فقه عمل اليوم والليلة

عبد الله بن مانع الروقي

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: فهذا مختصر لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في يومه وليلته، اجتهدت في تقريبه وإيضاحه، وحرصت على ذكر وظيفة الوقت وخصيصته، وما ينبغي فيه. أسأل الله أن يكتب له القبول، وأن يجعله من الزاد الصالح المقبول، إنه جواد كريم، والحمد لله كثيرا.

فصل في تفاضل العبادات حسب الأوقات

فصل في تفاضل العبادات حسب الأوقات قال الغزالي في الإحياء: "إن الله سبحانه إذا أحب عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيئ الأعمال؛ ليكون ذلك أوجع في عقابه وأشد لمقته؛ لحرمانه بركة الوقت، وانتهاكه حرمة الوقت" (¬1) ا. هـ. وقال ابن القيم في المدارج: "الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد: من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (1/ 188).

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعُدَ كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهوأفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه " (¬1).ا. هـ. وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "عبد الله بن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: «ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله في القلب»، وعنه: قيل لمالك بن أنس: «ما تقول في طلب العلم؟» قال: «حسن جميل، ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه (¬2) ".ا. هـ. وقال ابن عبد البر في التمهيد: "وكان الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الذين خوطبوا بهذا الخطاب - لم يكن منهم من يحفظ القرآن كله ويكمله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليل، منهم: أبي بن كعب، وزيد ابن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد الأنصاري، وعبد الله بن مسعود، وكلهم كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه، ويعرف تأويله، ويحفظ أحكامه، وربما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها، قال حذيفة بن اليمان: «تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، وسيأتي قوم في آخر الزمان يتعلمون القرآن قبل الإيمان»، ولا خلاف بين العلماء ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 109). (¬2) صفة الصفوة (1/ 397).

في تأويل قول الله عز وجل {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} {البقرة: 121} أي يعملون به حق عمله، ويتبعونه حق اتباعه، قال عكرمة: «ألم تستمع إلى قول الله عز وجل: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} {الشمس: 2}، أي: تبعها». وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه، أي: من كان؛ لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة، وخير العلوم ما ضبط أصله، واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى، ودل على ما يرضاه " (¬1) ا. هـ. وقال أيضا: "وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلماً، وكانوا يسألونه؛ لأنهم كانوا خير أمة كما قال الله عز وجل، فالواجب على المسلم مجالسة العلماء إذا أمكنه، والسؤال عن دينه جهدَه، فإنه لا عذر له في جهل ما لا يسعه جهله، وجملة القول أن لا سؤدد ولا خير مع الجهل" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) التمهيد (14/ 133). (¬2) التمهيد (14/ 77).

قال أبو محمد: وأعظم ما يدل على الله أن تطلب العلم لله، ومن طلب العلم لله فالقليل يكفيه كما قاله العلماء، فاحرص على حضور مجالس العلم ومجالسة أهله على الحقيقة تفلح. وقال في التمهيد ما نصه: "والبكور إلى مجلس العالم كالبكور إلى الجمعة في الفضل إن شاء الله" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) التمهيد (1/ 316).

فصل في ذكر الأوقات مع وظائفها من العبادات والطاعات

فصل في ذكر الأوقات مع وظائفها من العبادات والطاعات وهذا أوان الشروع في ذكر الأوقات مع وظائفها، وقد جعلتها موزعة على اليوم والليلة، وابتدأت بأول النهار (من طلوع الفجر) وذكر وظيفته .. وأسأل الله لنا الإعانة فيما توخينا من الإبانة .. فأقول:

أولا: من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس

أولا: من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس: o فصل في الحث على التبكير إلى الصلاة، والمبادرة إليها o فصل في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ورد عن السلف في هذا الوقت o فصل: لا تدل مشروعية تخفيف ركعتي الصبح على أن وقت النهي يبدأ بطلوع الصبح o فصل: في بعض خصائص وأحكام سنة الفجر o فصل في وقت قضاء سنة الفجر o فصل: فيما تستحب القراءة به في صلاة الصبح يوم الجمعة o فائدة: لا يصح حديث معاذ في التغليس بالفجر والتطويل فيها شتاء، والإسفار بها صيفا. o فصل: في المراد بالأربع في حديث» ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار». o فصل: في الحث على أذكار طرفي النهار. o فصل: يسن الاشتغال بالذكر بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس o فصل: في مشروعية الاشتغال في هذا الوقت بما فيه المصلحة o فصل: لا يصح حديث مرفوع في فضل شهود صلاة الصبح ثم اتصاله بالذكر حتى تطلع الشمس ثم صلاة ركعتين o السنة في هذا الوقت الاشتغال بالذكر حسب دون الصلاة. o فصل: في النهي عن النافلة التي لا سبب لها بعد الصبح حتى ترتفع الشمس

فصل في الحث على التبكير إلى الصلاة، والمبادرة إليها

فصل في الحث على التبكير إلى الصلاة، والمبادرة إليها قال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التهجير إلى الصلاة، وهو القصد إلى المساجد في الهجير، إما قبل الأذان أو بعده، كما ندب إلى التهجير إلى الجمعة: انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال للذين انتظروه إلى قريب من شطر الليل لصلاة العشاء: «إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها». وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر. وقال ابن عيينة: «لا تكن مثل أجير السوء، لا يأتي حتى يدعى «يشير إلى أنه يستحب إتيان المسجد قبل أن ينادي المؤذن. وقال بعض السلف في قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]: «إنهم أول الناس خروجا إلى المسجد وإلى الجهاد». وفي قوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] قال مكحول: «التكبيرة الأولى مع الإمام»، وقال غيره: «التكبيرة الأولى والصف الأول».

قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر، وإن صلى في الصف الأول" (¬1).ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (5/ 352).

فصل في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ورد عن السلف في هذا الوقت

فصل في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ورد عن السلف في هذا الوقت قال ابن القيم في التبيان: قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن علي، عن الأوزاعي، قال: «كان السلف إذا طلع الفجر أو قبله كأنما على رؤسهم الطير مقبلين على أنفسهم، حتى لو أن حبيباً لأحدهما غاب عنه حيناً ثم قَدِم لما التفت إليه، فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتخلفون بأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يأخذون في الفقه» (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: روينا في صحيح مسلم من طريق شعبة، عن زيد بن محمد، قال: سمعت نافعاً، يحدث عن ابن عمر، عن حفصة - رضي الله عنها -، قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر، لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» (¬2). ¬

(¬1) التبيان في أقسام القرآن (1/ 425). (¬2) صحيح مسلم (723).

وقت النهي عن الصلاة، يبدأ بطلوع الفجر أو بفراغه من صلاة الصبح؟

فهديه عليه الصلاة والسلام المستقر في هذا الوقت هو صلاة ركعتي الصبح، وتخفيفهما، وعدم الزيادة عليهما، والاشتغال بالذكر حتى يصلي صلاة الصبح. واختلف الناس في وقت النهي عن الصلاة، هل يبدأ بطلوع الفجر أو بفراغه من صلاة الصبح على قولين، والصحيح الثاني، وهو الذي دلت عليه الأخبار الصحيحة. فقد روينا في صحيح البخاري من طريق شعبة، عن عبد الملك، سمعت قزعة، مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه -، يحدث بأربع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعجبنني وآنقنني قال: «لا تسافر المرأة يومين إلا معها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب ولا تشد الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي» (¬1). وهو نص صريح في بيان معنى الصبح الواقع في الأحاديث الأخرى، وأن المراد فعل الصلاة لا طلوع الفجر. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1197).

السنة ترك التنفل بعد طلوع الصبح، لكن لم يثبت نهي ذلك

نعم دلت السنة على ترك التنفل بعد طلوع الصبح كما تقدم، لكن لم يثبت نهي عن ذلك، والأخبار في النهي عن ذلك كلها معلولة، وإنما النهي بعد الفراغ من الفريضة. ولهذا قال أبو العباس: "النهي معلق بالفعل فإنه قال: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولم يقل الفجر، ولو كان النهي من حين طلوع الفجر لاستثنى الركعتين بل استثنى الفرض والنفل، وهذه ألفاظ الرسول، فإنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثنى ركعتي الفجر والفرض، كما ورد استثناء ذلك في ما نهى عنه حيث قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» فلما لم يذكر ذلك في الأحاديث علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسرا في أحاديث صحيحة. ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهي وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها فكيف يجوز أن يقال: إن هذا وقت

نهي؟ وهل يكون وقت نهي سن فيه الصلاة دائما بلا سبب؟ وأمر بتحري الصلاة فيه؟ هذا تناقض" (¬1) ا. هـ. وقال من الجزء نفسه ما نصه: "السنة أن يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين سنة، والفريضة ركعتان، وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، والفريضة تسمى صلاة الفجر، وصلاة الغداة وكذلك السنة تسمى سنة الفجر وسنة الصبح وركعتي الفجر ونحو ذلك والله أعلم" (¬2) ا. هـ. وقال في المغني: "وعن أحمد رواية أخرى، أن النهي متعلق بفعل الصلاة أيضا كالعصر. وروي نحو ذلك عن الحسن، والشافعي؛ لما روى أبو سعيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس». رواه مسلم. وروى أبو داود حديث عمر بهذا اللفظ. وفي حديث عمرو بن عبسة قال: «صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة، كذا» رواه مسلم. وفي رواية أبي داود ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 202). (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 264).

قال: «قلت يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت، فإن الصلاة مكتوبة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم أقصر حتى تطلع الشمس، فترتفع قدر رمح أو رمحين». ولأن لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في العصر علق على الصلاة دون وقتها، فكذلك الفجر .. " (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) المغني لابن قدامة (2/ 86).

فصل لا يدل تخفيف سنة الفجر على أن وقت النهي يبدأ بطلوع الصبح

فصل لا يدل تخفيف سنة الفجر على أن وقت النهي يبدأ بطلوع الصبح قال بعضهم تأييداً لدخول وقت النهي بطلوع الصبح: إنه شرع تخفيف ركعتي الصبح لأجل ذلك؛ لأن المعهود عند الشارع أن الوقت إن كان وقت نهي فشرعت النافلة لسبب فيشرع تخفيفها كما هنا، وكما هو الأمر في تحية المسجد للداخل والإمام يخطب، وقد قال عليه الصلاة والسلام «صل ركعتين وتجوز فيهما»، وقال: إن وقت النهي يتضمن إعدام الصلاة وتخفيفها إن أبيحت تقليلاً للمخالفة وتحصيلاً لمصلحة الصلاة ذات السبب بأقل ما يقع من الامتثال، وعلى هذا فلا يشرع تطويل النافلة ذات السبب إن أبيحت في وقت النهي، وهذا محفوظ لا يرِد عليه شيء من أوامر الشارع وتقريراته، كذا قال، وهو مع وجاهته ليس بلازم، فقد قيل بتخفيف السنة بين يدي المغرب، قال الحافظ: "ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتى الفجر" (¬1) .. اهـ. وثانيا: قصاراه أن يكون قرينة، والنهي يحتاج صيغة صريحة ولم توجد. ¬

(¬1) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (2/ 109).

فصل في بعض خصائص وأحكام سنة الفجر

فصل في بعض خصائص وأحكام سنة الفجر قال في الشرح الممتع ما نصه: "وتختص هاتان الركعتان - أعني ركعتي الفجر - بأمور: أولا: مشروعيتهما في السفر والحضر. ثانيا: ثوابهما؛ بأنهما خير من الدنيا وما فيها. ثالثا: أنه يسن تخفيفهما، فخففهما بقدر ما تستطيع، لكن بشرط أن لا تخل بواجب؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب»؟ تعني: من شدة تخفيفه إياهما. رابعا: أن يقرأ في الركعة الأولى بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون]، وفي الثانية: بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص]، أو في الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية .. في سورة البقرة [136] و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية .. في سورة آل عمران [64]. فتقرأ أحيانا بسورتي الإخلاص، وأحيانا بآيتي البقرة وآل عمران، وإن كنت لا تحفظ آيتي البقرة وآل عمران، فاقرأ بسورتي الإخلاص والكافرون. خامسا: أنه يسن بعدهما الاضطجاع على الجنب الأيمن، وهذا الاضطجاع اختلف العلماء فيه:

فمنهم من قال: إنه ليس بسنة مطلقا. ومنهم من قال: إنه سنة مطلقا. ومنهم من قال: إنه سنة لمن يقوم الليل؛ لأنه يحتاج إلى راحة حتى ينشط لصلاة الفجر. ومنهم من قال: إنه شرط لصحة صلاة الفجر، وأن من لم يضطجع بعد الركعتين فصلاة الفجر باطلة. وهذا ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع بعدهما»، فأمر بالاضطجاع. لكن يجاب بما يلي: أولا: هذا الحديث ضعيف، فلم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمره، بل صح من فعله. ثانيا: ما علاقة هذا بصلاة الفجر! ولكن يدلك هذا على أن الإنسان مهما بلغ في العلم فلا يسلم من الخطأ. وأصح ما قيل في هذا: ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو التفصيل، فيكون سنة لمن يقوم الليل؛ لأنه يحتاج إلى أن يستريح، ولكن إذا كان من الذين

الاختلاف في حديث ابن عباس فيما يقرأ في ركعتي الفجر

إذا وضع جنبه على الأرض نام؛ ولم يستيقظ إلا بعد مدة طويلة؛ فإنه لا يسن له هذا؛ لأن هذا يفضي إلى ترك واجب" (¬1). ا. هـ. قال أبو محمد: وقع الاختلاف في حديث ابن عباس فيما يقرأ في ركعتي الفجر، والاختلاف إنما وقع فيما يقرأ في الركعة الثانية فقد أخرج مسلم من طريق: أبي خالد الأحمر، عن عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يسار، عن ابن عباس، - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]» (¬2). هذا لفظ أبي خالد الأحمر، وقد خالفه كل من: عبد الله بن نمير، ويعلى بن عبيد الطنافسي، وزهير بن معاوية، ومروان بن معاوية الفزاري، وعيسى بن يونس، كلهم عن عثمان بن حكيم به .. لكن جعلوا الآية الثانية {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران:52]، والصواب رواية الجماعة. ¬

(¬1) الشرح الممتع (4/ 70). (¬2) صحيح مسلم (727).

الموضع الصحيح للضجعة: بعد سنة الصبح

والموضع الصحيح للضجعة: بعد سنة الصبح، وقد أخطأ مالك رحمه الله فجعلها قبل الأذان، وغلّطه الحفاظ. قال في التمهيد: "حدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن» ... حديث رابع لابن شهاب عن عروة مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن». قال: "إلى هاهنا انتهت رواية يحيى في هذا الحديث، وتابعه القعنبي وجماعة الرواة للموطأ، وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عن ابن شهاب بإسناده هذا فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، لا بعد الوتر، وذكر بعضهم فيه عن ابن شهاب أنه كان يسلم من كل ركعتين في الإحدى عشرة ركعة، ومنهم من لم يذكر ذلك، وكلهم ذكر اضطجاعه بعد ركعتي الفجر في هذا الحديث، وزعم محمد بن يحيى وغيره أن ما ذكروا من ذلك هو الصواب دون ما قاله مالك.

قال أبو عمر: لا يدفع ما قاله مالك من ذلك لموضعه من الحفظ والإتقان وثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه" (¬1). وقال ما نصه: "وقد ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع على ما جاء في هذا الحديث، وزعموا أن الاضطجاع سنة في هذا الموضع، واحتجوا بحديث ابن شهاب هذا عن عروة عن عائشة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن» هكذا قال كل من روى هذا الحديث عن ابن شهاب إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع في هذا الحديث بعد الوتر" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) التمهيد (8/ 121). (¬2) التمهيد (8/ 121).

فصل في وقت قضاء سنة الفجر

فصل في وقت قضاء سنة الفجر فإذا فاتت سنة الصبح حتى أقيمت الصلاة استحب له قضاؤها بعدها. قال في المغني ما نصه: "فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى، وقال: إن صلاهما بعد الفجر أجزأ، وأما أنا فأختار ذلك. وقال عطاء، وابن جريج، والشافعي: يقضيهما بعدها؛ لما روي عن قيس بن قهد - رضي الله عنه - قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر، فقال: «ما هاتان الركعتان يا قيس؟» قلت: يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان». رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي. وسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى سنة الظهر بعد العصر، وهذه في معناها، ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف. وقال أصحاب الرأي: لا يجوز؛ لعموم النهي، ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس». رواه الترمذي، وقال: "لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن عاصم".

قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "وهو ثقة، أخرج عنه البخاري". وكان ابن عمر يقضيهما من الضحى. وحديث قيس مرسل، قاله أحمد، والترمذي؛ لأنه يرويه محمد بن إبراهيم عن قيس، ولم يسمع منه، وروي من طريق يحيى بن سعيد عن جده، وهو مرسل أيضا، ورواه الترمذي، قال: قلت يا رسول الله: إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر. قال: «فلا إذاً» .. وهذا يحتمل النهي. وإذا كان الأمر هكذا كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن؛ لنخرج من الخلاف، ولا نخالف عموم الحديث، وإن فعلها فهو جائز؛ لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز. والله أعلم" (¬1).ا. هـ ... قال أبو محمد: وقد أخرج الترمذي من طريق عمرو بن عاصم قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس». ¬

(¬1) المغني (2/ 89).

ثم قال بعده: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روي عن ابن عمر: أنه فعله، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ولا نعلم أحداً روى هذا الحديث عن همام بهذا الإسناد نحو هذا إلا عمرو بن عاصم الكلابي، والمعروف من حديث قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» (¬1) ا. هـ. والأقرب أن المحفوظ السياق الأخير كما قال الترمذي، وأما فعل ابن عمر فقد أخرجه البيهقي بسند صحيح من طريق حماد، عن أيوب، عن نافع، «أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان لا يصلي من أول النهار حتى تزول الشمس» قال: فصلى يوما فسئل عن ذلك، وذلك حين طلعت الشمس، فقال: «إني لم أكن صليت ركعتي الغداة (¬2)». وهذا إسناد صحيح في أثر عزيز والحمد لله على توفيقه. ¬

(¬1) سنن الترمذي (423). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (4234).

ثم أتبعه البيهقي بما رواه من طريق ابن بكير، ثنا مالك، أنه بلغه: «أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فاتته ركعتا الفجر فصلاهما إن طلعت الشمس». قال مالك: "وبلغني عن القاسم بن محمد مثل ذلك رواه سفيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) السنن الكبرى للبيهقي (4235).

فصل فيما تستحب القراءة به في صلاة الصبح يوم الجمعة

فصل فيما تستحب القراءة به في صلاة الصبح يوم الجمعة ومما يستحب قراءته في صلاة الصبح - إن كان يوم الجمعة - ما أخرجه البخاري ومسلم من طريق سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن هو ابن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر {الم تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}» (¬1). فائدة: روى البغوي في شرح السنة من طريق ابن مصقلة، ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا المحاربي، يوسف بن أسباط، ثنا المنهال بن الجراح، عن عبادة بن نُسَيّ، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: «يا معاذ، إذا كان في الشتاء، فغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس، ولا تملهم، وإذا كان الصيف، فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير، والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا» (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح البخاري (891)، وصحيح مسلم (880). (¬2) شرح السنة (356).

رواه البغوي هكذا مختصراً، ورواه في حلية الأولياء من طريق: عبد الله بن وهب، حدثني أبو سعيد الأشج به .. مطولاً، ولفظه: «يا معاذ، إذا كان الشتاء فغلس بالفجر، وأطل القراءة على قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وصل الظهر إذا زالت الشمس, وصل العصر والشمس بيضاء نقية، وصل المغرب إذا غابت الشمس وتوارت بالحجاب, وصل العشاء وأعتم بها؛ فإن الليل طويل، فإذا كان الصيف فأسفر بالفجر؛ فإن الليل قصير، والناس ينامون، فأسفر لهم حتى يدركوها, وصل الظهر حين تبيض الشمس ويهب الريح؛ فإن الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركونا، وصل العصر والمغرب والعشاء في الشتاء والصيف على ميقات واحد» غريب من حديث عبادة عن عبد الرحمن لم نكتبه إلا من حديث المنهال بن جراح وهو جزري (¬1). والمنهال بن الجراح صوابه الجراح بن منهال، قلبه بعض الرواة. ¬

(¬1) حلية الأولياء (8/ 249).

قال في اللسان ما نصه: "وقال ابن الجوزي: قلب ابن إسحاق اسمه فسماه المنهال بن الجراح، قلت (ابن حجر): وكذا قلبه يوسف بن أسباط، وقع ذلك في كتاب الطهارة من شرح السنة للبغوي" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: صوابه في كتاب الصلاة كما سقناه أعلاه، والجراح واهي الحديث، لا يشتغل بحديثه. ¬

(¬1) لسان الميزان (2/ 427).

فصل في المراد بالأربع في حديث «ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار»

فصل في المراد بالأربع في حديث «ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار» قال ابن القيم في الهدي: وأما حديث نعيم بن همار - رضي الله عنه -: «ابنَ آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار أكْفِك آخرَه»، وكذلك حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وأبي ذر - رضي الله عنه - - فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها" (¬1). قال في النيل: "وقد قيل: يحتمل أن يراد بها فرض الصبح وركعتا الفجر؛ لأنها هي التي في أول النهار حقيقة، ويكون معناه: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله»، قال العراقي: "وهذا ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد (348). (¬2) نيل الأوطار (3/ 79).

قلت: وما قال أبو العباس أقرب وهو موافق لما روى مسلم في صحيحه من طريق بشر بن مفضل، عن خالد، عن أنس بن سيرين، قال: سمعت جندب بن عبد الله، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم» (¬1). فهناك كفاية، وهنا حفظ، والسبب هنا شهود صلاة الصبح؛ فكذا هناك. فإن قيل: فأين اشتراط سنة الصبح في هذا الخبر؟ فالجواب: أن ألفاظ الشارع تحمل على الكمال والتمام، فمن صلاهما فهو أولى أن يكون في ذمة الله، وهو ما وقع في حديث نعيم بن همار وقد أخرجه أحمد قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن نعيم بن همار، عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يقول: يا ابن آدم، اكفني أول النهار بأربع ركعات، أكفك بهن آخر يومك» (¬2). وهذا إسناده صحيح؛ نعيم بن همار عند الجمهور صحابي. ¬

(¬1) صحيح مسلم (657). (¬2) مسند الإمام أحمد (17390).

وأخرجه أبو يعلى من طريق يزيد بن هارون، بهذا الإسناد (¬1). وروي من مسند نعيم بن همار نفسه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويشهد له حديث أبي الدرداء عند أحمد، وإسناده منقطع. وحديث أبي ذر وأبي الدرداء عند الترمذي، وقال: "حديث حسن غريب" (¬2). والحديث أصله ثابت وله طرق. ¬

(¬1) مسند أبي يعلى (1757). (¬2) سنن الترمذي (475).

فصل في الحث على أذكار طرفي النهار

فصل في الحث على أذكار طرفي النهار وينبغي الحرص على الإتيان بالأذكار الثابتة في الصبح، وهو: من طلوع الفجر إلى أول النهار؛ والمساء، وهو: من العصر إلى أول الليل على التحقيق، وبسطنا الكلام على ذلك في النتاج. وهذه الأذكار هي زادك ومزادك فأين تذهب عنه وكيف تلهو عنها، وإنه ليطول عجبي من مسلم رضي بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً، كيف يلتفت إلى أسباب أخرى ضعيفة من عمل الخلق، وكثير منها سراب، ويبالغ في التعلق بها فيوكل إليها، ويغفل عن أعظم الأسباب وأقواها، وهو التوكل على الحي الذي لا يموت، ويغفل عن الإكثار من ذكره ودعائه واللجوء إليه!! قال ابن القيم في الوابل الصيب في فضائل الذكر: "السابعة عشرة: أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.

وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي .. أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ... أو كلاماً هذا معناه" (¬1).ا. هـ ¬

(¬1) الوابل الصيب (1/ 42).

جملة الأذكار الثابتة التي تقال طرفي النهار

وهذه جملة الأذكار الثابتة التي تقال طرفي النهار: 1) قراءة آية الكرسي: لما أخرج ابن حبان: حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني ابن أبي بن كعب، أن أباه أخبره، أنه كان لهم جرين فيه تمر، وكان مما يتعاهده فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت، جن أم إنس؟، فقال: جن، فقلت: ناولني يدك، فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن، فقال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم من هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟، قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، قلت: فما الذي يحرزنا منكم؟، فقال: هذه الآية، آية الكرسي، قال: فتركته. وغدا أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صدق الخبيث (¬1)». ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (784). وإسناده لا بأس به. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (7/ 108) حديث (109) من طريق العباس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه الوليد، عن الأوزاعي، به .. ، وأخرجه البغوي في شرح السنة (1197) من طريق أبي أيوب الدمشقي عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي به .. ، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (960)، وأخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير كما في النكت الظراف (1/ 38)، وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 765).

وعند النسائي في عمل اليوم والليلة (¬1)، والحاكم (¬2) من طريق حرب بن شداد، قال: حدثني يحي بن أبي كثير، قال: حدثنا الحضرمي بن لاحق التميمي، قال: حدثني محمد بن أبي بن كعب، قال: «كان لجدي جرن من تمر فجعل يجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم، فسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال: من أنت؟ أجن أم إنس؟ قال: لا بل جن، قال: أعطني يدك، فإذا يد كلب وشعر كلب، قال: هكذا خلق الجن، قال: قد علمت الجن، ما فيهم رجل أشد مني، قال: ما شأنك؟ قال أنبئت أنك رجل تحب الصدقة، فأحببنا أن نصيب من طعامك، قال: ما يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة البقرة: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] إذ قلتها حين تصبح أجرت منا إلى أن تمسي، وإذا قلتها حين تمسي أجرت منا إلى أن تصبح، فغدا أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبره قال: «صدق الخبيث». ¬

(¬1) عمل اليوم والليلة (960). (¬2) المستدرك (2064).

2) ومنها قراءة آخر آيتين من سورة البقرة: في المساء حسبُ؛ لما أخرج الشيخان من غير وجه عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه» (¬1). قال عبد الرحمن: فلقيت أبا مسعود وهو يطوف بالبيت فسألته فحدثنيه. 3) ما روى مسلم من طريق إبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله لا إله إلا الله، وحده لا شريك له» قال: أراه قال فيهن: «له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر» وإذا أصبح قال ذلك أيضا: «أصبحنا وأصبح الملك لله ..» (¬2). ¬

(¬1) البخاري (4008)، ومسلم (808). (¬2) مسلم (2723).

4) سيد الاستغفار، وهو ما أخرجه البخاري من طريق الحسين - ابن ذكوان المعلم - حدثنا عبد الله بن بريدة، قال: حدثني بشير بن كعب العدوي، قال: حدثني شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، قال: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة» (¬1). 5) ما أخرجه الترمذي في جامعه من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، قال: سمعت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ»، وكان أبان، قد أصابه طرف فالج، فجعل الرجل ينظر ¬

(¬1) البخاري (6306) وبوب عليه: باب أفضل الاستغفار، وهو كاشف لمعنى سيد الاستغفار، وكتاب البخاري أعظم كتب الإسلام بعد كتاب الله، فلله دره رحمه الله.

إليه، فقال له أبان: ما تنظر؟ أما إن الحديث كما حدثتك، ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره (¬1). وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب". 6) ما أخرجه أحمد من طريق شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت عمرو بن عاصم، يحدث، أنه سمع أبا هريرة، يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: «قُلْ: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .. «أَوْ قَالَ: «اللهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ (¬2)». ¬

(¬1) جامع الترمذي (3388)، وقد بسطت الكلام عليه وذكرت طرقه في نتاج الفكر، فأغنى عن إعادته هنا. (¬2) مسند أحمد (7961). وأخرجه الطيالسي (9) و (2582) والدارمي (2689)، والبخاري في الأدب المفرد (1202)، وفي خلق أفعال العباد (139) و (584)، والترمذي (3392)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (795)، وابن حبان (962)، وغيرهم .. من طرق عن شعبة، به، قال الترمذي: "حسن صحيح"، والحديث له شواهد.

وضبط» شرِكه «بكسر فسكون، وضبط بفتحات: أي حبائل الشيطان ومصائده واحدها: شركة، قاله في النهاية (¬1). وسألت شيخنا الإمام ابن باز فقال: الضبط الأول أظهر. 7) ما رواه أحمد من طريق: شعبة، عن أبي عقيل، قاضي واسط، عن سابق بن ناجية، عن أبي سلام، قال: مر رجل في مسجد حمص، فقالوا: هذا خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقمت إليه، فقلت: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يتداوله بينك وبينه الرجال، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). ¬

(¬1) ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 467). (¬2) مسند الإمام أحمد (18967). وأخرجه أبو داود (5072)، والنسائي في الكبرى (9832) وهو في عمل اليوم والليلة (4) والطبراني في الدعاء (302)، والبيهقي في الدعوات الكبير (28)، والبغوي في شرح السنة (1324).

8) ما أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن أبزى - رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ، وَإِذَا أَمْسَى: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (¬1) 9) ما أخرجه أحمد من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: اللهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، وفي بعض ألفاظه: «وَإِذَا أَمْسَى» قَالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ» (¬2). ولفظ ابن ماجه من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهيل به .. : «إِذَا أَصْبَحْتُمْ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». ¬

(¬1) مسند أحمد (15360). وأخرجه النسائي في الكبرى (9831)، وفي عمل اليوم والليلة. (¬2) مسند أحمد (8649). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1199)، وأبو داود (5068)، وابن ماجه (3868)، والترمذي (3391)، والنسائي (564)، وابن حبان (965)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (35)، والبغوي (1325) من طرق عن سهيل بن أبي صالح، به ..

ولفظه في الأدب المفرد من طريق وهيب قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». قال أبو محمد: وهو بهذا أصح، والأول فيه قلب. والله أعلم. 10) ما رواه البخاري ومسلم من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْر». لفظ مسلم (¬1). ¬

(¬1) البخاري (6403)، ومسلم (2691).

11) ما رواه مسلم من طريق سهيل، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ: حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» (¬1). 12) ما رواه مسلم من طريق كريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن جويرية - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (¬2). 13) ما أخرجه مسلم من طريق يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم السلمية أنها ¬

(¬1) مسلم (2692). (¬2) مسلم (2726).

