ولا يعرج عليهم، ولا يلتفت إليهم: قليل إلى الري الذليل التفاته ... وإن كثرت للواردين المناهل ... فدونك مما ينظم الفكر شرداً ... سلبن حصى المرجان كل نظام تسير بشكر غائر الذكر منجد ... يناجي لسانَيْ معرق وشآمي ويهوى ملوك الأرض أن يمدحوا بها ... وما كل سمع يرتضيه كلامي ... وكم ماجد يبغي ثناء أصوغه ... ولكنني عن مدع غيرك أزورُّ ويودع سيداً كبيراً فلا يجد ما يأسف عليه عند وداعه إلا هذا الشعر الذي يضيق به الحساد، و (تكبو دونه الشعراء) وتنشده الأيام، أن يضيع بعد رحيله ولا يبقى له أهل يخاطبون به: رحلت فالمجد لم ترقأ مدامعه ... ولم ترق علينا المزن أكبادا وضاع شعر يضيق الحاسدون به ... ذرعاً وتوسعه الأيام إنشادا فلم أهب بالقوافي بعد بينكم ... ولا حمدت وقد جربت أجوادا ... وإذا أنت سألت الشاعر عن منزلته في الشعر لما تردد في القول بأنه فاق الشعراء وبذَّهم؛ فإذا عجبت منه كيف يعجز الشعراء ويبذهم وهو واحد منهم، أجابك جواب المطمئن المؤمن بما يقول: المعتد بنفسه قائلاً: فقد الأعاريب في شعر فأنت به ... كأنه لؤلؤ في السلك منضود إن كان يعجزهم قولي ويجمعنا ... أصل فقد تلد الخمر العناقيد

فمن كان له هذا المجد التليد، ينم عنه هذا المنطق المبين: ينمُّ بمجدي حين أفخر منطقي ... ويعرب عن عتق المذاكي صهيلها ومن كان سليل الملوك، وشاعر العصر، وذا المجدين: المجد الموروث وهو هذا النسب العالي النبيل، والمجد المكسوب وهو هذا البيان الصافي الأصيل، كان له أن يقوم بين أيدي ممدوحيه مقام العزيز الشامخ بأنفه، وأن يصرخ في وجه الوزير، وقد قام مادحاً له، فنسيه وذكر نفسه، فانقلب منافراً مفاخراً: وسل بي المجد تعلم أيّ ذي حسب ... في بردتيَّ إذا ما حادث هجما يلين للخل في عزّ عريكته ... محض الهوى وله العتبى إذا ظلما من معشر لا يناجي الضيم جارهم ... نضو الهموم غضيض الطرف مهتضما والدهر يعلم أني لا أذل له ... فكيف أفتح بالشكوى إليه فما وكيف يشكو الدهر، وشعره غرة في جبين الدهر: وكيف يشكو الدهر من شعره ... على جبين الدهر مكتوب؟ أو لست تذكر المتنبي شاعرنا الأكبر، حين تقرأ للأبيوردي فخره بنفسه وتمدحه بإدلاجه في الليل، وانفراده في الفلوات ترنو إليه النجوم وهو ساع ليكسب قومه عزاً وفخراً في مطلع قصيدة يمدح فيها ويهنئ بالعيد. قال: وبي عن خطة الضيم ازورار ... إذا ما جدَّ للعلياء جدي فهل من مبلغ سروات قومي ... مصاحبتي على العَزَّاء غمدي وإدلاجي وجنح الليل طاو ... جناحيه على نصب وكدّ وقد رنت النجوم إليَّ خُوصاً ... بأعين كاسرات الطرف رُمد لأورثهم مكارم صالحات ... شفعت طريفها لهم بِتَلْدِ وهو لا يزال أبداً يحب أن يجمع إلى المجد التليد مجداً طريفاً وأن يؤيد المجد الموروث بمجد مكسوب، لا يقنع بعلو نسبه ورفعة أجداده:

فشيدت مجداً رسا أصله ... أمُتُّ إليه بأمّ وأب ولا يزال يمدح بهذه الخلة من يجدها من ممدوحيه. قال: مقتبل السن عقيد النهى ... تقصر عن غاياته الشيب والملك لا يحمل أعباءه ... من لم تهذبه التجاريب شيد ما أثَّل من مجده ... والمجد موهوب ومكسوب ... أبو علي له في خندف شرف ... لف العلى منه موهوباً بمكسوب وهو لا يقنع من المجد بالشعر والأدب، ولا بالمال والنسب، ولكن له أملاً سياسياً بعيداً، فهو يألم لما يرى من تفرق الأمراء وغلبة الأعاجم، وينتظر (رجل الساعة ...) المصلح المرتقب، الذي يجمع شمل الأمة، ويعيد لها شبابها، فيدعو لذلك الملوك ويهيب بهم، فلا يجد هذا البطل الأروع فرَّاج الغمة، محيي الأمة: دهر تذأب من أبنائه نقد (¬1) ... وأوطئت عرب أعقاب أعلاج وأينع الهام لكن نام قاطعها ... فمن لها بزياد أو بحجاج وكم أهبنا إليها بالملوك فلم ... نظفر بأروع للغماء فراج فيفتش في أمراء العرب وملوكهم فلا يجد فيهم من يرجى إلا الأمير أبا الشداد، فيقصده بقصيدة يستثيره ويستفزه، ويهيج في نفسه الحميَّة العربية، ويسأله كيف يرضى وهو اليوم أمل العرب وملجؤهم بأن يقنع العرب بصحراء زرود ورمال حاجر، بينما يأكل الأعاجم الدنيا، ويتناهبون الثراء والمجد، ويحضُّه على أن يثيرها داحسية شعواء: ¬

_ (¬1) قال في اللسان: النقد جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه تكون في البحرين. ويقال هو أذل من نقد. وأنشد: رب عديم أعز من أسد ... ورب مثر أذل من نقد

فإيه أبا الشداد إن وراءنا ... أحاديث تروى بعدنا في المعاشر أترضى وما للعرب غيرك ملجأ ... توسدهم رملي زرود وحاجر فأين الجياد الجرد تخطو إلى العدى ... على عَلَق تروي به الأرض مائر وفتيان صدق يصدرون عن الوغى ... وأيدي المنايا داميات الأظافر وحاجتهم إحدى اثنتين من العلى ... صدور العوالي أو فروع المنابر فإذا يئس من أن يجد في الناس هذا الرجل، تقدم ليحقق أمله بنفسه، فكانت حاله كحال المتنبي، يسعى إلى رتبة أو ولاية يتخذها سلماً إلى مثله الأعلى، فيطلبها ولا يراها بِدْعاً ولا عجباً، ولا يراه خلق إلا لها ... واسمعه يقول لمؤيد الملك: إليك أوى يا ابن الأكارم ماجد ... له عند أحداث الزمان طوائل تجر قوافيه إليك ذيولها ... كما ابتسمت غبَّ الرهام الخمائل وعندك ترعى حرمة المجد فارتمى ... إليك به دامي الأظلين بازل قليل إلى الري الذليل التفاته ... وإن كثرت للواردين المناهل وها أنا أرجو من زمانك رتبة ... يقل المسامي عندها والمساجل وليس ببدع أن أنال بك العلى ... فمثلك مأمول ومثلي آمل كان هذا أمله في حلِّه وترحاله، وغايته من اغترابه عن بلده، ونأيه عن أهله، وما كان يطلب مالاً ولا ثروة، وما كانت به حاجة للمال، ولا ضاقت أرضه برزقه، ورزق عياله، واسمعه يقول لسيد الوزراء أحمد بن الحسين: ولم نغترب مستشرفين لثروة ... فمرعى مطايانا بيبرين مبقل ولكننا نحمي ذمار معاشر ... لهم آخر في المكرمات وأول ومن سلبته نشوة الدهر عزه ... فنحن لريب الدهر لا نتذلل ولو هو أراد الغنى لناله، لا سؤالاً واستجداء، ولكن على ظبى السيوف وأطراف الرماح، ولكنه يريد غاية بعيدة، دونها جرع الردى وحياض الموت، يسعى إليه بفتيان «من أمية» هم موقدو الحروب ومطفئوها:

ومن خاف أن يستصعر الفقر خده ... وفى بالغنى لي أعوجي (¬1) ومنصل ومكتحلات بالظلام أثيرها ... وهن كأشباح الأهلة نحَّل ولا صحب لي إلا الأسنة والظبى ... بحيث عيون الشهب بالنقع تكحل وحولي من روقي أمية غلمة ... بهم تطفأ الحرب العوان وتشعل سريت بهم والناجيات كأنها ... رماح بأيديهم من الخط ذبَّل فحلوا حُبَى الليل البهيم بأوجه ... سنا الفجر في أرجائها يتهلل وخاضوا غمار النائبات وما لهم ... سوى الله والرمح الرديني معقل يرومون أمراً دونه جرع الردى ... تعلُّ بها نفس الكميّ وتنهل فبتنا وقد نام الأنام عن العلى ... نساري النجوم الزهر والليل أليل تمر الأيام وهو لا يصل إلى شيء مما يؤمل، ويضيق بحالة الذل والمهانة، فيلوم نفسه على قعوده، ويعزم العزمة الفاصلة التي تكون فيها المنى والمنايا: تقول ابنة السعدي وهي تلومني ... أما لك عن دار الهوان رحيل فإن عناء المستنيم إلى الأذى ... بحيث يذل الأكرمون طويل وعندك محبوك السراة مطهم ... وفي الكف مطرور الشباة صقيل فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محبٍّ للحياة ذليل وثبة أموية، ينال بها عزَّ أجداده الأمويين ومجدهم. فليس العز إلا أن يغامر المرء، ويحمل نفسه على الخطة التي تبقي ذكره في الناس أبد الدهر، فإما أن يموت فيقال لله دره، وإما أن يكتب له الظفر: ألم تعلما أني على الخطب إن عرا ... صبور إذا ما عاجز عيل صبره فلا عزَّ حتى يحمل المرء نفسه ... على خطة يبقى بها الدهر ذكره ويغشى غماراً دونها جرع الردى ... فإن هو أودى قيل: لله درّه ولا بدَّ لي من وثبة أموية ... بحيث العجاج الليل والسيف فجره ¬

_ (¬1) أي جواد كريم من نسل الأعوج المشهور.

ولا يثنيه عن وثبته الأموية بعد المدى، ووعورة الطريق، وما يعتور السبيل إليها من أخطار وخطوب أهونها الموت، لأنه ألف حمل الخطوب، وتعود الصبر، وأعد للنائبات عزائم تروض إباء الدهر إذا شمس الدهر، ولم يحفل بالدنيا وهي غضة غريضة ولم يبال بها، أفيقبل عليها وهي جافة ذابلة، وهل تثنيه عن مرامه لذاذاتها؟ اسمعه حين يقول: سل الدهر عني أي خطب أمارس ... وعن ضحكي في وجهه وهو عابس سأحمل أعباء الخطوب فطالما ... تماشت على الأين الجمال القناعس وأنتظر العقبى وإن بعد المدى ... وأرقب ضوء الفجر والليل دامس وإني لأقري النائبات عزائما ... تروض إباء الدهر والدهر شامس وأحقر دنيا تسترق لها الطلى ... مطامع لحظي دونها متشاوس تجافيت عنها وهي خود غريرة ... فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس ولي مقلة وحشية لا تروقها ... نفائس تحويها نفوس خسائس ولا يثنيه عنها رقة حاله، ورثاثة أطماره، فهو كالسيف القاطع البتار، لا يضره الغمد، وهمته كامنة في ضمير الدهر، ولا بد للضمير المستتر أن يظهر: رأت أميمة أطماري وناظرها ... يعوم في الدمع منهلاً بوادره وما درت أن في أثنائها رجلاً ... ترخي على الأسد الضاري غدائره أغر في ملتقى أوداجه صيد ... حمر مناصله بيض عشائره إن رث بردي فليس السيف محتفلاً ... بالغمد وهو وميض الغرب باتره وهمتي في ضمير الدهر كامنة ... وسوف يظهر ما تخفي ضمائره وكأنك تسأل بعد هذا كلِّه، ألم يلق الشاعر شدة وعناء وهو يصرح بذكر الوثبة الأموية، ويدعو إليها علناً في ظلِّ الحكم العباسي، ألم يتنكَّر له أولو الأمر، ويزوروا عنه ويناوئوه العداوة، ويبطشوا به؟ وها هو ذا الشاعر يخبرك بأنه لقي أذى كثيراً، وشراً مستطيراً، فريع من غير أن يذنب، وجفي من غير أن يخون؛ ولكنه اعتصم بالصبر، ولاذ بالحزم، ولم يلن ولم يشك ولم ينهزم:

وقد طرقتني النائبات بحادث ... لو أن الصفا يرمى به لتصدعا أراع ولم أذنب وأجفى ولم أخن ... وقد صدَّق الواشي فأخنى وأقذعا ولست وإن عض الزمان بغاربي ... أطيل على الضراء مبكى ومجزعا إذا ما أغام الخطب لم أحتفل به ... وضاجعت فيه الصبر حتى تقشعا ولماذا يذل ويخضع، وهو إن ضاقت عنه بلدة فستتسع له أخرى، وحسب البلدة عاراً أن يرحل الشاعر عنها، وإن أدلت عليه بابل بسحرها الحرام، فهو يدل عليها بسحره الحلال، ويجعل من شعره حيثما حلَّ بابل: أبابل لا واديك بالرفد منعم ... لدينا ولا ناديك بالوفد آهل لئن ضقت عنا فالبلاد فسيحة ... وحسبك عاراً أنني عنك راحل وإن كنت بالسحر الحرام مدلة ... فعندي من السحر الحلال دلائل قواف تعير الأعين النجل سحرها ... فكل مكان خيمت فيه بابل وأي فتى ماضي العزيمة راعه ... ملوكك لا روَّى رباعك وابل ... وبعدُ ... فاسمع الشاعر نفسه يصف لك شخصيته، ويخبرك أنه يمدح ويأخذ، ولكنه أعزّ من أن يملكه الملوك بثوابهم ونوالهم، وأنه لا يستسيغ الذلَّ ولا يحب أن يتمرغ فيه ظهراً لبطن، ولا يألف حياة الدعة والأمن في ظِلِّ الروض بين الكاس والطاس، ولا يفرق من المنايا ويخشى المهالك، ولكنه يريد أن يثيرها حرباً عواناً في سبيل غاياته ومطامحه: سواي يجرُّ هفوته التظني ... ويرخي عقد حبوته التمني ويلبس جيده أطواق نعمى ... تشف وراءها أغلال منِّ إذا ما سامه اللؤماء ضيماً ... تمرَّغ في الأذى ظهراً لبطن وظلَّ نديم عاطيه وروض ... وبات صريع باطية ودنِّ وأشعر قلبه فرق المنايا ... وأودع سمعه نغم المغني وصلصلة اللجام لدي أحرى ... بعز في مباءته مبنِّ

فلست لحاضن إن لم أقدها ... عوابس تحت أغلمة كجنِّ وهأنا أوسع الثقلين صدراً ... ولكنَّ الزمان يضيق عني ... هذه شخصية الأبيورْدي وهذا شعره، أفيستحق أن يهمل وينسى؟ ... ***

