فكرة الإفريقية الآسيوية

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة *************** فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ ترجمة عبد الصبور شاهين إعداد ندوة مالك بن نبي دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

فكرة الافريقية الآسيوية: في ضوء مؤتمر باندونغ تأليف مالك بن نبي ترجمة عبد الصبور شاهين.

مشكلات الحضارة تأليف مالك بن نبي ترجمة عبد الصبور شاهين *************** فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

الطبعة الثالثة 1422 هـ = 2001 م ط2: 1981م

المحتوى

المحتوى ¬

¬

من أجل الشعوب المكافحة في سبيل الحرية والسلام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .... } قرآن كريم طوبى لصانعي السَّلام ..... لأنهم أبناءَ الله يُدْعَون إنجيل متى

الإهداء

الإهداء إلى قيادة الثورة الثقافية التي بدأت فصولها تجري في العالم الإسلامي منذ تركزت فيه بعض المجهودات الموفقة لتضع الشعوب والأفكار في مكانها القيادي

* نظراً لكثرة ورود عبارة الافريقية الآسيوية في صفحات الكتاب آثرنا أن نرمز إلى مضمون هذه العبارة بتركيب (الأفرسيوية) تجنباً للإطالة والملل وذلك بقطع النظر عن قاعدة النحت اللغوي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي). والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله، يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

مقدمة الطبعة الثانية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدِمَة الطبعَة الثانية لو كنت أنا مقدم الطبعة العربية الأولى لهذا الكتاب في أواخر 1957م، لكنت لا شك مهتماً بإظهار كل التوقعات المتشائمة التي كانت تعبر عنها الصحافة والتصريحات الرسمية في بعض العواصم الغربية تجاه الفكرة الأفرسيوية التي كانت تمثل كماً وكيفاً تكتلاً هائلاً من الطاقات البشرية والمادية. وكيف لا يهتم بظاهرة مثل هذه من يعيش من واشنطن إلى موسكو على محور القوة، ويخضع كل مقاييسه السياسية والثقافية أولاً إلى مبدأ ترجيح كفته، ما يمكن، بفائض من الطاقة على الآخرين. ولكنني أكتب هذه المقدمة اليوم، أي بعدما يقرب من خمس عشرة سنة من ظهور الطبعة العربية الأولى؟ فماذا سأقول؟ إنني لا أريد أن أتورط في دراسة تحليلية لكل العوامل التي تدخلت، منذ مؤتمر باندونغ سنة 1955م، لإفشال الفكرة الأفرسيوية. بينما نرى، في نظرة شاملة، أن هذه العوامل تتوزع على الخريطة العالمية بطريقة متساوية. إذ عملت في الحقيقة كل يد، على إفشال الفكرة الخطيرة. ولو كنت، رغم تحفظي، متورطاً في مثل هذه الدراسة، لما زدت سوى أن أذكر قصة هذا الكتاب ذاته بكل تفاصيلها، ولكنها قصة نتركها لشاهد القرن إن شاء أن يتورط فيها.

وحسبي هنا أن أذكر فحسب، وبإيجاز وتلميح فقط، الجانب الذي قد يفيد من الناحية النظرية، كمزيد من التجربة والخبرة، بعض شبابنا الملتزم. إن مؤتمر باندونج كان قطعاً في نظر المختصين بالسياسة العالمية، أخطر ظاهرة برزت (في العالم الثالث) بعد الحرب العالمية الثانية. الظاهرة التي كانت تحمل في طياتها الصواعق والبراكين التي كان يخشى المستر جون فوستر دلاس، حتى قبره، عواقبها بالنسبة إلى كل المخططات التي رحمت من أجل تسيير العالم، كما سار خصوصاً في البلاد العربية. ولكن، ما كان للطاقات البشرية والمادية التي تجمعت في باندونج، أن تطلق تلقائياً الصواعق وتفجر البراكين، في صورة ثورة للعالم الثالث على النظم الاقتصادية والسياسية والثفافية التي وضعت في القرن التاسع عشر لتسييره، طبقاً لمصالح عليا معينة. يقول المفكر الفرنسي، دي بونالد، المعاصر للثورة الفرنسية، والمقاوم لها: ((إن ما صنع الثورات هو دوماً الكتاب من الإنجيل إلى الميثاق الاجتماعي)). إذا صحت هذه النظرة في الأشياء البشرية، وإنني أعتقدها صحيحة، نقول: إن مؤتمر باندونج سنة 1955م، وبعده مؤتمر القاهرة سنة 1957م، قد جمعا فعلاً كل شروط ثورة العالم الثالث، إلا شرطاً واحداً، وهو شرط إطلاق الشرارة الفكرية الضرورية لإضرامها. بل نقول، ونحن بصدد تقديم الطبعة الثانية لهذا الكتاب: إن كل الاحتياطات قد اتخذت، داخل العالم الثالث وخارجه، حتى لا تنطلق هذه الشرارة. ويكفينا دليلاً على صحة هذا التقرير أن نقول للقارئ الكريم: إن مؤتمر القاهرة، كان من بين تقاريره إنشاء ((جائزة أفرسيوية)) على غرار جائزة نوبل أو جائزة لينين.

ولكن الواقع يضطرنا أن نقول: إن جائزة نوبل وُزعت، منذ مؤتمر القاهرة، سبع عشرة مرة، دون أن توزع الجائزة الآفرسيوية مرة واحدة. ولعل شر ما قدم خدمة للفكرة الأفرسيوية، هو هذا الكتاب ذاته، لأنه صدر من ... عربي!! وليس بأيدينا، ولا في رغبتنا اليوم، أن نقدم خدمة لفكرة ماتت، بل قتلت في المهد، وقتلتُها جاهلون. وإنما الغرض الوحيد من هذه الطبعة هو أن نعطي للشاب المسلم العربي صورة صحيحة، بقدر الإمكان، عن الخطوط العريضة للتطور في العالم تحت تأثير العامل التكنولوجي، نحو العالمية. وأن نقدم له، على وجه الخصوص، الملاحظات التي ضمناها فصل الاقتصاد الأفرسيوي، وفصل ((العالم الإسلامي والفكرة الأفرسيوية)). بيروت 14 يونيو 1971 م. ب. ن.

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة ظللت أحمل القلم في يدي ساعات طوالاً وأنا أحاول أن أبدأ كتابة مقدمة هذا المؤلف العجيب، وكلما تقدم بي الوقت كنت أحس مزيداً من التردد، وهممت أكثر من مرة أن أعتذر لمؤلفه الفيلسوف العربي الجزائري عن كتابة المقدمة شاكراً له حسن ثقته، لولا أنني خشيت ألا يصدق الأخ الفيلسوف أن سبب اعتذاري عن الكتابة هو أنني أحسست بالعجز، مما جعلني أحس بالرهبة، وأشعر بالتردد كلما أوغلت في قراءة المؤلف سطراً بعد سطر، وصفحة بعد صفحة .. والمؤلَّف بحث علمي، ولكنك ستشعر بالدفء، وتستمتع بالطلاوة، وكأنك تقرأ قصة متسلسلة محبوكة، تنساب حوادثها في رفق ولين ثم لا تلبث أن تجري في عنف وهدير، وهي بين هذا وذاك قصة حقيقية يفوق واقعها كل ما يمكن أن يبدعه خيال الفنان .. إنها قصة كتلة الشعوب المتحضرة التي تسكن أوربا وأمريكا، وكتلة الشعوب المستعمَرة التي تسكن آسيا وإفريقية .. وفيلسوفنا صاحب هذا المؤلف من الكتلة الثانية، كتلة الشعوب المستعمَرة التي تسكن آسيا وإفريقية، وعلى التحديد من الجزائر العربية التي تدور على أرضها اليوم أعنف وأقدس معركة من أجل تقرير مصير الجنس البشري كله، ومن أجل الحفاظ على القيم الإنسانية العليا، التي داستها دول الكتلة الأولى

المتحضرة، ومع ذلك فإن فيلسوفنا وهو يخاطب في قصته برابرة الكتلة المتحضرة إنما يتحدث حديث العالم الذي ينفذ إلى أعماق الحقيقة بالسند والبرهان، ويثبت لهم بمنطق العلم الذي اعتقدوا أنه وقف عليهما مدى الحضيض الذي تردوا فيه، على الرغم من أنهم يملكون المصانع والآلات وقنابل الذرة والصواريخ الأيدروجينية. إن كل إنسان في إفريقية وآسيا، وكل كائن حي في إفريقية وآسيا سيسعد حينما يرى وجهه في هذه المرآة التي صنعها هذا الفيلسوف الذي ينتمي إلى محور طنجة - جاكرتا واستمع إليه معي وهو يصف دخول الكتلة الآسيوية الإفريقية على مسرح السياسة الدولية، إنه يقول: ((إن دخول الشعوب الأفرسيوية على المصرح قد أعاد الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة معينة، ولكن في الوقت نفسه أتت هذه الشعوب معها بمبدأ تركيب للعالم، وبإمكانيات تعايش جديد يحمل بوضوح طابع عبقريتها، أعني الشروط الأخلاقية لحضارة لا تكون تعبيراً عن القوة أو الصناعة ... )). وكل إنسان في كتلة الشعوب المتحضرة في أوروبا وأمريكا لا بد أن يفيق على صرخة فيلسوفنا وهو يشخص لهم أصل الداء الذي يفتك بهم، حين يقول لهم في هدوء الواثق، وروعة الموقن: ((في هذه الحالة الخاصة بالعقل الغربي يجب أن نبحث عن مبعث هذه الجهود المنحرفة، التي لا يكفون عن أن يقفوا بها في وجه الاتجاه الطبيعي للعالم، وفي سبيل التطور السلمي الأفرسيوي. وإن إرادة الكبار بما تتمتع به من حق الاعتراض (الفيتو) في المناقشات الدولية لتعتبر في الواقع التيار المضاد لاطراد التاريخ، تياراً مضاداً بكل العناصر السلبية التي تملكها حضارة لم تستطع أن تتغلب على مصاعبها الأخلاقية، وهذا الجمود الأخلاقي كله هو الذي يضغط بثقله على المصير الإنساني، معطلاً التاريخ، تاركاً الأحداث تجري في مكانها .. )).

ولا يلبث فيلسوفنا أن يحذرقائلاً: ((وهكذا يبدو التاريخ في ربع قرن وكأنه يعيد نفسه، دالاً بذلك على أن شيئاً لم يتغير في الواقع في نفسية الحضارة الغربية .. ولكن على الرغم من المظاهر فإن التاريخ لا ينضغط ولا يعود إلى الوراء، وليست هناك قوة في الأرض تستطيع أن تحد مجراه أو تعيد اطراده، والواقع أن الذي تكرر في سنة 1919م وسنة 1945م لم يكن التاريخ، وإنما هو محاولة العالم الغربي أن يعيد صنعه لتحقيق مصالحه .. )). وهكذا يسجل فيلسسوفنا في كل صفحة من صفحات هذا المؤلف تاريخ أكبر ملحمة عرفتها البشرية، سجلها حارة امتزجت فيها دماء شهداء الجزائر بدماء شهداء عمان، وبدماء شهداء حرب الاستقلال في الهند، وفي كينيا وفي إندونيسيا، وفي الكمرون، وفي الصين .. بالدماء التي تسيل اليوم في قلب قارتنا إفريقية وشرقيها وغربيها .. وبدماء سالت أيضاً على أرض فلسطين، وعلى ربى سورية، وتحت أنقاض بور سعيد .. وهي بعد قصة انتصار الحق على الباطل، وقصة انتصار قوانين الخلق تتمسك بها شعوب إفريقية وآسيا العزلاء على شريعة الغاب التي فشلت أوروبا وأمريكا في أن تفرضها بالأساطيل، والقنابل، والذرة، وكل أدوات الفتك والدمار. تهنئة لفيلسوفنا على هذا الجهد الرائع المشرف. وتهنئة لشعوبنا في آسيا وإفريقية المتضامنة من أجل الحق والسلام. أ. س 18/ 12/ 1957م

تنبيه

تَنْبِيهٌ لجأ المؤلف أثناء اشتغاله بتأليف هذا الكتاب إلى تصريحات لبعض المسؤولين، وإلى شخصيات سياسية بدت له آراؤها صالحة، لتدعيم موضوعات فكرة الإفريقية الآسيوية. ومع ذلك فهو لم يعمد إلى ربط هذه الموضوعات بالأشخاص، وإنما بالأفكار وحدها. فإن الآشخاص قد تدفعهما بعض الأسباب - وخاصة ما يتصل بسياسة الدولة- إلى أن يتوقفوا أو يتراجعوا، وبرغم هذا فإن التاريخ لا يكف عن التقدم، ولا يعود مطلقاً إلى المواقف التي سبق أن سجلها. وفكرة الافريقية الآسيوية هي أحد هذه المواقف، التي لن يتخلى عنها التاريخ، فهي تمثل- بالنسبة إلى جزء من الإنسانية- قاعدة للانطلاق نحو تقرير مصيره. م. ب. ن. القاهرة في 6/ 11/ 1956م

تمهيد

تمهيد هناك فلسفة، منذ عهد (كلوزفتز) ( Clausevitz) (¬1) ترى أن الحرب ((استمرار للسياسة بوسائل أخرى))، وذلك يعني في منطق الفعالمية- الذي يعدّ إحدى خصائص العقل الغربي- ضرورة حسم المشكلات الإنسانية بوسائل السياسة أو بوسائل الحرب، أي حسمها على أي حال. ولكن نار هذه الحقيقة قد خمدت، فإن جيلنا يواجه مشكلات استعصى حلها على سياسة نصف قرن، وعلى حربين عالميتين، وكان الإخفاق في كلا الطريقين مدوياً. وكان طابع هذه الفترة، هو أن سياسة غير مثمرة- لأنها مجافية للأخلاق- تقود حتماً إلى حرب مجافية للأخلاق، وبالتالي غير مثمرة، وهذه تؤول مرة أخرى إلى سياسة ترى أن (الخطأ) أقبح من (الجريمة) على ما ذهب إليه مفسرها الأعظم- تاليران ( Talleyrand) (¬2) . والأزمة التي ما زال العالم يتخبط فيها، تتصل بواقع يبدو أنه لا يخرج فلكي يحاول أن نرى من أي مهرب يخرج العالم من هذه الحلقة المفرغة، يجب أن نقول أولاً: من أي الطرق دخل إليها. فمما لا نزاع فيه، أن العالم قد خضع لسيطرة أوروبا الأخلاقية والسياسية منذ قرنين من الزمان، والمشكلات التي لم تستطع السياسة والحروب خلال ¬

_ (¬1) كارل فون كلورفتز Karle von Clausevitz، قائد ألماني (1785 - 1831م)، وهو صاحب كتاب مشهور في فلسفة الحرب، عنوانه ((في الحرب De la Guerre)) . (¬2) تاليران Talleyrand سياسى فرنسى (1754 - 1838م) دخل ميدان السياسة إبان الثورة الفرنسية، ولعب دورًا هاماً في تخطيط السياسة الخارجية التي اتبعها نابليون الأول.

نصف قرن أن تضع لها حلاً مؤثراً، إنما تنتج عن هذه السيطرة الأوروبية العليا على الشؤون الإنسانية. فموطن الأزمة موجود في الضمير الأوروبي نفسه، في علاقته بالمأساة الإنسانية. وهذا يعود إلى القول بأن الأزمة تتصل بتفسير المشكلات أكثر من اتصالها بطبيعة هذه المشكلات. فهي ليست أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار. وينبغي على أي سياسة- لكي تكون فعالة- أن تكيف وسائلها تبعاً لبعض المفاهيم الإنسانية. ولكن أوروبا التي استطاعت خلال قرنين من الزمان أن تتحكم في موارد العالم كله، قد وضعت هذه الموارد تحت تصرف النظام الأوروبي فحسب، محتكرة بذلك- من أجل فائدتها وحدها- الحرية والسلام والعمل، فلقد أحدثت في العالم المتحضر تفرقة بين الأخلاق والسياسة، ثم كانت هذه التفرقة بين الرجل الأبيض والرجل الملون. وهكذا خصص الغرب نظرته بالنسبة إلى المبادئ كما خصصها بالنسبة إلى الرجال، فإذا بنظرته إلى ما هو أوروبي تختلف عما ليس كذلك، فهو يرى بصورة طبيعية مشكلات أوروبا ورجالها، أما حين ينظر إلى مشكلات الشعوب الأخرى، أو حين ينظر إلى هذه الشعوب نفسها فإنه يضع نظارة على عينيه، وإذا بهذه النظرة غير المباشرة لا تتصل بقيم الأخلاق أو بقيم السياسة، وإنما ببعض ما يشبه من قريب جمعية جرامونت ( Société Gramont) التي أنشئت في فرنسا من أجل الرفق بالحيوان. ولقد تمثلت هذه التفرقة في بعض الأحداث المعاصرة في الحياة الدولية، حيث اعتمدت سياسة أمريكا في نهاية الحرب الأخيرة مشروع إرسال مارشال- للشعوب الغربية، كيما تعين هذه الشعوب على النهوض بعد التحرر. واعتمدت لهم أخلاقها المن والسلوى في مشروع ( U.N.R.W.A) لإسعافهم مؤقتاً، فكأنها بهذا قد اعتمدت لهم الحرية والعمل والخبز، أو الوسائل الضرورية لكسبها. وفي

مقابل لك نجدها قد ابتدعت للشعوب المتخلفة مشروعاً آخر أطلقت عليه اسم (النقطة الرابعة)، أي إنها لم تعتمد لهم الخبز ولا العمل ولا الحرية. هذه التفرقة المتجلية في مثال من أمثلة كثيرة، هي السبب الذي يفسر الأزمة الأساسية للقرن العشرين. إنه يفسرها ويغذيها في الوقت نفسه حيث إن نظرة الغرب لا تدرك من هذه الأزمة سوى وجهها الغربي، أي عندما تصل في أوروبا إلى درجة الانفجار، بأن تصبح على شفا حرب عالمية، وحينئذ يتهمون الأسباب الطارئة، فيسوقون إلى المقصلة أفكار النازية أو الفاشية. وعلى الرغم من هذا، فإن نظرة الغرب قد بدأت تلحظ قوى غير أوروبية تقف في ساحة التاريخ، فقد برزت المشكلات الحقيقية، أو قلْ الموضوعات الجوهرية مع العاصفة الأخيرة في الضمير الإنساني، وفي حلبة السياسة الدولية، أبرزتها الحرب العالمية الثانية حين هب ثلاثة أرباع الإنسانية يطالبون للمرة الأولى منذ قرنين بحقهم في الحرية وفي العمل، وفي الخبز. لقد جند الغرب في الحرب العالمية الأخيرة كل قواه المادية، ولكن الشعوب الأخرى كانت قد علقت على تلك الحرب آمالها، تلك التي ما كان لها أن تختلط بأهداف الحرب بين المتخاصمين. فلم يعد السلام على هذا مجرد (سلام أوروبي) ( Pax Europa) كالذي قرره مؤتمر، فرساي، إثر الحرب العالمية الأولى، فقد تغيرت النفسية العالمية، والعبقرية الغربية قد ساهمت بنفسها في هذا التغيير حين وضعت الإنسانية أمام استحالة جديدة لبلوغ أهدافها، فلم يعد من الممكن أن يحكم العالم بمنطق علم حديت يوجه الإنسانية في العصر الذري، وبعقلية العصور الوسطى- التي ترى أن تبقيه في أوضاع خاصة- هي التي خلقت الاستعمار والقابلية للاستعمار. لقد جعلت هذه الاستحالة من الضروري إحداث تغير عميق، إحداث طفرة من الحالة التي نطلق عليها (بادرة الحضارة) إلى الحضارة أو (من yin إلى yan ) حسب تعبير توينبي ( Toynbee) الذي استخدم من جديد هذين الرمزين الصينيين، ليعبر عن الانتقال من الحالة السابقة على

الحضارة إلى حالة الحضارة الكاملة، وربما كان هذا الانتقال المرتبط بالحقائق العلمية والأخلاقية للقرن العشرين هو مشكلة الساعة، ولكن مصاعب هذا التطور ليست واحدة في كل مكان، لأن قشور التقاليد التي تغلف الضمير، ليست دائماً بالثخانة أو الكثافة نفسها. ولعل من الغريب أن نقول: إن الرجل المتحضر تزيد لديه هذه الأغلفة أو القشور. والإنجيل لم يدع شيئاً غريباً حين وجه إلى الفرنسيين الذين طبعتهم على الحرمان ثقافتهم وخرافتهم، هذه الآية الشهورة التي قال فيها: ((طوبى لبسطاء العقول فإن لهم ملكوت السموات)) (¬1). إن الوسط المثقف أقل الأوساط انطباعاً بالتغيرات الكبرى، المفاجئة، ولذلك فإن الانتقال من حالة (الـ yin الى yan) من أشق الأمور عليه، لأن الخط الذي ترسمه عبقرية ما في التاريخ، قد ينقلب إلى حفرة من الرمال تغوص فيها. أما الرجل الفطري، (البسيط العقل) فهو أحياناً أقدر على اجتياز منعطفات التاريخ، وربما كان للرجل الفطري في إفريقية وآسيا رسالته الخاصة في القرن العشرين، وهي أن يعين الإنسانية على اجتياز هذا المنعطف، فيما لو نجح هو في هذا الاجتياز، وربما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقرر فيها الإنسانية مصيرها فيما بين النيل إلى نهر الجانج ( Le Gange) بالهند، فإن آثارها الأولى في التاريخ قد ظهرت هنالك، حيث عبرت المرحلة من العصر الفردوسي إلى العصر الاقتصادي، إبان الثورة الزراعية في العصر الحجري الجديد، تلك الثورة التي أتاحت للإنسانية أن تحل الاستحالة الأولى في طريق السعي إلى مصيرها منذ سبعة آلاف عام. ومؤتمر باندونج هو بكل تأكيد دليل على الانتقال التاريخي الذي سيتم هذه المرة من النظام الصناعي إلى النظام الأخلاقي. فلقد اتفق وقوع هذا الحدث الدولي مع لحظة حاسمة، تفصل بين أزمة رهيبة وبين حلها الضروري. والتفسير ¬

_ (¬1) إنحيل لوقا إصحاح الخطاب على الجبل،

المنطقي لهذا الحدث يصدر أساساً عن وقوعه بين هذين القطبين: بادرة الحضارة والحضارة في القرن العشرين. ولقد كشف مؤتمر باندونج عن أهمية تتجاوز أهدافه العاجلة، وذلك دون أن يلتزم باستخلاص مضمون مذهبي، حيث قد نحى جانباً المشكلات النظرية، لكي يصفي المشكلات الواقعية الملحة. ولقد قال لي أحد الدبلوماسيين الهنود قبيل الذهاب إلى المؤتر: ((ليس لدينا من الخشوع ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونج)). في هذا التقديس والإجلال يكمن التفسير الحق للمؤتمر، أكثر من أن يكون في تلك الواقعية التي لا ترى فيه سوى حادث عارض في الحياة الدولية، حيث أصبح من المستطاب منذ عام (1945م) أن نتكهن بتوزيع الأصوات بين الكتلتين، ونعكف على لعبة عد الأصوات لكي نكتشف هكذا .. سر أبي الهول. إن خلاص الإنسانية والمشكلات التي أثارها المؤتمر من أجل هذا الخلاص، قد خلعا عليه طبيعة وصفة تدفع إلى التقديس أكثر مما تدفع إلى لعبة عد الأصوات .. إلى لعبة .. ويدَع أحد المراقبين الغربيين لمؤرخ سنة (2000م) مهمة القول، بأن: ((مؤتمر باندونج لم يحقق أي نتيجة عاجلة، ولكنه كان مجمَعاً للقوى التي خطّت الطريق لتطور التاريخ، وشكلت العالم الذي نعيش فيه اليوم)). هذه الشهادة التي تهمنا باعتبارها حكماً على المستقبل البعيد لهذا الحادث الدولي، تهمنا أيضاً باعتبارها دليلاً على تأثيره السريع في الضمير الغربي، الذي رأى تحت الغلالة الرقيقة ((الأفرسيوية)) مضمونها الإنساني ومغزاها العالمي. وفضلاً عن ذلك .. فقد كان لهذا المؤتمر تأثيره العاجل، إذ دفع -على الأقل- ذلك الضمير الغربي إلى امتحان جديد.

دفع في الواقع بعض المسؤولين مثل مستر- دلاس- إلى مراجعة ضميره، فلم يكن تبريره الذي صرح به عن إخفاق هيئة الأمم المتحدة، إلا لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان بالأمس قد وجه في خطبته الأولى من منبر باندونج بعض الانتقادات إلى المنظمة الدولية. فلم يكن هذا التبرير إلا دليلاً على هذه المراجعة. وجملة القول، إن المؤتمر (الأفرسيوي) قد افتتح أعماله بالنسبة إلى العالم (الكبار) بـ (لحظة الحقيقة) وبالساعة التي وجب أن يدافع فيها عن نفسه. وكان عالم الكبار قد وجهت إليه دعوة ليبدي رأيه بصراحة في موضوعات المؤتمر الأساسية في إطارها الإنساني، وليس فقط في الإطار الغربي. وهكذا سجل أسبوع باندونج تفوق الجانب الإنساني في السياسة العالمية، إنه سجل في التاريخ حدثاً، واطراداً، فأما الحدث فقد أنطبع في الواقع الراهن في الأحداث المضطرمة لأسبوع حافل بالتاريخ. وأما الاطراد، فإنه يخص النتائج المتوقعة القريبة أو البعيدة. وأهمية المؤتمر تتجلى في هذه الأرقام: فقد جمع تسعاً وعشرين دولة تمثل قارتين بما تقلان من جموع بشرية، وما تضمان من تراث فكري متفاوت، بحيث تقف روحانية الإسلام على طرف، وماركسية الصين الشعبية على الطرف الآخر. وإن هذا الاطراد ليتجاوز في الواقع رقعة إفريقية وآسيا، إذ هو يمتد اجتماعياً من طنجة إلى جاكرتا. وأخلاقياً من واشنطن إلى موسكو. وينحو نحو تكامل مزدوج يرفع الرجل ((الأفرسيوي)) إلى المستوى الاجتماعي للحضارة، ويرفع الرجل المتحضر إلى المستوى الأخلاقي للإنسانية. وبهذا التكامل المزدوج يكون الاطراد قد أسهم في خلق نموذج عالمي يحقق وحدة النوع التي وضعت لها العبقرية الغربية شروطها المادية. لقد كدنا ونحن أمام التوقعات التي نراها خلال هذا الحادث، أن نتحدث عن معجزة المؤتمر، تلك التي ستتيح للإنسانية أن ترد على التحدي الجديد الذي تجده في طريقها، وعلى الاستحالة الجديدة التي وضعها التطور أمامها، وخاصة إذا ما

أخذنا في اعتبارنا أن مؤتمر باندونج قد انعقد بدعوة دول كولومبو الخمسة. التي نعرف عن اختلافاتها ما نعرف. والواقع أن المعجزة قد تحققت بمجهود الرجل الذي جمع في يديه مصائر الهند. لقد حمل ((نهرو)) مع أمانة الحكم، رسالة (عدم العنف) التي حمّله إياها غاندي عند موته. وقد استطاع بفضل إخلاصه لهذه الرسالة- التي لم يضح بأقل جزء منها أمام ضرورات الحكم- أو ما يسمونه (الواقعية السياسية)، أن يسمو بسياسة بلاده الخارجية إلى درجة دستور أخلاقي دولي، دستور لا يسمح ببيِع مبدأ بكمية من القمح، أو شحنة من المعدات الحربية. وكانت باندونج أولاً الثمرة (الأفرسيوية) لهذا الدستور الذي تبهرنا دون شك (مثاليته) السامية، بينما يلزمنا أن نعترف في خاتمة الحساب بأنه يضع السياسة (الواقعية) الخالصة، السياسة التي تدرك غاياتها ووسائلها. ونحن ندين له أولاً بمنطق جديد للسلام، فرض نفسه تماماً في مناقشات المؤتمر (الأفرسيوي) وفي ضوئه الخاص لم تعد مشكلة السلام محصورة في نطاق ما يسمى (مراكز القوة) ( Positions de force)، وإنما في نطاق مبادئ معينة مستوحاة من أحدث التجارب الإنسانية وأمضاها في الميدان السياسي. فالقوة التي حررت الهند ليست قوة السلاح، ولكنها قوة المبدأ الذي كسب مكانة قيمة إنسانية، ومقياساً عالمياً هو: عدم العنف، على حين أن (القوة) التي انطلقت خلال حربين عالميتين لم تحرر إلا الموتى. ويعرف الناس منذ ذلك الحين من خلال التجارب التي عاشوها، أن فرص السلام لا تتكاثر مع الميزانيات الحربية، بل فرص الحرب. وأن الأزمة لا تخف مع تزايد هذه الميزانيات، بل على العكس من ذلك تحتد؛ إذ إن كل اختلال ينشأ

على حساب الوضع الاجتماعي لصالح الوضع الحربي، يقوي عواملها الاقتصادية والسياسية. هذه الحالة التي توجه أخصب موارد البلاد نحو استثمار غير منتج لها- ولا شك- حسابها الذي يشمل ميزانيات الحرب؛ ولها تخطيطها الجغرافي: فهي تتفق على الخريطة مع تخطيط (منطقة الحرب) التي ترسمها المواثيق العسكرية. وعلى هذا يمكننا أولاً أن نقيس أهمية المؤتمر (الأفرسيوي) بالنسبة إلى هذه الحالة، فقد كان أحد أهدافه الأساسية إيجاد (منطقة سلام) على الخريطة، لتكون للإنسانية في حالة أي طوفان ذري سفينة نوح الجديدة؛ وملجأها الأخير. وكان من نتائجه أن أنشأ في مواجهة محور (القوة) الممتد من واشنطن إلى موسكو محوراً ذا أساس أخلاقي هو محور (عدم العنف) الممتد من طنجة إلى جاكرتا. وبدهي أن كسب أسبوع بملابساته المؤسفة أحياناً، لا يعد الميزانية النهائية لمؤتمر لا يمكنه أن يختم ميزانيته مع مناقشاته، فإن أهم نتائجه ما زالت في ضمير الغيب، إنها في ذلك التركيب التكويني التاريخي الذي جمع المؤتمر- بلا جدال- عناصره النفسية والزمنية. وربما تحقق الهدف من هذه الدراسة لو أن القارئ رأى فيها بعض الحقائق عن هذا التركيب الذي قد يغير وجه العالم. ***

الجزء الأول

الجزء الأول الرَّجل الأفرسيَوي في عَالَمِ الكِبَار - أبناء المستعمرات الأفرسيوية وعالم الكبار - (التعايش) أو الوجود المشترك والاستعمار المشترك - مشكلة الرجل الأفرسيوي

أبناء المستعمرات الأفرسيوية وعالم الكبار

أبناء المستعمَرات الأفرسيَوية وَعَالم الكِبَار ((وعينه دائماً تنادي ... مجرم عالم الكبار)) ((شاعر)) لقد تأصلت فكرة (الأفرسيوية) في الأزمة التي تحكم التطور الإنساني منذ نصف قرن. فهي تنم عن أحد مظاهرها، وعن إحدى نتائجها. وهي تمثل أيضاً وسائل حلها. ولقد وُلدت هذه الأزمة من النظم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للقرن العشرين، مقدمة بذلك إلى من تنبؤوا بها- مثل ديستويفسكي ونيتشه- موضوعات عن قيام الحضارة وانهيارها. ولكن ما إن حل عام 1914م حتى تجاوزت الأزمة هذا المظهر الفكري والميتافيزيقي لكي تمس مباشرة شعوب الأرض؛ وأفراد البشر؛ تمس دماءهم وجلودهم. وبلغت الأزمة منتهى شدتها حين وجد العالم- الذي تورط في مأساة لا حل لها- نفسه على حدود تاريخه في عام 1939م، فلم يستطع أن يمضي في طريقه إلى أبعد من هذه الحدود، لأنه كان قد استنفد قدراً كبيراً من زاده بالحرب العالمية الأولى. فلم يستطع أن يتقوت خلال حرب عالمية ثانية في إطار تلك النظم البالية والتنظيمات الجغرافية والسياسية التي قسمته إلى كتلتين متميزتين: كتلة (الشعوب المتحضرة) التي تسكن أوروبا وأمريكا، وكتلة (الشعوب المستعمرة) التي تسكن آسيا وإفريقية. كان العالم إذن قد استنفد كل إمكانياته، فإذا به يجد نفسه عام 1939م في نهاية مرحلة حاسمة. لقد قادته القوى التي مزقته داخلياً إلى مصير واحد على الرغم من تعارضها، قادته إلى التحلل، قاده الاستعمار والعنصرية إلى النهاية المحتومة: إلى الحرب العالمية الثانية.

وهكذا لعب القدر دوره، فإذا بالعالم المستعمر نصفه والمتحضر نصفه الآخر، العالم الذي خطا فيه جيلنا خطواته الأولى، وحققت فيه الطائرة محاولاتها الأولى، العالم الذي كان فيه الاستعمار والقابلية للاستعمار بمثابة الشاشة التي تتابع عليها أحداثه المهمة مثل (حادثة فاشودة) أو (حادثة أغادير)، هذا العالم الذي كان يؤمن بانقسامه الجغرافي السياسي، كأنه هو وضعه الطبيعي، كأنه فصل بين فصيلتين من فصائل الحيوان: إذا بهذا العالم لم يعد له وجود. ولكن كان على حرب عام 1939م- حين محته- أن تلد عالماً جديداً مطابقاً لحاجات الإنسانية التي بلغت رشدها، مطابقاً لمطامحها، ومع ذلك فإنها لم تلده. ففي عام 1945م- السنة التي كان يتوقع فيها هذا الحادث السعيد- أخرج التاريخ سقطاً مشوهاً، حين أجهض على يد (قوابل) من الأشرار، لقد ساقوا البشارة بمولود جديد اصطنعوه من لفائف منتفخة، رغبة في تغيير معالم الجريمة، وفي تضليل الشعوب التي كانت تنتظر ميلاده، كان هذا المولود الجديد هو (عالم الأربعة الكبار). ولم يكن للمزورين حيلة تنجيهم من أن يسيئوا الظن بأنفسهم، ومن أن يقلقوا على مستقبل الوليد الجديد المصنوع .. ! ونحن نجد انعكاسات لهذا القلق البالغ في دراسات حديثة، ظهرت في الغرب عن المشكلات الجغرافية السياسية، كذلك الانعكاس الذي يبدو أن صاحبه أراد أن يعبر عن قلقه ويصفيه في الوقت نفسه، حين لفت نظرنا إلى أن ((تصفية التأثير الغربي لم تتم في الأعوام العشرة الماضية كما قدر ذلك في عام 1945م)) ها هوذا (القابل) الشرير، وقد استعاد ثقته القديمة في العالم القديم أو على الأقل في أنقاض العالم القديم. لقد دفع الضمير المضطرب أبطال الحضارة إلى بعض المحاولات خلال الحرب العالمية الثانية، وكان ميثاق الأطلنطي إحدى هذه المحاولات لوضع أسس عالم جديد، ولكن حين ذهب الخطر اكتفى هؤلاء الأبطال بأن يستقروا بين أطلال

العالم القديم، وكانوا قد وجدوا في بوتسدام ( Potsdam) ظروف طمأنينتهم، وهكذا بدا التاريخ وكأنه سائر في طريقه الهادئ بالنسبة إلى قوم، وراجع القهقرى بالنسبة إلى آخرين. لقد سجلت الحرب العالمية الأولى أيضاً محاولات كهذه، فوقع حظ الإنسانية تحت رحمة (الحق والحضارة) وشاعت (الشعارات) نفسها لتحرك الشعوب من أجل إنقاذ الديمقراطية، وشاعت الكلمات نفسها: (حرية- سلام- عمل). تلك الكلمات التي تعبر عن المثالية الإنسانية في منتهى تواضعها، وفي ذروة سموها جميعاً. وكانت مبادئ الرئيس (ولسن) الأربعة عشر قد أعلنت- قبل أن يعلن ميثاق الأطلنطي- حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. فقد وجدنا أنفسنا إذن في عام 1945م في الأوضاع نفسها التي كنا فيها عام 1919م، أي في حضارة لم تتغير مضامينها وادعاءاتها، فالأمم المتحدة لم يكن يمكنها إذن إلا أن تكون طبعة ثانية من عصبة الأمم، وروزفلت لم يكن يمكنه إلا أن يكون تعقيباً على ولسن، الوجه الجميل نفسه، فإن الأسباب النفسية الواحدة تنتج الآثار السياسية نفسها. والعالم المتحضر الذي لم يعدل أفكاره المجلوبة من (العالم المستعمر) لم يكن ليعدل حياله خطته السياسية، فظلت هذه الخطة- بالتالي- امتداداً لاستعمار القرن التاسع عشر، على تفاوت في جوهريتها وصراحتها، غير أنه في أثناء الحرب، وفي الساعة التي تقررت فيها (أخوة السلاح)، عرف الأوروبي كيف يختار السياسة التي تناسب تلك الساعة، هو الذي يتمتع بالمقدرة الانتهازية الجبلية الفطرية، فعرف (لورانس) مثلاً في الساعة التي هدد فيها (فون أرمين) قناة السويس عام 1915م كيف يثير (الثورة العربية) المشهورة حين دلل ضعف الشيخوخة لدى عجوز هو الشريف حسين، وتملق مطامع حفنة من الزعماء الشبان المخمورين بفكرة (المملكة العربية).

وأوحت الانتهازية نفسها في الجزائر بعض التصرفات المجردة من أي أهمية اجتماعية، ولكنها ذات مظهر ديمقراطي، وذلك مثل إلغاء القانون المشهور بـ (قانون أبناء المستعمرات) ومنح رخصة الصيد في ظل بعض الشروط، ودخول المسلمين المقيد في بعض المجالس المحلية، حيث بقي القرار النهائي من كل وجه في أيدي الأوروبيين، وكان هذا- كما قالوا- دين الاعتراف بالجميل للثمانين ألفاً من الجزائريين الذين ماتوا من أجل فرنسا. ولكن ساعة (أخوة السلاح) تمضي- بطبيعة الحال- كما تمضي سائر الساعات. ففي الشرق الأدنى لم يكن الأمر أمر مملكة عربية، وإنما كان أمر إنشاء (وطن قومي يهودي). وفي الجزائر، لم تكد أعلام الفرق المنتصرة المؤلفة من أبناء المستعمرات تطوى، حتى وجدنا أن التصرفات التي أملتها (أخوة السلاح) قد بدأت تسحب، وربما كان سحب قانون فبراير سنة 1919م الحدث الأول الذي يؤرخ به إقحام الضمير الجزائري في السياسة، وهو تاريخ مهم في تكوين الفكرة والمطالب القومية. وكان هذا الحدث أيضاً هو الذي كشف عن الطريقة الاستعمارية التي شكلت منذ ذلك الحين رصيد السياسة الفرنسية في مراكش، وهي تتمثل في جعل أعمال الاضطهاد والسلب والنهب تحت إشراف الرجعية التقليدية، و (الشخصيات الإسلامية) التي خلفت لنا خلفاء نعرفهم بأسمائهم. وإذن فقد مضت الانتهازية في الشرق كما في إفريقية الشمالية حاملة معها محاولات (أخوة السلاح). بينما نجد السياسة الدولية في مظهرها الجديد تنتقل من المثالية إلى الواقعية. فهي وفي سنة 1919م كانت قد انتقلت من مثالية (ولسن) إلى واقعية (لويد جورج)، وفي سنة 1945م خطت الخطوة نفسها بموت (روزفلت) الذي تخلت فلسفته الإنسانية عن مكانها لمذهب استعماري جديد تجسد كثيراً أو قليلاً في (تشرشل)، وفرّط فيه أو دافع عنه (ترومان).

وهكذا يبدو التاريخ في ربع قرن وكأنه يعيد نفسه، دالاً بذلك على أن شيئاً لم يتغير في الواقع في نفسية الحضارة الغربية. ولكن على الرغم من المظاهر فإن التاريخ لا ينضغط ولا يعود إلى الوراء، وليست هناك قوة في الأرض تستطيع أن تحد مجراه، أو أن تعيده اطّراده. الواقع أن الذي تكرر في سنة 1919م و1945م لم يكن التاريخ، وإنما هو محاولة العالم الغربي أن يعيد صنعه لتحقيق مصالحه. ولكن هناك كسباً خلقياً وفنياً له وزنه الثقيل في توجيه العالم، فإن تاريخه لا يمكن أن يعود إلى الوراء، ولا أن يستمر على حال، ولكنه مطرد دائماً إلى الأمام، لا تستطيع أي مقاومة إنسانية أن تحمله على أن يخطو خطوة إلى الخلف، ولا أن تعيده إلى الماضي. ونحن نفهم الآن الصراع المحزن الذي يمكن أن ينشأ عن مقاومة كهذه، عندما تصادم قوى التأخر القوى الواقعية في التاريخ، هذه التي تدفع العالم حتماً ودائماً إلى الأمام، فإن الاتجاهات الرجعية يمكنها أن تأخذ صورة الإيحاء السلبي لتضليل الضمائر، أو النشاط العنيف لتحطيم الطاقات العذراء، أو أن تقترح حلولاً خاطئة لتمويه المشكلات الحقيقية، فتحافظ بذلك على وضع بال لا يتفق مع اعتبارات الحياة القومية والدولية. ومع ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يحتفظوا بقوى انفجارية هائلة، خلف السد الوهمي الذي يريدون إقامته في وجه التاريخ، وخاصة إذا كان في مقدور هذه القوة أن تحطم كل شيء يقف أمامها، وأن تبدده. فهذه المحاولة المجنونة التي شرعوا فيها عام 1945م لم يكن لها إلا أن تخفق في النطاق العالمي عامة، وفي النطاف الاستعماري خاصة. لقد أرادوا أن يبقوا على حالة (شعوب المستعمرات) أي على شعوب لا تبلغ رشدها، فتظل تحت وصاية الكبار في إدارة شؤونها ومصالحها الخاصة.

ولكن أبناء المستعمرات كانوا قد اعتزموا وكرسوا قواهم لإحراز حريتهم، فبلغت الأزمة بذلك قمتها، إذ إن النظام الاستعماري الذي كان فيما مضى رأس مال للعالم المتحضر قد صار (تحدياً) له، وهو تحد يفسح المجال لمواجهة أليمة بين قسمين متباينين ومتعارضين، في الضمير الإنساني المنقسم على نفسه. وكأننا أمام معركة بين (القدامى والمحدثين) من نوع جديد، وذات طابع غريب شاذ، يمثل فيها (المتحضرون) القوى الرجعية البالية المتشبثة بأذيال الماضي، على حين يمثل (المتأخرون) القوى المتطلعة إلى المستقبل. وكان مسرح المعركة أحياناً .. هيئة الأمم المتحدة، فأمكننا أن نحكم بهذا على كلا المتخاصمين في الدور الذي يقوم له في هذا المسرح الجديد، كلما نوقشت مشكلة الحرية، وخاصة حرية إفريقية الشمالية. وإذن فهذا اختبار جوهري: لأنه عندما تحذف هذه المشكلة- مشكلة الحرية - وعندما ترفض الفكرة أو الجزاء في أي تحكيم دولي، فإن ذلك يوقف النمو التاريخي الذي يهدف إلى أن يحقق في العالم تنظيماً فنياً للعلاقات الإنسانية. وإن حياة مشتركة متواثقة الصلات لتفرض في الواقع جواراً وثيقاً، وبالتالي حقوقاً لهذا الجوار في النطاق العالمي. ولكن تنظيماً كهذا ليسر مستقلاً عن التقدم الخلقي باعتباره النتيجة النفسية للتقدم الصناعي. والتقدم الخلقي لا يجد صورته في هذا النطاق إلا في تحكيم دولي يرضى الناس بكل حرية عن فكرته وجزائه. ولما كانت صلاحية نظام كهذا تكمن في الحرية التي يتيحها لكل فرد، أو يدافع عنها لمصلحته. فإن هذه الصلاحية تنتهي منذ اللحظة التي يكون فيها النظام متصوراً أو معتبراً على أنه وسيلة للنشاط زائدة، موضوعة تحت تصرف الكبار لضمان امتيازاتهم أكثر من أن يكون وسيلة لضمان المصالح الحيوية للإنسانية، وعلى الأخص حرياتها الأساسية التي عرفت في الاعلان الدولي المشهور لـ (حقوق الإنسان).

ونحن مضطرون إلى أن نلاحظ- في ضوء عشر سنوات من النقاش داخل أروقة هيئة الأمم المتحدة- أن التقدم الأخلاقي الذي يحقق صلاحية هذه المنظمة ليس في رصيد الكبار، فإن الدرجة الكلية للحضارة الإنسانية لا يدل عليها رصيد القنابل الذرية المختزنة في قلاع الدول الكبرى، وإنما يكون هذا التقدم في نمو (ضمير دولي) في العالم، والقوى التي تزيد في هذه الدرجة ليست هي التي ثوفر القوة والرفاهية للكبار، والتي تحاول أن تكون من وسائل القهر والاضطهاد ضد الشعوب (المتأخرة) كما يقولون، وإنما هي القوة التي تقر توازناً اجتماعياً وسياسياً ينسجم مع نمو عالم يجب ألا تعالج فيه المشكلات الإنسانية بمنطق القوة (¬1)، وإنما بمنطق البقاء، حذراً من وقوع كارثة. ولقد سيطرت على الحياة الدولية- بكل أسف- (إرادة القوة) التي لا تفارق حضارة القرن العشرين، فهي قانون للنفسية الغربية، قانون يسجل التأخر الخلقي لإنسان الغرب، حتى كأنه يعيش في القرن التاسع عشر. وأحياناً يبدو وكأنه يجر الخطى في القرون الوسطى عندما يستمد غذاءه الروحي من تاريخ محاكم التفتيش، ومن سيرة فرسان الاستعمار، بينما أصبحت عبقريته الصناعية نفسها ترفض أطماعه وادعاءاته عن غزو العالم، كأنما خلقه الله ليغذي به ترفه فحسب. وفضلاً، عن ذلك فإن (إرادة القوة) هذه جبن تُجاوز أهدافَها تُحطم حقيقة الوضع المزدوج الجغرافي السياسي الذي ذكرناه، فإذا بها تعمل على إظهار لفظ جديد، في ثالوث مكون من (كتلتين) و (مجموعة مستعمرة)، فيجد العالم (المتحضر) نفسه منشقاً طبقاً لـ (ميكانيكا) خاضعة لأخلاق جذبية ولصناعة ¬

_ (¬1) في إحدى المؤلفات الهامة عن (الماركسية في الاتحاد السوفييتي) لاحظ الأُستاذ هنري شامبر وجود هذه البلبلة المشتركة في المحتمع الرأسمالي الحر، كما أنها في المجتمع الماركسي، قال: ((إن العالم الحر والماركسي السوفييتي حين فضلا القوة على الفرد الإنساني قد أنكرا وينكران عملياً القيم الإنسانية الحقة التي تدعو إليها المسيحية)).

طردية. فأوروبا المدفوعة بصناعتها في العالم، تلك الصناعة التي تقهرها على المساكنة والجوار، قد انتكست دائماً بأخلاقها إلى قاعدة الانطلاق الفكري التي انطلق منها الاستعمار، فهي تعود دائماً إلى العنصرية، وإلى احتقار الإنسانية. تلك العنصرية التي مر لها أخيراً مشهد محزن بقرية صغيرة بمقاطعة المسيسبي ( Mississipi) حيث قام سبع مئة مواطن بمظاهرة صاخبة بمناسبة مقتل الفتى الزنجي (إيميت تيل Emmet Till)، لم تكن هذه المظاهرة من أجل الثأر للضحية المسكينة، وإنما من أجل الدفاع عن قاتليها، ولقد دلل المحامون الذين توجهوا إلا القضاة في ختام مرافعتهم قائلين: ((إن أجدادكم سيتململون في قبورهم، لو أنكم أدنتم هؤلاء المتهمين لأنهم قتلوا زنجياً))، أقول: ((دللوا على معرفتهم بنفسية هذه العدالة، التي تعرف الجزائر الآن إجراءاتتها المشؤومة)). وأياً ما كان الأمر، فحين نأخذ في اعتبارنا من ناحية هذا الدفع للحضارة الغربية الناشئ عن صناعتها ومن أخرى ذلك الانطواء الذي تفرضه عليها فلسفتها الأخلاقية، فسنصل إلى هذا الوضع الشاذ بنتائجه السياسية التي يقتضيها، أعني نوعا من التحلل، يصيب إرادة القوى لدى الكبار بفعل تأثيره الخاص. فإذا بإرادة الكبار وقوتهم لا يتخذان الاتجاه نفسه، إذ تدفعهما القوة إلى المستقبل، وتردهم (الإرادة) بعنف إلى قوانين الماضي. ولهذا الوضع الشاذ صورته الحية التي تتمثل في أن الصواريخ الموجهة، والتسلح الذري لا يزيدان قوة الكبار إلا صورياً. فقد أصبحنا في عالم متحد الشكل، تجبره القوة- لا الأخلاق- على أن يلتزم حدوده، فلا يستمر في بسط إمبراطورية استعمارية، لدرجة أن هذا الوضع الشاذ ينتهي إلى حالة أكثر غرابة، هي أن (الوسائل) التي يتحكم فيها الكبار قد حددت نطاقها، ولم يكن هذا التحديد في النهاية طبقاً (لإرادة القوة) لدى حائزيها، وإنما طبقاً لمطامح الشعوب المستعمَرة الإفريقية الآسيوية وإرادتها للبقاء.

وكان من النتائج السياسية لهذا الوضع وجود نوع من الحياة الديمقراطية يوزع- ولو نظرياً- المسؤولية الدولية، لا على أساس (القوة)، بل على أساس (البقاء) أو (الضمير). وأوضح دلالة على هذا مثلاً، ذلك الجزء من المسؤولية الذي تتمتع به في الأمم المتحدة دويلة نصف مستعمرة، هي دولة (هايتي)، والذي خولها أن تقرر مصير الشعب الليبي. وأن تنتزعه من بين مخالب الاستعمار، على الرغم من إرادة بعض الكبار. وإن إدراج مسألة الجزائر في جدول أعمال الأمم المتحدة، لشاهد آخر على هذا التطور، الذي يعد من الناحية المادية من عمل الكبار. ولكنه يخرج من أيديهم، حتى كأنه شيء لم يقدروا حسابه، فيقلب تقديراتهم، وتكهناتهم، وامتيازاتهم. ولكن يجب أن نبين هذا الشيء- الذي لم يقدروه- بصورة عملية لكي نفهم ما يحتويه من شحنة متفجرة، ومدى تأتيره في الحالة الراهنة. ففي منطق حضارة هذا القرن، حيث يرد كل شيء إلى مقياس ((القوة)) وبالتالي إلى مقياس النصر أو الهزيمة، يجب أن نقول بأنه كأنه كان ((نصراً للشعوب المستعمَرة)) و ((هزيمة أوروبية))، لكي نفهم مبلغ أهميته في نفسية الغرب الحالية، وأنعكاساته على السياسة الاستعمارية خارج أوروبا، إنها نفسية حالة الاحتضار، أو هي تقريباً هذه الحالة، أعني الحالة التي يكون فيها الشعور غير المتعقل بالخطر القاتل، وما ينشأ عن ذلك من حسرة عارمة، سبباً في خلق رد فعل عنيف. وليست الأحداث الدامية التي عاشها العالم منذ عشر سنوات- تلك الأحداث التي تتفاوت في عنفها وتلطخها، في إندونيسيا وفي مدغشقر وفي إفريقية الشمالية- إلا النمو التاريخي لتلك النفسية الاحتضارية.

فمنذ عام 1945م ونحن نرى مأساة الأخذ بالثأر، إذ يريد الاستعمار أن يثأر مقدماً لموته الوشيك في البلاد التي تخلع نيره، وتنبذ غله. وما هذه الآلاف من الرجال المقتولين والمعذبين في البلاد التي ما زالت تحت نير الاستعمار، ليست هذه- واأسفاه- إلا ضحايا هذه المعركة الدامية، معركة الأخذ بالثأر، التي لا يرى الاستعمار خلالها في شعوب المستعمرات شيئاً مقدساً؛ لا دماءها، ولا أعراضها، ولا حقوقها الابتدائية. وإن انفجار التفرقة العنصرية في جنوبي إفريقية، حيث أغلقت الكلية الجامعية الوحيدة للملونين في (فارت هار Forte Hare) لينبع من المرض العقلي نفسه الذي يسمى (الذهان). فكل هذه الجرائم تعاويذ دامية، ووسائل مقيتة لسحر أسود مشؤوم، يريد إنقاذ سيادة البيض بأي ثمن. في هذه الحالة الخاصة بالعقل الغربي يجب أن نبحث عن مبعث هذه الجهود المنحرفة التي لا يكفون عن أن يقفوا بها في وجه الاتجاه الطبيعي للعالم، في سبيل التطور السلمي الأفرسيوي. وإن إرادة الكبار بما تتمتع به من حق الاعتراض- الفيتو- في المناقشات الدولية لتعتبر في الواقع التيار المضاد لاطراد التاريخ: تياراً مضاداً محملاً بكل العناصر السلبية التي تملكها حضارة لم تستطع أن تتغلب على مصاعبها الأخلاقية. وهذا الجمود الأخلاقي كله هو الذي يضغط بثقله على المصير الإنساني، معطلاً التاريخ، تاركاً الأحداث تجري في مكانها. هذا النوع من الافتقار يتمثل طبعاً في سنوات خالية من التاريخ، ففي إحدى صور تأبين عام 1952م، العام الذي بدا لأحد النقاد خالياً من التاريخ، ترجم هذا الناقد عن ملاحظته بمقارنة مقتبسة من هذه- الأوبرات- التي تنشد فيها الجوقات: (فلنسر .. فلنسر)، دون أن تتقدم. ولقد أرادت السياسة الغربية بما يقرب من هذه الطريقة، أن تدفع العالم إلى التقدم منذ عام 1945م، فلم تكف الجوقة عن أن تنشد نشيد التقدم والحضارة،

وأن تصيح: ((إلى الأمام ... إلى الأمام ... ))، ولكن كلما كانت تظهر محاولة، للتقدم الفعلي في إفريقية وآسيا، كان الفيتو يوقفها بطريقة أو بأخرى. فقد تحدث أحد رؤساء الحكومة السورية فيما مضى، عن إمكانيات المساعدة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد العربية، مع أحد مراسلي الصحف الذي سأله في هذا الموضوع. لقد قال: ((إن هذه الإمكانيات موجودة نظرياً، ويكفي - في نظره- أن نتصور خطة لمشروع ممول من إيرادات البترول في المنطقة)) ولكنه أضاف قائلا: ((إن الشركات البترولية تثير اعتراضاتها عندما تتحرك فكرة مشروع كهذا، فلسان الحال إذن يقول: سيروا ... سيروا ... ولكن لا تستخدموا تعويضاتنا من أجل هذا ... )) هذا التعطيل يهدف طبعاً إلى عرقلة تطور الشعوب، وإلى تأخير ساعة تحررها السياسي والاقتصادي. وبهذه الطريقة، وفي سبيل هذه الغاية، فرض الاستعمار على التاريخ تأخراً ضاراً: فرب أمر كان ينبغي أن يحدث عام 1945م، لم يحدث حتى الآن. وإن الاستعمار ليدين لهذا التأخير بنوع من تأجيل الحكم عليه، هو الذي كرر مأساته الدامية في العالم. لقد أذنت ساعة سقوطه، ساعة إلغائه من مجال السياسة، ومجال الفلسفات الفكرية التي تغذيه منذ وقت طويل. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية عشنا وكأننا في فراغ من التاريخ، لتأخر صدور هذا الحكم وما نتج عنه، وكأننا نمر بمرحلة غير تاريخية، حيث وجدنا الأحداث المرتبطة بتطور الأشياء معطلة، معلقة، مؤخرة. فهناك تخلف بين جدول هذا التطور، وجدول الأعمال والمحاولات السياسية، ويتجلى ذلك خاصة في محاولات الأمم المتحدة حل المشكلات ذات الطابع الاستعماري، فإذا بهذه المشكلات تتسكع من دورة إلى أخرى، دون أن تجلب لها سنوات التسكع حلاً، وأبلغ مثال على ذلك مشكلة شمالي إفريقية (¬1). ¬

_ (¬1) ينعكس هذا المظهر في نطاق وطني محدود في مسألة دستور الجزائر، الذي ووفق عليه عام 1947م ولم يطبق إلى أن شبت نيران الثورة في أوائل نوفمبر 1954م، فألغته، وهكذا تولد الأحداث ميتة في تلك الحقبة غير التاريخية التي تمر منذ عام 1945م.

ولكن كلما زاد تعطل التاريخ، تراكمت الأحداث المتخلفة عن الفيتو الاستعماري خلف السد الذي يريدون به إيقاف اطراده، فهناك ضغط خطر يزداد في العالم، وربما انهار هذا السد الصناعي تحت ضغط التطور المنطلق الجبار للشعوب الأفرسيوية، وتحت اندفاع إراداتها الشعبية كما انهار في الصين الشعبية، وفي الهند الصينية، بقيادة (هوشي منه). هذا بالضبط هو الشكل الدرامي للأزمة الراهنة، فعندما يغذي الناس أحلامهم من الوهم الساذج في أن يعيدوا تاريخ الماضي، فإن الطاقات الطبيعية تنطلق لكي تصنع تاريخ الحاضر والمستقبل. وإذا كان الناس يرتابون، ويقدرون، ويترددون، فإن الطاقات المنطلقة تمضي حتماً إلى غايتها. إن إرادة الشعوب طاقة من طاقات الطبيعة التي تقلب التقديرات، طاقة لا يمكن أن يقاومها سد، مهما كان متيناً محكماً. وإن انتصار إرادة هذه الشعوب على محاولات الكبار لهو قدر حتم من أقدار التاريخ. وبقي أن نذكر مساهمة الغرب الكبيرة في هذه الحتمية. فإن عبقريته الصناعية هي التي أسرعت بالتاريخ، وعلى الرغم من هذا فهو يريد أن يعطله، فإذا كان الغرب متأثراً بعلمه، قد وضع العالم على عتبة العصر الذري، فقلب بذلك جميع عناصر المشكلة الإنسانية، فإنه يريد مدفوعاً بأخلاقه أن يعيد العالم إلى القرون الوسطى، والتناقض المحزن بين هذين الوضعين مفهوم بيِّن. وإذا كانت عبقرية الغرب قد أنشأت بنفسها أحد العناصر التي حتمت الاتجاه المنطلق للتاريخ، فلم تدعه يرجع إلى الوراء، فإن هذه العبقرية قد برهنت على أنها لا تستطيع أن تكفي نفسها بنفسها، وبرهنت الأحداث الدولية الحالية على عجزها الأخلاقي عن أن تحتل مكان القيادة في العالم. إذ لكي تتحمل أعباء هذه القيادة لا بد من سلطة أخلاقية، ودفعة روحية مما لا وجود له في هذه العبقرية الصناعية، ولا في مبادئها ولا في توجيهها.

وربما كان هذا الفصل أو التميز أقل وضوحاً، إذا لم نضع المناقشة في الإطار الثقافي الغربي حيث يصبح تعبير (النجاح الصناعي) مقصوداً به (النجاح) في كل شيء، وحيث ترد المشكلة الإنسانية إلى مبادئ ميكانيكية تأخذ صفة مقاييس، والواقع أنه من الصعب أن نهرب من سيطرة الوهم الميكانيكي في هذا الإطار، فلقد رأينا أثر هذه السيطرة في بعض المناقشات الحديثة في الغرب، مثلاً بمناسبة الدراسة التي نشرتها اليونسكو ضد العنصرية بعنوان (الجنس والتاريخ) للكاتب كلود ليفي ستروس ( Claud Levi Strauss)، عام 1952م، فإن هذه الدراسة لم تعدم أن تثير بعض التعقيبات؛ وخاصة تلك التي كان كاتبها يؤكد فيها أن سيطرة الغرب الصناعية إنما تعتمد بكل تأكيد على سيطرة قيمه الخلقية. ويمكن تفسير هذا الوهم كما يفسر الخطأ النسبي الذي يقع فيه من يرى حركة، وهو راكب في جهاز يتحرك أيضاً، فهو يرى حركة نسبية يحاول أن يصدر عليها حكماً مطلقاً. والعقل الغربي وثيق الصلة بنظامه الثقافي، فمن الصعب عليه أن يتخلص من الوهم الميكانيكي، أي من صلته بهذا النظام، حتى يصدر عليه الحكم الصحيح. فهو أسير العبقرية الصناعية، ما دام يطبق نتائجها هذه، على المجال الأخلاقي، بحيث ينسب النجاح المادي إلى فضيلة خلقية. وعلى كل حال، فإن مما يزيد الوهم أن للوسط الغربي فضائل خلقية جميلة؛ شهد بها (غاندي) أكثر من مرة؛ ولكن هذه الفضائل ليست سوى فضائل داخلية أنانية لا إشعاع لها. والعقل الغربي- وخاصة في التعقيب على نظرية كلود ليفي ستروس- لا يجعل في اعتباره هذا الوضع الخاص، لأنه- هو نفسه - ذاتي، أناني من الوجهة الأخلاقية. فالفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة إلى العالم، لأنها لا تشع على عالم الآخرين. والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه- هو- فخارج حدوده الأوروبية لا يكون إنساناً؛ بل أوروبياً، وهو لا يرى بعد

ذلك أناساً، بل مستعمَرين (¬1)؛ فهو يتحرك ببرجه العاجي؛ كما يتحرك الرحالة بخيمته؛ وهو حيثما ذهب- سواء كان صانعاً أو مخبراً صحفياً أو مجرد سائح في بلد متخلف- ينشئ- عن قصد أو غير قصد- ما يسمى حالة استعمارية ( Situation Coloniale) . وعليه فالأوروبي لا ينشئ في هذه الحالة روابط صداقية (¬2) وأخلاقية؛ فإن علاقاته مع المستعمَر، هي من النوع الاقتصادي أو الإداري أو السياحي؛ بل حتى من النوع الاستراتيجى في بعض الحالات تبعاً لاتصاله بزبائن أو رعايا أو أقوام مستعمرين؛ أو لحم يطعمه للقنابل الذرية. وبدهي أنه لا يمكننا أن نستخلص من هذه الروابط الخاصة خطاً سياسياً يتفق مع القيادة الروحية للعالم. وأن هذه الاعتبارات والأفكار الاقتصادية لا يمكنها أن تنتجه، ففي أحد التحقيقات عن الصين الجديدة نشر الكاتب الصحفي الإنجليزي كنجسلي مارتان ( Kingsly martin) بكل استهزاء وتهكم محادثة جرت بينه وبين بعض الأمريكيين- المطلعين على بواطن الأمور- والذين لا يعدون مئات الملايين من الآسيويين سوى متخلفين تعساء، يمكن انقسامهم إلى طيبين وأشرار تبعاً لولائهم أو تمردهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فمن الواضح أنه لا يمكن أن يكون المرء حكماً في موقف عالمي معقد، ولديه نفسية بسيطة إلى هذا الحد. وأمريكا لا تستطيع التغلب على المصاعب المتصلة ¬

_ (¬1) يعدّ شفيتزر ( Schveitzer) وغيره من الوجوه الطيبة سطوراً من النور تحدد الحقيقة التي نذكرها. (¬2) تحدث مراسل صحفى باريسي عن ارتباط الشعوب السوداء بفرنسا بعد هزيمة 1940م فحكى قصة استقباله لدى أحد السود قائلاً: ((لقد كان يزحف عند قدمي كأنه كلب)) والذي يهمنا في هذا النص ليس هو الألفاظ المادية المحسة في المقارنة، وإنما الصورة الصادرة عن اللاشعور.

بهذه الحالة حيث تتركز أزمة نصف قرن من الزمان، دون أن تتغلب أولاً على عقدها النفسية الخاصة حيال الشعوب المستعمَرة الأفرسيوية. وهي لن تستطيع خاصة أن تصفي الأزمة دون أن تخضع عنصرها الجوهري لتحكيم خلقي في النزاع بين المستعمِر والمستعمَر، فمن الواجب دون شك مساعدة الطرفين على التغلب على مرض الاستعمار والقابلية للاستعمار. وإن إخفاق أمريكا في هذه المشكلة ذات الطابع الإنساني والأخلاقي، لا يساوي في دويه شيئاً سوى نجاحها في المشكلات ذات الطابع الصناعي. وإن مأساة العالم المرتبطة إلى حد ما منذ عشر سنوات بهذا الإخفاق الأخلاقي والنفسي، الذي هو السبب الرئيسي في دفع الشعوب الأفرسيوية إلى البحث عن اتجاه جديد، وهو الذي قادها إلى مؤتمر باندونج. وطبيعي أن هذا الافتقار لا يتجلى نقصاً نوعياً في العقل الأمريكي، وإنما باعتباره شكلاً ينطبع في بوتقة خاصة؛ لحضارة لم يعد لديها الضوء السامي الذي يكشف لها جوانب المشكلات الإنسانية، لأنها ردت هذه المشكلات إلى المنطق العقلي المجرد. ولا شك في أنه كان من الممكن أن تقوم السعادة المادية للمتعطل الذي يعيش في مدينة الأكواخ في إفريقية الشمالية، ولأخيه الذي يعيش في الظروف نفسها في الهند على أسس فنية صناعية نجدها في إطار الحضارة الغربية. ولكن حظهما المشترك قد ظل غريباً عن مودتها وعن فكرتها، بعيداً عن قلبها. لقد غاب شبح البؤس الإنساني عن عبقرية الغرب. إن المشكلات الإنسانية لا تظهر في العواصم الغربية، لأن ذكاء العقل الفني يدركها في ضوء خاص، يعريها عن مظهرها الإنساني، ولا ينظر إليها إلا في شكلها الكمي؛ أعني من الوجهة الاقتصادية والاستراتيجية. فلئن ظلت تلك المشكلات دون حل خلال الفترة الاستعمارية كلها، تلك الفترة التي خلفتها؛ فذلك لأن الغرب لم يباشرها بقلبه.

ولدينا تجارب حديثة تبرهن لنا على أن عنصر المودة الإنسانية هو يلعب دوراً كبيراً في حلها؛ وليس العقل الفني؛ ففى خلال عامين أحرزت سورية شوطاً كبيراً في تقدمها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أكثر مما حققه استعمار ربع قرن من الزمان في شكل (الوصاية)، وليست إنجلترا المتورعة هي التي حسمت المشكلة الإنسانية الأليمة للمنبوذين في الهند؛ أو حتى وضعتها في طريق الحل، وسنذكر فيما بعد أي تأثير غير مباشر قامت به- على كل حال- في هذا الميدان، ولكن يرجع الفضل كله إلى الجمهورية الهندية الفتية نفسها، تلك التي نصت في دستورها على مبدأ حل المشكلة، وشرعت في تطبيقه في مشروع القانون المعتمد في 27 أبريل سنة 1955م. وإذن فقد فات الإنسانية بعد أن انتهت المأساة الكبرى عام 1945م أن تعلن عن ليلة 4 أغسطس (¬1)، أعني أن تعلن سقوط الامتيازات، والمساواة في الحقوق لجميع الشعوب، وهذه هي غلطة الكبار الذين لم يستغلوا الوثبة المحررة آنذاك كيما يحققوا الثورة الكبرى للقرن العشرين، تلك التي من شأنها أن تأتي بحل للأزمة المتأصلة التي قدمت للعالم أسباب الحرب الحقيقية الواقعية مرتين؛ مهما تسترت بأسباب ظاهرية عاجلة. والواقع أن الأسباب الجوهرية التاريخية التي نتجت عنها جميع الأزمات الخاصة كحرب الترنسفال، وحادثة فاشودة، وأغادير، هي الأسباب نفسها التي أدت إلى قيام الحربين العالميتين، أعني أزمة متأصلة تمتد جذورها في أعماق النفسية الاستعمارية التي سيطرت على السياسة العالمية كلها حتى الآن. ولم تكن فكرة (المجال الحيوي) العزيزة على هتلر إلا نظيراً، ونتيجة نفسية وسياسية لمذهب (الإمبراطورية الاستعمارية) الذي كان الموضوع الجوهري في القرن التاسع عشر. ¬

_ (¬1) ليلة مشهودة في تاريخ الثورة الفرنسية، وفيها ألغيت الفوارق بين الطبقات.

وعليه، فقد كان يجب أن تكون تصفية الاستعمار الموضوع رقم (1) عام 1945م في أي برنامج للسلام في العالم، وأن تستأثر بالنص الجوهري الصريح في ميثاق الأمم المتحدة. ولا شك في أن هذه القضية كانت من أهداف الضمير الإنساني المجهد، عندما خرج العالم من خضم الحرب العالمية الثانية؛ فلو أن هيئة الأمم المتحدة أرادت أن تدافع عن هذه القضية، لكان لديها أسباب أخرى غير السبب الخلقي لإقناع الضمائر في الغرب. إن الواقع الاستعماري الذي امتزج منذ زمن بعيد بطرائق الحياة الغربية لا يدان من وجهة أخلاقية فحسب، فإن الإدانات الأخيرة التي وجهتها إليه الكنيسة دون جدوى، قد برهنت على فشل الادانة الخلقية في علاج الواقع الاستعماري، ولكن ربما كان لدى الأمم المتحدة حيثيات وإدانات أخرى في هذا الميدان. إن تطبيق أي قانون يقتضي إقناعاً وإلزاماً؛ فلو أردنا إقرار قانون السلام في العالم فيجب أن نستخدم هاتين الوسيلتين؛ ولقد انطبع الواقع الاستعماري على الحياة في الغرب منذ زمن بعيد حتى إنه لا يكفي في إدانته مجرد مجافاته للأخلاق. ولنأخذ على ذلك مثلاً ما حدث أثناء الجلسة الختامية للدورة الثلاتين لمؤتمر الغرف التجارية، لحوض البحر الأبيض المتوسط وإفريقية الفرنسية- وهو مؤتمر انعقد في مرسيليا في 2/ 10/ 1955م- لقد قرر هذا المؤتمر أن ((فرنسا تعيش من خيرات إفريقية وتعمل لها يومين في الأسبوع)) ونحن ندرك من هذا الإعلان أهمية الواقع الاقتصادي في إيضاح جوانب النفسية الاستعمارية. ففي الظروف التي يكفي فيها هذا الإيضاح في حد ذاته، دون أن تدخل نزعات شاذة أخرى؛ نرى من الواجب إقناع المتمسكين بهذه النظرية بالبرهان الاقتصادي .. مؤكدين لهم أن من الممكن أن يعيشوا دائماً يومين في الأسبوع من خيرات إفريقية؛ على أساس نظام اقتصادي كامل دون ضرورة للرباط

الاستعماري الذي لا يليق إلابـ (اقتصاد عبودي) ويبقى طبعاً على المتخصصين في الاقتصاد؛ وعلى زعماء القانون العام وقضاته أن يبرزوا عناصر النظام الجديد؛ والرباط العضوي الجديد الذي يمكن أن يجمع بين المستعمِر السابق والمستعمَر السابق أيضاً. وقد كان لدى أمريكا الوسائل الجوهرية لهذا الاقناع، فقد كان يمكنها أن تقنع العالم الذي انتهى من الحرب العالمية الثانية بالبرهان الخلقي والبرهان الاقتصادي. وقد كان لديها الوسائل التي تحدث بها الانقلاب السلمي في العالم بمساعدته على تحقيق ثورته الخلقية والنفسية والاقتصادية والسياسية، وكان من الواجب أن يكون أول عمل لهذه الثورة تخليص المصير الإنساني من الرهن الاستعماري دون إراقة دماء، ولو أن أمريكا فعلت هذا لأنقذت ما كان يفيد إنقاذه من عهد مضى. وهي بإلغائها الاستعمار، وطيها لصفحة جرائمه تضع الواقع الاستعماري نفسه في ضوء جديد، إذ أن المشروع الاستعماري- بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية- لا يخلو من فائدة إنسانية في نهاية الحساب. فقد سجل بالنسبة للمستعمِر نفسه نقطة الانطلاق في تغيير حياته وتحويرها. ويمكننا أن نقيس أثر ذلك في حالة اليابان التي دخلت فعلاً في التاريخ الحديث منذ الإنذار، الذي وجهه إليها الكومودور بيري عام 1868م. ولقد أحدث المشروع الاستعماري بصفة عامة صدمة نفسية حددت موجة التاريخ الجديدة في آسيا وإفريقية، حين وضع (أبناء المستعمرات) على طريق الحضارة الحديثة: وقد يكون طريقاً مزروعاً بالأشواك، ولقد يكون على المستعمَرين أن يتجاوزوه حفاة الأقدام، ولكنه يوصلهم إلى الهدف على أي حال. وأياً ما كان الأمر، فإن المشروع الاستعماري الذي أراد أن يعدّ المستعمرين (أشياء) قد اضطرهم في الواقع إلى أن يديموا الفكرة وأن يدركوا قيمة شخصياتهم.