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» (¬1). ثم أتبعه بقوله: "قال يعقوب: وقال القعقاع بن حكيم: ذكوان أبي صالح، عن أبي هريرة سأنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال: «أَمَا لَوْ قُلْتَ، حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ» (¬2). ووقع في رواية أحمد من طريق يزيد بن هارون عن هشام عن سهيل: «مَنْ قَالَ إِذَا أَمْسَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ..» فذكره .. وفيه قصة (¬3). وفي مسند أبي يعلى الموصلي: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَدَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَقِيَهُ فَقَالَ: «مَا لِي لَمْ أَرَكَ؟» قَالَ: مَا بِتُّ الْبَارِحَةَ، لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ، قَالَ: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ¬

(¬1) مسلم (2708). (¬2) مسلم (2709)، وإنما سُقتُ الطريق الأولى؛ لتتبين الطريق الأخرى الصريحة في كونه من أذكار المساء. (¬3) مسند أحمد (7898).

الصباح محفوظ في ذكر «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»

مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ». قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ فِي الْحَدِيثِ يَرْفَعُهُ: «فَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ لَمْ تَضُرَّهُ» (¬1). وفيه التصريح بذكرها في الصباح، قال في المقصد العلي في زوائد الموصلي: قلت: هو في الصحيح وليس فيه: «حين يصبح» (¬2). 14) ما أخرجه أبو داود من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي أسيد البراد، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه - رضي الله عنه - أنه قال: «خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (¬3). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى الموصلي (6688). (¬2) المقصد العلي في زوائد الموصلي (1649). (¬3) سنن أبي داود (5082)، وأخرجه النسائي (5430) من طريق عبد الله بن سليمان، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني بنحوه .. قال في الإصابة (4/ 65) في ترجمة عبد الله بن خبيب ما نصه: "وأخرجه البخاري في «التاريخ»، والنسائي من طريق زيد بن أسلم، عن معاذ، وأورده من وجهين عن معاذ بن عبد الله، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، وله عن عقبة طرق أخرى عند النسائي وغيره مطولا ومختصرا، ولا يبعد أن يكون الحديث محفوظا من الوجهين، فإنه جاء أيضا من حديث ابن عابس الجهني، ومن حديث جابر بن عبد الله الأنصاري" ا. هـ.

قال أبو محمد: والصحيح أن المعوذات من أذكار الصباح والمساء فالأخبار في ذلك أثبت. 15) ما أخرجه النسائي في الكبرى من طريق زيد بن الحباب، أخبرني عثمان بن موهب الهاشمي، سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة - رضي الله عنها -: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ (¬1)». 16) ما أخرجه أحمد في مسنده من طريق إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن أبي رهم السمعي، عن أبي أيوب ¬

(¬1) السنن الكبرى (10330)، وأخرجه البيهقي في الشعب (745) والضياء في المختارة (2319) من طريق زيد بن الحباب به .. وإسناده حسن كما قال في المختارة.

الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَالَهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَحَطَّ اللهُ عَنْهُ بِهَا عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَهُ اللهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ كَعَشْرِ رِقَابٍ، وَكُنَّ لَهُ مَسْلَحَةً مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ يَوْمَئِذٍ عَمَلًا يَقْهَرُهُنَّ، فَإِنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي، فَمِثْلُ ذَلِكَ» (¬1). وللحديث شاهد من حديث أبي عياش - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَانَ لَهُ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ بِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِذَا أَمْسَى مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ»، قَالَ: فَرَأَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مسند أحمد (23568)، وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير (3883). وإسناده حسن، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل الشام، وشيخه شامي.

فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا عَيَّاشٍ يَرْوِي عَنْكَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «صَدَقَ أَبُو عَيَّاشٍ (¬1)». وشاهد آخر أخرجه الترمذي من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلاَةِ الفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ إِلاَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ». هذا حديث حسن صحيح غريب (¬2). قلت: وفي إسناده اختلاف كثير، والصحيح أنه مرسل من مراسيل عبد الرحمن بن غنم. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (16583) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 381 - 382)، وأبو داود (5077)، والطبراني في الكبير (5141)، وفي الدعاء (331)، كلهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي عياش به .. (¬2) جامع الترمذي (3474).

الصحيح أنه لا تثبت «يحيي ويميت» في أذكار طرفي النهار، ولا تثبت في أي خبر

وهنا تنبيهان: أولهما: الصحيح أن هذا الذكر لا يثبت فيه «يحيي ويميت»، ولا تثبت في أي خبر، وقد قررت ذلك في نتاج الفكر. وثانيهما: حديث أبي ذر - رضي الله عنه - المذكور أخيراً - والصحيح إرساله - الذي فيه تقييد الذكر بصلاة الصبح جاء له شواهد من حديث أبي أمامة وغيره، وكلها متكلم فيها، والذي أرى ما دام الأمر فيه مجرد التقييد فلا ينبغي التشديد في أحوال الرواة، وهذه طريقة في الجملة مسلوكة عند المتقدمين، قال في التمهيد ما نصه: "لم يخرج مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة في موطئه حكماً، واستغنى عنه في الأحكام بالزهري ومثله، ولم يكن عنده إلا في عداد الشيوخ الثقات، وإنما ذكر عنه في موطئه من المسند حديثا واحداً " (¬1) ا. هـ. وقال أيضا:"هشام بن أبي هشام هذا هو هشام بن زياد، أبو المقدام، وفيه ضعف، ولكنه محتمل فيما يرويه من الفضائل " (¬2) ا. هـ. وكذا صنع البخاري مع الأويسي لم يخرج له في الأحكام. وعلى كل حال من أتى بهذا الذكر بعد الصلاتين: الصبح والمغرب فقد عمل بالروايتين، والحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) التمهيد (13/ 48). (¬2) التمهيد (16/ 154).

فصل يسن الاشتغال بالذكر بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس

فصل يسن الاشتغال بالذكر بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وربما تحدث عليه الصلاة والسلام بالشيء للحاجة كما روينا في صحيح البخاري تحت باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، من طريق عوف حدثنا أبو رجاء، حدثنا سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا» قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ .. (¬1) «الحديث .. ويسن أن يشتغل بالذكر بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس؛ لما روينا في صحيح مسلم من طريق سماك بن حرب، قال: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، «كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صلى الله عليه وسلم -» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (7074). (¬2) صحيح مسلم (2322).

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه، قال في المرقاة: عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ «أي: الصبح» حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ «أي: طلوعاً حسناً كما سبق» فَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ «أي: لصلاة الإشراق، وهو مبدأ صلاة الضحى، أو معناه قام للانصراف، قال النووي: فيه استحباب الذكر بعد الصبح، وملازمته مجلسها ما لم يكن عذر، قال القاضي عياض: وكان السلف يواظبون على هذه السنة، ويقتصرون في ذلك على الذكر والدعاء حتى تطلع الشمس.» وَكَانُوا «أي: أصحابه» يَتَحَدَّثُونَ «أي: فيما بين الوقتين، وهو الأظهر، أو في غيره أو مطلقاً غير مقيد بوقت دون وقت» فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ «أي: على سبيل المذمة، أو بطريق الحكاية لما فيها من فائدة وغيره، من جملته أنه قال واحد: ما نفع أحداً صنمُه مثل ما نفعني، قالوا: كيف هذا؟ قال: صنعته من الحيس، فجاء القحط، فكنت آكله يوما فيوما، وقال آخر: رأيت ثعلبين جاءا وصعدا فوق رأس صنم لي وبالا عليه فقلت: أرب يبول الثعلبان برأسه فجئتك يا رسول الله! وأسلمت.» فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صلى الله عليه وسلم -». رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: «يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ «أي: يقرأونه، أو يطلب بعضهم من بعض قراءته.

في الشمائل: عن جابر بن سمرة، قال: «جَالَسْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ» ومن المعلوم أن في مجلسه الشريف لا يتناشد إلا الشعر المنيف المشتمل على التوحيد والترغيب والترهيب، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشعر ابن رواحة (¬1)، يقول: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقد قال - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: «إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل» أي: من نعيم الدنيا لقوله بعد ذلك: نعيمك في الدنيا غرور وحسرة وعيشك في الدنيا محال وباطل (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) البيت للبيد بن الأعصم، وليس من شعر ابن رواحة. (¬2) مرقاة المفاتيح (7/ 2993).

وقد قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: «أن عائشة كانت إذا طلعت الشمس نامت نومة الضحى» (¬1). قال الذهبي في سيره: قال الوليد بن مسلم: «رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله، حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه» (¬2).ا. هـ. ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (25451) (¬2) سير أعلام النبلاء (7/ 114).

فصل في مشروعية الاشتغال في هذا الوقت بما فيه المصلحة

فصل في مشروعية الاشتغال في هذا الوقت بما فيه المصلحة وربما اشتغل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت بالشيء للحاجة واستباقاً لحر النهار. وقد قال البخاري في باب التحريض على القتال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، قال: سمعت أنسا - رضي الله عنه -، يقول: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: «نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا» (¬1). وقد يشتغل - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت بما فيه مصلحة للناس من قضاء حاجة أو نحو ذلك. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2834). وأعاده بسنده ومتنه سواء (4099) في باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، وقلما يعيد البخاري الحديث بالسند نفسه، ولا يعيد الحديث غالبا إلا بإيراده من طريق آخر في شيوخه أو من فوقهم!.

قال أحمد في مسنده: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: «كانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ، فَمَا يُؤْتَى بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا، فَرُبَّمَا جَاءُوهُ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهَا (¬1) « بأبي هو وأمي!! ¬

(¬1) مسند أحمد (12401).

فصل لا يصح حديث مرفوع في فضل شهود صلاة الصبح ثم اتصاله بالذكر حتى تطلع الشمس ثم صلاة ركعتين

فصل لا يصح حديث مرفوع في فضل شهود صلاة الصبح ثم اتصاله بالذكر حتى تطلع الشمس ثم صلاة ركعتين وقد جاءت أخبار مرفوعة في فضل شهود صلاة الصبح، ثم اتصاله بالذكر حتى تطلع الشمس، ثم صلاة ركعتين، وذلك من حديث أنس وأبي أمامة وابن عمر - رضي الله عنهم -، وغيرها .. وكلها أخبار ضعاف لا تقوم بها حجة. والعمدة في ذلك - أعني الاشتغال بالذكر والجلوس في المصلى - على ما نقل من سنته الفعلية عليه الصلاة والسلام وسنة أصحابه، وما نقل عن السلف، وأما الفضائل في ذلك - فكما تقدم - ضعيفة. ومما يدل على ترك الصلاة في هذا الوقت منه عليه الصلاة والسلام، مع إباحة ذلك - ما أخرجه أحمد من طريق قتادة، عن القاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - رحمه الله -» أَنّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى عَلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ - أَوْ دَخَلَ مَسْجِدَ قُبَاءَ - بَعْدَمَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا هُمْ يُصَلُّونَ فَقَالَ: «إِنَّ صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ كَانُوا يُصَلُّونَهَا إِذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ» (¬1). ¬

(¬1) مسندأحمد (19347).

السنة في هذا الوقت الاشتغال بالذكر حسب دون الصلاة

وسيأتي ذكر هذا الخبر في صلاة الضحى إن شاء الله جل شأنه. ومما يدل على ما قررنا أيضا من الاشتغال بالذكر حسب دون الصلاة إذا طلعت الشمس: ما أخرجه مسلم من طريق عن كريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن جويرية - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ (¬1)». ولم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تصلي ركعتين أو يرشدها إلى ذلك، مع تيسره وسهولته، ولم يكن ذلك مشهوراً عندهم، والأمر في هذا ظاهر بحمد الله. وتقدم ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: «أن عائشة كانت إذا طلعت الشمس نامت نومة الضحى» (¬2). فأين أهل بيته عن هذا الفضل لهاتين الركعتين بعد طلوع الشمس؟ ¬

(¬1) صحيح مسلم (2726). (¬2) مصنف ابن ابي شيبة (25451).

فصل في النهي عن التنفل بعد الصبح حتى ترتفع الشمس

فصل في النهي عن التنفل بعد الصبح حتى ترتفع الشمس وأما ما بعد صلاة الصبح فوقت نهي عن الصلاة النافلة التي لم يجد لها سبب (¬1)، والأخبار في ذلك مستفيضة عنه عليه الصلاة والسلام. قال في التمهيد: "روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن عفراء، وغيرهم .. وهي أحاديث صحاح، لا مدفع فيها، وإنما اختلف العلماء في تأويلها وخصوصها وعمومها لا غير، والقول بعموم هذه الأخبار الصحاح على حسب ما ذهب إليه مالك أولى ما قيل في هذا الباب، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسعد، ومعاذ بن عفراء، وابن عباس، وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدِّرة (قلت: بوزن علة) لأنه لا يستجيز ذلك من أصحابه إلا بصحة ذلك عنده" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (8/ 330). (¬2) التمهيد (13/ 42).

وهذا أول أوقات النهي عن الصلاة - عند البسط والتفصيل - والثاني من حين تطلع حتى ترتفع - قيد (قدر) رمح - عن الأفق في نظر الرائي، وذلك يقدر ببضع دقائق في ساعات الزمن الحالي بنحو عشر دقائق. قال البخاري في صحيحه: "باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس" .. ثم روى من طريق هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها» (¬1). وقال: حدثني ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب». وروى أيضا من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عطاء بن يزيد الجندعي، أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري (583). (¬2) صحيح البخاري (586).

وفي صحيح مسلم من طريق موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - يقول: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» (¬1)، ونحوه من حديث عمرو بن عبسة (¬2). والأحاديث في هذا الباب كثيرة .. قال ابن رجب في فتح الباري: "والوقت الثاني: أوله: أخذ الشمس في الطلوع، وهو بدو حاجبها، كما في حديث ابن عمر. وآخره: أن ترتفع الشمس، كما في حديث ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما. وجاء من حديث ابن مسعود مرفوعا: «حتى ترتفع وتبيض». خرجه الهيثم بن كليب بإسناد فيه انقطاع. ¬

(¬1) صحيح مسلم (831). (¬2) صحيح مسلم (832).

وجاء في حديث كعب بن مرة أو مرة بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين». خرجه الإمام أحمد، وفي إسناده اختلاف. وخرجه الإسماعيلي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بإسناد حديثه الذي خرجه البخاري هاهنا، ولكن متنه بهذا الإسناد منكر غير معروف. وفي مسند الإمام أحمد عن سعيد بن نافع، قال: رآني أبو بشير الأنصاري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس، فعاب ذلك علي، ونهاني، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلوا حتى ترتفع الشمس؛ فإنها تطلع في قرني الشيطان». وسعيد بن نافع، روى عن جماعة من الصحابة، وذكره ابن حبان في ثقاته، وخرج النسائي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل من ساعة أقرب من الله؟ قال: «نعم؛ جوف الليل الآخر، فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس، فما دامت كأنها حجفة (¬1)، حتى تنتشر، ثم صل ما بدا لك «وذكر الحديث ... ¬

(¬1) قلت: يعني مثل الترس من الجلد.

فائدة

وخرجه أيضا من حديث أبي أمامة الباهلي، عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: قال: «فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها». وخرجه أبو داود، وعنده: «ثم أقصر حتى تطلع الشمس قيد رمح، أو رمحين». وقال سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين: تحرم الصلاة إذا طلعت الشمس حتى تكون قيد نخلة، وتحرم إذا تغيرت حتى تغرب" (¬1).ا. هـ. والنظر للشمس حينئذ مباح فإنه لا يضر لأنها لم تشتد فهي ضعيفة حينئذ ويتعلق بالنظر لها حكم شرعي، أما إذا تعالت وارتفعت فقد تضر بالعين فلا يجوز النظر لها .. فائدة: روى البغوي من طريق عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: تعشى أبو قتادة فوق ظهر بيت لنا، فرمي بنجم، فنظرنا إليه، فقال: «لا تتبعوه أبصاركم فإنا قد نهينا عن ذلك» (¬2). إسناده صحيح، ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (5/ 43). (¬2) البغوي (1155).

وهذا النهي للكراهة لا للتحريم؛ فقد أخرج مسلم من طريق ابن شهاب، حدثني علي بن حسين، أن عبد الله بن عباس، قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية، إذا رمي بمثل هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته .. «الحديث .. (¬1). ولم ينههم عليه الصلاة والسلام ¬

(¬1) صحيح مسلم (2229).

فصل

فصل والذكر له أحكام وضوابط بسطت الكلام عليها في كتابي (نتاج الفكر في ضوابط الذكر) فارجع إليه .. ويتأكد أن يأتي بالأذكار المشروعة في وقت الصبح، وقد صح منها بضعة عشر حديثا تقدم ذكرها، وهي متأكدة على المرء؛ لعظم الثواب، وشدة الحاجة.

ثانيا: من ارتفاع الشمس إلى زوالها

ثانيا: من ارتفاع الشمس إلى زوالها o فصل: في حل الصلاة بعد ارتفاع الشمس، ومشروعية سنة الضحى o فصل: في تأكيد عمارة وقت الضحى بالذكر؛ لما يكثر فيه من الغفلة o فصل: في دعاء الني - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يبارك لها في بكورها o فصل: في استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن كان بالمدينة o فصل: لا ينبغي ترك ما يصلح النفس ويعدل المزاج من الانتجاع والتنزه مع ملازمة التقوى o فصل: في استحباب السفر بكرة الخميس o فصل: في استحباب قضاء ما فاته من ورد من صلاة أو قراءة قرآن أو ذكر o فصل: في الكلام على النوم في أول النهار o فصل: في بعض سنن يوم الجمعة. o فصل في حكم الاغتسال يوم الجمعة o فصل في إشكال في قول ابن عباس - رضي الله عنهما - «عجلت الرواح حين زاغت الشمس». o فصل في جواز السفر يوم الجمعة ما لم تزل الشمس أو يؤذن الأذان الذي بعده الخطبة o فصل: لا تجب على المسافر جمعة ولو كان في مصر o فصل: في عدد ساعات النهار والليل والأصل في ذلك o فصل: في وقت القيلولة o فصل في وقت النهي عن النافلة منتصف النهار قبل الزوال

فصل في حل الصلاة بعد ارتفاع الشمس، ومشروعية سنة الضحى

فصل في حل الصلاة بعد ارتفاع الشمس، ومشروعية سنة الضحى ويحل حينئذ وقت الصلاة، وهو أول وقت صلاة الضحى، وأقلها ركعتان، ولا حد لأكثرها، وصفتها مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين، ولا يصح في خبر أنه سرد عليه الصلاة والسلام في النهار من النوافل أكثر من ركعتين، وأما ما أخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب، تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: «من هذه؟» فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال: «مرحباً بأم هانئ»، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» قالت أم هانئ: وذاك ضحى (¬1). لفظ البخاري - فالمراد يسلم من كل ركعتين كما روى أبو داود من طريق ابن وهب، حدثني عياض بن عبد الله، عن ¬

(¬1) صحيح البخاري (357).

مخرمة بن سليمان، عن كريب، مولى ابن عباس، عن أم هانئ بنت أبي طالب - رضي الله عنها - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين» (¬1). قال في التمهيد ما نصه: "وروى ابن وهب عن أم هانئ هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الضحى ثماني ركعات أنه كان يسلم في كل اثنتين منها، وهذا إسناد احتج به أحمد بن حنبل، قال أبو بكر الأثرم: قيل لأبي عبد الله بن حنبل: قد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل الظهر أربعاً فقال: وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى ثماني ركعات أفتراه أم لم يسلم فيها، قال أبو عبد الله: هذا حديث أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى ثمان ركعات حديث ثبت، قال أبو بكر: روي حديث أم هانئ من وجوه، لم يذكر فيها التسليم، ثم وجدته مفسراً على ما تأوله أبو عبد الله، حدثنا علي بن أحمد بن القاسم الباهلي، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عياض - يعني ابن عبد الله الفهري - عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، عن أم هانئ بنت أبي طالب» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى ثماني ركعات سلم من كل ركعتين» (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) سن أبي داود (1290). (¬2) التمهيد (13/ 187).

الأدلة على أن صلاة الضحى مسنونة كل يوم

وهي مسنونة كل يوم على أصح الأقوال. وفي الباب أدلة: منها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأبي الدرداء، وأبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاهم بصلاة ركعتين في الضحى، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر». ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ..»، قال: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». ومنها: حديث عمرو بن عبسة وفيه: «صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم .. « وقوله: مشهودة محضورة: أي تحضرها الملائكة، فهي أقرب إلى القبول وحصول الرحمة كما قال النووي (¬1). ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 116).

أفضل الأوقات لصلاة الضحى

قال أبو محمد: وهذا التعليل النبوي يقتضي استحباب المداومة عليها، وهذا ظاهر بحمد الله. وأفضل أوقاتها: أن تؤخر حتى تسخن الأرض من حر الشمس؛ لما روينا في صحيح مسلم من طريق أيوب، عن القاسم الشيباني، أن زيد بن أرقم، رأى قوما يصلون من الضحى، فقال: أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» (¬1). وكذا أخرجه أحمد وفي بعض ألفاظه عنده عن قتادة، عن القاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على مسجد قباء، أو دخل مسجد قباء، بعدما أشرقت الشمس، فإذا هم يصلون فقال: «إن صلاة الأوابين كانوا يصلونها إذا رمضت الفصال» (¬2). ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن القاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، أنه رأى قوما يصلون بعدما طلعت الشمس، فقال: «لو أدرك هؤلاء ¬

(¬1) صحيح مسلم (748). (¬2) مسند أحمد (19347).

السلف الأول علموا أن غير هذه الصلاة خير منها صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» (¬1). وهو أول وقت القيلولة، وسيأتي التنبيه على ذلك - إن شاء الله تعالى - في محله. ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (4832).

فصل في تأكيد عمارة وقت الضحى بالذكر؛ لما يكثر فيه من الغفلة

فصل في تأكيد عمارة وقت الضحى بالذكر؛ لما يكثر فيه من الغفلة وهذا الوقت - الضحى - تكثر فيه الغفلة، ويكثر فيه الانصراف والتشاغل، فتتأكد عمارته بالذكر وما يقرب إلى الله. قال ابن رجب في شرح الأربعين ما نصه: "معلوم أن الله عز وجل فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس مرات، بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها المؤقتة، وشرع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه ذكرا يكون لهم نافلة، والنافلة: الزيادة، فيكون ذلك زيادة على الصلوات الخمس، وهي نوعان: أحدهما: ما هو من جنس الصلاة، فشرع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها، أو بعدها أو قبلها وبعدها سننا، فتكون زيادة على الفريضة، فإن كان في الفريضة نقص، جبر نقصها بهذه النوافل، وإلا كانت النوافل زيادة على الفرائض. وأطول ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فشرع كل واحدة من هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة؛ لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر،

فشرع ما بين صلاة العشاء، وصلاة الفجر صلاة الوتر وقيام الليل، وشرع ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر صلاة الضحى. وبعض هذه الصلوات آكد من بعض فآكدها الوتر، ولذلك اختلف العلماء في وجوبه، ثم قيام الليل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه حضراً وسفراً، ثم صلاة الضحى، وقد اختلف الناس فيها، وفي استحباب المداومة عليها. وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة، وورد الترغيب أيضا في الصلاة عقيب زوال الشمس. وأما الذكر باللسان، فمشروع في جميع الأوقات، ويتأكد في بعضها، فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات، وأن يذكر الله عقيب كل صلاة منها مائة مرة ما بين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل. ويستحب أيضا الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما، وهما: الفجر والعصر، فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذان الوقتان - أعني وقت الفجر ووقت العصر - هما أفضل أوقات النهار للذكر؛ ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]، وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]، وقوله: {كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر: صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات. وقد قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة، ويليهما من أوقات الذكر الليل. ولهذا يذكر بعد هذين الوقتين في القرآن تسبيح الليل وصلاته. والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلمه، وتعليمه، والعلم النافع، كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل، ومن أصحابنا من رجح التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر. وسئل الأوزاعي عن ذلك، فقال: «كان هديهم ذكر الله، فإن قرأ فحسن». وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة، وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة: إنه أفضل من التلاوة حينئذ. والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصباح والمساء كثيرة جدا ... " (¬1) الخ كلامه رحمه الله. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (2/ 525).

فصل في السعي في طلب الرزق والمعاش في هذا الوقت

فصل في السعي في طلب الرزق والمعاش في هذا الوقت وهذا الوقت وقت للكسب والمعاش وطلب رزق الله، والنهوض بالكد وتحصيل ما يعود على النفس والعيال بالنفع في الدنيا والآخرة. قال العز بن عبد السلام ما نصه: "واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع؛ فلذلك انقسمت الشريعة إلى العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية، وإلى العبادات المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالزكاة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة، وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا، كالبياعات والإجارات، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة بالطاعات على الطاعات، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان ... " (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 77).

كان من هدي الأنبياء والصحابة الأكل والتكسب من عمل أيديهم

وروينا في صحيح البخاري من طريق عمرو بن يحيى، عن جده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (¬1). وقال ابن حبان في صحيحه: "ذكر البيان بأن الأنبياء لم تكن تأنف من العمل ضد قول من كره الكسب وحظره"، ثم روى من طريق يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجتني الكباث، فقال: «عليكم بالأسود، فإنه أطيب «فقلنا: وكنت ترعى الغنم؟ قال: «نعم، وهل من نبي إلا قد رعاها (¬2)». وقال أيضا: "ذكر الخبر المدحض قول من قال من المتصوفة بإبطال الكسب"، ثم روى من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان زكريا نجارا» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (2262). (¬2) صحيح ابن حبان (5143)، وحديث جابر في الصحيحين بسنده ومتنه، وإنما أردت التنبيه على ترجمة ابن حبان .. (¬3) صحيح ابن حبان (5142)، وأخرجه مسلم (2379) أيضا.

فائدة

وقال البخاري في صحيحه: "باب كسب الرجل وعمله بيده"، ثم روى من طريق معمر، عن همام بن منبه، حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن داود النبي عليه السلام، كان لا يأكل إلا من عمل يده» (¬1)، ومن طريق ابن شهاب، عن أبي عبيد، مولى عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، فيعطيه أو يمنعه» (¬2)، ومن طريق أبي الأسود، عن عروة، قال: قالت عائشة - رضي الله عنها -» كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم، وكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم» (¬3)، رواه همام، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة به. فائدة: قال أبو الفضل ابن حجر ما نصه: وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، وتعقبه النووي بحديث المقدام الذي في هذا الباب، وأن ¬

(¬1) صحيح البخاري (2073). (¬2) صحيح البخاري (2074). (¬3) صحيح البخاري (2071).

الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب؛ لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يوكل منه بغير عوض. قلت: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو أشرف المكاسب؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى، وخذلان كلمة أعدائه، والنفع الأخروي. قال ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل؛ لما ذكرنا. قلت: وهو مبني على ما بحث فيه من النفع المتعدي ولم ينحصر النفع المتعدي في الزراعة، بل كل ما يعمل باليد فنفعه متعد؛ لما فيه من تهيئة أسباب ما يحتاج الناس إليه. والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى. قال ابن المنذر: إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل، كما جاء مصرحا به في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قلت: ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب، بل من الله تعالى بهذه الواسطة، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو، وكسر النفس بذلك، والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير" (¬1) ا. هـ. قال أبو العباس في المجموع: وأما أرجح المكاسب فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به، وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم»، وفيما رواه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر»، وقد قال الله تعالى في كتابه {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقال سبحانه {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وهذا - وإن كان في الجمعة - فمعناه قائم في جميع الصلوات؛ ولهذا - والله أعلم - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يدخل المسجد أن يقول: «اللهم افتح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرج أن يقول: ¬

(¬1) فتح الباري (4/ 404).

«اللهم إني أسألك من فضلك»، وقد قال الخليل (¬1) - صلى الله عليه وسلم - {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17]، وهذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب، فالاستعانة بالله واللجوء إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم، ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء، وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره «من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» وقال بعض السلف: أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} الذاريات: [56 - 58]، فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا ¬

(¬1) يعني أن هذا من جملة ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في نصيحته لقومه، كما في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} [العنكبوت: 16 - 17] ..

يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئا عاما، لكن إذا عنّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير - صلى الله عليه وسلم - فإن فيها من البركة ما لا يحاط به، ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية" (¬1) ا. هـ. وقال ابن القيم في الهدي: "فإن قيل: فما أطيب المكاسب وأحلها؟ قيل: هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء: أحدها: أنه كسب التجارة. والثاني: أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة، كالحجامة ونحوها. والثالث: أنه الزراعة، ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثراً ونظراً. والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كسب الغانمين، وما أبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم؛ ولهذا اختاره الله لخير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 662).

من خالف أمري» وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شيء إلى الله، فلا يقاومه كسب غيره. والله أعلم" (¬1).ا. هـ. قلت: وهذا أصح الأقوال في أفضل المكاسب .. والله المستعان. وابن حجر أخذه من ابن القيم، أومن شيخه قبل ذلك!. والمقصود أن أصفياء الله من رسله، وخيرة عباده كانوا يعملون في التجارة أو الصناعة، أو يؤجرون أنفسهم ويصونونها عن التطلع لما في أيدي الخلق، وقد أخرج أبو داود من طريق عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة، قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع - ولم يقل قتيبة: القناع، والقناع: الطبق فيه تمر - ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هل أصبتم شيئا؟ أو أمر لكم بشيء؟» قال: قلنا: نعم، يا رسول الله، قال: فبينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس، إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح، ومعه سخلة تيعر، فقال: «ما ولدت يا فلان؟»، قال: بهمة، قال: «فاذبح لنا مكانها شاة»، ثم قال: «لا تحسبن» ولم يقل: ¬

(¬1) زاد المعاد (5/ 702).

«لا تحسبن أنَّا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة، ذبحنا مكانها شاة»، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا - يعني البذاء - قال: «فطلقها إذاً»، قال: قلت: يا رسول الله إن لها صحبة، ولي منها ولد، قال: «فمرها» يقول: عظها» فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك «فقلت: يا رسول الله، أخبرني، عن الوضوء، قال: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» (¬1). فقد كان له كسب واتجار عليه الصلاة والسلام، وكذلك أصحابه - رضي الله عنهم -، فقد أخرج البخاري من طريق حميد، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد الرحمن: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطا وسمنا، فأتى به أهل منزله، فمكثنا يسيرا أو ما شاء الله، فجاء وعليه وضر من صفرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مهيم»، قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، ¬

(¬1) سنن أبي داود (142).