كلمة لا بد منها

كلمة لا بد منها نشرت سنة 1945 ولقد كنت أود أن أجد من نشرها بداً -غير أن ما تنشره صحف مصر ومجلاتها في موضوع الأدب الشامي والتعريف بأهله لمن نعرف ومن ننكر من الكتَّاب أوجب نشرها- وأنا أعرف قولهم (العبرة بما قيل لا بمن قال) ولكن ذلك في الحقائق التي يستقل العقل بتمحيصها ووزنها، والحكم عليها بالصحة أو بالفساد، أما الأخبار الممكنة التي تحتمل الصدق والكذب، كقولنا: إن لفلان أسلوباً بارعاً، وفلان بليغ، وله كذا من الكتب، لمن لم يسمع بفلان هذا ولم يقرأ له، فلا يمكن الحكم عليها بالتصديق أو بالتكذيب، وبالقبول أو بالرد، إلا بعد معرفة حال راويها ومخبرها، ومبلغه من الاطمئنان إلى خبره وحكمه، فإن كان عدلاً ضابطاً، والضبط في الأدب هو التمرُّس به والذوق فيه وفهمه، والعدالة ألَّا يميل به حب ولا بغض، وأن يحكم على الرجل بأثره، فلا تمنعه عداوته مجوداً من الثناء عليه، ولا صداقته مسيئاً من نقده. فإن كان كذلك قبل خبره وإلا ردَّ، وأنا أقول آسفاً إن مجلات مصر لمَّا فتحت صدرها لمن يعرف قراءها بالمجهول من أدب الشاميين، جاءتها مقالات من أشخاص هَمّ أكثرهم وكبير مطلبه أن يرى اسمه منشوراً في هذه المجلات، ومنهم من لم يكد يضع من قبل سواداً في بياض، فنشرت لهم كل الذي جاءها منهم وحكَّمتهم في رقاب الأدباء، وجعلتهم من أهل الترجيح في الأدب، فكتبوا أشياء لا يفهم منها الجاهل بأدبنا شيئاً، ويضحك منها العارف به أو يشفق على صاحبها، ومنها ما يخرج في جملته وتفصيله عن أن يكون دعاية لمن كتبه ولأصحاب الكاتب وأصدقائه، وحشراً لهم بين مشايخ الأدب والمقدمين فيه، ثم كانت الطامَّة التي لا أقول إنها الكبرى لأني لا أدري ماذا يجيء من بعدها، فنشرت مجلة محترمة

مقالة في ذنبها اسم لم نسمع به، خلط فيها صاحبها وخبط، وانتهى به الخلط والخبط إلى أن نَحَلَ رياسة الأدب في الشام رجلاً ليس منه في العير ولا النفير، وليس منه في فرس ولا بعير. وأشهد لقد ضحكنا منها في مجالسنا كأشد ضحك ضحكناه قط. ولكن القراء لم يضحكوا لأنهم لا يعرفون من الأمر إلا أنه (كفّ عدس ...) ولأنهم يثقون بأن هذه المجلات لا تقدم لهم إلا حقاً، ولا تنشر إلا لأديب أريب. ... وأنا لا أنكر منافع (التشجيع) ولقد كتبت فيه وأثنيت على أهله (¬1)، ولكن هذا التشجيع إذا بلغ هذا المبلغ صار أذى لمن يشجَّع، وضرراً على الأدب وأهله، لأن من يشجَّع على الادِّعاء والغرور والعدوان يؤذي ولا يبقى فيه مصطلح، ويصدق أنه صار زبيباً وإن كان في ذاته حصرماً حامضاً يلذع اللسان ويجرح الحلق، ويكون عند نفسه أستاذاً جليلاً، وعلماً مشهوراً وهو عند الناس تلميذ صغير ... ولأن الأدب إذا كثر الأدعياء فيه والواغلون عليه، وتصدَّر الجهلة مجالسه وامتهن العلماء الأبْيِنَاء (¬2) هان الأدب وسقط. وهل في الهوان أهون من أن يكتب (زيد) من الأدباء مئة مقالة، يبذل فيها الغالي من عمره ومن قوته، ومن دم قلبه وضياء عينيه، بعد أن استعدَّ لها بالدرس والتحصيل وسهر الليالي في مدارسة كتب العلم ومطالعة أسفار الأدب، وصرم في ذلك الدهر الأطول فيأتي (عمرو) فيختصر الطريق، ويقفز من فوق الجدران فلا يقرأ شيئاً ولا يكتبه، ولكن يكتب مقالة يقول فيها عن نفسه: إن له مئة مقالة أو يسخِّر صديقاً له ليقول عنه إنه أحسن من (زيد) ذاك، وأرسخ منه في الأدب قدماً، وأضخم منكباً وأعلى هامة، ويصدق ذلك القراء ويستوي عندهم الرجلان. أو هو يَسُبُّ العالمين بدلاً من أن يعمل، وينقص أقدار الرجال ليزيد بما ينقص منهم، ويعلو بما يظن أنه يخفض من منازلهم ... ¬

_ (¬1) انظر صفحة (128) من هذا الكتاب. (¬2) أنشئ اليوم مجلس أعلى للفنون جمع فيه جماعة من الكتاب ولكن المؤلف لم يُذكر ولم يُدْع إليه.