وفي بعض الحالات اضطرهم إلى أن يفكروا ويعملوا للمرة الأولى في ظل مفهوم اجتماعي، حين انتزعهم من أحوالهم البدائية، وزج بهم في نوع من الحياة جديد، فعرضهم بذلك لعقبات اجتماعية جديدة، ومصاعب جديدة في سبيل التكيف، واختبارات أدبية عقلية جديدة كوَّنت شيئاً فشيئاً شخصياتهم الجديدة. ومما لا جدال فيه أن الاستعمار قد حرَّك جزءاً من الإنسانية، ونحن مدينون لـ (جون أرنولد تويبي) باستعارة رائعة حين وصف الركود المزمن في بعض المجتمعات البدائية الساكنة على- الكورنيش الناتئ في الجبل- الذي يعد في رأيه قاعدة الانطلاق للمجتمعات المتطورة نفسها، عندما وجدت هذه المجتمعات نفسها في فجر التاريخ، في طريقها إلى تسلق- الجانب الوعر من الحضارة- ويمكننا القول- إذا استخدمنا هذه الاستعارة- بأن المجتمعات البدائية قد بدأت بدورها في تسلق هذا الجانب بفضل الاستعمار، وأن سوطه اللعين هو الذي أيقظ المتأخرين الذين ما زالوا يأخذون- حمام الشمس- على (الكورنيش) شأنها في ذلك شأن الأبراص. على أن من الطبيعي أن يكون طابع الاستعمار أكثر عمقاً في أوروبا إذ هو يتشبث بسلوك يتفق مع (إرادة القوة) وثقافة الإمبراطورية، ومع نوع من الحياة يسير جنباً إلى جنب مع النمو الصناعي. ولقد كان طابعه ملحوظاً حتى في النطاق الأدبي، ليس هذا في الميدان الذي يحتله التعليم الاستعماري في النظام الجامعي فحسب، كيما يهيئ بعض الإداريين الاستعماريين، بل في ميدان الاجتهاد العلمي ذاته. فمن الواضح أن المستعمرات قد قدمت إلى العلماء حقلاً جديداً للاستكشاف، ومصدراً للمعرفة الجوهرية عن المجتمعات البدائية، التي ترشد الدارسين في دراساتهم للتطور الإنساني في بدايته. وعليه، فلو أننا وضعنا هذه المسألة في ضوء آخر، غير الضوء الأخلاقي، فربما لا ننكر خصوبة الواقع الاستعماري في كثير من الميادين. ولكننا لا نستطيع أيضاً

أن ننسى أن هذه الخصوبة قد امتدت جذورها في الآلام الإنسانية، متغذية بالنهب والسلب واللصوصية وقتل الجماعات من أبناء المستعمرات، الذين سلبوهم حريتهم، وسعادتهم وشرفهم الإنساني. ولن نستطيع أن ننكر حين ننظر إلى الأشياء في هذا الضوء، أن زمن الاستعمار قد مضى. إن الاستعمار مرحلة من مراحل التطور الإنساني، وقد فات أوانها، فكل محاولة لإطالتها أو تكرارها تأخر وعودة إلى الماضي، ومصير الاستعمار يقاسم مصير اختراع استنفد أغراضه، وتخلف بفعل التقدم الإنساني المستمر، فإذا وجدنا أن بعض الأوساط تحاول تبريره بشتى الاعتبارات الإنسانية أو الاقتصادية، فإن هذه الاعتبارات لا تعكس هم التقدم، وإنما تحمل طابع العرف والعادة، وبعض ما يشبه الخمول الذي يسمى تقاليد. وهو فضلاً عن ذلك يذكرنا بنكتة أطلقها اقتصادي فرنسي مشهور، حين وجه اللوم إلى أولئك الرجال الذين يعطلون الاقتصاد الفرنسي داخل الروتين، مصرين بذلك على إبقائه في عهد عربة اليد دون أن يفكروا في مساعدة سائقها حتى يستخدم المحرك. فالاستعمار هو (عربة اليد) التي كانت نافعة في أوروبا في القرن التاسع عشر، ولكن يبدو أنهم في أوروبا لا يمكنهم الاستغناء عن هذه العربة، وخاصة في الميدان الاقتصادي؛ كما لاحظنا ذلك في مؤتمر الغرف التجارية المنعقد في مرسيليا فى أكتوبر 1955م. وربما استطاعت هيئة الأمم المتحدة أن تلغي هذا الجهاز القديم، وأن تقنع هؤلاء وهؤلاء بأنهم يستطيعون أن يستغنوا عنه دون تحمل أي خسارة اقتصادية أو أخلاقية، وهي تستطيع أن تفعل هذا حين تقر بين المستعمِر والمستعمَر روابط جديدة، ونظاماً للعلاقات قائماً على أساس خطة للانفصال والاتصال الضروري، تتفق مع مطامح البعض ومع المصالح الاقتصادية والثقافية للجميع.

ولا شك في أنها بهذا توفر على العالم ما سيطرأ من أحداث دامية ذاق ويلاتها منذ عشر سنوات. هذه الأحداث الحزينة تزيد بكل أسف، ومن يوم إلى يوم، التوتر الذي يهدد بتمزيق الوحدة الإنسانية تمزيقاً محزناً لا علاج له. إن الأزمة تتعاظم كل يوم، موحية إلى الزعيم العمالي- كليمنت إتلي- بقلق بالغ عبر عنه في قوله: ((في السنوات القادمة ستكون مشكلة العلاقات بين البيض والشعوب الملونة إحدى المشكلات المستعصية على الحل)). فلو كان لنا أن نصف دواء للمرض، فإن الطريقة العلاجية المناسبة ستكون هي التي تعالجه في عناصره النفسية، قبل أي اعتبار اقتصادي أو سياسي، ونحن نريد أن نقول: إن بناء عقلية عالمية جديدة لا يصح أن يُتصور من الزاويتين: الاقتصادية والسياسية، بل من سائر الزوايا مقدمين في علاجنا العنصر النفسي، الذي يخلق نوعاً من القاسم المشترك في جميع المشكلات المتائرة حالياً بين الشعوب. ونحن نلاحظ ذلك في كل يوم. وحتى في الكتابات العلمية الخالصة نلاحظ وجود هذا العنصر الانحرافي، الذي يقحم دخائل النفس الإنسانية في المشكلات الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك ما نلاحظه في كتابات بعض الاقتصاديين الغربيين، تلك التي لا نستطيع أن ننازع في نزاهتها الخالصة، أو في جدارتها، فإن عنصر الانحراف يتدخل كلما اتصل الحديث بالمشكلة الاستعمارية. وإنه ليتحدث عنها بمنطق الفني الكامل الذي لا يغض النظر في أي لحظة عن قيمة الأرقام، ودلالة الأحداث والوقائع، غير أنه بعد أن يبرهن على الخسارة الهائلة التي جشمتها مستعمرة معينة لمستعمريها، يستخلص نتيجة غير منتظرة، هي أن وجود بلاده ضروري في المستعمرات على الرغم من خسارة الميزانية. هذه بلا جدال نقطة تتشابك فيها حقيقة الضمير مع حقائق العلم، وينتج عن هذا انحراف يحدث بصورة مغرضة في جميع التصريحات والبيانات السياسية الرسمية التي تنشر عن ((كرم البعثة الاستعمارية)).

إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية ذات أهمية قصوى لحل المشكلة الاستعمارية، ولكنها تحلها مخلفة وراءها في العالم بقايا في صورة عنصر نفسي. ولا شك أن الحلول التشريعية التي حدثت في الهند، أو في بورما أو في أندونيسيا كانت ضرورية، ولكنها تظل غير كافية طالما لم يتبع الفصل الضروري بين المستعمِر والمستعمَر، بالاتصال الضروري للرجلين اللذين فرقت بينهما ظروف الاستعمار والقابلية للاستعمار. فجميع الإمكانيات التي تسيطر على مستقبل العالم إنما تصدر أساساً عن طبيعة الاتصال الإنساني. والواقع أن المشكلة تقتضي حلاً مزدوجاً أي انفصالاً واتصالاً (¬1)، حتى إننا لو تصورناه من الزاوية التشريعية فحسب، فمعنى ذلك أننا نخدع أنفسنا بنصف حل. ولقد كان غاندي يقدر عجز حل كهذا بالنسبة إلى الهدف الإنساني، عندما كان يخاطب في كفاحه السلمي ضمير مواطنيه والضمير الإنجليزي، كيما يحرر كلا الخصمين من المرض الاستعماري نفسه. لكن لكي يكون المشروع مؤثراً، ولكي يصفّي تماماً بقايا الاستعمار، فإن الأمر يقتضي ألا يكون في نطاق بلد، بل في نطاق العالم، حيث يجب أن يطهر ضمير جزء من الإنسانية سممته (ثقافة الإمبراطورية). وعليه، فإذا كان دور الأمم المتحدة لا يمكن نكرانه في هذا الميدان، فإن نصيب هيئة اليونسكو في حل المأساة العالمية جوهري أيضاً. إن قاتلي الشاب الأسود إيميت تل ( Emmet Till) ، وجمهور البيض الذين طردوا الفتاة أنتورين لوسى ( Miss Anthourin Lucy) من جامعة ألباما ( Albama) وهي الطالبة الأولى الزنجية التي سمح لها بالالتحاق بهذه الجامعة، قد أظهر هؤلاء ¬

_ (¬1) يبدو أن هذه الفكرة قد بدأت تأخذ طريقها ولا سيما في خطب سيدي محمد بن يوسف سلطان مراكش، حيث عبر جلالته عن فكرته في إنشاء علاقات جديدة لبلاده مع فرنسا في حدود الاستقلال والتضامن.

وأولئك أي طريق طويل يجب أن نجتازه كي نصل إلى حل يتفق مع مشكلة العلاقات الإنسانية في عالم الكبار. وفي الفكرة التي صدرنا بها هذ الفصل لم يكن يعلم الشاعر أنه يضع على فم طفل لعنة ملايين الناس، الذين تعذبوا وما زالوا يتعذبون بويلات العقل الاستعماري. ***

التعايش أو الوجود المشترك والاستعمار المشترك

التّعَايش أو الوجُود المشتَرك وَالاستِعمَار المشتَرَك لقد سجل تشرشل في خطابه الذي وجهه إلى طلبة الكلية الأمريكية في فولتون ( Fulton) في أبريل (1947م) لحظة رئيسية في حياته السياسية، ورسم في الواقع منعطفاً خطيراً في التوجيه الدولي الناتج عن روابط الحرب العالمية الثانية، وعن مؤتمر يالتا ( Yalta) وبوتسدام ( Potsdam). ولقد حركت الخطبة الأقدار حين خلقت حداً جديداً، هو الستار الحديدي، سماه تشرشل نفسه بهذا الاسم، وهو يتمتع (بقوة تفريق) أعظم مما أتيح لخط سيجفريد الذي كان يفصل قبيل الحرب العالمية الثانية، بين ألمانيا الهتلرية والديمقراطيات الغربية. وهكذا ظهرت توقعات جديدة طبقاً لجغرافية سياسية جديدة أحدثت انقسام عالم الكبار إلى كتلتين. فأفسح ذلك الازدواج العالمي الجغرافي السياسي- الموروث عن القرن التاسع عشر- أفسح مجالاً لتالوث ظهر فيه عنصر ثالت مكون من كتلة (أبناء المستعمرات) الأفرسيوية موضوعاً للنزاع الجديد، وشاهداً عليه أيضاً. وفي هذه الحقبة الجديدة يجب أن نفهم مركز الشعوب الأفرسيوية في عالم الكبار، وعلاقاتهم معهم، حتى نكوّن لأنفسنا فكرة عن التطور الذي سيقودها أخيراً إلى باندونج كي تفر من الجاذبية التي تهدد بربطها في فلك الحرب. والواقع أن خطبة فولتون قد أحدثت تصفية في العالم، الذي كان يسوده الغموض منذ عام (1945م)، حيث لم يكن في وسعه أن يحقق السلام، أو يتابع الحرب. فإذا بفكرة- الستار الحديدي- تلقي وضوحاً على الموقف، فقد أصبحت إرهاصاً لحرب عالمية ثالثة، واضعة بذلك نهاية للحيرة التي كانت

تسيطر على العقول المهتمة بالسلام والتوافق في العالم، لأنها متأثرة ببعض الأوهام، وبعض الآمال. فبدأ الضمير الإنساني يتصل من جديد بالواقع المرير، ويأخذ هذا الواقع أولاً اسم، الحرب الباردة. حرب باردة تظهر فيها فجأة ارتفاعات في درجات الحرارة. فهنا وهناك مناطق ساخنة في كوريا، وفي الهند الصينية مثلاً. ثم إذا بهذه الحرب قد حددت مفهومها ونظريتها، ففي 12 مارس (1947م) نادى ترومان بنظرية الحد من التسرب الشيوعي ( Containment)، أي إنه يجب إيقاف انتشار الشيوعية، وبعد ثلاثة أشهر نادى مارشال بمشروعه المعروف الذي يرسي القاعدة الاقتصادية لنظرية (حد الشيوعية)، مكملاً في الوقت نفسه نظرية ترومان بنظرية كبح جماح الشيوعية ( Roll Back) إذ يجب الضغط على الشيوعية حتى ترجع إلى حدودها. ولقد أثارت هذه المحاولات رد فعل في روسيا السوفيتية التي أعلنت في 28 يونية (1948م) فرض حصارها على برلين. وبهذا تستفحل الحرب الباردة مقتربة من ذروتها التي ستبلغها عما قريب في كوريا، محولة في طريقها عالم الكبار إلى ورشة عسكرية، تجهز فيها الحرب العالمية الثالثة. ومضت السياسة الدولية في هذه الحقبة تتلقى وحيها وأوامرها من هيئات أركان الحرب، فأصبحت اهتماماً استراتيجياً خالصا. وحيث قد قام الاعتبار الاستراتيجي في الموقف الجديد على الغريزة الاستعمارية القديمة، التي لم تستأصلها الحرب العالمية الثانية، فقد نتج عن ذلك صورة جديدة للعلاقات بين العالم المتحضر والشعوب الأفرسيوية، وهذه العلاقات مطبوعة من ناحية العالم المتحضر بطابع استعمار جديد. يمكن تسميته لما يحمل من وصف خاص، باسم: (الاستعمار المشترك). فهو مفهوم سياسي من

نوع معاهدة الدفاع الأوروبي ( C.E.D) والهيئة الاقتصادية لأوروبا الغربية ( O.E.C.E) ولكن خارج النطاق الأوروبي، أعني نوعاً من التشارك في ميدان الاستعمار مطابقاً لضرورات الوضع الاستراتيجي. فـ (استراتيجية التطويق) هي صياغة لهذه الفكرة في ألفاظ عسكرية، والقواعد العسكرية في نطاق حلف الأطلنطي، وحلف مانيلا وحلف بغداد هي مظاهره المختلفة، وصيغه المحلية. لقد غيرت الحرب الصناعات، ولكنها لم تعدل نفسية العالم المتحضر تعديلاً عميقاً، فلقد طفر العلم، بينما جرى الضمير في مكانه، ووضعت المشكلات دائماً في ألفاظ القوة، وجعلت القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ الموجهة في رأس قائمة عوامل السلام، وأصبحت (مراكز القوة) الحجة العليا للدبلوماسية الدولية. ومع ذلك فإن تياراً جديداً يتداول في العالم، تياراً لم يصل بعد إلى منطقة الضغط العالمي للحرب الباردة، لكن نسمته بدأت تنال من هذه الثلوج المترسبة، فحتى الآن لم تجد (إرادة القوة) متكلماً آخر في العالم غير قوات من طبيعتها، ومن نوعها. فقد أيقظ الاستعمار الأمريكي مثلاً اليابان عام (1868م) نافخاً فيها من روحه روح القوة، وكانت كارتة- بيرل هاربر- التي حدثت في ديسمبر (1941م) الإجابة على تلك المحاولة، وبذلك كانت الإجابة من طبيعة التحدي والاستفزاز نفسها. ولكن بعد هذا النصر الباهر، سحقت اليابان الوسائل نفسها، فإن ((من سل سيف البغي قتل به)) كما قال الإنجيل. وكان هذا على كل حال هو الحوار الذي يدور بين أصمين، بينما كان حوار آخر يقدم إلى ضمير القرن العشرين مثالاً، هو والمثال الأول على طرفي نقيض، فلم يعارض غاندي الاستعمار الانجليزي بقوة من النوع نفسه، بل بقوة جديدة هي قوة (عدم العنف). وبهذه القوة لم يحرر (المهاتما) الهند فحسب، بل إنه قد أقر قانوناً سياسياً قائما على قيم أخلاقية جدد لها قيمتها المنتقصة بسبب حضارة منحت

الأولوية للقوة المجردة. والنصر السياسي الذي أحرزه (غاندي) يسجل دون شك لحظة هامة في تاريخ الهند، ولكن انتصاره الأخلاقي يعد أيضاً أكثر أهمية، فهو يسجل اللحظة المؤثرة التي أصبح فيها مبدأ (عدم العنف) قوة سياسية عالمية. وبفضل هذه القوة دخل (المستعمَر) إلى المسرح الدولي، فإن ملايين الناس يدينون بتحررهم السياسي إلى وساطة الهند،- وعلى سبيل المثال سبعون مليوناً في أندونيسيا-. إنه الرجل المستعمَر يدخل المسرح الدولي، وهو عنصر إنساني حاول المستعمرون إبقاءه حتى الآن في الظلام وراء شاشة التاريخ، ولم يسمحوا له منذ قرنين من الزمان بأن يكون على الأكثر سوى شخص من الشخوص، فهو الآن يدخل الحدث المسرحي بفكرة تغير هيئته، وتغير الوضع المسرحي نفسه. لقد بدأ حوار جديد في التاريخ، حوار لم يكن المتحدث إلى القوة فيه قوة أخرى من نوعها، تجر العالم إلى الحرب طبقاً لسياسة (حافة الهاوية) (¬1) بل هو نوع جديد، ليس المتكلم فيه مسلحاً بقنابل ذرية، بل بقوانين جديدة أخلاقية وسياسية، برهن غاندي على صلاحيتها وتأتيرها. وكان من نتائج هذا الحوار الأولي غير المتوقعة إعادة بناء الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة غير مباشرة. لكن في غير الوضع الذي ورثه العالم عن أوضاع القرن التاسع عشر. بحيث يعيد بناءه طبقاً لخطة جديدة، في ضوء تفسير جديد. فالحضارة لم يعد محدثها شعوب معستعمرة وقفاً على الاستعمار والقابلية للاستعمار، بل إنها شعوب انتصرت على تلك العبودية المزدوجة، شعوب لم تعد ترضى بأن تستخدم فقط كقاعدة لتمثال التاريخ. بل على العكس يريد أبناؤها أن يكونوا فنانيه وملهميه. إن دخول الشعوب الأفرسيوية على المسرح قد أعاد الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة معينة، ولكن في الوقت نفسه أتت هذه الشعوب معها بمبدأ ¬

_ (¬1) كلمة يعبر بها عن مغامرته السياسية.

تركيب للعالم؛ وبإمكانيات تعايش جديد يحمل بوضوح طابع عبقريتها. أعني الشروط الأخلاقية لحضارة لا تكون تعبيراً عن القوة أو الصناعة. وفي هذه المرحلة، لم ترد هذه الشعوب أن تمثل الدور الثاني متعلقة بأذيال الكبار، ولكن دور أنداد أحرار في اختيار طريقهم الخاص بوسائلهم المناسبة، واقتناعهم بأن اختيارهم هذا يتيح للإنسانية فرصة جادة للهروب من الحرب. وعلى ذلك- وخاصة منذ مؤتمر باندونج- فيمكننا أن نلخص تخطيط السياسة العالمية في تيارين متميزين يمكن أن يلتقيا أخيراً. فلم يعد التاريخ يصنع في المصانع والورش الخاصة بالحضارة الصناعية. والفصل الجديد فيه يوضع تحت عنوانين، وتعمل ميزانيته في عمودين، هما: العناصر التي يجلبها الكبار من ناحية، والعناصر التي تجلبها الشعوب الأفرسيوية من ناحية أخرى، تلك الشعوب التي ألقت قناع النسب المجهول (أبناء المستعمرات) الذي فرضه عليها القرن التاشع عشر لكي يخفي شخصيتها، وهذان العنصران المختلفان يؤديان حواراً تتتابع حلقاته في ترتيب جدلي، يتضمن أزواجاً متطابقة في اطراد تكويني تبعاً للتطور الذي حدث منذ عام (1945م): كبار وشعوب أفرسيوية، قوة وعدم عنف، منطقة حرب ومنطقة سلام، استراتيجية التطويق والحياد، استعمار مشترك، وأفرسيوية .... هذه الأزواج ترسم الصورة الراهنة للعالم، وتكشف عن جميع القوى التي تكيف تطوره ومستقبله. وإن جدولها ليسمح من أول وهلة ببعض الاستنتاجات عن إمكان تلاقى التيارين الذين تفسرهما، يسمح لنا على كل حال بأن نستخلص فكرة عن العقد الكبير في تداخل عوامل التاريخ منذ عشر سنوات، وعن حقائقه الأساسية التي تكون في الوقت نفسه العوامل الجوهرية في توجيه السنوات المقبلة. والحق أننا نعرف مقدمات الحوار، ولكننا نجهل نتائجه، فالحياد الذي هو الصورة الأساسية لعدم العنف يعد إجابة على استراتيجية التطويق، ولكنه إجابة لم تفصح بعد عن جميع نتائجها الأخلاقية والسياسية.

وأيضاً فإن فكرة الأفرسيوية التي ولدت نظرياً في باندونج هي إجابة على الاستعمار المشترك، الذي ينتج ضمناً عن التقاء الاهتمام الاستراتيجي بالغريزة الاستعمارية القديمة، التي لم تصف بعد، ولكننا لم نعرف بعد صورتها النهائية، فكل زوج هو مرحلة في الحوار الذي بدأ في العالم، منذ عشر سنوات، بين القوة وعدم العنف. وباندونج هي في الواقع لحظة رئيسية في هذا الحوار، وبهذا يمكننا أن نرد على هؤلاء الذين يرون فيه صورة سلبية للوحدة الأفرسيوية الموجهة ضد الغرب- كما يقولون- فيمكننا أن نجيب بأن هذا التفسير نفسه يكون صورة جد سلبية في تحديد موقف القائلين به من المشكلة الإنسانية، وخاصة فيما يخص السلام، بما أن مؤتمر باندونج كان يهدف في نهاية مناقشته إلى تنظيم قوى العمل والسلام. وعليه فإنهم يكشفون عن نواياهم السيئة حين يرون في هذا الجهد من أجل البناء والسلام شيئاً من السلبية الموجهة ضد الغرب. وفضلاً عن أن هذا التفسير يعبر عن الاتجاه الاستعماري المألوف نحو اعتبار كل قرار يتخذه الخصم الأفرسيوي ليوجه قواه بنفسه إجراء يسلبه حقه، ويهدده بالطرد والحرمان، فإنه يكشف عن شكل خاص من أشكال الحرب الباردة، أعني شكلاً من أشكال الصراع الداخلي بين عناصر القوة، أي بين الرأسمالية والشيوعية. ولهذا الصراع الذي يحتل مقعد الصدارة حالياً- بسبب المخاطر التي يهدد بها العالم- نهايتان ممكنتان، تبعاً للمخرج الذي قد يجده، إما في توقعات القوة، توقعات الحرب التي لا يمكن تحاشيها، وإما في توقعات السلام المقصود في كل الظروف، مهما كانت تلك الظروف. فنحن إذن في هذه المرحلة من التاريخ، حيث يتوقف مصير العالم في نهاية الأمر على الكلمة الأخيرة في الحوار الناشب ضمناً بين القوة وعدم العنف. فإذا

كان الصراع قائماً بين الكبار من الناحية السياسية، أعني بين قوى من النوع نفسه، فإنه ينحصر أخلاقياً بين شقي الضمير الإنساني. ومن الوهم البالغ ألا نرى فيه سوى شكل جديد لصراع الأجناس. كما يريد هؤلاء الذين لم يروا في مؤتمر باندونج إلا شكلاً سلبياً للوحدة الآسيوية موجهاً ضد .. البيض. هذه الأحكام السطحية ليست سوى فيض من اللاشعور مشحون بالعنصرية الطاغية، ولدينا بعض الكتابات الحديثة عن الصين الجديدة، والتي كان لها وقع في الأوساط الأدبية الباريسية، وهي تقدم لنا مثلاً على ذلك. فهي قصة لا شعورية أكثر منها عرضاً للحالة الراهنة في هذا البلد، قصة لاشعورية تظهر بين سطورها انفعالات باطنة تثيرها تلك الحالة عند الكاتب، فإذا به يعطينا في الواقع وصفاً للاشعوره في الوقت الذي يزعم فيه أن يصفها لنا. ومن المؤكد أن كتابات من هذا النوع تدخل في نطاق التحليل النفسي بقدر ما تخضع للنقد الأدبي على الأقل. فبسبب أتوماتيكية داخلية، وبسبب فكرة مسيطرة آلياً، ما زالت المشكلات الإنسانية في الغرب ترد دائماً ولا شعورياً إلى خصومة عنيدة بين الأجناس، وهذه الفكرة المصيطرة المستبدة تتحدى أحياناً أبسط المقاييس، ففي خلال مناقشة حديثة عن المشكلة الجزائرية في البرلمان الفرنسي، حاول أحد النواب المسلمين بشتى الطرق أن يرد أحد زملائه الأوروبيين إلى موضوع المناقشة، بينما لا يريد هذا أن يرى فيها شيئاً سوى الخصومة بين البيض والمستعمَرين. ومع ذلك فبدهي أن مشكلة الجزائر لا يمكن أن تكون مشكلة بيض بالمعنى الذي يقصد إليه تاريخ الإنسان الطبيعي، وهو ما أراد النائب المسلم أن يثير ملاحظته في المناقشة، ولكن دون جدوى لأن البداهة لم تكن لتبرئ الإنسان من فكرة مسيطرة عليه.

ولقد أثار غاندي حين عودته من مؤتمر المائدة المستديرة المنعقد في عام (1931م)، حين توقف في باريس ليلقي محاضرة بناء على طلب بعض أصدقائه، أثار تعليقات صادرة عن بعض الأوساط الأدبية، مطبوعة بالمرض النفسي نفسه. فعلى أثر مناقشات جرت بين المهاتما وبعض المتحدثين البيض تحدث بعضهم في الصحف عن (احتشام العقل الغربي) و (قلة حياء العقل الشرقي) .. ولقد كان هذا قدراً محتوماً على العموم. فإذا اتهموا اليوم باندونج بأنه نوع من التآمر ضد (الحضارة البيضاء) فإنهم لم يتعدوا حدود تقاليدهم الثابتة. وإنها لفكرة مرضية مسيطرة تلك التي تعدل دائماً كلمات الحوار- قوة وعدم عنف- مقدمة كلمة (جنس)، كلما قصد مفهوم (إنسانية)، ولكن الكلمة الأخيرة في هذا الحوار ستقرر مصير العالم، ومن الممكن أن تقرر في نطاق توقعات عدم العنف تبعاً لكل احتمال، لأنه إذا كانت (إرادة القوة) تعمل من أجل الحرب فإن وسائل القوة نفسها تعمل من أجل السلام، حين تخلق كصدى للحالة النفسية التي تهدف إلى السيطرة، حالة نفسية قوامها الخوف، فإذا بطل تأثير القوة بفعل التأثير المضاد، فيجب أن تبقى الكلمة الأخيرة في الحوار لعدم العنف. وأياً ما كان الطريق الذي نسلكه لكي نصل لحل أزمة العالم الذي تعد الحرب الباردة أحد أعراضها المميزة، فإن هذا الطريق سيمر حتماً بباندونج. فقد خلق المؤتمر الأفرسيوي في الواقع مركزاً جديداً لجاذبية التاريخ، وإن مبادئه المستوحاة من الـ ( Panch Shila) أو المبادئ (الخمسة) لتخط الطريق الوحيد للوصول إلى حلف إنساني يعد الطريقة الواقعية لحل الأزمة، في مقابل الميثاق الاستعماري الذي خلقها. إذ من الناحية العملية نجد أن المشكلة الاستعمارية هي التي سيطرت على الوضع الدولي منذ عشر سنوات، بل إن العلاقات بين الكبار أنفسهم لتقع تحت سيطرتها، كما رأينا ذلك في كوريا، وفي الهند الصينية (¬1)، وإذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى قد رفضتا ¬

_ (¬1) كما نرى ذلك في الوقت الذي يوضع فيه الكتاب تحت الطبع. بينما تخلق القوات الانجليزية الفرنسية بمهاجمتها لمصر توتراً خطيراً بين الغرب وروسيا.

اشتراك فرنسا في صياغة بيانهما النهائي عن المؤتمر الأخير الذي انعقد في واشنطن، فذلك لأنهما لم ترغبا على وجه التحديد في وضع ثقل قضية الاستعمار في إفريقية الشمالية على كاهل هذا البيان. وهذه الحيلة الدبلوماسية ترينا كم يحتاج العالم إلى كثير من الوضوح في موقف طال أمده، فإذا اعتقدنا أن هذا الوضوح ضروري في الكلمات والبيانات، فإنه بالتأكيد أكثر ضرورة في النوايا والأعمال. ولكن نوايا الكبار وأعمالهم هي التي تنشئ منذ عشر سنوات سدى القضاء الذي حل بالمصير الإنساني، وإن قلة صراحتهم بالنسبة إلى مصر الملايين من البشر المستعمرين لهي التي تعطي للمؤتمر الأفرسيوي ما يستحق من اهتمام. فالأفرسيوية التي تقرر مصير الكتل البشرية في آسيا وإفريقية على خط نشاط يمتد بدقة من طنجة إلى جاكرتا، ولدت هذه الأفرسيوية كإرادة لهذه الملايين في أن تتضامن ضد الاستعمار الجديد الذي يحاول أن يجرها إلى حرب عالمية ثالثة، وهذا هو رد فعل المشروع الاستعماري الجديد، الذي ينشئ من أجل استراتيجية التطويق نوعاً من تدويل الاستعمار المألوف في شكل استعماري مشترك. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الشكل لا تعوزه سوابق، فالواقع أن تاريخه يتصل بما قبل الحرب العالمية الأولى فإن حرب البوكسر ( Boxers) في الصين الإمبراطورية عام (1900م) كانت مشروعاً للاستعمار المشترك. فقد كان الجنرال الألماني الذي احتل (بكين) يقود كتيبة أوروبية، ولكن المشروع أصبح اليوم أكثر تستراً، لأنه يجب عليه أن يحسب حساباً لتطور العالم، حيث أصبحت بعض الشكليات ضرورية منذ ذلك الحين. فهو يريد أن يستثمر مصالح الاستعمار بطرقه الخاصة. دون أن يرث منه اسمه، إلا إذا أجبرته الظروف على الإعتراف به. ولم تعدم هذه الظروف أن تحلي جيد التاريخ خلال العشر سنوات الأخيرة بعدد من الاعترافات، وخاصة في اللحظة التي تصل فيها مأساة شمالي إفريقية إلى ذروتها، حيث تحطم قوى الاستعمار الغاشمة وجود الشعب الأعزل، وحيث يتمرن (رجال النظام) على إصابة الهدف في أناس من البشر، كذلك الطبيب الجزائري

في تلمسان الذي قتل لأنه رفض فقط أن يبوح بأسماء الثوار الذين عالجهم. ولقد صدرت بعض تصريحات حول هذا الموضوع مفيدة وبغيضة في الوقت نفسه، فمثلاً يمكننا أن نقرأ في صحيفة النيويورك تيمس في عددها الصادر في 2/ 9/ 1955 تعليقاً معبراً تماماً عن الحالة في شمالي إفريقية، حدد فيه كاتبه بخط واحد من قلمه نقطتين هامتين، في النظرة الاستعمارية التي تعتنقها صحيفته الأمريكية الكبرى قال: أ- ((أياً ما كانت عيوب النظام الفرنسي في إفريقية الشمالية فإن فرنسا- في رأيه- هي البلد الوحيد الذي يمكنه حالياً أن يحتفظ بإفريقية الشمالية للعالم الحر)). ب- ((وإن سيطرة فرنسا لهي خير من استبداد إقطاعيين من أبناء المستعمرات، أو خير من الفوضى والحرب الأهلية)). وهنا نجد سمة الاستعمار المشترك، أعني الاستعمار الذي يمر من المرحلة المحلية إلى المرحلة الدولية بالتجاهل نفسه وعدم الاكتراث بمطامح وآلام ملايين المستعمَرين. قد لا نستطيع أن نترجم بصورة أوضح من كلام هذا الصحفى عن مفهوم عالم يمنح الأسبقية لمشكلات القوة؛ التي تهم الكبار على مشكلات (البقاء) التي تخص الشعوب الأفرسيوية. إن الاعتراف لا يمكن أن يكون صريحاً أكثر من هذا: فالاستعمار الفرنسي مجاز صراحة ليقوم بدور البوليس أو الجندرمة لكي يحافظ على إفريقية الشمالية في نطاق (نظام دولي) يسمي نفسه من أجل الظروف باسم (العالم الحر) بينما يكتم عن الناس اسمه الحقيقي. ولكن جرة القلم نفسها، للمحرر الأمريكي نفسه تفيدنا ببقعها بقدر ما تفيدنا صراحة بعباراتها، فإن الاستعمار يظل في مرحلته الجديدة المطابقة للحرب

الباردة وفياً لعبقريته ولتقاليده، فهو لا يغتصب من المستعمر حريته في بساطة ونقاء، إنه يبرر الواقع فيقول: من أجل أن ينقذه من (الاستبداد الإقطاعي)، وهكذا يسلبونه أيضا كرامته، وشرفه الإنساني. وحين قدم رئيس الوزارة الفرنسية إلى الجمعية الوطنية عند عودته من سفره الهائل للجزائر، حين قدم تقريره عن حالة الشعب الجزائري قال فيه: ((إن هذه الحالة في الواقع مريضة واهنة))، ولكن ما السبب الذي نشأت عنه هذه الحالة المحزنة في نظره؛ هو بكل بساطة: ((إن الإقتصاد الإسلامي قد ترك موارد تافهة لهذه الشعوب)) وإذن فليس هو الاقتصاد الاستعماري الذي أحدث أثره الهدام منذ عام (1830م)، إن رئيس الحكومة الفرنسي يرى من الحكمة ألا نتورط في تحديدات محرجة، بينما يمكننا أن نتخلص من هذا الحرج بتصريحات غامضة خادعة ومفيدة. فالاستعمار المشترك يمكنه أن يجد نفسه مستتراً هنالك، حيث يسيطر الاستعمار البسيط إذ يمكنه أن يقدم له أقنعة يمنحه خلفها جميع الامتيازات الاستراتيجية والاقتصادية، كما حدث في مراكش حيث أحرزت سياسة (استراتيجية التطويق) جميع القواعد التي تريد إنشاءها في البلاد، دون أدنى اهتمام برأي الشعب المراكشي أو مصلحته، ودون أن يشعر هذا الشعب بالاستعمار الجديد. ولكن الاستعمار المشترك لا يجد نفسه في كل مكان وفي كل حالة في هذا الوضع المريح، فربما يجد نفسه في نقطة أخرى من خط نشاطه الذي يتفق مع محور العالم الأفرسيوي من طنجة إلى جاكرتا مجبراً على أن يعمل مكشوف الوجه، لا يمكنه أن يتمسك بجهالة النسب، وبكتمان اسمه كما يتمنى. ففي إيران لم يدع نشاطه في مشكلة البترول أي لبس أو غموض، فلقد أرغمه مصدق وحسين فاطمي على أن يلقي قناعه، ويلقي كل أوراقه في مسألة التأميم، وإنها لصفحة مؤلمة من التاريخ بالنسبة إلى الشعب الإيراني، فلقد ترك

لنا مقاول نقل البترول مسيو جورجيس هوليوس ( Gorges Helios) الذي كلفته الشركة الإيرانية الجديدة بتوزيع البترول المؤمم، ترك لنا معلومات ترينا كيف نهب الشعب الإيراني مادياً وأدبياً في أسابيع معدودة، قال: ((لقد عشت أسابيع غير عادية، حيث سيطر الفرس على ثروة أراضيهم، في غمرة انفجار للعظمة الوطنية، ولكن مستودعات البترول فاضت بسرعة خاطفة، وبذلك توقف الانتاج ... )) ثم يفسر المقاول إخفاقه وفشله فيما كلف به، فيقص علينا أنه صادف خلال تلك الأسابيع أبواباً مغلقة في جميع خطواته لتوزيع البترول على السوق العالمية، ولتوفير وسائل نقله، فشركة شل ترفض تأجير ناقلتين، وشركة فرنسية للنقل النهري ترفض أن تؤجر له أو تبيعه أسطولاً من السفن النهرية الصغيرة، وحين فاتح أحد رجال الصناعة بفرنسا لينتهز فرصة سوق مربحة إلى أقصى حد، قال له بكل وقاحة: ((إن ثمنه مؤثراً جداً على ما فيه من تواضع ورخص)) ولكن رجل الصناعة امتنع عن معاملة السوق، لأن هذه السوق لم تعد تخضع- كما نرى- لمجرد القانون الاقتصادي للعرض والطلب بل لقانون آخر .... هو قانون الاستعمار المشترك. والواقع أنه إذا لم تكن المشكلة قد وجدت حلاً على يد مصدق، فإنها لم تكن لتحل أيضاً على يد إنجلترا، أو على الأقل ...... على يد إنجلترا وحدها. فحكومة واشنطن هي التي ساعدتها، اعتماداً على الاتحاد الأمريكي لشركات البترول. لقد تحدثنا فيما مضى عن بعض الأخلاق الجذبية التي تجعل فضائل الغرب دون إشعاع خارج نطاق معين، هو بكل صراحة نطاق الجنس الأبيض. هذا الاعتبار يمتد أيضا إلى المجال القانوني؛ فلقد كشفت مسألة البترول الإيراني عن وجود قوانين جذبية يعدّ تأثيرها باطلاً خارج النطاق المحلي. ونحن نعرف في إفريقية الشمالية شيئاً من هذا، فلقد أجاب وزير اشتراكي على استجواب لأحد النواب عم فضيحة الانتخابات المزورة في الجزائر، فلفت نظر المستجوب إلى أن الحكومة الفرنسية لم تعلق مطلقاً أهمية على هذه الانتخابات.

وجملة القول أن القانون الانتخابي في نظر هذا الوزير لا يكون صحيحاً إلا على الأراضي الفرنسية الأصلية، فهذا إذن قانون جذبي. ومن هذا القبيل، القوانين التي تحمي المواطن الأمريكي من تصرفات اتحاد شركات البترول ( Lois anti-trusts) إنها قوانين جذبية، وقد انكشف هذا على الأقل في مشكلة البترول الإيراني. والواقع أنه منذ عام (1952م) وضعت لجنة هي لجنة (ميردال) تقريراً عن نشاط الترست ( Trusts) البترولي، ولكن علاوة على أن سكرتارية الأمم المتحدة قد حولته إلى ((وثيقة سرية)) لا تنشر، وذلك بناء على طلب من واشنطن، فإن الحكومة الأمريكية، لم تمنحه أي أثر يتفق مع القوانين المضادة للترست، ويجب أن نفهم من هذا أن البترول يعد في نظر واشنطن ((محصولاً استعمارياً)) تخضع سوقه لتشريعات سرية تنظم علاقاته بطريقة خاصة مع البلاد المستعمرة المنتجة، تشبه علاقات اتحاد شركات الفواكه ( United Fruit) مع جمهوريات الموز (¬1). فالمشكلة إذن يجب أن يفصل فيها، لا طبقاً لقوانين، بل لمصالح محددة، هي مصالح الحلف الاستعماري المشترك. ونحن نعرف ماذا تكبدت إيران حيث تجاوزت القضية مجرد التوقعات الاقتصادية لكي تأخذ هيئة تصفية سياسية حقيقية، صفَّت أولاً بطلي التأميم، مصدق وفاطمي، ثم طهرت الجيش وصفوة الزعماء لكي تجعل حياة البلاد كلها في خدمة (استراتيجية التطويق) المتمثلة في حلف بغداد، وإن الاهتمام بهذه التصفية ليتجلى في اعترافات بعض الضباط المحكومِ عليهم بالإعدام خاصة، فلقد اعترف أحدهم بأن قائده- الذي كان محكوماً عليه أيضاً- قد أعاره كتابين يحمالان العنوانين ((الاقتصاد السياسي)) و ((اللإنسان والمجتمع)) وتلك لعمري جريمة لا تغتفر. وهكذا نفهم الأسباب ¬

_ (¬1) جمهوريات في أمريكا الوسطى تتعامل تجارياً مع اتحاد شركات الفواكه، وقد أطلق عليها هذا الاسم في معرض التفكه والمناقشة في أثناء الظروف التي وقعت لجمهورية جواتيمالا منذ أربع سنوات.

الحقيقية التي من أجلها كان العقاب رادعاً، نطق به زاهدي دون شك عن طريق محكمة هزلية. ولكنا نعلم أي نصيب حاسم أسهمت به تلك (النوادي الرياضية) التي كانت في الواقع عصابات في طهران، أو مخلب قط للمخابرات الأمريكية. ولئن كانت الدبلوماسية نشيطة جداً خلال تلك الأحداث الأليمة، فإن صحافة الاستعمار المشترك لم تقف مكتوفة الأيدي، فلقد كانت وكالاتها تشيع في العالم أن سفر الفنيين الذين كانت تستخدمهم شركة الزيت الإيراني قد شل حياة عبدان، بينما نظم اتحاد البترول ((الترست)) في العالم إضراباً عن شراء البترول الإيراني منذ استولى الإيرانيون على امتيازه، مع أن عبدان في الواقع لم تشل بسبب رحيل الفنيين الأجانب، بل لأن مستودعاتها قد فاضت بالبترول، ولهذا فقد لزم توقف الانتاج لانعدام وسائل النقل، ولانعدام سوق تصريفه كما أوضح جورجيس هليوس ( Gorges Heliose) ، فنحن نجد إذن مرة أخرى الأسلوب نفسه، والسلوك التقليدي الأخلاقي والاقتصادي للامتيازات الاستعمارية نفسه، فالاستعمار لا يسلب الرجل المستعمَر حريته، أو ثروته المادية فحسب، بل إنه يلطخ شرفه، ويشوه سمعته من جميع الوجوه. وفضلاً عن ذلك فمنذ أصبح البترول الثروة الجوهرية في اقتصاد كثير من البلاد الإسلامية، وهذه الصحافة تشن حملتها بانتظام للتشنيع مستغلة في ذلك الظروف المختلفة. ففي اللحظة التي ثارت فيها قضية تزويد مصر بالأسلحة التشيكية، انتهز أحد المحررين الفرصة ليلوم الأمريكان على أن ضميرهم لا يرتاب ((عندما تصب شركات البترول في جيوب الحكام الاقطاعيين في البلاد العربية ملايين الدولارات التي تحمي نظاماً منحطاً)) (¬1). ¬

_ (¬1) الإشارة هنا تتوجه بوضوح إلى العربية السعودية، والواقع أن رسوم استخراج البترول لم يسأ استخدامها في هذا البلد من أجل الصالح العام. كما بينا ذلك في مقالة طلبتها منا مجلة أسبوعية تونسية، ولكن يجب أن نقول: إن الصحيفة لم تنشر ما يتعلق بهذا الموضوع في مقالته، وبرهنت هكذا على أن الاستعمار يراقب ما يكتب في الموضوع حتى في صحيفة (وطنية) تونسية.

فهل فكر هذا المحرر لحظة واحدة في أن الشركات البترولية هي التي أسقطت نظام مصدق الديمقراطي، وسلبت الشعب الإيراني الوسائل التي يحقق بها استثماراً منتجاً؛ وربما استطاع رئيس الحكومة السورية السابق- الذي عرضنا فيما سبق رأيه عن إمكان تخطيط اقتصاد البلاد العربية- أن يوضح لنا هذا الموقف. ولكن هل كان محررنا بحاجة إلى ضوء خاص على هذا الموضوع؛ أياً ما كان الأمر، فإن مشكلة البترول قد فصل فيها في نطاق الحرب الباردة، تبعاً لأوامر استراتيجية التطويق، في الظروف نفسها، والعقلية نفسها التي حلت المشكلة الفلسطينية قبلها. فدولة إسرائيل ليست في الواقع سوى رأس جسر أقيم بعناية في قلب العالم العربي، واحتله جيش مكون من أربع مئة ألف رجل مجهزين بوساطة القوى الغربية، ومتخفين بمهارة تحت لواء الصهيونية بالطريقة نفسها التي تستخدمها بعض شركات الملاحة، حين ترفع على سفنها أعلام دول أمريكا الوسطى، لأسباب مختلفة. فالاستعمار المشترك يحب إخفاء اسمه ووجهه بطريقة أو بأخرى، فهو استعمار سري، ولكي يستكمل تخفيه فإنه يستخدم دعاية واعية ماهرة يوهم بها العالم (بعداوته للاستعمار)، وكلما كان موضوع الحديث في الأمم المتحدة يدور حول المشكلة الاستعمارية، وجدنا أن أصوات الدول الغربية الكبرى تذهب في الاتجاه نفسه)) ((أي لصالح الاستعمار)). ولكن تقارير الصحافة لا تفتأ تتحدث عن هذه العداوة للاستعمار، وهي عداوة من نوع نبيل يخدم دبلوماسية الولايات المتحدة، مثلاً. وهناك في الواقع بعد شاسع بين المثالية الديماقراطية لتلك الدولة، والقرارات التي تتخذها في السياسة غير الأوروبية. وعلاوة على ذلك، فإن عداوتها للاستعمار المعلنة على حائط السياسة الدولية تضطرب بسرعة عندما تختبر أمام كفاح الشعوب الأفرسيوية العادي

للاستعمار، تلك الشعوب التي عانت أو ما زالت تعاني محناً هائلة من جراء النظام الاستعماري. فهم يلومون هذه الشعوب على خطئها في تفسير مهمة هيئة الأمم المتحدة، حين ترى في هذه المنظمة منصة للمرافعة ضد النظام الاستعماري. وهكذا يكشف الاستعمار المشترك عن نفسه كلما عجز عن الاحتفاظ بوقار عداوته للاستعمار، العداوة النبيلة، وهو ينكشف في حركاته، كما في قراراته وبياناته. ففي الشرق الأوسط لم يكتف بتثبيت دولة إسرائيل في فلسطين، على حساب ملايين المسلمين المطرودين من بيوتهم وأراضيهم، وبما أن الغاية تبرر الواسطة أو تفرضها، فيجب تدعيم هذا الوضع على أساس توازن ملفق صالح لأن يبقي الدول العربية دائماً في دائرة بن جوريون، وتحت رحمة كماشته، كتلك اللكمة التي كبدت سوريا خمسين روحاً في حادث بحيرة طبرية. ويجب أخيراً ضمان هذا التوازن الملفق بتصريح مشترك، بحيث يكفل بوساطته تفوق الدولة الصهيونية المضمون كوسيلة لإرهاق التطور الاجتماعي والسياسى في العالم العربي. ولقد صدر هذا التصريح فعلاً عام (1950م)، فأكد الخط السياسي المتبع منذ عام (1945م) كلما لاحت ضرورة تحديد موقف مشترك. فمثلاً عندما انفجرت أزمة تزويد مصر بالأسلحة التشيكية في برقية صحفية بتاريخ 27/ 9/ 1955 نجد أن وزارة الخارجية البريطانية تقترح ((أن تتشاور الدول الغربية الثلاث كلما تلقت واحدة منها طلباً للأسلحة من إحدى الدول العربية))، ولم يقل أحد بأن طلباً مماثلاً من جانب إسرائيل يستلزم مثل هذا التشاور بين الثلاثة الكبار، ولكن السكوت هنا معبر ... وفي موطن آخر نجد موقفاً آخر ليس أقل وضوحاً، وذلك عندما اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية أن تحدد موقفها إزاء استخدام أسلحة حلف الأطلنطي في إفريقية الشمالية، لقد تحدث أحد ممثلي هذه الوزارة روبير مورفي ( Robert

Murphy) في رسالة إلى مستجوبه قائلاً: ((إن هدف جميع الحكومات أعضاء الحلف هي أن تواجه فعلاً الاضطرابات الخطيرة في المناطق الخاضعة لحكمها ... )). والذي نفهمه من هذا، بحكم منطق الأشياء، وفي ضوء الأحداث الأليمة الراهنة، هو أن إفريقية الشمالية خاضعة لتشريع قمع واضطهاد يصدق عليه حلف شمالي الأطلنطي، وفي هذا الشكل يظهر الاستعمار المشترك في قمة نشاطه، وحرارة اندفاعه، وفي جوهره النفسي أي في (الروحية الاستعمارية الخالصة) كما يظهر في مدلوله الاستراتيجي الناتج عن الحرب الباردة. فهو انعكاس لحالة التوتر التي تسود محور واشنطن - موسكو على محور طنجة - جاكرتا. وفي شكل هذه التبعية الجديدة بين المحورين تتمثل صورة متطورة للاستعمار، ولكن هذه التبعية لا تنفي ارتباطاً مشتركاً معيناً يظهر في الفعل ورد الفعل المتبادل، والذي سجل اطراده المتطور العالمي الذي انتهى من ناحية إلى باندونج، ومن أخرى إلى جنيف. ولقد كان للمؤتمرين بمشاكلهما وظروفهما ونتائجهما الخاصة في الجو العالمي تشابك جوهري في نطاق هذا الارتباط المشترك، وهو الحقيقة الجديدة الكبرى، والسمة الخاصة بالعصر الحاضر، سمة التلاقي الممكن بين التطورات الراهنة. أما في العاجل، فإن نتائجهما المفاجئة لا تتوافق، ويبدو أنها متعارضة. فقبل باندونج، لم تكن الدراسات المخصصة قليلاً أو كثيراً للعلاقات بين الشعوب الأفرسيوية ودول الكتلتين لم تكن ترى هذه العلاقات إلا في نطاق الحالة العالمية التي تسيطر عليها واقع الحرب الباردة، وعليه فلم يكن أحد ليرى تطور هذه الشعوب إلا في هذا النطاق، فهي لم تكن لها إرادة أو اختيار يمكن تصورهما خارج الكتلتين المتنازعتين، كأن الوضع لا يفرض عليها سوى الاختيار بين الشيوعية والرأسمالية.

فكان من المستحيل أن تختار لنفسها خارج هذا الزوج المتنافر الذي تفرضه حالة عالمية تمر خطوطها السياسية بمركزين هما واشنطن وموسكو، وكان يجب أن تمر بهما جميع خطوط التطور الإنساني. هذه الحتمية قد فات أوانها، فلقد فتحت باندونج باباً ثالثاً للشعوب الأفرسيوية. ويصدق هذا أيضاً بالنسبة إلى العالم أجمع بقدر ما يتخلص من حتمية الحرب. على أنه يبدو أن عالم الكبار قد سجل فعلاً بمؤتمر جنيف اتجاهاً معيناً لأن يلتزم هذا التوجيه السلمي الذي قررت باندونج مغزاه وهدفه، فهناك كثير من نقط التلاقي بين المؤتمرين، ولكن لم يكن هناك اتفاق بين مواضيعهما على طول الخط. وكما سبقت ملاحظته ربما أمكننا أن نذكر كثيراً من نقط الاختلاف في توجيههما الخاص. فمؤتمر جنيف الذي وضع نظرياً نهاية الحرب الباردة. لم يعدل جميع النتائج النفسية والسياسية لفترة ما بعد الحرب، في علاقات الشعوب الأفرسيوية بالكبار. وفكرة جنيف خاصة لم تضع نهاية لما نسميه ((بالاستعمار المشترك)) بل إنها فقط حاولت تغيير مكانه في التخطيط الجديد للعلاقات بين المحورين. ففي التخطيط السابق كان وضعه معروفاً بالزوج (حرب باردة- استعمار مشترك)، ذلك الزوج الذي يصور العلاقة السببية بين الطرفين، فلم يلغ مؤتمر جنيف هذه العلاقة التبعية، بل إنه قد غير مكانها فحسب، بحي نرى كأنه يريد ضمها في زوج جديد. فمشكلة تزويد مصر بالأسلحة التشيكية قد أفسحت المجال لتفسير صريح في هذا السبيل، فقد أعطت التعليقات التي أوحت بها في الصحف، وفي خطب الرسميين لفكرة جنيف تفسيراً يستحق الاهتمام.

فكتبت صحيفة (المانشستر جارديان) في عددها الصادر في 19/ 10/ 1955م تقول: ((ربما كان من الخير أن يتفق الغرب مع روسيا في الشرق الأوسط على أساس سياسة جديدة، لا تسمح لدول صغيرة في هذه المنطقة من العالم، بأن تقوم بمحاولات خطيرة، وهي للأسف غير جديرة بتحمل المسؤولية)). وكتبت صحيفة غربية أخرى، (لوموند) في عددها الصادر في 22/ 10/ 1955م تردد دقات الجرس نفسها، فهي ترى أن ((نشاط إنجلترا الدبلوماسي فيما يخص العالم العربي يجب أن يتجه إلى إقناع الاتحاد السوفييتي بالاعتراف بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، في نطاق مناقشات بين الأربعة الكبار)). وفي هذه السطور تظهر بما لا جدال معه الرغبة والإيحاء ببعض ما يشبه (ميثاقاً استعمارياً) من نوع جديد، وهذا الإيحاء الذي تسوقه الصحافة يأخذ أهميته من الخطب الرسمية بصورة ما، كالخطبة التي ألقاها سير أنتوني إيدن في بورنموث ( Bornemouth) في 8/ 10/ 1955م حيث يرى خليفة تشرشل، بمناسبة أخطار صفقة الأسلحة التشيكية أن: ((هذه بالضبط فرصة أمام الدول الكبرى لكي تتفق على أن تحاول التحكم في نفسها، وتتحد لكي تتحكم في الآخرين، وفي هذا يكمن في رأي التفسير الحق لفكرة جنيف .. )). وحين نلاحظ من ناحية أخرى أن فكرة جنيف تعني التعايش أو الوجود المشترك، فإننا نرى في ضوء تعليقات الصحافة، وبناء على مقترحات رئيس الوزارة البريطانية. أنهم يريدون بتفسير معين للوضع الجديد أن يضعوا في الأوساط الغربية هذه المعادلة. معايشة أو وجود مشترك = استعمار مشترك. وذلك كشرط لاستئناف الحوار بين الشرق والغرب. ***

مشكلة الرجل الأفرسيوي

مُشكِلَة الرَّجُل الأفرسيَوي خضع حظ البشر دائماً لتأثير مزدوج، هو تأثير عوامل التوحيد والتجميع من ناحية، وتأثير عوامل التفرقة والتنويع من ناحية أخرى. وإنه ليخيل إلينا أن العامل الصناعي الذي كان له أثره في أحداث التفرقة والتنويع حتى عشر السنوات الأخيرة. بحيث أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعاً ممتازاً بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، يخيل إلينا أن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئاً فشيئاً نحو الانسجام والوحدة، محتماً عليها بذلك مصيراً مشتركاً. وهكذا نرى منذ حوالي عشر سنوات حتمية معينة موحدة كنا نتصور عواملها في النطاق الميتافيزيقي- أعني وراء العوامل التاريخية- وأصبح تأثيرها واضحاً في مجال التاريخ. على أن المشكلة الإنسانية يجب أن ينظر إليها من كلا الوجهين أي من وجهة العوامل الموحدة، ومن وجهة عوامل التنويع، واضعين تحت أعيننا هذا الموضوع أو ذاك تبعاً لموضوع دراستنا للمشكلة الإنسانية في عمومها، أو دراستنا لها في نطاق طائفة معينة. ومن الواضح أن المشكلة الأولى كانت في فكر باندونج، في جوها الأخلاقي، وفي إطارها العام. ومع ذلك فمما لا نزاع فيه أن مشكلة الرجل الأفرسيوي هي التي كانت مركز اهتمامه، وموضع نظره، وهي التي كانت تعد موضوع بحثه العاجل. ولكن هل كان هذا الموضوع واقعياً بحدوده المرسومة وطبيعته الخاصة؛ إن كل برهان إنما يقوم على صحة قضية ثبت وجودها، فهل هنالك إذن مشكلة الرجل الأفرسيوي ذات حقائق خاصة، ومعنى خاص، وحدود مكانية وزمانية معينة، أعني متصفة بجميع خصائص المشكلة المشخصة؛

إن علمى الاجتماع والتاريخ لا يعطياننا إجابة عاجلة عن هذا السؤال. ولذا ينبغى أن نلجأ إلى طريقة خاصة للاستقصاء، وأن نتصور زائراً من السماء هبط لاستكشاف الأرض. فمن الطبيعي أن جميع المصطلحات الخاصة بتنظيم الأرض تكون غريبة عنه. إذ إنه في عالم مجهول لا يعرف عنه شيئاً، منذ البداية، ولكي نعطي للفرض زيادة في الدقة، يمكننا أن نتصور فضلاً عن ذلك أن زائرنا أصم وأخرس. فمن البيِّن في هذه الحالة أنه لن يدرك أدنى اختلاف بالمعنى الاصطلاحي، أو أي حقيقة تاريخية، أو شيئاً من الحقائق الدينية والسياسية واللغوية، وبصورة أعم صفات الأجناس والألوان أو الخصائص الطارئة على الحياة الإنسانية. فكل هذه الأشياء لا تلفت نظره، ولا تخاطب فكره. والأوضاع الأخلاقية والسياسية وحدود الأنفس والدول في عالمنا لا مفهوم لها عنده، فهو لا يرى من وراء الأشياء تاريخها، بل يرى وجودها فقط؛ وكل ما يعرض له ليس عمليات مطردة مترابطة، بل مجرد أحداث. فهو لا يكتشف في كل ما يقع تحت بصره تطوراً وأسباباً، وإنما حالة معينة وآثاراً عاجلة، فنظرته لا تتجاوز الشكل السطحي أو الجلدي- إن صح التعبير- ولا تمس- طبعاً- الوجه الداخلي أو الحشوي للمشهد الأرضي. والنظر البشري لا يوحي له بأي مضمون روحي بطبيعة الحال. ولا يتمثل له إلا غلافاً أو صورة اجتماعية، فجميع ملاحظاته ومذكراته لا يمكن أن تتصل إلا بالغلاف، وهي لا تدرك فيه إلا الاختلاف الرئيسي، والتباين الصريح الذي يثير انتباهه. وما كان لزائرنا السماوي خاصة في مضمون فرضنا أن يلفت انتباهه لون علم على خط صوري لحدود سياسية، فهو لا يرى أمماً ولا دولاً، لأن الشعوب ليست في هذا المنظر سوى لون خاص. وإنما يشاهد ريفاً، وخطوطاً للمواصلات ومدناً، وتجمعات بشرية. ولا شك أنه يسجل التغيرات التي تطرأ على النظر من مكان إلى مكان كلما تغير ((اللون المحلي)).

ولكن ربما كان الانتقال الذي يثير انتباهه هو التحول الذي ينتج عن انفصال حقيقي في النظر الواقعي، بالنسبة إليه تبعاً لمعادلته الشخصية الخاصة، تلك التي يعبر عنها مضمون فرضنا، وسيكون الانفصال واقعياً حين يؤدي إلى انفصال داخلي في إطاره الشخصى. لأن كل تغير خارجي في مظهر الحياة، وفي نسق هذا المظهر وفي أشكاله يؤدي حتماً إلى تغير داخلي لدى الشخص الملاحظ. ولنفترض الآن، وفي محيط هذا الفرض الذي وضعناه بتحديداته اللازمة، أن زائرنا السماوي قطع المسافة بين واشنطن وموسكو، فمن الواضح أن المشهد الإنساني على طول هذا الطريق لا يحتوي على أي فصل جوهري. وربما استلفت نظر المكتشف لحظةً رؤيةُ (الناطحات) الغريبة الرائعة في نيويورك. ولكن هذه التفاصيل ستذوب حتماً في مجموعة تفاصيل من النوع نفسه، ففي موسكو أنشأ (أسلوب ستالين) بعض ناطحات السحاب أيضاً. فسيصادف مكتشفنا إذن من أول الطريق إلى نهايته اللوحة نفسها التي رسمها كفاح الإنسان وعبقريته. فمن طرف لآخر توجد شبكات الطرق الحديدية والنهرية نفسها، والطابع نفسه الذي يكسو وجه الريف الذي تتدفق منتجاته على المدن الصناعية، المدن الكبيرة ذات الشوارع الواسعة، التي يخيل له أنها تتحرك فيها الحياة في ساعات النهار نفسها، وتتحرك فيها المجموعات نفسها من الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم، ومن الرجال الذاهبين إلى مصانعهم وورشهم ومكاتبهم. ويبدو فيها التنظيم للوقت نفسه كما تدل عليه هذه الحركة المنتظمة التي تحتل الشوارع وتغادرها في ساعات محددة. والتنظيم المدني نفسه بمداخن مصانعه، ومدنه العمالية، وقطارات المترو، ونظم الاضاءة في شوارع التجارة أو الملاهي بالليل. وموجز القول أن نظرة المكتشف السماوي ستصادف اللوحة نفسها من واشنطن إلى موسكو، سترى العامل في مصانع فورد في ديتروا ( Détroit) وزميله

في مصانع (رينولت) في باريس، وزميلهما في مصانع كروب في إسن ( Essen) أو في مصانع مولوتوف في موسكو. فقبل أي تمييز سياسي أو ديني، وقبل أي اعتبار يخص التصنيف الإنساني يمثل هؤلاء العمال في نظره النموذج الاجتماعى نفسه، ولو أنه مد استكشافه نحو ضواحي طوكيو فلن يظهر له (الجنس الأصفر) في ملامح عامل مصانع ميتسوي ( Mitsui)، بل النموذج الاجتماعي نفسه الذي يتحرك داخل اللوحة الإنسانية في ديتروا أو في موسكو. وحتى الآن ليس لدى الزائر السماوي دون شك أي سبب لأن يعقد علاقة سببية بين هذا النموذج الاجتماعي والمنظر الذي يحوطه، ولا أن يبين طبيعة علاقة من أي نوع بين هذين العنصرين في ملاحظته، ولكنه لن يعدم أن يكوّن عنها نوعاً من الارتباط في فكره، يمكنه عندما تسنح الفرصة من أن يصبح تداعياً للمعاني. أعني أساساً للمقارنة. فلنتتبع الآن خطواته في ناحية أخرى على امتداد محور طنجة - جاكرتا. إن المنظر الإنساني يتغير كله، فمنذ الخطوات الأولى تلوح (مدن الأكواخ) المتناثرة هنا وهناك في ضواحي الدار البيضاء مثلاً، فتغير تماماً لون تأثراته وانفعالاته، كأنما قد حدث عنده انفصال باطني في ذاته، داخل إطاره الشخصي. إذ حين يخلص المكتشف في رؤية خاطفة من ناطحات السحاب إلى مدن الصفيح والعشش والأكواخ، يكون التحول عميقاً بحيث يحدث هذا الانفصال الذي يتأكد كلما تابع المكتشف طريقه من طنجة إلى جاكرتا، وجمع في نفسه انفعالات مختلفة من الجزئيات والكليات عن أشكال الحياة الجديدة، تلك التي تراها عيناه في النسق الجديد. إن المنظر الإنساني لم يعد هو الأول، فلا مداخن لمصانع، ولا مدناً صناعية ناشطة في ساعات معينة بالنهار، ساهرة بالليل من أجل الدعاية واللهو.

والإنسان في المنظر الجديد يبدو ساكناً لم يطبع إرادته في تنظيم إطاره اليومي، بحيث ينظم التراب والوقت، فعلى مساحات شاسعة يبدو التراب وكأنه لم يستخدم، فهو بكر لم يمس، أو قل: إنه عاد إلى طبيعته. والوقت يبدو لا شكل له، بحيث يمضي تائهاً، مبعثراً، خامدا، فهو يمر سدى على رؤوس جماهير عاطلة .. واللون المحلي قد تغير من أساسه، وشبع الإنسان الذي يتحرك داخل المنظر الجديد يعد من نموذج اجتماعي جد مختلف عن الأول. والمكتشف يشعر شيئاً فشيئاً بأنه قد تخطى فعلاً حدوداً فاصلة، وأنه قد دخل إلى عالم تعد (مدن الأكواخ) عنصرا جوهرياً في تعريفه، عندما يقارن أكواخ الدار البيضاء بأكواخ كلكتا مثلاً، وعنصراً من عناصر الاختلاف أيضاً عندما يقارن بين مدن الأكواخ ومدن العمال التي صادفها في رحلته الأولى. وعنصر التعريف هذا يستمد قوته من النموذج الاجتماعي، وربما يتساءل الزائر السماوي عما إذا لم يكن الإنسان الذي يراه مستنداً إلى حائط في إحدى مدن إفريقية الشمالية (في الصورة الأولى) هو الإنسان نفسه الذي رآه في إحدى ضواحي كلكتا (في الصورة الثانية) رآه كأنما أضناه سفره الطويل الشاق من كلكتا، فهو يستند الآن إلى حائط ليسترد أنفاسه في إحدى مدن إفريقية الشمالية التي وصل إليها منذ قليل. وعلى كل، فلا يمكننا إلا أن نقارن بين مصير هذين الرجلين مهما كانت الفروق اللغوية والعنصرية والسياسية والدينية التي تفصل بينهما، حتى ولو افترضنا أن المكتشف السماوي يمكنه أن يذكر هذه الفروق. ولكن في الوقت نفسه الذي تقرر في ذهنه القرابة التي توحد هذين الرجلين اللذين لم يصادف نموذجهما في أي بقعة من بقاع المرحلة الأولى، فإن رباطاً آخر يظهر أمام عينيه، ليوحد كلا الكائنين مع الإطار الإنساني الذي يحيط به،

وهكذا يتحد في فكره النموذج الاجتماعي، مع إطاره وبيئته، مكوناً معه مقياساً أو أساساً لمقارنة تسمح له بإدراك وحدة من طنجة إلى جاكرتا، تختلف تماماً عن الوحدة التي سبق أن لاحظها من واشنطن إلى موسكو أو إلى طوكيو. وإنه ليتجلى في عينيه بصرف النظر عن أي اعتبار تاريخي رباط عضوي بين مصير الإنسان والمنظر الذي يحتويه. ولنتصور قبل أن نترجم إلى لغة التاريخ والاجتماع انفعالات هذا المكتشف السماوي، وقبل أن نفسر الوحدة التي سجلها في شكل مزدوج خلال أسفاره الأرضية، لنتصور أنه فضلاً عن وجوده في كل مكان، لديه القدرة على أن يكون موجوداً في كل زمان، ولنرجع معه مثلاً ألف سنة إلى الوراء على محور الزمن، ثم لنتتبع من جديد خطواته ذات السرعة الخارقة، على طول الطريقين السابقين. إن المنظر الإنساني قد تغير كلية، وبكل تأكيد، ولكنه يحتفظ بشيء ثابت، فهو يتمثل مرة أخرى في صورة وحدتين محددتين تماماً في المكان مؤديتين إلى التقسيم الجغرافي نفسه. إن المكتشف سيشعر أيضاً بالانفصال الداخلي نفسه، حين يمر من بقعة إلى أخرى. أي إنه حين يمر من المحور الشمالي إلى المحور الجنوبي، وبالعكس، يشعر بأنه قد اجتاز حدوداً. فإن اللون المحلي قد تغير، وتغير معه النموذج الاجتماعي. ولكن الظاهرة تبدو له الآن في ضوء جديد، فلقد تغيرت الحالة لكلا النموذجين، وتغيرت أيضاً النسبة بينهما. ولكي نترجم هذا الاعتبار إلى لغة أكثر بساطة، يمكن القول بأنه كان من الأنسب أن يولد الإنسان منذ ألف عام على محور طنجة - جاكرتا، فلقد كان للفرد هنالك حظ أوفى وموارد غنية، وإمكانيات كثيرة. ولن تزداد هذه الملاحظة إلا تأييداً لو أن المكتشف يندفع في استقصائه إلى أبعد من ذلك، على المحور نفسه، حتى أنه في أمريكا قبل كولمبس، كانت البقاع التي تكون الآن الولايات المتحدة مسكونة بالقبائل الهندية البدائية، بينما في

الجنوب كانت تمتد بقاع فسيحة، كان النموذج الاجتماعي يعد فيها المعجزة الأزتيكية (¬1) ( Azteque) وحضارة الانكا ( Incas) (¬2) . وبهذه الملاحظات المكانية والزمانية فإن المكتشف السماوي يبدأ الآن يدرك أن الفرد مسير مقدماً وإلى حد كبير بميزاته التاريخية والجغرافية، قبل أن يكون مسيراً بمواهبه الشخصية. حتى إننا نستطيع القول في ضوء هذه الملاحظات بأن الفرد الذي يولد اليوم على محور طنجة - جاكرتا معرض لاحتمال خمسين في المئة لكي يصبح أمياً ومتعطلاً مهما كانت قيمته الشخصية، ولديه أيضاً حظ وفير ليجد نفسه في صورة هذا النموذج الذي يثير الإشفاق، والذي يتمثل في الصورتين المنشورتين هنا. والواقع أنه أياً ما كانت معادلته الشخصية، فإن حظه مرتبط مقدماً بالقانون العام لحتمية تنتج عن انتسابه (الوحدة)) تسيطر عليها مجموعة من العوامل السلبية هي: عوامل الاستعمار، وعوامل القابلية للاستعمار، وهي العوامل التي يرى المكتشف طابعها في المنظر الإنساني، وفي النموذج الاجتماعي الذي يتحرك فيه. فهو يدرك في كل حال أن حظ الإنسان مرتبط بوضع عام، قابل للتغير تبعاً للمكان والزمان. ولنحاول الآن أن تترجم هذه الانعكاسات والانفعالات التي أصابت المكتشف، إلا لغة الاجتماع والتاريخ. ¬

_ (¬1) الأزتيك ( Azteque) شعب من أمريكا قبل عهد الاكتشاف كان يقطن المكسيك حيث أنشأ قاعدته في القرن الثالث عشر المسيحي وأسس حضارة ذات صيت اندثرت بعد الاكتشاف. (¬2) الإنك ( Incas) شعب من أمريكا الجنوبية أسس مملكته في بيرو ( Pérou) خلال القرن العاشر وأنشأ حضارة ربما كانت تفوق حضارة الفاتحين الإسبان.