قال: «ما سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب، - أو وزن نواة من ذهب - قال: «أولم ولو بشاة» (¬1). وعثمان رضي الله عنه تجارته معلومة مشهورة. وأخرج مسلم في صحيحه من طريق طلحة بن مصرف، عن خيثمة، قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - إذ جاءه قهرمان له فدخل، فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته» (¬2). وروى أحمد في مسنده من طريق موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: بعث إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني «فأتيته وهو يتوضأ، فصعد فيّ النظر ثم طأطأه، فقال: «إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال رغبة صالحة «قال: فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت ¬

(¬1) صحيح البخاري (2049). (¬2) صحيح مسلم (996).

العمل الوظيفي من كسب الرجل بيده

رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: «يا عمرو، نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح (¬1)». وبوب عليه ابن حبان بقوله: "ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله إذا قام بحقوقه فيه". فائدة: سمعت شيخنا ابن باز نور الله قبره وسئل عن العمل الوظيفي قال: هو من كسب الرجل بيده ¬

(¬1) مسند أحمد (17763).

فصل في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يبارك لها في بكورها

فصل في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يبارك لها في بكورها وقد روى الترمذي في جامعه من طريق يعلى بن عطاء، عن عمارة بن حديد، عن صخر الغامدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»، قال: «وكان إذا بعث سرية، أو جيشا، بعثهم أول النهار»، وكان صخر رجلا تاجرا، وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار، فأثرى وكثر ماله. وفي الباب عن علي، وابن مسعود، وبريدة، وأنس، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، حديث صخر الغامدي حديث حسن، ولا نعرف لصخر الغامدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث، وقد روى سفيان الثوري، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء هذا الحديث (¬1). ¬

(¬1) جامع الترمذي (1212).قال في العلل لابن أبي حاتم (6/ 40): وسمعت أبي يقول: يعلى ابن عطاء، هو طائفي، يكتب حديثه، وكان بالعراق؛ قال أبي: لا أعلم في: «اللهم بارك لأمتي في بكورها حديثا صحيحا». وفي حديث يعلى فيه: عمارة بن حديد، وهو مجهول، وصخر الغامدي، ليس كل أصحاب شعبة يقول: صخر الغامدي، إلا رجلان يقولان: عن صخر، وكانت له صحبة، ولا نعلم له حديث غير هذا الحديث .. ا. هـ. وقال أبو الفضل في شرح البخاري (6/ 114) وحديث» بورك لأمتي في بكورها «أخرجه أصحاب السنن، وصححه بن حبان من حديث صخر الغامدي - بالغين المعجمة - وقد اعتنى بعض الحفاظ بجمع طرقه، فبلغ عدد من جاء عنه من الصحابة نحو العشرين نفسا ا. هـ.

فصل في استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن كان بالمدينة

فصل في استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن كان بالمدينة فإن كان من أهل المدينة استحب له أن يزور مسجد قباء، ويصلي فيه ركعتين لا سيما يوم السبت؛ قال البخاري في صحيحه: "باب من أتى مسجد قباء كل سبت"، ثم روى حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت، ماشيا وراكبا» وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يفعله (¬1). قال في التمهيد: "في هذا الحديث أنه كان يأتي قباء يصلي في مسجدها، وهو أصح ما روي في ذلك وأوضحه، فعلى هذا يكون إعمال المطي إلى الثلاثة مساجد يعني به الرحلة والكلفة والمؤونة والمشقة؛ لئلا تتعارض الأحاديث" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1193)، وأخرجه مسلم (1399). (¬2) التمهيد (13/ 264).

قال ابن بطال: "قال أبو جعفر الداودي: إتيان النبى - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء يدل أن ما قرب من المساجد الفاضلة التي في المصر لا بأس أن يؤتى ماشيا وراكبا، ولا يكون فيه ما نهى أن تعمل المطي" (¬1) ا. هـ. فائدة: قال في التمهيد: "واختلف في معنى هذا الحديث، فقيل: كان يأتي قباء زائرا للأنصار، وهم بنو عمرو، وقيل: كان يأتي قباء يتفرج في حيطانها ويستريح عندهم، وقيل: كان يأتي قباء للصلاة في مسجدها تبركاً به لما نزل فيه أنه أسس على التقوى، وقال أبو عمر: ليس على شيء من هذه الأقاويل دليل لا مدفع له، وممكن أن تكون كلها أو بعضها. والله أعلم" (¬2) ا. هـ. قال أبو محمد: لا مانع منها كلها. وقد أخرج أحمد وغيره من طريق مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: حدثني محمد بن الكرماني، قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف، يقول: قال ¬

(¬1) شرح صحيح البخاري (3/ 182). (¬2) التمهيد (13/ 262).

أبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج حتى يأتي هذا المسجد - يعني مسجد قباء - فيصلي فيه كان كعدل عمرة» (¬1). وله شاهد أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي الأبرد، مولى بني خطمة، أنه سمع أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه -، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد (15981)، ولا بأس به. (¬2) أخرجه الترمذي (324) وابن ماجه (1411) قال الترمذي: وفي الباب عن سهل بن حنيف، حديث أسيد حديث حسن صحيح، ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من حديث أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، وأبو الأبرد اسمه زياد مديني. ا. هـ. والخبر ثابت.

فصل لا ينبغي ترك ما يصلح النفس ويعدل المزاج من الانتجاع والتنزه مع ملازمة التقوى

فصل لا ينبغي ترك ما يصلح النفس ويعدل المزاج من الانتجاع والتنزه مع ملازمة التقوى ولا ينبغي للعبد ترك ما يصلح نفسه ويعدل مزاجه ويعينه على الخير من الانتجاع في أوقات الربيع والبدو إلى أماكن الخضرة، مع ملازمة التقوى ونفع الخلق وتعليم الجهال، وإن أطعم الجياع وكسى العراة فذاك غاية الإحسان. والله المستعان .. قال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: " فأما الخروج إلى البادية أحيانا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه: فقد ورد فيه رخصة، ففي سنن أبي داود عن المقدام بن شريح، عن أبيه أنه قال أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدو؟ فقالت: «نعم إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة فأتى بناقة مخرمة «فقال: «اركبيها يا عائشة وارفقي؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع منه إلا شانه»، وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله. وورد النهي عنه، ففي المسند عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هلاك أمتي في اللبن»، قيل: يا رسول الله! ما اللبن؟ قال: «تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع وتبدون».

وفي إسناده: ابن لهيعة. وإن صح فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها، وهي مدة طويلة، يدعون فيها الجمع والجماعات. وعن أبي عبد الله الجدلي قال: فضل أهل الأمصار على أهل القرى كفضل الرجال على النساء، وفضل أهل القرى على أهل الكفور كفضل الأحياء على الأموات، وسكان الكفور كسكان القبور، وإن اللبن والعشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب. خرجه حميد بن زنجويه، وروى في إسناده عن مكحول معنى أوله. ونص أحمد في رواية مهنا على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزها؛ لما به من ترك الجماعة، إلا أن يخرج لعلة، يعني: إنه إذا خرج تداويا لعلة به جاز، كما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للعرنيين لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها. قال أبو بكر الأثرم: النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية والإقامة بها، فأما التبدي ساعة أو يوما ونحوه فجائز. انتهى. وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن. قال الجريري: كان الناس يبدون ها هنا في الثمار - ثمار قصيرة -، وذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره. وكان علقمة يتبدى إلى ظهر النجف.

وقال النخعي: كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية. يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي. وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة، فروى أبو نعيم بإسناده، عن أبي حرملة قال: اشتكى سعيد بن المسيب عينه فقيل له: يا أبا محمد! لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة ووجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: وكيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟ وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن؛ لكنه حد القليل باليوم ونحوه؛ وفيه نظر. وفي مراسيل أبي داود من رواية معمر، عن موسى بن شيبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية». وروى حميد بن زنجويه بإسناده، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم قال: بلغني أن من نزل السواد أربعين ليلة كتب عليها الجفا. وعن معاوية بن قرة قال: البداوة شهران فما زاد فهو تعرب" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (1/ 116).

فصل في استحباب السفر بكرة الخميس

فصل في استحباب السفر بكرة الخميس وإن أراد سفرا فيستحب له بكرة يوم الخميس؛ لما روى البخاري في صحيحه من طريق الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن كعب بن مالك - رضي الله عنه - كان يقول: «لقلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج، إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس» (¬1)، وبوب عليه ابن خزيمة: "باب استحباب الخروج إلى الحج يوم الخميس تبركا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في سفر إلا يوم الخميس". قال أبو محمد: وهذا عند الاختيار، وأما عند الحاجة فيخرج متى ما اقتضى الأمر الخروج، وقد خرج لحجه عليه الصلاة والسلام يوم السبت؛ ولهذا قال ابن القيم: "وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعا، وقال: قال ابن حزم: وكان خروجه يوم الخميس. قلت (ابن القيم): والظاهر أن خروجه كان يوم السبت" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2949). (¬2) زاد المعاد (2/ 97)، وردّ على ابن حزم في قوله، قال أبو محمد: ولابن حزم في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أوهام وتخاليط كثيرة ولم يحج - رحمه الله - كما قال أبو العباس وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله.

فصل في استحباب قضاء ما فاته من ورد من صلاة أو قراءة قرآن أو ذكر

فصل في استحباب قضاء ما فاته من ورد من صلاة أو قراءة قرآن أو ذكر وإن فاته ورده من صلاة، أو قراءة وذكر استحب له قضاؤه؛ لما روى مسلم من طريق عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» (¬1). والحزب: هو ما يجعله الإنسان وظيفة له من صلاة أو قراءة أو غيرهما. وروى مسلم في صحيحه من طريق قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام الأنصاري، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا نام من الليل، أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» وفي لفظ له: «وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» (¬2). ¬

(¬1) صحيح مسلم (747). (¬2) صحيح مسلم (746).

فصل في الكلام على النوم في أول النهار

فصل في الكلام على النوم في أول النهار فإن أراد التصبح - وهو النوم أول النهار، ويسمى الصُّبحة بضم الصاد وفتحها - وأن يرتفق بالنوم فلا بأس، والأخبار في ذمها أو أنها تمنع الرزق لا يثبت منها شيء وإنما فيها آثار عن السلف حسب. ولا ينبغي أن يكون هذا عادة للمرء؛ ففي ذلك فوات مصالح كثيرة في المعاش والمعاد. وقد أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - في الحديث الطويل المعروف بحديث أم زرع قول أم زرع عن زوجها أبي زرع وفيه: «فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح «وفي آخره قالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» .. والخبر متفق عليه .. قال ابن أبي شيبة: "ما قالوا في التصبح - نومة الضحى - وما جاء فيها". حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان الزبير ينهى بنيه عن التصبح، قال: وقال عروة: «إني لأسمع بالرجل يتصبح فأزهد فيه».

آثار عن السلف في الترخيص في نوم أهل النهار

ثم قال: حدثنا حفص، عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن فروخ، عن طلحة بن عبيد الله: «أنه مر بابن له تصبَّح، فذكر أنه فقده، ونهاه عن ذلك. ثم قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي سفيان، قال: التقى ابن الزبير، وعبيد بن عمير فتذاكرا أشياء، فقال له الآخر: «أما علمت أن الأرض تعج إلى ربها من نومة غلمانها». وقال أيضا: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال الزبير: «إني لأزهد في الرجل يتصبح» (¬1). ثم قال: "من رخص في التصبح" حدثنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة: «أنها كانت تصبح». حدثنا شبابة، عن شعبة، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن الشماس، قال: «أتيت أم سلمة فوجدتها نائمة «يعني: بعد الصبح. حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: «أن عائشة كانت إذا طلعت الشمس نامت نومة الضحى» .. وتقدم ذكره. ¬

(¬1) مصنف أبي شيبة (5/ 222) وما بعدها.

ما ذكره ابن القيم من أضرار النوم أول النهار

حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال: «أتيت سعيد بن جبير فوجدته نائما نومة الضحى» .. حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، عن ابن سيرين: «أنه كان يتصبح» (25454) حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، قال: غدا عمر على صهيب فوجده متصبحا، فقعد حتى استيقظ، فقال صهيب: أمير المؤمنين قاعد على مقعدته وصهيب نائم متصبح فقال له عمر: «ما كنت أحب أن تدع نومة ترفق بك» (¬1). قال ابن القيم في الزاد ما نصه: "ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل، ويفسد اللون، ويورث الطحال، ويرخي العصب، ويكسل، ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة، وأردؤه نوم أول النهار، وأردأ منه النوم آخره بعد العصر، ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة، فقال له: «قم، أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟». وقيل: نوم النهار ثلاثة: خلق، وحرق، وحمق. فالخلق: نومة الهاجرة، وهي خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحرق: نومة الضحى، تشغل عن أمر الدنيا والآخرة. والحمق: نومة العصر. ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 222) وما بعدها.

قال بعض السلف: من نام بعد العصر فاختلس عقله، فلا يلومن إلا نفسه. وقال الشاعر: ألا إن نومات الضحى تورث الفتى ... خبالا ونومات العصير جنون ونوم الصبحة يمنع الرزق؛ لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن، وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسرا وعيا وضعفا. وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء" (¬1).ا. هـ. ¬

(¬1) زاد المعاد (4/ 221).

فصل في بعض سنن يوم الجمعة

فصل في بعض سنن يوم الجمعة فإن كان يوم جمعة استحب له الاغتسال، والتطيب، ولبس الجميل من الثياب، والتسوك والتبكير للجمعة .. وكل ذلك متفق عليه، والأخبار فيه متكاثرة. وقد أخرج أحمد من طريق أبي الأشعث الصنعاني، حدثني أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» (¬1). وإسناده صحيح، وهو يتضمن فضلاً عظيماً وثواباً جسيماً، وقد مكثت دهراً وأنا أعجب من هذا الفضل وألتمس هل لهذا الخبر من علة؟ فلم أقف له على تعليل مستقيم، فالحمد لله على وافر عطائه. ¬

(¬1) مسند أحمد (16172)، وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 93)، وأبو داود (345)، وابن ماجه (1087)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1573)، والطبراني في الكبير (585)، والبيهقي في (3/ 229)، والبغوي في شرح السنة (1065)، وابن حبان (2781)، والحاكم (1/ 282) .. وغيرهم من طرق عن أبي الأشعث به ..

فصل في حكم الاغتسال يوم الجمعة

فصل في حكم الاغتسال يوم الجمعة واختلف في حكم الغسل للجمعة، فقيل: واجب، وقيل: سنة، وقيل: واجب على من له ريح يتأذى به، سنة في غير ذلك. وهو أصح الأقوال، واختاره أبو العباس، قال في الفتاوى الكبرى: "ويجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهو بعض من مذهب من يوجبه مطلقا بطريق الأولى (¬1). وقال في مجموع الفتاوي ما نصه: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه وجسده «وهذا في أحد قولي العلماء هو غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع، وإن لم يشهد الجمعة، بحيث يفعله من لا جمعة عليه. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة (¬2) «ا. هـ. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 307). (¬2) مجموع الفتاوي (21/ 307).

يستحب لداخل المسجد يوم الجمعة أن يصلي ما شاء حتى يخرج الإمام

فإن دخل المسجد استحب له أن يصلي ما شاء حتى خروج الإمام، ولا وقت للنهي عن الصلاة منتصف النهار يوم الجمعة على الصحيح من أقوال أهل العلم. قال ابن القيم في الهدي في ذكر خصائص يوم الجمعة ما نصه: "الحادية عشرة: أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، ولم يكن اعتماده على حديث ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة»، وقال: «إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة» وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام، وفي الحديث الصحيح «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري، فندبه إلى الصلاة ما كتب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام، ولهذا قال غير واحد من السلف، منهم عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل: «خروج الإمام يمنع الصلاة وخطبته تمنع الكلام»، فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام لا انتصاف النهار.

وأيضا فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف، ولا يشعرون بوقت الزوال، والرجل يكون متشاغلا بالصلاة لا يدري بوقت الزوال، ولا يمكنه أن يخرج، ويتخطى رقاب الناس، وينظر إلى الشمس ويرجع، ولا يشرع له ذلك. وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: هو مرسل؛ لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفا باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته - عمل به. وأيضا فقد عضده شواهد أخر منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال: روي عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة» هكذا رواه رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث، ورواه في كتاب الجمعة: حدثنا إبراهيم بن محمد، عن إسحاق .. ، ورواه أبو خالد الأحمر عن شيخ من أهل المدينة يقال له: عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه البيهقي في المعرفة من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة».

ولكن إسناده فيه من لا يحتج به، قاله البيهقي قال: ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة. قال الشافعي: من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام، قال البيهقي: الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغب في التبكير إلى الجمعة، وفي الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء، وذلك يوافق هذه الأحاديث التي أبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، وروينا الرخصة في ذلك عن عطاء وطاووس والحسن ومكحول. قلت: اختلف الناس في كراهة الصلاة نصف النهار على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس وقت كراهة بحال، وهو مذهب مالك. الثاني: أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها، وهو مذهب أبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد. والثالث: أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة، فليس بوقت كراهة، وهذا مذهب الشافعي (¬1).ا. هـ. ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 366).

وقال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "وقد ذكر مالك في الموطأ عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلون حتى يخرج عمر ويجلس على المنبر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون، فإذا اسكت المؤذن وقام عمر سكتوا ولم يتكلم أحد. وهذا تصريح باستمرارهم في الصلاة إلى ما بعد زوال الشمس، وهو مما يستدل به على الصلاة وقت استواء الشمس وقيامها يوم الجمعة" (¬1) ا. هـ. وقال في التمهيد: "وقال أبو يوسف والشافعي وأصحابه: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، وهي رواية عن الأوزاعي وأهل الشام. وحجة الشافعي ومن قال بقوله هذا: ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن إسحق بن عبد الله عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة». ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (8/ 332).

واحتج أيضا بحديث مالك عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك، وقد تقدم ذكره، قال: وخبر ثعلبة عن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الهجرة» أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة». قال أبو عمر: كأنه يقول النهي عن الصلاة عند استواء الشمس صحيح، وخص منه يوم الجمعة بما روي من العمل الذي لا يكون مثله إلا توقيفا، وبالخبر المذكور أيضا، وبقي سائر الأيام موقوفة على النهي. وإبراهيم بن محمد الذي روى عنه الشافعي هذا الخبر: هو ابن أبي يحيى المدني متروك الحديث، وإسحق بعده في الإسناد - وهو ابن أبي فروة - ضعيف أيضا، فكأنه إنما يقوى عنده هذا الخبر بما روي عن الصحابة في زمن عمر - رضي الله عنه - من الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وبالله التوفيق " (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: والأمر في هذا ظاهر بحمد الله. ¬

(¬1) التمهيد (4/ 19).

فصل في معنى قول ابن عباس «عجلت الرواح حين زاغت الشمس»

فصل في معنى قول ابن عباس «عجلت الرواح حين زاغت الشمس» وهنا إشكال في هذا الخبر وهو ما خرجه البخاري قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: «لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت»، فغضب عمر، ثم قال: «إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم». قال عبد الرحمن: فقلت: «يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها». فقال عمر: «أما

والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة». قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، «فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ..» (¬1) الحديث .. ووجه الإشكال: قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: عجلت الرواح حين زاغت الشمس. وقد يقال: هذه اللفظة للأويسي عن صالح عن ابن كيسان، وقد خالف أصحاب الزهري، كمالك ويونس وابن عيينة والليث ومعمر وأبي بكر بن حزم، فبعض ألفاظهم سقط هذا الحرف جملة وفي لفظ مالك كما عند أحمد: ¬

(¬1) صحيح البخاري (6830)، قال ابن كثير: في مسند الفاروق (2/ 531): "حديث عظيم أخرجه الجماعة في كتبهم من طرق متعددة، من حديث الزهري، فرواه البخاري عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن مالك ويونس، وأخرجه أيضا من حديث معمر وسفيان بن عيينة وصالح بن كيسان، ومسلم من حديث يونس وسفيان بن عيينة، وأبو داود من حديث هشيم، والنسائي من حديث الليث وأبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. كلهم عن الزهري به .. ورواه النسائي من طرق آخر منقطعة ومرسلة، وفيما ذكرنا كفاية والله اعلم" ا. هـ.

«عجلت الرواح صكة الأعمى»، فقلت لمالك: وما صكة الأعمى؟ قال: إنه لا يبالي أي ساعة خرج، لا يعرف الحر والبرد ونحو هذا .. (¬1) ا. هـ. وفي لفظ هشيم عند ابن حبان: «فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح في شدة الحر فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني». ا. هـ. فإن قيل في النهاية وغيرها ما نصه: وفيه «أنه نهى عن الصلاة إذا قام قائم الظهيرة صكة عمي» يريد أشد الهاجرة، ولكن الإشكال قائم، فقد قال في النهاية: "يقال: لقيته صكة عمي: أي نصف النهار في شدة الحر، ولا يقال إلا في القيظ؛ لأن الإنسان إذا خرج وقتئذ لم يقدر أن يملأ عينيه من ضوء الشمس" (¬2).ا. هـ. وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، فالله أعلم. والأدلة في التبكير محكمة، وقد يقال: أراد بقوله: «زاغت الشمس» ارتفاعها، لا زوالها. ¬

(¬1) مسند أحمد (391). (¬2) صحيح ابن حبان (413).

فصل في جواز السفر يوم الجمعة ما لم تزل الشمس أو يؤذن الأذان الذي بعده الخطبة

فصل في جواز السفر يوم الجمعة ما لم تزل الشمس أو يؤذن الأذان الذي بعده الخطبة ويوم الجمعة كغيره من الأيام في جواز السفر فيه قبل أن تزول الشمس، أو يؤذن المؤذن الذي يلي أذانه الخطبة في قول أكثر أهل العلم، فإن زالت الشمس أو أذن للصلاة فلا يجوز حينئذ السفر، ويجب عليه حضور الجمعة؛ لتوجه الخطاب إليه في قوله جل وعلا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9 [الآية .. إلا في صور .. الأولى: أن يكون مضطرا إلى السفر وتحصل له مشقة إذا ترك السفر. الثانية: أن يسافر، لكن سيشهد الجمعة في طريقه. الصورة الثالثة: إذا خاف فوت رفقة، وفي عصرنا كخوف فوت الطائرة التي يسافر عليها.

فصل لا تجب على المسافر جمعة ولو كان في مصر

فصل لا تجب على المسافر جمعة ولو كان في مصر ولا يجب على المسافر حضور الجمعة، بل يصليها ظهراً مقصورةً، حتى لو كان في مصر يسمع الأذان. وقد بسطت الكلام على ذلك في مواضع من كتبي، منها: شرح كتاب الحج من بلوغ المرام. والحمد لله حمد الشاكرين.

فصل في عدد ساعات النهار والليل والأصل في ذلك

فصل في عدد ساعات النهار والليل والأصل في ذلك واليوم اثنتا عشرة ساعة، وكذلك الليلة، لا يزيد عددها في النهار عن هذا ولا ينقص، وكذا ساعات الليل، فيكون المجموع أربعا وعشرين ساعة، وهذه الساعات قريبة من ساعاتنا في المقدار، تزيد عليها أو تنقص عنها باختلاف الدهر صيفا وشتاء، فساعات النهار المذكورة في الشتاء أقصر من ساعاتنا الوقتية؛ لقصر النهار، وساعات الليل أطول، وفي الصيف بالعكس. وتقسيم اليوم والليلة إلى هذه الساعات من القديم المعمول به عند أهل الفلك، وتسمى ساعات تعديلية. والأصل في ذلك: حديث ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الجلاح، مولى عبد العزيز، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه النسائي (1389)، وأبو داود (1048) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، وإسناده لا بأس به.

والغالب على العرب قياس الأزمنة بغير الساعات، قال في فتح الباري في شرح حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في مكثه بين السحور والدخول في الصلاة: "قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور، فعدل زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عن ذلك إلى التقدير بالقراءة؛ إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة، ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال - مثلا - قدر درجة أو ثلث خمس ساعة، وقال بن أبي جمرة: فيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة " (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري (4/ 138).

فصل في وقت القيلولة

فصل في وقت القيلولة وكانت قائلة القوم - وهي استراحتهم، سواء كان معها نوم أم لا، وقعودهم عن الانتتشار والكسب - منتصف النهار، وهذا ينتظم قبل الزوال وبعده، وكانوا يقيلون قبل صلاة الظهر ويبردون بها، عدا يوم الجمعة؛ فلأجل تبكيرهم لها كانوا يقيلون بعدها، فتكون قائلتهم وغداؤهم بعد الجمعة عوضا عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم. وقد روينا في صحيح البخاري من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: «إنْ كنا لنفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ أصول السلق، فتجعله في قدر لها، فتجعل فيه حبات من شعير، إذا صلينا زرناها فقربته إلينا، وكنا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك، وما كنا نتغدى، ولا نقيل إلا بعد الجمعة، والله ما فيه شحم ولا ودك» (¬1). وهذا يدل على أن الجمعة لا إبراد فيه، ولا تؤخر، كما دلت السنة على ذلك. ¬

(¬1) صحيح البخاري (5403).

أفضل وقت سنة الضحى في أول وقت القيلولة

وفي أول وقت هذه القيلولة قبل أن تزول الشمس - وهي ممتدة إلى ما بعد الزوال - لا يفزع إلى الصلاة مع الركون إلى الراحة إلا أوّاب، وهو آخر وقت الضحى، وأشده حرا، وفيه حصول الرمضاء؛ لذا تقدم حديث» صلاة الأوابين حين ترمض الفصال». قال في فيض القدير: «صلاة الأوّابين «بالتشديد، أي الرجاعين إلى الله بالتوبة والإخلاص في الطاعة وترك متابعة الهوى» حين تَرمَض «بفتح التاء والميم، وفي رواية لمسلم» إذا رمضت «» الفصال «أي حين تصيبها الرمضاء فتحرق أخفافها؛ لشدة الحر، فإن الضحى إذا ارتفع في الصيف يشتد حر الرمضاء فتحرق أخفاف الفصال؛ لمماستها، وإنما أضاف الصلاة في هذا الوقت إلى الأوابين؛ لأن النفس تركن فيه إلى الدعة والاستراحة، فصرفها إلى الطاعة والاشتغال فيه بالصلاة رجوع من مراد النفس إلى مرضاة الرب. ذكره القاضي. وقال ابن الأثير: المراد صلاة الضحى عند الارتفاع واشتداد الحر واستدل به على فضل تأخير الضحى إلى شدة الحر" (¬1).ا. هـ ¬

(¬1) فيض القدير (4/ 216).

وقال السيوطي في شرح سنن ابن ماجه ما نصه: "إذا ارتفعت الشمس من جانب المشرق مقدار ارتفاعها وقت العصر صلى الضحى، وهذه هي الضحوة الصغرى، وهو وقت الإشراق، وهذا الوقت هو أوسط وقت الإشراق وأعلاها، وأما دخول وقته فبعد طلوع الشمس وارتفاعها مقدار رمح أو رمحين حين تصير الشمس بازغة ويزول وقت الكراهة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي هذه الصلاة غالباً ركعتين، وقد أمر بالأربع أيضا، وفي الحديث القدسي: «يا ابن ادم اركع لي أربع ركعات أول النهار أكفك آخره»، وأما الصلاة الثانية فهي الضحوة الكبرى فكان يصليها أحيانا ويتركها أحيانا، ووقتها في الحديث الآخر: «حين ترمض الفصال»، وهذه الساعة حين تبقى الساعة النجومية من الزوال غالبا، وهذا المقدار أدنى ركعات الضحى" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) شرح سنن ابن ماجه (1/ 81).

فصل في وقت النهي عن النافلة منتصف النهار قبل الزوال

فصل في وقت النهي عن النافلة منتصف النهار قبل الزوال فإن حضرت ساعة قيام الشمس في كبد السماء فوقت نهي عن صلاة النافلة، وهو الوقت الثالث عند البسط، والثاني عند الإجمال، وهو وقت يسير. وفي حديث عمرو بن عبسة - وقد تقدم -» ... ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل»، وفي حديث عقبة - وقد تقدم -» .. حين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس ..». قال في المرقاة: «وحين يقوم قائم الظهيرة «: وهي شدة الحر نصفَ النهار. في شرح السنة: قيام الشمس: وقت الزوال، مِن (قام) إذا وقف، نقله الطيبي، وقيل: حين تستوي الشمس وتصل إلى خط نصف النهار، مِن (قام) إذا اعتدل. قال ابن الملك: وقت الظهر تكون الشمس واقفة عن السير، وتثبت في كبد السماء لحظة ثم تسير، وقيل: يظن أنها واقفة، قلت: هذا هو المعتمد.

قال الطيبي: الشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل للناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة، قلت: قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، والله أعلم بالصواب. قال النووي: معناه: حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق والمغرب. قال ابن حجر: الظهيرة: هي نصف النهار، وقائمها إما الظل، وقيامه وقوفه؛ من (قامت به دابته): وقفت، والمراد بوقوفه بطء حركته الناشئ عن بطء حركة الشمس حينئذ، باعتبار ما يظهر للناظر ببادئ الرأي، وإلا فهي سائرة على حالها، وإما للقائم فيها لأنه حينئذ لا يميل له ظل إلى جهة المشرق، ولا إلى جهة المغرب، وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء، «حتى تميل الشمس» أي: من المشرق إلى المغرب، وتزول عن وسط السماء إلى الجانب الغربي، وميلها هذا: هو الزوال.