خبِّروني إن كنتم تعلمون، كيف يكون التدجيل إن لم يكن هذا تدجيلاً؟! ... أما إنني لا أدعو إلى احتكار الأدب وما في سوق الأدب احتكار، ولكن أدعو المجلات المصرية المحترمة أن تتريَّث في نشر ما يحمله إليها البريد من مقالات النقد والتقريظ والكلام في الأدب وأهله حتى تعرف الكاتب، ومبلغ الثقة بخبره وحكمه، ومكانته في بلده، وألَّا تدع أسماء الكبار من أدباء الأقطار العربية مضغة في فم كل محبٍّ للشهرة، يشتهي أن يكون كاتباً ولم يعدَّ للأمر عدَّته. وأنا لا ألوم الشباب أن يستمرئوا التدجيل ويستسهلوا طريقه، ويستصعبوا الجد والدأب ودخول البيوت من أبوابها. فهذا هو شأن الشباب، وكلنا كان كذلك أو كان قريباً منه، ولكنا لم نجد مجلات تعيننا عليه ووجدوها، وهأنذا قد دانيت الأربعين، وأظن أني كتبت من الصحائف المنشورة ما يزن أرطالاً، وإني والله ما أبعث اليوم بمقالة إلى مجلة إلا مستحيياً منها ألَّا تكون صالحة للنشر، وخائف أن تصير لقىً، أفلا يحق لنا أن نعجب من صفاقة أقوام من هؤلاء الكاتبين وأن نعتب على هذه المجلات المحترمة، إذ تضع الشيء في غير موضعه فتجود في غير مجاد، وما لكل ناشئ اليوم لا يرضى بأقل من الرسالة والثقافة ينشر فيها غَذْرمته ... فقد كنا نتمنَّى جريدة يومية تنشر لنا فما كنا نصل إليها ونحن يومئذ أقلّ من أكثرهم اليوم جهلاً! ولقد كنا سألنا مجلات مصر أن تنشر لأدبائنا وتعرِّف بأدبنا وعتبنا عليها أنها لا تفعل؛ ولكنا لم نرد إلا الأدباء حقاً لا أن تنشر لكل من يسود صحيفة ويضعها في ظرف ويبعث بها إلى المجلة ... ثم تحمل ذلك علينا وتنسبه إلينا وتمثل به على أدبنا، وتقبل حكم صاحبه علينا يرفع منا من يشاء ويخفض من يريد. والسبيل لا سبيل سواها هي تكليف أحد أدبائنا المعروفين ممن لا يطعن على شخصه وإن خولف في رأيه البحث في أدب الشاميين بحثاً علمياً منظماً خالياً

من أثر الحب والبغض، مؤيداً بالدليل مستنداً إلى التحليل فينظم أدوار هذا الأدب وطبقات أهله من جهة السن، ومن جهة الأسلوب والبلاغة، إذ ربَّ شاب هو أبلغ بلاغة، وأصفى ديباجة، وأعلى أدباً، من شيخ يحمل أمجاد نصف قرن، أي أنه يؤرخ أدبنا على نحو ما تؤرِّخ الأدب القديم الذي تقطَّعت بيننا وبين أهله أسباب الميل والنفار والحب والكراهية. أما هذا الطريق الذي سارت عليه مجلات مصر إلى الآن فحسبنا ما لقينا من وعره ووحشته والتوائه. ***