فنحن نرى أولاً أن هناك مشكلة للرجل الأفرسيوي، وهي متمثلة في المصير المشترك الذي يخيم من طنجة إلى جاكرتا، وفي الوضع العام نفسه، وهو وضع الفرد على هذا المحور، وفي الوحدة الخاصة التي أنشأها النظر الإنساني، والنموذج الاجتماعي في تلك البقاع. ثم إنا نلاحظ أن هذا الوضع العام وهذه الوحدة مستقلان عن الظروف السياسية، والحدود القومية والإطارات العنصرية والجغرافية، بما أنها في نقطة معينة تتغير مع الزمن، وفي لحظة معينة تتغير من محور لآخر. فلو أننا- علاوة على الظروف التي تحدد مكانها بالنسبة لمحور أو لآخر- نأخذ في أعتبارنا طبيعة علاقة هذه الوحدة بحياة الإنسان، فنحن مضطرون بسبب خاصتها الجغرافية والتاريخية والاجتماعية إلى أن نلاحظ أن هذه (الوحدة) تتفق في الزمان وفي الكان مع الرقعة التي تنشأ فيها حضارة ما، أي الحضارة التي تطبع جميع حقائقها الثقافية، وخصائصها الأخلاقية والجمالية والصناعية في النظر الإنساني، وفي النموذج الاجتماعي الذي يتحرك فيه. وعليه، فكل تفكير في مشكلة الإنسان هو في النهاية تفكير في مشكلة الحضارة، ومشكلة الإنسان الأفرسيوي، هي في جوهرها مشكلة حضارة، يعني أن يحقق هذا الأفرسيوي من طنجة إلى جاكرتا وضعاً عاماً متحرراً من العوامل السلبية التي فرضها الاستعمار والقابلية للاستعمار على حياته في هذه المنطقة .. والحق أن الحركات المختلفة للنهضة التي ظهرت منذ خمسين عاماً في العالم الأفرسيوي عامة. وفي العالم الإسلامي خاصة، ليست إلا محاولات لوضع المشكلة ضمناً، وحلها في هذه الصورة. وإحدى هذه المحاولات تستحق الذكر لما كان لها من تأثير فعَّال، وهي تلك المحاولة التي أتاحت لليابان خلال حقبة فذة من العصر الميجي ( L'ère Meiji) أن تجتاز مرحلة دولة من دول القرون الوسطى إلى صف الدول الكبار. ولكن

حركات النهضة لم يتح لها جميعاً التأثير الفعال نفسه، إذ لا يصدر الإنسان فيها عن الفكر المنهجي نفسه. ولقد كانت المحاولات في العالم الإسلامي خاصة متفاوتة في عمقها، لأنها لا تستند على نظرية محددة للأهداف والوسائل، وعلى تخطيط للمراحل. فالواقع أن (المصلح) الإسلامي لم يهتم بأن يرسم برنامجاً لإصلاحه مقدراً أن ((الزمن سيوفق في حل المشكلات)) (¬1) ولم يكن طموحه متوجهاً إلى الخلق والإبداع أكثر مما هو متوجه حتى الآن إلى التقليد. فإذا حللنا جهوده وجدنا فيها حسن النية، ولكننا لا نجد فيها رائحة منهج. بل إن حسن النية هذا قد تنحط قيمته الاجتماعية أثناء التطبيق، سواء بدعوى أولئك الذين يرون أن مستقبل العالم الإسلامي إنما يكمن في إعادة الماضي برمته أم بالتباهي التقدمي الذي يرى- كما يذهب إلى ذلك بعض الكماليين- أن الإصلاح رهن بقطع جميع صلاتنا بالماضي، وأن نؤمن بأننا ننشئ حضارة، أي وضعاً عاماً للحياة، وذلك بمجرد تظاهرهم بأزياء مستعارة- دون توفيق- من حضارة نضجت فعلاً، ومضى طور تكوينها. ولقد كان عهد فاروق العهد الذي يمثل تماماً هذا التظاهر الصبياني وهذا التعلق (بالشيء) الحديث المعرّى عن ((فكرته))، والذي يمكننا- فضلاً عن ذلك - أن نرى مثله الكامل في تلك البضاعة التافهة الترفية التي كانت تكوِّن مجموعة تحفه المشهورة. ويمكننا أن نلاحظ التظاهر الصبياني نفسه حتى في الذوق النسائي في بعض العواصم العربية، حيث تشتري السيدات معاطف الفراء الثمين ليتشبهن بسيدات ¬

_ (¬1) في أحد التحقيقات الحديثة عن تطور المرأة في إفريقية الشمالية قرر كاتب هذا التحقيق في استنتاج أن ((الزمن سيوفق في حل المشكلة الحساسة للمرأة)) وربما لا يمكننا أن نتصور استسلاماً للواقع أكثر من هذا الموقف المتشبع بالقدرية أو الجبرية في التفكير وهو موقف يتخذه مسلم (عصري) أمام مشكلة اجتماعية.

المجتمع الغربي الراقي، واثقات من أنهن يخدمن بهذا التقدم الوطن، ولكن لا يخطر ببالهن- بكل أسف- أن معطف الفراء لا ينسجم أحياناً مع الأوضاع والأجواء تحت شمس بعض البلدان الإسلامية. وهكذا يحدث غالباً أن نرى (الشيء) متقدماً على (الفكرة)، وكأنهم يعتقدون أنهم إنما ينشئون أساساً متيناً لحضارة بـ (كومة) من (الأشياء) المستعارة، التي لا تنفع قليلاً أو كثيراً. وسيكون من الخير أن نعيد التفكير في المشكلة في تلك البلاد بالنسبة إلى طبيعة ما يسمى (الحضارة) معتبرين أن الحضارة- بناء على تعريفها البسيط- ليست (كومة) من الأشياء المتخالفة في النوع، بل هي (كل)، أي مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنافعها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة. ومجموع كهذا لا يمكن أن يتصور على أنه مجرد (تكديس) شبيه (بمجموعة فاروق) بل كبناء، وهندسة أي تحقيق فكرة ومثل أعلى. إن من المفيد دون شك أن نستورد هذه السلة المعدنية- (الشيء) - التي تثبت في جانب شارع كبير في إحدى المدن، حيث يلقي المارة مهملات الأوراق التي لا يريدون وضعها في جيوبهم، أو إلقاؤها على الرصيف، ولكن يجب أن نتيقظ لاستيراد فكرة استعمالها (الفكرة)، وإلا تورطنا في بناء حضارة (شيئية)، أي في تأثيث دكان للخردوات، أو سوق تتكدس فيه التحف غير النافعة، أو جمع بضاعة تافهة تتفاوت في جدواها أو (كومة) لا تنظيم فيها ولا فكرة، كومة تجردت من معناها الاجتماعي. ولقد ذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن يعيب على الفكر الإسلامي الحديث نوعاً من (الذرية) التي يرى صورتها- فيما يبدو- في العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار، وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة.

ونحن نرى أن هذا النقد قد تجاوز حده حين أرجع سبب وجود هذه (الذرية) إلى طبيعة الفكر الإسلامي نفسها، أي إلى تكوينات بيولوجية، ولكن هذا النقد يكون مصيباً لو أننا أرجعناه إلى تكوينات اجتماعية، وتطور تاريحي، بحيث نرى أن الفكر الإسلامي قد أصبح لا يؤدي في المجتمع الإسلامي وظيفته كما ينبغي، وخاصة في حركة النهضة الإسلامية وموقفها أمام مشكلة الحضارة التي تواجهها صراحة أو ضمناً. ويوشك أن تقوم (الذرية) فعلاً في هذا النطاق بتجزئة حل المشكلة إلى ألف جزء وجزء مبعثر، حين يشارفونها في حدود كل يوم تبعاً لطوارئها العاجلة على الحياة اليومية، دون نظر شامل يحدد منذ البداية الهدف، والمرحلة والتوقيت والوسائل. إن من الممكن أن تؤدي الحلول الجزئية إلى حد شامل للمشكلة، ((فكل الطرق تؤدي إلى روما)). ولكن الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق بلا شك، طريق المفاجآت التي تفجأ العقل التائه، طريق السائح غير المتحقق من وجهته أو هدفه. إن طريق الحضارة لا يمكن خطه تبعاً للصدفة، بإقامة مدرسة هنا، ومصنع هناك، وسد هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات التي تريد أن يتخلص منها، وعموماً حين نريد أن نضع شيئاً زائداً في النظر الإنساني. نعم إن سيرنا كيفما اتفق قد يوصلنا إلى حل ... يوماً ... ولكن متى يوافي ذلك اليوم؛. إن الإجابة تستتبع نظرية وخطة وتوقيتاً. ولكن يبدو أن الأمر لا يعلق هكذا بذهن رجال الإصلاح المسلمين، كما أمكننا أن نلاحظه في المؤتمرات الإسلامية الأخيرة، وسنحاول أن نكشف فيما بعد (¬1) عن الأسباب النفسية والاجتماعية لهذا الافتقار في المجتمع الإسلامي الراهن، وسنزيد اهتمامنا ¬

_ (¬1) راجع الفصل الثالث من الباب الثالث من هذا الكتاب.

هنا بتحليل (ميكانيكية النهضة)، كيما نلاحظ نواحي ضعفها في الوقت الذي نلاحظ جهودها الرائعة والمؤثرة أحياناً. فحين تحدثنا عن (الذرية) وعن (الشيء) أثرنا انتباه القارئ بصورة ما إلى هذا الشكل المرضي، ونحن نريد الآن أن نثير انتباهه إلى طبيعة هذا الضعف، ويظهر أنها ناتجة عن طريقين: أ- فأما الأول فينتج عن التخطيط المنهجي الذي ينقلب فيه الوضع المنطقي ضمناً، بحيث يمكننا أن نعبر عنه بالاستعارة القوية في القول الفرنسي المشهور، حين يعبر عن هذا الانقلاب بأنه من قبيل ((وضع المحراث أمام الثور)). ففي كل اطراد طبيعي يحدد السبب الأثر، فلو أننا في إحدى محاولاتنا حاولنا أن نقلب هذا الوضع، فإن التجربة ستنتهي حتماً إلى الفشل. وفي أي اطراد اجتماعي تظل العلاقة بطبيعة الحال هكذا، ولكنها أقل حدة وصرامة، فإن التجربة الاجتماعية ليست تخطيطاً بسيطاً يترجم عن علاقة مباشرة لسبب يؤدي إلى نتيجة محتومة، لأن التجربة الاجتماعية ليست في وقت ما فريدة في نوعها، ولا تتم داخل إناء محكم، فالواقع أن هناك تشابكاً بين الأسباب والنتائج، في كيان معقد يظهر فيه أحياناً انقلاب في الوضع المنطقي، بحيث تسبق النتيجة السبب، ولكن هذا الانقلاب ليس إلا خداع نظر يعود في جوهره إلى تعقد التجربة الاجتماعية، ولا يعود مطلقاً إلى انقلاب في قانونها. ففي قانونها، أعني في نهاية التبسيط النظري الذي يتيح لنا رؤية التجربة الاجتماعية بوضوح في سياق اطرادها، لا تسمح هذه التجربة بوضع المحراث أمام الثور، كما لا يحدث ذلك في عمل الفلاح البسيط. فلو أننا طبقنا هذا البرهان على عملية اطراد الحضارة، فيجب أن ندرك مبدأً صادقاً في كل حالة، ودقيقاً في نهاية الأمر، ذلك المبدأ هو: أن الحضارة هي تصنع منتجاتها، وعليه فلو أننا عكسنا القضية، بأن نحاول صنع حضارة من منتجاتها، فسيكون هذا بكل بساطة من قبيل ((وضع المحراث أمام الثور)).

هذا الانقلاب في الوضع هو الذي يتسم به التقدم الفوضوي البطيء للنهضة الإسلامية، ونحن ندين له بهذا التكديس والتكويم الذي يبدو أنه يقود تطور المجتمع الإسلامي نحو حضارة (شيئية) (¬1). ب- وأما نواحي الضعف الأخرى في النهضة الإسلامية فهي من النوع التاريخي، وهي تتصل باختبار (النموذج)، فكل حضارة تتكون، لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، ويمكن أن يكون هذا مستمداً من الحاضر أو من الماضي أو من كليهما في وقت واحد. ولقد تقسمت النهضة الإسلامية بين جذب المحافظين على الماضي، ودفع التقدميين من أبناء العصر، فالنموذج موجود على أي حال، واختياره يمكن أن يتم بالخضوع للواقع ضمناً ولا شعورياً. ولكن اختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، كما نرى ذلك في الصين، ولذا يجب أن نحسب حساب ارتباط العنصرين: النموذج والمنهج، مهما كانت الظروف. فلاختيار النموذج لا بد من أن نجعل في حسابنا بطبيعة الحال كل الكسب التاريخي والاجتماعي في العالم. فلو راعينا هذا الكسب الذي حققه نصف القرن الماضي، لوجب أن نلاحظ أن المجتمعات المتحضرة الصالحة لأن تقدم إلينا نماذج للتطور في القرن العشرين، هي ثلاثة أنواع: فهناك أولاً المجتمع الغربي الذي شيدت حضارته القرون، والذي يدين للزمن بلونه العتيق، لون الأشياء القديمة الجليلة، تلك التي تحمل شهادة وبرهاناً على تقاليدها القديمة الذائعة، ولا سيما في فرنسا وإنجلترا، ولنا في اليابان نموذج آخر من نماذج المجتمع، حيث كون الفكر المحافظ والعقل الصناعي تركيباً موفقاً كل التوفيق، فنتجت عن ذلك حضارة، يبدو أنها قد اتجهت نحو مشكلات الإمبراطورية أكثر مما اتجهت نحو مشكلات الإنسان، أي نحو مشكلات (القوة) أكثر من مشكلات (البقاء)، ولكن نجاح التجربة كان مذهلاً، إذ حين قادها ¬

_ (¬1) راجع فصل ((من التكديس إلى البناء)) من كتاب ((شروط النهضة)) طبعة دار الفكر بدمشق 1979م.

العقل المنهجي، وحين قادها منطق التأثير الفعال الذي لم يغب عن الميدان لحظة طوال العصر الميجي، انتهى بها الأمر إلى هدفها المنشود وهو: قوة إمبراطورية الشمس المشرقة. وهناك أخيراً روسيا التي تنشئ مجتمعاً من النوع الذي ينشئ نفسه بنفسه ( Self made man) لقد قامت بوسائلها الخاصة متبعة طريقها الخاص، معتمدة فقط على العفل الصناعي؛ فحققت بذلك نظاماً قائما على أسبقية (المجتمع) وانتهى بها الأمر بطبيعة الحال إلى حلول (القوة). وفي مواجهة هذه النماذج الثلاثة نرى مجتمعاً ناشئاً، يقوم في هذه الأيام باختبار نموذجه، تلك هي الصين تحت حكم ماوتسي تونج، الذي ضرب لنا مثلاً. فلقد توفرت لديه كل الدواعي الفكرية والاقتصادية لكي يتجه نحو النموذج السوفييتي، بما أن تخطيطه نفسه يعتمد على المعونة الفنية والاقتصادية الروسية. والصين بعملها هذا قد اختارت أيضاً أسبقية المجتمع، وبالتالي اختارت حلول (القوة) التي حتمت اختيارها لما يسمى (بالصناعة الثقيلة). هذه الاعتبارات تبين لنا بجلاء وكفاية نواحي الضعف في نهضة العالم الإسلامي التي نريد أن نلفت إليها الانتباه هنا، فهذا العالم لم يختر حتى الآن المنهج أو النموذج، ولقد كان من المتوقع بحكم اتصاله بالبحر الأبيض المتوسط أن نراه يتجه نحو الغرب محتفظاً بأصالته في تعديل النموذج الغربي، بل أكثر من ذلك في تطويعه لتطوره الخاص، آخذاً في اعتباره تأخره من جهة، ومناهج التعجيل بحركة التاريخ من جهة أخرى، تلك المناهج التي ظهر تأثيرها في بلاد أخرى خلال نصف القرن الأخير. وإن حيرته في هذا السبيل لناتجة عن عوامل مختلفة، سنتولى بحثها فيما بعد. خاصة عن ذلك الاستسلام للواقع الذي لم يتكيف طبقاً لتعميم الحركة

الديكارتية في العالم حيث سادت تاريخ القرن العشرين وطبعت تطوره بأسلوب خاص هو (الأسلوب العالمي). والنهضة الإسلامية في مراكزها الثقافية- هنالك حيث تتجلى بوضوح فكرتها ويتجسم جهدها- لا تعطي الصورة الناطقة الواضحة عن أنها قد اختارت بالفعل نموذجاً. وإنما يمكن القول بأنها تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تختره، بل فرض عليها تلقائياً، من أذواق القوم، كأنما ليجنبهم مشقة التفكير في هذا الاختيار. ونحن حين نشعر شعوراً خفيفاً في دراستنا السريعة بأن أستاذ النهضة الإسلامية هو الغرب، نرى أنها تريد حين تريد أن تفصل ثوبها على نموذج هذا الأستاذ تقلد بجهالة عثرة مقصه، ولكن عندما تكون الرغبة في صنع الثوب من مادة التاريخ فيجب أن نعرف قدر أنفسنا، وأن نعرف النموذج الذي نختاره. كيما نعرف مقدار حريتنا الضرورية بالنسبة إليه لتحقيق ذواتنا فيما نصنع، حتى لا نكون نسخة مكررة من غيرنا، فالعالم الإسلامي على وجه الخصوص لا يمكنه ولا يجب عليه أن يتتبع جميع الدروب والمنعرجات على طول الطريق الذي سلكه الغرب، فليس لديه من القرون مثل ما كان لنموذجه، وهو لذلك ملزم باقتباس طرق التاريخ المختصرة التي لم تقتبسها الحضارة الغربية، إذ كان أمامها من الوقت ما يكفيها، وإذن فلا لزوم مطلقاً لآن يقيس على نموذج معد تماماً، فالأمر هنا ليس أمر (نقل) تطور بحذافيره، وإنما هو أمر تلخيصه فيما هو جوهري وعام، فإذا كان النموذج يرتدي قبعة أو (كاسكتة) فإن هذه الأغطية ليست بداهة فضائله أو قيمه العامة، وربما كان من المضحك أن نستعيرها منه بمحض التقليد، كما سيكون من السخف والسخرية أن نقف في مواجهته بطريقة صبيانية متشبثين بذلك الطربوش الأحمر لكي نعلن به عن شخصيتنا. إن من الواجب أن نتخلى عن هذه الأزمة الصبيانية المنبثة في أنحاء العالم الإسلامي بتفاصيلها الغريبة ... المضحكة أحياناً.

فعندما نرى مثلاً في إحدى المصالح العامة في بعض العواصم العربية فريقاً من الناس يلبس القبعة وفريقاً آخر ما زال يرتدي الطربوش، نفهم من هذا أننا في مجتمع لم يحدد بعد اختياره بوضوح، وفي مثل هذا الموقف ليس نوع غطاء الرأس هو الذي يهمنا، بل نوع الأزمة الصبيانية التي يعدّ غطاء الرأس عرضاً من أعراضها. وعندما نلخص هذه الاعتبارات عن الحقبة الراهنة في العالم الإسلامي نلاحظ اعتراضه وعدم اكتراثه بكل جهد للتعميم، حتى كأنه لا يحب أن يخضع لمنطق القواعد، أي للمبدأ الجوهري في كل حضارة، بينما الحضارة في جوهرها نوع من القهر ينفي لدى الفرد والجماعة صفات البدائية المترحلة، وخاصة صورتها العقلية. فالبدوي الراحل يضرب في الأرض على غير هدى من هدفه، لأن فكره لا يخضع لهدف الطريق الذي يفرضه منهج بحيث يمكننا أن نلخص القول بأن الاختيار الضمني للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، قد تم عن تنكر كامل تقريباً للنموذج، ولفضائله الواقعية، ولقيمه العامة. ويكفينا في إيضاح هذه النقطة أن نذكر أن الموسيقى العربية الحديثة لا تستمد وحيها من الأساتذة الكلاسيكيين في الغرب، بل إنها تبحث عنه في (أغانيه العاطفية) ولا حاجة بنا إلى تحليل برنامج إذاعي إذ يكفينا أن نصغي إلى بعض الإذاعات في بعض العواصم العربية لكي نقتنع بهذا الرأي. ويجب أن نؤكد بطريق العكس أن الذوق الغربى كان يدرك تماماً (استشراقه) أعني معرفته بالشرق عندما يستوحيه، وهذا الجزء من البرنامج الموسيقي الغربى يحتوي على مقطوعات من أمثال: (في سوق فارس) تترجم تماماً عن الجو الخاص، وعن الوفاء لمصدر الإلهام. وعلى العكس من ذلك نجد (اللون المحلي) للحياة الغربية ينعدم في الموسيقى العربية الحديثة فيما خلا بعض الألحان المتطرفة، وأحياناً بعض المقطوعات التي استوردها الغرب نفسه من خارج إطاره.

فالذوق العربي لا يدرك تماماً (استغرابه)؛ لأنه لم يفكر في مشكلة النموذج، ولم يضع هذه المشكلة، وقد نتج عن هذا في مجموعة سلبية في التأثير يمكن أن نتصورها بالمقارنة بين حدثين متعاصرين، فالنهضة الإسلامية هي في الواقع معاصرة للعصر الميجي، توأمها في اليابان، وشهادة ميلاد الحركتين يمكن أن تحمل التاريخ نفسه، أي عام (1868م)، ومع ذلك فإن نتائجها الخاصة تنطبع في منظرين إنسانيين جد مختلفين، حتى إن الزائر السماوي لا يمكنه أن يخلط بينهما. كما تبين ذلك في هذا الفصل. فقد اجتازت اليابان في نصف قرن المرحلة التي تفصل محور طنجة - جاكرتا عن محور واشنطن - موسكو. إن مشكلة الحضارة تتجسم دائماً في الشروط نفسها التي تملي علينا أنه يجب إحداث التركيب التاريخي التكويني للإنسان والتراب والوقت، فإذا واجهت اليابان هذه المشكلة بطريقة منهجية عن قصد، بحيث اختارت النموذج الغربي وهي تعلم ما هو جوهري رئيسي في اختيارها. فإن المشكلة قد واجهت العالم الإسلامي، وهي في طريقها إلى أن تنحل من تلقاء نفسها، بقوة الأشياء لا بحكم الفكر. وعليه، فالعالم الأفرسيوي وهو اليوم في ساعة الاختيار، يجب أن يأخذ في اعتباره هذه التجارب ونتائجها المختلفة. فهناك كسب تاريخي واجتماعي في العالم المعاصر، يمكن أن يستغله الرجل الأفرسيوي ليرقي تجربته الخاصة، ولقد رأينا فعلاً هذه التجربة تتكون وتنمو، وقدم لنا الاتحاد الهندي مثالاً عليها في محاولة أصيلة تتركب خلالها (الفنية) الديكارتية مع (الروحية) الغاندية، وهو مثال قائم على مواجهة مشكلة الاختيار والمنهج، ففي مناقشة مشروع التصنيع في الهند وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد اشتراكي (فبراير 1956م) غربلت الحلول المعروضة، وكانت هنالك مقابلة بين الحلول، لا طبقاً للحقائق الاقتصادية فحسب، بل مع اعتبار العوامل الإنسانية

الخالصة، ولقد قدم نهرو مشروعه في ضوء معرفة تامة بالقضية مبيناً في عرضه كيف ((كانت الثورة الصناعية في الغرب بطيئة وديمقراطية بحيث تمت في قرن من الزمان، وكيف أن ثورة روسيا الصناعية قد أنجزت في سرعة لم تتجاوز ثلاثين سنة، ولكن ليس في صورة ديمقراطية)). وقد وضح نهرو بهذا دون جدال أن هناك اختياراً يتجنب بطء منهج معين، وعنف الآخر. وإن هذه التجربة لتتجاوز النطاق المحلي بصورة مزدوجة حين نحسب حساب نتائجها الخاصة، فهي من حيث كونها حاملة لمبدأ (عدم العنف) تتيح للسلام العالمي فرصة من أحسن الفرص، وهي من حيث كونها تهدف إلى بناء نظام جديد تتيح لكثير من الجماعات الإنسانية فرصاً واقعية للتخلص من مصير النموذج الاجتماعي الذي تمثله الصورتان المنشورتان في هذا الفصل؛ فهي تهم - كمثالٍ، وكدافعٍ- ملايين البشر الذين يعيشون على محور طنجة - جاكرتا. ***

الجزء الثاني

الجزء الثاني بِنَاءُ الْفِكْرةِ الْأَفْرسْيَوِيَّةِ - صفحة من التاريخ - أوان المسؤولية - الكتلة العربية الآسيوية - مشكلة الحضارة - نظرات عامة في الثقافة الأفرسيوية - مبادئ اقتصاد أفرسيوي فعال

صفحة من التاريخ

صَفْحَةٌ مِنَ التَّارِيخِ إن تقارير الصحافة التي خصصت لباندونج قد رأت في هذا الحدث عنواناً لفصل جديد من التاريخ، وربما كان هذا الفصل محاطاً بهالة أسطورية تسيطر على الأصول البعيدة للفكرة الأفرسيوية. وربما كان لهذه الفكرة أسطورتها المزخرفة ذات الإطار الغامض كسائر الأساطير. فلقد قالوا: إن زعماء الهند وأندونيسيا قد اجتمعوا في أحد البلاد بجنوب أوروبا خلال صيف عام (1972م) ليشتركوا في بحث حالة بلادهم الخاصة، والمشكلات التي تثيرها الامتيازات الاستعمارية من ناحية، والنشاط المضاد للاستعمار من ناحية أخرى. ولكن المبدأ الأفرسيوي لم يدخل التاريخ إلا في باندونج، وربما كانت الأقدار تعد هذا المكان التاريخي لتلك الولادة. فقبل خمسة أعوام حدث في إطاره الفخم حادث ذو دلالة، في يونيو (1950م) حين خاطب نهرو جماعة من الطلبة الأندونيسيين، فصاغ ضمناً نظرية العمل الضروري لتغيير الوضع في بلد في مرحلة أندونيسيا، بحيث تخلق في هذه المرحلة السابقة على الحضارة الشروط التي تتفق مع نمو الإنسان. قال: ((إن العمل الشاق، والتعاون الوفير ضروريان، إذا ما أردنا بناء هذه الأمة الجديدة الحرة، أما الذين يضيِّعون مواهبهم في الثرترة، وفي المناقشة، وفي المنازعات التافهة فإنهم لا يخدمون بحق بلادهم)). هذه الكلمات التي تهدف إلى تحويل ضمير صفوة من الشباب إلى منطق الإيجابية في التأثير، وإلى مستوى الواقع، هذه الكلمات لا تعتمد في الحقيقة على مضمون قومي معين، بل على مضمون اجتماعي ونفسي مشترك بين البلاد الأفرسيوية، حيث تجتاز هذه البلاد أزمة مشتركة في تاريخها، وحيث تجد نفسها في المرحلة نفسها من مراحل تطورها، وبذلك كانت تلك الكلمات كأنها

المقدمة النظرية لمؤتمر باندونج حيث قد تكررت في مداولاته بصور مختلفة بالاهتمام نفسه الذي لا يخص هذه المرة بلداً بعينه، وإنما يخص نصف الإنسانية، وحيث ترجمت هذه المرة عن الرغبة في أن تترابط هذه الشعوب، بأسرع ما يمكن، في مرحلة للبناء ذات تأثير فعَّال إلى أقصى حد. إن المرحلة الثورية التي بدأت مع الحركة التحريرية في هذه البلاد يجب أن تنتهي. وأعظم خطر يواجهه بلد مكافح ضد استبداد معين هو أن تطول ثورته، ويستقر على القلق والفوضى، وحكم الغوغاء الذي ينتج عن هذه الثورة. ولقد تعرضت بعض بلاد أمريكا الجنوبية لمثل هذا الوضع، فشلَّ تطورها، بقدر ما شله النظام الاستعماري نفسه، قبل تحررها. فمن المهمات الأولية الأساسية بالنسبة إلى بلد حقق ثورته أن ينظم قواه الثورية التي حررته، كيما يشرع في مهمته الرئيسية، مهمة بناء نظامه الاجتماعي. ولا شك في أن هذا هو المغزى الذي كان يتضح صراحة في مؤتمر باندونج، الذي سجل ميلاد الفكرة الأفرسيوية. إن الأحداث التاريخية لا تحمل الشحنة نفسها من التاريخ، وقليل جداً منها الذي يحمل شحنة الفكرة الأفرسيوية لأنها ذات وزن كبير في التطورات المستقبلة في العالم، فإن لها نتائجها على كلا المحورين في وقت واحد، وبعض هذه النتائج يتصل بالمشكلات الخاصة بالعالم الأفرسيوي، وبعضها الآخر يتصل بالحالة العالمية العامة. وحين تحدث هذه الشحنة تأثيرها الأخلاقي والسياسي على محور واشنطن - موسكو، فإن إحدى نتائجها الهامة جداً ستكون تغيير العلاقات الفاسدة التي تقررت بين شقي الإنسانية خلال القرن التاسع عشر. فأي محاولة نقوم بها لتخطيط هذه العلاقات قبل عشر سنوات أو عشرين سنة، أي إبان العصر الاستعماري، تضطرنا إلى أن نرمز إليها ببعض السهام المتعارضة كيما نشير إلى قوى متنافرة تدل خطوطها على ذلك التنافر المتبادل بين الاستعمار العنصري وقوميات الشعوب المستعمرة المطالبة بحقوقها.

وستكون إحدى نتائج الفكرة الأفرسيوية في النطاق العالمي هي التغيير المستمر لهذا التخطيط الخاص بالعصر الاستعماري إلى وضع آخر، قد تتغير فيه طبيعة العلاقات من أساسها. إذ من الممكن أن تحل محل قوات التنافر والطرد الحالية قوات جذب، كلما سكن دوي الأحداث، وانقضى زمن الأحقاد. ومن التوقع أن تخلق الفكرة الأفرسيوية من نفسها علاقات جديدة حتى لا تكون نتيجتها في المجال العالمي- فيما وراء المظاهر الحالية- انفصالاً بين المحورين، بل على طول الزمن (اتصالاً) وثيقاً بينهما. أي بين الأجناس التي فرَّق بينها الاستعمار خالق التفرقة العنصرية. ومن حيث كونها جهداً للتحرر والتنظيم، فمن اللازم أن تتيح هذه الفكرة للشعوب الأفرسيوية أن تجتاز بعد مرحلة الفوضى الثورية، كي تتصل اتصالاً أكثر صلاحاً مع المجموعات الإنسانية المتطورة على المحور الآخر. وبالفعل، فإن بعض المراقبين الغربيين الذين خصصوا ملاحظاتهم عن الروابط بين آسيا وأوروبا يرون أن ثقافة أوروبا، وحضارتها تتغلغلان أكثر في البلاد الآسيوية ((بقدر ما تتحرر آسيا من قيود الاستعمار)). والحق أن هذه الملاحظة صادقة، ليس فقط بالنسبة إلى القارتين الأوروبية والآسيوية- بل بالنسبة إلى المحورين، فكل تغيير اجتماعي في حياة الشعوب الأفرسيوية له نتيجة نفسية في المحور الآخر، وأثر في التقريب بينهما. وسنحلل فيما بعد بصورة أكثر تفصيلاً هذا الشكل، مبينين الدور غير المباشر الذي تؤديه أوروبا في هذا التقريب الهادف إلى توحيد العالم. على أية حال فإننا نرى أن الفكره الآفرسيوية تقدم للعالم رسالة اتحاد وأخوة. أما في العاجل، فإن مؤتمر باندونج يبدو في مظهر مزدوج؛ حسب نظرنا إليه بالنسبة إلى فكرة (القوة) أو فكرة (البقاء) وهو يمثل بالنسبة إلى الرجل

الأفرسيوي بلا جدال الصفحة الأولى في تاريخ حضارة جديدة، إذ كان قبل كل شيء لحظة تفكير في مشكلة (البقاء) وخطوة أولى في طريق الحل. ثم إنه كان في مظهره الآخر أحد فصول الحرب الباردة، وحدثاً يؤثر على ميزان (استراتيجية التطويق) وعلى نظريات هيئات أركان الحرب فيمكن القول بأنه سجل في مغزى زمننا لحظة نفسية هامة في الحوار الدائر بين القوة والبقاء. وأياً ما كان المظهر الذي نتصور تحته أهمية مؤتمر باندونج؛ فإن هذه الأهمية لا تنتج عن كمية وطبيعة المشكلات التي عولجت فعلاً خلال مناقشاته بل إنها تصدر عن كمية من المشكلات الأخرى التي نحيت بقصد أو عن غير قصد من هذه المناقشات، ولكنها ظلت في حيز القوة في التطور الاجتماعي والاستراتيجي الناتج عنه في الحالة العالمية، أي إنها ظلت كاحتمالات وعبارات مؤجلة في الحوار الناشب بين المحورين. فهناك إذن ناحية مفاجئة في هذا التطور قد يحدث توقعها بعض القلق في العقول التي تعودت التعبير عن الواقع الإنساني بالأرقام. ولعل هذا القلق هو الذي بدأ في كلام مستر دلاس؛ عندما أعلن قبل انعقاد المؤتمر بأيام لبعض مندوبي الصحف تصريحاً عن باندونج قال فيه: ((إن أهداف هذا المؤتمر تبدو- له- مختلطة وغامضة)). والواقع أن هذا التصريح يترجم عن إدراكه المشوب ببعض الحيرة والارتباك لتحوُّل عدد من عناصر (القوة)، إلى عناصر (عدم عنف) أكثر من أن يترجم عن سفسطة رجل مثل (دلاس). فالقوى التي يمثلها مؤتمر باندونج تكون فعلاً- في نظره- رصيداً له وزنه وتأتيره في مفهوم الاستراتيجية في العالم. إن هذه القوى التي كانت بسبب هذا المفهوم في رصيد الحرب الباردة أي متجهة إلى أن تعمل بصورة أو بأخرى كعوامل (قوة) قد تحول خط نشاطها واستقر بصورة ما على محور (عدم العنف)، بوساطة مؤتمر باندونغ.

ونظرة إلى خريطة البلاد التي اشتركت في المؤتمر ترينا الأهمية الاستثنائية لهذا الانقلاب والتحول الذي حدث للقوى، ويدرك بها جيداً رجل الاستراتيجية مثل دلاس أهميته الخاصة، حين يأخذ في اعتباره الوضع الجغرافي للعالم الأفرسيوي؛ واطراده ووحدته على الخريطة. فإذا حسبنا حساب المساحات والحشود الأفرسيوية من الناحية الاستراتيجية، لعلمنا أي ثقل خطير ألقى به مؤتمر باندونج في ميزان التاريخ. فالعوامل الجغرافية السياسية الفعالة في الموقف تعبر في الواقع عن تحول حقيقي إلى السلام الذي فرضته قوة الأشياء، أعني السلام الذي فرضه منطق الوقائع المحسة المسيطرة على منطق الحرب. والحق أن الحرب تفقد منطقها هنالك حيث تفقد وسائلها التي هي المساحات الجغرافية والحشود البشرية. فإذا بباندونج حين سخرت المساحات والجموع الأفرسيوية لبناء حضارة، قد قلبت قلباً مادياً المنطق الذي كان يستدرج العالم إلى الحرب العالمية الثالثة، بل إنها قبل أي إفصاح عن النوايا بمجرد ثقل العناصر المؤتمرة في ميزانيات القوة قد قلبت المفاهيم الاستراتيجية، وخطط أركان الحرب على محور: واشنطن - موسكو. ولكن هذا الانقلاب السلمي لم يحدث صدفة، بقوة عناصره وحدها وبفعل خمودها وحده، فإن هناك نية، وإرادة أكيدة للسلام، تتضح صراحة في نظرية سياسية هي: الحياد. فإن هدف باندونغ العاجل، والاهتمام الشامل الناتج عن هذا الهدف قد تأكدا دون نزاع بالنسبة إلى البلاد التي أرسلت مندوبيها إلى المؤتمر، أو على الأقل بالنسبة إلى أغلبيتها، رغبة في الهرب من كابوس الحرب، ولارادتها بمقتضى ذلك أن تنظم نفسها، أي أن تدعم بجميع الوسائل وفي جميع الميادين فرص السلام. وكل تأثير آخر للمؤتمر الأفرسيوي في نمو البلاد المشتركة فيه ينتج بصورة غير مباشرة عن الظروف العالمية وعن أسرارها الغيبية، وعن التداخل الطارئ للقوى الروحية والمادية لمليار من البشر التقوا واجتمعوا على هدف واحد، وعلى فكرة محددة هي: السلام.

« .......... خريطة جغرافية .......... ھ» الدول التي حضرت مؤتمر باندونج هي: الهند، باكستان، سيلان، بورما، إندونيسيا، أفغانستان، العربية السعودية، كمبوديا، ساحل الذهب، الصين، مصر، أثيوبيا، العراق، إيران، اليا بان، الأردن، لاوس، لبنان، ليبيا، نيبال، الفلبين، سيام، السودان، سورية، تركيا، فيتنام الشمالية والجنوبية، اليمن.

ولقد بدا لمؤرخي المستقبل أن جوهر الموضوع يتمثل في هذا الهدف وفي تلك الفكرة بصورة أقل مما يتمثل في النمو الاجتماعي؛ الذي حدث بعد ذلك إثر المناقشات التاريخية التي نتجت عنها الفكرة الأفرسيوية. ولكن عصرنا، فيما عدا الدول الكبرى، قد أدرك تماماً أن إنقاذ السلام يعني إنقاذ كل شىء، وبدت القوى الروحية والمادية التي التقت في مؤتمر باندونج كأنها تكوّن القاعدة العظيمة للسلام، فلم تكن الكلمات الأولى للمندوبين، مجرد تحيات رسمية، بل كانت تعبيراً دقيقاً مقصوداً من أجل مبادئه، وتدعيمها بالرأي المناسب. فعل ذلك جمال عبد الناصر منذ كلمته الأولى؛ حين قال مردداً ومزكياً تصريحات نهرو أثناء سفره إلى بكين: ((إن إقرار السلام ليس معناه انعدام الحرب، بل معناه التوجيه الرشيد للجهود في سبيل خلق مجتمع عالمي متعايش)). فهذا التعريف لإقرار السلام ألقى في الواقع نظرة على الهدف العاجل للمؤتمر، ونظرة أخرى على أهدافه المتوقعة البعيدة. وفي هذا التعريف يرتبط أيضا المغزى السياسي بالمغزى التاريخي، بحيث يقرران معاً الأهمية المزدوجة للمؤتمر الأفرسيوي كجهد دولي يدمج مشكلة السلام في العالم في توقع حضارة جديدة تبنيها سواعد مليار من البشر المنتسبين إلى جميع مراحل التطور الإنساني. والمشكلتان في الواقع متحدثان، والوسائل التي تستخدم لحل إحداهما، هي نفسها التي تستخدم لحل الأخرى، وهي الوسائل الراهنة الموجودة في حوزة الشعوب الأفرسيوية، والمتمثلة في مواردها الروحية والمادية. ومما يجب أن يذكر، أن باندونج كان مؤتمراً للبلدان المتخلفة، باستثناء واحدة أو اثنتين تقريباً، أعني البلدان التي ما زالت تعاني بقايا القابلية للاستعمار، والاستعمار، من نقص الأغذية، والأمية وازدياد السكان.

ويجب أن نذكر أيضاً أن جميع العقائد والأديان كانت ممثلة فيه، حتى الديانة المسيحية، في شخص الأسقف مكاريوس. وهكذا تظهر الإمكانيات التي تتحكم فيها هذه المجموعة المتنوعة في أفكارها وأصولها ومجتمعاتها، كما تظهر عوامل الضعف فيها، وتنوع كهذا، يمكنه بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام، وإلقاء الأسس الروحية والصناعية لتشييد حضارة الرجل الأفرسيوي، وتهيئة الظروف النفسية والزمنية لإقامة (مجتمع عالمي متعايش). وإنما تعبر هذه الرغبة عن توقعات عصر تهدف فلسفته واتجاهاته العميقة إلى أن تبلغ- على أي احتمال- ((عهداً عالمياً)) وإنها لبالغته حتماً. وطبيعي أن جميع الإمكانيات والمصاعب في هذا الطريق يمكن تقديرها في ضوء الحقائق السياسية والاقتصادية الخاصة بمصير محور طنجة - جاكرتا، وهذه الحقائق دالة في الوقت نفسه على البعد الروحي والاجتماعي بين هذا المحور، ومحور القوة بحيث تصوغ أقرب مقياس لما يجب إنجازه من مهام. إن ثماني عشرة دولة من دول باندونج التسعة والعشرين أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وثلاث عشرة دولة من مجموعة دول كولمبو، وهذه المجموعة تخصص من حيث المبدأ ميزانية مكونة من ثلاثة آلاف مليون من الجنيهات الاسترلينية لترقية التجهيز الزراعى، ولتصنيع جنوبي شرقى آسيا. ويمكننا أن نكون فكرة عن التأثير النسبي لخطة استثمار كهذا حين نأخذ في اعتبارنا بعض الحقائق البيانية عن المستوى الاجتماعى والاقتصادي للمنطقة التي نتحدث عنها. فإن دخلها الكلي لا يتجاوز في الواقع 25،000 مليوناً من الدولارات، أي ما يقرب من 8% من الدخل العالمي، ومتوسط دخل الفرد فيها لا يتجاوز 56 دولاراً في السنة في مقابل 1823 دولاراً في الولايات المتحدة الأمريكية و765 في إنجلترا. وهذا الدخل يتدرج بين حد أقصى: 200 دولاراً في اليابان، وهي دولة ترتبط في الواقع بمحور القوة، ولكنها مثلت في باندونج، حد أدنى: 38 دولاراً في ليبيريا، وهذا الرقم الأخير يقترب أكثر من الواقع الأفرسيوي، ويفسر

من الناحية الكمية خط النموذج الاجتماعي الذي استخدمنا عينتين منه في عنونة الفصل السابق. هذه الأرقام بما بينها من تفاوت على المحور نفسه، تدل على الأهمية الأخلاقية والسياسية لاتصال دولي مثل هذا بين دول مختلفة في درجة النمو، رغم انتسابها إلى نظم سياسية متعارضة، ورغم اختيارها لنماذج ومناهج مختلفة، إذا ما نظرنا مثلاً إلى الصين واليابان، أو إلى اليابان وساحل الذهب. فهي تبرز إرادة هذه الشعوب كلها أن تشترك في مصير واحد: وأن تتحمل بهذا مسؤولياتها الخاصة في مصير العالم، في اللحظة التي أصبح فيها العالم بين شقي الحرب والسلام. ولقد اجتازت هذه الشعوب التي استردت استقلالها السياسى على تفاوت فيما بينها، اجتازت وهي في طريقها إلى باندونج مرحلة مهمة في سبيل استقلالها الأدبي. فحتى ذلك الوقت لم تظفر مشكلات كل هذه الشعوب ببحث كامل إلا في المؤتمرات التي تستلهم وحيها من ((الميثاق الاستعماري)) ومن الاستراتيجية العالمية، أي في ظروف أخلاقية وفنية ووجهت فيها المشكلات بمنطق القوة أكثر من أن تواجه بمنطق (البقاء) بينما لا يمكن أن يتم الاستقلال في هذا الميدان إلا إذا استقر في الأذهان أولية مشكلات (البقاء). ولقد كان أحد الذين حاولوا بعث هذه الشعوب (علي ساسترو ميدجوجو) مدركاً لتلك المسؤوليات الضخام، ولعظم رسالة هذه الشعوب المتخلفة وضرورة بعثها، بينما لم تكن الفكرة الموجهة نفسها قد تجاوزت مرحلة التكوّن، كان ذلك حين قال كمقدمة لهذا الحدث الدولي: ((إن الفكرة التي نشأت إبان مؤتمر كولمبو قد شقت طريقها وأثبتت أنها جديرة بالحياة))، ثم أضاف: ((وإن شعوبنا لمدركة أن مصيرنا إنما يصدر عن أعمالنا، وجهدنا الخاص، لا عن دول توجد خارج آسيا)).

وطبيعى أن يصطدم هذا الاستقلال السياسي والأدبي الذي تجسم في مؤتمر باندونج وفي سير مناقشاته بالعرف والعادات والتقاليد، تلك المعانى التي كونت منذ زمن بعيد مقاييس العصر الاستعماري. ولقد نفهم من هذا أن تأثير هذه الصدمة على الضمير في الغرب يحتمل أن يوجه رد الفعل توجيهاً سلبياً بقدر كبير. وبالفعل رأينا كلمات تروج في الصحافة كنا قد اعتقدنا أن زمنها قد فات، فلم تعد لها قيمة. فإذا بهم يتحدثون عن ((الخطر الآسيوي)) ويبعثون ((الخطر الأصفر)) من قبره إلى الخطر الذي كان الحجة العليا لدبلوماسية (وليم الثانى) حين أراد أن يلفت الرأي العام العالمي الذي أقلقته كلمة أخرى شائعة أعلن فيها هذا الإمبراطور شعاراً ألمانياً حين قال: ((إن إمبراطوريتنا لقائمة على المياه)). وتحدثوا أيضاً أو تهامسوا عن (الخطر الإسلامي). وتلك هي نفسية الاستعمار القديمة، فهو عندما يستنفد كل مبرراته، ولا سيما مبرر (القوة) نجده يستخدم جند الأشباح القديمة مفتخراً برسالة (ناشر الحضارة) أمام (المتوحشين الإفريقيين) المؤبدين، وأمام (الهمج الآسيويين). وبذلك دلت قرائن الأحوال على أن حجة الاستعمار لم تنفد، بل إنها غير قابلة للنفاد، فلقد تجددت مع باندونج، وأصبحت كلمة باندونج نفسها مفتاح التفسير السياسى للأحداث عند البعض، إذ عندما تجري الأحداث على غير ما يرضي المصالح الاستعمارية، نراهم ينسبونها إلى تأثير المؤتمر الأفرسيوي. ففى خلال مناقشات دارت في البرلمان الفرنسي عن مسألة الجزائر كانت باندونج هي شاشة عرض المناقشات المتصلة بموضوع الإدراج المفاجئ للقضية في جدول أعمال الأمم المتحدة، فأعلن المتحدث باسم الحكومة في المجلس ((أن مؤتمر باندونج - كان وسيكون ذا نتائج خطيرة، مع أننا لم نتوقع له أن يحدث انقلاباً كهذا في العالم .. )) فالمسؤول الفرنسي لا يرى طبعاً في هذه النتائج الخطيرة التحول الذي يمكن أن يطرأ في الوضع الإنساني على محور طنجة - جاكرتا،

ولا يرى أيضاً انعكاساته الأخلاقية على محور القوة، خاصة لصالح السلام، فكأنه مجبر إذن بمرض السيطرة الموروث على أن يترجم إلى لغة القوة ما وضعته باندونج من مصطلحات (البقاء)، وهكذا تنقلب العلاقات في العقل الغربي كما تنقلب الألوان في التجربة السالبة (في التصوير) وذلك حين يتصل الأمر بأحداث خارج أوروبا: فهو يرى أسود ما يجب أن يكون أبيض في الواقع الأفرسيوي، وإن إعادة هذا الواقع إلى لونه الحقيقي في العقل الغربي، سواء من الناحية النفسية أم السياسية لهو من المشكلات الهامة التي يتعين على العالم أن يحلها من أجل خلاصه. والأفرسيوية نفسها يجب أن تمنحه الأهمية التي يتطلبها في إطار العلاقات الدولية، مع الاهتمام بحلها عن طريق الاقناع. وعلى كل، فإن (فكرة باندونج) قد دخلت التاريخ وهي تؤكد استقلال الشعوب الأفرسيوية السياسي والأدبي، كما ذكر السيد بانيكار في مقالة لفتت الأنظار في الغرب، قال فيها: ((إن مؤتمر باندونج يعتبر التأكيد الأول الصريح لحق الشعوب الآسيوية والافريقية في أن تدير شؤونها الخاصة في نطاق استقلالها)). ولقد كتب بعض المراقبين الغربيين المتحررين من الأفكار الاستعمارية والاستراتيجية عن هذا التأكيد قائلين بأن النزعة المضادة للاستعمار في الهند وفي أندونيسيا وفي بورما أو في مصر لم تظهر خلال المؤتمر كعداء مقصود موجه ضد المراكز الفرنسية ((متى تخلصت هذه المراكز من مغزى الاستعمار)). كما لاحظوا أيضاً في هذه النزعة المعادية للاستعمار رغبة أصحابها في ألا يثيروا (المنازعات الاستعمارية) بل على العكس من ذلك كانوا يريدون أن يساعدوا على تسويتها بالحوار وتبادل الآراء. كما لم يفتهم الاعتدال الذي برهن عليه موقف المندوبين في مسائل النزاع، كما برهن على يقظتهم حين نددوا (بلغة المهرجين) التي استخدمها بعضهم على منبر المؤتمر نفسه، فأثرت

هذه الجوانب في نفوس أولئك المراقبين، فبعثوا بتقارير مخلصة إلى بلادهم يطلقون فيها على المؤتمر (مؤتمر الكرامة)، وليست هذه أقل ميزات المؤتمر الفعالة، لو أننا أوليناه مظهره الأخلاقي ما يستحق من الاهتمام، وهذا لازم في الموقف الذي تقف فيه الإنسانية الآن على عتبة عصر ذري، يقتضي علاقات إنسانية خالصة بين المحورين. فإذا بقي العالم معطلاً بصورة ما في طريق تطوره التاريخى منذ عشر سنوات، فإنما ذلك لانعدام أي سلطة أخلاقية تتدخل لتنقذه من العطل، وتقيمه على الطريق، وتعدل من سيره. وعليه، فمن المهم- قبل كل شيء- أن تظهر الفكرة الأفرسيوية كقوة أخلاقية صالحة لأن تبعث على نمو الشعوب الأفرسيوية، وتحافظ على التوافق والانسجام بين مقتضيات هذا النمو، والمصلحة العليا للإنسانية. وأخيراً: ما التقويم الفعلي الذي خلفه أسبوع باندونج؛ لقد خلف أولاً مجهوداً نظريا كاملاً صدر به بيانه النهائي. فالمبادئ المقررة في هذا البيان فيما يخص التعاون الاقتصادي والثقافي، والتعاون في الدفاع عن الحقوق الإنسانية، وعن حق الشعوب المطلق في تقرير مصيرها، وفي الجهد المشترك لحل مشكلة الشعوب المتخلفة، وفي السعي من أجل السلام والتعاون الدولي، هذه المبادئى تكوِّن في مجموعها منوالاً يستطيع التاريخ أن ينسج عليه ثوبه الوقور. وفضلاً عن ذلك فإن المؤتمر الأفرسيوي قد أعطانا مثالاً ذا قيمة عالمية، مثالاً لم يفت محرر (صحيفة بكين) الصادرة في عاصمة الصين حيث قدر محررها استنادا إلى نتائج المؤتمر: ((أن المشكلات الجوهرية العديدة التي تتصل بأوروبا وبالأمن الدولي يجب أن تحل على نسق مؤتمر باندونج حيث تم الاتفاق على المسائل الرئيسية .. )). ولعل الكبار قد حققوا هم الآخرون هذا الاقتراح حين اجتمعوا بدورهم في جنيف لبحث المسائل المعلقة، ولكي يضعوا نهاية للحرب الباردة على أية حال.

إن مؤتمر باندونج لم يصل بعد إلى جميع نتائجه، فإن الأغلبية ما زالت في حيز القوة سواء في الإطار النفسي أم في الإطار الزمني. ولكن البذور التي ألقاها هذا المؤتمر في مهب التاريخ تحمل (فكرتي قوة) يمكنهما أن تصنعا معجزة هذا العصر حين يتم لهما التفتح والازدهار، فلقد غرس الفكرة الأفرسيوية التي ربما غيرت وجه الإنسان الذي يعيش بين طنجة وجاكرتا، وغرس في شكل مبدأ الحياد نواة لنفسية جديدة للسلام. مغيرة مفهومه تبعاً لتوجيه (عدم العنف) الذي يملي على المرء أن يكون صديقاً لجميع الناس، ولجميع المبادئ، عدواً للحرب. ولعل هذه الفكرة تغير وجه التاريخ حين تزدهر في الضمير الإنساني. ***

أوان المسؤولية

أوَان المسؤولِيَّة عندما يكون التاريخ في مفترق الطرق، يصبح اختيار الإنسان كأنه هو المقدر لكل شيء، وعندما يتم هذا الاختيار يصبح الأمر كأن الإنسان قد ضغط فعلاً بأصبعه على (زر) المصير، فحرك بذلك الأقدار، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه تيار الأحداث العارم. ومنذ تلك اللحظة يكون كل شيء قد قدر، وتكون السفينة قد اتجهت إلى خيرها أو شرها. ولقد عرف التاريخ الإسلامي لحظة كهذه في معركة صفين، تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية، بين المدينة ودمشق، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الأسري، ولقد اختار المجتمع الإسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تاريخه الطريق الذي قاده أخيرا .. أخيراً إلى القابلية للاستعمار، وإلى الاستعمار. ولقد وضع عام (1945م) الدول الكبرى أمام فرصة للمساهمة في التجديد الإنساني، فترك الكبار الفرصة تمر هباء، واليوم تقف الشعوب الأفرسيوية في ساعة الاختيار التي دقت، ودقت معها ساعة مسؤولية زعمائها وقادتها، فباندونج قد وضعت هذه الشعوب أمام مشكلات عضوية يفرضها بقاؤها، ومشكلات للاتجاه تفرضها الحالة العالمية. وفي كل ناحية يوجد اختيار حاسم في المجالات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية جميعاً. ولا شك أن مناقشات المؤتمر الأفرسيوي قد تخطت من الناحية النظرية النطاق الذي تتم فيه التطورات الضرورية على محور طنجة - جاكرتا، فعبرت عن الحرمان الذي يعانيه العالم من انعدام السلطة الأخلاقية، وأوجدت في الوقت

نفسه الفرصة لغرس هذه السلطة في الضمير الإنساني، حين تدعو هذا الضمير إلى أن يتأمل بطريقة أكثر موضوعية، حين وضعته، أمام درس (عدم العنف) كي يتأمله بطريقة جدية. ولكن باندونج أيضاً تعتبر قبل كل شيء تقويماً لإمكانيات المستقبل، وقد أصبح على الإنسانية أن تحيل هذه الإمكانيات إلى واقع مُحَس يترجم الأفكار التي ولدت خلال المناقشات إلى سلوك محدد، وإلى تحقيق فعلي، مؤثر يغير حالة الرجل الأفرسيوي. فمسؤوليات الزعماء والقادة خطيرة جداً أمام ما يصادفهم من عقبات ومغريات، وعليهم أن يلاحظوا أن تاريخ الشعوب الأفرسيوية لم يتحرر بعد من طرق التفكير والعمل التي كانت تسير عليها في عصر الاستعمار وعصر الثورة. وهذه الملاحظة تضع المشكلة في الإطار النفسي حيث يكون الأمر أمر تخليص هذه الشعوب من تورط مزدوج. ففي مرحلة الهدم، أي في الطريق إلى الهدف الجوهري من كل ثورة عنيفة، تصلح أي حجة، أو على الأقل تبدو أنها صالحة، وبما أنها توجه كل وسائلها إلى الهدم فإن جميع الوسائل تصير عندها صالحة عموماً، إذ من المعتقد في مثل هذه المرحلة أن من الواجب مواجهة الميكافيلية الاستعمارية، تلك التي ترى أن جميع الحجج والوسائل صالحة، بمكيافيلية ثورية تصنع من كل حطب سهماً، أي تستخدم جميع الوسائل للوصول إلى أهدافها. ولئن كانت العقبات التي يتحتم على النشاط الثوري أن ينتصر عليها ضخمة، وتستلزم أشرف التضحيات، وأطهر البطولات، فإن إغراء الفكر الثوري كبير لكي يتخذ طريق السهولة، وهذا هو أخطر إغراء يتعرض له الزعماء وقادة الجماهير. فإذا جاء بعد ذلك عصر الجهد البنائي، والمهام الموضوعية، وجدناهم متحيرين في أهدافهم، محبوسين في ميكيافيليتهم، مختبلين في منطقهم الذي كان من الجائز أن يكون مؤتراً فعالاً في مرحلة الاضطراب،

ولكنه يصبح بالياً متأخراً، غير فعال عندما يشارفون اختبارات مشكلات البقاء والتوجيه. فلو أننا لعبنا خلال الحقبة الثورية بمفتاح (الحقوق) - وهو ما يحدث غالباً- فسيكون من الصعب علينا أن نستخدم فيما بعد مفتاح ((الواجبات))، إذ إن الإغراء، على أن يستمر القادة في اللعبة نفسها، قاهر غلاب. ونادر ذلك الرجل الذي يرضى بالمراهنة على اللعب بمفتاح (الواجبات) منذ البداية. أما الأنبياء فإنهم جميعاً قد ارتضوا هذا الرهان، حين دعوا الناس إلى طريق الجهد والكفاح والكمال والتقدم. ولكن الزعماء السياسيين يتعرضون لمخدر (الحقوق) حين يدعون الشعوب إلى طريق السهولة الذي يقودها أحياناً إلى الكوارث الاجتماعية وإلى المغامرات السياسية. ولقد هرب غاندي من هذا المنحدر، حين اختار طريق الكفاح، طريق من يعمل على تغيير ما بنفسه كيما يتغلب على نقائصه ومظاهر ضعفه الأخلاقية والاجتماعية، فقد كان يأبى أن يواجه الميكيافيلية الاستعمارية بميكيافيلية أخرى، بل بالحقيقة المجردة، فهو لم يواجه القوة بشيء سوى عدم العنف. لقد هرب من الإغراء الضخم الذي يجذب الزعماء إلى طريق السهولة، ولم تكن نجاته من هذا الإغراء لطهارة نواياه، أعني صفاته الأخلاقية التي نعرف مغزاها وصرامتها لدى (المهاتما)، ولكن أيضاً لأنه وضع مشكلة تحرير بلاده أمام العقل. لقد هرب غاندي من مخدر السهولة بفضل مواهبه الأخلاقية والعقلية معاً. فلو أحببنا أن نرى في أعماله طابع القديسين، فينبغي علينا أن نرى فيها أيضاً عمل رجل مكافح، وهو على علم تام بالقضية، وإنما يواجه قضية تحرير بلاده على أساس اختصاص الاجتماعي الذي يحلل نقائض بلاده، أكثر من أن

يواجهها على أساس اختصاص السياسي الذي يطالب بالحقوق، لأنه يعترف بأن (التغير القومي) لا يمكن أن يقوم على بطولة الزعماء، أو مِنحِ السلطات الاستعمارية. وتدل هذه النظرية التي أعلنها غاندي يوم افتتاح الكلية المركزية للجامعة الهندية- التي كانت أولاً مؤسسة مس آني بيزانت- على أنه منذ بدء حياته السياسية كان يتكلم بلسان مربي الأمة، بلسان المهرج، ولا بلسان السياسي فقط. فالواقع أنه كان يشعر بأن المشكلة مشكلة حضارة، وكان يعبر في الواقع عن هذا الشعور حين يقول لمحدثه المندهش: ((لن تستحق الهند حقها في الحرية طالما كان المار على الرصيف في شوارع مدنها مثل بومباي، معرضاً للبصق من شباك فوقه)) فهذه الفكرة ليست فكرة سياسي فقط، إذ كان غاندي يدين منذ بدء حياته السياسية بفكرة تكوينية عن (الحق)، حيث يرى جذوره في (الواجب)، وبالتالي فقد اختار الواجب على أنه الأصل؛ ونحن ندرك أهمية هذا الاختيار وتأتيره الخطير الحاسم، ليس فقط على مرحلة ثورية، وإنما على عصر البناء الاجتماعي الذي جاء بعدها. فلقد وفر الشعب الهندي على نفسه عبء أزمة أخلاقية حين ارتبط كفاحه من أجل الاستقلال بطريق الواجب تحت قيادة غاندي. فلم يعرف الصدمة التي تأتي عقب التحرر. ولم يعرف الانهيار الذي يعقب هيجان الحمى، ذلك الانهيار الذي عانته شعوب أخرى منذ عام (1945م)، عندما هبط المد الثوري، وانجلى السراب الفوضوي، وبرزت الوقائع الأصلية، وخلصت المشكلات من ضباب الخرافات والتهاويل، وسيطر على الأذهان نوع من خيبة الأمل والانكسار. لقد عانت شعوب كبيرة وشعوب صغيرة، وما زالت تعاني من هذه الأزمة - أزمة النمو والتكيف مع الأوضاع الجديدة- بصور مختلفة، حتى يمكننا أن نحدد رد الفعل الذي عانته هذه الشعوب بصورة عنيفة أو بصورة ساكنة

راكدة، ففي أندونيسيا مثلاً نجد حمى جماعة (دار الإسلام) (¬1) وفي ليبيا نجد جموداً وخموداً، وهي أعراض تدل على أن هذه البلاد لم تهضم بعد وضعها التحرري تماماً. هذه الأزمات هي بلا نزاع نتيجة للمنهج الذي حقق تحرر البلاد نتيجة للطريق الخاص الذي اتبعته، أعني ثمرة اختيار أولى، أو ثمرة عدم الاختيار، أما الطريقة التي كان يمكن بها تجنب أزمة التحرر هذه، والتي تصلح اليوم لمواجهة المشكلات العضوية كلها في مرحلة النمو والتشييد، فإن الاختيار فيها يرتكز أساساً على مناهج السهولة أو مناهج التقشف والمشقة أي على الطرق التي تتصل (بالحقوق) والأخرى التي تتصل (بالواجبات) وإن هذا الاختيار ليحدد أسلوب المجتمع كله. وسلوكه السياسي، ونموه الاجتماعي، وبصفة خاصة سياسته في استثمار موارده. وهناك علاقة بين (الحق- والواجب) تسيطر على جميع نواحي التطور الاجتماعي، وهي صالحة لأن تصور لنا ثلاثة أساليب مختلفة للتطور، وأن توضح لنا الفروق الجوهرية بين ثلاثة نماذج للمجتمعات، ويمكننا أن نضع هذه العلاقة في صورة جبرية هي: واجب + حق= صفر (¬2) وتحت هذه الصورة توضح العلاقة أن اختيار مجتمع يعني بالنسبة إليه نمواً صاعداً أعني (نهضة) حين يكون الاختيار في الصورة الجبرية إيجابياً، وهذا الاختيار يتفق في التخطيط الاقتصادي مثلاً مع زيادة قوى الإنتاج بالنسبة إلى حاجات الاستهلاك، وتدل هذه الزيادة على إمكانيات الاستثمار لدى المجتمع، ¬

_ (¬1) حزب سياسي يدعو كما يبدو إلى تأليف دولة إسلامية. (¬2) هذه الصورة في الجبر تسمى اللامعادلة ( Inégalité) وتعني أنه إذا كان الواجب متفوقاً على الحق كانت النتيجة إيجابية أي فوق الصفر، وإن كان الحق متفوقاً على الواجب، كانت سلبية أي تحت الصفر، وإن كانا متساويين كان الناتج صفراً، وهي من وضع المؤلف .. (المترجم).

ذلك الذي حدد اختياره على تلك الصورة. وإذا كان الاختيار سلبياً، فإنه يدل على أن نموذج المجتمع نموذج هابط له، ولا شك، نهايته، وبين هذين الاختيارين يوجد نموذج ساكن يقف بين النهضة والتقهقر بصورة اختيار تتمثل فيه ((نعم .. ولا))، وتساوي صفراً في الصورة الجبرية. وفي ضوء هذه الاعتبارات ندرك دور القيم الأخلاقية في نمو المجتمع حتى من ناحية العمليات الاقتصادية، لأنه إذا كانت طبيعة المشكلات هي التي تحدد (الاختيار) لدى القادة والزعماء، فإنه يتم في نطاق التاريخ بإرادة الشعوب، وتبعاً لهواها، وأوضاعها الأخلاقية. وتحت عيني الآن إحصاء عن الخسائر المفجعة المتسببة عن إدمان الخمر في بلد ذي ثقافة كبرى، وحضارة قديمة، وهو يشير إلى تقويم رهيب من ناحية الصحة العامة. ولكنا ننظر إليه بالنسبة إلى الحياة القومية كلها، إذ تفرض المصيبة عليها حملاً ثقيلاً يذهب بقدر كبير من إمكانيات نموها في الميدان الاجتماعي والمدني والاقتصادي. وحتى في المجال العلمي نجد أن هذا البلد مشلول بفعل الامتصاص الأليم لأدواته وموارده المالية بقدر كبير، بما أن (الكحولية) تمتص سنوياً من هذه الأمة بصورة أو بأخرى ما يقرب من ألف وست مئة مليار من الفرنكات. وعليه فهذا النزيف الذي يكون بطبيعة الحال مشكلة عضوية جوهرية لهذا البلد، يفرض في الواقع مشكلة أخلاقية جوهرية تخص مسؤولية القادة عن اختيار أساسي لخطتهم السياسية كلها، وتخص سلوك الشعب إزاء هذا الاختيار. ومن الخطورة بمكان أن يبرر هؤلاء الزعماء عدم حسمهم للمشكلة بتمسكهم بالحريات الديمقراطية، وأن يلجأ شعب هكذا إلى نوع من الانتحار الجماعي لأن قادته قد تخلوا عن مسؤوليتهم. وطبيعي أن المشكلة ليست بهذه الصورة في بلد إسلامي معين، لأن الظروف النفسية والاجتماعية مختلفة. ولكنا حين نرى مثلاً أسرة بورجوازية (متوسطة)

في الجزائر، وهي ملاحظة مسجلة عام (1931م)، تستخدم لاستهلاكها وحدها مئة كيلو من الزبد في الشهر، فمن الواضح أن مثل هذه الحالة من الشراهة والتفريط والتهاون، دليل على تطور خاضع لعلاقة سلبية بين (الحق والواجب). والشعوب الأفرسيوية تواجه اليوم حشداً هائلاً من المشكلات العضوية التي يفرضها بقاؤها، فإذا لم يتحدد سلوكها واتجاه قادتها على طريق النهضة بصورة منهجية وفعالة، تتمثل في علاقة إيجابية بين الحق والواجب، فستجد هذه الشعوب نفسها متورطة بقوة الأشياء في عملية تقهقر أو خمود. فباندونج قد آذنت إذن بساعة فاصلة في حياة الشعوب والقادة الأفرسيويين حين وضعت أمامهما المشكلات العضوية، وكانت لحظة فاصلة وحاسمة أيضاً بالنسبة إلى الاختيار- ربما تزايدت درجة خطورتها بقدر أهميته في نطاق آخر- في نطاق مشكلات الاتجاه. إن ظروف الحرب الباردة حين أكدت نتيجة الثورة الصناعية، والتطور التاريخي، قد ربطت في الواقع ما بين المشكلات، وفي هذه الظروف وتبعاً لهذا الأثر المزدوج، لا يمكن أن تنعزل المشكلة القومية عن المضمون الإقليمي، وفي مقام آخر عن المضمون العالمي. ولقد برهن التحليل التاريخي والاجتماعي السابق لمشكلة الرجل الأفرسيوي على أنها مرتبطة بظرف عام في إطار معين، رمزنا إليه بمحور طنجة - جاكرتا، وفي هذا الإطار ارتباط بين المشكلات نتج عن الظروف الحالية؛ وهو يقتضي نوعاً من التنظيم والأسبقية فيما بينها، فإذا كانت القضية توضع بالنسبة إلى المشكلات العضوية- التي طرحت على بساط البحث في باندونج أو نتجت عنها- في سؤال عن الصلة التكوينية بين الحق والواجب فإنها توضع فيما يتعلق بمشكلات الاتجاه في سؤال عن السلام، أو الحرب؛ ومعلوم أن مسألة الاتجاه قد صارت من المسائل الأساسية المطلقة، إذ ليس من الممكن في الظروف الحالية أن نتصور بناء أجتماعياً وسياسياً دون أن نقدر

عوامل السلام أو الحرب. وليس من الممكن أن نثبت دعائم الحرية، وأن نشيد حضارة في أي مكان دون أن نقدر الظروف العامة لعالم متقلب. فكل ما يتصل بوضع قومي أو إقليمي أصبح يخضع لواقع عالمي صارم، يفرض اختياراً أساسياً يكون بمثابة اختبار للتصفية في موضوع اختيارنا بين الحرب أو السلام، فمن غير الممكن أن ندخل في تطور عالمي له سرعة واتجاه معينان، دون أن نجتاز هذا الاختبار الحاسم، ولقد ضربت لنا الهند مثلاً موفقاً في اجتيازه. فبفضل ما أحرزت من اتجاه تحت تأثير فكرة (عدم العنف) دخلت الهند إلى العالم من طريق السلام الذي فرض على دبلوماسيتها مبدأ (الحياد)، الذي كان أحد الموضوعات الجوهرية في باندونج. ولقد اجتازت الهند بهذه الطريقة اختبار التصفية، بحيث احتفظت لنفسها بأكبر قدر ممكن من فرص النمو في عالم يزداد اضطراباً يوماً بعد يوم. وهي بعملها هذا أنقذت أيضاً فرصة تكوين (منطقة سلام)، يمكن أن نعتبرها منذ ذلك الحين موطن ((الفكرة الأفرسيوية)). وسندع للمؤرخين الذين سيتمكنون من استخلاص نتائج الظروف التي يجتازها العالم الآن، والتي ما زال يجهل نهايتها، سندع لهم مهمة القول إذا ما كانت النجاة النهائية اللإنسانية قد تحققت فعلاً في هذا الموطن. وعلى كل، فنحن نرى أن المشكلات العضوية، ومشكلات التوجيه مرتبطة بعضها ببعض، مع أسبقية مشكلات الاتجاه لأنها تفرض أسبقية الحرب والسلام. فمن غير الممكن أن ننظر إلى مشكلة الحرية مستقلة عن مشكلة السلام. ومن المقرر أن مصير الإنسان في الظروف الحاضرة يعتمد أولاً على هذا الأساس العالمى. فلا يمكن أن نحقق وجود الرجل الأفرسيوي دون أن نأخذ في حسابنا هذا الأساس، وإلا كان بناؤنا على حافة الهاوية الرهيبة، حيث تهدد الحرب الذرية بهدم البناء الإنساني كله.