من الأحاديث الواردة في النهي عن الوقت في هذا الوقت

قال ابن حجر: ووقت الاستواء المذكور وإن كان وقتا ضيقا لا يسع صلاة إلا أنه يسع التحريمة، فيحرم تعمد التحريم فيه" (¬1) ا. هـ. وقال أبو الفضل في فتح الباري: ومحصل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات التي تكره فيها الصلاة أنها خمسة: عند طلوع الشمس، وعند غروبها وبعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وعند الاستواء، وترجع بالتحقيق إلى ثلاثة من بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس، فيدخل فيه الصلاة عند طلوع الشمس، وكذا من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس. ولا يعكر على ذلك أن من لم يصل الصبح مثلاً حتى بزغت الشمس يكره له التنفل؛ حينئذ لأن الكلام إنما هو جار على الغالب المعتاد، وأما هذه الصورة النادرة فليست مقصودة وفي الجملة عدها أربعة أجود وبقي خامس وهو الصلاة وقت استواء الشمس، وكأنه لم يصح عند المؤلف - قلت: يعني البخاري - على شرطه فترجم على نفيه. وفيه أربعة أحاديث: ¬

(¬1) المرقاة (2/ 820).

حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: وهو عند مسلم، ولفظه: «وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع». وحديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -: وهو عند مسلم أيضا، ولفظه: «حتى يستقل الظل بالرمح، فإذا أقبل الفيء فصلّ»، وفي لفظ لأبي داود: «حتى يعدل الرمح ظله». وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: وهو عند بن ماجه، والبيهقي، ولفظه: «حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح، فإذا زالت فصلّ». وحديث الصنابحي - رضي الله عنه -: وهو في الموطأ، ولفظه: «ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها ..»، وفي آخره «... ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات» وهو حديث مرسل مع قوة رجاله. وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة " (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 62).

مقدار هذا الوقت

وأما مقدار هذا الوقت: فقد قال في الدرر السنية ما نصه: "سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قدر وقت النهي عند قيام الشمس ... إلخ؟ فأجاب: وقت النهي عند قيام الشمس يعرف بتناهي الظل في النقص، فإذا وقف عن النقص قبل أن يأخذ في الزيادة فهذا حين قيامها، وهو وقت قصير جدا، وفي كلام بعضهم: أنه ما يمكن فيه قراءة الفاتحة" (¬1).ا. هـ. قلت: ساعة الزوال هي ساعة تحول وهي تشبه ساعة الغروب، وهي بداية سقوط القرن الأدنى للشمس، ثم الأعلى، فما بينهما هي ساعة تحول كاملة متحققة، وهذا نحو دقيقتين أو ثلاث ولا يزيد عن ذلك. والأصل في كلمة ساعة: اليسير من الزمن، قال في النهاية: "والساعة في الأصل تطلق بمعنيين: أحدهما: أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة. والثاني: أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل. يقال جلست عندك ساعة من النهار: أي وقتاً قليلاً منه، ثم استعير لاسم يوم القيامة. ¬

(¬1) الدرر السنية (4/ 378).

قال الزجاج: معنى الساعة في كل القرآن: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة. والله أعلم" (¬1).ا. هـ. ¬

(¬1) النهاية (2/ 422).

ثالثا: من بعد الزوال ودخول وقت الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله

ثالثا: من بعد الزوال ودخول وقت الظهر إلى مصير ظل الشيء مثله o فصل في أول وقت الظهر وما جاء في فضله o فصل لا يصح حديث جابر بن عبد الله في استجابة الدعاء يوم الأربعاء بين الصلاتين o فصل في أداء الظهر في أول وقتها ما لم كن حر فيبرد بها o فصل في حد الإبراد o فصل إذا شرع الإبراد للظهر شرع تأخير الأذان معه o فصل راتبة الظهر القبلية أربع ركعات بسلامين o لا يصح حديث مرفوع في سرد النافلة في النهار أربعا من غير تسليم o فصل راتبة الظهر القبلية أربع ركعات بسلامين o فصل لا يصح حديث المداومة على أربع قبل الظهر وأربع بعدها o فصل في الانشغال في هذا الوقت بما يعود عليه بالنفع في أخراه o مسألة في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - راتبة الظهر البعدية بعد العصر، وأن ذلك من خصائصه

فصل في أول وقت الظهر وما جاء في فضله

فصل في أول وقت الظهر وما جاء في فضله وحينئذ يدخل وقت فرض الظهر بالنص والإجماع، وهو وقت فاضل شريف وقد أخرج أحمد في مسنده غيره من طرق عن حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، قال بهز: قال أخبرنا أبو عمران الجوني، عن علقمة بن عبد الله المزني، عن معقل بن يسار: أن عمر استعمل النعمان بن مقرن - رضي الله عنها - ..»، فذكر الحديث، قال - يعني النعمان -: ولكني «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر» (¬1). وأخرج البخاري من طريق موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، مولى عمر بن عبيد الله - وكان كاتبا له - قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهما -، فقرأته: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيباً قال: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا ¬

(¬1) مسند أحمد (23744).

لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» (¬1). قال أبو الفضل في شرح البخاري: "فيظهر أن فائدة التأخير؛ لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار مظنة لذلك والله أعلم" (¬2) ا. هـ. وعند العيني ما نصه: "وروى أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس». وروى الطبراني من حديث عتبة بن غزوان السلمي - رضي الله عنه -، قال: كنا نشهد مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، القتال فإذا زالت الشمس قال لنا: «احملوا «فحملنا. وروى أيضا من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يلق العدو أول النهار أخر حتى تهب الرياح، ويكون عند مواقيت الصلاة» (¬3).ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2965). (¬2) فتح الباري (6/ 121). (¬3) عمدة القاري لالعيني (14/ 227).

قلت: ويشهد لحديث ابن عباس ما وقع في البخاري تحت باب: "الجزية والموادعة مع أهل الحرب"، وفيه: فقال النعمان - رضي الله عنه -: ربما أشهدك الله مثلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يندمك، ولم يخزك، ولكني شهدت القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» كان إذا لم يقاتل في أول النهار، انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات (¬1)». وأخرج الترمذي من طريق عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: «إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح». وفي الباب عن علي، وأبي أيوب: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب (¬2). وأخرج أحمد من طريق الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن علي بن الصلت، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه كان يصلي أربع ركعات قبل الظهر، فقيل له: إنك تديم هذه الصلاة فقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله فسألته، ¬

(¬1) صحيح البخاري (3160). (¬2) مسند أحمد (23551).

فقال: «إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحببت أن يرتفع لي فيها عمل صالح (¬1)». وهي أخبار حسان تقرر ما تقدم من أفضلية الوقت وقبول العمل. فائدة: سمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يعلق على تشابه الشرح بين ابن حجر والعيني بقوله: كانت بينهما مصاهرة. ¬

(¬1) مسند أحمد (14563)، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 73)، والبخاري في الأدب المفرد (704)، والبيهقي في الشعب (3874)، وابن عبدالبر (19/ 201) من طرق عن كثير بن زيد، بهذا الإسناد.

فصل لا يصح حديث جابر بن عبد الله في استجابة الدعاء يوم الأربعاء بين الصلاتين

فصل لا يصح حديث جابر بن عبد الله في استجابة الدعاء يوم الأربعاء بين الصلاتين وهنا تنبيه على حديث أخرجه أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا كثير - يعني ابن زيد - حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، حدثني جابر - يعني ابن عبد الله - - رضي الله عنهما -» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في مسجد الفتح ثلاثا: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه»، قال جابر: «فلم ينزل بي أمر مهم غليظ، إلا توخيت تلك الساعة، فأدعو فيها فأعرف الإجابة (¬1)». إسناده ضعيف، كثير بن زيد فيه لين،، وقد تفرد بهذا الخبر وعبد الله بن عبد الرحمن بن كعب، فيه جهالة (¬2). ¬

(¬1) (¬2) قال في التعجيل (563): عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه، وجابر. وعنه: كثير بن زيد، وعبد الله بن محمد بن عقيل: فيه نظر، قلت: أما الذي روى عن جابر وروى عنه كثير بن زيد: فهو كما ذكر، وحديثه عن جابر في الدعاء في مسجد الفتح، وأما الذي روى عن أبيه وروى عنه بن عقيل: فالذي أظنه أنه انقلب وأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك شيخ الزهري، وهو مترجم في التهذيب، ولكن ذكره بن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات كالذي وقع هنا فلعله بن عمه والله أعلم ا. هـ.

فالخبر ضعيف، ولو صح فالمؤثر في الإجابة هو تكرار الدعاء، فهو المعهود في الآثار والمعروف في الأخبار. فإن قيل: يدفع هذا كلام جابر - رضي الله عنه -: فالجواب من وجهين: أولهما: ضعف الخبر، فإنه يتضمن ضعف كل أجزاء الخبر، المرفوع منها والموقوف. والثاني: لو صح الخبر: هذا من ظن هذا الصحابي الجليل، والأصل في دعاء المؤمن الاستجابة - وعدم الاستجابة على خلاف الأصل - فضلاً من الله وكرماً، هذا في آحاد المؤمنين، فكيف بالصفوة منهم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟

فصل في أداء الظهر في أول وقتها ما لم يكن حر فيبرد بها

فصل في أداء الظهر في أول وقتها ما لم يكن حر فيبرد بها والأولى البدار بأداء الفرض في أول الوقت، بعد الفراغ من راتبتها القبلية - وهي أربع ركعات بسلامين - ما لم يكن ثَم حر، فيستحب الإبراد حينئذ، وهكذا جميع الصلوات الخمس، يستحب أداؤها في أول الوقت، سوى الظهر حال الإبراد كما تقدم، والعشاء ما لم يشق على الناس، وسيأتي إن شاء الله ذكره في مكانه بحول الله وعونه، الأصل في ذلك ما دلت عليه الأخبار، وهو فعل النبي عليه الصلاة السلام الراتب. وقد أخرج البخاري من طريق عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟ فقال: «كان يصلي الهجير، التي تدعونها الأولى، حين تدحض الشمس» (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري (547).

لا يشرع الإبراد بالجمعة

وأخرج مسلم من طريق شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر إذا دحضت الشمس» (¬1) أي زالت. وعند البخاري من طريق عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (¬2). وأما استحباب الإبراد: فهو عام في الحضر والسفر، في الظهر خاصة. وليس في الجمعة إبراد: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها عقب الزوال. قال في منهاج السنة ما نصه: "وأما يوم الجمعة فالصلاة عقب الزوال أفضل، ولا يستحب الإبراد بالجمعة؛ لما فيه من المشقة على الناس" (¬3) ا. هـ. وقال في شرح العمدة: "وأما الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في أول الوقت شتاء وصيفا، ولم يؤخرها هو ولا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال؛ وذاك لأن الناس يجتمعون لها، إذ السنة التبكير إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم" (¬4).ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح مسلم (618). (¬2) صحيح البخاري (904). (¬3) منهاج السنة (8/ 310). (¬4) شرح العمدة (1/ 201).

الشارع يراعي المزية الراجعة إلى صلب العبادة وذاتها على المزية الراجعة إلى زمان العبادة أو حتى مكانها

ولذا قال البخاري في صحيحه: "باب الإبراد بالظهر في شدة الحر"، ثم روى من طريق صالح بن كيسان، حدثنا الأعرج عبد الرحمن، وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ونافعٌ مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنهما حدثاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (¬1). ثم قال: "باب الإبراد بالظهر في السفر" وأخرج من طريق زيد بن وهب، عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبرد» ثم أراد أن يؤذن، فقال له: «أبرد» حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» (¬2). والخبر الأول أخرجه الستة. وفيه من الفوائد: أن الشارع يراعي المزية الراجعة إلى صلب العبادة وذاتها على المزية الراجعة إلى زمان العبادة أو حتى مكانها - ما داما باقيين - وهي قاعدة شريفة لها صور عديدة. ¬

(¬1) صحيح البخاري (533). (¬2) صحيح البخاري (539).

الأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب

فائدة: قال ابن رجب في شرح البخاري: "وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها، فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة أيضا، والأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء" (¬1).ا. هـ. . قال الشيخ البسام في تيسير العلام ما نصه: فائدة: قال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي عند كلام له على هذا الحديث: "ولا منافاة بين هذا وبين الأسباب المحسوسة، فإنها كلها من أسباب الحر والبرد كما في الكسوف وغيره. فينبغي للإنسان أن يثبت الأسباب الغيبية التي ذكرها الشارع، ويؤمن بها ويثبت الأسباب المشاهدة المحسوسة، فمن كذب أحدهما، فقد أخطأ" (¬2).ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (4/ 424). (¬2) تيسير العلام (1/ 196).

فصل في حد الإبراد

فصل في حد الإبراد فإن قيل فما حد الإبراد؟ فالجواب عنه: أن يقال: أحسن ما في الباب ما أخرجه أبو داود من طريق أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق، عن كثير بن مدرك، عن الأسود، أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كانت قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام» (¬1). وهذا في المدينة النبوية - حرسها الله - يقتضي أن صلاة الظهر تقع في آخر الربع الثالث من وقت الظهر إلى أول الرابع. وهذا يلتقي تماما مع ما ذكره النووي في المجموع: "إن قامة الإنسان ستة أقدام ونصف بقدم نفسه " (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) سنن أبي داود (400). (¬2) المجموع (3/ 29).

فلو قدر أن أذان صلاة الظهر الساعة الثانية عشرة تماما وخروجه الثالثة، فيكون وقت الإبراد في الثانية والربع قبلها بقليل، وهو آخر الربع الثالث، وبعد ذلك بقليل وهو أول الربع الرابع، فربع الوقت: ساعة إلا ربع بساعاتنا. وقال أبو العباس في شرح العمدة ما نصه: "وينبغي أن يقصد في الإبراد بحيث يكون بين الفراغ منها وبين آخر الوقت فصل؛ لأن المقصود من الإبراد يحصل بذلك؛ ولهذا فإن في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -» حتى رأينا فيء التلول». وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام «رواه أبو داود، ولأن الإبراد الشديد يخاف معه أن يفعل بعض الصلاة بعد خروج الوقت. والله أعلم" (¬1) .. ا. هـ. قلت: وهو متحقق فيما قررت بحمد الله. ¬

(¬1) شرح العمدة (1/ 201).

فصل إذا شرع الإبراد للظهر شرع تأخير الأذان معه

فصل إذا شرع الإبراد للظهر شرع تأخير الأذان معه وإذا شرع الإبراد بالصلاة شرع تأخير الأذان معه، وهذا مبني على أصل شرعية الأذان، هل هو للإعلام بدخول الوقت؟ أو للاجتماع لأداء الصلاة؟ والصحيح الثاني، ودل عليه حديث أبي ذر المتقدم. قال الحافظ في الفتح ما نصه: "فإن قيل الإبراد للصلاة فكيف أمر المؤذن به للأذان؟ فالجواب: أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو للصلاة؟ وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوي القول بأنه للصلاة" (¬1) .. ا. هـ. وقال في الشرح الممتع: "لأن الأذان لا يتقيد بأول الوقت؛ ولهذا إذا شرع الإبراد في صلاة الظهر شرع تأخير الأذان أيضا" (¬2).ا. هـ ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 20). (¬2) الشرح الممتع (2/ 40).

فصل راتبة الظهر القبلية أربع ركعات بسلامين

فصل راتبة الظهر القبلية أربع ركعات بسلامين وراتبة الظهر القبلية كما تقدم أربع ركعات بسلامين، وقد أخرج البخاري من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة» (¬1). وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن تطوعه؟ فقالت: «كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين ..» (¬2) الحديث .. وكل الأحاديث التي فيها السرد في النافلة نهارا فلا يصح منها شيء، وإنما صح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - سرده أربعا. قال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، وبالنهار أربعا ثم يسلم» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري (1182). (¬2) صحيح مسلم (730). (¬3) مصنف عبد الرزاق (4226).

الكلام على حديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى

وقال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع. والثوريُّ، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مثله .. (¬1). والصحيح أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، سوى الوتر من صلاة الليل، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله. وخبر علي البارقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يرفعه» صلاة الليل والنهار مثنى مثنى «تفرد به علي عن سائر أصحاب ابن عمر، قيل: عددهم خمسة عشر نفسا، وهو خبر شاذ بهذه الزيادة، على أن البخاري صححه فيما رواه عنه البيهقي بسند صحيح. قال البيهقي في سننه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو محمد إسماعيل بن علي الحطبي ببغداد، قرأت عليه فأقر به، ثنا حسين بن فهم، ثنا يحيى بن معين، ثنا غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء الأزدي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى»، وكذلك رواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، وكذلك رواه عبد الملك بن حسين، عن يعلى بن عطاء أنبأ أبو بكر الفارسي، أنبأ إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني ثنا محمد بن سليمان بن فارس قال: سئل أبو عبد الله يعني البخاري عن حديث يعلى: أصحيح هو؟ فقال: نعم" (¬2).ا. هـ. ¬

(¬1) مصنف عبد الرزاق (4227). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (4248).

فصل في قضاء راتبة الظهر القبلية

فصل في قضاء راتبة الظهر القبلية فإن فاتت الأربع التي قبل الظهر استحب له قضاؤها بعد الظهر، وهل إباحة القضاء موقوفة على العذر أم لا؟ قولان. قال في الشرح الممتع: "عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» وهذا يعم الفريضة والنافلة، وهذا إذا تركها لعذر؛ كالنسيان والنوم، والانشغال بما هو أهم. أما إذا تركها عمداً حتى فات وقتها فإنه لا يقضيها، ولو قضاها لم تصح منه راتبة؛ وذلك لأن الرواتب عبادات مؤقتة، والعبادات المؤقتة إذا تعمد الإنسان إخراجها عن وقتها لم تقبل منه. ودليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، والعبادة المؤقتة إذا أخرتها عن وقتها عمداً فقد عملت عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله؛ لأن أمر الله ورسوله أن تصليها في هذا الوقت، فلا تكون مقبولة، وأيضا: فكما أنها لا تصح قبل الوقت فلا تصح كذلك بعده؛ لعدم وجود الفرق الصحيح بين

أن تفعلها قبل دخول وقتها أو بعد خروج وقتها، إذا كان لغير عذر. إذاً قوله: "من فاته شيء منها سن له قضاؤه" يقيد بما إذا فاته لعذر" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: وهذا متجه في فوات وقت الفريضة، وأما فيما نحن بخصوصه فلا بأس إذا فاتت قبل الصلاة أن يقضيها بعدها، وقد يقال إن للراتبة القبلية هنا وقتين: وقت اختيار (قبل أداء الفريضة)، ووقت كراهة تزول بالعذر (بعد الفريضة) وقبل خروج الوقت. وقد أخرج ابن ماجه من طريق قيس بن الربيع، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتته الأربع قبل الظهر، صلاها بعد الركعتين بعد الظهر» (¬2). قال أبو عبد الله: لم يحدث به إلا قيس عن شعبة. وأخرجه الترمذي من وجه آخر من طريق عبد الله بن المبارك، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة - رضي الله عنها -، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها»، وقال: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه ¬

(¬1) الشرح الممتع (4/ 37). (¬2) سنن ابن ماجه (1185).

من حديث ابن المبارك من هذا الوجه، ورواه قيس بن الربيع، عن شعبة، عن خالد الحذاء نحو هذا، ولا نعلم أحداً رواه عن شعبة غير قيس بن الربيع، وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: وفي خبر قيس زيادة، وهي اختصاص الراتبة البعدية بدبر الصلاة وهو سديد، وقيْسٌ على ما فيه من كلام إلا إنه يقبل في مثل هذا، وحتى لا تفوت البعدية حينئذ فيجمع بين فائتتين. قال في نيل الأوطار في كلامه على الحديثين ما نصه: "والحديثان يدلان على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض، وعلى امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة؛ وذلك لأنها لو كانت أوقاتها تخرج بفعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء، وكانت مقدمة على فعل سنة الظهر. وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر. ذكر معنى ذلك العراقي، قال: "وهو الصحيح عند الشافعية". وقال: "وقد يعكس هذا فيقال: لو كان وقت الأداء باقيا لقدمت على ركعتي الظهر"، وذكر أن الأوّل أوْلى" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) جامع الترمذي (426). (¬2) نيل الأوطار (3/ 34).

فصل لا يصح حديث المداومة على أربع قبل الظهر وأربع بعدها

فصل لا يصح حديث المداومة على أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأما حديث أم حبيبة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً حرمه الله على النار «فغير محفوظ، قد أعله النسائي في سننه (¬1)، وأطال الدارقطني في ذكر طرقه كما في علله (¬2)، وأشار إلى أن طريق شعبة ومن تابعه هو الصحيح. ا. هـ. قلت: فالقدر المحفوظ في حديث أم حبيبة - رضي الله عنها - في التطوع هو ما أخرجه مسلم في صحيحه: قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً، غير فريضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلا بُني له بيتٌ في الجنة» ¬

(¬1) سنن النسائي (1817). (¬2) علل الدارقطني (15/ 273).

قالت أم حبيبة: فما برحت أصليهن بعد وقال عمرو: ما برحت أصليهن بعد، وقال النعمان: مثل ذلك (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم (1728).

فصل في الانشغال في هذا الوقت بما يعود عليه بالنفع في أخراه

فصل في الانشغال في هذا الوقت بما يعود عليه بالنفع في أخراه ويشتغل في هذا الوقت بما يناسب الحال، ويقرب إلى خير المحالّ عند الله، من الطاعات والقرب. روى في الحلية من طريق نافع: «أن ابن عمر كان يُحيي بين الظهر إلى العصر» (¬1). وفي سير الذهبي: عون بن حكيم، قال: حججت مع الأوزاعي، فلما أتى المدينة، وأتى المسجد، بلغ مالكاً مقدمُه، فأتاه، فسلّم عليه، فلما صليا الظهر، تذاكرا أبواب العلم، فلم يذكرا باباً، إلا ذهب عليه الأوزاعي فيه، ثم صلوا العصر (¬2) ا. هـ. وكان وكيع بن الجراح الجهبذ يعلم الناس من القرآن ما يؤدون به فرضهم في هذا الوقت، ففي ترجمته في السير: سفيان بن وكيع، قال: كان أبي يجلس ¬

(¬1) الحلية (1/ 304)، وهو في سير الذهبي (235). (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي (7/ 130).

هناد والصلاة إلى الزوال

لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة التي يصعد منها أصحاب الروايا، فيريحون نواضحهم، فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن، ويذكر الله إلى آخر النهار (¬1) ا. هـ. وفي ترجمة هناد بن السري ما نصه: وقال أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ: كان هناد - رحمه الله - كثير البكاء، فرَغ يوماً من القراءة لنا، فتوضأ، وجاء إلى المسجد، فصلى إلى الزوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ، وجاء فصلى بنا الظهر، ثم قام على رجليه يصلي إلى العصر، يرفع صوته بالقرآن، ويبكي كثيراً، ثم إنه صلى بنا العصر، وأخذ يقرأ في المصحف، حتى صلى المغرب (¬2).ا. هـ. وفي ترجمة الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: كان لا يضيع شيئا من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر، ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم فيتوضأ، ويصلي ثلاث مائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى ¬

(¬1) السير (9/ 139). (¬2) السير (11/ 466).

فائدة

قبل الظهر، وينام نومة، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع، أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائما، أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء، وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنسانا يوقظه، فيصلي لحظة ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، ربما توضأ سبع مرات أو ثمانيا في الليل، وقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبة، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه (¬1).ا. هـ .. وقال في الإحياء: "كان ذلك سنة السلف، كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع للمصلين دويا كدوي النحل من التلاوة، فإن كان بيته أسلمَ لدينه وأجمعَ لهمِّه فالبيت أفضل في حقه" (¬2).ا. هـ. والنقول عن السلف في هذا الباب كثيرة والمقصود الإشارة والتنبيه. فائدة: قال في المحلى ما نصه: "مسألة: قال علي: وقت الظهر أطول من وقت العصر أبداً في كل زمان ومكان؛ لأن الشمس تأخذ في الزوال في أول الساعة ¬

(¬1) السير (21/ 425). (¬2) الإحياء (1/ 339).

السابعة، ويأخذ ظل القائم في الزيادة على مثل القائم - عد طرح ظل الزوال - في صدر الساعة العاشرة، أما في خمسها الأول إلى ثلثها الأول: لا يتجاوز ذلك أصلاً في كل زمان ومكان؟ ووقت صلاة الصبح مساو لوقت صلاة المغرب أبداً في كل زمان ومكان؛ لأن الذي من طلوع الفجر الثاني إلى أول طلوع الشمس، كالذي من آخر غروب الشمس إلى غروب الشفق - الذي هو الحمرة أبداً - في كل وقت ومكان؛ يتسع في الصيف، ويضيق في الشتاء؛ لكبر القوس وصغره. ووقت هاتين الصلاتين أبداً: هو أقل من وقت الظهر ووقت العصر؛ لأن وقت الظهر هو ربع النهار وزيادة؛ فهو أبدا ثلاث ساعات، وشيء من الساعات المختلفة ووقت العصر ربع النهار غير شيء فهو أبدا ثلاث ساعات، غير شيء من الساعات المختلفة. ولا يبلغ ذلك وقت المغرب ولا وقت الصبح، وأكثر ما يكون وقت كل صلاة منهما ساعتين، وقد يكون ساعة واحدة وربع ساعة من الساعات المختلفة؛ وهي التي يكون منها في أطول يوم من السنة، وأقصر يوم من السنة: اثنتا عشرة، فهي تختلف لذلك في طولها وقصرها؛ وفي الهيئة أيضا كذلك، ولا فرق؟

مسألة

وأوسعها كلها وقت العتمة؛ لأنه أزيد من ثلث الليل، أو ثلث الليل ومقدار تكبيرة في كل زمان ومكان -، وبالله تعالى التوفيق (¬1).ا. هـ. مسألة: أخرج البخاري ومسلم كلاهما من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو - وهو ابن الحارث - عن بكير عن كريب، مولى ابن عباس، أن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أزهر، والمسور بن مخرمة، أرسلوه إلى عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسَلْها عن الركعتين بعد العصر، وقل: إنا أخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس عليها، قال كريب: فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه فقولي له تقول ¬

(¬1) المحلى (2/ 222).

أم سلمة: يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، قال: ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف، قال: «يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» (¬1). وهاتان الركعتين داوم عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهما من خصائصه، وإن كان أصل ابتدائهما قضاءً. وقد أخرج مسلم من طريق محمد - وهو ابن أبي حرملة - قال: أخبرني أبو سلمة، أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر، فقالت: «كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما، أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها» قال يحيى بن أيوب: قال إسماعيل: تعني داوم عليها (¬2). ¬

(¬1) البخاري (1233) ومسلم (834). (¬2) صحيح مسلم (835).

وخرج البخاري من طريق هشام، قال: أخبرني أبي، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ابنَ أختي «ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدتين بعد العصر عندي قط» (¬1). وإنما ذكرت هذه المسألة في حصة الظهر بناء على أصل الركعتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اختص بالمداومة وأصل القضاء، لا كما قال بعضهم باختصاصه بالأول، ولذا لم أذكر بعد صلاة العصر الخلاف في التنفل في هذه المسألة؛ ترجيحا لمطلق المنع، وإنما أشرت إلى مسألة أخرى، وسيأتي ذكرها، إن شاء الله. ¬

(¬1) صحيح البخاري (591).

رابعا: من مصير ظل الشيء مثله بعد فيء الزوال إلى غروب الشمس

رابعا: من مصير ظل الشيء مثله بعد فيء الزوال إلى غروب الشمس o فصل في وقت العصر وما يسن قبلها من التنفل o فصل لا يصح حديث تطوع النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار ست عشرة ركعة o فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في وجود راتبة للعصر. o فصل في النهي عن التنفل بعد صلاة العصر o فصل ينبغي الاشتغال بأذكار المساء بعد العصر o صلاة العصر هي المذكورة في قوله تعالى تحبسونهما من بعد الصلاة. o فصل فصل في فضل الثلث الأخير من الأزمنة o فصل في وقت صلاة العصر، وبيان الوقت الذي لا يجوز تأخيرها إليه o فصل لا يجوز له تأخير العصر بعد الاصفرار بلا عذر o فصل في فضل الساعة الأخيرة من يوم الجمعة o فصل لا بأس في النوم بعد العصر من غير تفويت لواجب شرعي o لا يصح النهي عن النوم في هذا الوقت

فصل في وقت العصر وما يسن قبلها من التنفل

فصل في وقت العصر وما يسن قبلها من التنفل فإذا صار ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال فقد خرج وقت الظهر، ودخل وقت العصر، وليس بين الوقتين برزخ أو تداخل. ويسن بين صلاة العصر أن يصلي ركعتين لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين كل أذانين صلاة «متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -. قال البخاري في صحيحه: "باب: بين كل أذانين صلاة لمن شاء"، ثم روى من طريق عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة»، ثم قال في الثالثة: «لمن شاء» (¬1). والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، قال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "وأما الظهر، فإنه يستحب التطوع قبلها بركعتين أو أربع ركعات، وهي من الرواتب عند الأكثرين. ¬

(¬1) صحيح البخاري (627).

هاتان الركعتان سنة مطلقة، وليست راتبة

وقد روي في الصلاة عقب زوال الشمس أحاديث، في أسانيد أكثرها مقال، وبكل حال؛ فما بين الأذانين للظهر هو وقت صلاة، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر. وأما بين الأذانين لصلاة العصر، فهذا الحديث يدل على أنه يشرع بينهما صلاة، وقد ورد في الأربع قبل العصر أحاديث متعددة، وفي الركعتين أيضا، واختلفوا: هل يلتحق بالسنن الرواتب؟ والجمهور على أنها لا تلتحق بها (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: وهاتان الركعتان بين الأذان والإقامة في العصر سنة مطلقة؛ للخبر، ليست سنة راتبة، ولم يصح في التطوع في هذا الوقت شيء من الأخبار، لا من قوله، ولا من فعله عليه الصلاة والسلام. فأما حديث ابن عمر «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا» (¬2) فلا يصح، وكل شواهده ضعيفة. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (5/ 356). (¬2) أخرجه أحمد (5980) وهو عند أبي داود الطيالسي (1936)، ومن طريقه أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وابن خزيمة (1193)، وابن حبان (2453)، وابن عدي في الكامل (6/ 2247)، والبيهقي في السنن (2/ 473)، والبغوي في شرح السنة (893).

قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. قال ابن أبي حاتم في العلل ما نصه: "وسمعت أبي يقول: سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحم الله من صلى قبل العصر أربعا» فقال: دع ذي! فقلت: إن أبا داود قد رواه، فقال أبو الوليد: كان ابن عمر يقول: «حفظت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات في اليوم والليلة ...»، فلو كان هذا لعده، قال أبي: يعني: كان يقول: حفظت اثني عشر ركعة" (¬1) ¬

(¬1) العلل (2/ 215). وقال في الجرح والتعديل (8/ 78) ما نصه: "محمد بن مسلم بن المثنى، ويقال محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى: روى عن جده عن ابن عمرو عن حماد بن أبي سليمان، روى عنه يحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، وأبو قتيبة، وأبو الوليد الطيالسي، سمعت أبي يقول ذلك نا عبد الرحمن، نا محمد بن إبراهيم بن شعيب، نا عمرو بن علي، قال: ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديثاً سمعت يحيى بن سعيد يروى عن محمد بن مهران، عن جده، أن ابن عمر كان يقرأ في الوتر في الثانية بقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فأنكر ولم يرض الشيخ. نا عبد الرحمن، قال: سمعت محمد بن إبراهيم، قال: سمعت أبا حفص عمرو بن علي يقول: محمد بن مهران يكنى أبا المثنى، روى عنه أبو داود الطيالسي أحاديث منكرة في السواك وغيره. نا عبد الرحمن، قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين أنه قال: محمد بن مسلم بن مهران ثقة. نا عبد الرحمن، قال: سألت أبى عن محمد بن مسلم بن مهران أبى المثنى، فقال: يكتب حديثه. حدثنا عبد الرحمن، قال: سئل أبو زرعة عن محمد بن مسلم بن المثنى الذى يروى عن جده، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى قبل العصر «فقال: هو واهى الحديث" ا. هـ وقال ابن عدي في الكامل: في ترجمة محمد بن مسلم: "ولم يرضه عبد الرحمن" يعني ابن مهدي، ثم روى له هذا الخبر، ثم قال: "ومحمد بن مسلم بن مهران هذا ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبين صدقه من كذبه".ا. هـ.

ا. هـ. قلت: ففيه علل: 1) قول أبي زرعة في محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى - وقد ينسب لجده ولجد أبيه ولجد جده: "واهي الحديث، وروى عنه الطيالسي أحاديث منكرة"، قلت: وهذا منها. 2) وإعلال أبي حاتم لمتنه. فالخبر لا يصح. والله أعلم.

فصل لا يصح حديث تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار ست عشرة ركعة

فصل لا يصح حديث تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار ست عشرة ركعة وأما ما رواه أحمد - قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، وإسرائيل، وأبي، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، قال: سألنا علياً - رضي الله عنه -، عن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، فقال: «إنكم لا تطيقونه»، قال: قلنا: أخبرنا به نأخذ منه ما أطقنا، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر أمهل، حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة العصر من هاهنا من قبل المغرب، قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من هاهنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة الظهر من هاهنا - يعني من قبل المغرب - قام فصلى أربعاً، وأربعاً قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعاً قبل العصر، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين، والمسلمين «قال: قال علي: «تلك ست عشرة ركعة، تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وقل

من يداوم عليها (¬1) «- فحديث غير محفوظ، بل هو أشد وهناً من حديث ابن عمر السابق. وقال في الهدي: وأما الأربع قبل العصر، فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي، الحديث الطويل، أنه - صلى الله عليه وسلم - «كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات، وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربع ركعات». ¬

(¬1) مسند أحمد (650)، وأخرجه عبد الرزاق (4806) عن سفيان، به، وأخرجه الترمذي (424) و (429)، وقال: حديث حسن، والبزار (675)، والطيالسي (128)، وعبد الرزاق (4806) و (4807)، ومحمد بن عاصم في جزئه (29)، والبزار (672)، والنسائي (2/ 120)، وفي الكبرى (337) و (347) و (471)، وابن ماجه (1161)، وأبو يعلى (622)، والبيهقي 2/ 473 .. من طرق عن أبي إسحاق به .. قال البيهقي (3/ 72): تفرد به عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، وكان عبد الله بن المبارك يضعفه فيطعن في روايته هذا الحديث، والله أعلم وقال البزار (2/ 262): ولا نعلم يروى هذا الكلام وهذا الفعل إلا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضا تحسين الترمذي - حسب - يدل على نكارته كما قد علم ذلك بالتتبع.

فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في وجود راتبة للعصر

وفي لفظ: «كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر، صلى ركعتين، وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر، صلى أربعا، ويصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعا، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين» وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول: إنه موضوع. ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره (¬1).ا. هـ. وقال شيخ الإسلام في الفتاوي (إجابة على سؤال) ما نصه: وسئل: هل للعصر سنة راتبة أم لا؟ أفتونا مأجورين؟. فأجاب: الحمد لله، الذي ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان يصلي مع المكتوبات عشر ركعات، أو اثنتي عشرة ركعة: ركعتين قبل الظهر، أو أربعا، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين»، وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة بنى الله له بيتا في الجنة»، ورويت في السنن: «أربعا ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 301).

درجات الصلوات النوافل مع المكتوبة

قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر»، وليس في الصحيح سوى هذه الأحاديث الثلاثة حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. وأما قبل العصر فلم يقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر إلا وفيه ضعف، بل خطأ، كحديث يروى عن علي أنه كان يصلي نحو ستة عشر ركعة منها قبل العصر وهو مطعون فيه فإن الذين اعتنوا بنقل تطوعاته، كعائشة وابن عمر - رضي الله عنهم - بينوا ما كان يصلّيه، وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها، لكن كان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة «ثم قال في الثالثة: «لمن شاء «؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة، فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة، وليست بسنة، فمن أحب أن يصلي قبل العصر كما يصلي قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه فحسن، وأما أن يعتقد أن ذلك سنة راتبة، كان يصليها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب فهذا خطأ. والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات:

إحداها: سنة الفجر والوتر: فهاتان أَمَرَ بهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمر بغيرهما، وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما في السفر والحضر، ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما. والثانية: ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر: وهو عشر ركعات، وثلاث عشرة ركعة، وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك. والثالثة: التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم عليه ولا قدر فيه عدداً: والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا الباب، وقريبا من ذلك صلاة الضحى، والله أعلم" (¬1).ا. هـ. وقال الجُوزَجَاني (¬2) في أحوال الرجال: في ترجمة عاصم: "روى عنه أبو إسحاق حديثاً في تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة ركعة: «أنه كان يمهل حتى إذا ارتفعت الشمس من قبل المشرق كهيئتها من قبل المغرب عند العصر قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا ارتفعت الشمس وكانت من قبل المشرق كهيئتها من ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 258). (¬2) بضم الجيم وإسكان الواو وفتح الزاي، كما قاله ابن حجر في بذل الماعون في فضل الطاعون.

قبل المغرب عند الظهر قام فصلى أربع ركعات، ثم يمهل حتى إذا زالت الشمس صلى أربع ركعات قبل الظهر، ثم يصلي بعد الظهر ركعتين، ثم يصلي قبل العصر أربع ركعات، فهذه ست عشرة ركعة». فيا لعباد الله أما كان ينبغي لأحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه يحكي هذه الركعات إذ هم معه في دهرهم!! والحكاية عن عائشة - رضي الله عنها - في الاثنتي عشرة ركعة من السنة، وابن عمر - رضي الله عنهما - عشر ركعات، والعامة من الأمة أو من شاء الله قد عرفوا ركعات السنة الاثنتي عشرة، منها بالليل ومنها بالنهار. فإن قال قائل: كم من حديث لم يروه إلا واحد؟! قيل: صدقت، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس فيتكلم بالكلمة من الحكمة، لعله لا يعود لها آخر دهره، فيحفظها عنه رجل، وهذه ركعات - كما قال عاصم كان يداوم عليها - فلا يشتبهان، ثم خالف رواية الأمة واتفاقها حين روى أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الغنم" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) ونقله الذهبي في الميزان (2/ 353) ولم يتعقبه.

تنبيه

وقال ابن عدي في الكامل في ترجمة عاصم بن ضمرة ما نصه: "وعاصم ابن ضمرة لم أذكر له حديثاً؛ لكثرة ما يروي عن علي مما تفرد به، ومما لا يتابعه الثقات عليه، والذي يرويه عن عاصم قوم ثقات، البلية من عاصم، ليس ممن يروي عنه. ا. هـ. وفي الباب أخبار كلها لا تصح، وليس في الباب هنا أصح وأصرح من» بين كل أذانين صلاة»، وتقدم. تنبيه: روى الطبراني في الكبير والأوسط من طريق: حماد بن سلمة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظون» (¬1)، رفعه علي بن عثمان اللاحقي، ورواه جماعة عن حماد بن سلمة موقوفا. ¬

(¬1) المعجم الكبير (1/ 91) والأوسط (2224).

ورواه في الكبير، قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم، ثنا المسعودي، عن القاسم، عن لقيط بن قبيصة، قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «تحترقون، حتى إذا صلوا الفجر غسلت، ثم تحترقون حتى إذا صلوا الظهر غسلت، تحترقون حتى إذا صلوا العصر غسلت ..» حتى عد الصلوات كلها هكذا (¬1). والصحيح وقفه على ابن مسعود؛ ولذا قال في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الثلاثة، إلا أنه موقوف في الكبير، ورجال الموقوف رجال الصحيح، ورجال المرفوع فيهم عاصم بن بهدلة، وحديثه حسن" (¬2). ولذا قال المنذري في الترغيب والترهيب: "ورواه في الكبير موقوفا عليه، وهو أشبه" (¬3).ا. هـ. ¬

(¬1) المعجم الكبير (8739). (¬2) مجمع الزوائد (1/ 299). (¬3) الترغيب والترهيب (1/ 144).

فصل في أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، على الصحيح

فصل في أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، على الصحيح وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى بلا مراء؛ لما أخرج البخاري ومسلم من طريق هشام، عن محمد، عن عَبيدة، عن علي - رضي الله عنه -، قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (¬1). وهذا نص صريح قاطع للنزاع، وحكاية الخلاف بعد ذلك ما هي إلا تسويد للورق، وتضييع للدهر، والله المستعان. ¬

(¬1) البخاري (2931)، ومسلم (627)، وهشام هو: ابن حسان القردوسي، ومحمد هو: ابن سيرين، وعَبيدة: ابن عمرو السلماني، مخضرم.

فصل في النهي عن التنفل بعد صلاة العصر

فصل في النهي عن التنفل بعد صلاة العصر وما بعد صلاة العصر فوقت نهي، والنهي معلق بفعل الصلاة، لا بدخول وقت صلاة العصر - كما هو أحد الأقوال في الصبح - وتقدم الكلام عليه. والأحاديث في النهي عن الصلاة بعد العصر مستفيضة، وهو القول الراجح لأدلة كثيرة، وقد جاءت أخبار تدل على جواز التنفل بعد العصر والشمس نقية، وفي بعضها مرتفعة، وهي لا تقاوم في الصحة أحاديثَ النهي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هي تدل على الإباحة بالمفهوم، وقد عورضت بمنطوق الأخبار الصحيحة، والمنطوق مقدم على المفهوم. وقد جاء الخبر بالإباحة في حديث علي الذي أخرجه جمع من طريق هلال بن يساف عن وهب بن الأجدع عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 129)، وابن خزيمة (1285)، والبيهقي في السنن (2/ 459)، وأخرجه الطيالسي (108)، وابن الجارود (281)، وأبو داود (1274) وقال البيهقي عقيب إخراجه: "ما مضى في النهي عنها ممتد إلى غروب الشمس حديث عدد فهو أولى أن يكون محفوظا"ا. هـ ..

فصل ينبغي الاشتغال بأذكار المساء بعد العصر

فصل ينبغي الاشتغال بأذكار المساء بعد العصر ويسن أن يشتغل بالأذكار المسائية في هذا الوقت، فهو أول وقت المساء، ويشتغل بما يصلح قلبه من ذكر وقراءة، وهذا الوقت وقت فاضل عظيم، وهو الأصيل، وهو ختام النهار. قال الواحدي في تفسيره ما نصه: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106] "قال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر، وأهل الأديان يعظمون ذلك الوقت، ويتجنبون فيه الأكاذيب والحلف الكاذب" (¬1) ا. هـ. وقال السمعاني ما نصه: "أكثر العلماء على أنه أراد به: صلاة العصر، وقال الحسن: بعد صلاة الظهر، والأول أصح. وإنما خص به صلاة العصر؛ لأن وقت العصر معظم محترم عند جميع أهل الأديان" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) تفسير الواحدي (2/ 241). (¬2) السمعاني (2/ 75).

وقال الإمام الطبري رحمه الله: "وأولى القولين بالصواب عندنا، قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر، وهي الصلاة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه، هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت؛ لقربه من غروب الشمس" (¬1).ا. هـ. وقال القاسمي في محاسن التأويل في كلام له على الصلاة الوسطى وفضلها ما نصه: "هذا وقد أيّد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر بأنها خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيعها، فقد قال أبو المليح: كنا مع بريدة في غزوة، فقال في يوم ذي غيم: بكروا بصلاة العصر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» أخرجه البخاري، وقوله: بكروا بصلاة العصر، أي قدموها في أول وقتها. وروى الشيخان عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي: نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا، فاقدهما. والمعنى: ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله. ¬

(¬1) تفسير الطبري (5/ 111).

من خصائص ومزايا صلاة العصر

وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطي في كتابه (كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل، قال عليه الرحمة: فمنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم. ومنها: حبوط عمل تاركها المضيع لها في الحديث السالف أيضا. ومنها: أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم! ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حافظ عليها كان له أجرها مرتين»، رواه مسلم. ومنها: أن» انتظارها بعد الجمعة كعمرة «رواه أبو يعلى. وروى الحاكم: «كمن أتى بحجة وعمرة». ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم «... إلى أن قال: «ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا، فجاء رجل فصدقه فاشتراها» متفق عليه. ثم قال: قلت

وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ} [المائدة: 106] قال عامة المفسرين: بعد صلاة العصر، ولذلك غلظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر؛ لشرفه ومزيته. ومنها: أن سليمان - عليه السلام - أتلف مالاً عظيماً من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس، فمدحه الله تعالى بذلك، وأثنى عليه بقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 30 - 31] الآيات. ومنها: أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل: إنها بعد العصر. ومنها أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال. ومنها: الحديث المرفوع: «إن الله تعالى يوحي إلى الملكين: لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة». ومنها: ما جاء في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2]، قال مقاتل: "العصر هي الصلاة الوسطى أقسم بها"، حكاه ابن عطية. ومنها: ما روي في الحديث، أن الملائكة تصف كل يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا فينادى الملك: ألق تلك الصحيفة، فيقول: وعزتك ما كتبت إلا ما

توجيه للمراد بالصلاة الوسطى

عمل، فيقول الله عز وجل: «لم يرد به وجهي»، وينادى الملك الآخر: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول الملك: وعزتك إنه لم يعمل ذلك، فيقول الله عز وجل: «إنه نواه». ومنها: أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب. وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات. وذكر العلامة الفاسي - شارح القاموس، فيما نقله عنه الزبيدي - أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين. فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم. سنح لي وقوي بعد تمعن - في أواخر رمضان سنة 1323 - احتمال قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238 [بعد قوله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238 [لأن يكون إرشاداً وأمراً بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسطاً، لا طويلاً مملاً ولا قصيراً مخلاً، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر. ويؤيده الأحاديث المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قولاً وفعلاً، ثم مر بي في القاموس - في 23 ربيع الأول سنة 1324 - حكاية هذا قولاً، حيث ساق في مادة (وس ط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: "أو المتوسطة بين الطول والقصر".

تفخيم هذا الوقت وجلالته وفضله وتغليظ الكذب والفجور فيه

قال شارحه الزبيدي: "وهذا القول رده أبو حيان في (البحر) "، ثم سنح لي احتمال وجه آخر: وهو أن يكون قوله {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238 [أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي: ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وتوسيط (الواو) بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري، واستدل له بكثير من الآيات، وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى، وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر" (¬1).ا. هـ. والمقصود تفخيم هذا الوقت وجلالته وفضله وتغليظ الكذب والفجور فيه. ولذا قال البخاري في صحيحه: "باب اليمين بعد العصر"، ثم روى من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق، يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما ¬

(¬1) محاسن التأويل (2/ 164).

يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها» (¬1). قال في فيض القدير ما نصه: "خص العصر؛ لكونه وقت نزول الملائكة لرفع أعمال النهار، وإذا حلف كاذباً في ذلك الوقت ختم عمل نهاره بعمل سيء فكان جديراً بالإبعاد والطرد عن رب العباد" (¬2).ا. هـ. وقال في دليل الفالحين: "وتخصيص العصر بالذكر؛ لما ذكر، وقيل خص لعظيم الإثم فيهن، وإن حرمت اليمين الفاجرة كل وقت، إلا أن الله سبحانه عظم شأن هذا الوقت؛ لاجتماع الملائكة، ووقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت فيه العقوبة؛ لئلا يقدم عليها فيه تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه أعادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر تغليظا لليمين" (¬3) ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح البخاري (2672). (¬2) فيض القدير (3/ 30). (¬3) دليل الفالحين (8/ 658)

وقال السندي على ابن ماجة ما نصه: «بعد العصر «للمبالغة في الذم؛ لأنه وقت يتوب فيه المقصر تمام النهار ويستعمل فيه الموفق الذكر ونحوه فالمعصية في مثله أقبح (¬1) ا. هـ. وقال في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: "وخص وقت بعد العصر؛ لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه؛ لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى -، وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين" (¬2).ا. هـ. وقال في الإحياء: قال الحسن: كانوا أشد تعظيما للعشي منهم لأول النهار، وقال بعض السلف: كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة (¬3). ¬

(¬1) حاشية السندي على ابن ماجة (2/ 22). (¬2) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 169). (¬3) إحياء علوم الدين (1/ 340).

فصل فضل الثلث الأخير من النهار ومن الليل ومن رمضان

فصل فضل الثلث الأخير من النهار ومن الليل ومن رمضان ومن حكمة الله جل وعلا أن جعل الثلث الأخير من الأزمنة أفضلها، فثلث الليل الآخر أفضله، وهو وقت التنزل الإلهي، وثلث النهار الأخير أفضله، وقد تقدم، وثلث رمضان الأخير أفضله، وهو عشره الأخيرة التي فيها ليلة القدر، وثلث السنة الأخير أفضلها، وهو يفتتح بشهر رمضان، ويتبعه شهر شوال من أشهر الحج، ثم شهران فاضلان من الأشهر الحرم، ومن أشهر الحج: هما شهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان وشهر ذي الحجة: «شهرا عيد لا ينقصان»، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة. ولهذا قال ابن رجب في لطائف المعارف: "وأيضا فكل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة؛ وكذلك الليل والنهار عموما آخره أفضل من أوله، ولذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر، كما دلت الأحاديث الصحيحة عليه، وآثار السلف الكثيرة تدل عليه، وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم، آخرهما أفضل من أولهما" (¬1).ا. هـ. ¬

(¬1) لطائف المعارف (ص 176).

فصل في وقت صلاة العصر، وبيان الوقت الذي لا يجوز تأخيرها إليه

فصل في وقت صلاة العصر، وبيان الوقت الذي لا يجوز تأخيرها إليه والعصر يمتد وقتها إلى غروب الشمس فهذا وقتها في الجملة، ولكن لا يحل له أن يؤخرها إلى وقت الاصفرار وقد أخرج مسلم من طريق قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول، ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر، فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس ...» (¬1). وقد اختلف في آخر وقت الاختيار: هل هو أن يصير الظل مثلين؟ أو الاصفرار؟ قال في المغني ما نصه: "مسألة: قال: وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار. اختلفت الرواية عن أحمد - رضي الله عنه - في آخر وقت الاختيار، فروي: حين يصير ظل كل شيء مثليه. وهو قول مالك، والثوري، والشافعي؛ لقوله في حديث ¬

(¬1) صحيح مسلم (612).

ابن عباس وجابر - رضي الله عنهم -: «الوقت ما بين هذين»، وروي عن أحمد - رحمه الله - أن آخره ما لم تصفر الشمس. وهي أصح عنه، حكاه عنه جماعة، منهم الأثرم، قال: سمعته يسأل عن آخر وقت العصر؟ فقال: هو تغير الشمس. قيل: ولا تقول بالمثل والمثلين؟ قال: لا، هذا عندي أكثر، وهذا قول أبي ثور، وأبي يوسف، ومحمد، ونحوه عن الأوزاعي لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس» وفي حديث بريدة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر في اليوم الثاني والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة». قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية، فقد صلاها في وقتها. وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب، ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر" (¬1).ا. هـ ... ¬

(¬1) المغني (1/ 273).

الصحيح أن آخر وقت الاختيار للعصر هو الإصفرار

قال أبو محمد: وهذا هو الصحيح لوجوه: 1) أن أحاديث الاصفرار أكثر، ومتأخرة أيضا عن أحاديث المثلين فإنها متقدمة. 2) ولأن في أحاديث الاصفرار سعة في الوقت. 3) وأيضا أحاديث الاصفرار قولية. ولهذا قال أبو العباس في المجموع: "أما العصر فهذا يقول: تصلى إلى المثلين، وهذا يقول: لا تصلى إلا بعد المثلين، والصحيح: أنها تصلى من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، فوقتها أوسع، كما قاله هؤلاء وهؤلاء، وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (23/ 286).

فصل لا يجوز له تأخير العصر بعد الاصفرار بلا عذر

فصل لا يجوز له تأخير العصر بعد الاصفرار بلا عذر وليس له أن يؤخر العصر بعد هذا الوقت بلا عذر. قال في المغني: "ولا يجوز تأخير العصر عن وقت الاختيار لغير عذر؛ لما تقدم من الأخبار، وروى مسلم وأبو داود بإسنادهما، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم، حتى إذا اصفرت الشمس، فكانت بين قرني شيطان، أو على قرني شيطان، قام، فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا»، ولو أبيح تأخيرها لما ذمه عليه، وجعله علامة النفاق" (¬1) ا. هـ. والاصفرار هو: تغير الشمس، وقال بعض المالكية: كما في الثمر الداني: "والذي وصف عن مالك - رحمه الله - في تحديد آخر الوقت المختار للعصر من رواية ابن القاسم أن الوقت فيها ما لم تصفر الشمس، أي: في الأرض والجدر، أي: لا في عين الشمس، إذ لا تزال نقية حتى تغرب" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) المغني (1/ 273). (¬2) الثمر الداني في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 92).

وقال في اللباب في شرح الكتاب ما نصه: "وقال الفضلي: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في طلوعها، فلا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح. اهـ. (ولا عند قيامها في الظهيرة) إلى أن تزول (ولا عند) قرب (غروبها) بحيث تصفر وتضعف حتى تقدر العين على مقابلتها إلى أن تغرب" (¬1) ا. هـ وقال في المرقاة: "وأما حديث مواقيت الصلاة - وفيه» العصر ما لم تصفر «- فمعناه اصفراراً تاماً كاملاً" (¬2) ا. هـ. قال أبو محمد: فمجمل الأخبار ذكر الاصفرار، وفي بعضها الاحمرار، وفي تفسير العلماء: تغيرها وضعف ضوئها، وإنما كان ذلك بسبب دنوها من الأرض وحيلولة الغبار والأرياح والأكدار بين الناظر والشمس، وعلى هذا فوقت الاصفرار آخر وقت العصر ولا يكون ذلك إلا بعد ذهاب أكثر وقت العصر. ¬

(¬1) اللباب في شرح الكتاب (1/ 88). (¬2) المرقاة (2/ 505).

فصل في فضل الساعة الأخيرة من يوم الجمعة

فصل في فضل الساعة الأخيرة من يوم الجمعة فإن كان اليوم جمعة، فآخر ساعة منه وقت يرجى فيه استجابة الدعاء، ففي الموطأ: وحدثني عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان فيما حدثته، أن قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه» قال كعب ذلك في كل سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه، ما خرجت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس «يشك.

قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ثم لقيت عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثته به في يوم الجمعة، فقلت: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، قال: قال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: كذب كعب. فقلت: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: صدق كعب، ثم قال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: قد علمت أية ساعة هي، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فقلت له أخبرني بها ولا تضِنّ علي، فقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: هي آخر ساعة في يوم الجمعة. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فقلت وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة ساعة لا يصلى فيها، فقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي»؟ قال أبو هريرة - رضي الله عنه - فقلت: بلى، قال: فهو ذلك (¬1) ا. هـ. وأصل ساعة الاستجابة يوم الجمعة ثابت في الصحيحين، فقد أخرجه صاحبا الصحيح، كلاهما من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة، فقال: «فيه ساعة، لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئا، إلا أعطاه إياه» وأشار بيده يقللها. ¬

(¬1) الموطأ: (16).

دليل من ذهب إلى أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة

زاد مسلم من وجه آخر من طريق محمد بن زياد - وهو الجمحي - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه قال: «وهي ساعة خفيفة» (¬1).ا. هـ. فأصل الساعة ثابت، والخلاف في التحديد، وقد قدمت طرفا من أدلة من قال هي آخر ساعة، ومنهم من قال: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، واحتج بما رواه مسلم من طريق: مخرمة، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال لي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى تقضى الصلاة (¬2)». قال أبو الفضل في الفتح، بعد أن حكى أكثر من أربعين قولا في تحديدها، قال ما نصه: "ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنهما - كما تقدم. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام ا. هـ ¬

(¬1) البخاري (935)، ومسلم (852). (¬2) صحيح مسلم (853).

ترجيح حديث أبي موسى (أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى تقضى الصلاة)

وما عداهما إما موافق لهما، أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - في كونه - صلى الله عليه وسلم - أُنسِيها بعد أن علمها؛ لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أُنسِيَ، أشار إلى ذلك البيهقي وغيره. وقد اختلف السلف في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلما قال: حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعاً صريحاً، وفي أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة، ثم افترقوا، فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.

إعلال حديث أبي موسى في صحيح مسلم بالانقطاع والاضطراب

ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق، ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه بن الزملكاني - شيخ الشافعية في وقته - كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي. وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا، فإنه أعل بالانقطاع، والاضطراب. أما الانقطاع: فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا، وقال علي بن المديني: لم أسمع أحداً من أهل المدينة يقول عن مخرمة: إنه قال في شيء من حديثه: سمعت أبي. ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة - وهو كذلك هنا -؛ لأنا نقول: وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأما الاضطراب: فقد رواه أبو إسحاق، وواصل الأحدب، ومعاوية بن قرة وغيرهم .. عن أبي بردة من قوله. وهؤلاء من أهل الكوفة. وأبو بردة كوفي. فهم أعلم بحديثه من بُكير المدني، وهم عدد، وهو واحد، وأيضا فلو كان عند أبي بردة

مسلك ابن القيم في أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين

مرفوعاً لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع؛ ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب. وسلك صاحب الهدي مسلكاً آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر؛ لاحتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - دل على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول بن عبد البر الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع. وقال بن المنيّر في الحاشية: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بُيِّن لاتّكل الناس على ذلك، وتركوا ما عداها فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 421).

فصل لا بأس في النوم بعد العصر من غير تفويت لواجب شرعي

فصل لا بأس في النوم بعد العصر من غير تفويت لواجب شرعي فإن احتاج إلى النوم والارتفاق بالراحة في هذا الوقت، فلا بأس، لا سيما لأهل الجهد واليقظة في أول النهار، لا سيما إن فاتهم نوم القائلة، وهو لأهل الكسب في عصرنا متعسر لطبيعة الأعمال الوظيفية. ولا يصح نهي عن النوم في مثل هذا الوقت، وبكل حال لا لوم في النوم لمن لم يفته شئ من الواجبات الشرعية من حق الخالق وحق المخلوق، ولكن شتان بين نوم الأكياس، ونوم البطالين. وكان أكثر نوم شيخنا العلامة ابن باز - رحمه الله - في النهار إنما هو بعد العصر؛ لقيامه بأعمال كثيرة، وأعباء ثقال شتى تنوء بها العصبة من الأقوياء. وقد رأيت من قوته على التدريس، والإفتاء، وقضاء حوائج الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التأليف والمراجعة والردود على المخالفين، والاجتماعات العلمية مع القضاة ورجال الحسبة، واستقبال الضيوف، وإجابة الدعوة من أعيان الناس وعامتهم، وإلقاء المحاضرات ... وغير ذلك مما يصعب حصره، وهذا كله مع التقدم في السن، والضعف في البدن - ما أقطع به أن الله قد

أكرمه بأعظم كرامة، ووفقه أعظم توفيق، وهو لزوم السنة والعمل بها، وهذا والله ثمرة الصدق، وعاقبة الإخلاص، نحسبه كذلك. قال أبو العباس - رحمه الله - في فتاويه: "وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 298).

خامسا: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق

خامسا: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق o فصل في بعض المسائل التي تتعلق بغروب الشمس. o فصل في استحباب صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب. o فصل في وقت صلاة المغرب وما يصلى بعده من النوافل. o فصل في كراهة النوم قبل صلاة العشاء. o فصل في خروج وقت المغرب بغياب الشفق.

فصل في بعض المسائل التي تتعلق بغروب الشمس

فصل في بعض المسائل التي تتعلق بغروب الشمس فإن غابت الشمس وتكامل نزول قرصها: حلّ وقت صلاة المغرب. وأفطر الصائم. وسن تعجيل الفطر. فإن ولد للسعيد ولد قبل غروب الشمس - ولو بلحظة - فيحسب عليه هذا اليوم، وما بعد الغروب يوم آخر، وحينئذ تكون العقيقة في اليوم الذي قبل يوم الولادة من الأسبوع القادم. وهذا ضابطه، وأحسن ما قيل في حساب الأيام في هذه المسألة، وإنما ذكرتها؛ لتعلقها بالوقت وأهميتها، فافهم.