سؤال

سؤال كان في بلدنا أوقاف كثيرة وقفت على المشتغلين بالعلم والمنقطعين إليه. يفتحون لهم بريعها المدارس الواسعة، ويعدُّون لهم الغرف المفروشة، ويهيئون لهم فيها المكتبات القيِّمة، ويقيمون لهم الخدم ويقدمون إليهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وحلية ومتاع، ويفرِّغون قلوبهم من كل همٍّ إلا همَّ الدرس والبحث، فكان الناس يرغبون في العلم، ويقبلون عليه ويبرزون فيه ... ثم ذهب ذلك كله بذهاب أهله، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأوقاف، وأكلوا أموالها، فتهدَّمت هذه المدارس، وأمست خرائب وأطلالاً. ثم سرقها الناس فحوَّلوها بيوتاً، وطمسوا آثارها ... فأعرض الناس عن العلم وزهدوا فيه، فقلنا: لا بأس، إنها قد تتحوَّل -تلك المدارس- إلى دور عجزة، وقد تصير أحياناً ملجأ كسالى، ومأوى عاطلين، وعندنا المدارس الجديدة، تسير على منهج مقرر، ونظام معروف، وطريق واضح، فما نحن إلا كمن أضاع درهماً ووجد ديناراً. وأقبلنا على هذه المدارس، إقبال العطاشى على المنهل الصافي، ومنينا أنفسنا بكلِّ جليل وجميل ولكنا علمنا بعد أن خرجنا منها وواجهنا الحياة، أنها لم تقم بما كان يرجى منها ويجب عليها ... ووجدنا أننا لا نصلح في هذه الحياة إلا لشيء واحد، هو (الوظيفة)؛ أما العمل الحرّ، والمغامرة في الحياة فنحن أبعد ما يكون امرؤ عنه؛ ووجدنا سبيل الوظيفة مسدوداً وكراسيَّها مملوءة؛ وكيف لا تكون كذلك وكل الناس يسعى إليها ويريدها؟ هل يكون أبناء الشعب كلهم موظفين؟ فكنا واحداً من رجلين: أما الغييُّ الموسر فعاش بمال أبيه. وأقام منه سوراً حوله،

فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبَّط في لجَّة اليم (يمِّ الحياة) تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء. وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبون، وقد يكون فيهم ذوو المَلَكَات، وفيهم من إذا استراح من همِّ العيش واشتغل بالعلم برَّز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلَّف للأجيال الآتية تراثاً علمياً فخماً كالذي خلَّفه لنا الأجداد ... فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمَّة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ مِعَدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلَّغون به؟ لقد قال الشافعي، رحمه الله، منذ الزمن الأطول: لو كلِّفت شراء بصلة ما تعلَّمت مسألة ... فكيف يتعلم ويدرس ويؤلِّف من يكلَّف شراء الرغيف وشراء ثمن الرغيف؟ إني أعرف كثيرين ممن يؤمَّل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوقوا في العلم، قدَّر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلَّق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتِّشون عن عمل ... يطلبون وظيفة؛ غير أن الطريق إلى الوظيفة وعْرٌ ملتو طويل، لايقدر على سلوكه، ولايبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها! أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتَّاباً مجدِّين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتَجفُّ قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ. وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم

في صمت وإعراض، لا يهتمُّون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا ... هذه هي علَّة الشرق: لا ألفينَّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون، فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قِلَى، ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعزُّ علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك، يا مصيبتنا بفقدك! ... ... هذه هي المسألة ... أفليس هناك طريقة لإنقاذ الدماغ من المعدة؟ لإنصاف العلم من المال، لحماية النبوغ من الضياع؟. من يشتغل بالعلم والدرس والكتابة والتأليف إذا كان الفقراء لا يطيقونه، والأغنياء لايحسُّونه؟ أكان لزاماً على من يشتغل بذلك أن يموت من الجوع؟ ألا يستحق هذا المسكين بطريقة من الطرق، بقانون من القوانين، عشرين ديناراً، يأخذها موظف جاهل خامل بليد، لا يحسن شيئاً إلا النفاق والالتماسات والوساطات، ولا ينفع الأمة معشار ما ينفعها هذا الذي يذيب دماغه، ويحرق نفسه، ويعمي بصره، وينفق حياته في النظر في الكتب، والخطِّ بالقلم؟ أما في ميزانية الدولة، أما في صندوق الجمعية، أما في مال الجريدة، ما تشترى به آثار هذا الكاتب (¬1)، وأشعار هذا الشاعر، وبحوث هذا العالم، بالثمن الذي يعدل ما بذل فيها، ليعيش فيصنع غيرها. ¬

_ (¬1) تحقق هذا الأمل، وصارت الدولة تشجِّع الأدباء، وتشتري الكتب، ولكن حظُّنا من ذلك كله أن نسمع به ولا نراه.

هذه هي المسألة! هل يجب أن يموت النابغ لأنه نابغ، ويعيش الأغبياء والجاهلون؟ أم يجب عليه أن يميت نبوغه ليعيش، ويبيع عقله وذكاءه برغيف من الخبز؟. ***

§1/1