وإنه لإنذار إلى الفوضويين من كل نوع، أولئك الذين يعتقدون أنهم يفصلون في المشكلات الخطيرة التي تواجه العالم بمحض الثرثرة، تلك الثرثرة التي أوشكت أن تزعج مناقشات باندونج نفسها، حين أرادت تحويلها إلى ملاكمة شفوية، تحمل طابع التظاهر بالعداوة للاستعمار أحياناً وللشيوعية أحياناً أخرى. ومن المشجع دون شك أن نلاحظ أن الفكرة الأفرسيوية قد رأت النور في باندونج، في أرض الإسلام، وأن نلاحظ النصيب الموفور الذي أسهم به مندوبو أندونيسيا ومصر. ولكن تقلب بعض القادة المسلمين في انتقالهم من الحملة على الاستعمار إلى الحملة على الشيوعية، قد دل على أن المغزى العميق لمناقشات المؤتمر قد فاتهم، سواء فيما يتعلق بالمشكلات العضوية أم بمشكلات الاتجاه. ولقد كانت بعض مراحل هذه المناقشات قاسية بصفة خاصة وذلك عندما كان الحوار يتوقف ليخلي مكاناً للهذر والثرثرة، حيث ينفسح المجال للميل إلى السهولة، وحب السلطان. ولقد اجتاز المؤتمر ظروفاً عانى فيها بعض الضغط من الداخل، كما عانى نشاط جماعة (دار الإسلام) من الخارج، بحيث وضعت هذه الظروف ضمناً مشكلة القيادات في العالم الإسلامي أمام مسؤولياتها القومية والدولية. ففي المجال (القومي) سجلت الثورة المصرية خطوة حاسمة في تطور العالم الإسلامي، حين سجلت ظهور قيادة فنية أعقبت القيادة الفوضوية القديمة، وقد كان لهذا الحادث مدلوله الرئيسي؛ لأنه كون بالنسبة إلى المشكلات العضوية نموذجاً في المجتمع الإسلامي، حيث أصبحت الأسبقية مقررة منذ ذلك الحين (للواجب) على (الحق). إنها ثورة سياسية ولا شك، ولكنها أيضاً ثورة نفسية قلبت الأخلاق في الحياة العامة التي كانت مزوقة بألوان الديمقراطية المستعارة، والغارقة في طغيان أولئك البغاة المستبدين في كراتشي وفي طهران وفي بغداد. وأما في المجال الدولي فإن الواجب يملي علينا أن نحتاط لأنفسنا فلا ننزلق في خضم الحرب الباردة، خوفاً من أن تطوحنا الظروف في فضاء الحرب الذرية. ولقد

استيقظ الضمير الإسلامي لهذه المسألة، أيقظته المصاعب التي لاقاها داخل هيئة الأمم المتحدة، وخاصة في المناقشات التي دارت حول مشكلات شمالي إفريقية، كما أيقظه المثل المشجع (لحياد) الهند، وإنما لم تتم الثورة في هذا الميدان في صورة منهجية، أو في صورة طفرة كما حدث في المجال القومي في مصر، بل حدثت في صورة تخبط، وتحول في الوسط، على مراحل متعاقبة- منها مرحلة الكتلة العربية الآسيوية التي عالجت بعض المشكلات العاجلة- حتى وصلت إلى باندونج، فكانت مرحلة الصحوة والتيقظ أمام مشكلة الاتجاه الجوهرية. على أن هذا التطور كان حافلاً بالمصاعب الداخلية التي تتصل بالتكوينات الاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي بقدر ما كان حافلاً بالمصاعب الخارجية الناتجة عن مواجهته للرأسمالية والشيوعية في الحرب الباردة. وكانت هذه المصاعب الأخيرة تنتج عن الجاذبية التي سلطها محور القوة بكيفية ما على توجيه الشعوب الأفرسيوية كيما ينحو بها نحو سياسته، ولقد خلقت هذه الجاذبية انشقاقات وبدعاً في التطور السياسي في البلاد الإسلامية منذ عام (1945م) مثيرة هنا ثورات مضادة كتلك التي أوصلت زاهدي إلى الحكم، ومتيرة هناك خلافات وانقسامات كتلك التي حطمت وحدة الجامعة العربية. بحيث حرمت هذه البلاد من أن تطبق في النطاق الدولي نظرية مشتركة تهدف إلى تحقيق السلام بصفة فعَّالة. ومع ذلك فيجب أن نذكر أن حظ هذه السياسة التضليلية من النجاح في الشعوب كان أقل من حظها لدى بعض الزعماء، أولئك الذين أغراهم أحياناً الطمع، وأغواهم المال، واستهوتهم السلطة. وعلى كل، فهذا مظهر من مظاهر تأثير الدول الكبرى في تعطيل التاريخ وعلى تطور الشعوب منذ عام (1945م)، وطريقة التعطيل تنحصر أحياناً في إحداث (دمل تصفية) في جسد العالم الإسلامي ليمتص قوى الحيوية والتطور فيه. وقد بدأت هذه الطريقة تطبق فعلاً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فمنذ ذلك الحين تحجرت الإرادة الجماعية في العالم الإسلامي، وتبلورت حول المسألة

الفلسطينية، تلك التي استمالت ووجهت جميع تيارات ضميره منذ ثلاتين عاماً، محولة طاقاته التي كان عليه أن يخصصها للمشكلات العضوية ومشكلات التوجيه. ولقد انزاح هذا الكابوس قليلاً بتأثير الصدمة النفسية التي نتجت عن استقرار دولة إسرائيل، ولكن يبدو أن الضمير الإسلامي لم ينفض بعد كل خموله وغموضه، إذا ما اعتمدنا في حكمنا على المؤتمر الإسلامي المنعقد منذ سبعة عشر شهراً في مكة (¬1) لبحث المسألة الفلسطينية على وجه الخصوص، باعتبارها، المشكلة الجوهرية الوحيدة في العالم الإسلامي، ولقد حاولت هذه السياسة الغامضة أن تحدث (دملاً) آخر للتصفية في كشمير، وكان (الدمل) هذه المرة يهدف إلى استمالة التيار الحيادي، وإحداث فصل قاطع يخترم الوحدة الأخلاقية على المحور الذي يحمل مصير الرجل الأفرسيوي، وتدل هذه التصرفات على أن (استراتيجية التطويق) قد حولت إلى الناحية العسكرية الأغراض التي كانت (سيطرة أوروبا) تصرفها إلى الناحية الاقتصادية والسياسية بالنسبة للعالم الأفرسيوي. والاستعمار المشترك الذي يريد أن يخلف الاستعمار البسيط، يتسلل على أرض الغزو متلوناً أخلاقياً وسياسياً حسب طبيعة البلاد التي يتسلل إليها، فهو في بغداد وفي دمشق يحاول أن يستميل الأفكار والطاقات السياسية لصالح مشروع الهلال الخصيب، وفي كراتشي يدخل إلى البلاد في منعطف (إسلامستان) ونسمع أنه يريد أن يحرر إفريقية الشمالية لصالحه: وهو تحرير يعني بطبيعة الحال إدخال البلاد في منطقة الحرب بطريقة أكثر وعياً، بحيث تتفق مع ((حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها)) ولعل هذه اللغة هي الخطر الأكبر لأنها باسم الحرية توشك أن تزوِّر حقائق المشكلة الحيوية وأوضاعها في الضمير الإسلامي. ¬

_ (¬1) أثناء حجة عام 1954 بالضبط.

وزد على ذلك ما هو ناتج في العالم الإسلامي عن (واقعية) بعض حكامه تلك (الواقعية) التي يعتنقها نوري السعيد مثلاً، فلقد خرج على الجامعة العربية - كما نذكر- لقلة موضوعيتها التي يشهد بها- كما قال- موقف الجامعة أمام الحالة الناتجة عن استقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، فهو يرى في استقرار إسرائيل في الشرق الأوسط حالة واقعة، ويجب أن نسلم بالأمر الواقع. وهكذا فإن الاستعمار المشترك قد استخدم طرائق السحر السياسي والتضليل لاجهاض مؤتمر كولومبو التحضيري، حيث كان الكلام المتبادل بين بعض المندوبين أحياناً بعيداً عن أن يترجم عن الفكرة الأفرسيوية، وبعيداً عن أن يعد محيط باندونج وجوّه، ولكن عناصر الفكرة كانت أقوى من أحابيل سياسة القوة ومنطق السيطرة. لقد انتصر منطق الواقع على (واقعية) بعض القادة، وعلى ميكيافيلية الآخرين، فأوان المشكلات الكبرى قد حان، وحان معه أوان الاختيار والمسؤولية. وعلى الشعوب الأفرسيوية ألا تنسى أن هناك صنوفاً محزنة من الاختيار، شبهة باختيار العجوز (فاوست) الذي أراد أن يستبدل شباباً جديداً بروحه، فخسر روحه، وأضاع الشباب. ***

الكتلة العربية الآسيوية

الكتلَة العَرَبيَّة الآسيَوية ليس مؤتمر باندونج ظاهرة ذات تكوين فجائي تلقائي، فلئن كان يعدّ- من ناحية- نقطة انطلاق لاطراد اجتماعي وسياسي معين، فهو في الوقت نفسه نهاية لاطراد آخر. والتطور التاريخي الذي ولد فيه هو نتيجة ليقظة الرجل الأفرسيوي أمام المشكلات التي يواجهه بها ظرفه الخاص، وتواجهه بها الحالة العالمية. ولقد غذت الأحداث في الواقع هذا التطور على محور طنجة - جاكرتا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وميزته بمراحل إعدادية سبقت باندونج. وإحدى هذه المراحل كانت (الكتلة العربية الآسيوية) فوراء المؤتمر الآفرسيوي، وراء كولومبو وبوجور، هنالك ماض وتاريخ، أعني: تراثاً معيناً يحمل كل مقومات الفكرة، ومظاهر ضعفها أيضاً. ولقد كان المشروع الأولي الذي رأى النور في كولومبو ثمرة لجوهر الفكرة العربية الآسيوية، ولقشورها التافهة مرة واحدة. فهو يلخصها بخيرها وشرها. فقد كان أولاً ثمرة الإرادات الطيبة التي التقت في هيئة الأمم المتحدة، في نطاق مجموعة من الأمم التي تشترك لما بعض المصالح والمشاعر، ولكن كان بين أفرادها أيضاً بعض مظاهر الاختلاف والشقاق، تلك التي قد تجلت بين الدول الخمس نفسها في مؤتمر كولومبو، وهذه المظاهر تعكس لنا التعارض الذي ظهر قليلاً أو كثيراً في باندونج. والواقع أن صفة الكتلة العربية الآسيوية المميزة، أنها كانت تدين بوجودها لصدفة حدثت خلال مناقشة بالأمم المتحدة عن المشكلة الإندونيسية (¬1)، ويرجع ¬

_ (¬1) حاول الأمين العام للجامعة العربية منذ عام 1945م أن يتشاور مع حواهر لال نهرو في موضوع استقلال إندونيسيا التي كانت تكافح ضد الاحتلال الإنجليزي- الهولندي، ويمكننا أن نرى في هذه المحاولة العمل الدبلوماسي الأول للكتلة العربية الآسيوية، التي بلغت في سبتمبر 1949م تسعة عشر صوتاً، تجمعت في قضية ليبيا.

الفضل في ذلك بقدر ما إلى وزير الخارجية المصرية آنذاك، وإلى المساعي الحميدة التي قام بها مندوب الهند وإلى الإرادة الطيبة التي دفعت دول أمريكا اللاتينية إلى تأييدهما. ولقد تبودلت بعض الابتسامات الدبلوماسية آنذاك، حتى بين الجامعة العربية وإسبانيا، فكانت ابتسامات تلوح من خلالها، في غموض، بعض المشاريع (الدفاعية)، وهي لا تتطلب سوى أن تتحدد معالمها في مواثيق عسكرية في نطاق تنظيم للمنطقة، قائم على أساس شكل من أشكال حلف الأطلنطي، تغذي روحه أخوة بين البلاد الواقعة على البحر الأبيض. وإذن. فالفكرة في أصلها غامضة، وهي لا تقوم على أي ضرورة أساسية مدركة بوضوح، ولا على أي نظرية محددة للغايات والوسائل، فلو أردنا أن نعتبرها تعبيراً عن السياسة العربية آنذاك فسنجد فيها فعلاً الفكر المستسلم الذي ميزته تلك السياسة في قضية فلسطين، حيث توج وظيفته التاريخية كفكر يخضع للأحداث، وترابطها الاتفاقي أكثر من أن يحضع لدقة نظرية، ونظام تطبيقها. فالفكرة في ذاتها كانت إذن مصابة ببعض العقم في صميمها، إذ لم يكن لها ما يبررها في أصلها، وهي لم تكن تصدر عن أي أساس حيوي أو رئيسي أو جوهري. وبهذا لم تكن تعبر عن أي إلزام، سياسي أو أخلاقي، يمكن أن يتجلى داخل نطاقها، بقدر ما، في صورة رقابة على أعمال الحكومات، أو المسؤولين من أعضاء الكتلة العربية الآسيوية. فكان من المستطاع أن يذهب أحد هؤلاء الأعضاء مثل نوري السعيد رغم عضويته، إلى ما يتنافى مع أهدافها وتوجيهها، دون أن يخشى أي جزاء أخلاقي أو سياسي تستتبعه هذه المخالفة. وبذلك كان من الممكن أن تؤثر عوامل خارجية على التوتر في الكتلة، وبهذا أصبحت تخضع لقوى التحليل نفسها التي كانت تضغط على الجامعة العربية لتسيير بعض أعضائها نحو حلف بغداد، واحداً بعد آخر، لعزلهم عن بقية الأعضاء ... الذين كانوا يساقون إلى حلف

جنوبي شرق آسيا ( S.E.A.T.O) ولم يكن للفكرة العربية الآسيوية أن تقاوم بسهولة هذه المؤمرات التي تهدف إلى تضليلها. إذ لم يكن بناؤها الداخلي قادرا على أن يقاوم الضغوط الخارجية، أي إنها لم يكن لها مضمون نظري يكوِّن مقياسها، ويحدد خطها، الخط الذي يمكن في ضوئه أن نحكم على بعض الاتجاهات، وعلى بعض المحاولات المنحرفة. في هذه الظروف، وفي غيبة المقياس الخلقي والسياسي، كانت الكتلة العربية الآسيوية إذن مفتوحة لجميع المؤامرات من الخارج، من جهة، وعاجزة من جهة أخرى عن أي عمل منظم هادف لحل جميع المشكلات العضوية التي تعانيها الكتلة، ومشكلات توجيهها. فكانت بذلك تابعة أكثر من أن تكون متبوعة، تخضع للصدف الطارئة في هيئة الأمم المتحدة وتقلبات الجامعة العربية التي كانت تشكل عناصر قيادتها الجوهرية، فاتبعت الطريق المعوج الذي تسنه الظروف المفاجئة؛ توجهها تارة نحو محور عدم العنف، في الظروف التي يظفر صوت الهند فيها بنفوذ كبير؛ وتارة أخرى نحو محور القوة، عندما يلوح بعض الأعضاء بالعصا لتوجيهها في هذا السبيل. فإذا تصورنا الكتلة العربية الآسيوية هكذا أي كرباط سياسي يتفق مع ظروف الساعة، ومع حوادث الطريق فهمنا أنه لم يكن لديها إذن (بوصلة) خاصة تتيح لها أن تحتفظ باتجاه معين بالنسبة إلى الأهداف البعيدة. ومن ناحية أخرى، فإنها لم يكن لديها أي جذر متأصل في نفس الشعوب العربية الآسيوية، أي اتصال مباشر بضمائرها ولا أي امتداد ودي أو أخلاقي في حياتها تستمد منه إلهامها وحيويتها. وبانعدام هذا الاتصال الروحي؛ انعدم لديها العامل العاطفي، وسائر العناصر الودية والنفسية، وهي العناصر التي تقر الصلة الحيوية بين النفس الشعبية؛ والعمل السياسي؛ كما هو حاصل فعلاً بين منظمة حلف الأطلنطى وشعوب الغرب، أو بين حلف وارسو والشعوب التي تنطوي تحته. ولأنها كانت مخصصة

لمواجهة مجرد الطوارئ التي قد تطرأ في هيئة الأمم المتحدة بالنسبة إلى بعض المشكلات؛ كمشكلة شمالي إفريقية أو غيرها؛ فإن لم يفكر في أن يضع لها قاعدة نفسية متينة عميقة، ولا هدفاً سياسياً بعيداً. وكل ما في الأمر أن محركيها كانوا يهدفون إلى تكوين أداة للمناقشات، يتحكمون بها في كمية من الأصوات اللازمة في هيئة الأمم، لموازنة تأثير الدول الكبرى؛ دون أن يبينوا لها بصورة مدققة مراكز التقل؛ التي يتحدد بها ويتحقق ذلك التوازن. حتى كانت الكتلة تفقد خارج هذا النطاق كل معنى؛ وكل تأتير وتذوّق للعمل والنشاط. ولم يكن بين أعضائها إلا قدر كاف من الاهتمام السامي لمواجهة مشكلة خاصة؛ ولكنه لم يكن كافياً لأن يدفعهم إلى أهداف بعيدة؛ وإلى الاشتراك في علاج المشكلات العضوية أو مشكلات التوجيه. إن اتفاق الآراء في الكتلة كان يمكن أن يحدث بصدد مشكلة ثانوية، لا بصدد مشكلة جوهرية يتوقف عليها بقاء الرجل الذي يعيش ما بين طنجة وجاكرتا. حتى إذا نشأت مناقشات خارج أروقة هيئة الأمم بعيداً عن صدفها وتقلباتها، كان يوجد دائماً من يعلقها بسؤال تافه ليحول بينها وبين اتخاذ قرار في مسألة هامة. ولقد حدث- على ما نذكر- مثل هذا التعليق في كولومبو، حيث أوشك أن يعرقل فكرة المؤتمر الأفرسيوي، لأن المناقشات قد صارت في لحظة ما، إلى مسائل ثانوية متنازع عليها؛ مثل مسألة كشمير. وكانت هذه- بصورة ما- المرحلة الصبيانية، فإن المشكلات لم تكن تواجه فيها طبقاً للمصاع العليا؛ بل كانت مواجهة الموضوعات خاضعة للمصالح الخاصة، بل حتى في بعض الحالات، خاضعة للمصالح الشخصية؛ كما رأينا في باندونج نفسها، وكانت هذه المصالح، تظهر طبعاً نقط الضعف التي تعانيها الكتلة، ومفاصلها التي تتجه أعمال التخريب من الخارج إلى فصمها، وأن الكتلة لتدين بهذا البناء المتقطع الأوصال للطريقة التي كوِّنت بها عن طريق الصدفة،

كتلفيق مناسب دبر، لا ليواجه حالة تطور، أي مجموعة من المشكلات، بل ليواجه أمراً طارئاً، ومشكلة معينة دون أي اهتمام حق باتجاه التاريخ. ولم يكن لهذا النقص أن يغيب عن أذهان القادة، ولذا فإن الدعوة الموجهة من المؤتمر التحضيري لدول كولومبو تدل على الرغبة الملحة في رأب الصدع، الذي بدأ في البناء الواهن وعلى الأخص منذ تعطلت الكتلة بسبب الأحداث التي قلبت الوضع في طهران بتنحية مصدق، ومنذ أحداث دمشق. وعليه فإن فكرة إعادة دفعها قد خلقت في نيودلهي، كما خلقت في العواصم العربية، فكان شهر إبريل 1954م هو الذي سجل بمناقشات كولومبو دخول فكرة الكتلة العربية الآسيوية في التاريخ، وقد تحولت إلى فكرة أفرسيوية. وهو تاريخ يسجل منعطفاً يلتقي مع أزمة النمو حين يبلغ ذروتها، وبصورة أخرى سجلت نهاية الكتلة العربية الآسيوية نهاية المرحلة الصبيانية في هذا التطور. وفي هذا التاريخ كانت التجربة ناضجة لكي نستخلص منها بعض النتائج الموضوعية، فلقد اجتازت الفكرة إمتحاناً رهيباً، وكشفت خلال ذلك عن عناصر قوتها، ونقط ضعفها. فكان في ميزانها عناصر إيجابية، وعناصر سلبية، وبقي أن توجد الطريقة الفعالة لإعادة تكوينها، ودفعها إلى الأمام بقوة جديدة، وعزم جديد مع تزويدها بما يخصب مضمونها الروحي والسياسي. ولقد كان يمكن تحديد هذا المنهج بطريقتين، لكي نأخذ في حسابنا تاريخ الفكرة من جانبين: في نجاحها، وفي إخفاقها، أي باعتبار ما فيها من عناصر النجاح والخيبة. وكان من اللازم أولاً أن تزول عن الكتلة العربية الآسيوية صفة الارتجال، وأن يخلصها التنقيح من كونها مجرد تلفيق مناسب ومؤقت يمضي بمضي الحالة الخاصة التي خلقته في إطار محدود، وفي زمن معين حتى يزول عنها ذلك الطابع الذي لازمها من أنها مجرد اصطناع دبلوماسي يخضع لتغيرات الظروف الدولية. ويخضع لمؤامرات الكبار، وتخريب تلاميذهم الصغار، هذا من ناحية، ومن ناحية

أخرى، من وجهة النظر الموضوعية كان يجب تزويد الكتلة العربية الآسيوية بمغزى تاريخي وأخلاقي، وإعطاؤها روحاً وخطة مستقبل تنطلق من فكرة عامة، بحيث تصلح هذه الفكرة العامة لأن تترجم عن مصلحة عليا، ولأن تكون مقياسها الأساسي، ولأن ترشد إلى اتجاه روحي وسياسي معين، تأخذ في ضوئه الأفكار والمحاولات وألوان النشاط طريقها على نطاق أكثر اتساعاً، وفي إطار زمن غير محدود. أو بتعبير آخر، يجب أن تتجاوز بصورة ما (وحدة المأساة الكلاسيكية) أي وحدة الزمان، والمكان، والعمل، التي وقفت عندها الكتلة العربية الآسيوية في إطار الأمم المتحدة، حتى يكون عملها أكثر عمقاً واتساعاً في الإطار الذي تثور فيه مشكلات البقاء على المحور الأفرسيوي. ولم يكن يكفي أن يوضع لها مجرد تخطيط نظري يهم قليلاً أو كثيراً الزعماء والقادة، بل أن يحقق لها هيكلاً عضوياً تغوص جذوره في أعماق نفسية الشعوب، وفي مشاعرها الكريمة، كيما تعبر هذه الفكرة عن امتداد لروحية الشعوب، وفضائل نفسها في الميدان السياسي. وفي هذا السبك، وإعادة التكوين للفكرة المعبرة عن الكتلة العربية الآسيوية، يجب أن يودع مضمون جديد يحمل قيمة فكرة شعبية مشتركة بين جميع الشعوب التي تعيش على محور طنجة - جاكرتا، بحيث تتعرف فيها هذه الشعوب حقيقةً من بنائها العقلي، ونموذجاً من فلسفتها الشعبية، كما أن كلمة (الغرب) ليست مجرد لفظ، أو صناعة لغوية أو دبلوماسية، أو تلفيقاً يدين بوجوده لبعض الملابسات، وإنما هي قاعدة لعقلية رجل الغرب وثقافته، واستمرار شخصيته، فهي التعبير المركز عن دور حضارة بأكملها، وهي تلخيص لألفين من سني التاريخ المنطبع في ذاته، وهي في النهاية كلمة تحمل عبء مصيره. وإذن، فمن الوجهة النظرية كان يجب أن تهدف إعادة تكوين الكتلة العربية الآسيوية ودفعها الجديد إلى أن تسير في اتجاه حضارة، لا أن تكون مجرد إجراء سياسي.

ولكي يتاح لها أن تحدث تأثيراً أكثر، فإن من الواجب أن تعاد صياغة فكرتها في مصطلحات (البقاء) كي تعبر عن اهتمام بالمشكلات العضوية للإنسان نفسه، وبمشكلة توجيهه في عالم تفرض عليه (القوة) فيه قانونها الصارم. فقد كان على الكتلة العربية الآسيوية إذن أن تجتاز تحولاً عميقاً، وأن تتعرض لتغير في جوهرها لكي تصبح نواة حضارة، ومنبع تيار تاريخي، يحمل مصير الإنسان الذي يعيش على محور طنجة - جاكرتا. ونحن ندرك زيادة على ذلك، كم تتوافق هذه النتائج النظرية مع واقع هذا الإنسان، ذلك الواقع الذي ربما انكشف للزائر السماوي كما بينا. إن الذين وضعوا مؤتمر كولومبو لم يذكروا فيه هذه الاعتبارات النظرية، فقد اقتصر البيان على موضوعات المؤتمر فحسب، ولكنهم حين وضعوا مبدأ مؤتمر أفرسيوي، قد حققوا ضمناً تحول الكتلة العربية الآسيوية الضروري إلى تيار مثقل بالتاريخ وبالمصائر، وبهذا تحمل القادة الذين اتخذوا هذا القرار أخطر المسؤوليات، لأن قرارهم قد غيَّر تغييراً أسياسياً عناصر مشكلتين رئيسيتين، حين صاغ أولاً مشكلات الشعوب الأفرسيوية بلغة (الحضارة)، لا بلغة (السياسة)، وحين ترجم ثانياً الحالة العالمية بصورة غير مباشرة بلغة (البقاء)، لا بلغة (القوة). ***

مشكلة الحضارة

مُشكِلَة الحَضَارة تقر الاعتبارات السابقة أسبقية مشكلة الحضارة في البلاد الأفرسيوية، حيث تزدوج إلى مشكلتين. أولاً: المشكلة العضوية الخاصة بتشييد بناء قائم على الحقائق النفسية الاجتماعية في هذه البلاد. ثانياً: مشكلة التوجيه القائم على حقائق الوضع العالمي. هذه الاعتبارات تصادف فيما يتصل بالنقطة الأولى على الأقل ملاحظة بعض المراقبين الموضوعية، ونحن ندين لأحد هؤلاء المراقبين بملاحظة ذات دلالة ومغزى، حدد بها مجال بحثه واستقصائه بمنطقة جنوبي شرقي آسيا، أي في منطقة معينة من محور طنجة - جاكرتا، حيث تدل الحالة الراهنة في نظر هذا المراقب على أنها ليست من اختصاص (مهندس اجتماعي) بقدر ما هي في حاجة إلى (عالم حياة اجتماعي) (¬1) وما كان يمكنه أن يعبر عن المشكلة في جلاء بلغة الحضارة دون أن يستخدم هذه الكلمة نفسها. على أن الاعتبار النظري الذي نقدمه، والملاحظة الموضوعية التي نجدها عند هذا الكاتب يتفقان في ضرورة وضع المشكلة بهذه الصورة، لا في إمكان حلها فيها، فيبقى علينا إذن أن نكشف عن هذا الإمكان. أما ضرورة وضع المشكلة بهذه الصورة فتتجلى في أن ألوان النشاط الاجتماعي والسياسي، إنما تخضع لمقياس عام يقاس به من أول وهلة مدى تأثيرها فيما يتصل بحظ الإنسان. والحضارة هي هذا القياس الذي تقاس بالنسبة ¬

_ (¬1) يقتبس المؤلف هذه الصورة من المؤلف القيم للكاتب تيبور ماند Tibor Mende بعنوان: ((جنوبي شرقي آسيا بين عالمين)) طبعة باريس.

إليه أهمية المشكلات، وترتيب أسبقيتها. فضرورة وضع المشكلة هكذا تبرز في صورة حيوية في الوقت الحالي الذي يمر به الرجل الأفرسيوي، وفي صورة منطقية في المشكلات التي تطوق مصيره اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. فيجب إذن أن نواجه المشكلة، ولكن هل يمكن حلها في الظروف النفسية والزمنية التي تسيطر من طنجة إلى جاكرتا؟ ولقد أدى مؤتمر باندونج أجلّ أعماله حين جمع العناصر الموزعة الصالحة لأن تنسجم في كل. أي في تجربة قد تقلب حياة الشعوب الأفرسيوية. ولكن مواجهة المشكلات لا تعني حلها، كما أن جمع (كومة) من المواد دون تأليفها في هيكل عضوي لا يكوِّن منها آلياً هذا الحل، فإن كومة من الأشياء لا تنشئ بالضرورة (كلا) متجانسا. والعناصر المجتمعة في باندونج لا يمكن أن تنتج تأليفاً لو لم توجد الظروف المؤثرة، أي العامل الذي يخلق ظاهرة التاريخ، فبين الضرورة المنطقية والإمكان التاريخي يوجد مجال لسؤال سابق يجب أن نجيب عنه أولاً. إن إمكان الحل سيكون في الواقع بعيد الحصول إذا ما تقيدنا بحقائق الجنس، أو اللغة، من طنجة إلى جاكرتا. ففي هذه الحالة تصبح الفكرة الأفرسيوية ضرباً من محاولة المحال، ولن تكون سوى نوع من الترف العقلي فيما لو وجب أن تقوم على أساس عنصري لغوي. إن اللغة والجنس ليست عناصر عديمة الأهمية في الواقع الإنساني. ولكنها بعيدة عن أن تمثل الشروط الحتمية لجعل هذا الواقع في مستوى حضارة. وفضلاً عن ذلك فإن التاريخ لا يتحدد ضرورة باللغة أو بالجنس، فإن الحضارة الغربية التي اتخذناها مقياسا في هذا الميدان، ليست ثمرة لغة أو جنس، بل إننا نجد حتى في حدود المستوى القومي شذوذاً عن القاعدة حين نلاحظ الوضع في سويسرا مثلاً، حيث لا يربط بين العناصر التي تكونها، لا الجنس ولا اللغة، وإذن فإن إمكان الحل موجود مع اختلاف اللغات أو الأجناس وهو

يقوى مع المستوى الذي ندرس فيه القضية. فإذا كانت وحدة اللغة أو الجنس ضرورية لتكوين أمة، فإن هذا الشرط ليس محتوماً لتكوين حضارة تولد وتنمو وتكتمل في ظل تنوع اللغات والأجنالس. فكلمة (الغرب) التي تعدّ في هذا الصدد أساساً للمقارنة، لا تعني وحدة عنصرية أو لغوية، وإنما تعتي مركباً ثقافياً معيناً، فمن واشنطن إلى موسكو، وحتى إلى طوكيو؛ أي خلال هذا التنوع الهائل في اللغات والأجناس، نجد أنفسنا أمام مركب ثقافي يضع طابعه الخاص على مصير الإنسان، وعلى النظر الذي يحوطه. فإذا ألقينا نظرة على هذا المنظر ونظرة أخرى على الخريطة، فسنرى اطراداً مكانياً وثقافياً معيناً يمثل مركباً هو (الحضارة)، فإمكان الحضارة يتحدد إذن بجغرافية المكان، وبنوع الثقافة، فلكي نرفع الكتلة العربية الآسيوية من مستوى التلفيق والاصطناع السياسي إلى مستوى مفهوم الحضارة، يجب أن نأخذ في اعتبارنا عاملين هما: الرجل والنظر الذي يشمله، أي حامل الثقافة وإطاره الذي يحيط به. والفكرة الأفرسيوية هي المركب النفسي الزمني الذي ينتج عن هذا التحول من إطار لفظة سياسية بسيطة إلى فكرة أساسية قادرة على تحريك الواقع التاريخي، حين تشكل الإنسان، والإطار المحيط به. وبهذا يمكننا أن نواجه المشكلة في شكلها المزدوج: نواجهها من الداخل حين ننظر إلى الفكرة الأفرسيوية بالنسبة إلى عناصرها الداخلية، فهي ضرورة لكي تتاح للرجل الأفرسيوي فرص غنية للنمو، وهي أيضاً ممكنة بقدر ما يكون هذا الرجل قادراً على خلق ثقافته كيما يحل مشكلاته العضوية. ويمكننا أن نواجهها من الخارج بالنسبة إلى حقائق الوضع العالمي، فبالنسبة إلى الأهداف الإنسانية في مجموعها تعدّ الفكرة الأفرسيوية ضرورة القرن لكي تتيح للسلام بعض الفرص، حين تلقي في الميزان بمواردها الروحية. وإن فكرة (عدم العنف) لضرورية لحل مأساة القرن العشرين، وهذه الضرورة المنطقية تخلق

إمكاناً طبيعياً حين توجه نشاط الشعوب في طريق السلم، وحين تؤثر في توجيه الأمم المتحدة. ولقد اتجه أعضاء مؤتمر كولومبو أولاً إلى أن يبحثوا عن بديل أكثر مناسبة ليجعلوه في مكان الكتلة العربية الآسيوية التي لم تعد تتفق مع الأحوال الجديدة، فكان الهدف علاج نواحي الضعف التي بدت في صفوف الجبهة المعادية للاستعمار، التي كانت تدعي الكتلة تمثيلها. ولقد خضع الذين دعوا إلى المؤتمر التحضيري في كولومبو، بلا شك لتلك الضرورة الملحة، ولكن ربما يبدو في ضوء المحصول النهائي لمؤتمر باندونج أن نتيجة قراراتهم متعارضة مع الفكرة الأساسية. فقد كان الهم المسيطر على باندونج هو مواجهة مشكلة توجيه الشعوب الأفرسيوية، لكي تواجه حالة عالمية تنذر بالانفجار، وتهدد بجر العالم في أتون حرب ذرية. فإذا نظرنا إلى هذا الخطر بعين الاعتبار كنتيجة لتوترات في الحالة العالمية ناشئة عن الانقسامات أي ناتجة عن التكوينات الخاصة مثل القوميات، والعنصريات، والاستعمار، والرأسمالية والشيوعية. فمن الواضح أن كل ما يكون صورة انشقاق جديد لا يمكن أن يكون سوى زيادة في عناصر الخطر، مع أنهم يعملون على تلافيه، كما يزعمون. والفكرة الأفرسيوية من هذا القبيل، فهي في الظاهر متعارضة لا مع مبدئها الخاص فحسب، من حيث كونها محاولة لتقليل فرص الحرب، تقلل منها بوضع سياسي جغرافي جديد في العالم، بل هي متعارضة أيضاً مع اتجاهات العصر نفسها. ولكن الواقع هو أننا من ناحية في طور من أطوار الانقسام المحزن، ومن أخرى في طور من أطوار التأليف والتركيب الذي يجري على نطاق واسع، والقوى التي تعمل في هذين الاتجاهين واحدة أحياناً. فتفكيك العالم إلى عناصره الراهنة يهدف إلى تجميعه بعناصر جديدة صالحة لتمريره من مرحلة التجزئة والتميز إلى مرحلة التجمع والعالمية.

وهاتان الظاهرتان مرتبطتان في نسق واطراد واحد، منطقياً وحيوياً. فالتعارض هنا ظاهري أولاً، وتحت هذا المظهر تكمن ضرورته. إذ إن الفكرة الأفرسيوية مرحلة معينة من مراحل (العالمية) ثم إن هذه الفكرة لا تضيف في الواقع أي عنصر جديد في توزيع القوة ولا في الوضع الجغرافي السياسي الذي حددته البناءات التقليدية الموروثة عن القرن التاسع عشر. فالعالم يدين بثالوثه الجغرافي السياسي الحالي إلى القوى نفسها التي كان يدين لها بقلبه المزدوج قبل الحرب العالمية الأولى. بل نرى نشاطه يهدف إلى التقليل من هذا الانقسام بتغيير أحد عناصره الحالية، أي بتحرير أبناء المستعمرات الأفرسيوية من النير المزدوج للاستعمار والقابلية للاستعمار. وفي هذا الضوء لا يكون التعارض سوى مظهري شكلي وهو بهذا الشكل محتم، لأنه مرتبط بالضرورة العضوية التي تفرض إنشاء النظام الجديد من العناصر المنتزعة من النظام القديم. ولا شك في أن هذا التعارض الظاهر والضروري هو الذي عبر عنه الإنجيل في زمن آخر، حين شرع أسس العقيدة المسيحية وأودعها في الضمائر، وحين أعلن المسيح في مواجهة المجتمع اليهودي قوله: ((لا تظنوا أني جئت لآلقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان من أهل بيته)) (¬1). فكل إنشاء في الوضع الإنساني إنما ينبثق عن مبدأ معين للانقسام، يكوّن تعارضه الأولي، ثم يتجاوز الوضع نطاق التعارض: فإذا ما كان منقسماً يصبح من جديد متوحداً، ولكنه يتوحد هذه المرة بوشائج ذات طبيعة لائقة بالمرحلة الجديدة. ولقد كان لينين يعرف أنه لكي ينشئ المجتمع الاشتراكي، فإن عليه أن يستخدم (مواد) قد يقدمها إليه (المجتمع البورجوازي) وطبقة (البروليتاريا) هي إحدى تلك المواد. وهي تدرك أكثر من ذلك أن التمزيق الذي أوجدها كطبقة هو بداية خلاص للمجتمع الذي تصدر عنه، وهي تدرك أنها حاملة مسؤولية ¬

_ (¬1) إنجيل متى الاصحاح العاشر.

هذا الخلاص. فالنتائج المتوقعة للفكرة الأفرسيوية هي هذه النتائج نفسها بغض النظر عن جميع الاعتبارات الدينية أو السياسية، ويجب أن تتحمل هذه الفترة تعارضاً ظاهرياً أولياً، كيما تحمل إلى العالم خلاصه، والشعوب الأفرسيوية تؤلف في العالم نوعاً من (البروليتاريا) بالمعنى الذي خلعه جون توينبي ( A.J Toynebee) على هذه الكلمة، ولكن دون أن نذهب في هذا المعنى إلى نهايته. وإذن، فإن على هذه الشعوب أن تعرف قدر نفسها أولاً، لتحمل بعد ذلك الخلاص إلى العالم. وربما تؤدي باندونج- وهو المكان الذي حدث فيه هذا الإدراك- إلى فهم العكس، أي إلى الشعور بأن هذه الشعوب تتجه إلى نوع من الانطواء على نفسها، لتكوين (كتلة) جديدة ثالثة، ولكن هذا يكون- برغم كل شيء- فهماً خاطئاً إذ إننا في الخطوة الأولى من العملية يجب أن نتيح (للبروليتاريا) الأفرسيوية تحقيق وحدتها الخاصة كشرط سابق لوحدة العالم وخلاصه. إن التعارض الأولي في الفكرة الأفرسيوية ناتج عن أننا نحكم عليها في حركتها الأولى. أي ما بين أزمة العالم وحلها الضروري حيث نجد أنفسنا أميل إلى الحكم عليها طبقاً لأحداث الأزمة أكثر من أن نحكم عليها وهي في طريق الحل، لأننا تعودنا النظر إلى الأشياء طبقاً لمقاييس القوة. ووضعنا المشكلات في مصطلحات القوة. فإذا عبرنا عن الفكرة الأفرسيوية في هذه المصطلحات التي تعني نوعاً من الانشقاق والتجزئة، فربما يؤدي إلى الرجل المستعمَر- الذي أحاله العصر الاستعماري إلى (شيء) من الأشياء، وقصره على أن يؤدي دور التحف البشرية - ربما يؤدي دوراً تفسر فيه هذه الفكرة على أنها نوع من السيطرة في حيز القوة، تماماً كما يحدث لأي انشقاق عنصري أو قومي. ولكن بناء الفكرة لا يدع مجالاً لهذا التفسير، وما كان لها أن تتحول إلى فلسفة فكرة متحجرة صماء، مرتكزة على (إرادة القوة) متجسدة في (فوهرر)

معين، وهي التي وجدت أصولها في ملتقى التيارات الروحية المختلفة، وخاصة تيار الإسلام، وتيار الهندوسية. فالفكرة الأفرسيوية تدين لطبيعتها كفكرة يمليها الإسلام والهندوسية بتركيب ثنائي، وهذه الخاصية تحول بينها وبين أن تتبلور، في (كتلة) صالحة لأن تستخدم في عمل من أعمال السيطرة، بل ستظل على العكس من ذلك تسمح بتدخل جميع تيارات الفكر، وتحمل رسالة الخلاص الغني بجميع العناصر الخلاّقة، تلك العناصر التي يمكن أن تضعها فيها جميع التيارات المثرية في التجربة الإنسانية كلها. وعليه فليس لنا أن نحكم عليها في فترة معينة من تاريخها، وفي زمن خاص من حركتها، حيث قد تظهر متعارضة مع مبدئها أو مع اتجاهات العصر نفسها. بل يجب أن نصدر حكمنا الصادق على مجموع تاريخها لا رجماً بالغيب حول أشياء خيالية، ولكن باستكناهنا للحقائق الواقعية التي يرتبط بها تطورها في الإطار المحلي وفي الإطار العالمي، وسيبين لنا هذا التطور عن أن التعارض الأولي لم يكن إلا ظاهراً، لأن الفكرة الأفرسيوية بفضل حقائقها الذاتية الداخلية، واتجاهات التاريخ العامة، ليست إلا مرحلة ضرورية. المرحلة الأولى لعالم يريد أن يحقق وحدة أرضية. وعلى محور واشنطن - موسكو تهيء القوة الصناعية جميع الظروف المادية لوحدة العالم، ولكنها في الوقت نفسه تخلق عوامل تحليله وتجزئته، وتضغط على الضمير الإنساني في كل لحظة بخطر رئيسي يهدد الأشياء والتاريخ بالفناء. وسيظل هذا الخطر ماثلاً طالما لم نضع حَداً أخلاقياً لسياسة الجبروت، وطالما كان بحث نزع السلاح في ظل علاقات القوة. لقد جعلت القوة الصناعية العالم ضيقاً (صغيراً)، فالواجب يفرض الآن أن يصبح قابلاً للمساكنة والمعايشة، والفكرة الأفرسيوية تعطينا دفعة واحدة هذا الإمكان من الوجهة الأخلاقية، وبقي أن تعطينا إياه من الوجهة الاجتماعية، وينحصر الأمر في تعجيل عملية

تجميع الشعوب الأفرسيوية وتوحيدها، كي تقوم بدورها في العالم، على الرغم من عمليات التعطيل التي يمارسها على التاريخ تلاميذ الدكتور مالان (¬1) ونحن نجد من الوجهة الأخلاقية أن هذه الفكرة قد عدلت فعلاً في الماضي، ويمكنها الآن أن تلغي خطر التحلل الذي يمثله هوس الحرب. وإذن فبفضل ما حركت من قوى روحية واجتماعية تستطيع الفكرة الأفرسيوية أن تلعب دوراً يطلق عليه دور (التعجيل والتعديل) وهناك نموذج مقدم سلفاً عن تأثيرها المعدل في النطاق الدولي، وذلك في محاولة الهند التوسط منذ ثمانية أعوام في قضية كوريا وغيرها. ولو أننا تعمقنا في دراسة الحرب الباردة، فسنجد أنه مما لا نزاع فيه أن تطورها نحو مرحلة التعايش- بصرف النظر عن العوامل الدبلوماسية والاستراتيجية- كان مطبوعاً ببعض الأقدار التي فرضت رقابة أخلاقية خفية، ولكنها صارمة على القرارات السياسية، وفي هذه الرقابة تتجلى مواقف التحفظ التي وقفتها هذه الشعوب في الميدان الدولي بصورة تتفاوت في صراحتها، وتصادف تفسيرها السياسي في مصطلح (الحياد). ولا شك في أن هذه التحفظات التي قلبت كل الحقائق الاستراتيجية في الحرب الباردة. وجميع خطط هئيات أركان الحرب، كانت لدى أغلبية الشعوب الأفرسيوية مواقف أخلاقية أكثر منها سياسية، فهي إذن في أصولها دفعات روحية. ولعل التاريخ يقول للأجيال فيما بعد: إن (الفكرة الأفرسيوية) قد وهبت للعالم الخلاص، قبل أن يطلق عليها اسمها، فهي بإنشائها (المنطقة الحرام) بين الكتلتين في صورة سياسية حيادية، كونت في الحقيقة فراغاً لم تعد الحرب الباردة تجد فيه قوتاً يحولها إلى حرب ساخنة، وهي بعملها هذا قد أتاحت لفكرة ¬

_ (¬1) زعيم التفرقة العنصرية بجنوبى إفريقية.

التعايش أن تأتي في وقتها، وإذن فمؤتمر باندونج، لم يكن من مهمته خلق انقسام جديد جغرافي سياسي في العالم، أو أن يزيد لوناً آخر على خرائط الجغرافية السياسية. وليس في مبدأ التجميع والتوحيد الذي جاء به في حياة الشعوب القاطنة على محور طنجة - جاكرتا ما يطلق عليه اسم (الإمبراطورية الأفرسيوية) هذا لا يدخل في نطاق التفكير في الموضوع. هذه الاعتبارات التي تنفي احتمال (كتلة سياسية) تنفي أيضاً احتمال (كتلة فكرية) أي إنها تنفي صورتي السيطرة القيصيرية: سيطرة السيف وسيطرة الفكرة. وهي تسجل في الوقت نفسه وضع المشكلة بالنسبة إلى المسيحية، فالواقع أن للمسيحية مراكز روحية وزمنية معينة في العالم، ومن المحتمل أن تخشى من جهة أو أخرى فيضان الفكرة الأفرسيوية على ميدانها، وقد عبر صراحة بعض الكتاب في الغرب عن هذه المخاوف منذ مؤتمر باندونج على الأقل فيما يتصل بالناحية الزمنية، ولعلها حين تنطلق من أفواه المسؤولين لا تكون سوى عرض من أعراض (ذهان) السيطرة، أي الحالة المرضية، الناتجة في أوروبا عن ثقافة الامبراطورية التي خلقت الاستعمار. ولكنها حين تعبر بكل بساطة عن قلق مفاجئ لضمير إنساني وضع أمام المجهول ... فمن الواجب أن تهدأ هذه المخاوف، بيد الرجال الذين خلقوا بأعمالهم ومواقفهم هذا المجهول حين بعثوا (الفكرة الأفرسيوية) فمن المؤكد أن الذين اجتمعوا في باندونج لم تخطر بأذهانهم في لحظة ما فكرة إرساء أسس فكرية وسياسية لتأسيس إمبراطورية، ولا أن يصوغوا مبادئ ثقافة إمبراطورية تبعث في الشعوب الأفرسيوية- طال المدى أو قصر- رغبة في السيطرة والسلطان. والواقع أن المشكلات التي عرضت على المؤتمر الأفرسيوي لا تستدعي بطبيعتها حلول (قوة) بل حلول (بقاء) وبالتالي لا تفرض ثقافة إمبراطورية. بل

ثقافة حضارة. فالفكرة الأفرسيرية إذن لا يجوز أن تخيف أحداً، لأنها لا تهدد أي مركز سياسي في هذا العالم. أما فيما يتعلق بالمراكز الروحية، فإن صفتها الثنائية المستمدة من روحية الإسلام وتقاليد الهندوسية تنفي عنها ذلك الشيء الذي يسمى (سيف العقيدة) اللازم عندما يقتضي الأمر شن (حرب صليبية) أو (حرب مقدسة) والفكرة الأفرسيوية بهذه الصفة لا تحمل مطلقاً أي خطر لحرب دينية. وإخواننا المسيحيون الذين قد يتوجسون خطأ أو صواباً من وجود (كتلة) دينية ككتلة (إسلامستان) مثلاً، لا يجدر بهم أن يعانوا القلق نفسه من الفكرة الأفرسيوية. إنهم ولا شك سيرون في مضمونها المعادي للاستعمار عنصراً قد يحلق نوعاً من الاضطراب في أذهانهم، وهو اضطراب له وقعه في ضمير المسيحي الذي يحسب حساب بعض الشبهات المسيحية في الواقع الاستعماري، ولكن هذا عنصر عابر مثل الاستعمار، وهو سطحي وضروري في الوقت نفسه. فمعاداة الاستعمار هي في الواقع رد الفعل الذي سيختفي طبيعياً مع الاستعمار الذي ولده، وأكثر من ذلك فإن هذين العنصرين يلعبان خلال قرن من الزمان فيما بينها الدور نفسه في تكوين (إرادة جماعية) وتهيئة نزعة تاريخية معينة في بعض الرقاع الجغرافية. فمعاداة الاستعمار قد تكمل مؤقتاً تعريف الفكرة الأفرسيوية باعتبارها حضارة، كما كان الاستعمار في القرن التاسع عشر عنصراً هاماً في تعريف الحضارة الغربية حيث كان يعد صفة مميزة لتوسع تلك الحضارة، وأساساً لحركتها ونموها، حتى كاد على المؤرخ الاجتماعي أن يعده المركب النفسي الخاص برقعتها الجغرافية. وكذلك اليوم، تعد معاداة الاستعمار بصفة عابرة عنصراً ضرورياً في نمو الفكرة الأفرسيوية، وفي تكوين ضميرها الجماعي، حتى يختفي سببها، وهكذا يتاح تحديد رقعة جغرافية بمركب نفسي معين، عام في جميع الشعوب المستعمرة، أو التي كانت مستعمرة، أي بمركب

شامل ممتد إلى حدود (الإمبراطورية الاستعمارية) في القرن التاسع عشر، وهي حدود الفكرة الأفرسيوية. وهكذا جمعت باندونج جميع العناصر النفسية والزمنية لحضارة يشمل امتدادها ما بين خطي الطول في طنجة وفي جاكرتا، والمساحات الواقعة جنوبي خط عرض الجزائر. لقد أردنا في هذا الفصل أن نبين ضرورة وإمكان إيجاد حل لمشكلة الرجل الأفرسيوي، ولكننا لم نقل بأنه لا يوجد لها سوى حل واحد، وعلى الأخص إذا ما بدا الحل المطابق لخط العرض- والذي يمكننا تحديد رقعته ومراكزه على طول محور طنجة - جاكرتا- بدا أقرب الحلول إلى طبيعة عناصر المشكلة، فيجب ألا نتجاهل الجهود المبذولة الآن لإيجاد حل آخر مطابق لخط الطول. فلا غرابة إذن في أن نجد جهوداً مبذولة لتكوين مركز استقطاب ثقافي أوروبي- أفريقي، لاستمالة الأفكار والطاقات التي من شأنها أن تنساب في تيار أفرسيوي. وفي هذا الاتجاه يجب على الأقل أن تفسر بعض المحاولات ذات الطابع الثقافي، أو السياسي، المتعلقة بتطور الشعوب الإفريقية، وبالحلول التي تقترح لمشكلاتها (¬1). ولقد بدأت محاولات كهذه في إفريقية الشمالية، خاصة في الميدان النقابي. ... ¬

_ (¬1) ومن هذه الجهود الدعوة التي وجهت أخيراً إلى الدول الإفريقية من طرف (غانة) لعقد مؤتمر ((إفريقي)) تشارك فيه الدول العربية الإفريقية مثل مصر وليبيا ودول شمال إفريقية.

نظرات عامه في الثفافة الأفرسيوية

نَظَرَات عَامَّة في الثفافةِ الأفرسيَوية إن مؤتمر باندونج حين جمع عناصر بعض المشكلات العضوية التي تخص الشعوب الأفرسيوية، وحين عالج اتجاه هذه الشعوب قد أنشأ في الواقع رأس المال الأولي لحضارة. فكل حضارة تستلزم رأس مال أولي مكون من الإنسان والتراب والوقت فهي مركب من هذه العناصر الثلاثة الأساسية، ولا بد من أن يركبها العامل الأخلاقي، أعني يحتم تماسكها، من غير هذا العامل يوشك أن تتمخض العملية عن (كومة) لا شكل لها، متقلبة عاجزة عن أن تأخذ إتجاهاً، أو تحتفظ به، أو أن تكون لها وجهة، بدلاً من أن تكون (كلاً) محدداً في مبناه، وفيما يهدف إليه. ولئن جمع المؤتمر كل العناصر الأولية لهذه الوجهة، فإن من الواجب تحديد طرق استخدام رأس المال الذي اجتمعت عناصره. ولقد أشارت مناقشات المؤتمر وبيانه النهائى إلى هذه الطرق في صورة تخطيطية. حين حددت في رسم ابتدائي التكوينات التي تصلح لأن ترتدي ثوب التاريخ الأفرسيوي. وفي هذا التخطيط كان محتماً أن تقدر الأشياء في مبادئها، ولكنها لا يمكن أن تظل في هذه الصورة التخطيطية، فإن مشكلات التطبيق والتنفيذ تواجه الإنسان في نهاية الأمر. وحين ننتقل من الاعتبار التحليلي لعناصر الحضارة الأولية، والحضارة التي نعدها (ناتجاً) عن الإنسان والتراب والوقت، إلى الاعتبار التركيبي في مرحلة التطبيق ((حين نعتبر التاريخ ميداناً للتطبيق والتجربة)) فإن المشكلة التي تواجهنا هي أن نحدد أحسن الشروط لإيجاد هذا (الناتج) في أقل زمن ممكن. وكل ما يواجهنا بهذا الصدد يعود إلى أن نغير بصورة عملية الواقع الذي يتمثل في النموذج الاجتماعى الأفرسيوي، وفي النظر الإنساني من طنجة إلى

جاكرتا، ولكن كل واقع اجتماعي في جذوره هو قيمة ثقافية معينة محققة في واقع الإنسان، وفي الإطار أو المنظر الإنساني الذي يحوطه- وهو شيء واحد- وإذن فأي تفكير في مشكلة الحضارة هو أساساً تفكير في مشكلة الثقافة، والواقع أنها ظفرت بهذا التفكير في باندونج، على الرغم من أن تقارير الصحافة قد ألحت أكثر على المظاهر السياسية. ولقد لاحظت ذلك هيئة اليونسكو في تقرير لها حين قالت: ((أزمع المؤتمرون في باندونج نشر مجموعة من الدراسات في ميدان التربية عن المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد المشتركة في المؤتمر)). وبقي علينا أن نعرف في أي الظروف يمكن لهذا التبادل في المعلومات أن يكوّن الأسس الثقافية للفكرة الأفرسيوية، وفي أي الظروف يمكننا عن طريق هذا التبادل أن نحدد طبيعة الثقافة، وأن ننشئ عناصرها لتغيير ظروف (البقاء) لدى الشعوب الأفرسيوية. نعم إن هذا التبادل ضروري، ولكن هل هو كاف؟ ... وسيكون لدينا في هذا الشأن، كما حدث في الفصول السابقة، مقياس متمثل في النموذج الغربي. فعلى محور واشنطن - موسكو حتى طوكيو، نجد أن المشكلات العلمية والعقلية والاجتماعية متحدة من طرف لآخر، وعلى الرغم من التوتر السياسي، فإن التبادل الثقافي يتم في نطاق العلاقة الحضارية نفسها، بل إنه يتم- كما رأينا- منذ مؤتمر جنيف حتى في المجال الذري ... فهناك ولا شك علاقة مباشرة بين هذا التبادل وبين المنظر السائد من واشنطن إلى موسكو، وبالتالي بين الظروف الإنسانية على هذا المحور. ولكن إذا كان هذا التبادل في إطار معين، وفي ظرف ما يعتبر سبباً محتماً قاطعاً، فإنه من ناحية أخرى أثر محتوم. فعلينا إذن أن. نحتاط لأنفسنا حتى لا تُخفي عنا ظاهرة سطحية ( Epiphènomène) ظاهرةً جوهرية.

فعندما يذهب (باليه الأوبرا) في باريس إلى موسكو، أو عندما يأتي باليه الأوبرا من موسكو ليقدم بعض التمثيليات على المسرح الباريسي، فإن الذي يهمنا استخلاصه من أجل بناء الفكرة الأفرسيوية ليس مجرد تبادل الفرق الراقصة، بل هو أن كلاً من هذه الفرق قد وجد خلال رحلاته جمهوره مع اختلاف بسيط في الألوان، ووجد الجو نفسه، والانفعال الجمالي نفسه. فمن المؤكد أن تطوافه لا بد وأن يقوي هذه الوحدة في الإطار الفني، وأن يقوي (الروابط الثقافية) حسب التعبير الدبلوماسي. ولكن الفن في حد ذاته يجد في الوقت نفسه في تطوافه- أي خلال هذا التبادل- إلهامات جديدة، ودوافع جديدة. وهكذا يتوافق السبب وأثره في نتيجة كلية تصدر عن الواقع الذي سبق وجوده أي إطار الحضارة المشتركة، ومن الواضح أن الباليه الروسي لم يكن له أن يجد في (فاس) مثلاً جمهوره، ولا ذلك الصدى نفسه. فالتبادل يصبح تقريباً غير ذي فائدة أو على الأقل غير ذي موضوع، عندما يخرج عن إطاره الذي يعطيه قيمته الاجتماعية، ومعناه الثقافي. وإذن فتحديد التبادل الفعال الذي نتصوره ليساعد على تكوين ثقافة يجب أن يبدأ من هذه النظرة العامة عن ((المحيط)) الثقافي. فالثقافة هي أولاً: (محيط) معين يتحرك فيه الإنسان، فهو يغذي إلهامه، ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل. والثقافة (جوّ) يتكون من ألوان، وأنغام وعادات وتقاليد وأشكال وأوزان وحركات تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً، وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة. إنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه. وهي التي تقدم لنظر الزائر السماوي نموذجاً اجتماعياً معيناً متشابهاً من واشنطن إلى موسكو، ولكنه مختلف في جميع سماته عن النموذج الاجتماعي الآخر الذي يتحرك داخل الإطار من طنجة إلى جاكرتا، كما رأينا.

ولقد خضعت الثورة الصينية لمنطق طبيعي عندما قصدت في الحال إلى تعديل الإطار التقليدي، فمن أجل تغيير الإنسان يجب أن نغير وسطه الثقافي، بإنشاء (محيط) جديد. ولقد انتقدوا الثورة الصينية في أنها غيرت الإنسان إلى "نملة زرقاء (¬1) " والواقع أنه يجب تغيير أحد طرفي التشبيه لكي نكون محقين، لأن وجه الشبه ليس بين الإنسان والنملة الزرقاء، بل هو بين النملة الزرقاء والدودة البائسة التي كانت تدب في أقذارها وأسمالها في غرز الأفيون، هنالك حيث كان يجتمع الباحثون عن النسيان، والباحثون عن الغرائب والعجائب. (فالنملة الزرقاء) إذن ليست هدفاً، وإنما هي دليل على أن زمن الدودة الصغيرة قد ولى، ولن يلبث الصيني أن يصل إلى مستوى الإنسان على احتمال أنه لم يبلغه بعد. وفي هذه القرينة يعد ظهور (النملة الزرقاء) علامة على ثورة ثقافية، من شأنها أن تحدث تغيير (المحيط) الذي كانت تدب فيه (الدودة الصينية) وهو الذي يشكل في الواقع هذه الدودة لتصل إلى الكمال ... إن التحقيق الذي ألمحنا إليه (¬2) يصف- كما سبق أن قلنا في فصل سابق- المأساة النفسية التي يعانيها مؤلفه أمام الثورة الصينية أكثر من أن يصف الحقيقة الموضوعية في هذه الثورة. مع أن تحقيقه يقدم للقارئ معلومات نافعة حقاً، ونظرات مفيدة جداً، إذ يخيل إليه أنه أمام مناجاة عبر فيها كاتبها عن خيبة أمله، حين عبر بلغة عالم الجمال الذي يأسى لأنه يرى تلك الريشة الصلبة العنيفة أحياناً، في يد ماوتسى تونج، ترسم وجه الصين الجديدة على تلك الشاشة ¬

_ (¬1) فرض ماوتسي تونج على الشعب الصيني لباساً أزرق لتوحيد الزي هناك، فأطلق بعض الكتاب الأوروبيين على الشعب الصيني في زيه الجديد لقب (النمل الأزرق). (المترجم) (¬2) تحقيق نشرته في باريس صحيفة ((لوموند Le monde)) في فبراير 6 1956 تحت عنوان: ((ست مئة مليون من الصينيين في الدوامة الشيوعية)) بإمضاء المسيو جيلان Mr.Guillain.

العتيقة المهيبة، حيث كان يهوى وهو الأوروبي المتعطش إلى المشاهدات الغريبة - أن يرى الملامح النبيلة على وجه الصين القديمة، وبذلك نفهم حدة الانفعال عنده، وصيحاته التي تدوي بالبربرية ... ولكنا نتساءل إذا ما كان هذا المحقق يريد أن يتحدث ككاتب مولع بالجمال أو كمؤرخ اجتماعي؛ ... أياًّ ما كان الأمر فإن مشكلة الثقافة توضع بالنسبة إلى فكرة الأفرسيوية في الخطوط نفسها التي وضعت فيها بالصين- لا في المستوى الثانوي فحسب، بل في المستوى الابتدائي، بقصد إحداث التغيير ابتداءً من إطار جديد؟ وفي هذا المستوى تقوم مشكلة الثقافة على تحديد يشمل أساساً الناحية البيولوجية والناحية التربوية، فالثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة إلى الحضارة بوظيفة الدم بالنسبة إلى الكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحرية والتوازن في الكائن، وتكون جهاز مقاومته الذاتية. والثقافة تنقل أفكار الجمهور الشعبية، وأفكار القادة الفنية، وهذان العنصران هما اللذان يغذيان عبقرية الحضارة، فهي تدين لهما بدفعتها، وبمقدرتها الخلاقة. ولكن من أين يأتي جوهر هذين العنصرين؟. تلك هي المشكلة التربوية التي تواجهنا، فإن أي واقع اجتماعي هو في أصله قيمة ثقافية خرجت إلى حيز التنفيذ، وعليه فالجوهر الذي يوجد في الأول موجود ضرورة في الأخرى. فلو أننا حللنا واقعاً اجتماعياً، أعني نشاطاً اجتماعياً محسّاً، فسنجد فيه على الفور في حالته الراهنة أو في اطراد تطوره أربعة عناصر أساسية يمكن أن نطلق عليها: المنهج الأخلاقي، والذوق الجمالي، والصناعة، والمنطق العملي. فكل واقع اجتماعي وكل ناتج حضارة هو في جوهره مركب من هذه العناصر الأربعة. وبالتالي، فإن مشكلة الثقافة الأفرسيوية هي من الناحية التربوية مشكلة هذا التركيب. والفكرة الأفرسيوية تتمثل عند انطلاقها في صورة هيكل مكون من

القوى الأخلاقية والعقلية، ومن الطاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي في غايتها باعتبارها حضارة يجب أن تمثل تركيب هذه القوى جميعاً. فالتماسك الداخلي الذي أودعته باندونج بين هذه الطاقات قد استمد من مبدأ فكري مشترك، يكمن أساساً في النزعة العادية للاستعمار لدى الشعوب الأفرسيوية. ولكن التطور الذي يجب أن يحلف وراءه مرحلة الاستعمار، سيتجاوز ضرورة نزعة العداوة للاستعمار أيضاً. وبالتالي فإن الفكرة الأفرسيوية يجب أن تؤسس منهجها الأخلاقي على مبدأ إيجابي أكثر من ذلك، ولكن بحيث لا يكون في جوهره دينياً (¬1). ولقد رأينا في الفصل السابق أسباباً جوهرية تحملنا على أن نراعي في المفهوم الأخلاقي للفكرة الأفرسيوية التعدد الضروري، أو على الأقل ازدواج مبدئها الأخلاقي الأساسي، حتى لا نخلع عليها صفة (الكتلة) الدينية. وفي هذا الازدواج لا يمكن أن يكون الأمر أمر محاولة للتلفيق والاصطناع، بل أمر ميثاق أخلاقي بين الإسلام والهندوسية ليتخذا وجهة دولية واحدة. فليست المسألة إذن أن نجدد المحاولة العابثة التي قام بها الإمبراطور (أكبر) الذي أراد في القرن السادس عشر أن يؤسس إمبراطوريته في الهند على أساس تلفيق وحدة إسلامية- هندوسية. إن الأديان لا يمكن أن تتنازل لكي تستغل كوسائل لمثل هذه الغايات، ولو أننا أردنا أن نأخذ درساً من الماضي في هذا الميدان فإن تاريخ الغرب يعطينا إياه، فإن الحضارة الغربية قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي أتاح لها ¬

_ (¬1) إننا نحدد هنا مضمون الثقافة بالنسبة إلى مجموعة معينة هي مجموعة الشعوب الإفريقية الآسيوية. أما تحديد الثقافة بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي فقد عقدنا له فصلاً خاصاً في كتاب (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) حيث بينا أن (المبدأ الأخلاقي) يقوم على أساس ديني. وهكذا نبين للقارئ أن الثقافات المختلفة تتفق في ثلاثة عناصر معينة وقد تختلف بالنسبة إلى العنصر الأخلاقى لاتصاله بالعقيدة.

التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها، ولكن تطورها قد غير هذا الأساس العقيدي شيئاً فشيئاً، إلى هيكل مختلط يتجلى فيه التفكير الكاتوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بـ (التفكير الحر) والتفكير اليهودي بصورة متوافقة تماماً. وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق، لا في مبدأ واحد، ولا في تلفيق ديني مصطنع، فإن نزعة عداوة الاستعمار كانت كافية في مبدئها كوسيلة لإحداث التماسك بين العناصر الممثلة في باندونج. ولكن علاوة على أنها ستنتهي بفعل التطور، فإن من الواجب أن نمر بها سريعاً. فلقد كان الدبلوماسي الهندي ((بانيكار)) يعتقد أنها ضرورية دون شك باعتبارها (وحدة أساسية) تجعل منها باندونج نقطة الانطلاق للفكرة الأفرسيوية، ولكنه كان يعتقد أيضاً أنها غير كافية، إذ كان ينظر في الوقت نفسه إلى هذا الاجتماع على أنه (اجتماع لعناصر غير متوافقة). فمن الواضح أن مبدأ كهذا لا يكفي، على الرغم من تأتيره الوقتي، لقد ألهم الشعوب المستعمَرة خلال فترة تحريرها تضحيات نبيلة، وأعمالاً نزيهة، وألهمها أخيراً الملحمة العظمى (ملحمة Satyagraha) أو ((طريق الحقيقة (¬1)) الذي حرر الهند. ولكن حين تمر المرحلة الحماسية، فإن نزعة العداوة للاستعمار لا تصلح أن تكون (دافعاً سامياً) يحرّك حضارة ويعطيها مثلها الأعلى، ووثبتها الضرورية. وأكثر من ذلك، فحين تستنفد نزعة العداوة للاستعمار مضمونها ((من المشاعر الإيجابية)) عبر التاريخ، فقد لا تدع هذه التصفية فيها سوى مشاعر سلبية تقوم على حقد الشعوب التي قاست من ظلم طغاتها، بينما القضية ليست أن ننتزع العالم من موجة احتقار الكبار، لكي نسلمه إلى حقد الصغار. ¬

_ (¬1) اسم الخطة السياسية التي التزمها غاندي منذ بدء حياته السياسية في إفريقية الجنوبية. (المترجم).

ومن المطمئن في هذا السبيل أن قادة الثقافة الأفرسيوية يدركون ذلك جيداً، وهذا أحد كبارهم مولانا أبو الكلام آزاد قد تفضل فأعطانا شخصياً الدليل، حيث يؤكد فخامته لنا: ((أن المسؤولية التي تقع على عاتق التربية خطيرة، إذ يجب ألا تدع الحقد يتأصل في قلوب الجيل الجديد في الهند، وعقولهم تحت ستار النزعة العادية للاستعمار)). ونحن نعتقد أن مهمة كهذه لا تخص فقط المسؤولين عن توجيه الثقافة في وطن غاندي، بل إنها تشمل جميع الأوطان الأفرسيوية، وهي تحدد لهذه الشعوب دون لبس أو غموض طريق التحرر الداخلي الذي يجب أن يكمل أعمال التحرر السياسي والقومي بالتحرر الذاتي، أي في الإطار النفسي والأخلاقي. فإن التورط الاستعماري لم يؤثر على الرجل المستعمَر في مفهومه السياسي، وفي علاقاته الاجتماعية فحسب، بل أثر عليه في أعماقه. وفي تكويناته الأساسية، لقد وصل إلى روحه وضميره في صورة حالات ذهان ( Psychoses) وحالات حرمان ( Inhibitions) تشل عنده كل جهد خلاق ولا سيما في إفريقية الشمالية (¬1). ومن الؤلم أن نرى الرجل المستعمَر يقف دائماً في كتاباته موقف متهِم أو متهَم، فإن هذه الحالة السلبية تسيء إلى (ذاتٍ) تكبت دائماً نقائصها فلا تدعها تتفتح للحياة الجديدة. فمشكلة التحرر يجب أن توضع إذن حتى في الإطار النفسي، وسنكون قد صفينا هذه الحالات الذهانية وصنوف الحرمان- بعض التصفية على الأقل- عندما نخلص الرجل الأفرسيوي من الشاعر السلبية التي أصابته بها نزعته العادية للاستعمار، وأصابه بها حقده. ¬

_ (¬1) قمنا بتحليل هذا المظهر في مؤلف سابق بعنواد (مستقبل الاسلام) طبعة باريس. حيث وصفنا سيطرة الاستعمار التي تؤثر على الفرد المستعمر تأثيراً مزدوجاً، يحدث دفعة واحدة كواقع يشل حياته، وكشبح ينتج عنه حرمان.

وأهمية هذه المهمة النفسية الواضحة جلية في مشكلة الثقافة الأفرسيوية، ويظهر لزومها كلما ظهرت المهام الاجتماعية الضرورية عقب المطالب القومية، وكلما أصبحت المقتضيات الإنسانية الدولية أكثر إلحاحاً (¬1). إن مشكلة السلام والحرب تتطلب قرارات صريحة وواضحة. بينما نزعة الحقد عمياء، كما يقولون، وهي بذلك لن تشجع بعض المساعي التي ينبغي أن تكون نزيهة لكي تكون فعالة. وعليه فإن الثقافة الأفرسيوية لا يمكنها لأسباب مختلفة أن تجد إلهامها الجوهري في مجرد نزعة المعاداة للاستعمار، التي تختفي باختفاء سببها وهو: الاستعمار، فيجب أن تبحث عن روحها الأخلاقي في مجموع من القيم الروحية والتاريخية التي تقرها الشعوب الأفرسيوية كنوع من التراث ( Classicisme) يشبه التراث الذي قدمته الإنسانيات الإغريقية اللاتينية إلى الغرب فوجد فيه دليل الطريق وزادها، والمصدر الذي غذى منه عبقريته من فيدياس ( Phidias) (¬2) إلى ميشيل آنج ( Michel Ange) (¬3) والتي وجد فيها مقياس تنظيمه العقلي من أرسطو إلى ديكارت. والتراث الأفرسيوي يمكن أن يجد عناصره أولاً في المركبات النفسية التي لعبت دوراً في الصراع من أجل التحرر، لأنها طبعاً مشتركة بين جميع الشعوب التي خاضت هذا الصراع (¬4)، ثم إنه سيجدها في عوامل الاتجاه الذي خطّ ¬

_ (¬1) ومما تجدر ملاحظته في هذا المجال أن ماوتسي تونج قد دشن الثورة الصينية ((بعد الانتصارات العسكرية التي أزالت كل العقبات المادية)) بمرحلة اعتراف ( Confession) يتسنى فيها لكل صيني أن يعترف بأخطائه السابقة: فهي عملية تصفية نفسية للدخول في عهد الثورة شبيهة بعملية تنظيف الثياب لاستقبال عيد جديد. (¬2) من أكبر المثالين في اليونان. (¬3) من أكبر مصوري عهد النهضة. (¬4) قالت صحيفة المساء في عددها الصادر في 24/ 9/ 1957م بمناسبة زيارة فرقة من ممثلي السينما الصينين بقلم أحد المسؤولين فيها ما يلى: ((إن ثقافتنا وثقافتكم الحديثة ذات منبع واحد، وهي في طابعها العام انعكاس لكفاح شعبينا أمداً طويلاً ضد الاستعمار)). وفي هذا تعبير عن الواقع بكل بساطة.