فصل في استحباب صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب

فصل في استحباب صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب ويسن بين يدي صلاة المغرب أن يصلي ركعتين. قال الحافظ: "ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتي الفجر" (¬1) ا. هـ. كذا قال. قال البخاري في صحيحه: "باب الصلاة قبل المغرب"، ثم قال: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد الله بن بريدة، قال: حدثني عبد الله المزني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلوا قبل صلاة المغرب»، قال في الثالثة: «لمن شاء» كراهية أن يتخذها الناس سنة (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 109). (¬2) صحيح البخاري (1183). وأبو معمر هو: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، واسمه ميسرة التميمي المنقري، مولاهم، المقعد البصري، ثقة روى له الجماعة. وفي الرواة من يكنى بأبي معمر وهو: عبد الله بن سخبرة الأزدي، تابعي يروي عن ابن مسعود، وصحابي هذا الخبر هو: عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

وأخرج البخاري من طريق شعبة، قال: سمعت عمرو بن عامر الأنصاري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء»، قال عثمان بن جبلة، وأبو داود عن شعبة: «لم يكن بينهما إلا قليل» (¬1) ا. هـ. قال في طرح التثريب ما نصه: فائدة استحباب ركعتين بعد أذان المغرب وقبل الصلاة (الخامسة عشر) وفيه أيضا استحباب ركعتين بعد أذان المغرب وقبل الصلاة أيضا، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وصححه النووي. وقد ثبت في البخاري من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلوا قبل المغرب» قال في الثالثة «لمن شاء»، وله من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - «كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وله في حديث أنس - رضي الله عنه - «رأيت كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب». وقال مسلم: «فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت ¬

(¬1) طرح التثريب (2/ 60).

الأحاديث والآثار الدالة على استحباب صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب

من كثرة من يصليهما» وفي رواية له «كنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب «فقيل له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها؟ قال: «كان يرانا نصليها، فلم يأمرنا، ولم ينهنا» (¬1). قال في المرعاة ما نصه: "قال السندي في حاشية النسائي: وهذا الحديث وأمثاله يدل على جواز الركعتين قبل صلاة المغرب بل ندبهما. قلت: أراد بأمثاله ما روي في ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة. منها حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - الذي ذكرنا لفظه، وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان. ومنها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - - أخرجه أيضا الشيخان - قال: «كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب». زاد مسلم: «حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة صليت، من كثرة من يصليها». ¬

(¬1)

ومنها حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أخرجه البخاري عن مرثد بن عبد الله اليزني، قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال: «إنا كنا نفعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -»، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل. وسيأتي هذه الأحاديث في باب السنن وفضائلها. ومنها حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - أيضا: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين»، أخرجه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين»، ثم قال عند الثالثة: «لمن شاء»، خاف أن يحسبها الناس سنة. قال العلامة أحمد بن علي المقريزي في مختصر قيام الليل: هذا إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد صح في ابن حبان حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين قبل المغرب. انتهى. وقد روى محمد بن نصر عن جماعة من الصحابة والتابعين: أنهم كانوا يصلون الركعتين.

الثابت في الركعتين بعد المغرب السنة القولية، وأما الفعلية فلا يصح فيها شيء

فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وآثار الصحابة والتابعين تدل على استحباب الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاته، وهو الحق. وترد على الحنفية والمالكية ومن وافقهم" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: ثبتت السنة القولية والتقريرية في هاتين الركعتين، أما السنة الفعلية منه عليه الصلاة والسلام فلم تثبت، وقد أخرجها ابن حبان في صحيحه مصححاً لخبرها، وهو خبر شاذ غير محفوظ. قال ابن حبان في صحيحه: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبي، حدثني أبي، حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، أن عبد الله المزني - رضي الله عنه - حدثه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين «ثم قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين»، ثم قال عند الثالثة: «لمن شاء «خاف أن يحسبها الناس سنة (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) المرعاة (2/ 368). (¬2) صحيح ابن حبان (1588).

وزيادة» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين «لا تثبت (¬1). ولذا قال شيخ الإسلام ما نصه: وقد صح أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراهم فلا ينهاهم ولم يكن يفعل ذلك، فمثل هذه الصلوات حسنة ليست سنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن تتخذ سنة. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر وقبل المغرب وقبل العشاء، فلا تتخذ سنة، ولا يكره أن يصلى فيها، بخلاف ما فعله ورغب فيه، فإن ذلك أوكد من هذا (¬2) ا. هـ. وقال أيضا في الفتاوى الكبرى ما نصه: "والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات: إحداها: سنة الفجر والوتر: فهاتان أَمَرَ بهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمر بغيرهما، وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما في السفر والحضر، ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما. والثانية: ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر: وهو عشر ركعات، وثلاث عشرة ركعة، وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك. والثالثة: التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يداوم عليه ولا قدر فيه عدداً: والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا الباب، وقريبا من ذلك صلاة الضحى، والله أعلم" (¬3).ا. هـ. ¬

(¬1) فقد تفرد بها عبد الصمد بن عبد الوارث، وخالفه أبو معمر المنقري عند البخاري، وعبيد الله بن عمر القواريري عند أبي داود والدارقطني، وعفان بن مسلم عند أحمد، ومحمد بن عبيد الغبري وحسين بن محمد بن بهرام - فرووه دون زيادة أنه كان يصليهما عليه الصلاة والسلام. (¬2) مجموع الفتاوى (23/ 24). (¬3) الفتاوى الكبرى (2/ 258).

فصل في وقت صلاة المغرب وما يصلى بعده من النوافل

فصل في وقت صلاة المغرب وما يصلى بعده من النوافل ثم يصلي صلاة المغرب، ووقتها ليس بالضيق، بل اتسع لقراءة سورة الأعراف وغيرها، كما ثبتت السنة بذلك. وذكر هذا ابن حزم في المحلى رداً على من زعم أن للمغرب وقتاً واحداً (¬1). قال البخاري في صحيحه: "باب القراءة في المغرب"، ثم قال" حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: قال لي زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: ما لك تقرأ في المغرب بقصار، «وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين» (¬2). وعند أبي داود من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، حدثني ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: قال لي زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل» وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب ¬

(¬1) المحلى (2/ 208). (¬2) صحيح البخاري (764).

لا يصح في الأحاديث المرفوعة ما يقرأ في راتبة المغرب

بطولى الطوليين»، قال: قلت: ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف والأخرى الأنعام، قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي: من قبل نفسه: المائدة والأعراف (¬1). وأما الصلاة بعدها: فركعتان هما من السنن الراتبة، ولم يصح في الأخبار المرفوعة تحديد ما يقرأ فيهما. وقال أحمد في مسنده: حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - قال: أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد الأشهل فصلى بهم المغرب فلما سلم قال: «اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم»، قال أبو عبد الرحمن: قلت لأبي: إن رجلاً قال: من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذه من صلوات ¬

(¬1) سنن أبي داود (812). وأبو عاصم هو: الضحاك بن مخلد، المعروف بالنبيل، ما كان أحد يغتاب في مجلسه، ولا يقدر على ذلك. فرحمه الله.

لا تصح الأحاديث في الثناء على من صلى ست ركعات بعد المغرب

البيوت «قال: من قال هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمن قال: ما أحسن ما قال: أو ما أحسن ما انتزع (¬1) ا. هـ. وروى البخاري في صحيحه من طريق: عبيد الله، قال: أخبرنا نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته» (¬2). وما روي من الثناء على من صلى ست ركعات بعد المغرب فلا يصح. ولولا خشية الإطالة لذكرنا الأخبار في ذلك، وشرطي الاقتصاد في البيان، والله المستعان. ¬

(¬1) مسند أحمد (23628). وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة (2/ 246)، وابن خزيمة (1200) من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد، وهو إسناد جيد، وأبو عبد الرحمن هو: عبد الله بن أحمد، ابن الإمام، ومحمد بن عبد الرحمن هو: ابن أبي ليلى الفقيه المشهور، وفي حفظه شيء، وأبوه: عبد الرحمن بن أبي ليلى تابعي ثقة، وأبوه: أبو ليلى، صحابي مقل، رضي الله عنه. (¬2) صحيح البخاري (1172)، ورواه (1180) من طريق أيوب عن نافع به سواء.

فصل في كراهة النوم قبل صلاة العشاء

فصل في كراهة النوم قبل صلاة العشاء ويكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، وسيأتي مزيد بيان لذلك، والمقصود هنا، أن النوم قد تفوت معه صلاة العشاء. وقد أخرج البخاري ومسلم من طريق: شعبة، أخبرني سيار بن سلامة، قال: سمعت أبي، يسأل أبا برزة - رضي الله عنه - عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلت: آنت سمعته؟ قال: فقال: كأنما أسمعك الساعة، قال: سمعت أبي يسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كان لا يبالي بعض تأخيرها - قال: يعني العشاء - إلى نصف الليل، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها»، قال شعبة: ثم لقيته بعد فسألته، فقال: «وكان يصلي الظهر حين تزول الشمس، والعصر يذهب الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية»، قال: والمغرب لا أدري أي حين ذكر، قال: ثم لقيته بعد فسألته، فقال: «وكان يصلي الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه»، قال: «وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة» (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) البخاري (771) ومسلم (647).

وقد اختلف الناس في النوم قبل العشاء. قال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "قد أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة من العلماء، وكرهوا النوم قبل العشاء بكل حال. قال ابن المبارك: أكثر الأحاديث على ذلك، ورويت الكراهة عن عمر، وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة، وعن مجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، وهو قول أصحاب الشافعي، وحكي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي، حكاه ابن عبد البر. وذكره ابن أبي موسى من أصحابنا مذهباً لنا، وهو قول الثوري. وروي عن ابن عمر كراهة النوم قبل العشاء، وإن وكل به من يوقظه من رواية الفقير وغيره عنه. وعن مجاهد: لأن أصلي صلاة العشاء قبل أن يغيب الشفق وحدي أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام. كذا رواه عبد الكريم البصري، عنه، وروى عنه - أيضا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نامت عين رجل نام قبل أن يصلي العشاء»، وعبد الكريم هذا، ضعيف. وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل العشاء الآخرة، ولا سمر بعدها «خرجه ابن ماجه. وعبد الله هذا، قال ابن معين:

صويلح. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وروى يحيى بن سليم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائما قبل العشاء ولا متحدثا بعدها».ذكره الأثرم، وضعفه من أجل يحيى بن سليم، وقال: لم يروه غيره. كذا قاله. وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق جعفر بن سليمان، عن هشام، وخرجه البزار من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير - وهو متروك - عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - وزاد فيه، في أوله: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من نام قبل العشاء فلا أنام الله عينه». وهذا لا يثبت مرفوعا، وإنما روي عن عمر من قوله. وروى ابن وهب في مسنده، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإنسان يرقد عن العشاء قبل أن يصلي؟ قال: «لا نامت عينه «ثلاث مرات. وخرجه بقي بن مخلد من طريقه. وهو منقطع بين بكير بن الأشج وعائشة. وخرجه بقي من وجه آخر ضعيف، عن عائشة، مرفوعا - بمعناه" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (4/ 378).

فصل في خروج وقت المغرب بغياب الشفق

فصل في خروج وقت المغرب بغياب الشفق فإن غاب الشفق فقد خرج وقت صلاة المغرب. فقد أخرج مسلم في صحيحه من طريق همام، حدثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «... ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق .....» (¬1). قال ابن رجب في فتح الباري: "وممن ذهب إلى أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق: الحسن بن حي والثوري وأبو حنيفة ومالك في الموطأ، والشافعي في قول له، رجحه طائفة من أصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره. وخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق». ¬

(¬1) صحيح مسلم (612).

وفي رواية له أيضا: «وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق». وفي رواية له أيضا: «وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق». وقد اختلف في رفعه ووقفه. وخرج مسلم أيضا من حديث بريدة - رضي الله عنه - أن سائلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة، فذكر الحديث بطوله .. وفيه: أنه صلى في اليوم الأول المغرب حين وجبت الشمس، وفي اليوم الثاني صلى قبل أن يقع الشفق، وقال: «ما بين ما رأيت وقت». وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن للصلاة أولاً وآخِرا»، فذكر الحديث .. ، وفيه: «وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق». وله علة، وهي أن جماعة رووه عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان يقال ذلك. وهذا هو الصحيح عند ابن معين والبخاري والترمذي وأبي حاتم والبزار والعقيلي والدارقطني وغيرهم. وذهب طائفة إلى أن للمغرب وقتاً واحداً حين تغرب الشمس، ويتوضأ ويصلي ثلاث ركعات، وهو قول ابن المبارك، ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه.

ترجيح قول من قال بامتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق

واستدلوا: بأن جبريل صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب في اليومين في وقت واحد، وصلى به سائر الصلوات في وقتين. وزعم الأثرم أن هذه الأحاديث أثبت، وبها يعمل. ومن قال: يمتد وقتها، قال: قد صح حديث بريدة، وكان ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فهو متأخر عن أحاديث صلاة جبريل. وفي حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ذلك بقوله، وهو أبلغ من بيانه بفعله. ويعضده: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: «إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى»، خرج من عموم ذلك الصبح بالنصوص والإجماع، بقي ما عداها داخلا في العموم. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من حضره العشاء بتقديمه على الصلاة، ولولا اتساع وقت المغرب لكان تقديم العشاء تفويتا للمغرب عن وقتها للأكل، وهو غير جائز. ولأن الجمع بين المغرب والعشاء جائز في وقت المغرب؛ للعذر بالاتفاق من القائلين: بأن وقتها واحد، ولا يمكن الجمع بينهما في وقت المغرب إلا مع امتداد وقتها واتساعه لوقوع الصلاتين.

الخلاف في الشفق الذي يفوت وقت المغرب بمغيبه، ويدخل به وقت العشاء

ولعل البخاري إنما صدر الباب بقول عطاء: يجمع المريض بين المغرب والعشاء - لهذا المعنى الذي أشرنا إليه. والله أعلم. ومتى غاب الشفق، فات وقت المغرب بإجماع من سمينا ذكره. وروي عن عطاء وطاوس: لا يفوت حتى يفوت العشاء بطلوع الفجر، وحكي رواية عن مالك أيضا، والأحاديث المذكورة ترد ذلك. واختلفوا في الشفق الذي يفوت وقت المغرب بمغيبه: هل هو الحمرة؟ أو البياض؟ على قولين. ومذهب الثوري ومالك والشافعي: أنه الحمرة. ومذهب أبي حنيفة والمزني: أنه البياض. واختلف قول أحمد وأصحابه في ذلك، وسنذكره فيما بعد، إن شاء الله تعالى" (¬1). وقال: "وقد اختلف العلماء في الشفق الذي يدخل به وقت العشاء: هل هو البياض؟ أو الحمرة؟ فقال طائفة: هو الحمرة، وهو قول ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وروي عن عمر وعلي وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس، وقول كثير من ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (4/ 357).

التابعين، ومذهب الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور. ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا. خرجه الدارقطني وغيره، ورفعه وهم. وقال البيهقي في كتاب المعرفة: لا يصح فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. وفي صحيح ابن خزيمةفي حديث عبد الله بن عمرو المرفوع: «ووقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق». وقد أعلت هذه اللفظة بتفرد محمد بن يزيد الواسطي بها عن سائر أصحاب شعبة. وقال طائفة: الشفق البياض الباقي بعد الحمرة. وروي عن عمر بن عبد العزيز، وقو قول أبي حنيفة، وزفر، والمزني، وروي أيضا عن الثوري والأوزاعي. وأما الإمام أحمد فالمشهور عند القاضي أبي يعلي ومن بعده من أصحابه أن مذهبه أن الشفق الحمرة حضرا وسفرا، وقد نص أحمد في رواية الأثرم فيمن صلى العشاء في الحضر قبل مغيب البياض: يجزئه، ولكن أحب إلي أن لا يصلي في الحضر حتى يغيب البياض، ونقل عنه جمهور أصحابه: أن الشفق في الحضر البياض، وفي السفر الحمرة وهو الذي ذكره الخرقي في كتابه، قال: لأن في الحضر

قد تنزل الحمرة فيواريها الجدران، فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن، وحمل القاضي ومن بعده هذا على مجرد الاحتياط والاستحباب دون الوجوب. ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى عن أحمد: أن الشفق البياض في السفر والحضر، ولا يكاد يثبت عنه. وقال ابن أبي موسى: لم يختلف قول أحمد: أن الشفق الحمرة في السفر، واختلف قوله في الحضر على روايتين. ونقل ابن منصور في (مسائله)، قال: قلت لأحمد: ما الشفق؟ قال: في الحضر البياض، وفي السفر أرجو أن يكون الحمرة؛ لأن في السفر يجمع بين الصلاتين جد به السير أو لم يجد، فإذا جمع بينهما فلا يبالي متى صلاها" (¬1) ا. هـ. وقال في المغني نصه: "فمتى ذهبت الحمرة وغابت، دخل وقت العشاء، وإن كان في مكان يستتر عنه الأفق بالجدران والجبال استظهر حتى يغيب البياض، ليستدل بغيبته على مغيب الحمرة، فيعتبر غيبة البياض؛ لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (4/ 385). (¬2) المغني (1/ 278).

الأصح أن الشفق المعتبر هو الأحمر

والمقصود أن الشفق هو الحمرة في أصح الأقوال وبغيابه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء، وهو كما ترى وقت واسع والمشروع البدار بصلاة المغرب في أول وقتها. ولهذا قال ابن عبد البر في التمهيد ما نصه: "وقد أجمع المسلمون على تفضيل تعجيل المغرب، من قال: إن وقتها ممدود إلى مغيب الشفق، ومن قال: إنه ليس لها إلا وقت واحد، كلهم يرى تعجيلها أفضل" (¬1). ¬

(¬1) التمهيد (4/ 342).

سادسا: من مغيب الشفق إلى طلوع الفجر

سادسا: من مغيب الشفق إلى طلوع الفجر o فصل في دخول وقت العشاء بمغيب الشفق o فصل في أن تأخير العشاء أفضل حيث لا مشقة على الناس فيه o فصل في راتبة العشاء، وأنه لا تشرع معها نوافل أسبوعية أو حولية o فصل في دخول وقت قيام الليل والوتر بعد أداء صلاة العشاء o فصل في كراهة التحدث بعد العشاء إلا ما كان في خير o فصل ينبغي تعلم آداب النوم وسننه من الأذكار والهيئات o فصل في بداية ونهاية وقت صلاة الليل o فصل في مقدار صلاة الليل. o فصل في في صفة قيام الليل o فصل الوتر آكد من الرواتب، ومن سنة الفجر، على الأصح. o فصل الوتر في آخر الليل أفضل، والتفصيل في ذلك o فصل في قيام داود عليه السلام o الحكمة من النوم في السحر بعد أن يوتر فيه. o فصل في دعاء المسافر إذا دخل وقت السحر o فصل في تبييت النية للصائم صوما واجبا o فصل لا يحرم صوم شيء من الأيام إلا بدليل o فصل في وجوب الشكر على من أنعم الله عليه فعاش ليله ويومه

فصل في دخول وقت العشاء بمغيب الشفق

فصل في دخول وقت العشاء بمغيب الشفق وامتداده إلى نصف الليل على الصحيح ويدخل وقت العشاء - كما تقدم - بغياب الشفق الأحمر، ويمتد - في أصح الأقوال - إلى نصف الليل، هذا هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة، وليس مع من قال بامتداده إلى طلوع الفجر - ولو للضرورة - دليل يصلح للتمسك به، فضلا عن رجحانه. وتقدم حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - وفيه: «فإذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل» قال ابن رجب: "في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال: أحدها: ربع الليل: حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق. والقول الثاني: إلى ثلث الليل: روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.

والقول الثالث: إلى نصف الليل: وروي عن عمر بن الخطاب أيضا، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور - أيضا. وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه. وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا. والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر: رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر، وهو قول داود، ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار، وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتدا إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء. وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا، وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.

أقوال العلماء في تأخير العشاء اختيارا إلى بعد نصف الليل

وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب. وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين. واختلفوا في تأخير العشاء اختيارا إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة. ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه. وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز. واستدل من لم يحرمه بما في صحيح مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: «إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي». وهذا إن كان محفوظا دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد. وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على

خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله: «الوقت ما بين هذين». ومثل حديث بريدة - رضي الله عنه - الذي فيه أن سائلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال: «ما بين هذين وقت». وقد خرجه مسلم، وخرج نحوه من حديث أبي موسى. وخرج أيضا من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل». وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة. وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء. وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة. وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة. والله أعلم" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (4/ 403).

تحقيق الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في ترجيح أن وقت العشاء يمتد إلى نصف الليل ولا يتعداه

وقال في الشرح الممتع ما نصه: "والدليل على أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى». قالوا: فهذا دليل على أن أوقات الصلاة متصلة، وإذا كان كذلك فآخر وقت العشاء الآخرة وقت طلوع الفجر ولكن هذا ليس فيه دليل؛ لأن قوله: «إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»، يعني: فيما وقتاهما متصل، ولهذا لا يدخل فيه صلاة الفجر مع صلاة الظهر بالإجماع، فإن صلاة الفجر لا يمتد وقتها إلى صلاة الظهر بالإجماع. وإذا لم يكن في هذا الحديث دليل؛ فالواجب الرجوع إلى الأدلة الأخرى، والأدلة الأخرى ليس فيها دليل يدل على أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، بل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث جبريل، يدلان على أن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل. وهذا الذي دلت عليه السنة، هو الذي دل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، أي: من دلوك الشمس، لكن أتى باللام للدلالة على أن دخول الوقت علة في الوجوب، أي: سبب، ولهذا قال الفقهاء: الوقت سبب لوجوب الصلاة، وشرط لصحتها. والدليل على أن اللام بمعنى (من): الغاية (إلى)، والغاية يكون لها ابتداء، كأنه قال: من دلوك الشمس إلى غسق الليل، لكن أتى

ما بعد نصف الليل بالنسبة للعشاء كما بعد طلوع الشمس بالنسبة للفجر

باللام إشارة إلى أن دخول الوقت علة الوجوب، ويكون غسق الليل عند منتصفه؛ لأن أشد ما يكون الليل ظلمة في النصف، حينما تكون الشمس منتصفة في الأفق من الجانب الآخر من الأرض. إذاً من نصف النهار الذي هو زوالها إلى نصف الليل جعله الله وقتا واحدا؛ لأن أوقات الفرائض فيه متواصلة، الظهر، يليه العصر، يليه المغرب، يليه العشاء، إذا ما بعد الغاية خارج، ولهذا فصل فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ففصّل وجعل الفجر مستقلا، فدل هذا على أن الصلوات الخمس أربع منها متتالية، وواحدة منفصلة. فالصواب إذا: أن وقت العشاء إلى نصف الليل" (¬1) ا. هـ. وإذا تقرر هذا أصبح ما بعد نصف الليل بالنسبة للعشاء كما بعد طلوع الشمس بالنسبة للفجر ولا فرق .. في خروج وقت الصلاة .. تكميل: ونصف الليل بالساعات يعلم بحساب ما بين وقت الغروب ووقت دخول صلاة الصبح، فيجمع ويقسم على اثنين. مثاله: إن كانت الشمس تغيب الساعة (6:40) دقيقة -كما في الصيف مثلا- ويطلع الفجر الساعة (3:40)، فعدد ساعات الليل: تسع ساعات، ونصفها أربع ساعات ونصف. إذن نصف الليل: الساعة (11:10)، فافهم يا مسلم! ¬

(¬1) الشرح الممتع (2/ 117).

فصل في أن تأخير العشاء أفضل حيث لا مشقة فيه

فصل في أن تأخير العشاء أفضل حيث لا مشقة فيه وتأخيرها أفضل حيث لا مشقة على الناس. قال في المغني: "فصل استحباب تأخير العشاء، فصل: وأما صلاة العشاء فيستحب تأخيرها إلى آخر وقتها إن لم يشق، وهو اختيار أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين. قاله الترمذي، وحكي عن الشافعي أن الأفضل تقديمها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الوقت الأول رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله» وروى القاسم بن غنام، عن بعض أمهاته، عن أم فروة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها». ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يؤخرها، وإنما أخرها ليلة واحدة، ولا يفعل إلا الأفضل. ولنا قول أبي برزة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي يدعونها العتمة وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» وهو حديث حسن صحيح، وأحاديثهم ضعيفة. أما خبر» الوقت الأول رضوان الله «فيرويه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وحديث أم فروة رواته مجاهيل، قال أحمد - رحمه الله -: لا أعلم شيئا ثبت في أوقات الصلاة: أولها كذا، وأوسطها كذا، وآخرها كذا يعني مغفرة ورضوانا، وقال: ليس ذا ثابتا.

ولو ثبت فالأخذ بأحاديثنا الخاصة أولى من الأخذ بالعموم، مع صحة أخبارنا، وضعف أخبارهم. فصل: وإنما يستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة راضين بالتأخير؛ فأما مع المشقة على المأمومين أو بعضهم فلا يستحب، بل يكره. نص عليه أحمد - رحمه الله -، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كم قدر تأخير العشاء؟ فقال ما قد بعد أن لا يشق على المأمومين. وقد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأخير العشاء، والأمر بتأخيرها، كراهية المشقة على أمته، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من شق على أمتي شق الله عليه» وإنما نقل التأخير عنه مرة أو مرتين، ولعله كان لشغل، أو إتيان آخر الوقت، وأما في سائر أوقاته فإنه كان يصليها، على ما رواه جابر - رضي الله عنه - أحيانا، وأحيانا إذا رآهم قد اجتمعوا عجل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخر. وعلى ما رواه النعمان بن بشير، أنه كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة. فيستحب للإمام الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى هاتين الحالتين، ولا يؤخرها تأخيرا يشق على المأمومين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالتخفيف، رفقا بالمأمومين، وقال: «إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأخففها كراهية أن أشق على أمه» متفق عليه" (¬1) ا. هـ. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 284).

فصل في راتبة العشاء، وأنه لا تشرع معها نوافل أسبوعية أو حولية

فصل في راتبة العشاء، وأنه لا تشرع معها نوافل أسبوعية أو حولية ويسن أن يصلي بعد العشاء ركعتين، وهما من الرواتب، وقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من طريق عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته» (¬1). وسجدتين: أي ركعتين. وراتبة العشاء هي آخر السنن الراتبة اليومية، وليس بين أيام الأسبوع فرق سوى يوم الجمعة وتقدم. وقال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: "ما يذكره بعض المصنفين في الرقائق والفضائل في الصلوات الأسبوعية، والحولية: كصلاة يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، والسبت، المذكورة في كتاب أبي طالب، وأبي حامد، وعبد القادر، وغيرهم. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1172)، وصحيح مسلم (729).

وكصلاة الألفية: التي في أول رجب، ونصف شعبان. والصلاة الاثني عشرية: التي في أول ليلة جمعة من رجب. والصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب. وصلوات أخر تذكر في الأشهر الثلاثة. وصلاة ليلتي العيدين. وصلاة يوم عاشوراء. وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه أن ذلك كذب عليه، ولكن بلغ ذلك أقواما من أهل العلم والدين، فظنوه صحيحاً، فعملوا به، وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم، لا على مخالفة السنة، وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها فهو ضال مبتدع، بل كافر" (¬1) ا. هـ. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 358).

فصل في دخول وقت قيام الليل والوتر بعد أداء صلاة العشاء

فصل في دخول وقت قيام الليل والوتر بعد أداء صلاة العشاء ويدخل وقت صلاة الليل والوتر بعد أداء صلاة العشاء. وعلم من هذا أن لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم فله أن يوتر - على الراجح -؛ لأن الوتر يدخل بفعل العشاء، لا بدخول وقتها الخاص. ويراد بالوتر آخر الصلاة - وهو ضد الشفع - ويراد به جملة ما صلى من الليل وإن كان شفعاً إذا ختمه بوتر. ولذا قال الغزالي في الإحياء ما نصه: "لأن شرط الوتر أن يكون في نفسه وتراً، وأن يكون موتراً لغيره مما سبق قبله" (¬1) ا. هـ. وقال ابن رجب في شرح البخاري: "إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وتراً" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) الإحياء (1/ 196). (¬2) فتح الباري لابن رجب (9/ 119).

وقال أيضا: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى «يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر" (¬1) ا. هـ. والأحاديث جاءت ألفاظها بهذا وبهذا. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (9/ 116).

فصل في كراهة التحدث بعد العشاء إلا ما كان في خير

فصل في كراهة التحدث بعد العشاء إلا ما كان في خير ويكره بعد صلاة العشاء التحدث في غير حاجة أو السمر في غير مصلحة. قال النووي في شرح مسلم على شرح حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - في النهي عن الحديث بعد العشاء قال ما نصه: "وسبب كراهة الحديث بعدها أنه: يؤدي إلى السهر، ويخاف منه: غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار، أو الأفضل. ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا. قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك: كمدارسة العلم. وحكايات الصالحين. ومحادثة الضيف، والعروس؛ للتأنيس. ومحادثة الرجل أهله، وأولاده؛ للملاطفة، والحاجة. ومحادثة المسافرين، بحفظ متاعهم، أو أنفسهم. والحديث في الإصلاح بين الناس، والشفاعة إليهم في خير.

إنما يكره الحديث بعد صلاة العشاء لا بعد دخول وقتها

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك ... فكل هذا لا كراهة فيه. وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه، والباقي في معناه، وقد تقدم كثير منها في هذه الأبواب، والباقي مشهور. ثم كراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء لا بعد دخول وقتها. واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير، كما ذكرناه" (¬1) ا. هـ. وقال البخاري في صحيحه: "باب السمر مع الأهل والضيف"، وأخرج من طريق معتمر بن سليمان، قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أن أصحاب الصفة، كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس، أو سادس» وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بثلاثة، فانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي - فلا أدري قال: وامرأتي وخادم - بيننا وبين بيت أبي بكر، وإن أبا بكر - رضي الله عنه - تعشى عند ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 146).

فوائد من كلام ابن رجب على حديث أبي بكر - رضي الله عنه - في سمره عنده النبي - صلى الله عليه وسلم -

النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لبث حيث صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى تعشى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: وما حبسك عن أضيافك - أو قالت: ضيفك - قال: أوما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا فأبوا، قال: فذهبت أنا فاختبأت، فقال يا غنثر فجدع وسب، وقال: كلوا لا هنيئاً، فقال: والله لا أطعمه أبداً، وايم الله، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها - قال: يعني حتى شبعوا - وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر - رضي الله عنه - فإذا هي كما هي أو أكثر منها، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: إنما كان ذلك من الشيطان - يعني يمينه - ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد، فمضى الأجل، ففرقنا اثنا عشر رجلا، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال .. (¬1). قال ابن رجب في شرح البخاري على هذا الحديث ما نصه: "ومقصود البخاري من هذا الحديث: جواز السمر عند الأهل والضيف؛ فإن أبا بكر - رضي الله عنه - ¬

(¬1) صحيح البخاري (602).

سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه. والظاهر أيضا أنه سمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي السمر عند الأهل: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء، ثم دخل بيته، فتحدث مع أهله ساعة. وقد خرجه البخاري في موضع آخر. وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها رأت قوما يسمرون، فقالت: انصرفوا إلى أهليكم، فإن لهم فيكم نصيبا. وهذا يدل على أنها استحبت السمر عند الأهل؛ لما فيه من المؤانسة لهم، وهو من حسن العشرة. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمر مع بعض الوفود الذين يفدون عليه المدينة، وهو من نوع السمر مع الضيف. فخرج أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنت في وفد ثقيف، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيحدثنا قائما على رجليه، حتى يتراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش .. وذكر الحديث.

وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي برزة أصح منه، يعني: حديثه: كان يكره الحديث بعدها. وروي الرخصة في السمر للمصلي والمسافر خاصة، خرجه الإمام أحمد من رواية خيثمة، عن رجل من قومه من قريش، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا سمر بعد الصلاة» يعني: العشاء الآخرة «إلا لمصل أو مسافر». قال ابن المديني: في إسناده انقطاع؛ لأن الرجل الذي لم يسمه خيثمة لا أدري هو من أصحاب عبد الله، أو لا؟ وقد روى خيثمة عن غير واحد من أصحاب عبد الله، منهم: سويد بن غفلة، وأرجو أن يكون هذا الرجل منهم. وقال الأثرم: هو حديث غير قوي؛ لأن في إسناده رجلا لم يسم. وقد أخذ به الإمام أحمد، فكره السمر في حديث الدنيا، ورخص فيه للمسافر. وروي من وجه آخر بزيادة، من رواية ابن وهب، عن معاوية، عن أبي عبد الله الأنصاري، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس». خرجه سمويه الأصبهاني الحافظ: نا عبد الله بن الزبير: نا ابن وهب .. فذكره، وخرجه بقي بن مخلد في مسنده: ثنا ابن مقلاص: ثنا ابن وهب: أخبرني معاوية، عن أبي حمزة، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائما قبل العشاء، ولا لاغيا بعدها، أما ذاكرا فيغنم، أو نائما فيسلم».

قال معاوية: وحدثني أبو عبد الله الأنصاري، عن زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: السمر لثلاثة: لعروس، أو لمسافر، أو لمتهجد بالليل. وهذا موقوف على عائشة. وأبو عبد الله وأبو حمزة، مجهولان. وروى الحسين بن إسحاق التستري، عن أحمد، أنه سئل عن السمر بعد العشاء الآخر؟ قل: لا، إلا لمسافر أو مصل، فأما الفقه فأرجو أن لا يكون به بأس. ونقل عبد الله بن أحمد، عن أبيه، أنه سئل عن الحديث الذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النوم قبل العشاء، والحديث بعدها، والرجل يقعد مع عياله بعدما يصلي يتحدث ثم ينام: هل يحرج؟ قال: ينبغي أن يجتنب الحديث والسمر بعدها. وهذا يدل على كراهة السمر مع الأهل أيضا. وقال سفيان الثوري: كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر. قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء. وهذا يدل على أن سهر الإنسان في عمل يعمله وحده، من غير مسامرة لغيره، أنه لا كراهة فيه، بخلاف المسامرة والمحادثة. والله سبحانه وتعالى أعلم" (¬1) ا. هـ ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (5/ 173).

فوائد من كلام الشوكاني في الجمع بين الأحاديث الواردة في السمر بعد العشاء

وقال في نيل الأوطار ما نصه: "قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء. فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء. ورخص بعضهم، إذا كان في معنى العلم، وما لا بد منه من الحوائج، وأكثر الحديث على الرخصة. وهذا الحديث (¬1) يدل على عدم كراهة السمر بعد العشاء، إذا كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، وحديث أبي برزة وابن مسعود - رضي الله عنهما - وغيرهما على الكراهة. وطريقة الجمع بينهما بأن توجه أحاديث المنع إلى الكلام المباح الذي ليس فيه فائدة تعود على صاحبه، وأحاديث الجواز إلى ما فيه فائدة تعود على المتكلم، أو يقال: دليل كراهة الكلام والسمر بعد العشاء عام مخصص بدليل جواز الكلام والسمر بعدها في الأمور العائدة إلى مصالح المسلمين" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) نيل نيل الأوطار (2/ 20). (¬2) لقاء الباب المفتوح (95|15).

فوائد من كلام الشيخ ابن عثيمين في التحذير من اتخاذ السهر بعد العشاء وإضاعة الفجر - عادة، وأن ذلك محرم

وقال الشيخ محمد العثيمين في لقاء الباب المفتوح ما نصه: من الغلط أن الإنسان يبقى ساهراً في الليل بتهجد أو بمراجعة علم، ثم ينام عن صلاة الفجر، هذا غلط عظيم، وأما ما استدلوا به أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاتته صلاة الفجر فهذا كان في سفر، وكانوا قد نزلوا في آخر الليل وقالوا: من يرقب لنا الفجر، فاعتمد بلال - رضي الله عنه - على ذلك، ولكنه نام وأخذه الذي أخذه، وهذا ليس كالإنسان الذي يجعل هذا عادة، يعني: قد نعذر إنساناً في ليلة من الليالي سهر بعمل أو بغير عمل، أو أرق وما نام، ثم نام حتى طلعت الشمس، فهذا يعذر، لكن كونه يتخذ هذه عادة فليس بمعذور ولا يحل له (¬1) ا. هـ ورأيت كلاما لشيخ الإسلام في مجموع الفتاوي لا يخلو من فائدة في الباب ونصه: "ومن عظم مطلق السهر والجوع وأمر بهما مطلقا فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي - كما تقدم - من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك؛ من العبادات. والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول: كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول: ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني ¬

(¬1)

أحد أفضل من كتابة مائة حديث، وآخر من الأئمة يقول: بل الأفضل فعل هذا وهذا. والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون تارة مرجوحاً أو منهياً عنه، كالصلاة؛ فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي - كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة - منهي عنها، والاشتغال حينئذ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك، وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع، دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر. وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد. ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل. والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له. ومعرفة حال كل شخص، وبيان الأفضل له لا يمكن ذكره في كتاب، بل لا بد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق الله عبد إلا صنع له.

فائدة

وفي الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬1) ا. هـ فائدة: ذكر مالك، أنه بلغه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ترسل إلى بعض أهلها، بعد العتمة فتقول: «ألا تريحون الكتاب»، وأخرجه ابن حبان في صحيحه موصولا: قال أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سمعتني عائشة - رضي الله عنها - وأنا أتكلم بعد العشاء الآخرة، فقالت: «يا عُرَيُّ (¬2) ألا تريح كاتبك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ينام قبلها ولا يتحدث بعدها» (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوي (22/ 308). (¬2) قال أبو محمد: وعري تصغير عروة مرخما. (¬3) صحيح ابن حبان (5574).

قال الزرقاني في شرح الموطأ: "قال أبو عبد الملك: أرادت بذلك - والله أعلم - أصحاب الشمال؛ لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة، فإذا تركها، فقد أراحها من كراهتها، وأما الملائكة الذين عن اليمين، فهم يسرون بعمل ابن آدم الصالح، فلا تعود الإراحة عليهم" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: وهذا الخبر عندي لا يصح بل هو بلاغ لمالك، ومالك أثبت من ملء الأرض من جعفر بن سليمان، بل جعفر متكلم فيه، ولا يصح هذا الحديث من حديث هشام بن عروة فأين أصحاب هشام الجلة الحفاظ؟! ثم وقفت على ما أخرجه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن رجل، من أهل مكة، عن عروة بن الزبير قال: كنت أتحدث بعد العشاء الآخرة فنادتني عائشة: ألا تريح كاتبيك يا عرية؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان «لا ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها» (¬2) فصح ما قال مالك. وظاهر رواية عبد الرزاق براءة جعفر من العهدة إن كان محفوظا. ¬

(¬1) شرح الرزرقاني للموطأ (4/ 405). (¬2) مصنف عبد الرزاق (2149).

فصل ينبغي تعلم آداب النوم وسننه من الأذكار والهيئات

فصل ينبغي تعلم آداب النوم وسننه من الأذكار والهيئات وعلى العبد أن يتعلم آداب النوم وسننه، من الأذكار والهيئات، ولولا خشية الإطالة لبسطت ذلك.

فصل في بداية ونهاية وقت صلاة الليل

فصل في بداية ونهاية وقت صلاة الليل قال أبو محمد: وأما صلاة الليل ووقتها وما يشرع فيها وأنواعها والوتر يطول ولكني ألخصه كالتالي: أما وقتها فيبدأ من الفراغ من صلاة العشاء وسنتها. وأما نهايته فقد اختلف فيه، قال ابن رجب في شرح البخاري على آخر وقت الوتر وحكمه إذا فات ما نصه: "وأما آخر وقته: فذهب الأكثرون إلى أنه يخرج وقته بذهاب الليل، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء، وما دام الليل باقيا، فإن وقته باق. ولا نعلم في ذلك خلافا، إلا ما ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه شرح المذهب، أنه إذا أخره حتى خرج وقت العشاء المختار - وهو نصف الليل، أو ثلثه - صار قضاء. وهذا قول ساقط جدا؛ لأن صلاة العشاء لا تصير قضاء بتأخيرها حتى يخرج وقتها المختار، وإن قيل: إن تأخيرها إليه عمداً لا يجوز - كما سبق ذكره في المواقيت - فكيف يصير تأخير الوتر إلى ذلك الوقت قضاء؟ وأما إذا خرج الليل بطلوع الفجر، فإنه يذهب وقت أدائه عند جمهور العلماء، ويصير قضاء حينئذ، وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنهما -،

إعلال ابن رجب وغيره لحديث ابن عمر مرفوعا بادروا الصبح بالوتر

وقول أبي حنيفة والثوري. وروي عن عمر وابن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي، حتى قال النخعي: لأن يدركني الفجر وأنا أتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر. ويدل عليه: حديث: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة»، وسيأتي حديث: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا». وخرج مسلم من طرق، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وترا»، وخرجه من طريق ابن أبي زائدة، عن عاصم الأحوال، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «بادروا الصبح بالوتر»، وهذا لعله رواه بالمعنى من الحديث الذي قبله. وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «بادروا الصبح بالوتر». وصححه الترمذي، وقد ذكر الدارقطني وغيره: أن ابن أبي زائدة تفرد بهذا الحديث بالإسنادين.

الأحاديث الدالة على فوات وقت الوتر بطلوع الفجر

وذكر الأثرم: أنه ذكر لأبي عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - حديث ابن أبي زائدة هذا من الوجهين، فقال: في الإسناد الأول: عاصم، لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا، ولم يروه إلا ابن أبي زائدة، وما أدري، فذكر له الإسناد الثاني، فقال أحمد: هذا أراه اختصره من حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة»، وهو بمعناه. قال: فقلت له: روى هذين أحد غيره؟ قال: لا. قلت: والظاهر أنه اختصر حديث عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر أيضا، كما اختصر حديث عبيد الله، عن نافع، عنه. والله أعلم. وخرج مسلم أيضا من حديث ابن جريج: أخبرني نافع، أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول: «من صلى بالليل فليجعل صلاته وترا قبل الصبح، كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم».خرجه، عن هارون بن عبد الله: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج .. فذكره. وخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر». وقال: تفرد به سليمان بن موسى على هذا اللفظ.

وذكر المروذي عن أحمد، أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمان بن موسى، إنما قال: قال سليمان. قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سليمان؟ فأنكره، وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة. وخرجه الحاكم من طريق محمد بن الفرج الأزرق: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع، أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوتروا قبل الفجر». وقال: إسناد صحيح. وهذه الرواية أشبه من رواية الترمذي؛ فإن فيها أن ذهاب كل صلاة الليل بطلوع الفجر، إنما هو من قول ابن عمر، واستدل له بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوتر قبل الفجر. ورواية ابن جريج التي صرح فيها بسماعه من نافع - كما خرجه مسلم - ليس فيها شيء مما تفرد به سليمان بن موسى، وسليمان مختلف في توثيقه.

وخرج مسلم أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو نضرة، أن أبا سعيد - رضي الله عنه - أخبرهم، أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر، فقال: «أوتروا قبل الصبح». وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قال: «الوتر بليل». وخرجه ابن خزيمة والحاكم، من حديث قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له». وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وذهب طائفة إلى أن الوتر لا يفوت وقته حتى يصلي الصبح: فروي عن علي وابن مسعود، وقال: الوتر ما بين الصلاتين. يريدان: صلاة العشاء وصلاة الفجر. وعن عائشة - رضي الله عنها - معنى ذلك. وممن روي عنه، أنه أوتر بعد طلوع الفجر: عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وفضالة بن عبيد وغيرهم. وقال أيوب وحميد الطويل: أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر، وهو قول القاسم بن محمد وغيره.

الأحاديث في الوتر بعد طلوع الفجر

وذكر ابن عبد البر: أنه لا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في قولهم، قال: ويحتمل أن يكونوا قالوه فيمن نسيه أو نام عنه، دون من تعمده. وممن ذهب إلى هذا: مالك والشافعي في القديم، وأحمد في رواية عنه، وإسحاق. وقد ذكرنا - فيما تقدم - حديث أبي بصرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «صلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر». وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص كلاهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال في صلاة الوتر: «هي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الشمس». وقد حكى يحيى بن آدم، عن قوم، أن الوتر لا يفوت وقته حتى تطلع الشمس، وظاهر هذا: أنه يوتر بعد صلاة الصبح، ما لم تطلع الشمس، وتكون أداء. وفي المسند، عن علي - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر عند الآذان»، وقد سبق ذكره في الصلاة إذا أقيمت الصلاة.

وفيه أيضا - بإسناد فيه جهالة - عن علي - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نوتر هذه الساعة»، ثم أمر المؤذن أن يؤذن أو يقيم. وخرج الطبراني من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوتر بعد الفجر». وفي إسناده اختلاف، وروي مرسلا، والمرسل أصح عند أبي حاتم وأبي زرعة الرزايين. وروى ابن جريج: أخبرني زياد بن سعد، أن أبا نهيك أخبره، أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - خطب، فقال: من أدركه الصبح فلا وتر له، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الصبح فيوتر». خرجه الطبراني، وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: «كان يدركه بصبح فيوتر». وأبو نهيك، ليس بالمشهور، ولا يدرى: هل سمع من عائشة، أم لا؟، وقد روي عن أبي الدرداء خلاف هذا. وخرج الحاكم من رواية أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «ربما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر، وقد قام الناس لصلاة الصبح». وقال: صحيح الإسناد.

حديث «من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له»

وخرج أيضا من رواية محمد بن فليح، عن أبيه، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر». وقال: صحيح على شرطهما، والبخاري يخرج بهذا الإسناد كثيرا. وروى زهير بن معاوية، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن الأغر المزني، أن رجلا قال: يا رسول الله، أصبحت ولم أوتر؟ فقال: «إنما الوتر بليل «ثلاث مرات أو أربعة، ثم قال: «قم فأوتر». وخرجه البزار مختصرا، ولفظه: «من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له». ورواه وكيع - في كتابه - عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة مرسلا، وهو أشبه، وروى وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، إلا أنه قال: «عن الوتر حتى أصبحت». وفي المعنى أيضا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعا من وجهين، لا يصح واحد منهما. وروى أيوب بن سويد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -» أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يسلم من كل ركعتين، فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة، ثم ركع ركعتي الفجر، ثم

اضطجع». خرجها الطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وحمله: إنما أوتر بعد طلوع الفجر الأول. ثم خرج من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -» أنه بات ليلة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، وفيه [فذكر] فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه من الليل، مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، فلما طلع الفجر الأول، قام فصلى تسع ركعات، يسلم في كل ركعتين، وأوتر بواحدة، وهي التاسعة، ثم أمسك حتى إذا أضاء الفجر جدا قام فركع ركعتي الفجر، ثم نام». قلت: وكلا الحديثين إسناد ضعيف. والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى تقدير صحة هذه الأحاديث، أو شيء منها، فقد تحمل على أن الوتر يقضى بعد ذهاب وقته، وهو الليل، لا على أن ما بعد الفجر وقت له. والمشهور عن أحمد: أن الوتر يقضى بعد طلوع الفجر، ما لم يصل الفجر، وإن كان لا يتطوع عنده في هذا الوقت بما لا سبب له. وفيما له سبب عنه فيه خلاف، فأما الوتر فإنه يقضى في هذا الوقت. ومن الأصحاب من يقول: لا خلاف عنه في ذلك، منهم: ابن أبي موسى وغيره. وحكي للشافعي قول كذلك: أنه يقضي الوتر ما لم يصل الفجر.

اختلاف العلماء في قضاء الوتر إذا فات

وقال أبو بكر - من أصحابنا -: يقضي ما لم تطلع الشمس. وهذا القول يرجع إلى أن الوتر يقضيه من نام عنه أو نسيه. وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات: فقالت طائفة: لا يقضى، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وحكاه أحمد عن أكثر العلماء. ويروى عن النخعي، أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر، وعن الشعبي. وقالت طائفة: يقضى، وهو قول الثوري والليث بن سعد، والمشهور عن الشافعي، ورواية عن أحمد. والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء، ومنهم من قال: يقضي ما يستقل بنفسه كالوتر، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب. والمنصوص عن أحمد وإسحاق: أنه يقضي السنن الرواتب دون الوتر، إذا صلى الفجر ولم يوتر، ونص عليه في رواية غير واحد من أصحابه.

أدلة من قال بقضاء الوتر إذا فات

واستدل من قال: لا يقضي الوتر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -» كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة».خرجه مسلم من حديث عائشة. فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر. ويجاب عن هذا: بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يوتر قبل أن ينام، فلم يكن يفوته الوتر حينئذ، هذا في حال المرض ونحوه ظاهر، وأما في حال غلبة النوم فيه نظر. وخرج النسائي حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه: «كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك نوم غلبه عنه أو وجع، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة». فإن كانت هذه الرواية محفوظة دلت على أنه كان يقضي الوتر. واستثنى إسحاق أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال: يقضي الوتر، ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي المفروضة. وقد ورد في هذا حديث، ذكرناه في قضاء الصلوات، وخرجه النسائي من حديث محمد بن المنتشر، عن أبيه، أنه كان في منزل عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنت أوتر. وقال: سئل عبد الله: هل

بعد الأذان وتر؟ قال: نعم، وبعد الإقامة، وحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس، ثم صلى. فإن كان مراده: أنه نام عن الوتر فذاك، وإن كان مراده: أنه نام عن الفريضة ثم قضاها، فيكون مراده إلحاق القضاء الوتر بالقياس. وكذا روي عن ابن عمر، أنه قاس قضاء الوتر على قضاء الفرض. وأخذه بعضهم من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». خرجه مسلم. وقد سبق في موضعه، فيدخل في عمومه الوتر. وجاء في حديث التصريح به، من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره». خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وخرجه الترمذي أيضا من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نام عن وتره فيصله إذا أصبح».وقال: هذا أصح، وذكر: أن عبد الله بن زيد ثقة، وأخاه عبد الرحمن ضعيف. ولكن خرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح على

شرطهما، وخرجه الدارقطني من وجه آخر، عن زيد، كذلك. لكنه إسناد ضعيف. ورده بعضهم بأن أبا سعيد - رضي الله عنه - روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» أوتروا قبل أن تصبحوا»، وهذا يخالفه وليس كذلك؛ فإن الأمر بالإيتار قبل الصبح أمر بالمبادرة إلى أدائه في وقته، فإذا فات وخرج وقته، ففي هذا أمر بقضائه، فلا تنافي بينهما. وفي تقييد الأمر بالقضاء لمن نام أو نسيه يدل على أن العامد بخلاف ذلك، وهذا متوجه؛ فإن العامد قد رغب عن هذه السنة، وفوتها في وقتها عمدا، فلا سبيل له بعد ذلك إلى استدراكها، بخلاف النائم والناسي. وممن روي عنه الأمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والشعبي وحماد، وهو قول الشافعي، في صحيح عنه، وأحمد، في رواية، والأوزاعي، إلا أنه قال: يقضيه نهارا وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.

أحاديث انتهاء وقت الوتر إلى الصبح أصح، ومخالفتها محمولة على القضاء

وعن سعيد بن جبير، قال: يقضيه من الليل القابلة، وظاهر هذا: أنه لا يقضيه إلا ليلا؛ لأن وقته الليل، فلا يفعل بالنهار" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: والصحيح أن وقت صلاة الليل والوتر ينتهي بطلوع الفجر كما جاءت الأخبار الصحاح بذلك، وهي أصح مما يخالفها من الأخبار التي فيها مد وقت الوتر حتى صلاة الصبح، بل لا تدانيها في الصحة ولا تكاد، وعلى تقدير صحتها فهي محمولة على القضاء، وهي مسألة أخرى. والصحيح أن الوتر لا يقضى على صفته بل يقضى شفعا. قال شيخ الإسلام ما نصه: "ومثل أن يشغله نوم أو مرض عن قيام الليل فيصلي بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، فصلى ثنتي عشرة ركعة شفعا؛ لفوات وقت الوتر" (¬2) ا. هـ. وقال ابن القيم في الهدي ما نصه: "ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (9/ 147). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 473).

الظاهر أن وقت قضاء الوتر إلى صلاة الظهر

فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها؛ لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وترا، كما أن المغرب آخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح، لم يقع الوتر موقعه. هذا معنى كلامه" (¬1) ا. هـ. وأيضا يقضى في النهار كما جاء في صحيح مسلم من طريق أبي عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة»، وأعاده من طريق شعبة، عن قتادة بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا نام من الليل، أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة «(¬2). وظاهر الحديث قضاء الوتر وصلاة الليل، خلافاً لمن خصه بقضاء الصلاة دون الوتر، وتقدم في كلام ابن رجب بحث للمسألة. وأما وقت القضاء: فالظاهر أنه إلى صلاة الظهر، ولذا أخرج مسلم من طريق ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، وعبيد الله بن عبد الله، أخبراه عن عبد الرحمن بن عبد ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 313). (¬2) صحيح مسلم (746).

القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» عقيب حديث عائشة. وكذا صنع ابن خزيمة في صحيحه، حيث أخرج حديث عمر - رضي الله عنه - بإسناد مسلم وبوب عليه: "باب ذكر الوقت من النهار الذي يكون المرء فيه مدركا لصلاة الليل إذا فاتت بالليل، فصلاها في ذلك الوقت من النهار" (¬1). قال أبو محمد: وهذا إذا فسرنا الورد والحزب بالصلاة، وكان غالب حزب القوم وأورادهم من القرآن في صلاتهم، فهو مقيد لإطلاق النهار المذكور في حديث عائشة - رضي الله عنها -. ¬

(¬1) صحيح ابن خزيمة (1171).

فصل في مقدار صلاة الليل

فصل في مقدار صلاة الليل وأما مقدار صلاة الليل: فإن أريد بالمقدار حد ينتهى إليه لا تجوز الزيادة عليه، فما علمت أحداً من السلف قال به، وهو قول شاذ نحى إليه بعض المتأخرين، وجعل الزيادة على إحدى عشرة ركعة كالقيام إلى ثالثة في الصبح، وهذا قول فاسد مطرح. قال في الفتاوى الكبرى: "ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث. فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر. واستحب آخرون: تسعة وثلاثين ركعة؛ بني على أنه عمل أهل المدينة القديم. وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة».

توجيه شيخ الإسلام لإكثار عدد الركعات بأنه عوض عن طول القيام

واضطرب قوم في هذا الأصل؛ لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين. والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت فيها عددا، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل القيام بالليل، حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة: «أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة، والنساء، وآل عمران، فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات»، وأُبي بن كعب لما قام بهم - وهم جماعة واحدة - لم يمكن أن يطيل بهم القيام، فكثر الركعات؛ ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين" (¬1). وقال: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قيامه بالليل في رمضان وغير رمضان إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يصليها طوالاً». ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 250).

لزوم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل كما وكيفا أفضل من نقر إحدى عشر ركعة

فلما كان ذلك يشق على الناس قام بهم أبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة، يوتر بعدها، ويخفف فيها القيام، فكان تضعيف العدد عوضا عن طول القيام. وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة، فيكون قيامها أخف، ويوتر بعدها بثلاث. وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: ولا شك أن لزوم هديه - رضي الله عنه - كمّاً وكيفاً هو أفضل الطرق والمسالك، لا من يزعم أنه يلزم هديه فيصلي إحدى عشرة ركعة ينقرها نقرا. قال ابن القيم: "مجموع ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة، كان يحافظ عليها دائما سبعة عشر فرضاً، وعشر ركعات، أو ثنتا عشرة سنة راتبةً، وإحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل، والمجموع أربعون ركعة. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (2/ 255).

وما زاد على ذلك فعارض غير راتب، كصلاة الفتح ثمان ركعات، وصلاة الضحى إذا قدم من سفر، وصلاته عند من يزوره وتحية المسجد ونحو ذلك. فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائما إلى الممات، فما أسرع الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة. والله المستعان" (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 316).

فصل في صفة قيام الليل

فصل في صفة قيام الليل وأما صفة صلاة الليل: فالأصل فيها ما أخرجه مالك وأحمد والستة من طرق عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى» (¬1). وله ألفاظ عندهم .. وقد أخرجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - جماعة من تلاميذه كنافع وسالم وعبد الله بن دينار وغيرهم. ولفظه عند أبي داود من طريق همام، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلا من أهل البادية، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال بأصبعيه هكذا: «مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» (¬2) يعنى: جمع بين اللفظ والإشارة للبيان. ¬

(¬1) سنن أبي داود (1421). (¬2) الاستذكار (2/ 93).

اختلاف العلماء في صفة صلاة الليل، هل هي مثنى مثنى أم مثنى وأربع

وقال ابن عبد البر في الاستذكار ما نصه: "وقوله مثنى مثنى يقتضي التسليم من كل ركعتين، كما جاء مفسراً في هذا الخبر عن ابن عمر - رضي الله عنهما -؛ لأنه لا يقال للظهر مثنى مثنى، ولا للعصر مثنى مثنى، وإن كان فيهما جلوس في كل ركعتين، وهذا كله يدل على ضعف مذهب الكوفيين في إجازتهم عشر ركعات، وثمانيا، ومثنى، وأربعا" (¬1). وقال: "وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -» صلاة الليل مثنى مثنى «ما يقضي لرواية من روى في هذا الحديث أنه كان يسلم في كل ركعتين (¬2). وقال: "وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها على ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -» صلاة الليل مثنى مثنى»، فمن ذهب إلى هذا تأوّل في قوله» يصلي أربعا ثم أربعا «أي: حسنهن وطولهن، ورتل القرآن فيهن، وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن، حسنهن وطولهن، ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ، لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها، فهذا معنى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا عند هؤلاء. ¬

(¬1) (¬2) الاستذكار (2/ 96).

وحجتهم: «صلاة الليل مثنى مثنى «ولا يقال للظهر ولا للعصر مثنى وإن كان فيها جلوس. واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل: أن مالكا والشافعي وابن أبي ليلى وأبا يوسف ومحمداً قالوا في صلاة الليل: مثنى مثنى. والحجة لهم: ما قدمنا من تسليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته بالليل من كل ركعتين وقوله» صلاة الليل مثنى مثنى»، وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين. وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعاً، وإن شئت ستاً، وثمانياً، لا تسليم إلا في آخرهن. وقال الثوري والحسن بن حي: صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن. وحجة هؤلاء: ظواهر الأحاديث عن عائشة - رضي الله عنها -. منها: حديثها هذا» أربعاً ثم أربعاً ثم ثلاثاً». ومنها: ما رواه الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت» إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات»، وقال مسروق عنها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع فلما أسن أوتر بسبع».

إنكار مالك لحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعات لا يسلم إلا في آخرهن

ويحيى بن الجزار عن عائشة - رضي الله عنها - مثله على اختلاف عن يحيى في ذلك. وروى ابن نمير ووهيب وطائفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمس، لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة منهن « قال أبو عمر: أما حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك، وقال: مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه. وأما سائر الأحاديث فمحتملة للتأويل ويقضي عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى «مع حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها -» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويسلم من كل اثنتين». وقد ذكرنا من روى عن ابن شهاب هذا الحديث كما وصفنا من ثقات أصحابه.

قال أبو عمر: في معنى قوله أيضا في حديث هذا الباب» أربعاً ثم أربعاً ثم ثلاثاً «وجه رابع، وهو أنه كان ينام بعد الأربع، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث" (¬1). وقال ما نصه: "وأما قوله: «فصلى ركعتين ثم ركعتين «فمحمول عندنا على أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -» صلاة الليل مثنى مثنى «وبما ذكرنا في حديث عائشة - رضي الله عنها - من أنه كان يسلم في كل ركعتين من صلاته بالليل، وقوله فيه بعد» ثنتي عشرة ركعة ثم أوتر «دليل على أن الوتر واحدة منفصلة مما قبلها، وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى" (¬2) ا. هـ وقال في التمهيد: نحوه (¬3). وقال ابن رجب في شرح البخاري ما نصه: "وقد بوب البخاري في أبواب صلاة التطوع على أن "صلاة النهار مثنى مثنى"، ويأتي الكلام فيه في موضعه، إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) الاستذكار (2/ 99). (¬2) الاستذكار (2/ 105). (¬3) التمهيد (21/ 70 - 72).