للفكرة الأفرسيوية وجهتها الخاصة في العالم، والذي يعبر عن أحكام مصير مشترك بين الشعوب السائرة تحت لواء خطر الحرب. وإذا كان إلهام الثقافة الكلاسيكية في عصر النهضة الأوروبية خاصة قد اتجه نحو الذوق الجمالي أكثر من أي شيء آخر، فإن الثقافة الأفرسيوية ملزمة بسبب المأساة الخاصة بالقرن العشرين إلى أن تتجه أولاً نحو النهج الأخلاقي لتحديد مثلها الأعلى وهدفها المنشود، ونحو الصناعة بعد ذلك لخلق وسائلها إليه، فإنقاذ الإنسان من البؤس والفاقة على محور طنجة - جاكرتا وإنقاذه من حتمية الحرب على محور واشنطن - موسكو، هما بالنسبة إلى الإنسان الأفرسيوي الضرورتان المحددتان للمشكلة كلها: مشكلة بقائه، ومشكلة اتجاهه. وهذه الضرورة المزدوجة التي لا بد من أن يواجهها تسيطر بصورة طبيعية على جميع تحديدات ثقافته، وبالتالي على التحديد الأساسي لمنهجه الأخلاقي وسنقول فيما بعد، حين ننظر إلى مساهمته الخاصة، أي عنصر ميتافيزيقي جوهري سيجلبه الإسلام إلى هذا التحديد للروح الأخلاقي الخاص بالفكرة الأفرسيوية، وسنقول خاصة أي مفهوم إنساني سام سيضعه كمبدأ لانقاذ الإنسان بعد سقوطه تحت سيطرة الاستعمار والقابلية للاستعمار. وستجد الفكرة الأفرسيوية- بمقتضى ازدواجها الروحي- المبدأ الثاني في فكرة عدم العنف، ذلك المبدأ الذي نعرف دوره المنقذ في تحرير الهند، والذي ما زال يلهم حتى اليوم الحوار الدولي (¬1) كقانون لا يقبل الانفكاك- منذ ذلك الحين- عن المحاولات الإنسانية في الميدان السياسي. ولكنا لا يمكننا أن نضم هذه الملحمة إلى الفكرة الأفرسيوية دون أن ندخل فيها في الوقت نفسه بطلها الأسطوري: غاندي، صاحب الوجه المحاط بهالة من نور الشهداء، ذلك الوجه الذي يتجلى في أروع صفحة من تاريخ عصرنا. ¬

_ (¬1) إن مما له دلالته أنه قد حدث خلال بعض المناقشات بين الصين وأمريكا التي تتابعت في جنيف أن البحث كان متجهاً إلى أن يصلوا إلى ((اتفاق على عدم استعمال العنف)) بهذه اللفظة نفسها في نوفمبر 1955م. (المؤلف)

ويزيد من روعتنا أن الفصل الأول من مجموعها مواقفه هو فصل رمزي، إذ ترى المهاتما يدخل إلى الميدان السياسي- لأول مرة- في صحبة رجل مسلم، هو حاجي حبيب الذي أيده مادياً وأدبياً منذ المؤتمر الأول الذي أعلن فيه المهاتما غاندي خطته طريق الحقيقة ( Satyagraha) في 11 سبتمبر 1906 بمسرح إمبريال بجوهانسبرغ بإفرياقية الجنوبية، وهذا الرمز لا يقتصر في تأتيره على الناحية السياسية، بل إنه يتعداها أيضاً إلى نطاق الروح، فنحن نعرف كم كان غاندي يميل إلى أن يغذي فكره من جميع منابع الغذاء الروحي، كالقرآن والإنجيل والبهاجافادجيتا ( Bhagavadegita)؛ كتاب الديانة الهندوسية. إن المستودعات في آسيا وإفريقية غنية بالوجوه الجليلة، وبالأسماء والمثل، لكي تقدم لنا عناصر أخلاقية تلزمنا في بنائنا لتراث أفرسيوي، وسيكون غاندي ولا شك في أحد الأبهاء الفخمة التي تحتوي صور الرجال العظماء. وكما تُحدَّد الثقافة بعناصرها المستمدة من الروح الأخلاقي، فإنها تتحدد أيضاً بالذوق الجمالي، وإذا كانت الثقافة قبل كل شيء (محيطاً) معيناً، فمن الواضح أن العنصر الجمالي يلعب فيها دوراً رئيسياً، إذ إن القدرة الخلاقة مرتبطة دائماً بالانفعال الجمالي، بل إن مقدرة الفرد على تأتير مرتبطة أيضاً ببعض المقاييس الجمالية، ونحن نعرف مثلاً في ميدان التجارة والصناعة أن ((الصنف الرديء لا يباع))، على أن القيمة الجمالية يجب أن ينظر إليها وخاصة من الوجهة التربوية، فهي تساهم في خلق نموذج إنشائي متميز يخلع على الحياة نسقاً معيناً، واتجاهاً ثابتاً في التاريخ بفضل ما وهب من أذواق وتناسب جمالي. ومن المؤكد أن تحويل (الدودة الصينية) الجرباء ذات الأطمار إلى (نملة زرقاء)، ذلك التغير البسيط الخارجي قد زوَّد الحياة في الصين بمثير فعال، وبدافع إنشائي، ووضع أساساً للتربية الشعبية، وأبدع ذوقاً رفيعاً، وحركة جديدة خلاقة للقيم الاجتماعية.

وعلى أية حال فإن الكنوز الفنية في إفريقية وآسيا لتشهد بوجود ثروة تستطيع الفكرة الأفرسيوية أن تجد فيها دائماً- في ميدانها الخاص- عناصر جوهرية لخلق هذا الجزء المهما من تراثها. وفي العصر الحاضر، حيث يخضع التطور الإنساني في اتجاهه وسرعته للعوامل الصناعية، ولاعتبارات القدرة الإنتاجية، لا يمكن للثقافة الأفرسيوية أن تحدد معالمها دون أن تأخذ في اعتبارها بعض العوامل الديناميكية الصالحة لتشجيع النمو المادي لشعوب آسيا وإفريقية، والإسراع بحركته. إن خطط المشروعات القومية التي رأت النور في السنين الأخيرة في البلاد الأفرسيوية لتشعرنا عملياً بالحاجات التي تطابق في صورة طبيعية الفصول التي تتركب منها الثقافة. والصناعة والمنطق العملي يكونان فصلين من هذه الفصول الهامة، ((حيث يتجاوب المنطق العملي مع القدرة الإنتاجية، في الناحية الاقتصادية وحيت يعد منطقاً معيناً للعمل والنشاط في الإطار الفردي)). وللصناعة والمنطق العملي علاقة مباشرة بالمشكلات العضوية التي بحثها مؤتمر باندونج، والتي يجب أن يحلها كل بلد أفرسيوي لحسابه الخاص ولهذين العنصرين تأثير مباشر عاجل على حظ الإنسان الأفرسيوي وعلى الإطار الذي يحوطه. ويأتي دور العنصر الصناعي حين يضع بلد ما تخطيطاً لمشروع قومي، وبذا يتم إدخاله في برنامج تربوي بصورة آلية نوعاً ما. إذ هو ضرورة تفرض نفسها على المشروعات الحكومية من جهة، وعلى المحاولات الخاصة من جهة أخرى، وهكذا يتلاقى احتياج دولة إلى الفنيين، ورغبة الأفراد في أن يؤدوا وظائف معينة في مجال الفن الصناعي، يتلاقيان تلاقياً كاملاً في الضرورة العضوية نفسها. ويتقرر المنطق العملي بالصورة نفسها كحاجة عاجلة لثقافة (نهضة) تريد أن تحدث تغييراً في (المحيط) حيث تتشكل عبقرية الحضارة، وحيث يتطور الإنسان.

فالمنطق العملي يكيف صورة النشاط وأسلوبه ونسقه وجميع أشكاله الديناميكية. وعلى محور واشنطن - موسكو توجد ديناميكية خاصة تختلف عن الديناميكية التي قد يلاحظها زائر السماء من طنجة إلى جاكرتا. هذا الزائر يمكنه أن يلاحظ فرقاً جوهرياً هو: أن الثرترة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ حيثما يسود الكلام تبطئ الحركة. ولهذا وجدنا أن منظمي باندونج قد حددوا زمن الكلام بخمس عشرة دقيقة لكل متكلم، كان هذا ولا شك لكي يحولوا بينه وبين أن يغرق في الجعجعة وثرثرة اللسان. وبهذا أنقذت هذه الحكمة مقدرة المؤتمر على التأثير من طوفان الكلام الذي قد لا يدع مكاناً للعمل الإيجابي، ومما يجدر ذكره أن نعلم كيف أن ((شواين لاي)) قد برهن على اهتمامه بهذا المبدأ حين صاغ خطبته في أقل من ربع ساعة، وهو يتحدث باسم ست مئة مليون من البشر حقاً: ((إن الكلمة لمن روح القدس))، ولكن من الضروري أن يقر في أذهاننا التمييز بين الكلمة المقدسة الفعالة وبين الثرترة والهذر، فهناك أناس ليست الكلمة بالنسبة إليهم سوى أداة تؤدي العدم، فهي لديهم مجرد صبيانية بيانية خلابة، ترن في الهواء، أو مجرد كمية من المداد على صفحة من الورق. ولكن الواجب يفرض علينا أن نراعي واقعاً جلياً وجوهرياً هو أن ميزانية التاريخ ليست رصيداً من الكلام ومن أعداد الكلمات، بل هي كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه. وهذه الميزانيات المكونة من صنوف النشاط الإيجابي هي في الحقيقة ميزانيات من القيم الثقافية تقوم على فصول الثقافة الأربعة: منهجها الأخلاقي، وذوقها الجمالي، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي. إننا حين عالجنا مشكلة الثقافة لم ندع أننا ندرسها في هذا الفصل دراسة شاملة، فلقد أردنا فقط أن نشير إلى أهميتها وتأثيرها على الإطار الشعبي، وعلى

الإطار الجامعي لكي نلفت الانتباه إلى ضرورة (التوجيه) في الحياة الفكرية تاركين جانباً المناقشة التي ستقرر إذا ما كان هذا الاتجاه يجب أن ينبع من ظروف الدولة طبقاً لاحتياجات البلاد، أي طبقاً لمنهج يفرض سيطرة التوجيه الجامعي، أو أن يصدر عن المنافع الشخصية والأذواق الفردية، أعني عن التعليم الحر المنطلق. فمهما كانت الصورة التي نضع فيها هذه المشكلة فلقد تبين لنا أن من الأهمية بمكان أن تحدد البلدان المتخلفة ثقافتها لتتدارك تأخرها، وتؤدي دورها في العالم بصورة فعالة مؤثرة. وكل بلد يمكنه طبعاً أن يحل هذه المشكلة بطرقه الخاصة، فكل الطرق تؤدي إلى الأهداف نفسها ولكن بتوقيت مختلف، فالواجب أن نتجنب الطرق الطويلة، طرق الاعتباط والاستهواء، الطرق التي سلكتها الحضارات التي كان أمامها ما يكفيها من القرون وآلاف السنين. وبلغة التربية يجب أن نطبق الطرق التي توجه الذكاء في اتجاه الحضارة، والتي تعجل تكوينها طبقاً للتطورات اللازمة في نطاق هذه الحضارة، فإذا صيغت المشكلة في تعبيرات هذه اللغة، وجدناها تتجاوز بذلك النطاق القومى على أساس وضع (سياسة للثقافة) تبعاً لتعبير الجمعية العامة الخامسة لمؤتمر الثقافة الأوروبية المنعقد في أكتوبر 1955م في بروكسل. أي إن المشكلة تتطلب في هذا الاتجاه مؤتمراً للثقافة الأفرسيوية (¬1)، وربما عبر البيان النهائي لمؤتمر باندونج عن هذه الضرورة تحت عنوان (التعاون الثقافي). ... ¬

_ (¬1) ولو انعقد مؤتمر مثل هذا لكان أجدى كثيراً من بعض المؤتمرات التي أقيمت أخيراً تحت عنوان الأفرسيوية، وهي تتناول مادة مثل القانون. لا يمكنها اليوم أن تؤثر بأي وجه على مصير الشعوب.

مبادئ اقتصاد أفرسيوي فعال

مَبَادِئ اقتصاد أفرسيَويّ فَعَّال ((إن هدفنا الأول هو أن نوفر لشعبنا الغذاء والكساء)) ((كياونين: وزير الصناعة في بورما)) إن النظرية الماركسية التي ترد المشكلة الإنسانية كلها إلى العوامل الاقتصادية تغفل بعض الأشياء الجوهرية في الظاهرة الاجتماعية أو تغض من شأنها .. ولكن هذه النظرية صادقة في الحدود التي يمكن أن تفسر فيها الظاهرة الاجتماعية تفسيراً اقتصادياً. وفي هذه الحدود الواسعة يعدّ (الإطار الإنساني) الممتد من طنجة إلى جاكرتا شاشة من المباني والتكوينات الاقتصادية، ويعد (النموذج الاجتماعي) - الجائع العاري- الذي نراه في الصورتين المنشورتين في فصل سابق ثمرة لهذه المباني؛ وتلك التكوينات. وعليه فمن الممكن أن نتحدث في هذه الحدود عن حتمية اقتصادية تضغط بثقل قضائها على مصير الشعوب الأفرسيوية، ولكن هذا القضاء لا دخل فيه للميتافيزيقا، وهو ليس قضاء مطلقاً نهائياً، بل هو عارض طارئ من أعراض التاريخ أو هو بمثابة الزمن الميت في النمو المادي لتلك الشعوب، يتفق مع تلك الأوضاع الشخصية الموروثة التي تتنافى مع الأوضاع الاقتصادية التي حددتها وفرضتها الحضارة الغربية. ولقد ظهرت الآثار الاجتماعية لهذا التنافي منذ اللحظة التي وقع فيها الرجل الأفرسيوي في الأحبولة الاستعمارية، فأصبح العميل المُستعبد المُستغل للاقتصاد الحديث، دون أن يجد في نفسه، وفي تقاليده وفي عاداته الوسيلة الكافية كيما ينتزع نفسه من تورطه، وهكذا بدأ عصر الحتمية الاقتصادية بالنسبة إليه مع بدء

العصر الاستعماري. ولم يخلصه تحرره السياسي بصفة عامة من التورط الاقتصادي، فإن المشكلة أولاً ذات طابع نفسي حيث إن المعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإفرسيوي بالنمو نفسه الذي ظفر به في الغرب، في ضمير الرجل المتحضر، وفي حياته. والحق أن الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانوناً جوهرياً لتنظيمها. أما في الشرق فقد ظل على العكس من ذلك في مرحلة الاقتصاد الطبيعي غير المنظم حتى إن النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ وهي نظرية ابن خلدون قد ظلت حروفاً ميتة في الثقافة الإسلامية، حتى نهاية القرن الأخير. فلم يقبل المجتمع الشرقي تحت تأثير احتياجاته الداخلية على وضع نظرية اقتصادية كما حدث في المجتمع الغربي، حين وضع الرأسمالية أو الشيوعية. إنه لم يقبل على هذا بسبب ما انطوى عليه من نفسية خاصة منعقدة على (الزهد) كمثل أعلى منذ قرون، وإن فقهاً اقتصاديا يستلهم خطته ومفاهيمه من مثل كهذا، ويصدر عنه لا يمكنه بداهة أن يعبر بالدقة العملية نفسها عن فكرة (المنفعة) الخاصة بالرأسمالية، أو عن فكرة (الحاجة) الخاصة بالنظرية الماركسية، فالزهد والمنفعة والحاجة ثلاث حقائق لا يمكن أن تدخل في اطراد اجتماعي واحد، وفي واقع اقتصادي واحد. فقد كان هناك إذن عنصر تنافر أساسي بين الأوضاع الشخصية الموروثة في البلاد الأفرسيوية وبين التكوينات الاقتصادية التي وضع أسسها العصر الاستعماري. وهناك عصر آخر بالطابع النفسي نفسه، ويجب أن نحسب له حسابه في هذا التنافي، ذلك العنصر هو فكرة الزمن التي تعد أساسية جداً في تنظيم العمل في العالم الحديث تبعاً لنظرية تايلور ( Taylor) حيث سيطرت هذه النظرية على مفاهيم المقدرة الانتاجية فساعة (الكرونومتر) التي تستخدم في حساب الثواني

تستخدم في الوقت نفسه في تسعير الانتاج. وليس قولهم: ((الوقت عملة Time is Money)) من قبيل اللعب بالكلمات بل هو تعبير دقيق عن الواقع المادي في نظر الانجليز. فجميع ألوالن النشاط في المجتمع الصناعي الحديث تنمو في حدود الزمن المادي، وتتقوَّم بساعات عمل، أما في البلدان المتخلفة فإنهم لم يجربوا هذه العملة الخاصة إذ تنمو ألوان النشاط والعمل بصورة تقليدية في حدود الزمن الميتافيزيقى أي في نطاق الأبدية، لأنه لا يهدف إلى تشييد صرح (القوة)، ولا يطبق مبادئها المتنافية مع الأوضاع النفسية، كما نرى ذلك في تاريخ الصين، حيث ظلت الثقافة الصينية الكلاسيكية مثلاً تعلن احتقارها البالغ زمناً طويلاً، لقواد الحرب، أولئك (الأدوات) التقليدية (للقوة). وإذن فلقد كان التنافي بين هذه المباني الموروثة، وبين ألوان العمل المنظم الموقت في المجتمع الحديث، كان هذا التنافي أمراً محتوماً. وبذا نفهم من أول وهلة كيف تتبدد الأوهام أثناء محاولة بعض البلدان الأفرسيوية تحقيق استقلالها الاقتصادي بعد أن حققت استقلالها السياسي، فأخذت تستشير لهذه الغاية بعض الخبراء الاقتصاديين. ولم تلبث التجربة أن برهنت لهم على أن (الحالة) في علم الأمراض الاقتصادية ليست كما يحدث في الطب من (اختصاص الدكتور). ولقد رأينا في الواقع الدكتور (شاخت) وهو يعطي مثل هذه الاستشارات، ولقد كان بكل تأكيد خير من يقوم بهذه المهمة حيث رشحه نجاحه في (حالة) سابقة. وهو نجاحه الهائل في تخطيط الاقتصاد الذي تحمل جهداً ضخماً لبلد دخل الحرب العالمية الثانية دون أن يكون لديه رصيد كبير من الذهب. لقد تمنوا عموماً أن يكرر الدكتور شاخت هذه المعجزة خارج بلاده، ولكنهم رأوا أنه لم يستطع تكرارها، وإنما رأينا في مقابل ذلك ما يعد أكثر إفادة في نظرنا، وهو أن المعجزة قد تكررت من تلقاء نفسها، أي من غير مساعدة الدكتور شاخت في ألمانيا الغربية كما في ألمانيا الشرقية ودون رصيد كاف من

الذهب في كلا البلدين، وأيضاً دون الاعتماد على الصانع التي استمد منها الرايخ الثالث قوته، ثم هدمها المنتصرون في الحرب أو فككوها. واليوم وبعد عشر سنوات من الانهيار التام ينهض الاقتصاد الألماني، ويستعيد مكانه في العالم على جانبي ما سمي (بالستار الحديدي)، وعليه فلو كان هناك درس نستفيده من هذا البعث الرائع فلن يكون سوى أن نقول: إن مبدأ اقتصادياً لا يمكن أن يكون له أثره، ومقدرته التامة على التأثير إلا في الظروف التي يتفق فيها معه تجربة اجتماعية معينة. والواقع أن هذه القدرة لا تصدر عن ظروف اقتصادية محضة، كما ترينا التجربة الألمانية، تلك التي بدأت سيرها من الصفر في الناحية الاقتصادية، منذ عشر سنوات. فإن هناك معادلة شخصية هي التي تهمنا إلى أقصى حد في مضمون هذه المقدرة، ولا شك في أن الدكتور شاخت قد أعطى في استشاراته الأفرسيوية خير آرائه التي يمكن أن تصدر عن معادلته الشخصية. تلك المعادلة التي شكلتها الظروف النفسية والزمنية للوسط الألماني، هذه الظروف التي تكوّن مقياساً ضمنياً لا تؤتي نصائح الخبير واستشاراته تأثيرها الكامل إذا خرجت عن حدوده، وأي فن اجتماعي أو مبدأ اقتصادي لا يمكن أن يكون صادقا إلا إذا وجد في وضع لا يتعارض فيه مع عناصر المعادلة الشخصية السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه، ولكي تؤتي النظريات الاقتصادية تأثيرها الاجتماعي فيجب ألا يقتصر في دراستها على منصة الجامعة كعلم وقف على بعض المتخصصين، بل يجب أن يطبق هذا العلم على التجارب الجماعية التي يقف فيها وعي كل فرد وإدراكه أمام المشاكل المادية، مقدماً بذلك لعلم المتخصصين ظروف صلاحيته للتأثير. وعملياً يجب أن تسير النظرية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع النظرية السياسية، كيما تحيل المبدأ النظري إلى قانون للعمل والنشاط، فتضمه بذلك إلى دوافعه وإلى نسقه وأسلوبه. والطريقة الوحيدة التي يصبح بها المبدأ أو الفكرة

جزءاً من التاريخ هي أن يتحول إلى (عمل) إلى دافع عمل، إلى طاقة عملية، إلى إمكانية عمل، ولقد تكوَّن (علم) الاقتصاد الاشتراكي على يد ماركس وإنجلز. ولكن تأتيره بدأ مع تكوين (الضمير) الاشتراكي منذ ثورة أكتوبر 1917 م، فلقد صب نشاط لينين ومدرسته مبدأ الاقتصاد الاشتراكي في نفسية الشعب الروسي، وفي عقليته، وفي حركته، أو ديناميكيته. فالاقتصاد الاشتراكي إذن هو ثمرة التوفيق بين (علم) هو العلم الماركسي وبين (ضمير) هو وعي الطبقات. من غير أن نصدر هنا حكماً مطلقاً، أي حكماً على هذا التوفيق كقيمة إنسانية وإنما كحقيقة اقتصادية، فإننا نقرر أنه هو الذي ولَّد ما يسمونه (الطفرة الإنتاجية Economie de choc). فطريقة الإسطخانوفية ( Stakhanovisme) التي كانت عنصراً جوهرياً في خلق الواقع الاقتصادي الراهن في الاتحاد السوفييتي هي قبل كل شيء نتيجة للظروف النفسية الجديدة، ونتيجة البناء العقلي الجديد. فأي (مشورة) تهدف إلى وضع نظام اقتصادي أو إصلاح نقائصه ينبغي إذن من حيث المبدأ- ويصعب عند التطبيق- أن تضع في حسابها العناصر غير الاقتصادية، وبهذا نلتقي مرة أخرى مع أسبقية (عالم الحياة الاجتماعي) على (المهندس الاجتماعي) عندما نبدأ من الأساس، وفي هذا المستوى، أي في بداية أي تجربة اجتماعية لا يكون الأمر فقط أن نحل معادلة اقتصادية، بل أن نكيفها طبقاً لمعادلة شخصية معينة. وأي تجربة تغفل في بدايتها هذه العلاقة الأساسية لا تكون سوى تجربة نظرية مقضي عليها بالفشل. ولو أردنا أن نستخلص من هذا الكلام نتيجة صادقة لبناء اقتصاد أفرسيوي، فمن اللازم أن نفكر في الشروط الفنية التي يتطلبها التوفيق بين معادلة إنسانية معينة خاصة بالبلدان المتخلفة، وبين المعادلة الاقتصادية للقرن العشرين. إن الاستعمار لم يحاول تحقيق هذا التوفيق في استثماره للبلدان المستعمَرة، حيث كان العمل استرقاقاً وعبودية يستهدف إثراء المستعمِر أكثر من أن يهدف إلى إعاشة المستعمَر، وبذلك انحطت فكرة ((العمل))

على يديه أخلاقياً واجتماعياً، فليس العمل وسيلة لكسب العيش، بل هو طريقة لارضاء مطالب السلطة التي توزع الخبز، علماً بأن (الخبز) الذي يحصلون عليه بهذه الكيفية ليس حقاً، وإنما هو منحة، وبذلك هدمت تصرفات الاستعمار الوضع المتعارف عليه، ولكنها حين أدخلت الرجل المستعمَر في خضم العصر الاقتصادي لم تترك له أي وسيلة لحل مشكلاته، وهكذا انحط الاستعمار برجل التأمل والنظر. وبدلاً من أن يدخله في جهاز نظامه الخاص فيجعل منه الرجل ذا الوعي الاقتصادي ( Home èconomious) ، إذا به يتخذ منه آلة في هذا الجهاز، أي في الاقتصاد الاستعماري، وبهذا ينتقل الرجل المستعمَر فقط من المرحلة التأملية (¬1) إلى المرحلة النباتية التي لم تكن له فيها (حاجة) فأصبحت له حاجات لا يملك أي وسيلة منظمة وعادية لإشباعها. فلقد نمّى الاستعمار في نفسيته خوف الجوع. الذي يظهر في جميع طبقات المجتمع المستعمَر، خلق منه الرجل الجائع دائماً، وخلق منه الرجل الذي يخاف دائماً من الجوع، وهاتان الصورتان من صور الخوف، قد حطمتا عند الكائن المستعمَر كل إمكانية للتكيف مع التكوينات والأوضاع الاقتصادية في القرن العشرين. ففي إفريقية الشمالية مثلاً تخشى الطبقة البورجوازية الجوع. ويتجلى خوفها في صورة (بطنة hypergastrisme) تدل عليها حالة تلك الأسرة الجزائرية التي تستهلك لاستعمالها الخاص مئة كيلو من الزبد في الشهر عام 1931م. ويتجلى خوف الجوع في الطبقة الكادحة في صورة (مسغبة hypogastrisme) ولا سيما عند هؤلاء الآلاف من العمال في إفريقية الشمالية، الذين يذهبون للعمل في فرنسا، ويموتون نتيجة نقص التغذية، الذي لا يتلاءم مع وسائلهم الجديدة أو مع المناخ والعمل في المصانع. ¬

_ (¬1) يقصد بالمرحلة التأملية تلك المرحلة التي لم يكن فيها للرجل الأفرسيوي نوع من تصور الحقائق الاقتصادية فكأنه يعيش في حدود التأمل التائه فقط. (المترجم)

وهكذا لم يقدّم الاستعمار نظاماً للتلمذة الاقتصادية إلى البلاد المستعمَرة، حيث لم يعدل في الواقع التكوينات الشخصية طبقا للتكوينات الاقتصادية الجديدة. بل إنه فرض في هذه البلاد حكم العبودية الاقتصادية فحسب، ذلك الحكم الذي ترك طابعه البارز على نفسية الطبقات البورجوازية، كما تركه على نفسية الطبقات الكادحة. فاللجوء إلى (استشارات) المتخصصين في هذه الظروف لإنهاض حالة اقتصادية متعثرة أو منهارة، يجعلها استشارات لا أتر لها بحيث لا تكون سوى طريقة (سحرية) تستمد مبدأها من الثقة التي نخلعها على صاحبها (الدكتور). إن من الواجب أن ننظر إلى المشكلات الاقتصادية في طبيعتها البشرية وإلا انتهى بنا الأمر إلى نتائج نظرية. فهناك ظاهرة أثارت دهشة المراقبين وهي أن الدخل قد هبط في بعض البلاد التي تحررت من نير الاستعمار بحوالي 16% على أثر تحررها، ومن الممكن بلا شك أن نفسر هذا الهبوط بإرجاعه جزئياً إلى الأوضاع والتكوينات الاقتصادية العالمية، وبناء على العوامل السياسية التي تؤتر في مرحلة انتقال مضطربة، فإن للعوامل ذات الطابع الاستراتيجي تأثيراً على السوق العالمية، وبالتالي على الأسواق المحلية وهو تأثير لا يمكن إغفاله هنا، ولكنَّ في هذا الهبوط جزءاً متصلاً بالعوامل النفسية، أي بعناصر المعادلة الإنسانية الخاصة بتلك البلاد، حيث تتجلى فيها النزعات المحلية وتأتيرها المعطل الذي لا يظهر طالما وجدت قواها الانتاجية تحت سيطرة النظام الاستعماري عوامل منشطة أخرى. ولا سيما العمل الاجباري الذي ذاقته أندونيسيا، والذي لا زال يطبق في بعض مناطق إفريقية الغربية الفرنسية على الرغم من صدور (دستور العمل) الجديد. وتبرز الأهمية الاقتصادية لهذا التعطيل بصورة جلية إذا ما وضعناها بجانب رقم ((2%)) وهو الذي يمثل النسبة التقريبية المستثمرة من الدخل في تلك البلاد.

فمن اللازم إذن أن نتناول المشكلة الاقتصادية في هذه البلاد من أساسها. أي أبتداءً من عناصرها النفسية. وفي هذا المستوى يكون حلها منحصراً في تكوين (وعي اقتصادي) بكل ما يستتبعه في التكوين الشخصي للفرد، وفي عاداته، وفي نسق نشاطه، وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية. وفي هذا الميدان أكثر من أي ميدان آخر يدخل الرجل الأفرسيوي مرغماً، في عالم حديث تسيطر عليه مقاييس معينة للقدرة على التأثير، وربما لزمنا أن نخفف من حدة هذه المقاييس التي خلقت في المجتمع الصناعي الإنسان الآلي. ولكن القدرة على التأثير كما لاحظ أحد الصحفيين السويسريين إن لم تكن الهدف الأحمى للإنسانية فإن قدراً معيناً منها لازم على أية حال، إذ من غيره لا يكون المجتمع منتجاً. حتى من الناحية العقلية ... (¬1) فالأمر بالنسبة إلى الفرد، كما هو بالنسبة إلى المجتمع، يتعلق بأن نحقق أقصى حد ممكن من القدرة التأثيرية، ولكن العكس يحدث غالباً في البلدان المتخلفة، حيث تقل الوسائل بسبب درجة النمو الاجتماعي، وهي فضلا عن ذلك معطلة عن الاستعمال بفعل بعض النقائص النفسية، ولقد قدمنا هذا المعنى في مكان آخر (¬2) حيث بينا في ضوء بحث قمنا به إذ ذاك في مدينة جزائرية صغيرة، أن نسبة ميزانية الضروريات إلى ميزانية الكماليات والتوافه هي نسبة 5%: 95% وربما أدى البحث مع اختلاف الأرقام إلى النتائج النسبية نفسها سواء في المستوى القومي أم في المستوى الفردي. ففي كلتا الحالتين نكون قد جمعنا الآثار السلبية التي ينتجها المعامل نفسه ( Coefficent) لأنه على علاقة بالمعادلة الشخصية، التي تبرز فيها مع عناصر النمو الاقتصادي الحديث عوامل نفسية جثمانية موروثة مناقضة لهذا النمو في البلاد التي لم يتكوّن فيها بعد الوعي ¬

_ (¬1) هربرت لوشي La France à l'heure de son clocher فرنسا في العهد القروي. (¬2) بحث منشرر في فصل من كتاب مستقبل الإسلام (( Seuil)) بباريس سنة 1954م.

الاقتصادي. فليست إذن الوسيلة المادية فحسب هي التي تفتقدها هذه البلاد لصناعة (جورب نقودها)، بل إنها تفتقد أيضاً الاستعداد العقلي الذي يبلغها هذه الغاية. فلكي يحدد الرجل الأفرسيوي وجهته الاقتصادية يجب أن يتخلص من العامل (المقلل) الذي يهبط بمقدرة وسائله التأثيرية. ولن يستطيع الدخول في أي أطراد للنمو الاقتصادي إلا إذا حققنا انتقاله غير المشروط من المرحلة النباتية إلى الوضع الايجابي الفعال، باعتباره مبدأ، بحيث نوفر له دون شرط كمية الوحدات الحرارية اللازمة لهذا الانتقال، والضمان الأولي لكرامته النفسية، أي إن من الواجب أن نضع المشكلة أولاً في مصطلحات ((البقاء)). ووضع مشكلة الغذاء في هذا الإطار ينتج لنا مشكلة أخرى، هي مشكلة التوظيف الكامل لموارد تلك البلاد المادية والبشرية، فالمسألتان تندمجان منذ البداية في مشكلة واحدة تعبر عن المشكلة الاقتصادية في المجال الإنساني والأخلاقي (¬1) فإن أي نظام اقتصادي إنما توجهه القوى الأخلاقية التي تخلع عليه تفسيراً إنسانياً وغاية تاريخية. فهو في بدايته يحمل طابع اختيار بين (المنفعة) و (الحاجة) وفكرة التوزيع فيه، أعني وظيفته الاجتماعية الجوهرية تكتسب تحديدها من هذا الاختيار الأولي. فالمذهب التجاري أو الاحتكاري القائم على أساس المنفعة أي الذي يقوم توازنه على قانون العرض والطلب يتنافس مع المذهب القائم على فكرة (الحاجة) أي الذي يتوازن على أساس مبدأ الإنتاج والاستهلاك. ولا شك أن وزير الصناعية في بورما (كياونين) قد صاغ رأيه في الفكرة التي صدرنا بها هذا الفصل، وهو يفكر في هذا الخيار بين المذهبين. فنظرية اقتصاد قائم على أساس (الحاجة) هي التي تقرر في صورة فرض (الحق) غير المشروط ¬

_ (¬1) ويبدو أن البلاد العربية بدأت تواجه المشكلة في وضع (البقاء) كما برهنت على ذلك التقارير الأخيرة التي اتخذتها مصر في قضية التشغيل العام.

لكل فرد في أن يحصل على خبزه اليومي، وبالتالي تعدّ العمل في النهاية ((واجباً)) يومياً عليه. وهذا التفضيل للاقتصاد الاشتراكي الذي يسود شيئاً فشيئاً جميع البلاد خاصة الأفرسيوية يؤيده التطور العالمي الذي يتخذ الاتجاه نفسه شيئاً فشيئاً. بل إن هذا الاتجاه قد بدأ يظهر بخاصة في بعض البلدان الغربية فإذا بالإنتاج والتوزيع اللذين كانا يخضعان حتى عهد قريب لمجرد الاعتبارات التجارية الدائرة حول محور المنفعة، إذا بهما ينحرفان نحو مذهب يدور حول فكرة (الحاجة). ويظهر هذا في فرنسا في صورة محاولات تحمل طابع المشاريع الخيرية، ولكن هذه الصورة أيضاً تترجم لنا عن تطور في المفهوم الاقتصادي. ولقد كانت الصناعة الفرنسية في عام 1936م تطبق مناهج مالتوس ( Malthus) لكي تتخلص من فائض الإنتاج، واليوم نجدها تحاول أن توزعه عن طريق الدولة، تلك التي توزعه دون مقابل، كما حدث أن وزعوا في مطلع هذا الشتاء كيلو جرامين من السكر على الفقراء (¬1). وهم يوزعون 1/ 5 لتر من اللبن يومياً على تلاميذ المدارس الابتدائية. وتلتزم مناجم الفحم أيضاً بضمان توزيع بالمجان للفحم طبقاً لشروط متفق عليها مع السلطات العامة. ولا شك في أن للبلدان الأفرسيوية مصلحة خاصة في أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التطور كيما يمكنها أن تطابق بين الطفرة الاقتصادية والطفرة الانتاجية اللازمة لبعثها في الميدان الاقتصادي. فبصرف النظر عن التخلف الناشئ عن عوامل نفسية في هذا الميدان حيث يجب على هذه الشعوب أن تتداركه، فإن عليها أن تتدارك تخلفها الناشئ عن عوامل اقتصادية بحتة، وهو التخلف الناشئ عن اقتصاد ما زال في مرحلته ¬

_ (¬1) أي شتاء 1955 - 1956م.

الابتدائية، فلكي يصل تجهيزها إلى المرحلة الثانوية، مرحلة التصنيع، فليس له ما يعتمد عليه سوى الزراعة، من ناحية والمواد الأولية (الخام) من ناحية أخرى وهذان هما ثديا الاقتصاد الأفرسيوي، ووسيلتا بعثه. ولقد قابلنا من الوجهة الفكرية بين الحالين: على محور واشنطن - موسكو من ناحية، وعلى محور طنجة - جاكرتا من ناحية أخرى، حين عرفنا المحور الأول بما أسميناه (نفسية القوة)، وحين عبرنا عن الآخر بلفظ (البقاء)، والآن يمكن أن نقابل بينهما أيضاً من حيث طبيعة وضعهما الاقتصادي. فمن الناحية الاقتصادية نجد أنفسنا أمام محور الصناعة من جهة، ومحور المواد الأولية من جهة أخرى. فكل برنامج للتصنيع في البلدان الأفرسيوية يواجه مشكلة الإنتاج الزراعي من جهة، ومشكلة تسويق المواد الأولية من جهة أخرى. ولقد ورد في أحد الأبحاث الحديثة التي وضعت تحت إشراف الأمم المتحدة أن مشكلة الجوع في العالم تنتج من نقص الانتاج الزراعي خاصة في البلاد الاستوائية وما وراء الاستوائية، أي على وجه التحديد البلاد الأفرسيوية. وبهذا ندرك أن هذا النقص يؤثر أولاً وبصفة مباشرة على (مشكلات الأساس أو القاعدة) في هذه البلاد نفسها، وعلى نهوض اقتصادها، وخاصة فيما يتصل بإقحام الرجل الأفرسيوي في النشاط الاقتصادي كمستهلك، وكمنتج. ومن البدهي أن عملية إقحامه تتطلب أن نعطيه أولاً لقمة الخبز قبل أن نسلمه الفأس والمعول. ومن هنا تظهر المصلحة التي تحققها المحاولات التي قامت بها حديثاً بعض الحكومات، مستهدفة علاج أوجه النقص في الإنتاج الزراعي، الناتج عن استعمال وسائل الزراعة العتيقة من ناحية، وعن طبيعة الملكية العقارية من ناحية أخرى، فالمشكلتان مرتبطتان ببعضهما إلى حد بعيد، واستعمال الوسائل العتيقة مثلاً في إفريقية الشمالية قد يفسره لنا إنشاء الاستعمار للإقطاعيات الضخمة،

التي لم تدع للفلاح الوطني أي إمكانية مادية لتعديل طريقته العتيقة. ولكننا نجد الفلاح في مصر ذلك الذي ارتبط بالأرض منذ القدم، نجده حتى ثورة يوليو 1952م وليس لديه من الامكانيات المادية ما يكفيه لتعديل وسائله. ومن هنا يأتي تفسير مشروع الاصلاح الزراعي الذي قام به القادة الجدد في مصر، وقد كان من نتائجه المباشرة أنه غيّر حالة الفلاح، ذلك الذي كان يعيش في صورة منبوذ مرتبط بالأرض برباط الاسترقاق، فأصبح عاملاً يربطه بالأرض (وعي اقتصادي) لوضعه كمنتج وكمستهلك، وإن هذا الإقحام الاقتصادي ليس 82% من مجموع الشعب المصري، وهو يعتبر بهذا الإجراء الأول في تحويل اقتصاد البلاد، والخطوة الأولى الضرورية في طريق التصنيع، وفضلاً عن ذلك فإن نتائجه الاقتصادية الخالصة ستؤكد أهميته من الناحية النفسية والأخلاقية. وإن انتزاع ملكية 500،000 فدان مشتراة من الملاك الكبار، ومصادرة 175،000 فدان من أملاك العائلة المالكة السابقة، ليعدّ- إلى جانب كونه إجراء للإصلاح الزراعي، يحول الرقيق إلى فلاح- يعتبر عملية تكوين رأسمال تحول- بما تحتوي من قوة فعالة، رأس المال العقاري إلى ميدان الاستثمار الصناعي، مغيرة بذلك الأوضاع الاقتصادية في البلاد ومحتمة وجهتها الصناعية. وفي حدود التفاصيل الخاصة بكل بلد تعتبر البلدان الأفرسيوية في هذه المرحلة من مراحل التطور الاقتصادي التي اجتازتها نهائياً البلدان الغربية، حين دخلت العصر الصناعى منذ قرن من الزمان. ولكن ظروف هذا التطور قد تغيرت منذ قرن تحت تأثير بعض العوامل النفسية والصناعية. فلقد تحقق اقتصاد القرن التاسع عشر في الغرب في المستوى القومي، ولقد فات أوان هذا المستوى الآن، أو على الأقل هو في طريقه إلى الزوال. فالاقتصاد يتطور شيئاً فشيئاً نحو صورة (الاتحاد الاقتصادي) وما (البول Pool) وهو الاتحاد الذي يتشكل من أكثر من قومية،

و (الاتحاد الصناعي Combinat) إلا معالم جوهرية لهذا التطور نحو اقتصاد جماعي، يوحد الحاجات والوسائل في عدة بلاد. ولقد أعطتنا الصين والاتحاد السوفييتي مثالاً فذاً في هذا الميدان، حين بدأنا في دراسة مشروع مشترك وهو يتصل بإنشاء إمبراطورية زراعية ( Empire agricole) مشتركة في مقاطعة كازاستان السوفييتية ومقاطعة سنكيانج الصينية، يقوم الإنتاج فيها على القمح الروسي والقطن الصيني، ويستغلان أساساً لتدعيم اتحاد صناعي تشكل على أساسه وحدة اقتصادية مهمة في العالم الشيوعي. وبدهي أن مصلحة البلدان الأفرسيوية هي أن تضع نصب أعينها عند أي تخطيط لاقتصادها هذا التطور، سواء لخلق أوضاع اقتصادية متكاملة، كالاتحاد الصيني والروسي الذي تحدثنا عنه أم لتمويل مشروع ذي مصلحة عامة كخزان أسوان، إذا لم ننظر إليه من وجهة الاقتصاد المصري فحسب، فإن من الممكن أن يفيد هذا المشروع المملكة العربية السعودية من الناحية الزراعية، لأن هذا البلد لا يمكنه أن يقيم في أرضه الصحراوية وسائل الإنتاج الزراعي التي يحتاج إليها. ومن الممكن أن يتكفل اتفاق ثلاثي بين السعودية ومصر والسودان بري وإخصاب منخفض القطارة الممتد من غرب الإسكندرية إلى حدود ليبيا لمصلحة الدول الثلاث، وذلك خارج نطاق الري المصري. وعلى كل، فإن فكرة الاقتصاد الموحد تنمو وتزدهر شيئاً فشيئاً في العالم، وهي التي ألهمت في المجال الأفرسيوي واضعي مشروع كولومبو (¬1) فعلى الرغم من أنه وضع كملحق اقتصادي لنظرية الحد من التسرب الشيوعي ( Containment) ويهدف فضلاً عن ذلك إلى القيام بتحسينات زراعية، فإن هذا المشروع يعد من وجهة خاصة مثلاً مفيداً على التعاون الاقتصادي الإقليمي، والمعروف أن ميزانيته تشتمل على خمسة مليارات من الدولارات، تدفع 60% ¬

_ (¬1) مشروع إنجليزي لإنعاش اقتصاديات بلدان الكومنولت الداخلة في نطاق الاسترليني في جنوب شرق آسيا. (المترجم)

منها الدول الخمس عشرة الأعضاء، والباقي وقدره 40% يدفعه البنك الدولي للإنشاء والتعمير. فنظرية الاقتصاد الموحد تقدم إذن أمثلة عملية في صورتين مختلفتين، صورة خاصة بالعالم الشيوعي مثل الاتحاد الصيني السوفييتي الذي ذكرناه آنفاً، وصورة أخرى خاصة بالعالم غير الشيوعي كمشروع كولومبو، وأكثر من ذلك فإن هذه النظرية التي تجد فيها ذكرنا تبريراً عملياً، يمكن أن تجد منذ الآن أسسها النظرية في بعض الأبحاث الأخيرة عن اقتصاد البلدان المتخلفة، خاصة تلك الأبحاث التي قام بها في فرنسا (معهد علم الاقتصاد التطبيقي I.S.E.A) وهي تعد في هذا الباب نوعاً من التحديد للموضوع حيث يحلل أصحابها- عن قصد وبصفة منهجية- عوامل نمو البلدان المتخلفة، ولقد استطاعوا أن يبينوا أن من بين الظواهر المعوقة لهذا النمو ((إبقاء الاقتصاد في نطاق قومي محدود)) فالقومية الاقتصادية كالقومية السياسية، فات أوانها بتأثير الحقائق الراهنة، لأن الاقتصاد يتطور نحو الاشتراكية القومية في الداخل والاشتراكية الدولية في الخارج، وفضلاً عن ذلك، فإن هاتين المشكلتين تحتفظان باستقلال كلي إزاء السياسة، وأياً ما كانت الحلول التي نرى صلاحيتها لهما، فإن هذه الحلول لا تستتبع بالضرورة أي اتجاه مذهبي، كما ذكر (نهرو) في مجلس التنمية القومية ( National Developpement) عند عرضه لميزانية مشروع السنوات الخمس الهندي، حيث أكد في هذا الغرض نظريته فيما يتصل باتجاه اقتصاد الهند نحو الاشتراكية. ولا شك في أنه كان يقدر تماماً في موقفه هذا، الفرصة التي واتته عقب سفره إلى بكين كيما يحدد معالم مذهبه في قوله: ((إن الاشتراكية لا يجب أن تفسر تفسيراً مذهبياً، بل هي في الحقيقة جعل وسائل الانتاج في حوزة الملكية الجماعية، بحيث تدار لصالح المجتمع كله)). ولسنا نستطيع أن نقوم بفصل قاطع خير من هذا بين الاقتصاد والسياسة، بحيث نحتفظ في الوقت نفسه بحرية الاختيار بين الاتجاهات العالمية، فإن الحجج المذهبية لا تدعم فناً اجتماعياً أو صناعياً، ولا تحط من قيمته، إذ الفن يعتمد على قيمته الذاتية، وعلى مقدرته على التأتير في ظروف معينة.

فاشتراكية وسائل الانتاج في رأي نهرو لا ترجع إلى أي مبدأ مذهي، بل إلى ضرورة تحددها ظروف خاصة بالوسط الهندي، وبإمكانياته الحالية. وفي هذه الظروف يستطيع الاقتصاد الهندي خاصة والاقتصاد الأفرسيوي عامة في ميدان التطبيق أن يستلهم سياسة مخططة من نظام المزارع الجماعية ( Système Kholkhozien) توفر له القدرة على التأثير. كذلك لا يمكننا في الميدان النظري أن نغض النظر عن أفكار المهندس الزراعي تيرانس مالتسيف ( Térence Maltsev) الذي تخصص في استغلال الأراضي القاحلة أو نصف القاحلة، تلك الصفة التي تنطبق على مساحات شاسعة من الرقعة الأفرسيوية، وتنطبق على كل حال على أراضي الشمال الافريقي. لأن عجز الإنتاج الزراعي في هذه المنطفة لا ينتج في الواقع عن استعمال الوسائل العتيقة أو عن التنظيم الزراعي فحسب، بل إنه ينتج أحياناً عن الظروف الطبيعية القاسية. وقد لا يكون العلم قد توصل حتى الآن إلى التحكم في هذه الظروف لكي يفرض بطريقة علمية توجيه الأراضي في الزراعة، ولكن البلاد القاحلة- وأغلب البلاد الإسلامية في هذه الحالة- تستفيد كثيراً من متابعة نمو الأفكار التي أبدعها تيرانس مالتسيف. وعلى كل، فإن ما تتصف به هذه المشكلات من التسلط على الاقتصاد الأفرسيوي لا يفتأ يزداد مع ضغط زيادة السكان من ناحية، ومع ضرورات الاستثمار من ناحية أخرى بما أن الانتقال إلى المرحلة الصناعية لا يمكن أن يتم دون فائض في الانتاج الزراعي، والمفروض أن هذا الانتقال سيحدث مع تطبيق الاشتراكية على وسائل الإنتاج، كما يدل عليه التوجيه الحالي في الهند. ولكنا نصادف هنا المشكلة الثانية في الاقتصاد الأفرسيوي، وهي مشكلة المواد الأولية، وكما حدث في الأولى، يحدث في هذه المشكلة، حيث تتراكب العناصر الاقتصادية المحضة فوق العناصر النفسية، التي لا يلزمنا أن نعود هنا إلى الحديث عنها. ويبقى علينا أن ننظر إلى زيادة الإنتاج الزراعي- الذي يشمل بقدر كبير جميع برامج التجهيز الصناعي- من الزاوية الاقتصادية المحضة.

ومن هذه الزاوية تواجهنا مشكلة تسويق المواد الأولية، فالبلاد الأفرسيوية مضطرة في الظروف التي توجد فيها الآن إلى أن تصدر المواد الخام، تلك التي لا تملك وسائل تغييرها وتصنيعها في بلادها، ومن هنا تكون مرحلة جديدة في مواجهة هذه البلاد لمحور واشنطن - موسكو، هنالك حيث تقوم صناعات التحويل والتغيير، وتلك هي المواجهة الاقتصادية التي تظهر نتائجها بصورة طبيعية في الميزان التجاري لتلك البلاد خاصة في الخسارة التي بلغت 16% في دخلها الكلي- كما ذكرنا آنفاً- خلال السنوات التي أعقبت تحررها. ونحن نصادف مرة أخرى هنا مشكلة (الوعي الاقتصادي) والتخصص الفني، أعني مشكلة توجيه الثقافة وتكوين الإطار الاجتماعي. ولكن بصرف النظر عن هذه العناصر الداخلية التي يجب أن نضيف إليها نتائج الأحداث الثورية التي أدت إلى التحرر، مع تفاوت في درجتها الثورية، فإن الخسارة تنتج أيضاً بقدر ما عن ظروف السوق الدولية. وبالنسبة إلى هذا الجزء من المشكلة تواجهنا مشكلة تسويق المواد الأولية؛ وهي تواجهنا أولاً بمنطق البورصات، بكل ما يحمل هذا المنطق من اصطناع ومكيافيلية وتزييف. وبدهي أن تسعير البورصة يبدأ من علاقة (المادة الأولية بالعملة) تلك العلاقة التي يحددها سعر البورصة. ولكن السعر لا تحدده العناصر الاقتصادية الخاضعة لقانون العرض والطلب فحسب، بل إنه يتحدد أيضاً بعناصر غير اقتصادية تفصح عن اعتبارات مالية، وسياسية، واستراتيجية، أعني: الإرادة الخاصة لأحد الأطراف وهو مَن في حوزته العملة، وهذا ينطبق انطباقا تاماً على البترول مثلاً، فإن هذه العناصر الأخيرة المذكورة هي التي تحدد وحدها أسعاره، دون أن يكون للبلاد المنتجة للمادة حق إبداء رأيها، فإذا انتقلنا عملياً إلى السوق الدولية، وجدنا الأمر قريباً من هذا. إذ تتحدد العلاقة بين المادة الأولية والعملة عملياً من طرف واحد: هو الترست ( Trust) الذي يحدد الأسعار بنسب تناسبه. وهكذا تخضع سوق المادة الأولية- دون مقابل- لسوق المال، ولإرادة رأس المال. وإنه من طبيعة هذا الوضع أن نرى في تلك الارادة، المقدرة بالدولارات والإسترليني، الفلسفة التي كانت تقود

منذ عهد قريب الاستغلال الاستعماري، فهي تحاول اليوم لأسباب مالية واستراتيجية إبقاء (منطقة رهو) في البلاد المنتجة للمادة الأولية، تتفق مع التيارات التجارية ومع التيارات السياسية العالمية أي مع مصالح البلاد ذات الطاقة الاقتصادية العالمية وتسعير القطن المصري، والكاوتشوك والتوابل في أندونيسيا، والأرز في بورما، إنما يتحدد طبقاً لمقتضيات هذه التيارات، وفي خضم هذه الظروف التي تموج بها السوق العالمية تواجهنا مشكلة تسويق المادة الأولية. والضرر الذي يصاب به الاقتصاد الراهن القائم على أساس النقد إنما يأتي من أن العلاقة بين المادة الأولية والعملة إنما تحددها العملة نفسها. فمثلاً ليس هناك أي سبب ظاهر لأن يكون سعر (الحلفا) الجزائرية- وهي مادة أولية- أقل ثلاثين أو أربعين مرة من سعر منتجاتها- عجينة السليلوز والورق- المصنوعة في إنجلترا، ليس هناك سوى سبب واحد يتصل بالعلاقة بين الحلفا والجنيه الاسترليني، وذلك هو فائدة الصناعة الإنجليزية والعامل الإنجليزي، وهكذا تكبد ساعة العمل التي يؤديها العامل الإنجليزي العامل الجزائري كثيراً، إذ إن الأول إنما يفضل الثاني بالعملة. على حين لا يمثل الثاني سوى المادة الأولية. وقد لفت هذا الشذوذ أنظار بعض المراقيبن لاقتصاد الشمال الإفريقي حين لاحظوا أن سعر الطن المصدر من المادة الأولية كان مثلاً في مراكش عام 1938م (600 فرنك)، بينما يصل سعر الطن المستورد من المنتجات المصنوعة إلى (2300 فرنك). وملاحظة هذه الأرقام باعتبارها متوسطاً كلياً، لها دلالتها، ولكنها لا تترجم تماماً عن الواقع الاقتصادي في مستوى العامل المراكشي، بل في مستوى رجل الأعمال الأوروبي الذي يصدر المادة الأولية المراكشية، أما في مستوى العامل المراكشي، أو مستوى مقتلع الحلفا الجزائرية، فإن أسعار الطن المعد للتصدير يجب أن تهبط إلى الثلث، وأيضاً إلى الربع من هذه القيمة لكي تطابق الحقيقة.

وأياً ما كان الأمر، فلكي نعالج تسلط العملة على المادة الأولية فإن من الواجب أن نحرر المادة من العلاقة التي تخضعها لظروف السوق الراهنة. ويبدو أن بعض البلاد الأفرسيوية قد عقدت فعلاً عملياتها التجارية الأخيرة على أساس علاقة لا تنفرد العملة فيها بتحديد قيمة المادة الأولية، فلقد تمت هذه العمليات على أساس مقايضة (مادة أولية بمادة أولية) أو (مادة أولية بتجهيز صناعي) فبادلت سيلان على هذا الأساس محصول الكاوتشوك مقابل الأرز الصيني، وبادلت مصر قطنها مقابل التجهيز الصناعي، وبصفة عامة تقوم عمليات تبادل البلاد الأفرسيوية مع الشرق على أساس ذي طبيعة أخرى، وهو ما يمكن أن يتضح بقدر كبير في هذه العلاقة: .......... مادة أولية - عمل .......... ومن الممكن أن تتم المبادلات مع الغرب على الأساس نفسه، وإنما هنا نصطدم بـ (كتلة نقدية)، تلك الكتلة التي كشفت في قضية البترول الإيراني عن إرادتها في أن تظل سيادة العملة على المادة الأولية، ولكن البلاد الأفرسيوية تستطيع أن تستلهم من هذه السياسة الاقتصادية سياسة أخرى معارضة لها. بأن تنشئ في مواجهة (الكتلة النقدية) (كتلة المادة الأولية). وبعبارة أخرى، إذا كان مبدأ الاقتصاد الموحد صادقاً في الميادين الزراعية والصناعية في الاقتصاد الأفرسيوي، فإنه أيضاً صادق في ميدان تسويق المواد الأولية لمواجهة الاستراتيجية المالية للترست بصورة فاعلة، وبصفة عامة لمواجهة إرادة القوة، خاصة إذا ما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لعلاج بعض ألوان الشذوذ العرضي في سوق المواد الأولية. فعندما يتعرض الكاوتشوك، وهو عامل طفرة للنمو الاقتصادي في بلاد جنوبي شرقي آسيا، لنكسة في الوقت الذي تدل فيه الإحصاءات على زيادة مستمرة في منحنى استهلاكه، فتلك ولا شك حالة تدل على وجود أعراض مرضية.

وفي ظاهرة كهذه يمكن أن ندرك- بداهة- تأثير العوامل غير الاقتصادية التي تحرف القانون الطبيعي للعرض والطلب، وهذه العوامل ترتبط- كما هو ظاهر- بتحكيم السياسة في مشكلة التبادل بين بلاد (الكتلة النقدية) والبلاد المنتجة للمادة الأولية، فإن بلاد (الكتلة النقدية) تريد أن تطبع على هذه المبادلات الاتجاهات المناسبة لخطها السياسي الخاص، ولا يمكن تعديل هذه الاتجاهات إلا بتنظيم حكيم لسوق المادة الأولية ولتسويقها بوساطة البلاد الأفرسيوية، تبعاً لمبدأ الاقتصاد الموحد. ولكنا نلاحظ أن هذا المبدأ- في جميع مناطق الاقتصاد الأفرسيوي حيث بينا ملاءمته لها- يتفق فعلاً مع المبدأ الأخلاقي الأساسي للفكرة الأفرسيوية، أعني مع الفكرة (عدم العنف). إذ لا يتصور في الواقع أن نواجه مشكلة اقتصاد موحد في منطقة لم يزل عنها خطر الحرب نهائياً. فإن المرء لا ينشئ شركة مالية مع رفيق لن يسير معه إلا جزءأً من الطريق. وهذا الاعتبار يبرز شذوذ بعض الحكومات في الرقعة الأفرسيوية حين تنساق في سياسة الكبرياء، فتضع المشكلات في لغة القوة، في مجال ينبغي عليها فيه أن تصوغها بلغة (البقاء)، بحكم الضرورات الداخلية في تلك البلاد، وبحكم اتجاهها في الظروف الحاضرة المتسمة بإلحاح اعتبارات السلام. وبالنظر إلى هذه الاعتبارات الملحة يصبح الاقتصاد عنصراً جوهرياً يحدد وجهة الفكرة الأفرسيوية: فهو يصبح في هذا المستوى- إلى جانب كونه وسيلة الشعوب الأفرسيوية للحياة- وسيلة لها كيما تتحمل رسالتها الداعية إلى السلام، التي تقع على عاتقها في مواجهة الكتلتين. ويستطيع الاقتصاد الأفرسيوي- حين يجر هذه البلاد إلى منافسة تحمل طابع التعايش- أن يتحاشى تحول المنافسة الاقتصادية إلى وضع انفجاري، ولقد أوضح مشروع بناء خزان أسوان أن هذه المنافسة يمكن أن تكون مثمرة خصبة لو فهمها الكبار، وذلك عندما ينفون عنها ما يمكن أن يخلع عليها صبغة حادة

منفعلة، وذلك هو ما فعلته الحكومة المصرية، ومن بين الاقتصاديين المشهورين الذين يفكرون في تأثير هذه المنافسة الاقتصادية في علاقات الكتلتين إحداهما بالأخرى، نرى مثلاً مسيو ألفريد سوفي ( Alfred Sauvy) في فرنسا يقول: ((إن من الممكن وجود نقطة التقاء بينهما في الجنوب البائس)) (¬1). فمن الممكن أن تلتقي روسيا بالغرب في الرقعة الأفرسيوية، وبهذا تتلاحم حلقة الوحدة الإنسانية على محور طنجة - جاكرتا في الميدان الاقتصادي. وحبذا لو أدركت الشعوب الأفرسيوية في الوقت الذي تكوّن فيه وعيها الاقتصادي القيمة التاريخية لهذا الوعي، في العالم الحالي، كعنصر من عناصر التقدم والسلام. ... ¬

_ (¬1) يشير بهذا إلى البلدان الواقعة على محور طنجة - جاكرتا.

الجزء الثالث

الجزء الثالث رِسَالَةُ الفِكْرة الأفرسْيَوِية - فكرة الأفرسيوية والتعايش - فكرة الأفرسيوية والعالمية - العالم الإسلامي وفكرة الأفرسيوية - أوروبا وفكرة الأفرسيوية - نتيجة البحث

فكرة الأفرسيوية والتعايش

فكرة الأفرسيَوية وَالتَّعَايش لقد رفعت الحضارة الغربية طاقة الإنسان إلى مستوى غير مألوف، وعندما وصلت هذه الطاقة إلى درجتها تلك، قلبت كل حقائق التاريخ، وأدخلت فيه عنصر قوة يطبعه بطابع الشمول، وبذا وجدت الشعوب جميعاً نفسها وكأنما تقلها سفينة واحدة إلى مصير واحد فهي تشعر شيئاً فشيئاً بفضل التطورات الصناعية الحديثة، خاصة في الميدان الذري، بأن عليها أن تجتاز مجتمعة بعض المراحل الحاسمة، وأن تعالج مشتركة بعض المشكلات الجوهرية وهكذا نرى أن عهد تحلل المادة يتفق مع عهد التجمع الإنساني، إذ لم تعد هنالك جزيرة الفردوس التي يمكن للإنسان أن يعيش فيها منعزلاً عن تيارات الأحداث. لقد صنعت الحضارة الغربية عالماً يترابط الناس فيه ويتعارفون على الخير وعلى الشر، وقد يؤثر عامل القوة في كلا الاتجاهين دون تمييز كأنه قوة عمياء لم يتحدد توجيهها. بينما غذى أثرها خيال الأجيال في العالم منذ عهد جولس فيرن ( Jules Verne) إلى عهد ولس ( Welles) مقدماً لأسلوب القصص العلمي مادة لا تنفد من التصور والإلهام في الوقت الذي كان يسجل في الأنفس نتائجه المتناقضة. وهو بقلبه للأوضاع التي سبق أن خلقها، لم يكف عن أن ينمي في تاريخ القرن العشرين عجيبته الهائلة، حيث أوجد فيه جميع عناصر الأزمة النفسية والزمنية الراهنة في الوقت الذي يفرض فيه جميع ظروف حلها. وإنما ترجع هذه الغرابة إلى أن عنصر القوة- حين يحقق نتائجه على المحورين في وقت واحد، ينشئ بينهما أفعالاً وردود أفعال متبادلة تتسجل في تطور العالم الراهن كأثر مباشر وأثر مضاد ناتجين عن تلك الحضارة.

تلك هي (القوة) التي حددت- بلا جدال- خلال القرن الماضي علاقات الإنسان على محور طنجة - جاكرتا بالإنسان على محور واشنطن - موسكو، كعلاقات بين مستعمَر ومستعمِر. ولكن بينما كان من المتوقع بالنسبة إلى هؤلاء الخصمين بقاؤهما مسيرين كل منهما إلى ما قسم له، بحيث يسيران في وضع (تواز) مستمر يمثله خطا القابلية للاستعمار والاستعمار. إذا بهما ينتهيان إلى ميدان تتقاطع فيه قوى التطور، وسبب ذلك هو الانقلاب المفاجئ الذي طرأ على الحالة بفعل ما أسميناه بالتأثير المضاد الناتج عن القوة. ومن الطبيعي أن تظهر نقطة التقاطع لعيني الخبير الاقتصادي في الميدان الذي تتحكم فيه القوى الاقتصادية، ففي فرنسا مثلاً يرى ألفريد سوفي ( Alfred Sauvy) أن نقطة الالتقاء ... إنما هي في (الجنوب البائس) أي في الاتجاه الذي يحدد التيار الاقتصادي العالمي الراهن الذي يتجه من مناطق (الإنتاج) في الشمال إلى مناطق (الاستهلاك) في الجنوب. وهناك عوامل ثقافية واجتماعية يمكن أن تحتم أيضاً هذا الاتصال. كان يحدث هذا أحياناً في صورة طفرة ثورية، ومن الأمثلة على ذلك ثورة (القصر) التي أسقطت ملوك الشوجون ( Shoguns) عن العرش ونصبت عليه الميكادو ( Mikado) فتخلصت اليابان هكذا من حالة القرون الوسطى والقابلية للاستعمار، فدخلت في حلبة الاستعمار؛ لأن الاتصال في القرن الأخير لم يكن ليتم إلا هكذا، أي على محور (القوة) طبقاً للوضع الغربي، وإن الظاهرة لتستمر في تتابعها مع تحول هذا الوضع بصورة معجلة إلى وضع عالمي، وها هي الصين تجتاز اليوم المرحلة نفسها بثورتها الشعبية طبقاً لقانونه. فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية التي تطرد بدافع من (قوتها) الخاصة، ومن تطور الشعوب التي تعيش على المحور الآخر ((ولكن الاتجاهين لا يتضايفان، بل إنهما في حالة معينة يتطارحان، فالأثر يحد أحياناً بالآثر المضاد، أي إن القوة

التي خلقت في القرن الماضي الامبراطورية الاستعمارية، هي في طريقها إلى أن تفقد اليوم سلطتها على المستعمرات في اللحظة نفسها التي تبلغ فيها القمة باكتشاف الطاقة الذرية. ولكن الخسارة في مجال السيطرة يعادلها تماماً كسب في مجال الاتصال الإنساني، فإن التطور غير المتقاطع (المتوازي) للاستعمار والقابلية للاستعمار، كان ينطبق على الانفراد (بالقوة) التي كانت في حوزة أوروبا تتيح لها تلك الفتوحات المخيبة للآمال؛ لأنها كانت عارية عن أية أهمية إنسانية، حيث كانت منذ عشر سنوات فحسب لا زالت توحي بموضوعات تترجم عن خيبة الظن، كذلك الموضوع الذي كتبه كاتب إفريقي مشهور تحت عنوان معبر هو ((اللقاء المستحيل)) (¬1) وهو أن تطوراً متقاطعاً بدأ يتحقق شيئاً فشيئاً خلف هذا التطور، حيث يقرب بين المحورين اتجاه مشترك، ولقد تجلى هذا الاتجاه المشترك في صورة إرادة بعث جديد على كلا المحورين، وكان ذلك عندما شعر أحدهما بالسقوط ألاجتماعي الذي يعانيه وشعر الآخر بالسقوط الروحي الذي كاد يرديه. وإن هذه الارادة التي لم تع تماماً حقيقة نفسها في مجموعها لتعتبر ضمان النجاح النفسي الأكيد للتعايش، وهو الهدف الجوهري الذي تتجه إليه سائر التطورات الأخلاقية والاجتماعية التي تجري في العالم الآن. ولقد تخفي هذه الظاهرة الأساسية للتعايش بعض الظواهر السطحية السياسية الناتجة عن المرحلة الثورية التي نمر بها ولا شك، فإنه من الصعب علينا أن نفسر الانقسامات السياسية التي تتوالى منذ عشر سنوات في نطاق (اللإمبراطورية الاستعمارية) على أنها أعراض للتقارب بين الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة، فلو أننا اقتنعنا بالبرهان المؤقت، فقد يكون من الصعب أن نبرهن على أن تلك الانقسامات السياسية التي منحت الهند وأندونيسيا استقلالهما قد أنتجت حركة تقرب هذين البلدين من إنجلترا وهولندا على وجه الخصوص. ¬

_ (¬1) نشير بهذا إلى الدراسة المضنية الهامة التي ظهرت عام 1948م للكاتب أميه سيزير Aime Césàire في مجلة باريسية تحت عنوان (اللقاء المستحيل).

أما بصفة عاجلة فإننا نرى فيها ما يشبه حركة تدفع عن المركز، بحيث يدفع أثرها عناصر العالم. مما يشبه الانفجار الذي يبعد بعضها عن بعض. ولكن هذا المظهر السياسي المؤقت يندمج- في سياق التاريخ- مع شروط أولية لحركة إعادة تركيب العالم، على أسس منزهة عن الاستعمار والقابلية للاستعمار. وبذا يبدو التحلل الذي يعانيه العالم اليوم في هذا الاتجاه، وكأنه مرحلة أولى ضرورية لحركة مركبة يجب أن تنتهي إلى وحدة العالم، تلك التي يفرضها عامل (القوة) كقدر محتوم جار على تطوره. ولكن معنى هذه الوحدة إنما يتمثل في المضمون الذي يمكن أن تصوغه القوى الروحية والقوى المادية التي تصنع تاريخ القرن العشرين. (فالقوة) المسيطرة، و (الروح) المحررة المطلقة هما هنا طبعاً في صراع، والتركيب الحيوي النهائي إنما يكون نتيجة مساهمتهما في هذا الصراع. بحيث يؤدي هذا الصراع إلى عهد جديد من عهود السيطرة، بطلاه هما الرجل المستعمِر والمستعمَر، أو إلى عهد من عهود التحرير ونهوض الرجل الحر. أياً ما كان الأمر فإننا أمام عملية (تحلل وجمع) على كلا المحورين في وقت واحد مع احتفاظها بخصائصها في كليهما. إن التاريخ الذي فقد توازنه في الحقبة الراهنة بفعل الحربين العالميتين جاد في أن يجد مركز ثقله الجديد. ولكننا نجد على محور واشنطن - موسكو، حيث إن القوة كانت قد حددت مركز ثقله التقليدي في القرن التاسع عشر، نجد الآن عوامله الجوهرية المحركة التي تفسر لنا تقلبات الحالة الراهنة في العالم، مع أن هذه العوامل لا تكفي وحدها في تفسير هذه التقلبات، فالواقع أنه يجب أن نأخذ في اعتبارنا بعض العوامل الأخرى التي تؤثر منذ عشر سنوات على اتجاه العالم في صورة دوافع أخلافية، ترد إليه من المحور الآخر، وهي تترجم عموماً عن رد الفعل لديه إزاء عامل ((القوة)) وهذا التعارض بين (أثر القوة) و (أثرها المضاد) هو الذي عقد تطور هذه الحقبة، وعقد الحالة الراهنة بدرجة كبيرة.

فالأزمة من أساسها قد انعقدت على تناقضها، وهي تصل بهذا التناقض إلى قمتها أي بالأثر والأثر المضاد عندما يصلان إلى منتهى الشوط في النمو الطفري المفاجئ للحضارة، باكتشاف الصناعة الذرية. فأصبحت نتائج هذه الصناعة وآثارها في الإطار النفسي تكون من ناحيتها بوادر حل الأزمة. فالأسلحة الذرية بأثرها المباشر كانت الحجة البالغة لكل ما يتصل بالناحية الاستراتيجية، ولكنها بوساطة نوع من الأثر المضاد قد أصبحت أقوى حجة في موضوعات السلام، فقد برهنت في الواقع بطريق الإحالة على استحالة قيام حرب عالمية ثالثة. التي كانت تعد النهاية الطبيعية (للحرب الباردة). ولكن هذه الاستحالة- التي ندركها في الإطار المادي- ستكون قليلة الأهمية إذا لم تمس في الوقت نفسه النظام الأخلاقي أي إذا لم تكن سوى واقع مادي، تسجله النظريات الاستراتيجية والسياسية في ميدانها الخاص، والواقع أننا نرى هذه الاستحالة تتسجل أيضاً في نفسية العصر، مؤكدة في ضميره ضمناً وبصورة درامية، النقطة التي يلتقي فيها المحوران لقاءً فكرياً. وهكذا تجد وحدة العالم قاعدتها الفكرية في هذه الاستحالة التي لا تدع للإنسانية أدنى قسط من الاختيار، حيث تفرض عليها فكرة (التعايش) الجديدة. فالتعايش ضرورة؛ لأنه لا يوجد مخرج غيره من الأزمة. هذه الفكرة التي تعدّ من الناحية التاريخية إجابة الضمير الإنساني على تحدي (القوة) تشير إلى أن التطور النفسي على محور واشنطن - موسكو قد انتهى عملياً إلى مبدأ عدم العنف. ذلك المبدأ الذي ألهم دون شك اجتماع باندونج. وهو أيضاً المبدأ الذي تتضمنه فكرة (التعايش) إذ هي تعني في مفهوم السياسة أن الكبار تنازلوا عن اللجوء إلى العنف لحل منازعاتهم. هذا الالتقاء لم يحدث اعتباطاً، بل هو دفعة من دفعات اللاشعور، تدل دلالة عارضة في الواقع السياسي على التأثير الغامض الشائع الذي يتمتع به مبدأ غاندي في العالم الراهن.

إن لعدم العنف قصته وتاريخه، أما قصته فإنها تغوص في أعماق الجائينية ( Jainisme) التي صنعت مبادئها الجوهرية قبل التاريخ المسيحي بثمانية قرون على يد المشروع الثالث والعشرين لسلالة تيرتانكرا ( Tirthankaras) (¬1) المشهورة، الذي نمَّى الفكرة الجائينية حتى عهد المهافيرا ( Mahavira) الزعيم الأخير لتلك الديانة، وهو المعاصر لجوتاما بودا ( Gautama Bouda) صاحب البوذية. فالمبدأ الأولي في القانون الذي سنه هذا المشرع كان على وجه التحديد مبدأ (الحمسا Ahimsa) ، الذي نعرفه في اللغات الحديثة بمبدأ عدم العنف. وأما تاريخه فإنه يتصل بالعالم الحديث، وقد بدأ مهمته مع بدء هذا القرن في قرية صغيرة من قرى جنوب إفريقية. والحق أن كثيراً من التيارات الروحية يبدو أنها قد انتهت إلى ضمير غاندي في تلك القرية الصغيرة، فمؤرخو (عدم العنف) لا يفتؤون يذكرون هذه التيارات بأحمائها، حين يتحدثون عن أن غاندي يدين بأفكار هنري داود تورو ( Henry David Thoreau) (¬2) المبسوطة في مؤلفه (العصيان المدني Civil Disobedience) ، من ناحية، ولأفكار تولستوي ( Tolstoi) من ناحية أخرى. وتبعاً لهذه النظرية يمكننا أن نضع تخطيطين تاريخيين لتباين التاريخ الحديث لفكرة عدم العنف، فإما أن نعدّ تخطيط تورو- غاندي- ساتياجراها (طريق الحقيقة)، وإما أن نعدّ تخطيط تولستوي- غاندي- ساتياجراها، وإما أن نضمهما معاً في تخطيط واحد، وهناك من المؤرخين لسيرة غاندي من أخذ بهذه الطريقة. ومع ذلك فيبدو لنا أن من الأولى هناك أن نطبق تخطيطاً نفسياً يحل محل التخطيط التاريخي مهما كانت قيمته. فتاريخ عدم العنف إنما يفسر في الواقع بطريقتين، فإما أن نفسره بتيار روحي على احتمال أنه مر بضمير تورو، ولكنه ¬

_ (¬1) هذا اللفظ يعني في اللغة السنسكريتية (الشيخ). (¬2) شاعر أمريكى، انعزل عن المجتمع، وكان يعيش في بدء القرن التاسع عشر.

تخلق من البهاجافاد- جيتا، حيث إن الشاعر الأمريكي قد قرأها، وتمثل روحيتها، كما تمتلها غاندي نفسه. وإما أن نفسر بتيار روحي آخر يمكن أن نسجل ميلاده في ضمير تولستوي في تلك المطامح التي عبر عنها في كتاب (الحرب والسلام)، ولكن يجب أن نذكر في هذه الحالة أن الفكرة لم تصبح واقعاً تاريخياً إلا في بيئة الحمسا ( Ahimsa) التي أحتضنتها، ومن خلال ضمير غاندي الذي تغذى بالبهاجافاد- جيتا. وإذن، فإن التخطيط النفسي يشرح لنا من كل وجه عناصر التخطيط التاريخي أو يكملها، وربما استطعنا أن نوفق بين التخطيطين بالتوفيق بين إجابات غاندي نفسها وبين ملاحظات أولئك الذين يريدون أن يروا في مبدأ الساتياجراها تأثير تورو أو تولستوي. ولقد بيَّن غاندي بنفسه، وأكد تاريخه بعد ذلك، هذا البيان، وهو أنه قد خط بنفسه طريقه في هذا الميدان تم اتبعه. فتاريخ عدم العنف على كل حال يتصل بالعالم الحديث. فلم يقم عبثاً غاندي خلال نصف قرن بصلواته وبصيامه المتكرر أمام العالم، فلقد كانت هذه الدراما أروع الشاهد تأثيراً وإنشاء في القرن العشرين، لأنها غذت بلا جدال نفسيته وروحيته وضميره بما أوحت لرواده مثل رومان رولاند ( R. Roland). والحق أن القصص المؤثرة في مجموعة مواقف المهاتما، حتى قصة موته المؤلمة لتعدّ تتابعاً لتاريخ (الضمير) المعاصر على شاشته الخاصة: أي تتابعاً لملحمة عدم العنف التي ترجم عليها كبار الكتاب. ولا شك أن هناك سبباً عميقاً لما حدث في شهر أغسطس 1939م في صبيحة إعلان الحرب العالمية، فقد تحول دير غاندي ( Ashram de Sevagram) إلى مقر للقيادة العليا لمبدأ عدم العنف. حيث استقبل من كل فج في العالم إشارات تطلب النجدة المستيئسة لانقاذ آخر فرصة من فرص السلام، ولقد كانت دعوة سيدتين أمريكيتين معبرة تماماً بلهجتها الإنسانية السامية. لقد ذكرت هذه الرسالة المهاتما بأن (العالم) في حاجة إلى قيادة وحيث كان في نظر السيدتين من

اختصاص غاندي أن يتخذ قراراً في هذا الموضوع، فإنهما قد توسلتا إليه في ((أن يعبر لقادة العالم، ولشعوبه عن ثقته التي لا تتزعزع في حكم العقل- لا في استخدام القوة ... )). فقد امتد إذن إشعاع (عدم العنف) إلى أبعد من دير المهاتما، وعبر الحدود متمثلاً في تيار ثقافي عالمي، منحدراً في (لا شعور) الإنسانية، متدفقاً في أفعالها وأفكارها، في تلك الظروف الرهيبة التي أعلنت فيها الحرب العالمية الثانية. ولا شك في أن من الصعب أن نتتبع مسير هذا التيار النفسي دون تردد لكي نقول ببساطة أن فكرة (التعايش) ليست إلا تدفقاً لعدم العنف على محور القوة، في الظروف الحساسة التي تحيط (بالحرب الباردة) ولكن فكرة (عدم العنف) قد رحمت طريقها في العالم ببعض السمات والمعالم، فإذا بنا نجد هذه السمات في أماكن غير متوقعة، وذلك حينما تتدفق في صورة انبثاق سياسي من لا شعور الأفراد أو الشعوب. كما رأينا في اليابان، ذلك البلد الذي كان مثله الأعلى في الحرب متمثلاً في أقصى صوره في سمات ساموري ( Samourai)، ( البطل التقليدي في اليابان)، لقد كشفت استفتاء حديث عن مظهر سياسي جديد تماماً، إذ تمنى بعض اليابانيين حين أخذت آراؤهم في إعادة تسليح بلادهم لإقحامها في جهاز الدفاع عن منطقة الباسفيك وعن ما يتوقعونه لهذا العمل، تمنوا ألا تلجأ بلادهم في الدفاع عن نفسها إلى سلاح غير (عدم العنف). وكذلك فعل الألمان عندما نوقش (اتفاف باريس) على قبول ألمانيا في منظمة حلف الأطلنطي، لقد أبدوا التحفظات نفسها، والأماني نفسها، التي تدل على أن الطبقات الشعبية ليس لديها أي حماس لإعادة تسليح بلادهم. ففكرة (عدم العنف) تبرز إذن في محيط السياسة الدولية وفي محيط السياسة القومية. يظهرها ضغط عناصر القوة، كما يظهرها تحدي هذه القوة، حتى كأنها إجابة اللاشعور على مرارة ظرف خطير ذي ملابسات قاسية. وإن شبحها لهو الذي بدا على ذلك المنعطف الحاسم في الحرب الباردة لكي يجيب

على أخطر تحد وجهته القوة لضمير الإنسانية. ولقد كان (التعايش) صورتها السياسية على محور واشنطن - موسكو، حتى كأنها شبح جديد للحمسا خارج مسقط رأسها. فالرسالة العالمية لفكرة (الأفرسيوية) تبدأ إذن في ظل هذا التحول الذي يحمل إشعاع روحها الأخلاقي إلى محور القوة. وستبدأ عملياً طريقها مع تأكيد مبدأ (الحياد) الذي التزمته الهند، تلك التي أثرت تأتيراً حاسماً على مجرى الأحداث خلال السنوات العشر الماضية، فيما يتصل باتجاه السياسة الدولية، وبالتطور الذي قاد الشعوب الآفرسيوية إلى مؤتمر باندونج أي إلى قاعدة الفكرة الأفرسيوية، وقاد محور القوة إلى مؤتمر جنيف أي قاعدة فكرة (التعايش). ومن الوجهتين الأخلاقية والسياسية يعدّ حدوث هذين المؤتمرين امتداداً لمبدأ (عدم العنف) في صورته الأخلاقية على محور طنجة - جاكرتا، في باندونج، وتطبيقاً له على محور واشنطن - موسكو، في جنيف، في صورة سياسية. فقد سجل المبدأ إذن تطوراً مزدوجاً يهدف من ناحية إلى خلق أصول حضارة، ويهدف من ناحية أخرى إلى التقريب بين مقاييس العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي، وربما بقي لدينا بعض الريب فيما يتصل بهذا التقريب، إذا ما لاحظنا حالة التوتر العصبي التي تعانيها الأفكار على محور القوة بتأثير (الحرب الباردة) حيث نرى أن نظرية (التعايش) لا تمثل لدى المسؤولين الرسميين، أي لدى الرجال الذين يحكمون، تنازلاً حقيقياً عن فكرة العنف، بل هي تمثل مجرد عجز بيّن عن إيجاد المبررات لاستخدام القوة. فالأمر لا يعني لدى هؤلاء المسؤولين تحولاً عن مبدئهم وإنما مجرد تغيير في التكتيك. وربما لاحظنا في هذا المجال قدراً أقل من الشك والريبة عند الجانب الشيوعي. فهم يؤمنون- بسبب اتجاه الفكر الماركسي- بحدوث التغير دائماً، لأنهم يؤمنون- كما يقال- بالتاريخ. ولكن مقدار الشك لدى قادة الكتلتين كاف في تشويه فكرة التعايش إذ يرى البعض أنها نوع من الاتفاق على وضع استقرار يصون مصالح معينة أمام

الستار الحديدي وخلفه، اتفاقاً يتضمن في نظرهم علاقات الكبار وجهاً لوجه بالشعوب الأفرسيوية طبقاً لمصالح الأولين، في عالم مسير يقره هذا الاتفاق في وضع الثالوث الجغرافي السياسي، أي في صميم أزمته. وتحت هذا الشكل السطحي يفقد مفهوم التعايش تأثيره وقيمته التاريخية بفقدانه لمعناه الأخلاقي، وربما يخفي هكذا داخل غلافه المفهوم القديم لـ (مناطق النفوذ) تلك الفكرة القديمة للميثاق الاستعماري، ولكنها فريدة ومنقحة في صورة (الاستعمار المشترك) ولقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في قضية تسليم الأسلحة التشيكوسلوفاكية لمصر، حيث فسر هذا الحدث في بعض الأوساط على أنه خيانة لفكرة (جنيف) - كما سبق أن بينا- وربما خامرت أفكارهم نية إثارة مشكلة الشرق الأوسط من جديد، كما أوحت بذلك الصحافة بين الأسطر لولا أنهم لا يرغبون في إدخال شريك مخالف غير مرغوب فيه في قطاع هو (منطقة النفوذ الأنجلوسكسوني) في لغة الدبلوماسية في القرن التاسع عشر. إن مافهوم (التعايش) الجامد لا يمكن أن يكون ذا تأتير فعال في العالم الذي يجتاز أزمة لا تحل- مهما كان الأمر- دون تغييرات فعلية تنافي كل جمود، ودون تحولات واقعية وعميقة في التكوينات العالمية الموروثة عن القرن التاسع عشر. ولو لم يكن هناك سوى الخوف الذري. فمن المؤكد أن مفهوم فكرة جنيف لا تكون بهذا المضمون سوى صورة من صور الجبن الدولي، وهو أبعد شيء عن فكرة (عدم العنف) وعن وصية غاندي الروحية. والواقع أن التعايش يتجاوز التأويل الرحسي، والتفسيرات السياسية، فإن تأثيره على الحالة العالمية لا ينبثق من هذه التفسيرات، بل من طبيعة الأشياء نفسها، وفيما يتوقع لهذه الأزمة التي يجتازها العالم يعدّ التعايش في الواقع الإمكان الوحيد لحلها. وفي هذه الصورة من التعايش الديناميكي (الإيجابي) التعايش الذي يتبع

حركة التاريخ، تقترب فكرة جنيف من فكرة عدم العنف، حتى كأنها ظلها على محور القوة. ولقد سبق أن دخل هذا الظل في الحياة العقلية على هذا المحور، بحيت أنتج أدباً كاملاً يبدأ من القصة التي تحتوي تكهنات عن الحياة الأرضية وحيث نجد موضوع التعايش يحوطه القليل أو الكثير من التشاؤم، كما أنتج أيضاً دراسات قانونية مضنية يريد القائمون بها تعريف أسس (المعايشة) التشريعية. ففكرة جنيف تنمو إذن مع هذه الحركة العقلية التي تمتد تدريجاً من الميدان السياسي، إلى الميدان الفكري الخالص في الفلسفة، والقانون، والاجتماع، والأخلاق. وكلما امتدت هذه الحركة، يضيف موضوع التعايش إلى مضمونه ثروة، ويزداد مفهومه تحديداً وعمقاً بحيث يتجاوز المعنى السطحي الذي خلعه عليه التفسير الرسمي. وربما لا يكون من الغريب أن يمتد إلهامه إلى الميدان الفني، وأن يجد الفنان العبقري مثل (بيكاسو Picasso) ليترجمه في أسلوب الوجودية السياسية. إن سبل التاريخ تمر بفكر البشر، وسيمر (التعايش) ضرورة بهذه السبل، كيما يصير واقعاً تاريخياً. ومن اللازم ضرورة أن يمر بجميع المناطق، حيث الذكاء الإنساني على قدم الاستعداد ليصوغ الاجابة على تحدي القوة، وسيساعده على ذلك، ريح التاريخ المواتية، فلقد نزع موت ستالين من طريقه أخطر عقبة كانت تلقاه في مهمته السياسية، فلقد حال حكم الفرد زمنا طويلاً دون اتصال الشعوب على محور واشنطن - موسكو. وذلك بسبب حقيقته نفسها أو بسبب الأوهام المرعبة التي خلقها. فمع اختفاء ستالين تختفي النواة التي انعقد حولها (ذهان) الحرب الباردة، بحيث يبدأ من تصفية هذا الذهان عهد من التحرر النفسي، يسجل نقطة تحول في الظروف الدولية. لقد بدأ عهد التعايش- بصورة ما- رسمياً في عام 1954م مع العيد السابع والثلاثين لتورة أكتوبر في موسكو. وسجلت هذه الملابسات في خطبة نائب رئيس وزراء السوفييت (سابوروف Sabourov) الذي

عرض الامكانيات التاريخية (للتعايش) والنتيجة العاجلة المتعلقة بإعادة إنشاء العلاقات العادية مع يوغوسلافيا قبل كل شيء. وكانت هذه هي قنبلة (التعايش) الحقة، ونفخته التي قلبت دبلوماسية الحرب الباردة كلها، فلقد حطمت الثلج بالنسبة إلى يوغوسلافيا أولاً، وأجاب تيتو ( Tito) على استهلال سابوروف، بأن أرسل برقية تهنئة إلى فورشيلوف. وبينما كانت مشاهد الأفراح تتتابع في ذكرى الثورة، كان الممثلون الدبلوماسيون للشرق والغرب يتعاطون الأنخاب في موسكو. وفي خلال مهرجان من تلك المهرجانات رجا المسؤولون السوفييت أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي في أن ينقل تمنياتهم إلى أمريكا، وبدأ حوار، كانت ألفاظه مخدرة بجو الحرب الباردة، مكبلة ولا شك بقيودها ولكن بدأ بالرغم من كل شيء ذلك الحوار على محور واشنطن - موسكو، وبدأت تهب رياح (عدم العنف) على هذا المحور، ونحن ندين لها بتلك البراعم النابتة في صورة التعايش التي رأوها فجأة تزدهر وتتفتح في مناخ ثلجي حتى في ضمير الرجل الذي كان داعية الحرب الباردة على الجانب الغربي، تشرشل نفسه صاحب خطبة فولتون ... لقد تراجع فجأة إلى الظرف الجديد، فأمده باقتناع الرجل الصلب العنيد، الذي يعلن فجأة: ((أنه لا يستطيع أن يؤمن بأن الجنس البشري لن يجد طريق النجاة)) فلو كان (التعايش) هو هذا الطريق لدى ذلك الفكر الموضوعي، فمن المقطوع به أن الوضع الدولي هو الذي فرض عليه هذا الاقتناع. فإن من الصعب فعلاً أن نرد دوافع هذا الرجل الكبير المسؤول إلى مجرد مبدأ أخلاقي. إذ لا شك في أن الأسباب السياسية العليا هي التي أوحت إليه بما قال، إن في تحوله إلى فكرة عدم العنف عوامل أخرى أكثر تعقيداً من مجرد المثل الأعلى الإنساني أو حب الإنسان لأخيه الإنسان، فلقد لعبت العوامل الزمنية في اقتناعه بلا جدال دوراً حاسماً. إذ إن النقصان في الخطر الستاليني، والزيادة في الخطر الذري بنمو الصناعة النووية قد مثلا فكرة التعايش في عقل تشرشل كنتيجة

لتوازن القوى الاستراتيجية بين الكتلتين، أي إنها كانت أولاً نتيجة سياسية ناشئة عن عنصر (القوة)، فبما أن فرص البقاء قد أصبحت ضئيلة حتى بعد إحراز نصر ذري، فلقد صار من المستحيل دون إعمال فكر الاستمرار في تطبيق نظريات كلوزوفيتز ( Clausewitz) لحل المشكالات المستعصية على الحل بالطرف السياسية، وتلك هي الاستحالة التي حولت الزعيم الإنجليزي وأقنعته بأن الجانب العسكري سقط حقه حين منحت الظروف السلطة المطلقة للسياسة، لكن هذا الاقتناع لم يتكون دون اعتبار جميع عناصر التطور السياسي الذي أدى إلى هذا السقوط ((فقد كان على تشرشل أن يأخذ في اعتباره عنصر (القوة) من ناحية، ومن ناحية أخرى: التيار الحيادي الذي سيطر بصورة سلبية- إن صح التعبير- على المشكلة الاستراتيجية، ولكنه تجلى أخيراً في صورة إيجابية في جميع نظريات السلام، التي صيغت تحت عنوان أو آخر منذ عام 1945م)). ففكرة التعايش قد دخلت إذن ضمير رجل كتشرشل من طريق مزدوج أي على الأقل من طريق يمكن تعريفه (بعدم العنف) الذي ينطبق على التيار الحيادي وعلى مصدره الروحي. وإن فكرة التيار، الذي كان في بدايته قومياً كنهر الجانج ( Gange) قد امتد من طنجة إلى جاكرتا مندمجاً بالمحور الروحي للفكرة الأفرسيوية باعتبارها تعبيراً أساسياً عن روحها الأخلاقي، تم إنه قد تعاظم بفروع هامة فاضت به على محور القوة، وحياد يوغوسلافيا أحد هذه الأفرع، ويظهر أنه قد كسب أرضاً جديدة في اليونان أيضاً، ولقد نمت اتجاهات حيادية في بلاد أخرى كانت ولا تزال مرتبطة بسياسة الكتلتين (¬1). ¬

_ (¬1) إن الخطبة التي ألقاها الرئيس هنري سباك في المجلس الأوروبي في 14/ 3/ 1956م لتبين عن هذه الاتجاهات الجديدة في أوساط قادة أوروبا نفسها، كما دلت التصريحات التي صرح بها المسيو بيير كوت ( Pierre Cot) أثناء زيارته الأخيرة إلى مصر - ديسمبر 1957م أن الاتجاهات الحيادية بدأت تظهر حتى في فرنسا حيث يمكن أن تجد فكرة الحياد الايجابي أخصب مؤهل لهم من حيث النهوض الثقاقي.

وهكذا كلما تعاظم التيار الحيادي، تحولت عناصر القوة إلى عناصر عدم عنف، وتحولت وسائل الحرب التي تنفق وتخصص لها إلى اقتصاد للمسلام. وإذا اعتبرنا أن الحياد قد غير تغييراً سلبياً المشكلة الاستراتيجية على محور القوة نرى في الوقت نفسه أنه قد أتاح فرصاً إيجابية كثيرة للسلام. حين نقل عناصر القوة من الكتل البشرية والمواقع الجغرافية، والمواد من الميزانيات الاستراتيجية إلى ميزانيات التشييد الاجتماعي. وهو بإحداثه للفراغ النسبي من وسائل القوة في (منطقة الحرب) كوّن منها (منطقة رهو) وانخفاض في الضغط الجوي، قد تدع المجال إلى نسمة فكر جديد. وهكذا نرى التيار الحيادي- وهو أساساً (فكرة باندونج) - قد هيّأ بقدر ما الظروف السياسية والأخلاقية لجو دولي جديد، وهكذا تسجل طابع الروح الأخلاقي الأفرسيوي شيئاً فشيئاً، وبخاصة منذ مؤتمر باندونج في الظروف الدولية الجديدة، وإن التعايش ليدين له في الواقع بأكثر من كونه مجرد دافع روحي، وتوجيه أخلاقي غامض يشتمل على تنازل صوري عن اللجوء إلى القوة، بل إنه يدين له بعناصر أكثر تحديداً، ومن بين هذه العناصر نجد مضموناً نظرياً يجب أن يكون بصورة عملية المقياس الأساسي الذي تقوم عليه أعمال الدول في السياسة الخارجية. ولقد صيغت هذه النظرية في خطوطها العريضة على الأقل، في المبادئ الخمسة ( Panch Shila) وهي التي كانت موضوع البيان النهائي الصادر عن محادثات نهرو وشواين لاي (يونيه 1954 م) في نيودلهي. والبيان الذي أكد عباراته في بكين في شهر أكتوبر التالي المتفاوضان ذاتهما هو في جملته نص أساسي لميثاق التعايش الدولي الموضح في خمس نقاط هي: الاحترام المتبادل لسيادة الدولة على أراضيها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، والمساواة في الحقوق، وفي المنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. ولقد صار هذا (المتن) نموذجاً وإطاراً للمناقشات الدولية خاصة في باندونج ... ثم إن الفكرة قد اكتسبت حيوية جديدة على محور واشنطن - موسكو، حين تكيفت لا تبعاً للجو السياسي في الوسط الجديد فحسب- ولكن تبعاً لحياته

العقلية المتنورة بسبب فيضانها واختمارها. فمما لا جدال فيه أنها قد وجدت هنا الأرض الصالحة لنموها العقلي حين استفادت من النضج الذي يوجد في هذا الميدان. ونحن لا زلنا نجهل ما سيأتي به هذا التطور وهذا الدافع العقلي من عناصر إيجابية؛ لتدعيم الحلول السياسية لمشكلات الساعة، ونجهل أيضاً ما سيأتيان به من عناصر نهائية في حل الأزمة، لأنه لا يمكن حتى الآن تحديد طبيعة هذه الحلول السياسية، أو طبيعة ذلك الحل النهائي. ولو أن متكهناً حاول أن يكشف لنا عنها مقدماً، فمن المؤكد أنه سيكون معرضاً لسخريتنا في محاولته هذه، إذ يكون من الصعب علينا في الحالة الراهنة بسبب ما لدينا من أفكار مكتسبة، وعادات عقلية مستعدة أن ندرك أن حلاً نهائياً أو حلولاً سياسية كهذه تكون ممكنة أو محتملة. ويمكن هكذا أن ندرك ونحن في طريقنا نوع هذه الكراهية الذي يلقاه التيار الحيادي على محور القوة، حيث نقدر الأشياء طبق الأفكار السائدة والمصالح العاجلة. وهذا يبين أيضاً لماذا لا يمكن للتعايش أن يتبع في الميدان السياسي الطريق الأقصر، أي الطريق المستقيم، فإن طريقه ليس مستقيماً، بل هو كأسنان المنشار ينمو تارة إلى فوق وتارة إلى أسفل وفي بعض الظروف نرى أن (فكرة جنيف) تضل الطريق في سيرها مع التيار. ولقد كان هذا الشعور سائداً أوان سفر بولجانين وخروتشيف إلى آسيا. حيث كان هذا السفر يفسر في بعض الأوساط السياسية على أنه (تحدّ جديد للعالم الحر)، حتى إنهم تحدتوا آنذاك خلال الدورة العادية لمنظمة حلف الأطلنطي عن (مرحلة جديدة من مراحل الحرب الباردة). ومن التوفيق في هذه الظروف أن تعديل الاتجاه كأن يأتي عن طريق محور طنجة - جاكرتا حيث تتكون المبادره التي تعود بفكرة التعايش إلى طريقها الصحيح، ولقد حدث هذا فعلاً في نيودلهي حيث كان يُتوقع رد الفعل الرسمي بعد سفر الزائرين السوفييتيين، ولقد اغتنم نهرو الفرصة ليذكّر الرأي العام

الهندي بمعنى الصداقة الدولية، وبالتزامات فكرة التعايش، ولكن على الرغم من هذه المصادمات المفاجئة فإن (التعايش) قد تابع طريقه، وكأنما تتدخل في توجيهه العناية الإلهية، فإن العقبة التي توقفه لحظة تدفعه إلى الأمام بحيوية وسرعة متزايدة، والحق أن العناية تتدخل هنا في صورة قانون: ((العقبة الخلاقة المخصبة)) فقد لاقت فكرة التعايش في تحولها العقلي على محور واشنطن - موسكو أكثر من عقبة من هذا النوع فيما يمكن أن يطلق عليه اسم (دورتها الأدبية) فظهرت في أمريكا قصة من قصص التكهن بالمستقبل، حوالي نهاية عام (1954م) وهي تقدم لنا مثالاً على هذا النوع من العقبات، إذا أراد مؤلفها مستر جرهارد نيماير ( Gerhard Niemeyer) أن يبرهن على أن التعايش لا يمكن أن ينتهي إلا إلى مأساة قومية، ولكي يؤثر على خيال مواطنيه فقد تخيل اطراداً عسكرياً ودبلوماسياً تجد أمريكا نفسها إثره معزولة حوالي (عام 1964 م)، وهي أمام حدين، عبر عنهما المؤلف بجملتين قال: ((إن لدينا ما يجب أن نطلق عليه حزب الحرب ... )) ثم قال بعد ذلك: ((إن لدينا أيضاً حزباً للسلام)) ولما كان توقع السلام في هذا الاطراد محزناً تماماً كتوقع الحرب، فإن المؤلف لم يترك مطلقاً للقارئ الأمريكي مخرجاً نفسياً آخر سوى الرغبة في أن يلعن الطريق المشؤوم الذي قاد بلاده إلى هذا المصير، أي أن يلعن التعايش. فالمؤلف يكشف لنا عن ضميره عموماً، في مواجهة الفكرة كأنما يلقيه بصورة ما في غمار طريقها. ولكن العقبة التي خلقت هكذا، دفعت الفكرة في إطار الفيلسوف ورجل الاقتصاد، اللذين يسلمانا إياها مثرية متعمقة. والحق أن فكرة المؤلف الأمريكي قد أحدثت صدى في الأوساط الأدبية الفرنسية، حتى أخضعتها إحدى الصحف الباريسية للمناقشة والنقد حيث اقتبسنا هذه الفقرات (¬1). من آراء الفيلسوف ميرلوبونتي ( Merleau ponty) ، ¬

_ (¬1) نقلنا هذه الفقرات عن صحيفة الإكسبرس Express لسان حال حزب منديس فرانس التي أثارت هذه المناقشة.

والاقتصادي ألفريد سوفي ( A. Sauvy) اللذين ندين لهما بإغناء ذي قيمة للموضوع. فلقد أعطانا كل منهما بطريقته فكرة عن التعايش المتحرر من القيود، ومن العبودية، ومن الغموض السياسي فجلاها كثيراً أمام العقل، ومنحها اتصالاً أكثر بالحياة، وانطباقاً أكثر على ظروف التاريخ الواقعية، وبالتالي منحها مزيداً من التأثير في الميدان السياسي. إن الفيلسوف حين تناول الفكرة من وجهتها السلبية قد أغنى الموضوع بفصل من الدراسة المرضية، فقد نظر إلى (فكرة التعايش) بالنسبة إلى (المواقف السلبية .. وصور الاقتناع المرضي الذي يجعلها مستحيلة) كما في القصة الأمريكية. ومن المفيد أن نذكر أن فكرة الفيلسوف تقطع عرضاً خط نشاط فكرة (عدم العنف) في معناها السياسي، في صورة تيار حيادي. فإن ميرلوبونتي يقدر- في الواقع- أن التعايش- في مرحلته الأولى- (ولغته هنا تهم محور القوة) يقوم، أو يجب أن يقوم في منتصف الطريق بين المغازلة والسلام المسلح، وأنه لن يوجد إلا إذا كان بين المتخاصمين مناطق يلتزمون بعدم السيطرة عليها. وهكذا نرى أن موضوع التعايش يثري بوضوح لدى الفيلسوف، من جهة نظر حيادية؛ لأن الخصوم لن يلتزموا بعدم إخضاع بعض المناطق، إلا إذا تحصنت هذه المناطق بنظامها الخاص، أعني بحيادها. ونجد عند الاقتصادي أن الموضوع ينمو في الاتجاه نفسه، وإن كان بطريق مختلف، فالتعايش عنده مرحلة من التأقلم الضروري المحتم، المتبادل بين الشيوعية والرأسمالية، أي المرحلة التي تطابق (تطورهما الطبيعي نحو مصيرهما الغامض المشترك). فهذا التطور فيما يتوقعه الاقتصادي يجب أن يتحمل طبيعياً جميع آثار الحالة الاقتصادية في البلدان المتخلفة، أي على محور طنجة - جاكرتا، وربما يلعب الاقتصاد- دور المعدل في التاريخ المقبل على محور واشنطن - موسكو. فمسيو سوفي يرى في الواقع أن (المصلحة المشتركة للقوتين الكبيرتين هي في أن تواجهما الفاقة والبؤس)، ونحن نعرف طبعاً في أي نصف من الكرة الأرضية أو

على أي محور يوجد هذا البؤس في الظروف الراهنة، ونرى بالتالي أين توجد هذه (المصلحة المشتركة للقوتين الكبيرتين) تبعاً لتعبير رجل الاقتصاد، الذي التقت نظريته هكذا عرضاً بنظرية الفيلسوف على المحور الأفرسيوي. وهكذا كانت نظرية نيماير حجر عثرة فجَّر مجموعة من الأفكار الجديدة التي أغنت الموضوع أولاً من الناحية الأدبية، وكانت في الوقت نفسه معالم مضيئة لفكرة التعايش، في مرحلتها الجديدة، وهي في طريقها إلى التحقيق العملي (¬1). ولا شك في أن الاقتصادي الفرنسي الكبير لم يعدّ تأثير الاقتصاد الأفرسيوي عامل استقرار وتوفيق، بين المصالح المتضاربة، إلا بالنسبة إلى إرادة المتخاصمين على محور واشنطن - موسكو، أي إنه لم يأخذ في اعتباره، إرادة الدول صاحبة الشأن نفسها، كما يجب لكي لا نقع ثانية في السياسة البالية التي تتمثل في (مناطق النفوذ). على أنه يبدو أن القادة الأفرسيويين قد تحملوا في هذا الميدان مسؤولياتهم، بوعي كامل، مع اهتمامهم الواضح بأن ينتهزوا الفرص التي يستطيعون فيها تزكية فكرة (التعايش) في الوقت الذي يرعون فيه ضرورات التنظيم الداخلي لبلادهم. وفي حدود هذا الاهتمام، يبدو أن جمال عبد الناصر ونهرو قد رتبا سياستهما في التجهيز الصناعي بحيث يتحاشيان أن تتحول المزاحمة الاقتصادية للكتلتين إلى تحد سافر لا تحمد عواقبه. وبهذا الاتجاه يجب أن نفسر- دون تردد- موقف مصر حين قبلت عرض البنك الدولي للإنشاء والتعمير لتمويل خزان أسوان، وموقف الهند حين شادت هيكل تصنيعها الثقيل، وتجهيزات الصلب بها على يد فنيين أمريكيين وروس ¬

_ (¬1) في الوقت الذي نكتب فيه هذه السطور ورد نبأ من الولايات المتحدة الأمريكية يفيد بأن الحكومة الأمريكية تدرس مشروع اعتماد رصيد عالمي للمساعدة الاقتصادية والفنية للبلدان المتخلفة، تدفع فيه نسبة 2% من الدحل الأمريكي، وتسعى روسيا إلى الاشتراك فيه. وهكذا لم تلبث أفكار رجل الاقتصاد أن تحققت في المجال السياسي لصالح فكرة التعايش (25/ 3/ 1956م).

وإنجليز وألمان. وهكذا كلما فرضت المزاحمة الاقتصادية للكتلتين نفسها على محور طنجة - جاكرتا، فإن فكرة التعايش هي التي تفرض نفسها- بالتالي- على محور واشنطن - موسكو. ولقد بدؤوا في بعض الأوساط التي كانت مغلاقة عن تقبل هذه الفكرة، يذكرون- في شيء من الحذق- أنه ((يجوز للغربيين أن يدهشوا، ولكن عليهم ألا يغضبوا من دخول الروس كأنداد للمزاحمة في هذا (الميدان الاقتصادي) مع الأمريكان. على أية حال، فإن الاقتصاد الأفرسيوي قد يصبح قاعدة جوهرية (للتعايش) في العالم، وإنما يتم ذلك في الظرف الذي يضيف فيه إلى مبادئ تأثيره الصناعي والاجتماعي اعتناء بالتأثير الأخلاقي)). ولا شك في أنهم سيقفون هنا محتجين .. أولئك (الأطهار) الذين لا يُحكِّمون في هذا الباب سوى المقاييس الاقتصادية، سيقولون: إن الاقتصاد ليس فصلا من فصول الأخلاق. ولكن هذه التقاليد الكلاسيكية في الاقتصاد الحر- كما يقولون- قد فات أوانها. فلقد دلت التطورات الحديثة على أن للواقع الاقتصادي نتائجه التاريخية، وفي الوقت الذي يحدد الواقع الاقتصادي اتجاه التاريخ- هكذا- فإن من الواجب أن يحدد الاتجاه الاقتصادي في ضوء وظيفته التاريخية. بل إن السياسة التي تعدّ مسؤولة عن تحقيق هذا الوضع، ترى نفسها مضطرة إلى أن تأخذ في حسابها بعض الظروف النفسية إلى جانب اعتبارها للمصالح المادية. والظروف النفسية تؤثر في الواقع الاقتصادي وتوجهه في النطاق الأخلاقي لا في الميدان الصناعي. وهذا التدخل للمبدأ الأخلاقي في الميدان الاقتصادي قد بدأ فعلاً في الظهور، حتى في بعض نظريات الاقتصاد السياسي. فإذا وضعت مدارس الاقتصاد مشكلة التوازن الاقتصادي في المستوى العالمي- وهو المستوى الطبيعي للمشكلة في مجتمع القرن العشرين- فإنها تهتم شيئاً فشيئاً بدراسة حاجات المعسرين في العالم، وبهذا تدخل المبدأ الأخلاقي تحت ستار الأرقام والاحصاءات، ويظهر هذا الاتجاه تماماً في المدرسة الفرنسية، في

معهد علما الاقتصاد التطبيقى. وأيّاً ما كان الأمر، فإن الحقيقة الأفرسيوية تتدخل في مشكلة التعايش- كما نرى- روحياً، واقتصادياً، واستراتيجياً. إن عدم العنف، والحياد، والفاقة هي- في الواقع- ثلاثة عناصر جوهرية لهذه المشكلة. وربما لا يفوت المؤرخ الهازل أن يروي- زيادة على ذلك- أن تاريخ التعايش قد احتوى- ولو قدراً- من (اللعاب) الأفرسيوي ذلك القدر الذي كتبت به عبارات (تسقط سياسة التعايش) التي كانت تغطي الحوائط في سايجون ( Saigon) عند مرور نهرو أثناء عودته من بكين ... نعم .. لم يكن هذا سوى قدر من اللعاب على الحوائط. والمؤرخ الذي سيرويه سيضيف دون شك أن كتب هذه العبارات ليس في واقع الأمر سوى (قلم) مأجور، كما أنه يستطيع أن يكون في ظروف أخرى (بوقاً) مسخراً، وذلك ليخفي هناك خط الاستعمار، وهنا صوته ... ولو أن لدى هذا المؤرخ بعض الخبرة عن الأدب الشعبي العربي، فربما أضاف قولهم: ((الكلب ينبح، والقافلة تسير ... ))، ولكن الضمير الإنساني يجد لحسن الحظ مفسرين آخرين يعبرون كما ينبغي عن مشكلة التعايش. فمع أن قداسة البابا بيوس الثانى عشر قد أدان التعايش في صبغته السياسية، وذلك في رسالته في عيد الميلاد عام (1955م)، وكان هذا دون ريب بسبب الصراع الداخلي الناشب في الضمير المسيحي، الحائر بين العقيدة والواقعية السياسية، فإن قداسته قد أيد المطالبة بتحريم الأسلحة الذرية والتجارب النووية، بل دافع عنها، أي عن الفكرة التي هي مدار مبدأ التعايش: فالتعايش يعني أولاً إنقاذ حياة البشرية من قيامتها، القيامة التي تنذر الجنس البشري منذ هيروشيما بسوء المصير، وهناك ظروف يجد فيها الضمير الإنساني نفسه مقهوراً متذبذباً بين (نعم) و (لا) وهي الذبذبة المحيرة أمام حالة محزنة. ولكن تحديد موقف قداسة البابا في موضع الأسلحة الذرية إنما يمثل أسعد التقاء للفكرة المسيحية، الممثلة في أعلى سلطة

أخلاقية مع فكرة عدم العنف، كما عبر عنها في اليوم نفسه في نيويورك، مندوب الهند في الأمم المتحدة، مستر كرشنا مينون. والواقع أن من اللازم أن تتابع فكرة التعايش وظيفتها وسط جميع العقبات من كل نوع، سياسية كانت أم عقلية أم أخلاقية. ففي عالم لم يتخلص بعد من تكوينات العصور الوسطى يجب أن تتخلص الفكرة من (ثقافة الإمبراطورية) التي صارت شيئاً فشيئاً ثقافة أوروبا منذ عصر (النهضة) وأوائل العصر الاستعماري، أي إنها يجب أن تتخلص من كلاسيكية ( Classicisme) الفكر الأوروبي، الذي قسم العالم إلى الأبد إلى مجموعتين: مجموعة (المتحضرين) المتجمعة في دول كبرى، ومجموعة (المستعمَرين) المشحونين في (عبوات) تسمى بالمستعمرات. ومن البيِّن أن فكرة التعايش تصادم مضمون هذه الكلاسيكية وتنفره، أما الآن، فيكفينا أنها تعبر في غموض عن فكرة الهدنة في الحرب الباردة، وأنها تحدث انفصالاً مناسباً في العملية المقدورة التي كانت تقود الشعوب إلى النزاع العالمي الثالث. نعم يكفينا كمسكِّن يُعطى لمحموم فيهبط بارتفاع الحمى الخطير. فهي الآن تعدّ تأجيلاً للقضاء، وحل الانتظار الذي يمنح الزمن الكافي للحلول النهائية كيما تنضج، وللتطور الإنساني كيما يتغلغل في الأفكار والأشياء، وللعالم كيما يجد اتجاهه الجديد، حيث يتخلص أولاً من العقد النفسية الناشئة عن القوة والسيطرة. فهذا هو الزمن الضروري- من الناحية العملية- للتقريب بين مقاييس الرأسمالية والشيوعية من جهة، ولتصفية الاستعمار والقابلية للاستعمار من جهة أخرى، أي الزمن الضروري كيما يزيل العالم ثالوثه الجغرافي السياسي، ونحن نفهم من هذا أن تلك المرحلة التي ينحو فيها العالم نحو التوحيد، حيث يمضي من خلال المرحلة المؤقتة والمرحلة الانتقالية إلى المرحلة النهائية، يجب ألا يكون هذا الانتقال إلى قيامة نهائية. وفي هذا الجو الغامض تتكامل فكرتا جنيف وباندونج، فالحياد الذي ينمو على محور طنجة - جاكرتا

إنما يزكّي ويكثر فرص التعايش على محور واشنطن - موسكو، ويدعم اتجاهه نحو الاستقرار النهائي للعالم. أو ... لا فإذا تدخلت عوامل أخرى في اتجاه مضاد، وقادت في نهاية الأمر مجرى التاريخ نحو الحرب فإن فكرة باندونج ستكون الفرصة الأخيرة التي ستحول في إحدى اللحظات بين الميزان وبين أن يميل جهة المصير المحتوم، ولعل في هذه الدقيقة إنقاذ العالم كله، وحتى على فرض أن الحدث المشؤوم قد وقع، فإن فكرة باندونج قد تجعل أمامه فراغاً، طبقاً لمبدأ الأرض الحريق التي تقف أمام النيران، لكي تحول دون انتشارها. لقد حدد نهرو ضمناً في أحد أحاديثه عن السياسة الخارجية لبعض الصحف في 23/ 1/ 1954م مدى هذا (التكتيك)، حين تحدث عن الوضع الحيادي لبلاده، قال: ((القد قررنا أنه لو سقطت داهية على العالم فإن علينا أن ننقذ جزءاً منه، ولذلك فقد أعلنا أن الهند لن تشترك في أي حرب، وأملنا أن تعمل الدول الأخرى بآسيا على أن تبقي على نفسها، وبهذا يمكننا أن ننشئ منطقة سلام، وكلما اتسعت هذه المنطقة، تراجع خطر الحرب)). وبدهي أن النيران تخبو ما دامت لا تجد قوتاً، فإذا كان حتماً على الإنسانية أن تكابد- على الرغم من المحاولات- طوفاناً ذرياً ... فإن ما نتمناه جميعاً أن تجد الإنسانية في مكان ما .. سفينة نوح الجديدة. ***

فكرة الأفرسيوية والعالمية

فِكرة الأفرسيَوية وَالعَالميّة ((إني لآمل أن يبذل جميع المندوبين الذين اجتمعوا هنا من أقطار آسيا كلها قصارى جهدهم في سبيل توحيد العالم)) غاندي (في مؤتمر العلاقات الآسيوية 1946م) ربما يطلق المؤرخون لفظ (التعايش) على المرحلة التي تعقب توتر الحرب الباردة في العلاقات السياسية بين الدول الكبرى. ومع ذلك فإن المؤثرات التي عملت على بلورة فكرته ستستمر طبيعياً في مهمتها، وستغير فيه مضمونه الأخلاقي وأهميته السياسية. وسيظهر شيئاً فشيئاً أن (التعايش) لا يقصد به إنقاذ حالة جامدة متفاوتة في قدمها، وليس معناه أن ينظر كلا الطرفين إلى الطرف الآخر دون أن يتقدم أو يتأخر، بل سيظهر أنه لا يمكن للشعوب أن تتعايش في ظل الرأسمالية والشيوعية على محور واشنطن - موسكو، وفي ظل الاستعمار والقابلية للاستعمار على محور طنجة - جاكرتا. وإذن فعلى الرغم من أن لفظة التعايش قد تبقى خلال التاريخ، فإن فكرتها ستتغير ضرورة، فالعوامل الصناعية والعوامل الروحية التي أوجدتها، ستستمر في تكييفها طبقاً لحالات جديدة، ومن المحتمل خلال ربع قرن أن تتجاوز الفكرة التي تحتويها الكلمة مدلولاتها الحالية، فتظهر في شكل جديد تماماً. إذ يبدل من حالها التطور، محدث كل تغيير. وستحمل الكلمة خلال تطورها قدراً أكثر من المدلولات الأخلاقية والأدبية، إذ إنها من الناحية السياسية قد أثرت بألوان جديدة تدل على حيويتها، كما تدل على حيوية الغصن براعمُه التي تنجم في الربيع.

ففي نيودلهي وبكين تغنى أصحاب المبادئ الخمسة بفكرة (التعايش الإيجابي) ومنذ عودة بولجانين وخروتشيف من رحلتهما فى آسيا، تحدث العالم عن فكرة (التعايش في ظل المنافسة Co existence compétitive) ، وهكذا ينمو الموضوع في جميع الاتجاهات، وفي سائر الميادين، وإذا بالتعايش قد أصبح بنداً جوهرياً في اثني عشر اتفاقاً دولياً، تعين على الخريطة بقاعاً تتجه إلى الاندماج في (منطقة سلام). فجميع بوادر النمو تدل على أن هدنة جنيف، أو فكرة التعايش المقصودة في هذا الباب هي شيء ينبغي أن تتجاوز مرحلته، وليست هذه البوادر هي الدلائل الوحيدة التي يجب أن نحسب حسابها في ميزان الحالة الدولية، وإلا وقعنا في العيب الشائع الذي يتصل بجذور أزمة القرن العشرين، أعني: النظر إلى جميع المشكلات الإنسانية من زاوية أوروبية. فتجاه الحالة على محور واشنطن - موسكو يجب أن نأخذ في اعتبارنا الحالة على محور طنجة - جاكرتا، فباندونج وجنيف متكاملان في الاطراد العالمي، فإذا انفصلا، فربما لا تحل كلتاهما بمفردها المشكلة العالمية، فالتعايش السياسي على محور (القوة) يسيطر بلا شك على الحالة العالمية بسبب ما لديه من عناصر النظام الصناعي، وعوامل القوة، والإمكانيات المادية التي تدخل في الحساب. ولكن إعطاء الأسبقية لحل جزئي لا يخوله أن يعالج كل شيء. فبالأحرى لا يمكن لحلّ يضعه مؤتمر باندونج منفرداً أن يقطع برأي في الحالة العالمية. فكل محاولة لإرجاع هذه الحالة إلى حل جزئي لن تكون سوى محاولة خائبة، ورجعية. ونوشك في حالة كهذه أن نبعث الازدواج الجغرافي السياسي من قبره، وهو الذي يتمثل في الاستعمار والقابلية للاستعمار مثلما كان سائداً في العهد الذي كتب فيه جوليس فيرن ( Jules Verne) قصته المشهورة (ميشيل استروجوف (¬1) Michel Strogoff) ، ونوشك في حالة أخرى أن نشهد على محور ¬

_ (¬1) هي قصة تناول فيها الكاتب الفرنسي المشهور موضوعاً اقتطفه من ملحمة الاستعمار الروسي زمان القيصر في آسيا الوسطى.

طنجة - جاكرتا حدوث محاولة لمواجهة حل من حلول القوة بحل آخر مستوحى من القوة، وربما من الضعف والاستسلام. فهناك دائماً وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك، وهي من حيث كونها مجرد مفهوم ميتافيزيقي متفاوت في درجة وضوحه- كانت تجعل المؤرخ الذي يتجاهل هذا التصور للأشياء أو يعارضه في موقف يمكنه ويحق له فيه أن يجهلها. ولكنها قد أصبحت واقعاً مادياً، فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين بطريقة لا تدع مجالاً للفكرة الكلاسيكية المألوفة، فكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة، حيث تفهم كل وحدة في حدودها، فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكناً فيها تحديد (مجال الدراسة) الخاص على طريقة جون توينبي ( J. Toynbee) ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته منهجياً في المصطلحات الميتافيزيقية. فالفكر الديني الذي أبعده التطور الديكارتي، وجهود الباحثين والعلماء عن نظريات التاريخ قد عاد إليها بطرق عقلية حتى لو عبرنا في مصطلحاته عن المشكلة الأساسية التي تتصور طبقاً لها جميع المشكلات الأخرى لعبرنا عنها بمشكلة خلاص الجنس البشري، وتلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها المشكلة مواجهة كلية، ولقد كان اعتناق تشرشل لفكرة التعايش حدثاً يسجل هذه القضية في صحوة هذا الضمير. ولكن المشكلة تتضح على حقيقتها أكثر من ذلك في تفكير الرجل المتدين الذي يرى أن توقع التاريخ يصب دائماً في الأبدية، لأن ضميره يضيء المشكلة من داخلها. وفي طليعة التفكير المسيحي يعتبر (عمانوئيل مونييه Emmanuel Mounier) هو الذي أوضح المشكلة بهذه الطريقة، إذ هو يرى (وحدة تاريخية) يأخذ كل حدث فيها مكانه بالنظر إلى الخلاص المشترك، وإلى تنفيذ إرادة الله في الملك، ففي تفكير التدين الذي يرى أن (الإنسان صورة من خالقه) يوجد تناسب بين العنصر الإنساني والعنصر الإلهي، في مستوى معين، والحقيقة الميتافيزيقية بالنسبة إلى تفكير كهذا تسمو، ولكنها لا تنفي الحقيقة الزمنية. فعند مونييه ( Mounier)

يجب أن تحل مشكلة (الخلاص المشترك) فيما يتصل بالإنسان باستكمال سيطرة الإنسانية. وهذا الحل الزمني يكمن في حتمية التاريخ إذ لا يقابل الخلاص إلا الفناء والعدم، وإذن فسيحقق التاريخ هذا الحل، ولكنا لو تساءلنا عن الطريقة التي سيمكنه بها أن يحققه، فسنجد أمامنا ثلاثة حلول مترابطة في الذهن: الحل الذي يصدر عن منطق الإنسان، والحل الذي يصدر عن سياسة الحكومات، والحل الذي يصدر عن حتمية التاريخ التي هي في نهاية الأمر العامل الذي يحدده ويفرضه. والواقع أنه إذا كان للمنطق وللسياسة أن يزيفا الحل أو ينحرفا عنه، فإن التاريخ معصوم لا يخطئ ... والمشكلة هي أن نعرف ما إذا كان لهذه الحلول الثلاثة أن تلتقي في هذه اللحظة، وأن نلاحظ بقدر الإمكان نقط الاختلاف التي قد تسجل ضمناً تخلف الضمير عن التاريخ. فهل لدى الإنسانية منطق خلاصها؟ وسياسة خلاصها أيضاً؟ .. وهل في تيار تاريخها الحالي عناصر خلاصها؟ إن المنطق إنساني ليس فقط ديكارتياً، عقلياً، متصل الحلقات، مصنوعاً، هو ليس فقط منطقاً اجتهادياً، يقوم على قضايا منطقية، منتقلاً من مقدمة إلى نتيجة، كما ينتقل عمل النساج من خيط إلى خيط. فإن له أيضاً صورته المفاجئة التي تكمن في إلهام الشاعر، وفي خط النور الصادر عن العبقري، وفي الوحي المفاجئ لإنسان يخترق بنظرة واحدة حجب الأسرار، وفي مشاهدة النبي الذي يقرأ التاريخ قبل وقوعه. وقبل أن تصبح قراءته أمراً يقدر عليه القانون. ولقد كان للقرن العشرين رجال وجهوا ضميره وأرشدوه، وشهود كبار على مأساته، وإن إلهام هؤلاء الرجال لهو الذي يطابق المنطق الإنساني في أتم أشكاله، وفي أسمى صوره.

ولقد كانت لحظة مغمة من لحظات المأساة، تلك التي اندفعت فيها قوى هتلر لغزو أوروبا، واندفعت فيها الجيوش اليابانية لغزو (آسيا الكبرى). أي تلك اللحظة التي تدفقت فيها أضخم موجة (لإرادة القوة) على العالم، ففي هذا المنعطف المظلم من التاريخ أرسل غاندي من مقر قيادته في عام (1941م) نداءه المشهور إلى اليابانيين جميعاً مندداً فيه بقسوة- نعرف معناها عنده- بالجنون الامبراطوري للمعتدين، فقد كان يرى في هذا الجنون أخطر تحد للمصير الإنساني. ولقد كان غاندي يرى في الأحداث المؤلمة التي قذفت بهذا التحدي وفي الظروف المحزنة التي تحوطه نذيراً للضمير الإنساني لكي يواجه مشكلة خلاصه. ولقد واجهها بنفسه حين توجه إلى اليابانيين قائلاً: ((لقد استسلمتم لطموحكم إلى السيطرة، ولكنكم لن تتوصلوا إلى تحقيق هذا الطموح، وربما صرتم مسؤولين عن تجزئة آسيا، فتجعلون من المستحيل- من حيث لا تدرون - أن يحدث الاتحاد العالمي، وأن تتم بين الدول أخوة من غيرها لا يمكن أن يكون للإنسانية أمل)). وبعد انتصاراتها الصاعقة تخلت اليابان فعلاً عن جميع فتوحاتها، وبذلك لم يخطئ غاندي فيما قدره لقوة اليابان. ولكن مأساة إمبراطورية الميكادو لم تكن هي التي تهم في نظره، فإن الذي كان يهمه- ويهمنا الآن- إنما هو المأساة الإنسانية، فلقد شعر بها في تلك اللحظات المحزنة، ولم يكن يرى أملاً للإنسانية وراء (الاتحاد العالمي). فالمشكلة كانت إذن بالنسبة إلى ذلك الضمير السامي هي مشكلة (الخلاص المشترك)، وهكذا واجهها غاندي، وصاغ لها حلاً في النفثة من الإلهام نفسها. فهل كان هذا هو الحل المنشود ولم يكن مجرد مسكِّن أو ملطف أو وسيلة عاجلة لاجتياز بعض الصعوبات المؤقتة، ولحل بعض المشكلات الصغيرة، ولمواجهة واقع خاص ناتج عن الأزمة في حياة شعب أو أمة؟ وهل كان حقيقة

لحل المشكلة الإنسانية كاملة، في عمومها؟ أي هل كان حل الأزمة الأصيلة التي ما فتئت تتجدد منذ خمسين عاماً في جميع الأزمات العابرة؟ لقد كان المهاتما يدرك تماماً أن حله قد يذهل، بما أنه يقوم على غير أساس القوانين السياسية التقليدية، ولأنه كان يتخطى الحدود المعتادة للقوميات والعنصريات، والعصبيات الدينية. ولا شك أنه قد أبدى لهذا السبب- وبلمسة خفيفة- مخاوفه من أن يرى منطق الواقع العاجل يطغى مؤقتاً على منطق التاريخ. فهو يخشى، في ساعة ندائه، أن تعمي المطامح الإمبراطورية والانتصارات المؤقتة الشعب الياباني فتعرض (الاتحاد العالمي) - حسب تعبيره- للخطر من حيث لا يدري. والاتحاد العالمي كان يبدو في نظره أنه الحل الذي ينطبق على طبيعة المشكلة، وعلى اتجاه التطور التاريخي، وأتى فعلاً هذا التطور يمده أكثر فأكثر بما يدعم وجهة نظره، فآراء غاندي بدأت تدخل ضمن توقعات التاريخ، والحل الذي أدركه منطقه الملهم بدأ يتفق مع الحل الذي ينبعث من الوقائع ذاتها. إن طرق التاريخ تمر بعقل الإنسان، وفكرة (الاتحاد العالمي) تحوم في العقول. ولقد وقف عباقرة هذا القرن- من تلقاء أنفسهم- معبرين عن هذه الفكرة، كما فعل غاندي في ندائه: ((إلى جميع اليابانيين))، ولقد أيدت الأحداث نظريتهم، ولا شك في أنه لم يكن مجرد صدفة أن تتكون (حركة عالمية من أجل اتحاد عالمي)، وليس من باب الترف العقلي أن يقدم أشهر ممثلي الفكر المعاصر ضمانهم الأخلاقي والعقلي للفكرة المذكورة فقد انعقد من أجل تحقيقها مؤتمر دولي في باريس في أغسطس (1955م). وأتت الشهادات القيمة لتنزهها عن أن تكون محض خيال، أو ما يشبه ما يصدر عن شباب الجامعات من النوادر، بحيث أبرزت اتجاهها التاريخي ومن بين هذه الشهادات تلك التي أداها (برتراند راسل Bertrand Russel) وهي شهادة محددة ثمينة.

فلقد تكلم الفيلسوف الانجليزي في الواقع عن ضرورة قيام حكومة عالمية ( Gouvernement Mondial) باعتبارها وسيلة نهائية لحل المأساة الإنسانية، وفي حديث خاص تفضل به إثر المؤتمر قرر أن حدوثها مسجل في التطور الحالي، وأنها تعدّ الحل الطبيعي للأزمة التي يتخبط فيها العالم. فالفكرة- كما نرى- دخلت التاريخ تحت الإشراف السامي للفيلسوف والرجل المتدين، وكسبت حق الإمامة في الضمير وفي الذكاء الإنسانيين. إنها تتمثل في مقياس العصر، وفي ضروراته المعترف بها، وفي اتجاهه ونحن-نجدها أيضاً حتى في حلم عالم الطبيعة (روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer) وفي فكرته المسيطرة عليه، حين ينظر، إلى الأشياء نظرة العالم وأستاذ الجمال معاً، فهو يرى أن مستقبل الإنسانية آيل إلى (الفوضى العالمية)، تلك التي يخشى عواقبها المبددة العبقرية الإنسانية، ولكن هذه المخاوف الصادرة عن أستاذ الجمال لا تهمنا، فهي مستوحاة من توقع خطر جديد يصدر عن برج بابل الوهمي الذي في نفس أستاذ الجمال؛ إنما يهمنا نظرة العالم، الذي يرى أن عهد العالمية قد حان مع العهد الذري، أي مع نتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية، التي أتاحت لطاقة الإنسان أن تسيطر سيطرة تامة على الكرة الأرضية. أما فيما يتصل بخطر التبديد الذي يهابه، فربما كان هذا الخطر صورياً أكثر منه واقعياً. أو ليس لآثار التشتت الذي تفرضه الوقائع المادية على حياة الإنسان نظير هو الأثر المضاد الذي يتمثل في عملية استبطان يقوم بها الإنسان للدفاع عن كليته ضد ما يهددها بالتبديد من الخارج، هذا الميدان خاص بعلماء النفس. وعلى أية حال، فإن رجل الساتياجراها، والفيلسوف وعالم الطبيعة قد وقفوا منذ ذلك الحين أمام واقع هو: (العالمية Le mondialisme)، وليست هذه فكرة، أو مجرد رغبة، أو خيالاً، أو مبدأ أخلاقياً، بل إنها تصريح لعصرنا، وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية، والنفسية التي بلغها العالم.

وليس من شك في أن هذه الضرورة هي التي توحي إلى جون توينبي ( J. Toynbee) بنظرية عن النظام التعاوني في الحكومة العالمية، وفي هذا النظام يرى المؤرخ الإنجليزي الكبير أنه الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الراهنة، والوسيلة الوحيدة أمام الإنسانية للخلاص من دكتاتورية عالمية يسميها (دولة عالمية Etat Universel تفرضها القوة)، وهي التي ستكون في نظره النتيجة المحتومة للنزاع العالمي الثالث. إن الدورة الجهنمية التي تكاد تنتهي دائماً بحرب جديدة، والتي أصبحت مع نمو القوة غير المألوف لا تتفق مع بقاء الجنس البشري نفسه؛ هذه الدورة لا يمكن أن تمحى إلا بنظام عالمي صالح لإزالة أوجه التعارض الانفجاري في العلاقات الدولية، فمشكلة الحرب كما فسرها كلوزوفيتز ( Clausewitz) هي كل مشكلة هذا التعارض الانفجاري، أي التعارض الذي لا يمكن أن يزول بالوسائل السياسية، ولا يمكن أن ينحل بدورة تطورية، فصورة الظاهرة تتحدد تقريباً بما يطلقون عليه في مصطلحات الكهرباء (تيار الانفصال Courant de rupture)، إذ تنطلق الشرارة عندما يحدث قطع وانفصال مفاجئ في الجهاز الموصل، أي في الواقع عندما يحدث تغير في مادة هذا الجهاز، ويمكن نقل هذه الظاهرة نفسها إلى الوسط الإنساني فإن التعارض يصبح فيه انفجارياً إذا ما حدث انفصال فكري وعنصري، فإذا بشرارة القطع تنطلق في منطقة الجرح على حدود فكرة أو جنس، فهي إذن الحرب والعنصرية والاستعمار، أي جميع صور التعارض العنيفة. ومن الوجهة الظاهرية نرى هكذا أن مشكلة السلام والحرب في العالم هي مشكلة التكوينات العالمية، والشرارات التي تنطلق إنما تدل على أن العالم ليس متجانساً، وهي تبرهن أيضاً على أن من الواجب تحقيق تجانسه- وبعد الحربين العالميتين على الأخص- لتحاشي انطلاق شرارة الحرب الثالثة التي تهدد بقاءه نفسه، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي، إذ تضعها في هذا المستوى. وهنا تواجهنا مرة أخرى قضية (الكومة) المتنوعة الأجزاء، و (الكل) المتوازن المتجانس.

وإذا دلت هذه الاعتبارات على وجوب تنظيم العالم من الناحية السياسية طبقاً لخطة (حكومة عالمية) فمن الناحية الاجتماعية تدل على وجوب تحقيق هذا الوضع في صورة (حضارة) عالمية وبهذا الشرط المزدوج يتحقق الحل الحاسم لمشكلة (الخلاص المشترك). فأفكار شهود العصر الكبار تتلاقى إذن مع الضرورات الداخلية لتطوره، ولقد دخلت الإنسانية في عهد العالمية تحت وخز ضرورات هذا التطور، وبفضل الدفع الروحي الذي حظي به العالم على يد رواده الكبار. وبذلك تأيد المنطق العميق الذي قال به عباقرة العالم، بمنطق الواقع الغلاب، إذ ربما يصبح العقل الإنساني عديم القيمة إذا لم يتوافق مع اطراد الأحداث التي تطبع إرادة الله على صفحات التاريخ، كما يكون آثماً من يحاول تحريف مجرى التاريخ كأنما هو يعارض إرادة الله. ولا شك في أننا نهز أكتافنا في كبرياء حين تتمثل هذه الإرادة في هيئة نموذج طريف مثل (المواطن العالمي) (¬1). أما الذين يزدرون الفكرة أولئك المتأصلون في نزعات الأنانية المستعصية، وفي أسطورة الأجناس المختارة، أو الشعوب المختارة فإنهم يجدون في هذه النماذج الطريفة أدلة ضد ما يطلقون عليه (الأسطورة العالمية)، إن الازدراء يقيهم من التفكير، ومع ذلك فهو لا يمنع التاريخ من التقدم دون تراجع. والعالمية في مجراها ليست أطروفة من مفاجآت التاريخ، وليست اتجاهاً عقلياً أو سياسياً، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين، ومعناه. هذا هو الواقع الذي أوحى إلى (مونييه) أستاذ الوجودية المسيحية بالاعتقاد في وحدة التاريخ حين أدركه في الإطار الميتافيزيقي الذي وضع فيه مشكلات الإنسان، والوجودية السارترية ¬

_ (¬1) هو جاري دافيز Gary davis المواطن الأمريكي الذي سلم في جنسيته ودعا إلى القومية العالمية.

نفسها، تلك التي تنعدم لديها الأرضية الميتافيزيقية، تدرك هذا الواقع تماماً وتدرك فيه مدى الضرورة، لأن يتجاوز حدود نفسه كي يبلغ (ضميره الجماعي) في أعماقه. وعموماً يعتبر هذا هو القياس الذي تتيح لنا أن نصدر على السياسة أحكاماً مطلقة، كما نصدرها على مدى تأثير الاتجاهات العقلية تبعاً لاتفاقها أو تضادها مع مجرى التاريخ، وهذا أيضاً هو القياس الذي يسمح لنا خاصة بأن نختصر بعض طرق التاريخ كي نحررها من بعض (أوزار الماضي) التي تمثل منذ ذلك الحين جزءاً متقادماً من التجربة الإنسانية، وهي التجربة التي لا يمكن أن تتكرر بالصورة نفسها دائماً مع تغير الظروف تغيراً كلياً. وتلك هي الضرورة التي تحتم اجتياز بعض المراحل التي لا معنى لها سوى أنها تذكار تاريخي. والواقع أنه إذا كانت العالمية قد انطلقت فجأة في منتصف القرن العشرين، فليس معنى هذا أنها لا تستمد بعض عناصرها الفكرية والاجتماعية من أصول بعيدة فإنها اتبعت فعلاً تطور النشاط الإنساني. اتبعته كتيار في باطن التاريخ، يتفجر في المكان الذي يصل فيه هذا النشاط إلى المستوى العالمي. ولقد تفجرت هنا وهناك تلقائياً، في ميادين كثيرة تجاوز فيها النشاط نطاقه المحلي- الخاص أو القومي- فوصل إلى مستوى يعم فيه سطح الكرة الأرضية، فإذا بالعالمية تظهر بفعل امتدادها الذاتي، وهناك أنواع من النشاط كثيرة وصلت إلى هذا المستوى بسبب توسعها منذ قرن من الزمان، فهي مرتبطة بجهاز توزيع عالمي ( Standard) ينسقها، والنشاط النموذجي الذي اتبع هذا التطور هو الاتصال بين الناس لشؤونهم الخاصة. فلقد كان نقل البريد أمراً معروفاً في القديم، حيث كان منظماً لخدمة الدول والأمراء، ولكن تنظيمه الحديث إنما يرجع في أرروبا إلى عصر هنري الثالث،

الذي أوجد في عام (1576م) نظام (السعاة الملكيين) الذين كانوا يحملون بريد الملك. ولكنهم كانوا يأخذون أحياناً (طرود الأفراد)، فلدينا إذن بُعد نقيس منه امتداد نشاط معين بدأ من إطاره الخاص، وهو ما يهمنا ملاحظته، يتجاوز النطاق المحلي منذ قرون، وطبيعي أنه كلما مد الفرد نشاطه، أبعد بريده في الشوط، وتزايد أيضاً حجمه أو كمه. ولقد يسرت هذا عوامل هذا النمو للإنسان- بصورة ما- (حضوراً) أو سياحة هائلة في العالم، بحيث أصبح شعاع هذا (الحضور) المتزايد مقياساً للتقدم الصناعي، أي لمقدرة الإنسان في مجالي تاريخه: مجال المكان ومجال الزمان. ولقد تجاوز هذا الحضور أولاً الحقل المحلي في القرية، ثم المدينة ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دولياً، وأخيراً عبر جميع الحدود فأصبح عالمياً. ولا شك في أن تطور الوظيفة قد فرض تطوراً على الأداة، فتطور التنظيم في الاتجاه نفسه، فإن مراكز البريد في أوروبا قد صارت شيئاً فشيئاً هيئات وطنية ذات شأن، تخضع لرقابة الدول، ثم إنها بفضل عوامل التوسع نفسها قد ارتبطت أخير اً بجهاز توزيع عالمي ( Standard) تكوّن عام (1875م) باسم (اتحاد البريد العالمي) وهو يؤمن سياحة الإنسان (العالمية). والاتجاه إلى الارتباط بجهاز عالمي ليس قاصراً على ميدان المواصلات، إلا أن جهاز البريد يعدّ بقدر ما تلخيصاً أو مقياساً للنشاط الإنساني، فهيئة الأمم المتحدة نفسها تعد في ميدانها جهازاً عالمياً ( Standard) ترتبط به السياسات القومية المدفوعة دائماً وبالعوامل نفسها إلى اجتياز الحدود القومية. والإنسان الآن- أكثر من ذي قبل- يرى نفسه في مستوى عالمي، وهو يفكر ويعمل في هذا المستوى في جميع الميادين، تلقائياً وطبيعياً. ولقد حتمت رسالته الثقافية بدورها- تماماً كرسالته المصلحية البسيطة- وجود (جهاز

عالمي)، وهو جهاز اليونسكو ( U.N.E.S.C.O) حيث تتلاحم شبكة الثقافة الإنسانية، فهو بمثابة قلب ذي نبضات عالمية تنقل في جميع الاتجاهات عناصر الحياة الضرورية لنمو الحضارة، كما ينقل القلب العضوي العناصر الضرورية للحياة البيولوجية ولنموها. واليونسكو تؤدي- في الواقع- هذا الدور، وهي تضيف إلى القيم الثقافية الخالصة مغزى عملياً في المقدرة التأثيرية، في صورة تنظيم عالمي للثقافة. وربما لا يستطيع هذا (القلب) الآن أن يوصل (دم الثقافة) المحيي إلى بعض الأجزاء المحرومه في العالم، ولكن تنظيم الحياة الثقافية كسائر أنواع النشاط الإنساني يتبع تطوراً مستمراً يتجه أيضاً وجهة عالمية. ولقد مر الجهاز الثقافي بمرحلة (الصالون الأدبي) ثم بمرحلة الأكاديمية الإقليمية التي كانت في فرنسا قبل النهضة وإبانها، تم بمرحلة الأكاديمية القومية، وأخيراً بجهاز عالمي هو جهاز اليونسكو، وإن هذا التطور ليطبع بطابعه جميع ميادين الثقافة، وجميع أشكالها المادية، فتنظيم المؤتمرات العلمية، حيث يبسط العلماء من أقطار الأرض آراءهم، يخضع لهذا التنظيم الذي يشمل- بلا جدال - جميع نواحي التطور في القرن العشرين. وتوحيد المعرفة هكذا وتنظيم المنتجات الصناعية أمارة على الزمن الجديد الذي ترتبط به الإنسانية الآن. والسنة الجغرافية الطبيعية (1957 - 1958م) تلك التي تجري ترتيباتها الآن في العالم كله تسجل بكل تأكيد لحظة باهرة في التاريخ الإنساني، وهي لحظة يتكون فيها العمل العلمي ويبدأ في مستوى عالمي. ولقد تخلقت هذه الفكرة في ذهن العالم الطبيعى جوس ( Gauss) الذي فكر في تعاون علمي لتحديد المجال المغناطيسي للأرض من (1836 إلى 1841م) ولقد خطت هذه الفكرة طريقها في العالم كما نرى، إذ بعد ذلك بقليل وجدت السنة القطبية الدولية (1883 - 1883م) وهي التي سجلت مرحلة في مضي هذه الفكرة نحو غاياتها (العالمية)،

التي قد تتوافق مع السنة الجغرافية الطبيعية الحالية. والحق أنه للمرة الأولى سيعمل العلماء من سبع وثلاثين أمة في مجموعات، طبقاً لبرنامج علمي مشترك، وخاضعين لتوقيت موحد وأن التاريخ يلقي هكذا من آن لآخر على مسرح (العالمية) ضوءاً طبيعياً ... وفي ضوء هذا النهار الوليد يقوم الإنسان بدوره (العالمي) في جميع أشكاله ... فمكتب العمل الدولي الذي يعمل في جنيف يعد طبعاً نظيراً لاتحاد البريد العالمي الذي تعمل إدارته في برن. وحتى (الجمعية الوطنية للمحاربين القدماء) قد اتجهت منذ حين إلى أن ترتبط بجهاز، أي باتحاد عالمي للمحاربين القدماء، بينما يقوم في زيورخ ( Zurich) تنظيم عالمي للتسلح الخلقي. وهكذا كلما تجاوزت مقدرة الإنسان المستويات المحلية، فإن نشاطه يعبر الحدود القومية، ليتلاقى ويتعاقد ويترابط في (أجهزة) تنسج شبكة (العالمية) التي تنبسط تدريجياً على العالم (¬1). وفكرة التعايش نفسها ترجمة عن الظاهرة في المجال السياسي والأخلاقي إذ إن الإنسان حين انتصر على الزمان وعلى المكان فإنه قد هدم الخطط الاستراتيجية بتصغيره لحجم العالم، فالطائرة التي كانت تذهب من كوبنهاجن إلى لوس أنجليس ( Los Angeles) عن طريق الأطلنطي، يمكنها الآن أن تأخذ طريق القطب الشمالي. والطائرات القطبية التي تلتقي فوق جرينلند قد قصرت هكذا المسافات، ووفرت الساعات، فهذا التصغير للعالم يقلب جميع الخطط الاستراتيجية .. والتعايش السياسي نتيجة هذا الانقلاب. وهذا التصغير للمكان يعدُّ كأنه (تكبير) للإنسان، وامتداد ورحابة في نطاقه الشخصي (¬2) إذ في هذا المستوى يصبح العالم وطنه، وميدانه المحدود، و (مجاله الحيوي) العادي. ¬

_ (¬1) في المؤتمر البرلماني الدولي الذي انعقد في لندن في سبتمبر 1957م عرض السناتور الأمريكي كيفوفر مشروع إنشاء بنك دولي للتغذية. (¬2) نحن ندرك أيضاً أهمية القمر الصناعي الروسي في (تكبير) هذا النطاق.

وهكذا تدخل العالمية في نفسيته، فنجدها في أعمال ذلك المتحمس الطيب القلب (المواطن العالمي)، وأيضاً في أعمال الرجل ذي الهالة الصوفية جورجيو لابيرا ( Giorgio Pira) - العمدة المسيحي المتأمل، تائر فلورنسا- الذي يأخذ عصا السائح لينشر في أنحاء العالم رسالته العالمية في صورة ميثاق (للصداقة والاتحاد) بحيث يشرك في إمضائه عمد جميع العواصم. وهكذا تصبح العالمية في منطق الناس، وفي منطق الواقع السائد، وهي تخص شيئاً فشيئاً غريزة الاجتماع في القرن العشرين، ونفسية هذا القرن أيضاً، وإنما يتسنى هذا الحل العالمي تلقائياً للفكر الذي يواجه مشكلات الساعة، في مختلف الميادين فأمام مأساة البؤس؛ وأمام المشكلة السكانية في إيطاليا قدر مفكر إيطالي اشترك في تحقيق عن هذا الموضوع، حيث قامت به مجلة الفكر ( Esprit) عدد (سبتمبر- أكثربر 1955م) ((أن الحل يصدر عن تعاون يتجاوز القومية Solidarité supranationale)) مقرراً أن الأمر يتعلق في عقله بأشياء مادية أكثر من مجرد التعاون (الشكلي وغير الحي)، أي بتعاون منظم لا طبقاً لرغبات الخيال والوهم، بل طبقاً لمقتضيات الحال. فبذور هذا الحل الذي سينهي الأزمة العالمية توجد إذن في الواقع وفي الأفكار، والتاريخ في طريقه إلى أن يؤتيها هكذا حلها عن جميع طرق التفكير. والآن نسأل أنفسنا: أي (سلوك) منهجي طبقه هؤلاء الرجال الذين أمسكوا بأيديهم مسؤولية قيادة الشعوب والأمم، على هذا التطور كيما يعجلوا بحركته. هل هم قد طبقوا في العالم سياسة الخلاص؟ إن صعوبات هذا الطريق ذات طابع ثقافي وسياسي في آن واحد، ونادر أولئك الأساتذة من رجال الفكر المعاصرين الذين يشجعون على فهم التاريخ (في عمومه ووحدته) فإن الجهد الكبير من أجل التركيب الذي قام به جون توينبي في عصرنا لا يتفق مع الاتجاه التربوي، فإن العلماء لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم لمخاطر (توجيه) التاريخ، فهم يكتبونه بقراءة ماضيه، ويمنعون أنفسهم من القراءة في مستقبله، ومن أن يبحثوا فيه عن اتجاه، وليس من السهل طبعاً أن نقرأه مسبقاً، بسبب ما غيبه الله عنا من إرادته وأوامره؛ ولكن توجد أحياناً بين

السطور السرية أضواء كاشفة عن اتجاه التاريخ، تلك الأضواء التي كان عمانويل مونييه يحب أن يرى فيها مظاهر (تحديه)، وليس من الممكن أن تدرك النظرة بين السطور قصة مفصلة، وإنما تدرك مثلاً دلائل توجيه عام، يمكن لأي سياسة أن تحدد اتجاهها بالنسبة إليه. هذه الدلائل موجودة فعلاً كما رأينا، وهي تخط خطاً للتطور (العالمي) يمكنه أن يحدد للسياسة اتجاهها، والأمم المتحدة خطوة هامة في هذا السبيل، ومع ذلك فإن للسياسة الحالية خموداً، وثقلاً من (أثقال الماضي)، يمنعها من أن تتكيف للتعجيل بسير التاريخ. والواقع أن المشكلة بلغة السياسة تنبع عن تطورين، إذ لا يمكن تحقيق (مجتمع عالمي متعايش) - كما أراد جمال عبد الناصر في كلمته الافتتاحية في باندونج- دون إزالة الاستعمار والقابلية للاستعمار على محور طنجة - جاكرتا، ودون إزالة الرأسمالية والشيوعية على محور واشنطن- موسكو. وإن إزالة هذا التناقض المزدوج لهي التي تؤتينا الحل السياسي للمشكلة العالمية، وفي ظل هذا التوقع يتكامل باندونج وجنيف، ويأخذان كل مغزاهما التاريخي. أما من الناحية العملية فإن المشكلة- كما نراها- توضع بطريق الأولوية على محور واشنطن - موسكو الذي يعد، مما لديه من طاقة الحرب المتكدسة أخطر منطقة في العالم الحالي، فهل لدى هذا المحور استعداد لتطور سلمي؟ وهل من الممكن أن نرى المقاييس تتقارب على جانبي ما يسمى (بالستار الحديدي)؟. فإن وجد هذا الاستعداد فمن الواجب أن يظهر- دون شك- في صورة اتجاه تدل عليه بصور متفاوتة دلائل تقارب فعلي، إرادي، أو لا إرادي، أو حتى ضد إرادة المتخاصمين. وهناك واقع مؤكد، نأخذه كنقطة بدء في التاريخ هو: أن روسيا قد فقدت اتصالها بالمجتمع البورجوازي الغربي منذ ثورة أكتوبر (1917 م) فمنذ ذلك الحين لم يعد ذلك الاتصال إلا تبعاً للصدفة المحضة، خلال الحرب العالمية الثانية،

في صورة (صلات دبلوماسية) تفرضها حالة القوة القاهرة، فضرورات الحرب ونتائجها هي التي فرضت هذا الاتصال، ولا سيما في (يالتا) و (بوتسدام) وقد دلت الأحداث التالية على أن هذا الاتصال كان مؤقتاً، فإن التضاد الشيوعي- الرأسمالي الذي خدره الشعور بالخطر المشترك قد عاد إلى الظهور عقب هزيمة الجيوش الهتلرية مباشرة، وقد حركته الصرامة المذهبية من ناحية، والعوائد البورجوازية من ناحية أخرى. ولكن الخصمين بتسابقهما في مضمار القوة قد خلقا فعلاً (خطراً مشتركاً) جديداً، قد يهدئ مرة أخرى من خلافهما ويعيد الاتصال الضروري فيما بينهما، كما فعل الخطر الهتلري فيما سبق. ولو أننا قومنا الأشياء بلغة القوة فسنجد أن جنيف هي نتيجة هذا التسابق الذي تدفق منه الخطر المشترك الجديد: الخطر الذري. وفي خلال ذلك هنالك عوامل أخرى تؤثر من الجانبين في هذا الاتجاه، اتجاه التقارب. فلقد ألقت مصيبة الحرب العالمية الثانية بذوره في مختلف الميادين، على طول محور واشنطن - موسكو فهيجت هنالك شكوكاً. وأنعشت هنا يقيناً وأملاً، وهي بتبيانها لكلا المتخاصمين أنه لا يملك القوة الكاملة وحده، وأن (الحقيقة) ليست ملكاً خاصاً به، قد أوضحت له معنى (حقيقة الآخرين). والواقع أن التبادل اللاإردي للقيم لم ينقطع مطلقاً منذ انفصال عام (1917م)، ومع ذلك فإن الحرب قد عجلت به حين أكدت بصورة محزنة أحياناً وجود بعض الحقائق الإنسانية. ويمكن في الإطار الديني أن نذكر أدلة أكثر إفصاحاً، إذ إن الثورة الروسية كانت قد أوجدت فصلاً عميقاً جداً هو: الفصل الروحي، ونحن لا نستطيع دون شك أن نتحدث عن شيء يعد إعادة الاتصال الكامل في هذا الميدان، ولكن لا يمكن أن نجهل الواقع، وهو أن الحياة الدينية قد عرفت نوعاً من البعث إبان الحرب الأخيرة. ولا يمكن أن نجهل أيضاً أن القادة السوفييت أنفسهم قد زكوا هذا البعث، لا بروح دينية حقة، وإنما

بحكم الواقع حين أباحوا للمرة الأولى منذ الثورة جزءاً من الواقع الديني في حياة الشعب، فستالين نفسه قد مد يده للدين، كأنما يمدها إلى عصا النقذ، ولم يكن هذا بكل تأكيد لإنقاذ روحه اللادينية، بل لكي يهب الشعب نفسه الروسي التنفس الذي كان في مسيس الحاجة إليه كيما يقاوم العدوان الهتلري، وما كان لنا أن ننسى أن الحرب قد حركت في روسيا الواقع الديني، واليقين الذي ينبع منه. وأياً ما كان السهم الذي تستأثر به السياسة خلال الحرب، فمن اللازم أن نلاحظ أن هذه الحرب قد أعادت التيار الروحي على محور واشنطن - موسكو، وكانت زيارة أسقف كانتربري لموسكو خلال سنوات الحرب تعدّ بلا جدال من دلائل هذا التقارب على المحور. ولا شك في أن مما له دلالة كبرى على التطور الروحي في الاتحاد السوفييتي أن ينشر (للمرة الأولى منذ الثورة) طبعة جديدة للكتاب المقدس، حيث كانت الطبعة الأخيرة عام (1916م). ونستطيع- إذا أردنا- أن نفسر بعث الحياة الدينية في الاتحاد السوفييتي باعتباره نتيجة للنشاط الروحي الذي لم يكف الغرب عن مباشرته، للتأتير على التطور السوفييتي في هذا الميدان. ولكن في الوقت نفسه يجب أن نأخذ في اعتبارنا رد الفعل السوفييتي وتأثيره على تطور الغرب في الميدان الاجتماعي، وحتى في الميدان الأخلاقي، فمما لا جدال فيه أن الفكر الشيوعي قد لعب دورًا هاماً خلال السنوات الأخيرة، حين بعث إلى الضمير المسيحي بمجموعة من الاشارات والاستفزازات كان من نتائجها إحداث تلك التجربة الرائعة للعمال - الرهبان ( Prêtres-Ouvriers) وربما كان لهذا الاستفزاز أثره، وأثره المضاد على المسيحي، إذ رأت الكنيسة أن من الضروري أن تحدد لهذه التجربة مدتها، وأساسها النظري، وبالتالي أهميتها الاجتماعية. ومما له دلالته دون شك أن يخصص قداسة البابا بيوس الثاني عشر جزءاً من رسالته في عيد الميلاد عام (1955م)، لتعريف هذه الحدود حين دعا- من

ناحية- إلى التحفظ ضد ((خرافة التقدم الاجتماعي غير المحدود)). وحين دعا إلى التحفظ من ناحية أخرى ضد ((الظاهرة)) الشيوعية الوهمية، ولكن الأهم من ذلك أن نرى وكالة تاس والصحافة السوفييتية تنشران هذه الرسالة حيث يخص جزء مهم منها مشكلات السلام بطبيعة الحال. فهذه هي المرة الأولى منذ عام (1917 م) التي ينشب فيها الحوار (الروحي) بين الشرق والغرب، بين أعلى سلطة روحية في الغرب، وموجهي الضمير في الاتحاد السوفييتي، وربما لا يكون من المستبعد أن ترسل موسكو سفيراً لها لدى الكرسي البابوي. فدلائل هذا التطور تظهر من ناحية أو أخرى من الستار الحديدي، حيث نجد العوائد البورجوازية، والصرامة المذهبية قد بدأتا تسمحان بتداخل فيما بينهما، وبتفاهم يستدعي تكيفاً متبادلاً متفاوتاً في درجة وضوحه، ولكنه لا يفتأ يقرب بين مقاييس العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي (¬1). ومن هذه المناظرات نفسها تنتج مقاييس مشتركة، إذ تبدأ المفاهيم تتوافق في مختلف الميادين، مع اختلاف الأسماء أحياناً، ففي المجتمع الرأسمالي يطلقون لفظ (تأميم) مقصوداً به بعض الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي التي فرضت تحت اسم (الملكية الجماعية) في المجتمع الشيوعي، فمن الواضح أن العملية نفسها تنتج عن الشروط الاجتماعية والصناعية نفسها، وأنها تؤدي إلى النتائج الإنسانية نفسها. وهذا ما دعا أحد العلماء الاجتماعيين إلى القول بأن ((الطريق الواحد يخلق النموذج الاجتماعي الموحد)) وليس من الممكن دون شك أن نرسم منذ الآن صورة هذا النموذج، التي ستسجل كمال هذا التطور الذي بدأ فعلاً على محوري العالم. ومع ذلك فمن المؤكد أن النموذج الذي سيظهر في نهاية هذا ¬

_ (¬1) نستطيع أن نرى الانعكاسات ذات الشأن التي أحدثها على هذا التطور المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي المنعقد في موسكو، فمن المتوقع أن نشهد الاسراع بعملية إزالة (الستالينية) في روسيا، بما تستتبعه من نتائج أخلاقية وسياسية في الميدان الغربي.

التطور المزدوج لن يكون عينة من عينات التنوع الإنساني، بل عينه للنوع: وهو الإنسان في أبسط صوره. ويبدو أن هذا هو الحدث الرئيسي المتوقع من المرحلة التاريخية الراهنة، إذ- كما عبر أحد الاجتماعيين- أن الحياة تحتوي منذ زمن طويل على قبائل وأجناس وأمم، ولكن الإنسان لم يولد بعد ... وأياً ما كان الأمر فإن التقارب ينمو على طرفي محور واشنطن - موسكو يوميا، ولا إرادياً في صورة قيمتين متزاوجتين، فإذا لاحظنا أن الطرف الغربي يعترف أن الشرق محق في ميدان معين، فسنرى الطرف الآخر يعترف أن الغرب في صميم الحق، في ميدان ثانٍ .. وعندما يتساءل مفكر ذو صبغة رأسمالية عما إذا كان (¬1) يمكن لنظام غير عقلي لاقتصاد قائم على عرق المجموع، من أجل سعادة بعض الأفراد أن يستمر بأي ثمن؟ فإننا نجد الناقد الماركسي- في الوقت نفسه- وقد تخلص من الأوضاع التقليدية للمدرسة الاقتصادية السوفييتية- خاصة من نظريات معهد الدراسات الاقتصادية بموسكو- نجده يلوم هذا المعهد على ((إنكاره لمظاهر التقدم التي حققها الرأسماليون في تطور الإنتاج والعلوم (¬2))). فهذه الخطوة المتزاوجة تدل- بصورة ما- على نسق التطور على محور واشنطن - موسكو، بتأثير عوامل مختلفة روحية، أو عقلية، أو سياسية، فها هما؛ التقاليد البورجوازية الثابتة والصرامة المذهبية يخليان الجو للمناقشة النزيهة، وحب الاستطلاع العلمي، بل حتى لمشاعر الإعجاب التي تمهد سبيل الود ¬

_ (¬1) سؤال وجهه سيمون في مقالة نشرت بجريدة لوموند الباريسية في عددها الصادر في 30/ 6/ 1955م. (¬2) هذه المناقشة كانت صدى لنقد المزارعين الأمريكيين الذين زاروا روسيا، حيث انتقدوا بعض طرق الاستغلال الزراعي؛ وامتدت بعد ذلك إلى ميادين أخرى؛ خاصة الميدان الاقتصادي حيث عارضت أكاديمية العلوم ((التي نلخص هنا وجهة نظرها)) الآراء الرسمية لمعهد الدراسات الاقتصادية خاصة رأي الاقتصادي أ. كاتز A. Kats عن تحلل الاقتصاد الرأسمالي.

الإنساني، فالمجتمع الشيوعي قد يعجب على لسان ممثليه بما حققه المجتمع الرأسالي من مناهج معينة، خاصة في ميدان الإنتاج الزراعي وبالمثل يستطيع المجتمع الغربي أن يعجب بما حققه الاتحاد السوفييتي في الميدان الصناعي. فلقد أعجب ممثلو الصناعة الضخمة الأمريكية مثل: البندكس ( Bendix corporation) وفورد ( Ford Motor) ووستنجهاوس ( Westinghouse) خلال زيارتهم القريبة للاتحاد السوفييتي بكمال الإدارة الإلكترونية ( Automation) لمصنع كاجانوفيتش. ومما يشرف الفكر الإنساني أن نرى علماء غربيين يصدرون شهادات على نجاح العلم السوفييتي في مختلف الميادين، وأن يفعلوا ذلك دون تكليف أو رياء، هادفين فقط إلى المصلحة العلمية أو المصلحة الإنسانية، حين يحثون بلادهم على استغلال التجربة التي شهدوا نجاحها (¬1). هذه الشهادات دلائل وضمانات أخلاقية على التطور الذي يقرب المقاييس على محور واشنطن - موسكو وإنا لنشهد هذا التطور في كلا الاتجاهين، فقد لاحظ المراقبون الغربيون الموضوعات الجديدة في الأدب الروسي، واتجاهاته الجديدة، حين أثارت مجلة ذات شأن في توجيه الثقافة السوفيتية وهي الليتيراتورينا غازيتا ( Litteratouraina Gazeta) أثارت بتأثير مديرها الجديد مناقشة حول موضوع (الطابع الجمالي في الفن) وبينت أن هذا الموضوع يتعارض مع ما تطلق عليه هذه المجلة قصور علم الاجتماع العامي: ( Sehématisme de la sociologie vulgaire) مبينة أنه يغذي في الفن وفي الشعر اتجاهات التعاليم الصبياني كإدخال (أطوار الموجة العاطفية) في موضوعات الحب السوفييتي، وهو ¬

_ (¬1) نحن ندين للدكتور لويس دي جيلان D. Louis de guillant مدير المستشفيات العقلية في باريس- بشهادة قيمة على نجاح العلم السوفييتي في الميدان الطبي خاصة في فن الطب العقلي؛ حيث قدر أن الروس في المقدمة سواء في التنظيم أم من الناحية العلاجية.

ما سخر منه النقد الغربي في رسوماته أحياناً. وقد أعاد تيار التغيير نفسه للمقاييس السوفييتية اسم ديستويفسكي ( Dostoievski) ومؤلفاته إلى الأدب السوفييتي، من حيث صادرتها الثورة. لقد ترجم الماجور كليمنت أتلي هذا التطور إلى توقعه السياسي فرأى أن النظرية الشيوعية ستفقد شيئاً فشيئاً حدتها، لتأخذ في النهاية بطريقة تعايش مرضية ( Modus vivendi)، وهذا التأكيد من زعيم حزب العمال الإنجليزي يجيب عن المشكلة التي نبحثها في هذا الفصل، على الأقل في حقيقتها الغربية، وفي وقعها الخاص على محور القوة. ونظرية هذا الرجل السياسي تجد ضمناً تأييداً من وجهة نظر الفيلسوف، فلقد رأى هذا- فيما يبدو- أمارات تغيير داخلي في الجهاز النظري الماركسي، لقد رأى ميرلو بونتي ( Marleau Ponty) في مؤلفه (مغامرات المادية الجدلية Les Aventures de la Dialectique) أن الفكرة الشيوعية تنزلق- تحت وطأة تجربتها التاريخية- من قيمة الفكرة إلى قيمة العمل، ولعل هذا (الانزلاق) الذي كان نتيجة الانتقال من اللينينية إلى الستالينية، وهي المرحلة التي سجلت ذروة الانفصال بين الشرق والغرب، لعل هذا الانزلاق يكون السبب البعيد الذي يهيء الطريق للتقارب بين الشيوعية والتفكير الأنجلوسكسوني، في مجال القيم العملية لأنه يوفق بين المذهب والتقاليد البورجوازية. وهذه الحركة ربما بدأت منذ زمن إذ إننا نجد مراحلها خلال سنين مضت، ولقد سجل مؤتمر فيلوربان ( Villeurbanne) المنعقد في فرنسا عام (1935م) - وهو المؤتمر الذي ألف فيه الحزب الشيوعي الجزائري- سجل هذا المؤتمر مرحلة من مراحل نمو الشيوعية في اتجاهها القومي، وهو الاتجاه الذي تأكد وشاع بحل الكومنترن ( Komintern) بعد ست سنوات، وكلما تحددت معالم هذا التطور برزت توقعات لم نكن نتصورها، فمنذ عشر سنوات ونحن نرى أحداثاً تقع لم نكن نفكر فيها.

ولو أننا وجدنا كاثوليكياً متحمساً معروفاً بميوله الكاثوليكية، وبوضعه الاجتماعي، قد انضم إلى جمعية فرنسية- روسية، كما فعل أحد الأكاديميين الفرنسيين المشهورين أخيراً، فلا شك في أن هذا حدث غير عادي، وله مدلوله البليغ. وكذلك حين نجد صحيفة برافدا ( Pravda) في عددها الصادر في 6/ 2/ 1956م تدعو وتلح في أن تقوم فرنسا بدور الوسيط بين الشرق والغرب، فليس هذا مطلقاً توقعاً عادياً. وأيا ما كان الأمر، فإذا كانت جنيف نهاية تطور سياسي ناتج عن النمو الخطير في عنصر (القوة) على محور واشنطن - موسكو، فمن الواجب دون شك أن نرى فيها نهاية اطراد ذي طبيعة أخرى، نجد دلائله في مختلف الميادين، في صورة أسباب نفسية وروحية وعقلية، فكأن هذه الأسباب (قوى) جاذبة تخفف وتنحي تدريجاً القوى الطاردة التي كانت تضع العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي وجهاً لوجه في عنف وصرامة. وأكثر من ذلك فإن مؤتمر الكبار يسجل في عملية التقارب اللاإرادي لحظة هامة ليقظة الشعور، حيث يجب أن يتدخل منذ ذلك الحين عامل توجيه منهجي مع وجود الأسباب اللاشعورية. فابتداء من هذه اللحظة تكتشف الإنسانية الطريق الثالث لخلاصها، حين تلتزم بنفسها، وطبقاً لإرادتها باتباع سبل الرواد الكبار الذين شقوا أمامها الطريق مثل غاندي، وبالسير في مجرى التاريخ، سيكون لديها حينئذ سياسة خلاصها، أو على الأقل ستدرك إدراكاً كاملاً أن من الواجب عليها أن تحدد سياسة كهذه. وإن التعايش الذي حددته (فكرة جنيف) لهو جزء من الحل الذي جاء به محور القوة للمشكلة الإنسانية. وهو في مرحلة (الحرب الباردة) التي يجتازها العالم. جزء جوهري يمنح التاريخ الزمن اللازم ليصنع نفسه، ويمنح محور طنجة - جاكرتا فرصة ليبدأ مساهمته الخاصة لإكمال الحل الشامل للمشكلة، لقد كانت هذه المساهمة تعد- دون شك- منذ عشرين عاماً شيئاً زائداً، لالزوم له، إذ كان التاريخ يتكون فقط على محور

واشنطن - موسكو، وكان هذا على حد تعبير أحد محرري صحيفة باريسية يومية كبرى إذ قال: ((الاحتكار في صناعة التاريخ وظيفة أوربا)) فلم تكن الشعوب المستعمرة سوى أدوات لهذه (الوظيفة) الأوروبية: أدواتها ومتفرجيها اللاهين أو اللاعبين. ولكن الحل اليوم قد أصبح بين أيدي الشعوب جميعاً، إذ يتم صنعه على كلا المحورين في وقت معاً. ولكي يتم صنع التاريخ، هناك توزيع طبيعي للأدوار، فجنيف حين جمعت القوى التي تعطي الحل الزمني للمشكلة تركت للشعوب الأفرسيوية أن تعد حلها الروحي. ومؤتمر باندونج حين جسد جهود هذه الشعوب قد أظهر في العالم إمكانيات جديدة للخلاص تسمو بفكرة التعايش، وتضعها في مكانة المثل الأعلى. وهكذا تقوم فكرة (الأفرسيوية) بدور مزدوج حين تدمج توقعها في التاريخ، فهي على محورها الخاص يجب أن تخلق أولاً جوهرها الخاص أي أنها طبقاً للشروط التاريخية والجغرافية التي توضع فيها المشكلة يجب أن تخلق حضارة. وبالتالي تخلق جميع عناصرها النفسية الزمنية، فتخلق ثقافة، واقتصاداً، وسياسة، ولا شك في أن مهمتها- منذ باندونج- قد بدأت تسلك هذا الطريق. ويجب أن تكون وظيفتها التاريخية الجوهرية مساعدة البلدان (المتخلفة) على التغلب على تخلفها، أي قهر العقبات الناشئة عن (الضعف). ولكن لها أيضاً دوراً هاماً بالنسبة إلى التطور على المحور الآخر، وذلك حين تساعد البلدان (المترقية) على التغلب على المرحلة الخطيرة في نموها، أي أن تقهر بصورة ما أخطار (القوة)، بحيث تمضي في تطورها دون صدمة قدر مفاجئة. ويرى برتراند رسل ( Bertrand Russel) أن هذا الدور يتمثل في مجلس للدول الكبرى ( Conseil des Puissances) يتمتع فيه الشيوعيون وأعداؤهم بعدد متساو من الأصوات، ويصدر القرار في نهاية الأمر بترجيح الأصوات المحايدة، وعلى رأسها صوت الهند، وبدهي أننا لا نعرف ما سيظفر به في السياسة ذلك الحل

المنطقي الذي يوحي به الفيلسوف، ولكن فكرته تحدد على أية حال الرسالة العالمية لفكرة (الأفرسيوية)، تلك التي بدأ قادتها يقدرون مدى أهميتها وخطورتها، وإن جهودهم لتشهد بذلك في الخارج، في توجيه سياسة خارجية تتفق مع مغزى هذه الرسالة، وفي الداخل، في بناء نظام اجتماعي صالح لأن يهب لبلادهم القاعدة المادية التي تكافئ دورها الأخلاقي، والضروري لتحدث تأثيرها. وفي الوقت الذي يكون الرجل الأفرسيوي قد حل بنشاطه المزدوج مشكلاته العضوية، وحدد اتجاهه العالمي، فإن نصيبه في حل الأزمة العالمية سيصبح حاسماً. على أنه قد بين فعلاً- حين بدأ في علاج وضعه هو منذ مؤتمر باندونج- أن هناك حلاً متكاملاً لتلك الأزمة. والواقع أن (حضوره) في العالم- منذ اللحظة التي وعى فيها موقفه- قد صار عنصرا مركباً (لفكر عالمي)، فخارج تفكيره في ذاته نجده قد أثار ألواناً من التفكير تدفع إلى الأمام ركب التطور الأخلاقي والمادي على المحورين في وقت واحد. وهو حين يدعو الفكر الغربي إلى هذا التفكير فإنه (يقدم) هذا الفكر في اتجاه عالمي، وبهذا المعنى تأخذ الفكرة الأفرسيوية على عاتقها دوراً محرراً في مواجهة الفكر الغربي، إذ إنها تستطيع تحريره من (ذهان) السيطرة، حين تفتح أمامه في العالم اتجاهاً أخلاقياً. وعلى طرفي محور واشنطن - موسكو بدؤوا في الواقع يدركون مشكلة البلدان المتخلفة لا من الزاوية الاستراتيجية أو المذهبية- ولكن من زاوية حاجات الشعوب، ففي واشنطن وفي موسكو يتحدثون عن تحويل جزء من ميزانيات الحرب كرصيد لمساعدة البلدان المتخلفة، ولا شك في أن للرجل الأفرسيوي سهمه في هذا الانتصار لفكرة التعايش. ومما لا يقبل الجدال أن بعض التغييرات النفسية التي طرأت على محور القوة إنما تعود جزئياً إليه بفضل نشاطه، أو لمجرد حضوره. وإذا كانت مبادئ إعادة النظر في العلاقات التقليدية بين المحورين، أي بين الأوروبي والمستعمر لم تنضج بعد في الضمير الغربي، فإن أماراتها قد ظهرت فعلاً في ميدان الثقافة، وأيضاً في ميدان التفكير الاقتصادي في البلدان المتقدمة.

ومما له دلالته في هذا الباب، أن يستخدم أحد أساتذة الجامعة الفرنسية مثلاً كلمة جديدة هي ( Décoloniser) وتعني: ((الخروج من نظام الاستعمار)) وذلك أمارة على تطور عميق في الفكر الغربي. ذلك الفكر الذي كان يدور منذ نصف قرن من الزمان حول كلمة ( Coloniser) التي تعني ((الدخول في نظام الاستعمار)). وفي الميدان الاقتصادي يظهر الاتجاه واضحاً للخروج على المقاييس التقليدية، فهناك من يدعو إلى (تجاوز النظام الرأسمالي) وفي النظريات التي رأت النور تحت إشراف معهد علوم الاقتصاد التطبيقي ( I.S.E.A) في فرنسا، يتحدثون عن أشكال من النشاط الاقتصادي من دون غلة، أي أشكال منوعة من الاقتصاد المجاني، أو اقتصاد الهبة، خلال مراحل متعددة. فالتفكير في مشكلات الرجل الأفرسيوي يستدعي إذن أن يراجع العالم الأفكار التقليدية، وهذه المراجعة تهدف عملياً إلى إلغاء المسائل الاجتماعية والثقافية التي تفصل الجماعات الإنسانية على المحور الأفرسيوي عن البلدان (المتقدمة). ولكن تأثيرها يقع على محور واشنطن موسكو في الوقت نفسه، في اتجاه التقارب بين مقاييس العالم الرأسمالي ومقاييس العالم الشيوعي، بحيث ينتج عن المراجعة تأثير مزدوج على تطور العالم، وهو يحتم في الواقع تطوراً مزدوجاً يتجه إلى التلاقي في عصر عالمي. وما زال الرجل المكب في معمله على أسرار الذرة بعيداً- ولا شك- عن ذلك الذي يرعى قطيعاً من الماشية في أرض قاحلة وهما مختلفان، كلاهما عن صاحبه، ولكن طريقيهما يتجهان إلى التلاقي، وبما أن هذا يدرك تماماً سقوطه المادي، وذلك يدرك سقطته الروحية فهما صائران إلى نقطة تلاقيهما، بدافع من طموحهما المتبادل. وسيتوج هذا اللقاء حدث الإنسانية العالمية، الذي يبدو أنه يسجل الأجل الذي ((يعتبر تاريخ الإنسانية كله بالنسبة إليه بداية غير واضحة، ولكنها وطيدة)). ومعالم هذا الاحتمال تتحدد أمام الضمير الذي بدأ فعلاً يدركها في وقائع مادية، ويبدو أن

عصرنا- بما شهد من مبشرين وشهود كبار- هو عصر التحول الإنساني الكبير، فهو العصر الذي يتحتم على الإنسانية فيه، وقد سبق لها أن اجتازت مع العهد الحجري الجديد المرحلة الأولى في تاريخها، بارتقائها إلى مستوى (الحضارات) يتحتم عليها الآن أن تجتاز المرحلة الثانية التي تسمو بها إلى مستوى حضارة الرجل العالمي. وطبيعي أننا حين نضع أنفسنا في هذا التوقع لا نرى الطريق الذي نجتازه لبلوغ الهدف، ولا نرى أيضاً جميع العقبات الكامنة في الطريق، وسيكون لزاماً على من يقودون الشعوب نحو هذه الأهداف أن يحلوا هذه المشكلات حلاً علمياً، ولكن التاريخ سيساعدهم في حلها ... ما دامت سياستهم اتفقت مع منطق التاريخ. ***

العالم الإسلامي وفكرة الأفرسيوية

العَالم الإسلامي وَفكرة الأفرسيَوِيّة إن مشكلة (الأفرسيوية) تواجهنا في اللحظة التي يبدو أن التاريخ ينقل فيها قيم الحضارة من منازلها التقليدية إلى منازل جديدة، فلقد كان من أثر تلك الحركة التي عجلت بها الحربان العالميتان أن حدث توزيع جديد للقيم في عالم لم يعد مركزه البحر الأبيض المتوسط، بل إنه قد استقطب في الشرق والغرب، وفي هذا التوزيع الجديد أصبح الإسلام نفسه واقعاً آسيوياً. ولا يكف مركز ثقله السكاني عن التحول إلى الشرق، ولكنه يحتفظ بإطاره الخاص، وبخاصته النوعية في العالم. فهو عالم بذاته، له مشكلاته العضوية الداخلية، وله مشكلات صلاته بالآخرين. فأستاذ الجمال الياباني الذي حكم عليه من تلك الوجهة الاتصالية إبان الحرب الروسية اليابانية نظر إليه في الواقع بعيني سامورى (¬1)، فرأى فيه سمات ((فارس على جواده، وسيفه في يده ... )) وفي ضوء السمات حاول أوكاكورا ( Okakura) - في كتابه الذي اشتهر في الغرب آنذاك- أن يشرح (رسالة اليابان أمام مثاليات الشرق) فرأى أثناء شرحه أن هذا (الفارس) حين تدفق من ممر خيبر في شمال الهند على شواطئ نهر الهندوس ( Indus) قد أقام بين الهند والصين (سداً أعلى من جبال الهملايا) فالإسلام في نظره قد قطع تيار التبادل الثقافي بين شمالي القارة الآسيوية وجنوبيها. ولو أننا أعطينا لوجهة النظر هذه قيمتها النسبية، فإن لنا أن نتساءل- ولو أدى بنا التساؤل إلى أن ننزلق في ميتافيزيقيا التاريخ- أين كان يمكن أن ينتهي التيار الذي انقطع هكذا؟ إن من المؤكد أنه بعد تلاثين عاماً من شهادة هذا الياباني جاء محمد إقبال، ذلك الذي ربما كان ينظر إلى الأشياء من وجهة نظر أقل سطحية فأعطانا شهادة أخرى حين أكد أن ((آسيا لا تقوم بغير المسلمين)). ¬

_ (¬1) البطل الأسطوري اليابانى Samourai.

وبعد عشرين عاماً يثبت التاريخ بطريقة رائعة وجهة النظر هذه، إذ كان من بين الدول التسع والعشرين التي حضرت مؤتمر باندونج أربع عشرة دولة إسلامية. وعلاوة على ما في هذا الرقم من دلالة، فإن نظرتنا إلى الخريطة ترينا أهمية الواقع الإسلامي في فكرة الأفرسيوية. وربما لا يكون لمصطلح ( Afro-Asiatisme) نفسه أي معنى لو لم تترجم علامة الوحدة ((-)) التي تربط لفظيه عن رابطة فعلية، وعن واقع يشرحها، هذا الواقع هو الإسلام. وهذا هو السبب الذي من أجله رأينا أحد المسؤولين الفرنسيين وهو يفسر الأحداث في توقعه الخاص، يعلن صبيحة باندونج أن ((الإسلام يفيض آسيا في أفريقية)). لا شك في أن هذا هو الشغل الشاغل لمفهوم استعماري جديد يصادف صورته في نظرية (أوربا- إفريقية) التي رأت النور في اللحظة التي كانت تمر فيها ريح هتلر على أوروبا، ولكن هذا الاهتمام يتضح، في مفهومه الاستراتيجي والاقتصادي في العالم، بالوضع الجغرافي الخاص بالعالم الإسلامي الذي أثبت حدوده على ثلاث قارات: آسيا، وإفريقية، وأوروبا. فحدوده ترسم على الخريطة في الواقع قارة حقيقية هي (القارة الوسيطة) كما سماها من قبل نابليون: رجل الفكر الاستراتيجي. وينبغي أن نضيف أن هذه (القارة الوسيطة) هي بطبيعتها مفترق طرق لجميع الأجناس، وبوتقة تنصهر فيها الصفات الجنسية، وتمتزج الحقائق الاجتماعية، وتذوب الاختلافات، التي قد تكون مع ذلك صريحة في وحدة إنسانية ليست من النوع البيولوجي أو الاجتماعي أو السياسي، ولكنها ذات طابع روحي، ولو أننا تحدثنا عن أهمية عامل توحيد كهذا من وجهة النظر الإنسانية فسندرك جيداً الدور الذي يقوم به في تركيب فكرة (الأفرسيوية) خاصة حين نذكر- مع ذلك- أن محور العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا يتفق بالتحديد مع

محور العالم الأفرسيوي. وبسبب هذا الوضع الخاص يتمتع الإسلام بوضع القاسم المشترك مع جميع الثقافات التي تؤلف الخريطة الروحية في العالم. فهو في مركزه في البحر الأبيض يقع في قلب عالم الكتاب المقدس، الذي يتقاسم معه رسالة إبراهيم، وهو في مراكزه الآسيوية يقع في قلب عالم البهاجافادجيتا وفكرة بوذا وحكمة كونفوشيوس، وهو في إفريقية الوسطى على صلات مع النفس الإنسانية العذراء المنزهة عن أي طابع تعليمي في كامل براءتها البدائية. ومن ناحية أخرى، فإن الإسلام في مركز العالم الحديث حيث محت الحضارة التكوينات والأوضاع الأخلاقية التقليدية، حين فرضت تكويناتها وأوضاعها الصناعية، فخلقت بذلك فراغاً روحياً هائلاً، بدأ الناس يستشعرونه في العالم المتحضر. فالإسلام إذن بسبب روابطه العديدة بالنسيج الإنساني الراهن، حيث يعد جزءا جوهرياً في السلسلة وبفضل طبيعته واتصالاته التي لا يمكن أن تكون (السد) الذي رآه فيه أوكاكورا ( Okakura)، هذا الإسلام هو- على العكس- الجسر الذي يصل ما بين الأجناس والثاقافات، فهو عامل بلورة، وعنصر جوهري إذا ما أردنا اليوم تكوين (مركب) حضارة أفرسيوية، وغداً تكوين حضارة عالمية. ولكن في أي الظروف يستطيع هذا العالم الإسلامي أن يحقق تقديراته، وأن يترجمها إلى حلول مادية لمشكلاته الداخلية والاتصالية؛ وبعلامة الاستفهام هذه تواجهنا مشكلة المقدرة التأثيرية، فليس الأمر من بدايته أمر مبادئ أو فروض، وإنما هو أمر ترجمتها إلى وقائع وأحداث، ومن هنا يصبح من الضروري إحداث فصل جوهري بين الإسلام والعالم الإسلامي. وهذا التمييز يستدعي تمييزاً آخراً، إذ يجب أن نميز في المسلم الإنسان عن المؤمن. أي أن نفصل بين شاهد الرواية الإنسانية وبين ممثليها. ففي التاريخ يجب أن يتحول العنصر الروحي إلى عنصر اجتماعي، وفي الإطار التاريخي- أعني خارج نطاق الخلود- يعد الإسلام

(واقع المسلمين). فأي حكم على هذا الإسلام التاريخي هو بصفة جوهرية حكم على نشاط إنساني متطور خلال القرون. والمسلم هو بكل تأكيد الإنسان الذي حمل بأقصى ما يستطيع من جهد وإلى أقصى ما يبلغ في الدنيا، من مقتضيات الايمان الديني، فهو يمثل الرجل المتدين ( Homo-religious) بمعنى الكلمة، كأنما تلك وجهته ورسالته الخاصة، ووظيفته الجوهرية في هذه الدنيا. لقد تخلى مطلقاً عن كل ما يتصل بالحياة الدنيا، ومن هنا تبدأ المأساة الزمنية الإسلامية في كل عظمتها ومظاهر بؤسها، ونحن نفهم من هذا أنهم يحكمون عليها طبقاً لمقاييس عملية- كما يحكمون في الغرب عموماً- فإنهم يوشكون أن يلصقوا عليها طابعين هما: القدرية، والتعصب. وهكذا، فإذا كان للعالم الإسلامي عظمته الأخلاقية، فإننا ندرك من هنا مظاهر ضعفه الاجتماعية كلها. والحق أن القاعدة العامة تقول بأنه عندما ننتقل من الاعتبارات الميتافيزيقية إلى الاعتبارات الاجتماعية، فإننا نعبر حدود عالمين مختلفين. ومع ذلك فقد يحدث أن يغيب عن نظرنا هذا الانتقال الذي يفسر أشياء كثيرة، فنجد أنفسنا هكذا أمام لغز غير مفهوم، ولقد يحدث هذا حتى لفكر يقظ كفكر إقبال حين وجد نفسه أحياناً محيراً تائهاً عندما كان ينتقل من (تاريخ المسلمين) إلى جوهر (الفكر الإسلامي) فقد عبر عن دهشته في رسالة وجهها عام (1927م) إلى المستشرق نيكلسون ( Nicholson) حين قال: ((إني مقتنع تماماً بأن فتح البلاد لم يكن من البرنامج الأساسي للإسلام، والحق أنني أعتبر من الخسارة الكبرى أن يوقف تقدم الإسلام كإيمان فاتحٍ نموَّ (أجنة) التنظيم الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي التي أجدها متوزعة في صفحات القرآن، وفي سنة النبي ... )). فإقبال يرى إذن مسافة بين النظرية والتاريخ، وبين الفكرة والسلوك ولكن مما يبعث على الغرابة أنه لم يكن يظن أن هذه المسافة قد تجلت في فكرته الخاصة إذ نراه يعبر- عن غير شعور- حدود مفهوم (الأمة المسلمة) إلى مفهوم

(القومية الإسلامية) تلك الفكرة التي استخدمت كأساس نظري في تأسيس باكستان. فإن إنشاء هذه الدولة لم يكن ليكون فهو- في كلمة- نوع من فتح البلدان، لا تتحقق معه فائدة (للأجنة) التي يتحدث عنها، وأنا أعتقد أن نهرو كان أقرب إلى (الفكرة الإسلامية) حين كتب قي مذكراته في السجن عام (1942م) فيما يتصل بالمسألة القومية في الهند قال: ((أعتقد أن هذا الشعور كان مصطنعاً، وأنه لم تكن له جذور في العقلية المسلمة)). ومن السهولة بمكان أن نحكم في هذا المحيط بأن الفكرة القومية، أياً كان مستقبلها في باكستان، كانت في الواقع مصطنعة، وأن أحد منشئيها كان آغا خان الذي رأس في عهد الإصلاح عام (1908 - 1909م) وفداً لدى نائب الملك لورد مينتو ( Minto)، خليفة اللورد كيرزن ( Curzon) ليطالب بفصل المجموع الانتخابي المسلم عن الجموع الانتخابية في الهند. فإقبال على هذا قد اقتبس موضوعاً غريباً، ولكنه خلع عليه ثوباً دينياً. فلقد كان يريد ((قومية مسلمة)). وربما نجد هنا عنده النزعة المسيطرة التي تتجلى في (الفكر المسلم)، وهي التي أطلق عليها جاسبيرز ( Jaspers): الدين المحوري ( Religion Axiale) فإن المسلم يتخذ من الدين (محور الحركة) لحياته كلها: فهو مفتاح نفسيته والمقياس الذي تقاس به جميع أشكال سلوكه، والذي يفسر أن الأوامر السماوية لها عنده تأثير وسيطرة أكثر من أوامر الحياة العادية. فلم يكن من الشذوذ أن كان باعث النهضة في العالم الإسلامي وهو الشيخ محمد عبده مصلح عقيدة لا مصلحاً اجتماعياً، والنمو التاريخي الذي حدث في العالم الإسلامي هو ثمرة مدارس العقيدة، وثمرة تطبيق تعالميها في الحياة العملية، مع أن الجانب الاجتماعي في النظرية القرآنية، وجميع (الأجنة) الاجتماعية التي تحتويها قد أغفلت في هذه التعاليم التي تساعد على نموها وتطويرها، كما لاحظ ذلك بمرارة إقبال في رسالته إلى نيكلسون.

والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها مثلاً قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 17/ 37]، هذا القول الذي يملي علينا وضعاً اجتماعياً. ومع ذلك فالتفسير القديم لا يفسر هذه الآية ولا يوجهها إلا في شكل خلق أخروي مع أن في هذه الآية أمراً- في صيغته القاعدية نفسها- ولكن التفسير لا ينظر إليها هكذا إلا بالنسبة إلى اهتمامات الآخرة. فنحن نرى إذن (أجنة) أخلاق اجتماعية وقواعد للسلوك المؤثر الإيجابي تسقط في غمار الاهمال والنسيان؛ لأن العالم الإسلامي- لا الإسلام- هو الذي أهملها وأغفلها. وكل هذا الجانب الذي يمكن أن نسميه (المنطق العملي) في الإسلام، وهو الذي يكون فصلاً كاملاً من فصول الثقافة الإسلامية، لم يتطور في حياة المسلمين. وإذن فلو أننا تحدثنا اليوم عن قدر لا بأس به في السلبية في المجتمع الإسلامي فلا محل إطلاقاً لأن نرجع سببها إلى الإسلام- كما اعتاد ذلك بعض المستشرقين- ولكن إلى تطبيقه التاريخي. وفضلاً عن هذا، فليس من موضوع هذا الفصل أن نحلل الأسباب التي تتغير مع الزمن، والتي تفسر ذلك التطبيق المختل الذي ولد- من بين ما ولد- المرحلة التي اتفق مؤلفو القرن التاسع عشر على أن يطلقوا عليها اسم (انحطاط العالم الإسلامي). وعليه، فإذا أردنا أن نأخذ في اعتبارنا مكانة الإسلام في تركيب فكرة الأفرسيوية، زيادة على أهميته الجغرافية السياسية. فيجب أن نفرق فيما يأتي به بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي. وهذه التفرقة ليست ضرورية فقط لإيضاح جوانب هذا العرض، ولفاعلية المنهج، أعني لكي يتبين لنا أين يكون (الإصلاح) ضرورياً لنقائص الجانب الاجتماعي، ولكنها ضرورية أيضاً وخاصة للحديث عن هذه النقائص مع التحرر من تلك الرعدة الرهيبة التي تعتري المسلم وتستحوذ عليه، عندما يواجه مشكلات العالم الإسلامي من زاويتها المرضيّة. فإن عقله يتهاوى غالباً أمام تلك الرعدة، فإذا به يجد نفسه مدفوعاً إلى أن

يصوغ قصائد المديح بعيداً عن هذه المشكالات، وعن مضمونها الواقعي. وهو يعتقد أنه مضطر- شأنه في ذلك شأن جميع المؤمنين بالأديان كلها- إلى أن يسمو بهذا المضمون إلى مرتبة المثل الأعلى، وإلى أن يخلع عليه عناصر جمالية ذاتية، وإلى أن يرسم- عموماً- في عقله صورة ملق لدينه، كأنما الإسلام في حاجة إلى أن يهبوا له جمالاً، وكأنما القبائح الإنسانية التي فينا يمكنها أن تشوه جمال وجهه، فتجعل من الضروري عمل (ماكياج). هذا الاتجاه إلى المديح يدل في جوهره النفسي على جبن في الإيمان، الإيمان الذي لا يستطيع- تبعا لكلمة عمانويل مونيه الموحية- أن يقاوم (الصراع الباطني) الذي تعرضه له أحداث الحياة والتاريخ. وبصفة عامة هذه هي أعراض المرض الاجتماعي لوسط لم يعد لديه الوسيلة، والهم الذي يدفعه للتغلب على نواحي ضعفه، وسط انحطت فيه قوى الحركة والتقدم، فالمديح إنما هو تعويض بالكلام عن الواقع المحس، تعويض عن الحقيقة الموضوعية في هذا الوسط بالحقيقة الشخصية الذاتية: وتلك هي محاولة تبرير انحطاط القوى الأخلاقية والاجتماعية. وهذا التبرير يحدث بطريقتين، فهو إما تعويض بالذاتي عن الموضوعي، وإما تعويض بماض مشرف مهيب عن حاضر مفلس، وهو في كلتا الحالين يجعل من باب المستحيل إحداث علاج اجتماعي. فمن البدهي أننا حين نواجه مشكلة الرمد مثلاً، وهي من المشكلات التي تحدث كثيراً من الخسائر في العالم الإسلامي بكل أسف، فليس مما يحل المشكلة أن نقول بأن طب الرمد كان من اختراع عالم مسلم من علماء القرن الثالث عشر هو ابن المحصن فإن تعويضنا- اللاشعوري- بلوحة من لوحات الماضي عن واقع الحال قد يجعل الحل مستحيلاً من الوجهة النفسية. على أنه ليس من مهمة الإسلام الخالد أن يستر أو يبرر بطريقة أو بأخرى ضعف نظام زمني يدعي أنه إسلامي، خاصة إذا ما علمنا أن الإسلام من معدن روحي لا يحتاج مطلقاً إلى أن يغمس في المديح، أو في (ماء الورد) حيث أراد بعض المحترفين سيئي التوجيه أن يغمسوه ليمنحوه- فيما

يبدو- قدراً أكثر من المضاء الاجتماعي، وليجعلوا منه آلة قادرة على أن تفصل ثوباً للعالم الإسلامي من مادة التاريخ العصية، والواقع أننا لسنا في حاجة إلى صنع الآلة، بل لصنع العامل الذي يستخدمها، ولا شك في أننا حين ننقد مظاهر ضعف هذا العامل، فإن ذلك خير وأفعل من أن نستطرد في تقريظ الآلة. ومما لا جدال فيه أن الإسلام قد احتفظ بمضائه الذي صيغت به الحضارة الإسلامية كدرة فريدة في التاريخ، ولكن المسلم هو الذي فقد استخدامه الاجتماعي. ومع ذلك فقد احتفظ بالجوهر، أي بهذا المضاء الروحي الضروري لحل عقدة العقد في العالم الراهن، حيث لا يمكن أن تحل الأزمة بوسائل القوة. فإن العالم يجب أن ينقذ في الواقع من أخطار القوة، ولكي يتم إنقاذه منها فمن الواجب أن يخط سبيله بحيث لا يغوص في أوحال السيطرة مرة أخرى. وهنا نجد أن المنقذ هو الإسلام حيث وضع علامتين مهمتين على هذا الطريق، فلقد حدد- بصورة ما- خطورته بمبدأين أساسيين، ليؤمِّن الإنسانية ضد جميع أشكال الاضطهاد الديني والزمني، فأرسى القرآن أولاً في الضمير المسلم تحديداً جوهرياً لإرادة القوة، ولم تدع تعاليمه في هذا المجال أي لبس أو غموض كما تشير إليه الآية الكريمة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 28/ 83]. ولن يتسنى لمصدر أن يحدد أخطار (القوة) في الضمير الإنساني بصورة أوضح من هذا. ونحن نرى أن إقبال ربما استطاع حين تأمل هذا النص أن يجد فيه (جنيناً) روحياً لم يتح له أن يكتمل وينضج، إذ لا يمكننا أن ننكر أن التاريخ قد احتوى بعض مظاهر (السيطرة الإسلامية)، ومع ذلك فإن لنا أن نفرق تفرقة جوهرية بين (فكرة السيطرة) التي نصادفها- بلا جدال- في أساس (الإمبراطورية الإسلامية) و (الامبراطورية الاستعمارية الحديثة) هذه التي ذهبت إلى حد إبادة الشعوب المستعمَرة، بل ذهبت دائماً إلى أقصى الحدود المحالة للشيطنة الإنسانية ... فالدولة الإسلامية لم تلتزم مبدأها بدقة، ولكن المبدأ قد

حد فعلاً من سلطانها، ولئن كان لم يتح له أن ينمو نمواً كاملاً في التاريخ، فإنه لم يفقد حيويته فقداناً كاملاً. وشأنه في ذلك شأن بذرة مستودعة باطن التربة، تظل الحياة مختزنة فيها إلى أن تجد الشروط البيولوجية لنموها وتطورها، وبالمثل يستطيع (الجنين) الإسلامي أن ينشط في شروط تاريخية جديدة. وهذه الشروط إنما تصدر عن الضمير المسلم، وعن موقفه في الظروف التي يمر بها الآن العالم المسمم بجرثومة (القوة). ومع ما تحدثه البذرة الأخلاقية الإسلامية في حل المأساة العالمية ندرك ما يمكن أن تمنحه بذرة كهذه- حين ينشطها مبدأ (عدم العنف) - من معنى لرسالة السلام، وهو السلام الذي يحمله مليار من أبناء البلدان المتخلفة كيما يضعوا حداً للحرب، كما فعل من قبل جمهور إنساني مسلح بإيمانه فحسب، يقوده البابا ليون الأول ( Léon) حين أوقف أتيلا ( Attila) قائد الهونجر على أبواب مدينة مانتو. ولكن إذا كان الإسلام حين استودع بذرة كهذه في الضمير المسلم قد أمنها من السيطرة الزمنية، فلقد حصنها من ناحية أخرى ضد الاستبداد الروحي، فإن هناك مبدأ آخر يعلن في قوة حصانة الضمير الإنساني، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 2/ 256]. هكذا حددت الثقافة الإسلامية خطر السيطرة زمنياً وروحياً، كما يحدد الخطر في البحر علاماته على سطح الماء، ولو أننا عدنا إلى الماضي لأدركنا أن الحكم الإسلامي قد اتبّع تقريباً في هذا المجال طريقاً وسطاً بين هذين المبدأين اللذين كانا بمثابة حاجز يحول بين تطوره وبين أن يغرق في (إرادة القوة). ومما يلقي ضوءاً على هذا المعنى أن التاريخ الإسلامي، حتى في فصل الفتوحات التي ربما أدمت حقيقته قلب إقبال- لم ينم هذه الفكرة الاستعمارية التي تحول كل فتح إلى مشروع هدم متعمد، أخلاقي ومادي. فإذا كان المبدأ الأول قد حدد نتائجه في الإطار الزمني فإن المبدأ الثاني قد حددها في الإطار الروحي.

وهكذا وجدنا في القرن السادس عشر في اللحظة التي بلغت فيها الامبراطورية العثمانية منتهى قوتها في حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي أوروبا الجنوبية الشرقية أن ديوان العلماء عندما أخذ رأيه أيام السلطان (سليم السفاح) في مشروع لتحويل إكراهي للأطفال المسيحيين في المناطق المحتلة إلى الإسلام، قد اعترض هذا الديوان على المشروع، وأدانه طبقاً لمبدأ صريح مطلق، منع قبل ذلك تكوين (هيئة تبشيرية) داخل المجتمع الإسلامي كما تكونت داخل المجتمع المسيحي. وفي الظروف الحالية، نستطيع على الأخص أن نقيس أهمية هذين المبدأين وفاعليتهما في دور الإسلام كمنقذ في العالم، حيث تنحصر المشكلة على وجه التحديد في أن يتخلص من تورطه في فكرة السيطرة الأخلاقية والزمنية، وهذا بقدر ما يتجه التطور العالمي نحو عهد من الإنسانية العالمية، تلك التي يجب أن يتجه إليها كغاية مقررة للخروج من الأزق، والتي يمكن فعلاً أن نرى (جنينها) اليوم في تخطيط المنظمات في ميثاق الأمم المتحدة، وفي إعلان (حقوق الإنسان) التي تهدف إلى أن تكفل له كرامته، ولكن هذا الضمان نفسه يسمح لنا بأن نقيس التأثير النسبي جداً للنظام (المدني Laic) في هذا الميدان، فإنه بكل صراحة لم يضمن شيئاً وهذا معروف في الجزائر بكل أسف حيث ينقض الاضطهاد والقمع على رؤوس الشعب بوحشية لم نعرف لها نظيراً، وما كان له أن يضمن شيئاً في عالم لا يتوفر فيه للضمير الإنساني قاعدة أخلاقية. وهل في الواقع من مغزى لهذا الضمان في ضمير وحوش تعذب وتقتل رجلاً ملوناً إذا ما أبدى إعجابه في الطريق بامرأة بيضاء؛ وماذا يمكن أن يكون مغزاه بالنسبة إلى أولئك الذين يتخذون من التفرقة العنصرية نظرية للدولة في جنوبي إفريقية؛ .. الواقع أن هذا النوع من الابتداع الذي عكفت عليه الآداب الرسمية لا يغني سوى أدب (الإنسانيات) الأكاديمية الصادرة عن الأذواق الإغريقية اللاتينية، وهو أدب لا يغني مطلقاً الضمير الإنساني، فإذا لم يكن لدى هذا

الضمير سبب معين لكي يحترم كرامة الإنسان، وإذا لم يكن لديه في هذا النطاق بعض الضوء السماوي فإن أي ((إعلان دولي لحقوق الانسان)) يكون من قبيل الأدب المجرد. إن الإسلام يأتينا بهذا الضوء الذي يحوط الإنسان ويجعله محترماً في عيني أخيه الإنسان، إنه يأتى بهذا السبب السامي الذي يفرض احترامه مهما كان لونه، وجنسه، وقوميته، واعتقاده. وهو يضع لفلسفة الإنسان هذا الأساس الميتافيزيفي: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء: 17/ 70]. فهذه الآية القرآنية تعطي للإنسان كل عظمته، وكل بروزه، وكل حجمه في الضمير الإسلامي، وإنما ينتج حجمه من هذا التكريم الأساسي حيث لم يعد الإنسان نقطة صغيرة من المادة الحية، نقطة صغيرة تافهة، إذا قيست بمقاييس المادة تلك التي تعدّ الكرة الأرضية ذاتها (نقطة في الفضاء) نقطة صغيرة تافهة تستطيع قنبلة ذرية واحدة أن تمحو منها مئتي ألف، كما حدث في هيروشيما. فحجم الإنسان في نظر الإسلام ينتج عن اللانهائية التي خصه الله بها، عندما نشهد في حديث القرآن عن الخلق سجود الكون لآدم، ثم يطرد الله إبليس؛ لأنه رفض السجود له، ونحن ندرك كم يكون هذا الأساس مهماً لتشييد بناء إنسانية عالمية، مهماً في اللحظة التي لم تعد تستطيع فيها الإنسانية خلاصاً من مأزقها حيث أقحمتها إرادة القوة، إلا عن هذا الطريق: طريق الحضارة الذي يهب للإنسان حرياته وأصالته وألوان اختياره جميعاً. ولو أننا أدركنا كم يكون من المفيد في هذا الطريق أن نأخذ بهذه المبادئ الإسلامية، فسنرى من هنا ضرورة تنشيط هذه المبادئ بإنشاء ثقافة مناسبة لحال المجتمع الإسلامي، لتطبيقها بمفهومها الاجتماعي، وعلاقاتها التاريخية الجديدة. وجدير بالقادة المسلمين أن ينظروا إلى هذه المشكلة في هذا الاتجاه فيترجموا قيم الإسلام (الروحية) إلى قيم (اجتماعية) وهم بهذا يسهمون في إغناء الثقافة الإنسانية (بحقيقة) إسلامية تحييها، وتؤتيها بالتأكيد عنصراً جوهرياً مكملاً، يغذي (أجنة) عديدة يجب أن يتم نموها وتطورها في اتجاه الفكرة العالمية.

إن الفكرة الغربية التي تحكم العالم الآن قد ورثت عن أصولها الهلينية ذوقاً مطبوعاً بطابع الجمال. والفكرة الإسلامية قد قامت على محور المبدأ الأخلاقي، فالحقيقة هنا تُعرف (بالحق) وتعرف هناك (بالجمال) وكلتا الفكرتين تكمل الأخرى: ولكن حينما يلزم التضحية بعنصر منهما فإن المبدأ الإسلامي لا يتردد في أن يضحي بالجمال من أجل الحق، وهذا الاختيار لا يقوم على أساس عقلي، بل بتأثير الآلية النفسية، والدوافع الداخلية الكامنة في (الطبيعة) المسلمة، وبتأثير إرادة أخلاقية سجلت طابعها على إنتاج العبقرية الإسلامية كله، تلك العبقرية التي لا تهتم كثيراً بأن تخلق في العالم أشكالاً وصوراً، وأن تجمّل (الحقيقة) باستعمال بعض المساحيق. فهذا الغرام (بالحقيقة) في العالم الإسلامي قد يفسر طابع الفن الإسلامي. فهو بحكم (طبيعته) في خط هذه (الحقيقة) المجردة، التي لا يساعد جوها على خلق ما يسمى بالقصة الخيالية مثلاً. ولئن كانت قصة (حي بن يقظان) قد صدرت عن عبقرية ابن الطفيل، فلأن (الحقيقة) التي تعبر عنها ذات طابع أخلاقي، ولأن العنصر الجمالي لم يقصد فيها إلا تابعاً لعملية الخلق والإبداع في موضوع أخلاقي، وليس هو مطلقاً موضوعها وجوهرها. والحق أن العالم الإسلامي قد انتظر نموذج الأدب الغربي العاصر كيما يكتشف (القصة) ويتذوقها وذلك منذ ألمحاولات الأولى لدرسة (المنفلوطي) فالفكر الإسلامي مطبوع بطابع التحفظ والدقة التي لا تشبه طبعاً ما يسمى (الدقة العلمية)، ولكنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار في مضمون حضارة حديثة ضحت بالدقة الخلقية، فضحت بالمبادئ من أجل الشكليات والمصالح. لقد قال روبسبيير ( Robespierre) مثلاً: ((فلتسقط المستعمرات ولتحي المبادئ)) ... ولكن بقيت المستعمرات وضاعت المبادئ. إن العصر الذري الذي نعيش فيه لا حاجة به إلى حساب مدقق- فالحساب لم يتقدم في الدقة إلا مع العقل الالكتروني- الذي يستخدمونه اليوم، وإنما هو في حاجة إلى بعض المبادئ المدققة النزيهة التي

تحكم سلوك الأفراد والدول. ولقد يصدمنا أحياناً أن نرى عالماً يدفع الدقة العلمية إلى أقصى مداها، وهو مع ذلك يسمح بتساهل غريب في أمر الحقيقة المجردة، فيدهشنا ما نراه يتخذ من الاحتياطات الشاذة إزاء هذه الحقيقة، كأنه يواجه خطراً قاتلاً، ولقد تدور عيناه أمام طريق الحقيقة البسيط المستقيم، كأنما يغشى عليه من الهاوية. لقد يكون لازماً للفكر الحديت أن تقوم ثورة ثقافية لتحدث في الإدراك البشري التركيب الواقعي للجمال وللحق، ومهما كان الأمر، فإن للإسلام في هذا التوقع العالمي لتحديد ثقافة شاملة دوراً كبيراً، إذ هو يأتي بعناصر ثقافية جوهرية، كما يأتي بعناصر جغرافية وسياسية ذات أهمية خاصة لبناء فكرة الأفرسيوية. ولكنا ندرك أيضاً أنه لكي يؤدي الإسلام بصورة فاعلة هذا الدور المزدوج، فإن عليه أن يترجم قيمه الروحية إلى نظام اجتماعي، كما يترجم إليه جميع إمكانياته الطبيعية، بحيث يحوِّل هذه وتلك إلى حلول مادية للمشكلات التي تواجهه في الإطار الأفرسيوي، أو في الإطار الإنساني. ولكن دور الإسلام ابتداء من هذه النقطة لن يكون دور دين، أو دور مجال مساحي مجرد- هو القارة الوسيطة ( Le continent intermédiaire) - وإنما هو دور مجتمع، فهو يتصل حينئذ اتصالاً نوعياً بالدور التاريخي للرجل المسلم. ولا مجال هنا لكي نؤكد الأهمية الجغرافية السياسية (القارة الوسيطة) تلك الأهمية التي أكدتها فعلاً التطورات الأخيرة في الحالة الدولية، حين أثبت أن ميزان السلام والحرب إنما يقوم حقاً في الشرق الأوسط حيث يقع مركز الثقل في الاستراتيجية العالمية (¬1). فالدور التاريخي للعالم الإسلامي يتحدد إذن بوضعه الاجتماعي، ولقد حدد هذا الوضع- وإن كان بصورة غير مباشرة- حديث ¬

_ (¬1) ولا زالت الحوادث السياسية تؤكد هذه الحقيقة منذ كتبنا هذه الأسطر وبالأخص بعد العدوان الثلاثي على مصر.

خاص أدلى به جلالة الملك سعود للصحفي اليهودي الأمريكي الفريد ليلينتال ( Alfred Lilienthall) ، حيث أعلن أن ((الجزيرة العربية قد عاشت خلال قرون مضت على هامش الحضارة والتقدم، وأن أمامها بالتالي طريقاً طويلاً وشاقاً، عليها أن تجتازه .. )). هذا الإعلان يعطي صورة مصغرة عن الوضع الاجتماعي في العالم الإسلامي الذي تخلص فقط من (انحطاطه) الذي استمر قروناً، والواقع أن هذا العالم، في فترة الحضارة الحالية يمر بحالة يطلق عليها بادرة الحضارة ( pré-civilisation) أي الحالة التي تسبق الحضارة، فأمامه إذن ((طريق طويل وشاق)) ... ومن الواجب عليه أن يجتازه مع جميع الشعوب الأفرسيوية، وذلك بأن يتخلص من القابلية للاستعمار، ومن الاستعمار، وهو واجب عليه حتى يحول بين (تعايش) الدول الكبرى وبين أن يأخذ هذا التعايش اتجاه (استعمار مشترك) بالنسبة إلى البلدان المتخلفة، ولن يتاح لنا أن نحقق هذه التغييرات جميعاً إلا إذا التزمنا بتوجيه الثقافة. فالمشكلة إذن هي مشكلة تثقيف العالم الإسلامي، وهي التي تواجهنا من الزاويتين الاجتماعية والعملية، ولقد سبق أن درسنا الوجوه النظرية لهذه المشكلة، وخصصناها بأحد مؤلفاتنا في الدراسة المنهجية (¬1)، فلن نعود إلى الحديث عنها هنا. أما من الوجهة العملية فإن هذه المشكلة تواجهنا في صورة (الإيجابية في الوسط الإسلامي): إيجابية الفرد، وإيجابية المجتمع الذي ينتسب إليه، فما إيجابية الرجل المسلم، والمجتمع المسلم؟ هذا هو السؤال ... والحق أن بعض التجارب العملية في الوسط الإسلامي قد تدفعنا إلى أن نعكس السؤال ليصبح: لماذا كان هذا الوسط سلبياً؟ ¬

_ (¬1) درس المؤلف مشكلة الثقافة في العالم الإسلامي في كتابه (شروط النهضة ومشكلات الحضارة). وقد صدرت ترجمته العربية بالقاهرة في يوليو 1957م. وأعيد طبعه في دار الفكر بدمشق 1979م.

إننا نلاحظ فعلاً سلبية فردية وجماعية تحبط المحاولات النافعة، وتحط من قيمة المقاصد والوسائل. ولقد سبق أن وصفنا هذا الشكل السلبي في (النهضة) الإسلامية حين تحدثنا عن الميل إلى تنمية الحاجات ( Entropie) في هذا المجتمع الذي يسيء استخدام الوسائل المتاحة له. ويمكننا أن نلاحظ هذه المظاهر السلبية سائرة على قدميها في الأحداث اليومية في حياة المسلمين. ومن هذه المظاهر ذلك البون الشاسع بين (الجانب الروحي) و (الجانب الاجتماعي) خلال الحج، فالحج بكل تأكيد مناسبة يصل فيها (الجانب الروحي) إلى قمته، بينما يقدم الجانب الاجتماعي فيه صوراً نموذجية من الخلل والسلبية، وحبوط المقاصد والوسائل. فالحج إلى مكة مناسبة ينحصر اهتمام الحاج فيها- بعد أداء الشعائر- في أن يرعى صحته، فهناك إذن اختبار للمعونة الطبية والإسعاف الذي يحتاج إليه الحاج بسبب إعيائه البدني، في مناخ قد يجهده حين يختلف مع المناخ الذي عاش فيه، ولأن الأحوال الصحية خاصة تصبح ضعيفة مهما كانت الاحتياطات التي تتخذها سلطات الحج بالنسبة إلى تلك الأفواج الهائلة. والمعونة الطبية توجد خلال هذه الحقبة في مكة والمدينة، فإذا صرفنا النظر عن تنظيم السلطات المحلية التي يجب أن نشكرها إذ تواجه كل عام حالة استثنائية، فإن هناك معونة أخرى في صورة بعثات طبية ترسلها البلاد الإسلامية، وليست تنقصنا في هذه النقطة النوايا الطيبة من جانب الحكومات، ولا الوسائل التي تضعها هذه الحكومات تحت تصرف البعثات الطبية. ولقد أتيح لنا أن نرى شخصياً خلال الحج الأخير (¬1) كيف أن هذه البعثات تواجه مقتضيات الحال. ولقد رأينا طبيبين في البعثة المصرية لا يعالجان سوى مواطنيهما ... الأغنياء منهم فقط ... أما الفقراء غير القادرين فقد تركوا لقضائهم المحتوم، واضطروا للذهاب إلى البعثة الجزائرية مثلاً، فهذان الطبيبان لم ¬

_ (¬1) أي حج عام 1375هـ - 1955م.

يكن يهمهما في الحج سوى الجانب النفعي. أما الطبيب السوري فيمكننا أن نأخذ عليه أنه كان في منى وهي المكان الصحراوي الذي لا توجد فيه صيدلية، كان يكتب لمن يقصده من الحجاح (تذكرة طبية) كأنما لدى الحاج القدرة على أن يشتريها من صيدلية في ركن قريب، أو كأنما ((التذكرة)) في حد ذاتها تعتبر الدواء اللازم. وأما البعثة العراقية فقد أقامت لنفسها ((مخيماً)) خارج مكة تماماً، وبعيداً جداً عنها، بحيث لا يستطيع من لا يملك القدرة على الذهاب في سيارة خاصة- وتلك حالة عامة- أن يذهب إليها إلا بشرط أن يكون في حال من الصحة الكاملة. فكأنما جاءت هذه البعتة عموماً لتقيم لأعضائها مخيماً بظاهر مكة. وكان رئيس بعثة طبية أخرى لا يظهر إلا مساء، عندما يلطف الجو، على سطح القهوة. وهكذا ترينا الظروف إلى أي حد تنحط النوايا والمحاولات والوسائل في حقل النشاط (¬1). وهي ترينا من ناحية أخرى المستوى الذي يحدث فيه هذا الإحباط الذي يقع في صفوف الصفوة بأوسع معاني الكلمة، بحيث تشمل مجالاً اجتماعياً يبدأ من الطبقة المثقفة التي تقود الشؤون السياسية إلى الطبقة البورجوازية التي تتولى الشؤون الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، فكلتا الطبقتين سلبية على مذهبها وفي مجالها الخاص. فإذا انحطت قيمة الشهادة الجامعية بصورة ما من الناحية الاجتماعية لدى الطبيب فإن قيمة المال تنحط أيضاً في الإطار الاجتماعي في يد رجل الأعمال. ومئة فرنك في يد رجل الأعمال الغربي ((في حدود المعادلة الشخصية لحائزها)) لها فاعليتها الاقتصادية الكاملة، فهي تندمج- ¬

_ (¬1) من حقنا أن نذكر المثال الشاذ الذي يؤكد القاعدة، فإن البعثة الجزائرية التي كانت مجهزة تجهيزاً كاملا بالأدوية كانت تبدي في الواقع غيرة وحمية بالنسبة لجميع الحجاج دون أدنى تفرقة بينهم بسبب المركز الاجتماعي أو القومية، وقد بذل جميع أعضائها وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز الخالدي أقصى ما يستطيعون من جهد.

عموماً- في رأسمال منتج، أما بين يدي البورجوازية المسلمة فإنها تخضع لمعامل التقليل والتصغير (¬1) فلم يعد لها من الناحية الاقتصادية قيمة مئة الفرنك، حيث تدخل عموماً في رأس مال نفعي، لا يحمل طابعاً أجتماعياً، ولا يهدف إلى فائدة عامة. وربما كان لهذا الفساد في الجانب (الاجتماعي) ما يفسره، فلقد وجد العالم الإسلامي نفسه وقد بدأ يخرج من انحطاطه، مأخوذاً بمشكلاته العاجلة، مشكلات تحرره السياسي حتى أن مشكلة حضارته الأساسية قد أصبحت في المقام الثاني في ضميره، وفي ألوان نشاطه، إذ إن صفوته قد اتجهت (طبقاً للحلول العاجلة) مكونة (قيادة سياسية) في البلاد الهادفة إلى التحرر، (وجهازاً إدارياً) في البلاد التي كسبت استقلالها، بحيث كانت الحزبية ( Partisme) ، والوظيفة ( Carriérisme) تمتص هذه الصفوة كلما تكونت في بلد من البلاد. ومن هنا يأتي الارتجال وعدم التهيئة في أعمال تتفاوت في عائدها الشخصي وفي غموضها. من أجل حضارة تتطلب في الفرد أسمى مواهبه الأخلاقية والعقلية وتقتضي منه أقصى تضحية وإيجابية. إن للتاريخ رواده ومعبدي طرقه فإذا اكتشف الأولون مجاهله وطرائق مستقبله فإن مهمة الآخرين أن يحافظوا عليها. والعالم الإسلامي ينتج (صفوة) صالحة لأن تصبح (رواده) القادرين على أن يستهلوا سيره في التاريخ ويعينوا له المرحلة التي يقطعها يومياً نحو توقعاته البعيدة. وهذا هو دور الثقافة: أن تمنح هؤلاء الرجال وعي القائد ومغزى رسالته الحضارية في الإطار الأخلاقي والعقلي والاجتماعي والصناعي. ¬

_ (¬1) يتضح هذا الاتجاه حين نرى أن استغلال رأس المال في بلادنا لا يتجه وجهة المشروعات الاقتصادية بل هو في أحسن أحواله يتجه إلى بناء عمائر سكنية، وذلك إن لم يتجه إلى اقتفاء الحريم (المترجم).

ولكن العالم الإسلامي لم يواجه بعد مشكلة الثقافة بطريقة منهجية وهذا النقص هو الذي يسبب له تلك السلبية المؤثرة على أوجه نشاطه والتي يحملها المسلم في نعاله. حتى في اتجاهه إلى (الوظيفة)، وإذا كانت الوظيفة تتطلب عموماً وجود موظف فإن العكس يحدث كثيراً في البلاد الإسلامية حيث يتطلب الموظف خلق الوظيفة. وفي اللحظة التي انعقد فيها مؤتمر باندونج صادفت في إحدى العواصم العربية أحد الموظفين الكبار المكلفين بأمر وزير الخارجية بإعداد (دوسيه) خاص بشؤون آسيا طلبت منه باعتباره مصدر ثقة، بعض المعلومات المكملة المتعلقة بمؤتمر باندونج فإذا بي أجد نفسي أمام موظف لا أمام وظيفة فلقد كان موضوع الوظيفة بعيداً عنه بعداً تاماً. على أن ما يؤلم في مثل هذه الظروف ليس هو الجهل الحالي الذي يتصف به الموظف فربما لا يكون قد تمكن مؤقتاً من دراسة الموضوع ولكن المؤلم حقاً ألا يكون لديه الاستعداد لكي يبدأ العمل، كما دفعنا إلى افتراض ذلك عدم وجود أي فكرة موجهة لديه فسلبيته الآن يبدو أنها تشاركه وظيفته حتى كأنها جزء من ذاته مطبوعة في مباني شخصيته. وهكذا يبدو أن المسلم ليس سلبياً فقط، بل إنه بما اعتراه من خلل في الغريزة الاجتماعية- الناتج عن ملابسات تاريخه وعن التمسك الأعمى بالشكليات التي خلفتها له قرون الانحطاط- يبدو أحياناً وكأنه يبحث قصداً عن طريق السلبية. والواقع يدل على أن هذا الوضع لم يخرج في إفريقية الشمالية من إدراك الذوق الشعبي الذي ابتكر رسماً تهكمياً (كاريكاتور) ليصور هذه السلبية في الغريزة الاجتماعية التي تحبط المقاصد والوسائل. ويمثل هذا (الكاريكاتور) رجلاً يريد أن يشير إلى إحدى أذنيه فيستخدم اليد اليسرى ليشير إلى أذنه اليمنى أو يستخدم اليمنى ليشير إلى اليسرى. وبدهي أن هذا ليس أقصر طريق ليشير بصورة طبيعية خاصة إذا ما وجدناه يدير ساعده حول رقبته ... كما صور ذلك الكاريكاتور.

إن انحطاط القيمة يبدو في صورة طبيعية في جميع الميادين التي يتجلى فيها عطل القادة والصفوة في المجتمع الإسلامي، ومما يدل على ذلك أن العالم الإسلامي لم يقم بعد بدراسات في الاجتماع تكشف عن نواحي ضعفه الداخلية، وذلك إذا ما صرفنا النظر عن بعض دراسات التخصص المقتصرة على نواحي الفن الشجي (الفولكلور) أكثر من أن تتجه وجهة اجتماعية وذلك كبعض رسالات الدكتوراة التي تقدم في باريس (¬1). وجدير بالملاحظة أيضاً أن كتاب (فلسفة الثورة) الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر، يسجل في العالم الإسلامي المحاولة الأولى التي نرى خلالها رجل السياسة يعبر عن أفكار سياسية بصورة نظرية منهجية. فالسياسي المسلم عامة لا يفلسف نشاطه وبذلك يتبع نشاطه طريق السلبية سواء حين يعلن أن (الأمر مستحيل) على الحل، وهذا يصيب مقدماً نشاطه بالعطل، أو حين يعد (الأمر سهلاً) فأي جهد كاف وهو بالتالي قاحل عقيم. والاستعمار الذي درس جيداً ما تؤديه الدراسات النفسية من خدمات جليلة لسياسته عرف هذا الاستعمار في ظروف كثيرة كيف يوفق بين خطه السياسي وبين الاتجاه المنحدر للفكر في الشعوب المستعمرة، ذلك الذي لا يتمتع بمقاييس للإيجابية التي تخول له الكشف عما ينصب له من أحابيل (فالقيادة السياسية) ترتدي أحياناً ثوب السلبية كأنها بزتها الرسمية. ولقد رأينا منذ قريب في إحدى المجلات المصورة صورة جماعة ناشئة وصلت إلى الحكم في شمال إفريقية، وقد ارتدى الجميع الثياب البيضاء كأنها جوقة موسيقية ووضع رئيسها في إصبعه خاتماً ثميناً به ماسة كبيرة علامة على سلبيته اللاشعورية ولقد كانت الصورة تدعو إلى القول: أيها السيد الوزير لماذا لم تبق هذه الحلية الثمينة الغالية في حقيبة السيدة زوجتكم؛ لقد فقدت اليد ¬

_ (¬1) من الغريب أن نذكر أن مناهج الدراسة في الجامعات في البلاد العربية لا تدرس علم الاجتماع المطبق للعالم الإسلامي بل علم الاجتماع في ذاته حتى أن الطالب لا يتعلم كيف يعرف بيئته بل إنه يدرس فرعاً نظرياً من علوم الإنسان.

التي هي رمز على الإيجابية والتأثير قيمتها الرمزية نوعاً ما في الصورة التي تقدمها لنا الحياة السياسية الإسلامية الراهنة وليست هذه الحال نادرة. وهذا النقص الاجتماعي منتشر في العالم الإسلامي في صور متعددة فهو يغفل مثلاً المقاييس الجمالية حتى عندما يصبح المبدأ الجمالي- فعال دائماً- مبدأ أكثر فعالية وإيجابية. فعلى محور واشنطن - موسكو يتمثل ذوق الجمال حتى في مقاييس الانتاج الصناعي فشكل المنتج ولونه وكيفية عرضه تتدخل هذه العوامل الجمالية في الانتاج بقدر ما تتدخل العوامل الصناعية لتضمن نجاحه التجاري. أما في المجتمع الإسلامي الحديث فإن السلبية تطبع جميع المظاهر والأشكال. وفي عصر شاع فيه (الأسلوب) العالمي بتأثير امتداد الحضارة الغربية التي وضعت طابعها على العالم كله يصبح من الضحك في عصر كهذا أن نلفت النظر إلينا بطابع من طوابع القرون الوسطى فمن الممكن أن نكون سلبيين من الناحية السياسية بمجرد تفصيل بسيط لثيابنا، أو حركة نبديها، أو هيئة نرتديها، وحين نرى وزيراً مسلماً يرتدي البزة الأوروبية ويحتفظ بطربوشه الأحمر من قبيل النعرة الوطنية خلال حفلة ذات صبغة دولية فإننا نشعر بأنه قد اختار السلبية مهما كلفه ذلك من ثمن، وهي سلبية معجونة من خليط العجرفة الصبيانية والجهل بالعالم الراهن في اتجاهه العام. وتشعر أيضاً بأن الأمر يتصل بمجتمع بدأت حضارته عملها من القدم ولم تصل بعد إلى الرأس ... أي إلى طربوش السيد الوزير. وحالة كهذه هي التي أوحت دون شك إلى رابندرانات طاغور ( Rabindranath Tagore) تلك العبارة الحزينة عندما رأى أن بلاده ((الهند قد انسحبت خلف حاجز ضيق من الظلام، في كبرياء منحطة مقفلة، وفي فقر فكري منطو على نفسه في سكون، مكررة بصورة تبعث على السخرية ماضياً فقد نوره وبهاءه!)).

ومع ذلك فيبدو أن هذه المشكلات قد بدأت تصبح موضوع دراسة في العالم الإسلامي، وعلى الأقل في الإطار القومي، فمصطفى كمال كان في هذا الإطار رائداً بلا نزاع، والحكومة المصرية بدورها- بإلهام قائد الجناح البغدادي فيما يبدو- تدرس إجراءات توحيد الزي. وإنه لحدث ذو أهمية نفسية رئيسية أن نرى فكرة الإيجابية وقد بدأت تلهم المحاولات الحكومية. ومع ذلك فربما كان من المهم ألا يقتصر حدث كهذا على النطاق القومي فحسب، بل أن يتسجل في تطور العالم الإسلامي. ولكم نتمنى دون شك أن يدرس مؤتمر إسلامي هذا المشكل دراسة مدققة، دون أن يرجع طبعاً إلى آراء المتخصصين في المديح، وإلا غرق في سيل من المديح أو في مماحكات الفكر الدرسي الملتوي. وكي لا ينسينا الأمر أنّ هناك قدراً كبيراً من الوسائل المادية المهمة فادحة الثمن بالنسبة إلى شعب يفقد الحيلة والوسيلة، وهي تصاب دائماً بالعقم عندما تستخدم عملياً، لأنه لا يقدم المبدأ الأول في باب الإيجابية الاجتماعية، الذي يعبر عنه المثل الانجليزي المشهور ((الرجل اللائق في المكان اللائق)). بينما تجد أن بعض الحالات في العالم الإسلامي تعكس القضية تماماً، مثلاً حين يوضع التعليم الحر كله لبلد ما بين يدي تاجر مخادع (¬1) فإن مثل هذه الحالات تذكرنا على الرغم منا بفكرة الكاتب الفرنسي اللاذع بومارشيه ( Beaumarchais) الذي كان يندد في سخرية ناهشة بسلبية عصره حين قال: ((لقد كانوا بحاجة إلى محاسب فإذا بهم قد اختاروا راقصاً)). فراقص هنا، وتاجر بلح هناك، وإنما المرض هو هو عندما يريد مجتمع أن يكون سلبياً عديم التأثير ... سيكون إذن على مؤتمر إسلامي أن يشرع في تخطيط حق للمشكلة الإسلامية من أساسها. بحيث يكون همه أن يجتاز بخمس مئة مليون من البشر حالة (بادرة الحضارة، Pré-civilisation) ليصل بهم إلى حالة الحضارة. وبحيث ¬

_ (¬1) يشير المؤلف بذلك إلى أن أحد مديري التعليم في بعض البلاد الإسلامية تاجر من تجار البلح فعلاً.

ينجز مهمته هذه في زمن معين، مستخدماً بصورة فاعلة الموارد الروحية والمادية لتلك التجمعات البشرية، وأن تجربة الصين منذ خمس سنوات لتقدم لنا مثالاً نادراً على تأثيرها الاجتماعي حين نظرت إلى الأشياء من هذه الوجهة الفنية والكمية، فإذا كان الذباب قد اختفى، وإذا لم يعد هناك في المنظر الصيني كومة القاذورات اللازمة التي كانت تشوه جماله، وإذا كان بائع (الفطائر) البسيط قد أصبح في ملبسه وكأنه طبيب جراح في غرفة عملياته، يتناول بضاعته بملقط، ويتنفس خلف قناع من القماش، فمن المؤكد أن هذا لم يحل المشكلة الانسانية كلها في الصين، ولكنه يعد بلا جدال خطوة مهمة جداً في طريق الحل. وأمام العالم الإسلامي خطوات مهمة عليه أن يخطوها حتى يبلغ المرحلة الحالية في التطور الإنسانى بما يستتبعه من اتجاه خاص. فسيكون إذن على المؤتمر الإسلامي المسؤول أن ينظر إلى المشكلة من وجهات ثلاث، مع اهتمامه منطقياً بعلاقاتها الداخلية أولاً، وبعلاقاتها مع فكرة الأفرسيوية ثانياً، ومع فكرة العالمية ثالثاً. ولقد لفتنا انتباه القارئ في الفصول السابقة إلى عدد من نقط الاتصال في المجالين الثقافي والاقتصادي والواقع أن مؤتمر باندونج قد قام جزئياً بعمل المؤتمر الإسلامي حين كشف عن لزوم هذه الاتصالات وعن طبيعتها ومن ناحية أخرى فإن الاتصال الروحي في تركيب فكرة الأفرسيوية لا يمكن أن يتحقق إلا باتصال الفكر الإسلامي بالفكرة الهندوسية بواسطة الحوار والمواجهة. ومن هذا الاتصال نستطيع أن نقدح شرارة تركيب الفكر الأفرسيوي الذي يستطيع كل بلد من طنجة إلى جاكرتا أن يتعرف فيه جزءاً من عبقريته الخاصة، وأما من الناحية الثالثة فالاتصال يهدف أساساً إلى تحقيق العالمية كما بيَّنا. أما من الوجهة التربوية فإن مشكلة الاتصال تواجهنا بمشكلة توجيه التعليم، وهنا يجب على القادة المسلمين أن يفتحوا عقولهم أكثر للقيم الثقافية في الهند وفي العالم، وما كان لهم أن يعرفوا نصيبهم من العبقرية في (الفكر الأفرسيوي)

إذا هم لم يعرفوا ويقدروا نصيب الآخرين. وأكثر من ذلك فإن هناك أنواعاً من الجهل لا يمكن الإغضاء عنها في القرن العشرين، وهناك إضافات لهذا القرن، وقيم خاصة به لا تستطيع طبقة مثقفة مسلمة أن تجهلها دون أن تشنع بنفسها (¬1). فليس من الممكن أن نعيش بنفسية المنعزل الذي يجهل قيم الآخرين، وهناك بلا جدال الكثير مما يجب إنجازه في العالم الإسلامي. فالمسلم الذي أوتي قليلاً من اليقظة والانتباه للأحداث، ولصداها اليومي يستطيع- بمجرد إدارته لمفتاح جهاز الاستقبال- أن يدرك أن الضمير المسلم غائب عن العالم، وأنه ضمير منعزل لا يشارك في الشؤون العالمية، فنحن لا نجده في المؤتمرات الدولية الكبرى، ولا في مصطرع الأفكار الناتجة عن اصطدام النظريات الاجتماعية والفلسفية التي تتقاسم الإنسانية الآن هذه النفسية الانعزالية تبلور سلبية العالم الإسلامي في الإطار العالمي، في الوقت الذي يتقرر فيه مصير الشعوب خارج حدودها القومية، وفي الوقت الذي يدخل العالم فيه إلى عهد التعايش أي العيش مع الآخرين مشتركاً معهم في بعض الالتزامات وفي بعض الحقوق. هذه الالتزامات والحقوق تطبق على التعايش فكرة (الملكية الشائعة) القانونية وبالتالي قواعد حسن الجوار وسوئه، التي تفرض نفسها على كل شريك في الملك. هذه الفكرة يجب أن تتسجل في التطور النفسي للمسلم حتى يخرج من (العزلة) التي أغرقه فيها الانحطاط وحتى يدرك (حضور) الآخرين المحتوم في العالم الراهن. وحتى يتفتح لفكرة (القرين) الذي يقاسمه نعماءه وبأساءه، في عالم يتصل حل الأزمة الإنسانية فيه بجميع الشعوب والأديان، وإذا كان ضرورياً للمرء أن يحسب حساب حسن الجوار في رفيق القطار فإن اعتبار ذلك أكثر ضرورة في رحلة عبر التاريخ. ¬

_ (¬1) من المحزن أنه في الأيام التي انعقد فيها مؤتمر باندونج كتبت صحيفة يومية كبرى بالقاهرة تحيي ذكرى غاندي، وتذكر أن تعاليمه كانت تهدف إلى السمو بالروح خاصة ولكن على حساب الجسد، فلو كان الصمت في وقت من الأوقات من ذهب لكان هذا وقت الصمت، حيث لا ينبغي أن يصرح كاتب عن جهله هكذا.

ولقد أقرت تعاليم الإسلام القانون الخلقي الأسمى للجوار، حين خلعت عليه أعظم تفسير اجتماعي، فالجار محترم في كل حال (¬1)، ولكن الأمر يتعلق مرة أخرى بأن نوفق في العالم الإسلامى بين الجانب الاجتماعي والجانب الروحي، وذلك بأن نعطي الجوار معناه الأوسع الذي ينطبق على ظروف الاتصال الإنساني الخاصة بالعصر الذري، فإذا كان جارنا هو الذي نراه ونسمعه، فإننا نسمع اليوم ونرى على بعد آلاف من الكيلومترات، فجوارنا لم يعد في شارعنا، أو مدينتنا، أو بلدنا، بل أضحى في كل مكان، أينما وجد آخرون. وإذن فمن الجوهري بالنسبة للمجتمع المسلم أن يتخلص من النفسية الانعزالية الموروثة عن قرون الانحطاط حتى يثبت حضوره في العالم، ولا سيما عندما يؤلف الطبقة المثقفة في البلاد. فليس له أن يصطحب في صعوده وبعثه سلبية الوسط العائلي أولاً، والوسط الاجتماعي أخيراً. ويستطيع التعليم الجامعي أن يعدل بعض أشكال الفكر لا أن يحورها كلية، فإن بين المثقف ورجل الشارع أساساً مشتركاً تنعكس عليه درجة التطور العام لوسطهما، والنفسية الانعزالية تتصل بهما معاً، فيجب إذن أن نواجه المشكلة من الأساس، فننمي معنى الارتباط لدى الطفل، لاخراجه من العزلة التي وضعته فيها التفرقة بين الذكر والأنثى في الوسط العائلي، حيث تنحاز الأم والأخوات إلى جانب، والأب والإخوة إلى جانب آخر. وهذا الوضع يمارس- فضلاً عن ذلك- سلطة تغرس الطفل في عزلته. حيث ينغلق فهمه للارتباط الإنساني. فالوسط العائلي المسلم لا يسلم للمجتمع كائناً اجتماعياً صالحاً لأن يؤدي فيه دوراً فاعلاً، لأن اتصاله بالآخرين متعسر، وسواء في ذلك أقرانه، وشركاؤه الذين يقاسمونه أعماله ومصيره. وتشهد بذلك الاتصالات اليومية في بيئة شمال ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه».

إفريقية خاصة، وربما كان السلوك الانعزالي أقل ظهوراً في تونس، مما شجع على تكوين النشاط النقابي، أسبق من نظيره في الجزائر مثلاً (¬1). وينعدم معنى الصلة (الاجتماعية) بصفة عامة عند الصفوة (التقليدية) ذات الصبغة الزيتونية أو الأزهرية كما ينعدم لدى الصفوة (العصرية) المتخرجة في الجامعات الغربية، ومشكلة هذه الوراثة تخص العالم الإسلامي كله وتواجهه في اللحظة التي تستهل فيها فكرة التعايش عهداً عالمياً بالنسبة إلى الإنسانية. إلا أنه يبدو أن المشكلة تبرز من ميدان اللاشعور لكي تأتي إلى ميدان الشعور في التطور الراهن للمجتمع الإسلامي. فإنه باهتمامه أكثر فأكثر بتكوين (إرادته الجماعية) يضع المشكلة في عداد المشكالات التي شعر بها ورغب رغبة ملحة في حلها، وإلى هذه الرغبة يجب أن نعزو سعيه إلى بحث موضوع توجيه الثقافة العربية، ومن الممكن أن نذكر تطوراً معيناً حدث في مصر في المجال المذكور، فلقد استطعت أن ألاحظ بنفسي هذا التطور خلال أعياد الجلاء، بمناسبة العرض العسكري الذي جرى في 25/ 6/ 1956م، وكنت قد شاهدت عرض يوليو 1954م أي منذ سنتين فلاحظت آنذاك مظاهر النفسية الانعزالية في صورة انفعالات الجماهير، حيث يعمل كل شخص منفرداً لكي يرى العرض من أجل متعته الخاصة، على حساب الآخرين. وفي العرض الأخير سجل الجمهور المصري قدراً أكثر من (الإرادة الجماعية)، وذلك حين ننظر إلى سلوك أي جماعة من الجماعات الشعبية. لقد كان هذا الجمهور يرعى عموماً قواعد الجيرة وفي كثير من الكرامة، وهذا يدل على أن (الفكر الجماعي) يسيطر شيئاً فشيئاً على (النفسية الانعزالية). ولكن يلزمنا القول بأن المشكلة تظل تواجهنا في العالمين العربي والإسلامي، ولعل انعقاد مؤتمر يتخصص لدراسة الاجتماع في هذا العالم يضيء لنا هذا ¬

_ (¬1) إننا لا نجد أحياناً في المسلم المثقف في الجزائر الاستعداد الاجتماعي بل على العكس فهو كأنه يندفع بغريزة لا اجتماعية ولا يشعر أنه يطبق بالضبط برنامج الاستعمار.

الجانب المهم، ويخرج لنا بنتائج عملية، وقد اقترحنا فعلاً فكرته منذ عام على سكرتارية المؤتمر الإسلامى بالقاهرة. وعلى كل فإن على المؤتمر الإسلامي أن يجعل في جدول أعماله هذا الواقع الجوهري، وهو أن العالم الإسلامي يعيش في غير تاريخه، دون خطة في عالم حديث نحطط، وفي عالم التخطيط والخطط. ومن الحق أن نقول: إن مهمة مؤتمر إسلامي لكي يحيط بمشكلة العالم الإسلامي، هي في أن يدركها في صورتها الدرامية، أي في ضمير الرجل المسلم وفي ذكائه، ذلك الرجل الذي يحيا هذه المشكلة كل يوم- إن صح التعبير- فمن أولاً هذا الرجل؛ وما حاله في المجتمع الإسلامي الراهن؟ إن من البين أنه- لا الراعي المتواضع الودود الذي لا يمكن زعزعة (الحقيقة الإسلامية) في ضميره، ولا صاحب المركز في المجتمع الإسلامي، الذي صنع تلفيقاً بين (حقيقته) ووضعه الاجتماعي- وإنما هو المثقف البسيط العاجز عن التفكير في عمل تلفيق كهذا، لأن كل رغباته ومطامحه ومصالحه تتركز في (حقيقة) ليست ثابتة كحقيقة الراعي. بل إنها حية حياة المأساة الإنسانية. هذه هي المأساة الداخلية لبعض الفئات المسلمة التي تكون المشكلة المستكنة الرئيسية في العالم الإسلامي في سنواته العشرين المقبلة. وهناك طريقان ندرك بهما المشكلة في ضمير هذه الطبقة المثقفة المسلمة، تلك التي تحاول- يائسة- السيطرة على حقيقتها. فهناك أولاً ناتج اختلاط الجانب الروحي بالجانب الاجتماعي في العالم الإسلامي يترتب عليه أن يكون لكل حقيقة تجسدها، فالعالم المسلم مثلاً صورة للحقيقة الإسلامية ونحن نشعر بمدى ما يكمن من الخطورة والاعتساف في هذا (التشخيص) للجانب الروحي الذي تنحط قيمه كلما ازداد هذا (العالم) بعداً عن المثل الأعلى، أو الكمال الذي يريد المجتمع الإسلامي أن يراه فيه.

ولكم كانت خيبة الظن سخيفة بحيث انتهت أحياناً بانقلاب إلى جانب العداوة للإسلام، لأن المثل الأعلى قد انهار في أعماق ضمير ما مع الانهيار المفاجئ لقيمة خص بها عالماً سقط من نظره، فالتشخيص شكل رهيب من أشكال مأساة الضمير المسلم. والشكل الثاني من المأساة ينتج من علاقة المسلم بالإسلام. فهذه العلاقة مزدوجة، إذ هي روحية واجتماعية، فالعلاقة الروحية قوية سليمة لا يمكن مسها باعتبارها يقيناً مطلقاً، والضمير المسلم لا يشعر بأي نوع من القلق الميتافيزيقي. ولكن العلاقة الاجتماعية على العكس من ذلك أفسدتها المشكلات المادية التي تفرضها الحياة على كل مسلم، فهو يعتقد، وهو غير مخطئ، أنه مرتبط بمجموع هو العالم الإسلامي الذي يبدو له أن قدره مطبوع بالإسلام. فتنتج في رأيه علاقة سببية بين قدره الخاص أو حقه في المجتمع ودينه. وينتج عن هذا أخيراً نوع من النفاق في العلاقة الزمنية بين المسلم والإسلام. وإذا لم ينكشف هذا النفاق انكشافاً مفضوحاً بأن يحطم المسلم ارتباطه وينكر عقيدته، فإنه يتجلى في الميدان الفكري خاصة في صورة عجز عن مواجهة مشكلات العالم الإسلامي والتفكير فيها بصراحة وملاءمة، فهو بدلاً من أن يتحدث عن الرمد ( Ophtalmie) عندما ينبغي الحديث عنه، يتحدث عن ((علم الرمد Ophtalmologie)). وهذه العلاقة المعيبة بين المسلم وأشياء يسمو بها إلى مرتبة المثل الأعلى، لأنه يرى فيها تأثير الفكرة الإسلامية في المجال الاجتماعي، هذه العلاقة المعيبة تخلق لديه نوعاً من الحرمان، ونوعاً من عدم الإخلاص الأدبي الذي يصرف نظره أحياناً عن بعض المشكلات خوفاً من أن يصطدم بمحرم في الدين، ناتجاً في نفسه عن عقدة الحرمان، حين يواجهها صراحة، فهو عندما يعالج مرضاً في المجتمع الإسلامي يشعر كأنه يسيء الظن بالإسلام.

وهذا الموقف التلفيقي اللاإرادي يعرّض جهوده أحياناً للخطر، حين يحول بينها وبين أن تؤتيَ ثمراتها في الميدان الاجتماعي. وعندما يتعلق الأمر بموقف مثقف يريد دراسة مشكلات العالم الإسلامي دراسة موضوعية فإن عقدة نفسية كهذه تعقد مجهوده، وتسيطر فكرته بحيث تموه طبيعة هذه المشكلات، ويدخل في الدراسة بعض التحريف اللاشعوري. ونتصور لهذه الحالة ضررها البالغ عندما تصدر عن متخصص في هذه المسائل وخاصة إذا ما كان لعمله تأثير كبير على اتجاه عصره، لقد أراد أحد هؤلاء المفكرين أن يضع خطة مؤلف اختار له بحق هذا العنوان: نحو مجتمع إسلامي متمدن ولكنه فكر فعدل العنوان بالصورة التالية: (نحو مجتمع إسلامي) في هذه الحالة نرى أن العلاقة المعيبة تتدخل في صورة حرمان أدبي يفرض التعديل المذكور، ولست أعتقد أن المفكر الكبير قد اعتبر أن الكلمة المقتطعة من العنوان الأول قد حرفت المشكلة في عقله فاختلستها وخدرتها بصورة ما في ضميره، فإن العملية التي تتم في الإطار النفسي لها طبعاً نتيجة في الإطار الأدبي أنها تقطع في الواقع المشكلة الأولية عن عنصرها الجوهري، وهو البحث في شروط حضارة المجتمع الإسلامي. فلقد استبعد المفكر المحترم إذن مشكلة العالم الإسلامي الحاسمة من بحثه حين اعتقد وحملنا على الاعتقاد بأن المجتمع الإسلامي هو على وجه التحديد (متمدن)، وهكذا نراه وقد انجرّ مرغماً تحت تأثير (حالة إخلاص) إلى موقف من المدح العقيم. ومع ذلك فكم كان يمكنه أن يخدم المصلحة العليا في العالم الإسلامي لو أنه وقف موقفاً موضوعياً إلى النهاية معتبراً أنه يوجد فعلاً (مجتمع إسلامي)، ولكنه موجود في حال (بادرة الحضارة) وأن من الأوفق أن نواجه مشكلة حضارته.

ومن هنا تنتج السلبية الضارة في الفكر أو النشاط، ولهذا فسيكون على المؤتمر الإسلامي أن يعيد دراسة مشكلة العالم الإسلامي، متناولاً لها من جذورها النفسية والاجتماعية بقدر الإمكان، ولست أدري ما إذا كانوا قد قاموا في العالم الإسلامي بجهد مقصود لدراسة (المرض) في شكله المزدوج: المرضي والعلاجي أم لم يقوموا. فالحق أن الضمير المسلم يبدو وكأنه شعر (بالمرض) في حالة (نصف نوم) ثم انغمس فوراً في النوم دون أن يدرس الأسباب والوسائل الفعالة لمكافحته، فالمريض المسلم يجر معه مرضه، وهو يحقق هكذا أعجوبة حيث يشرع في (نهضة) دون أن يتحرر منهجياً من العوامل التي فرضت انحطاطه خلال القرون الأخيرة. وعليه فالمرض ليس في طريقه إلى أن يزول أو ينصرف في السنوات القادمة، بل على العكس. فإذا بدا أن مداه بدأ يتناقص، في حدود البيئة الإسلامية، فإنه يتعاظم في النطاق العالمي، أي مع ظهور فكرة العالمية. وإذا كان المسلم يرى في بعض الظروف أنه مطمئن إلى تطوره القومي، أي بالنسبة إلى مقاييس محلية، فلن يكون مطمئناً مطلقاً إذا ما نظر إلى نفسه بالنسبة إلى التطور الدولي، فإن حياة العالم تفوته كل يوم أكثر من سابقه، والشعوب التي وضعت خطة بقائها تظل دائماً في المقدمة بفضل تخطيطها، وهنا يوجد المسلم مرة واحدة أمام المشكلة النفسية والصناعية، فتقدم الآخرين يصوغ في ضميره مأساة تأخره، ولكن هذه المأساة تتطلب حلاً، وهي تكون القانون النفسي الذي سيحكم أكثر فأكثر تطور العالم الإسلامي في السنوات القادمة. وهذا الحل الضروري لا يمكن أن يكون إلا نوعاً من (الثورة) التي تتيح للمسلم أن يتدارك تأخره عن بقية الناس. وعليه فمن الممكن أن تقوم فيه (ثورة) عن طريق نفسه، أي من تخطيط يوفر للضمير الإسلامي ضمانات هو بحاجة إليها، أو أن تأتي هذه الثورة من الخارج حين يعجز عن القيام بها، والقيام بثورة في الاتجاه الإسلامي معناه تطبيق (فنية

ثورية) مستوحاة من القرآن فكل تغيير غريزي يفترض تبعاً للقرآن تغييراً في حال النفس: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11]، وإذا كانت هذه الفنية صادقة في المشكلة الاجتماعية كلها، كما حاولنا التدليل على ذلك في كتاب سابق (¬1). فهي تستتبع التخطيط التالي: (أ) ماذا يجب تغييره في النفس المسلمة لكي نبرئ (مرض العالم الإسلامي)؟. (ب) ما الوسائل والمناهج إلى هذا التغيير؟. (جـ) وما الهدف- أو السبب النهائي- الذي يهدف إليه تغيير كهذا؟. فعندما يواجه مؤتمر إسلامي هذه المسائل بوضوح وصراحة ويجيب عنها بطريقة ملائمة. فإنه يكون قد حل المشكلة الإسلامية فلا يبقى نفاق في العلاقة الاجتماعية بين المسلم والإسلام، ولا يبقى قلق في الضمير المسلم. والعالم الإسلامي في مرحلة مخيفة من مراحل السديم المتخلق، حيث لم تدخل العناصر كلها في البناء طبقاً لنظام خاضع لقوانين محددة، ومن الجائز أن تؤدي مرحلة التخلق إلى نظام إسلامي؛ أو إلى فوضى شاملة تغرق فيها جميع القيم التي جاء بها القرآن إلى العالم. ولكن القرآن دائماً على أهبة الاستعداد لتكرار معجزته ... إن شاء الله. ... ¬

_ (¬1) انظر كتاب (شروط النهضة) طبعة دار الفكر بدمشق.

أوروبه وفكرة الأفرسيوية

أَوروبَّه وَفِكرة الأفرسيَوِيَة إن أوروبا لم تحكم العالم فحسب، بل إنها قد غيرته أيضاً، فالعالم الراهن قد وجد تحت وطأة عصاها السحرية، أو تحت وطأة سوطها اللعين. والحق أن هذا هو الشكل المزدوج الذي يكون جملة الدور التاريخي الذي قامت به أوروبا منذ قرنين من الزمان، فلو أننا لم نتحدث إلا عن عصاها السحرية كما يفعل الاستعمار فلسنا نستخدم سوى شهادة زور في التاريخ. ولكنا أيضاً نقدم شهادة أخرى مزورة لو أننا اقتصرنا منهجياً على التحدث عن سوطها. فأوروبا لم ترد تمدين العالم، هذا حق، ولكنها وضعته على طريق الحضارة حين جعلت تحت تصرفه الوسائل المادية ليتبع هذا الطريق، وحين أمدته بإرادة للسير فيه. فبعض الباحثين لا يريدون أن ينظروا في هذا إلى غير نيتها ومقصدها. ولا يجدون في عملها سوى المبررات لسوء الظن. والبعض الآخر لا ينظرون إلى غير (الواقع الأوروبي)، فهم يدّعون أن أوروبا في نهاية الأمر قد قامت بدور (تلميذ الساحر) حين أعارت حضارتها للشعوب الأخرى فإذا بهذه الشعوب تصنع منها عصياً لضربها. وهذا التصوير الذي يتناول المشكلة بهذه الطريقة يزورها تماماً، ولكنه يضعها هكذا في الصورة التي تفيد منها دراستنا. فأوروبا بدأت تسيء الظن بنفسها، ومن خلال هذه الحقيقة الأولية تتحدد مشكلة العالم الأخلاقية في السنوات المقبلة. فالضمير الأوروبي يرزح تحت ثقل مسؤوليته، ولقد بدأ يشعر بهذا الثقل بصورة محزنة، ولاشك في أن لمأساة هذا الضمير دويها في مستقبل العلاقات الإنسانية، وقد وجدنا هذا الدور فعلاً في فكرة كليمنت أتلي عندما لاحظ أنه في الأعوام القادمة ستكون مشكلة العلاقات بين البيض والشعوب الملونة إحدى المشكلات المستعصية على الحل. وبدهي أن تفكير هذا الإنجليزي المسؤول

لا يحتوي إلا على اهتمام ذي طابع سياسي، ولكنا نرى فيه مظهراً أخلاقياً ناتجاً عن شعور معين بالإثم (التأثم) وعن تهويل باطني بسبب المشكلة، فلقد بدأ الضمير الأوروبي يشعر بعظم الخطيئة الاستعمارية. ولكن هذا المظهر الأخلاقي قد يحدث في صورة متعارضة صالحة لأن تعطل حل الأزمة الراهنة أو تعرضه للمخاطر. فقد يضيف إلى عنصر (القوة) - الذي حللنا آثاره في الأزمة- عاملاً أخلاقياً من الحرمان، في صورة شعور بالإثم المكبوت، وهذا الكبت قد يصبح مبعث خطر بالنسبة إلى الضمير الأوروبي، إذ ربما يؤثر فيه كدافع إلى حلول القوة. وتحت هذا العنوان يرى الكاتب المشهور جورج دوهاميل ( Georges Duhamel) في مقال نشر بباريس في صحيفة (الفيجارو Figaro عدد 23 - 12 - 1955م) أن الأوروبيين لا يبدو أنهم يدركون أن الجنس الذي ينتسبون إليه قد ارتكب منذ قرون كثيراً من الخطايا والأخطاء، بل حتى كثيراً من الجرائم، وأنه في طريقه لا إلى أن يفقد سلطانه فحسب ... بل أن يفقد التوازن والأمن الضروري كيما يمارس عبقريته .. فنحن نرى في هذه الكلمات الشعور بالإثم يختلط لدى الكاتب الكبير بالشعور (بالخطر) الذي عرفنا له سوابق خطيرة منذ عهد ليس ببعيد حين تحدثوا عن (الخطر الأصفر) أو عن (الخطر الإسلامي). ولقد ينتج عن هذا الاختلاط انعكاس يتخذ صورة الدفاع عن النفس ( Auto-Défence) بحيث يزيد في تعقيد وضع معقد، بل إن من المحتمل كثيراً أن يكون رد الفعل الاستعماري- الذي يعيث في العالم تخريباً منذ عشر سنوات- ناتجاً عن مثل هذا الانعكاس على الأقل في بعض نواحيه خاصة في شمال إفريقية حيث يعرف الاستعمار جيداً كيف يثيره ويستغله دفاعاً عن قضية خاسرة. ونحن ندرك على الأخص ما نتج عن هذا الانعكاس في الجزائر، منذ أن أسلم شعب أعزل للذبح والتقتيل، ذلك لأن الحكومة الفرنسية تحاول أن تثير دائماً

غريزة الدفاع عن النفس في الضمير الفرنسي، حين تقذف في أتون المعركة بشعار (الأمة في خطر). وأياً ما كان الأمر، فإن الضمير الأوروبي يواجه مشكلة تخلع على الأزمة العالمية مظهراً جديداً، وما كان لنا أن نتخيل لحلها طريقة قد تخلف في المجال الأخلاقي عناصر من شأنها أن تبعث الاضطراب في الحلول التي ندعي الإتيان بها للمشكلات في صبغتها السياسية. فالأزمة تتخذ بهذا مظهر مأساة مورينيه (¬1)، مأساة اجتماعية ترفع مشكلة العلاقات الإنسانية إلى مستوى عالمي. فلكي نحل هذه المشكلة يجب أن نقضي على ذهان التأثم، وذهان القوة، اللذين تقترن آثارهما في الضمير الأوروبي، وانعكاس الدفاع عن النفس هو ثمرة هذا التأثير. أما المشكلة في صورتها العملية فإنها تعني مساعدة الأوروبي على التغلب على أزمة ضميره. ولقد صاغها غاندي في هذه الكلمات، في مؤتمر العلاقات الآسيوي عام (1946م). حين وجه إلى المندوبين قوله: ((إذا كنتم تريدون تبليغ رسالة إلى الغرب، فيجب أن تكون رسالة الحب والحقيقة ... وسيحظى هذا الغزو برضا الغرب نفسه الذي يتعطش اليوم إلى الحكمة)). إن هذه الرسالة لتتمثل في عدد من الضرورات الكبرى لعصر يواجه بصورة محزنة مشكلة الخلاص الإنساني ... لقد فوتت أمريكا عام (1945 م) اللحظة التاريخية التي كانت تستطيع فيها أن تساعد العالم على اجتياز عقباته الأخلاقية والمادية، كيما يدخل في مرحلة جديدة. وها هي ذي الساعة تؤذن من جديد، ولكنها هذه المرة على محور (عدم العنف)، وإن فكرة الأفرسيوية لقادرة على أن تساعد العالم ليتغلب على (ذهانه) المزدوج، ولاشك في أن هذا مظهر جوهري لرسالتها العالمية، وفصل رئيسي في مهمتها التاريخية، وسيكون على الرجل الأفرسيوي في هذا الفصل من التاريخ أن يقدم للإنسانية ضميره لا علمه، فهو ¬

_ (¬1) مورينو ( Moreno) عالم نفسي أمريكى مشهور يخالف مدرسة فرويد.

لا يملك علماً بعد، يقدم إليها ضميره، وبراءة طبيعته البسيطة العذراء، ولاشك في أن هذه هي الرسالة التي كان يفكر فيها غاندي حين تحدث عن (غزو الغرب) الذي سيحظى برضا الغرب نفسه. إن مركب (القوة) موجود في أصول المرض الأوروبي، فمن اللازم إذن مساعدة أوروبا على التغلب على هذا المركب، ولقد أعطانا الأستاذ دوهاميل حين عالج مشكلة (مستقبل البيض) صورة حية حين بين كيف يتلاحم عنصرا هذا الذهان في الضمير الأوروبي، إذ يبدو أنه لم يعد لدى الأوروبي أمن مادام أنه لم يعد له سلطانٌ، وبذلك يبدو أنه مدفوع إلى عدم مواجهة المشكلات إلا بلغة القوة. كأنما هو لا يتوقع إلا أن يكون ظالاً أو مظلوماً، مضطهَداً أو مضطهِداً، فآلية هذا الذهان كامنة في أعماق (الذات) الأوروبية، ولقد أصر مستر هنري سباك حين كان يودع زملاءه الأجانب في إحدى جلسات المجلس الأوروبي الذي انعقد في بروكسل قبل مساء الميلاد بساعات، أصر على أن ينطق بعبارة أملتها ظروف الاحتفال بالميلاد ذاكراً أن ((أعياد ميلاد السعادة والسلام إنما تصدر عن تنظيم أوروبا لأن أوروبا تعتبر مفتاح السيطرة على العالم ... ))، فالسيطرة والسعادة يسيران إذن جنباً إلى جنب في هذا المنطق الذي يعكس موقفاً أساسياً للضمير الأوروبي، وبهذا تصبح المشكلة دقيقة ورهيبة، شأنها شأن كل ما يمس الضمير الإنساني. ولعل من الخسارة الكبرى، ليس فقط بالنسبة إلى أوروبا، بل بالنسبة إلى الإنسانية جميعاً، أن يفقد الرجل الغربي مع ضياع سيطرته على العالم ثقته في نفسه، وفي إمكانه إبراز موهبته وعبقريته، في عالم حطم أغلاله، فهذا هو الخطر الهائل، وسيكون هذا الذهان- مادام أنه لم يقض عليه- عنصراً ثابتاً في الأزمة. فأوروبا بلا شك يجب أن يتاح لها الاستمرار في إبراز عبقريتها القديرة، ولكنها في الظروف العالمية الجديدة يجب أن تجد (أمنها) في مودة الشعوب لا في السيطرة عليها، ولكم نتمنى أن تتغلب على انعكاس (الدفاع عن النفس) الذي يعدّ شرطاً في سياستها وهو يوجهها

نحو النزعة الأوروبية في الوقت الذي تتحدد فيه معالم مستقبل إنساني على مستوى عالمي. ولاشك في أن في (الحركة الأوروبية) التي اتخذت مركزها في استراسبورج ( Strasbourg) بعض المعالم الإيجابية التي ترشد أوروبا في طريقها نحو العالمية، ولكنها في الوقت نفسه تسجل انحسار الموجة الأوروبية عن العالم الذي أغرقته منذ قرنين من الزمان. ولعل الخسارة في هذه المرحلة تكون في أن يسجل هذا الانسحاب في المجال النفسي انطواء للضمير الإنساني. ومن المتفق عليه أن الموجة الأوروبية تخلف في التاريخ رصيداً محزناً من الخرائب الأخلاقية، وحقلاً من الأنقاض في النفس الإنسانية. ولكن إذا قلنا هذا فهل قلنا كل شيء؟ وهل يكفي أن نسطر سجلاً لشهداء الشعوب المستعمرة تحت حذاء الاستعمار؟ الواقع أننا حين ننظر جيداً إلى حقل الأنقاض الذي خلفته الوجة الاستعمارية وراءها، فإننا نراه مغطى (بغرين) مخصب ستجد فيه الحياة الجديدة فعلاً عناصر جوهرية لازدهارها في البلاد التي كانت من قبل مستعمرة. هذا الغرين غير مقتصر على الميادين التي تظهر فيها موهبة أوروبا للعيان- في كل ما يتصل بالتقدم المادي والصناعي- بل يتعداها إلى الميدان الروحي، حيث تبدو موهبتها غير مؤكدة في النظرة الأولى. لقد سببت حرية أوروبا جروحاً شنيعة للإنسانية، وأحدثت قروحاً رهيبة في بدنها، ولكنها في الوفت نفسه قد فتحت ثغرات في المجتمعات التي انسحبت من التاريخ، أو التي لم تدخله بعد، ومن هذه الثغرات جاءت نسمة جديدة، نسمة باعثة تحيي أشكالاً بليت، وتحرك حياة تجمدت، وكلما أردنا تحليل الأسباب التاريخية لهذه النهضات التي جددت العالم المستعمر خلال نصف القرن الماضي، فإننا نجد تأثير أوروبا، فجميع النهضات التي رأت النور في ضمير الشعوب المستعمرة قد تغذت في هذا الضمير نفسه بالغرين الذي أودعته فيه الموجة الأوروبية، فحركة الإصلاح التي تعتبر الشكل الروحي للنهضة في شمال إفريقية هي بلا جدال ثمرة الوعي الإسلامي، ونتيجة كفاحه ضد شكل

من أشكال الشر هو: الاستعمار، هذا شيء لا ينازع فيه من الوجهة التاريخية، ولكن التحليل يقضي بأن نذهب إلى الإطار النفسي والأخلاقي، وسنرى في الحال أن المشكلة تثرى بعناصر جديدة وتفسير جديد. فالواقع أن الوعي الإسلامي قد وجد نفسه ملزماً بأن يجاهد فردياً وجماعياً ضد الشر أو المنكر، وهو يجد تبريره الجوهري ودافعه في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 3/ 110]، ولكن الصراع التاريخي الأخير ضد المنكر في إفريقية الشمالية تحت راية حركة إصلاحية- الإصلاح- يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر، أي إلى حركة الموحدين، فلعل انطلاق الوعي الإسلامي قد توقف من ذلك الحين لكي يستأنف نشاطه تحت راية الاصلاح الحالي، في شكل النشاط المضاد للاستعمار. فيجب أن نكتب تاريخين 1125م-1925م، التاريخ الذي بدأ فيه ابن تومرت تبليغ دعوته في مراكش، والتاريخ الذي شرع فيه ابن باديس في قسنطينة. ولنتساءل عن سبب صمت الوعي الإسلامي وعدم اكتراثه فيما بين هذين التاريخين. أعني خلال ثمانية قرون؟ ولكن هذا السؤال يودي بنا بعيداً قطعاً، إذ لا ينبغي أن نتساءل: لماذا استمر صمت الضمير الإسلامي دهراً طويلاً؟ بل يكفينا أن نتساءل: كيف ولماذا انقطع هذا الصمت منذ خمسة وعشرين عاماً؟ إن المشكلة لم تعد ذات طابع تاريخي بل نفسي وأخلافي. فالوعي الذي بدأ مرة أخرى يتكلم بتأثير ابن باديس في إفريقية الشمالية كان غنياً بتجربة حاسمة قطعاً، ولكنه كان أيضاً غنياً بذاتية جديدة، فالحقيقة النفسية تكمل هنا الحقيقة التاريخية، التي ربما تبقى دون ذلك جزئياً في الظلام، أو تظل غير مفهومة، وعلى ذلك فالنفسية المسلمة الجديدة لا يمكن أن تتضح في ذاتها إلا إذا اعتبرنا الثروات الذاتية التي استمدت وعيها من غرين الحضارة الغربية، والواقع أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعالم الإسلامي، فهي تتجلى أيضاً في ((نهضة)) الهند حيث ثارت

اليقظة الروحية بتأثير راما كريشنا ( Rama Krishna) وفيفي كاناندا (¬1) ( Vive Kananda) وبلغت أوجها في مبدأ (عدم العنف) بتأثير غاندي. ومما له دلالته هنا أن يستهل المهاتما مهمته السياسية بتفكيره في البهاجافاد جيتا مع محاولة أصيلة لتفسير نصها تفسيراً روحياً، وهو النص الذي يبتدئ (بدروس في السلاح) يلقيه كريشنا على تلميذه أريونا ( Aryouna) ، فغاندي حين يستبدل المعنى الرمزي بالتفسير الحرفي يرى أن الميدان الحقيقي للمعركة ليس في الساحة التي يصارع فيها أريونا إخوته، بل في النفس الإنسانية ذاتها، في ميدان المعركة الداخلية، حيث يجب أن تنتصر (الذات) العليا (للغرائز السامية) المتجسدة في أريونا على تلك الغرائز الدنيا. فبماذا يمكن أن تفسر هذه الثورة ((الروحية)) إن لم تفسر بتأثير الثقافة الغربية على روحية غاندي، وذلك حين وجد فيها دوافع، وعناصر ذاتية تغير موقفه تماماً أمام النص المقدس. وهذا التغيير الذي يحرر صاحبه من النص والحرفية يجعل من الإخلاص الذاتي المقياس الجوهري لموقف الرجل أمام (القانون)، وما كان لموقف كهذا أن يتصور في تاريخ الهندوسية قبل غاندي الذي يظهر تماماً أنه استمد خميرته الثورية من طينة الغرب الروحية. وهذا التغيير في موقف الرجل أمام القانون ((يتجلى في إطار آخر، هو إطار قضية المنبوذين، وإنا لنذكر حقاً، وبلا تردد أن الاستعمار لم يغير البناء الاجتماعي الذي وجده في الهند، بل هو قد كبر حجمه حين وضع طائفة الفاتحين الغزاة فوق الطائفة التقليدية السائدة، تاركاً مشكلة المنبوذين الأليمة كما هي. ولكن مما لا شك فيه أن الثقافة الغربية قد أرهفت الضمير الهندي في هذا المجال. وبفضل التطور العقلي والأخلاقي الذي يدين به الضمير الهندي لهذه الثقافة واجهت الهند المشكلة في دستورها المعمول به منذ السادس والعشرين من يناير (1950 م). ¬

_ (¬1) من زعماء النهضة الدينية في الهند في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وهو من التلاميذ الروحيين لراما كريشنا.

وعليه فإن الموجة الأوروبية لم تأت للعالم الذي أغرقته بغمرة الرفاهة المادية فحسب- مثل الثلاجة الكهربية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضاً بثروات روحية لا جدال فيها. لقد أودعت في (لاشعور) الشعوب المستعمرة، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها، وفي أسلوبها، وفي تنظيمها، وفي نشاطها، وهكذا لا يمكن تحليل أي نشاط أفرسيوي اليوم دون أن نجد طرازه في الغرب. فالبرلمانات التي ظهرت في البلاد الأفرسيوية أياً كانت هي قطعاً صورة طبق الأصل من البرلمان الإنجليزي أو البرلمان الفرنسي. فأي مشروع لوضع دستور ديمقراطي إنما يرجع ضرورة إلى الطراز الغربي، ولم يكن الاتصال بالعبقرية الغربية في جميع الحالات التي استلهم فيها هذا النموذج عن الطريق العملي الصناعي فحسب، ولكنه كان عن طرق ذاتية أيضاً. فإن المشاكل الإنسانية التي تثور بالصورة نفسها لا تتطلب الحلول نفسها فحسب، بل إنها تثير رد فعل أخلاقي واحد، ومشاعر موحدة أيضاً، ولقد كسب الجانب الاجتماعي أسبقية في نشاط هذه البلاد، ونشأ نموذج للمجتمع يحقق فيه الفرد رسالته في صورة بطولة اجتماعية، بعد أن كان يحققها في صورة بطولة حربية، وكل هذا بفضل العبقرية الغربية. وقد نتج عن هذا في البلاد التي تعرضت للتأثير الغربي أشكال من الوفاء جديدة، وصور جديدة من الولاء، ذات صبغة اجتماعية، وروابط أسمى من روابط النظام القبلي، فلقد أخلى الضمير القبلي مكانه للوعي القومي، وأثرى الضمير الديني بعناصر مدنية يدين بها للغرب. فعندما يتحدث العالم المسلم عن (الديموقراطية) يستعير بداهة مفهوماً غربياً، وعندما يقف نقابي مسلم ليتحدث بصوت منفعل متهدج فإن نسمة ذات أصول نقابية غربية هي التي تنساب خلال هذا الانفعال، نسمة الصراع المؤثر من أجل انتصار العدالة الاجتماعية. فجوهر التبادل الإنساني هو في هذه العناصر الذاتية قبل أن يكون في العناصر الموضوعية، فهناك اتصال سري بين الأنفس، وهذا هو الطريق المباشر الفعال لإغناء العبقريات. وإخصاب الأفكار الأصيلة لحضارة ما. فإذا تعمق عمانويل مونييه في ضميره بنظرة قلقة،

فإن نظرته هذه قد تكشف لنا في ضميرنا عن أسباب القلق ذاتها. ولو أنه تعرض لتلك (الملاكمات الداخلية) التي تضع إيمانه موضع الاختبار فإن هذه الملاكمات تصيبنا، وتضع إيماننا موضع الاختبار أيضاً. وإن انفعاله أمام المأساة الاجتماعية، وأمام المشكلة الأخلاقية لينفض خمودنا أمام هذه المشكلات، ويبعث الحرارة في فتورنا إزاءها. وقد حدث التبادل في كلا الاتجاهين فعلاً عن الطريق السري للضمائر، ويستطيع مؤرخو سيرة غاندي بلا شك أن يقرروا ميزانية ما يدين به للغرب في الناحية الروحية، ولكن هذه الميزانية يمكن أن تقرر في اتجاه آخر بتبيان ما يدين به الغرب لفلسفته. فإذا قال رجل الغرب في بعض الظروف الدرامية على لسان كامو ( Camus) (( إن قوة القلب وقوة الفكر والشجاعة تكفي لإيقاف القدر عند حده ... )) فإن أبسط المسلمين تواضعاً يستطيع أن يعلمه أن كفاح الإنسان لا يكون بطولياً ومخصباً ضد القدر- ذلك النور الخفي الذي يقود الإنسانية نحو غايتها الغامضة- وإنما يكون كذلك إذا كان موجهاً ضد القوى الغاشمة العمياء التي تعودنا أن نسميها (قدراً)، والتي تعمل على صرف الإنسانية عن غايتها، وأعتقد أن هذه (القدرية) في أبسط صورها عند المسلمين من شأنها أن تخصب ذاتية كامو. ولكن عندما يقول كامو من ناحية أخرى فكرته عن (الإنسان والتاريخ) وعندما يقول لنا: ((إن مهمة رجال الثقافة والعقيدة ليست في أن يخونوا الصراع البطولي، ولا أن يخدموه فيما يلازمه من قساوة ومجافاة للإنسانية ... )) فإن درسه هذا يزود المسلم بثروة ذاتية أخرى، وهو يذكرنا بأنه حتى في ظل قوة الاستعمار الملعونة، قد وضع نشاط الغرب على طريق التاريخ شعوباً أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير. وبث فيها- ولو عن غير قصد- إرادة السير في هذا السبيل، تلك الإرادة الخاصة التي أصبحت لا تفارق وعي كل شعب، تدفعه باستمرار إلى الحضارة. لقد كانت الحضارة من عمل اللاشعور عند الفرد، وهو العمل الذي لا يجند وعيه الموضوعي إلا بصفة استثنائية، عند بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع مثل ابن خلدون، أعني عند

الخصيص الذي جعل من الحضارة موضوعاً للدراسة، ومشكلة للتجلية والإيضاح. ولكن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفاً مقصوداً، وعملاً شعورياً، وفناً، ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته، وهو يرى فيها غايته الأرضية. هذه الذاتية الجديدة قد وسعت أولاً حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفضل قوته الصناعية قد أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية. فلم تعد الحضارة فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات) كما كانت في عصر ابن خلدون وأيضاً في عصر سبنجلر عندما كان يكتب عن (أفول الغرب). ولو راجعنا- في ضوء التطورات الأخيرة- رأي فاليري في الوقت الذي كان فيه يتأمل النتائج المتوقعة للحرب العالمية الأولى، حين عبر عنها في تلك الصورة المأثورة ((الآن أدركنا نحن أن الحضارات فانيات .. )) لو راجعنا رأي فاليري اليوم لوجدناه قد أخطأ، إذ في ذلك الوقت لم تعد الحضارة لتكون فانية، لأن نطاقها قد بدلها خلقاً آخر. فأصبحت عالمية، وبذلك صارت خالدة. ومع ذلك ففي الوقت الذي أراد فيه جون توينبي أن يختم كتابه الرائع (دراسة التاريخ) كانت ظاهرة (الدورات) لا تزال ذات وزن في استنتاجاته، ففي استنتاجه عن مستقبل الحضارة الغربية لم يكن عقله كمؤرخ على وفاق مع ضميره كإنسان غربي، فقد كان المؤرخ مأخوذاً فيما يبدو بفكرة (الأفول)، ولكن الإنسان يتجاوز هذا الخوف حين يصوغ للحضارة الغربية أمنية في ألا تغرق بدورها في محاولة (إنقاذ بالسيف) وهي محاولة قد تنتج عن غريزة الدفاع عن النفس، فهو يتمنى أن تصل مباشرة إلى ((نظام عالمي يقرب من ذلك الميثاق الذي دعا إليه دون جدوى بعض المسؤولين والفلاسفة الهلينيين خلال عصر الاضطرابات)) ثم أضاف قائلاً: ((إن ما نبحث عنه هو الموافقة الحرة للشعوب

الحرة على العيش في وحدة، وأن تصنع دون إكراه بالقوة التوافق والتنازل اللذين بدونهما لا يمكن لهذا المثل الأعلى أن يتحقق)). وإذا كانت أمنية الإنسان تذهب إلى هذا المدى البعيد، فذلك لأن المؤرخ الكبير يرى في منعطف التاريخ الحالي أو يستشعر التحول الذي يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها، بعد التحول الذي دخلت به في التاريخ في بداية العصر الحجري الجديد، فهو يرى أن التطور الذي حول المجتمع البدائي في نهاية العصر الثلجي ( Glaciaire) إلى مجتمع من طراز جديد، أي إلى (حضارة) يمكن الآن أن يحول هذه الحضارة إلى طراز جديد هو (الحضارة العالمية). وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييراً تاماً بحيث لا يدع مجالاً لافتراض (الأفول)، إذ إن في التوقع الجديد لن يكون أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي والنهائي الذي لا يمكن أن تقوم به (نهضة). فمشكلة الحضارة تصاغ حينئذ في مصطلحات تستبعد مراحل التعديل، وتستبعد (عودتها) التي احتفظت بها حتى الآن حين داولت دوراتها خلال آلاف السنين. ويوضح هذا أن الموجة الأوروبية قد حملت بذور الحضارة إلى أركان العالم القصية، وأخصب غرينها القارات كلها، وأن الحضارات إنما كانت (فانية) حين كان لكل منها حقلها الخاص، وهو عموماً في حدود إمبراطورية، وكان حامل رسالتها الفكرية لا يتجاوز عبقرية جنس ما، فكان الأفول يحدث مع انهيار الامبراطورية وافتقار العبقرية العاجزة عن أن تتجدد بفعل عناصر أرضها وحدها، فإن البذور التي تعود لتلقى دائماً في الأرض نفسها تنتهي بالانقراض، وفقدان الحيوية. أما اليوم فإن البذرة قد انتشرت في كل مكان، ولقد يتضاءل جنين هنا ولكنه ينضج وينمو هناك، فنحن نصادف دائماً أشكالاً من المقاصة تحتفظ بالحضارة في مستواها وفي حيويتها، حائلة بينها وبين الأفول وتلك هي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية. ولقد حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته

السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي. فالمقاييس، وطرائق السلوك والتفكير لا تكف عن التقارب على محور طنجة - جاكرتا، ومحور واشنطن - موسكو. على أن أوروبا لم تخلق عن قصد هذه الحالة العالمية، ولكن توسعها الاستعماري قد ساهم في ذلك بقوة مع عبقريتها الصناعية فتأثيرها قد رسم بطابعه كل شيء حتى الميادين التي لا يتوقع فيها، مثل ميدان النشاط المعادي للاستعمار. ونحن نجد ذلك أولاً في القوة الفكرية التي أمدت هذا النشاط، فلقد اقتبست الشعوب المستعمرة إلى جانب عناصر الفلسفات الفكرية التي استمدتها من ثقافاتها الخاصة، اقتبست علاوة على ذلك من ثقافة أوروبا ومن تجربتها الاجتماعية والسياسية عناصر أخرى لا يمكن إغفالها، ثم إن النشاط المعادي للاستعمار قد كان في صفوفه كثير من الأوروبيين الشرفاء رجالاً ونساء، كانوا رائديه ومؤيديه ومستشاريه. وقد ظفرت الوطنية المصرية بمدام جولييت آدم التي كانت الأم الغربية لمصطفى كامل ((باشا))، ونجد أيضاً أن من أوائل ثلاميذ المهاتما غاندي، وهو الذي كان يمثل الوطنية الهندية، بعض الإنجليز الذين كانوا أرشد مشيريه، وأخلص خادميه، ولسنا نستطيع أن ننسى في تاريخ هذه الحركة أسماء: بيرسون ( Pearson) وأندروس ( Andrews) كما أننا لا نستطيع أن ننسى اسم رومان رولاند ( Remain Rolland) في دراسته عن (إشعاع الغاندية) فلو أننا وصفنا تاريخ القرن العشرين حيث نعتبر الغاندية تياراً جوهرياً في فكر هذا القرن، فيجب أن نذكر رومان رولاند، لا باعتباره مجرد داع من دعاة هذا الفكر، ولكن باعتباره أحد أساتذته وزعمائه، فإنه لم يعرف الغرب بغاندي فحسب، حين بلغ إليه رسالته، بل إنه قد عمق هذه الرسالة أحياناً ووسع أفقها، لقد كان يعمقها كلما بدا له من الضروري أن ينفخ فيها من روح فيفي كاناندا ( Vive Kananda)، تلك الروح الإنسانية التي كانت تنعدم في بعض الظروف لدى غاندي، حيث كانت تصرفه عنها الطهارة الصارمة، وتلفته نزعات تفوق الآدمية عن الشعور بنواحي الضعف الآدمي، وعن إدراكه.

ولقد كان يوسع أفقها كلما رأى من الضروري بحق أن يخرج بها عن نطاق مستقبل الهند الذي حبس فيه غاندي نشاطه، اهتماماً منه بأن لهذا النشاط فاعلية، كما قد يكون من باب التواضع أيضاً. وكان رولاند يفعل ذلك لكي يدمجها في المستقبل المتوقع للعالم الذي يراه وهو الرجل الذي ينظر إلى الأشياء من ذلك الفلك الأوروبي الذي أصبح بما يحوي من ثقافة، وحضارة مدفوعة بالسلام أحياناً وبالعدوان أحياناً أخرى إلى المجال العالمي- مدار القرن العشرين (¬1) - ولو أننا وضعنا أيضاً تاريخ القومية الجزائرية أعني تاريخ النشاط العادي للاستعمار الذي خلق هذه القومية حين أثبتها شيئاً فشيئاً في أفكار الفرد وفي سلوكه فيجب أن نأخذ في حسابنا الدور الذي قام به خلال تلك الحقبة النشوئية أولئك الأساتذة العظماء أمثال سبيلمان ( V. Spielman) وأوجين جانج ( E. Jung) كما أننا لا ننسى ما ساهمت به الجامعة في إمداد النشاط الوطني بعناصر قيادية، وما أمدته به أحياناً من معونة مباشرة في المجال الأدبي (¬2). وفي تونس مثلاً لم يجد الحزب الدستوري عام (1921م) الأساس القانوني للمطالبة بدستور للأمة التونسية إلا بناء على فتوى مستشارين من جامعة باريس هما: جوزيف برتلمي ( J. Barthelemy) أستاذ القانون الدستوري، وأندريه فيس ( A. Weiss) أستاذ القانون الدولي العام. وكان هذان المستشاران قد بينا في مشروع الدستور الذي وضعه الباي محمد عام (1957م) المبدأ الذي لا يقبل التقادم، حتى كان من الممكن أن يتطور في ضوئه النشاط الوطني كله منذ ثلاثين عاماً، وكان الاستعمار قد دفن هذا المشروع بفرض الحماية على تونس. وإذن فإن لدى أوروبا عبقريتها الخيرة وعبقريتها الشريرة فإذا ظهر على المسرح مركب (القوة) المتمثل في النزعة الإمبراطورية وفي الاستعمار والعنصرية، ¬

_ (¬1) مقتبس عن مقال للمؤلف نشر في صحيفة (الشاب المسلم) في 26/ 6/ 1953م، الجزائر. ثم أعيد نشره ضمن كتاب (في مهب المعركة) للمؤلف، طبعة دار الفكر بدمشق. (¬2) ومن أوضح المواقف في هذا السبيل موقف البروفسور مندور.

فإن عبقريتها الشريرة هي التي تتكلم، وهي التي تتكلم أيضاً حين يقف بعض الأوروبيين يتحسرون على أنهم لعبوا دور (تلميذ الساحر) أمام أعجوبة النهضة التي حققتها الشعوب التي حطمت قيود الاستعمار. ولكن تحت شعار الصليب أو الفكر الحر تظفر القوة الخلاقة المغيرة للواقع الأوروبي بنفوذ واعتبار في العالم الراهن، الذي يدين لها أولاً بوعيه العالمي. فأوروبا الآن يجب أن تندمج فيما صنعت، أي في ذلك الوعي الذي خلقته حضارتها. فلقد حققت انتقالاً وتحوّلاً في الكون الذي حققت فيه حضارتها منذ قرنين من الزمان، وعليها أن تكمل عملها في كونها الداخلي بإتمامها لتحولها الخاص بها. ولا شك في أن إتمامها عملها إنما هو من اختصاص عبقريتها الخيرة التي تتيح لها أن تجد في أعماق ضميرها مع الفكرة الكاملة عن الإنسان معنى فلسفة إنسانية تناسب العهد العالمي. ومهمة فكرة الأفرسيوية في هذا النطاق تنحصر في مساعدة إنسان الغرب على بلوغ هذا الحجم الذي وهبه علمه القدرة عليه، ولكنه لم يهب له بعد الشعور به، وستظل أوروبا تصنع التاريخ وتعطي مثال الخير ومثال الشر، حسبما يكون المتحدث بلسانها ضميرها الخيّر أو ضميرها الشرير، فإن لاختيارها أهمية عالمية سواء كان خيراً أم شراً، وسيكون دور فكرة الأفرسيوية هو مساعدة أوروبا على أن تحسن اختيارها في اطمئنان لإكمال عملها في عالم ضميرها، وبهذا تكون الأفرسيوية قد أتمت عملها أيضاً لأنها تكون قد سمت بإنسان الغرب إلى المستوى الأخلاقي للإنسانية، محققة بذلك تركيب (الرجل العالمي). دروكس في 3 فبراير 1956م ***

نتيجة البحث

نَتِيجَةُ البَحْثِ لقد أرادت بعض تقارير الصحافة أن تترجم الأزمة التي اجتازها العالم أخيراً إلى لغة أرقام السوق المالية، فقدرت نتائجها بكميات البترول التي فقدتها صناعة أوروبا إبان حملة بورسعيد، وبملايين الدولارات التي ألقيت في تلك اللحظة. ومع ذلك فإن التقدير يتجاوز هذه الاعتبارات الاقتصادية، فالعدوان الثلاثي بنتائجه الأخلاقية والسياسية قد خلق في الواقع ملابسات دولية جديدة، فلقد بطل تأثير القوة التي أعلنت العدوان بالتأثير المضاد الذي أوقفه حين أبرز خطر نشوب حرب ذرية، وبهذا أدرك العالم في وقت قصير نسبياً وأمام تحدي هذه القوة أن السلام وحدة لا تنقسم، وأنه لهذا لا يمكن انتهاكه. ولقد سجلت ليلة (6 نوفمبر 1956م) فعلاً بالنسبة إلى الإنسانية ساعة الصفر في عهد جديد، إذ كانت هذه الليلة- حسب تعبير نيتشه- هي (نقطة الانقلاب) في مجرى التاريخ، وكانت الحكومات العربية آنذاك في لحظة حاسمة، إذ عرفت كيف تتحاشى الكارثة حين تجنبت اتخاذ قرارات كان من شأنها أن تضغط على الزناد، وبرهنت الحكومة المصرية خاصة على ما تتمتع به من (دم بارد) وحكمة أمام مشكلة (المتطوعين) متحاشية في هذا الباب اتخاذ قرار قد يحدث تيار انفصال في عالم مشحون فوق طاقته. وهكذا رأينا في بعض الملابسات الخاصة المؤسفة، الفاعلية الأخلاقية للرجل الأفرسيوي، وتأثيره المعدل للتوجيه السلمي في العالم الذي وجد نفسه فجأة على (حافة الهاوية). فبرهن الأفرسيوي في هذه الظروف على أن سلطته الأخلاقية يمكن أن تمارس تأثيرها على محور القوة في اتجاه المصلحة العليا للإنسانية.

ولكن هذه القوة قد تتيح له ما أطلق عليه غاندي (الغزو السلمي للغرب) ستزداد بازدياد الفاعلية الاجتماعية لهذا الرجل فهو حين يحل المشكلات العضوية التي يواجهه بها بقاؤه سيقوم بدور مهم جداً في المشكلات التي تواجهه بها القوة في العالم. وإلى هذا الدور المزدوج أشار وزير خارجية اليابان مستر مامورو شيجميتسو ( Mamoru Shigemitsu) عندما أعلن في جلسة استقبال بلاده في هيئة الأمم المتحدة أن ((اليابان وهي مزيج من الحضارات الشرقية والغربية ستحاول جهدها أن تكون معبراً بين الشرق والغرب ... )). هذا المزيج هو في الواقع شرط التكوين الذي يجب أن يصوغ رجل العهد العالمي. فالرجل الأفرسيوي يجب أن يغزو ميدان (المواطنة العالمية) في عالم كان يعيش فيه منبوذاً تحت ضغط الاستعمار والقابلية للاستعمار، ولكن في مقابل هذا التوقع لا يصح أن نترك أوروبا تنطوي على محورها أو تنسحب من العالم لتراوغ الإنسانية التي لم تعد تسيطر عليها. بل يجب أن نبين لها أن أمنها لا يصدر عن القوة، وإنما يصدر عن تطور وعيها ليتسع لوجود الآخرين، وتطور عبقريتها مع الاتجاهات الراهنة ومع المصلحة العليا للإنسانية، ولن تستطع الإنسانية دخولاً في العهد العالمي مع ما يثقل كاهلها من مركبات نقص موروثة عن الاستعمار والقابلية للاستعمار. وإن مما يلزم حكام العالم اليوم هو أن يرحموا أنفسهم، ويرحموا كل ما هو إنساني، وذلك بأن يعلموا أن وراء أي انحلال بالغ أملاً لبعث جديد، وتحت أي ستار للقوة ينطوي ضعف كبير يلخص ضعف الإنسانية كلها. ومهمة الحكم تتطلب كلما تقدم الزمان أسمى الصفات الأخلاقية، فإن من يريد أن يحكم اليوم يجب أن تكون لديه- أكثر من أي وقت مضى- روح الداعية إلى الخير، وحنان الأب الرحيم .... ***

مؤلفات مالك بن نبي الصادرة عن دار الفكر في دمشق • بين الرشاد والتيه • تأملات • دور المسلم ورسالته • شروط النهضة • الصراع الفكري في البلاد المستعمرة • الظاهرة القرآنية • فكرة الإفريقية الآسيوية ... • فكرة كمنويلث إسلامي • في مهب المعركة • القضايا الكبرى • مذكرات شاهد للقرن • المسلم في عالم الاقتصاد • مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي • مشكلة الثقافة • من أجل التغيير • ميلاد مجتمع • وجهة العالم الإسلامي

§1/1