ذكر طرق حديث عائشة وعلله

والكلام هنا في صلاة الليل. وهذا الحديث: يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى، سوى ركعة الوتر، فإنها واحدة. وقد عارض هذا حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي خرجه مسلم، خرجه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء منهن، إلا في آخرهن. وقد تكلم في حديث هشام هذا غير واحد، قال ابن عبر البر: قد أنكر مالك، وقال: مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لم يعرف منه. وقد أعله الأثرم، بأن يقال في حديثه: «كان يوتر بواحدة»، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري. ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، وفي حديثهما: «يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة»، وقد خرجه مسلم من طريقهما أيضا، وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي، عن الزهري. خرج حديثهما أبو داود.

قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - غير واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه، من سرد الخمس، ورواه القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها - في حديثه: «يوتر بواحدة». ولم يوافق هشاما على قوله إلا ابن إسحاق، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - بنحو رواية هشام، وخرجه أبو داود من طريقه كذلك. ورواه أيضا سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه فيه: فخرجه مسلم من رواية قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أنه سال عائشة - رضي الله عنهما - عن وتر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: «كان يصلي تسع ركعات، لا يجلس إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني». وفي رواية له: أن قتادة اخبره سعد بن هشام بهذا، وكان جاراً له. وقد خرجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلم تسليما، ثم

يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة». وفي هذه الرواية: أنه كان يصلي الركعتين جالسا قبل الوتر، ثم يوتر بعدها بواحدة، وهذا يخالف ما في رواية مسلم. ورواه سعد بن هشام، عن عائشة - رضي الله عنها -، واختلف عليه في لفظه: فروي عنه: الوتر بتسع، وروى عنه: بواحدة. ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد، ولفظه: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، ولا يقعد إلا في آخرهن». قال الإمام أحمد: فهذه الرواية خطأ. يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة. وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة، وقد تكلم الأثرم في إسنادهما. وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه، وذكر أن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الوتر بركعة أصح من ذلك، وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في وصفه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بات عند خالته ميمونة - رضي الله عنها - يدل عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - من كل ركعتين وأوتر بواحدة.

فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس، وقالوا: لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وهذه طريقة البخاري والأثرم. وقال ابن عبد البر: هو قول أهل الحجاز، وبعض أهل العراق، ثم حكى عن مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد، أن صلاة الليل مثنى مثنى. قال: وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا وثمانيا، ولا تسلم إلا في آخرهن. وقال الثوري والحسن بن حي: صلاة الليل ما شئت، بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن. وحكى الترمذي في كتابه أن العمل عند أهل العلم على أن صلاة الليل مثنى مثنى. قال: وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وعمار، وعن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير وحماد ومالك والأوزاعي. وحكي عن عطاء، أنه قال: في صلاة الليل والنهار: يجزئك التشهد.

توجيه حديث عائشة رضي الله عنها بما لا يخالف حديث صلاة الليل مثنى مثنى

وهذا يشبه ما حكاه ابن عبد البر، عن الثوري والحسن بن حي، وهو مبني على أن السلام ليس من الصلاة، وأنه يخرج منها بدونه، كما سبق ذكره، وقد روي عن النخعي نحوه. ومذهب سفيان الذي حكاه أصحابه أنه لا بأس أن يصلي بالليل والنهار أربعا أو ستا أو أكثر من ذلك، لا يفصل بينهن إلا في آخرهن، قال: وإذا صلى بالليل مثنى، فهو أحب إلي. وحمل هؤلاء كلهم قول عائشة: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعا، ثم أربعا «على أنه كان لا يسلم بينها، وسيأتي حديثها بذلك، إن شاء الله سبحانه وتعالى، وحمله الآخرون على أنه كان يفصل بينها بسلام، وهذا كله في التطوع المطلق في الليل" (¬1) ا. هـ. وقال ابن بطال في شرح البخاري ما نصه: قوله عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى «يفسر حديث عائشة أنه كان يصلي أربعا ثم ثلاثا، وهي زيادة يجب قبولها، وقوله: «فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت»، دليل أن الوتر واحدة؛ لأنه عليه السلام، قال في الركعة: «إنما هي التي توتر ما قبلها»، ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (9/ 101).

كون صلاة الليل مثني مثني يقتضي التسليم في كل ركعتين

والوتر في لسان العرب هو الواحد، فلذلك قال عليه السلام: «إن الله وتر»، أي واحد لا شريك له، والحكم يتعلق بأول الاسم كما أن الظاهر من قوله: «مثنى مثنى»، أي: ثنتين مفردتين (¬1). وقال: ذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته بالليل مثنى مثنى، على حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقالوا: قوله: «مثنى مثنى «يفيد التسليم فى كل ركعتين ليفصل بينها وبين صلاة أربع، وإلا فلا يفيد هذا الكلام؛ لأنه على التقدير تكون صلاة الظهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلما لم يقل لواحدة منها مثنى مثنى علم أن المثنى يقتضى الفصل بالسلام (¬2). وقال: وأما قول عائشة - رضي الله عنها -: «يصلى أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعا، ثم ثلاثا»، فقد تقدم في أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى «؛ لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا في بعض طرق هذا الحديث، روى ابن أبى ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر، ¬

(¬1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 576). (¬2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 127).

يسلم بين كل ركعتين». وقيل فى قولها: «يصلى أربعا، ثم أربعا»، أنه كان ينام بعد الأربع، ثم يصلى، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث، فاحتج من قال ذلك بحديث الليث، عن ابن أبى مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها وصفت صلاة رسول الله بالليل وقراءته فقالت: «كان يصلى ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر «(¬1). وقال: واختلف الفقهاء في التطوع بالليل والنهار كيف هو؟ فقالت طائفة: هو مثنى مثنى، هذا قول: ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وهو قول: أبى يوسف، ومحمد في صلاة الليل. وقال أبو حنيفة: أما صلاة الليل فإن شئت صليت ركعتين وإن شئت صليت أربعا، وإن شئت صليت ستا، وإن شئت ثمانيا، وكره أن يزيد على ذلك شيئا. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئا، وحجة أبى حنيفة لقوله في صلاة الليل حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان - صلى الله عليه وسلم - يصلى بالليل ¬

(¬1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (13/ 142).

أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعا، ثم ثلاثا». فقال لهم أهل المقالة الأولى: ليس فى حديث عائشة - رضي الله عنها - يصلى أربعا" (¬1) ا. هـ. وقال في المغني ما نصه: مسألة: قال: (وصلاة التطوع مثنى مثنى) يعني يسلم من كل ركعتين. والتطوع قسمان: تطوع ليل، وتطوع نهار. فأما تطوع الليل: فلا يجوز إلا مثنى مثنى. هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا، وإن شئت ثمانيا. ولنا، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى» متفق عليه، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور، وبين كل ركعتين تسليمة». رواه الأثرم" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (13/ 155). (¬2) المغني المغني (2/ 91).

اختصر ابن دقيق سبب الخلاف في هذه المسألة

قال ابن دقيق العيد في أحكام الأحكام ما نصه: "واعلم أن محط النظر هو الموازنة بين الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى «في دلالته على الحصر، وبين دلالة هذا الفعل على الجواز. والفعل يتطرق إليه الخصوص، إلا أنه بعيد، لا يصار إليه إلا بدليل. فتبقى دلالة الفعل على الجواز معارضة بدلالة اللفظ على الحصر" (¬1) ا. هـ. وإنما أطلت النقل في هذه المسألة؛ لكثرة الجهل بها، وتوسع من لا علم عنده فيها، لا سيما من يلي الإمامة. وإذا تقرر ما تقدم، وأن صلاة الليل مثنى مثنى لم يخرج عن هذا إلا الوتر، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام. والصفات المنقولة عنه عليه الصلاة والسلام في الوتر معروفة مضبوطة تقدم في النقول السابقة الإشارة إليها فلا نطيل الكلام بذكرها. ¬

(¬1) أحكام الأحكام (1/ 319).

فصل لا ينبغي للعبد أن يدع قيام الليل والوتر

فصل لا ينبغي للعبد أن يدع قيام الليل والوتر ولا ينبغي للعبد أن يدع صلاة الليل والوتر، وهو سنة مؤكدة، وهو آكد من الرواتب، ومن سنة الصبح - على فضلها - عند كثير من العلماء. قال في المغني: "واختلف أصحابنا في الوتر وركعتي الفجر، فقال القاضي: ركعتا الفجر آكد من الوتر؛ لاختصاصهما بعدد لا يزيد ولا ينقص، فأشبها المكتوبة. وقال غيره: الوتر آكد. وهو أصح؛ لأنه مختلف في وجوبه، وفيه من الأخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر، لكن ركعتا الفجر تليه في التأكيد، والله أعلم (¬1) ا. هـ. وفي مسائل صالح بن أحمد لأبيه: "وسألته عن الرجل يترك الوتر متعمداً ما عليه في ذلك، قال أبي: هذا رجل سوء، هو سنة، سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه" (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) المغني (2/ 119). (¬2) مسائل صالح بن أحمد (1/ 266).

فصل في أن الوتر في آخر الليل أفضل، والتفصيل في ذلك

فصل في أن الوتر في آخر الليل أفضل، والتفصيل في ذلك والأفضل فعله في آخر الليل؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى وتره إلى السحر»، متفق عليه. وفي حديث جابر - رضي الله عنه - - عند مسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم آخر فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل». وفي رواية له: «محضورة». وهذا صريح في التفضيل، فإذا كان له تهجد جعل الوتر بعده لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وقال " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " رواه مسلم (¬1). فأما إن خاف أن لا يقوم آخر الليل استحب أن يوتر من أوله؛ لما ذكرنا من الحديث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى به أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء، وكلها أحاديث صحاح. ¬

(¬1) صحيح مسلم (755).

علل حديث سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن وقت وتريهما

وقال ابن رجب في شرح البخاري: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «أيَّ حِينٍ توتر؟» قال: أول الليل بعد العتمة، قال: «فأنت يا عمر؟» قال: آخر الليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة». وخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وإسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح، مرسلا. وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما، بأسانيد لينة، ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلا، وهو من أجود المراسيل، كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري. ورواه بعضهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، والصواب إرساله، قاله الدارقطني. ورواه مسعر، عن سعد بن إبراهيم، واختلف عنه: فقيل: عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، وقيل: عنه، عن سعد، عن أبي سلمة مرسلا، وقيل: عنه، عن سعد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة. والظاهر: أنه غير ثابت.

وخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وفي حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما أنت يا أبا بكر، كما قال القائل: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل، وأما أنت يا عمر، فتأخذ - أو تعمل - عمل الأقوياء». ورواه وكيعـ في كتابه - عن معسر، عن ابن المسيب مرسلا، وزاد فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر 3: «أنت مثل الذي قال: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل». وهذه الرواية أصح، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب مرسلا، بهذه الزيادة أيضا" (¬1) ا. هـ. وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأه، بغير خلاف. ¬

(¬1) فتح الباري لابن رجب (9/ 143).

فصل في قيام داود عليه السلام

فصل في قيام داود عليه السلام وأخرج صاحبا الصحيح من طريق سفيان، قال: حدثنا عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس، أخبره: أن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما» (¬1). وبوب عليه البخاري: "من نام عند السحر"، ثم أردفه بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما» تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال العيني: قال المهلب كان داود عليه الصلاة والسلام يجم نفس بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الرب: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صار ذلك أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على النفوس التي ¬

(¬1) البخاري (1131)، ومسلم (1159). (¬2) صحيح البخاري (1133).

كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينام في السحر بعد أن يوتر

يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله ويوالي إحسانه" (¬1). وقال العيني أيضا ما نصه: قوله: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما «يعني: ما أتى عليه السحر عندي إلا وهو نائم، فعلى هذا كانت صلاته بالليل، وفعله فيه إلى السحر، ويقال: هذا النوم هو النوم الذي كان داود، عليه الصلاة والسلام، ينام، وهو أنه كان ينام أول الليلة، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله عز وجل: هل من سائل؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في الليل، وهذا هو النوم عند السحر، على ما بوب له البخاري، وقال ابن التين: قولها: «إلا نائما «أي: مضطجعا على جنبه؛ لأنها قالت في حديث آخر: «فإن كنت يقظانة حدثني وإلا اضطجع حتى يأتيه المنادي للصلاة»، فيحصل بالضجعة الراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول صلاة الصبح؛ فلهذا كان ينام عند السحر (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) عمدة القاري لالعيني (7/ 181). (¬2) عمدة القاري لالعيني (7/ 183).

الجمع بين حديث عائشة رضي الله عنها ما ألفاه السحر عندي إلا نائما وحديثها من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى وتره إلى السحر

قال أبو محمد: كان داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقسم الليل أقساما، فينام ثلاثة أسداس من أول الليل، ويقوم السدس الرابع، والخامس، وينام السدس الأخير. فإن قيل: ما وجه الجمع بين حديث عائشة - رضي الله عنها -: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما»، وحديثها: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى وتره إلى السحر «وكذا حديث جابر - رضي الله عنه -: «أن صلاة آخر الليل مشهودة «؟ والجواب: أن آخر صلاته ووتره عليه الصلاة والسلام يقعان في آخر الليل، في أول السحر، ثم بعد ذلك يرتفق باضطجاع، وربما نام يسيراً، بأبي هو وأمي، ولا يصل صلاة الليل بصلاة الصبح. وهذا أحسن ما قيل. والله أعلم.

فصل في دعاء المسافر إذا دخل وقت السحر

فصل في دعاء المسافر إذا دخل وقت السحر فإن كان في سفر فأسحر - دخل عليه وقت السحر - سُن له أن يقول ما أخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا بِاللهِ مِنَ النَّارِ» (¬1). وعند البيهقي في الدعوات الكبير وغيره بسند صحيح: يقول ذلك ثلاث مرات ويرفع بها صوته (¬2) ا. هـ. ¬

(¬1) صحيح مسلم (2718). (¬2) الدعوات الكبير (468).

فصل في فضل المبادرة إلى الذكر والصلاة والدعاء لمن قام من الليل

فصل في فضل المبادرة إلى الذكر والصلاة والدعاء لمن قام من الليل وينبغي أن يهتبل وقت استيقاظه من الليل بالذكر والصلاة والدعاء، إن تيسر له ذلك. قال البخاري في صحيحه: "باب فضل من تعار من الليل فصلى"، ثم أخرج من طريق: الأوزاعي، قال: حدثني عمير بن هانئ، قال: حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثني عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعارّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته «(¬1). وقوله: «تعارّ «قال البغوي: أي: استيقظ من النوم، وأصل التعارّ: السهر والتقلب على الفراش، وقيل: إن التعارّ لا يكون إلا مع كلام أو صوت، مأخوذ من عرار الظليم، وهو صوته، والظليم: ذكر النعام. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1154).

فائدة

فائدة: قال في إبراز الأماني من حفظ المعاني: "قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة. وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع. وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة، وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب. وينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والشباب، وقوة البدن، واستراحة الخاطر، وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة، فقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «تفقهوا قبل أن تسودوا». وقال الشافعي - رضي الله عنه -: «تفقه قبل أن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل لك إلى التفقه». ويكتب كل ما سمعه، ثم يواظب على حلقة الشيخ، ويعتني بكل الدروس، فإن عجز اعتنى بالأهم

وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم إلى مواطن الاشتغال والفائدة، ويذكرهم أهم ما استفاده: على جهة النصيحة والمذاكرة، وبإرشاده يبارك له في علمه، وتتأكد المسائل معه مع جزيل ثواب لله تعالى. ومن فعل ضد ذلك كان بضده، فإذا تكاملت أهليته، واشتهرت فضيلته، اشتغل بالتصنيف، وجد في الجمع والتأليف والله الموفق (¬1). ¬

(¬1) إبراز الأماني من حفظ المعاني (1/ 775).

فصل في تبييت النية للصائم صوما واجبا

فصل في تبييت النية للصائم صوما واجبا فإن أراد أن يصوم يوما، فإن كان واجبا كرمضان وصيام الكفارات والنذور لزمه تبييت النية في ذلك. وإن كان الصوم نفلا استحب ولم يجب. وقد بسطت الكلام على المسألة في شرحي لكتاب الصيام من صحيح البخاري.

فصل لا يحرم صوم شيء من الأيام إلا بدليل

فصل لا يحرم صوم شيء من الأيام إلا بدليل واعلم أنه لا يحرم صوم شيء من الأيام إلا بدليل، كصيام العيدين، وأيام التشريق، فإنه يحرم؛ للأخبار في ذلك، ولا يصح الصوم حينئذ. وكذا يحرم إفراد يوم الجمعة بصيام. وأما يوم السبت فالخبر الوارد في النهي عن صومه لا يصح، ولولا خشية التطويل لبسطنا المقام هنا، والمقصود الإشارة.

فصل في وجوب الشكر على من أنعم الله عليه فعاش ليله ويومه

فصل في وجوب الشكر على من أنعم الله عليه فعاش ليله ويومه فإن طلع عليه الصبح - وهو في عافية - فقد تم يومه، وأنعم الله عليه بالإمهال، فليتق الله وليؤد شكر ذلك. وإلى هنا ينتهي ما أردت التذكير به من الأعمال، ويليه فصل لطيف عن بعض العوارض في اليوم والليلة وشيء من فقهها.

فصل في فقه عوارض اليوم والليلة

فصل في فقه عوارض اليوم والليلة o فصل في قضاء الحائض للصلاة إذا حاضت بعد دخول وقتها o فصل في حكم صاحب الحدث المستمر، هل يلزمه الوضوء لكل صلاة؟ o فصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر o فصل فيمن كانت عنده امرأتان فأكثر

فصل في قضاء الحائض للصلاة إذا حاضت بعد دخول وقتها

فصل في قضاء الحائض للصلاة إذا حاضت بعد دخول وقتها فإن حاضت امرأة بعد دخول الوقت، فيلزمها قضاء تلك الصلاة عند طهرها، واختاره أبو محمد في المغني حيث قال: "ويستقر وجوبها بما وجبت به، فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جن، أو حاضت المرأة - لزمهما القضاء إذا أمكنهما. وقال الشافعي وإسحاق: «لا يستقر إلا بمضي زمن يمكن فعلها فيه». ولنا: أنها صلاة وجبت عليه، فوجب قضاؤها إذا فاتته، كالتي أمكن أداؤها (¬1) "ا. هـ. قال أبو محمد: وإنما هي صلاة واحدة تخرج بها من خلاف، وتسبرئ لدينها بفعلها. وإن طهرت في وقت صلاة لم يلزمها سوى فرض الوقت الذي طهرت فيه على أصح الأقوال، خلافا للجمهور، وهو قول الحسن والثوري، وأصحاب ¬

(¬1) المغني (1/ 271).

يجب على المرأة السؤال عما لا تعلم حكمها من غسلها وحيضها ونحو ذلك

الرأي؛ لأن وقت الأولى خرج في حال عذرها، فلم تجب كما لو لم يدرك من وقت الثانية شيئا (¬1) ا. هـ. فائدة: قال ابن عبد البر في التمهيد ما نصه: "وكل امرأة عليها فرضا أن تسأل عن حكم حيضتها، وغسلها، وضوئها، وما لا غناء بها عنه من أمر دينها، وهي والرجل فيما يلزمها من فرائضهما سواء " (¬2) ا. هـ. قال أبو محمد: وباب الحيض مشكل في كثير من مسائله على العلماء، فكيف بمن دونهم، لكن مع الضبط والتحري لأصوله الجامعة - الأحاديث الصحيحة فيه - يطمئن القلب لأكثر مسائله، كما قال شيخ الإسلام في الاستقامة ما نصه: "بل باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة، وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم، ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة، ومن انتصب ليفتي الناس يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مائة مرة حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة" (¬3) ا. هـ. ¬

(¬1) المغني (1/ 271). (¬2) التمهيد (8/ 338). (¬3) الاستقامة (1/ 58).

فصل في حكم صاحب الحدث المستمر، هل يلزمه الوضوء لكل صلاة؟

فصل في حكم صاحب الحدث المستمر، هل يلزمه الوضوء لكل صلاة؟ وصاحب الحدث المستمر هل يلزمه الوضوء لكل صلاة؟ أم لا يلزمه؟ بل متى توضأ فله أن يصلي بوضوئه ما شاء من الصلوات، ما لم يحدث حدثا اختياريا. الجواب: الثاني. وقبل أن نبسط الكلام على الإجابة على هذا السؤال نبين أن أصحاب الأحداث المستمرة لهم ثلاثة أحوال لا رابع لها: الحال الأولى: أن يكون الحدث مستمرا لا ينقطع. الحال الثانية: أن ينقطع الحدث، لكن على وجه لا ينضبط في أوقات انقطاعه. فهذان الحالان هما مادة البحث هنا، وحكمهما واحد، على ماتقدم ترجيحه وسياتي - إن شاء الله - التدليل عليه.

المراد بالحدث المستمر

الحال الثالثة: أن ينقطع في أوقات منضبطة معلومة، ويبقى طاهراً تماماً بعد انقطاعه، فصاحب هذا الحال يلزمه الانتظار حتى ينقطع حدثه، ثم الاستنجاء والتطهر، ولا إشكال في ذلك؛ ولأنه يمكنه الصلاة بطهارة صحيحة فأشبه الأصحاء، ما لم يخش خروج الوقت فيتوضأ وإن استمر حدثه. تنبيه: المراد بالحدث المستمر: كالمستحاضة، وهي التي جاء فيها الخبر، وقيس عليها صاحب سلس البول، والودي، واتصال خروج مذي، واستطلاق الريح وغائط، ونحو ذلك .. عافانا الله وكل مسلم ومسلمة. وأصل المسألة ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» قال: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذلك الوقت» (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم (333).

زيادة وتوضئي لكل صلاة في الحديث شاذة

وأصل الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن والمسانيد، وقد أشار مسلم إلى حذفها عمدا، فقال بعد إخراجها: «وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره» (¬1) هذا تضعيف منه. وقال النسائي بعد إخراجه من طريق حماد بن زيد عن هشام بن عروة ما نصه: «لا أعلم أحداً ذكر في هذا الحديث: «وتوضئي» غير حماد بن زيد. وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه «وتوضئي» (¬2). وقال البيهقي: «رواه مسلم في الصحيح عن خلف بن هشام، عن حماد» دون قوله: «وتوضئي»، ثم قال مسلم: «وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره»، وهذا لأن هذه الزيادة غير محفوظة، إنما المحفوظ ما رواه أبو معاوية، وغيره، عن هشام بن عروة هذا الحديث، وفي آخره قال: قال هشام: «قال أبي»: «ثم توضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت «(¬3) ا. هـ. يعني موقوفة على عروة. ¬

(¬1) صحيح مسلم (333). (¬2) سنن النسائي (217) (¬3) سنن البيهقي (565).

الصحيح أن الوضوء لكل صلاة إنما هو مستحب، وليس واجبا

ولذا قال ابن رجب في شرح البخاري: "قلت: والصواب: أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة" (¬1) ا. هـ. وينظر أيضا هل هي موصولة بالإسناد السابق أم معلقة، وعلى التسليم برفعها ووصلها فهي شاذة والصحيح في هذه المسألة: ما ذهب إليه مالك ومن وافقه من أن الوضوء لكل صلاة إنما هو مستحب، لا يجب في مثل هذه الحال؛ اكتفاء بوضوئه الأول/ لأن زيادة» وتوضئي لكل صلاة «غير محفوظة - كما تقدم - وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون، أكثرهم ومنهم الكبار لم يذكروها كمالك ووكيع ويحي القطان والليث وابن عيينة ومعمر .. في بضعة عشر كلهم رواه عن هشام دون ذكر الأمر بالوضوء، وإنما زادها من هم أقل من هؤلاء في التثبت، وفي العدد أيضا. قال ابن عبد البر في الكافي: "وتتوضأ - يعني المستحاضة - لكل صلاة، وليس ذلك عليها عند مالك بواجب، ويستحسنه لها، وعند غيره من أهل المدينة ¬

(¬1) فتح الباري لا بن رجب (2/ 72)

هو: واجب عليها، ولو أفاقت المستحاضة من علتها وانقطع دم الاستحاضة عنها لم يكن عليها غسل. ومن أهل العلم من يستحب لها الغسل وقد روي ذلك عن مالك. والمستحاضة طاهر، تصلي، وتصوم، وتطوف بالبيت، وتقرأ في المصحف، ويجامعها زوجها - إن شاء - مادامت تصلي في استحاضتها. وحكم سلس البول والمذي - إذا كان دائما لا ينقطع - كحكم المستحاضة يستحب لهما مالك الوضوء لكل صلاة وغيرة يوجبه (¬1) ا. هـ. وقال في التمهيد: وأما مالك فإنه لا يوجب على المستحاضة، ولا على صاحب السلس وضوءا؛ لأنه لا يرفع به حدثا، وقد قال عكرمة وأيوب وغيرهما سواء دم الاستحاضة أو دم جرح، لا يوجب شيء من ذلك وضوءا. وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «ليس على المستحاضة إلا أن تغسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة»، قال مالك: «والأمر عندنا على حديث هشام بن عروة عن أبيه، وهو أحب ما سمعت إلي». ¬

(¬1) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/ 189).

والوضوء عليها عنده استحباب - على ما ذكرنا عنه - لأنه لا يرفع الحدث الدائم، فوجه الأمر به الاستحباب. والله أعلم. وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها -: «فإذا ذهب قدر الحيضة فاغتسلي وصلي «ولم يذكر وضوءا ولو كان الوضوء واجبا عليها لما سكت عن أن يأمرها به. وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة والله الموفق للصواب. وأما الأحاديث المرفوعة في إيجاب الغسل لكل صلاة، وفي الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، والوضوء لكل صلاة على المستحاضة، فكلها مضطربة لا تجب بمثلها حجة (¬1) ا. هـ. وقال في الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني: "وأما دم الاستحاضة فيجب منه الوضوء، ويستحب لها ولسلس البول أن يتوضآ لكل صلاة، قال في الشرح: «ولسلس البول الخ» هو بكسر اللام التي بين السينين اسم فاعل صفة ¬

(¬1) التمهيد (16/ 98).

للرجل، أي: يستحب لصاحب السلس أن يتوضأ لكل صلاة: وأن يكون وضوءه متصلا بالصلاة: ولا خصوصية لسلس البول بالحكم: بل الحكم عام لكل ذي سلس: بولاً أو ريحاً أو منياً، فالجميع سواء في عدم النقض بالذي خرج منهم" (¬1) ا. هـ ¬

(¬1) الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني (1/ 27).

فصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر

فصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر فإن دخل الوقت عليه وهو مقيم، ثم سافر فلا يلزمه التربيع عند جمهور العلماء، وهو الصحيح، فالعبرة بحاله عند فعل الصلاة، وهو الآن مسافر. قال ابن المنذر في الأوسط: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من خرج بعد الزوال مسافراً أن يقصر الصلاة، وممن حفظنا عنه ذلك مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي" (¬1). وقال في المغني ما نصه: فصل: "وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة، فقال ابن عقيل: فيه روايتان: إحداهما، قصرها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها. وهذا قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ لأنه سافر قبل خروج وقتها، أشبه ما لو سافر قبل وجوبها. ¬

(¬1) الأوسط (3/ 354).

والثانية، ليس له قصرها؛ لأنها وجبت عليه في الحضر، فلزمه إتمامها، كما لو سافر بعد خروج وقتها، أو بعد إحرامه بها، وفارق ما قبل الوقت؛ لأن الصلاة لم تجب عليه" (¬1) ا. هـ. قال أبو محمد: والصحيح الأول. ¬

_ (¬1) المغني (2/ 209).

فصل فيمن أغمي عليه ثم أفاق وقد خرج وقت الصلاة

فصل فيمن أغمي عليه ثم أفاق وقد خرج وقت الصلاة ومن أغمي عليه واستوعب الإغماء وقت الصلاة بكاملها فلا قضاء عليه بعد إفاقته، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في كتابي: نفح العبير، وذلك بعد طلب كريم من شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز أن أبحث المسألة. وهذا إذا كان الإغماء بغير اختياره، فأما إن كان الإغماء بسبب من قبله فيصلي متى أفاق - كالإغماء بسبب البنج أثناء العمليات، ومثله من يشرب ما يذهب عقله. وأما في مسألة الصيام فمتى استوعب الإغماء وقت الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإنه يقضي مطلقا سواء كان الإغماء باختياره أم لا، وهذا هو المعتمد.

فصل في وجوب صلة الرحم

فصل في وجوب صلة الرحم ويجب على المرء أن يصل رحمه، وهم القرابة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 22، 23]. وقد أخرج البخاري ومسلم، كلاهما من طريق عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، ويُنسأَ له في أثره، فليصل رحمه" (¬1). وأخرج أحمد والترمذي من طريق عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن مولى المنبعث، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في أهله، مثراة في ماله، منسأة في أثره" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2986)، صحيح مسلم (2557). (¬2) مسند أحمد (8868)، جامع الترمذي (8868)، وإسناده صالح، ويشهد له ما في الصحيح، وفي المتن زيادة المحبة في الأهل، وهي حاصلة ضرورة جزاء الإحسان، وأما تعلم النسب فهو مشروع لهذا الغرض وغيره.

وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه ومعنى قوله: "منسأة في الأثر" يعني زيادة في العمر"ا. هـ. وأخرج البخاري تحت باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم من طريق محمد بن معن، قال: حدثني أبي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه" (¬1) وذكر حديث أنس السابق .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5985).

فصل في ضابط الرحم الذين تجب صلتهم

فصل في ضابط الرحم الذين تجب صلتهم وأحسن ما قيل في ضابط القرابة الذين تجب صلتهم: أنهم هم الأرحام المحارم. وتفسيره: أن تفرض الشخص امرأة، فإن حلّ لك نكاحه فهو رحم غير محرم، ولا تجب صلته، نعم تستحب، وإن حرم عليك نكاحه فهو رحم محرم تجب صلته؛ ولذا يجب صلة الآباء والأمهات -وإن علوا- والأبناء والبنات -وإن نزلوا وارثين أو غير وارثين- وكذا الإخوة والأخوات وأولادهم وإن نزلوا والأعمام والعمات وإن علوا، وكذا الأخوال والخالات وإن علوا. أما أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات فليسوا برحم محرم. ثم الأقرب أولى من الأبعد، والفقير المسكين أولى من الموسر، والضعيف أولى من القوي. والصلة: تكون بالسلام والإحسان القولي والفعلي، بالنفس والمال والجاه والمعروف، وكل ذلك راجع إلى الاستطاعة والقدرة من الواصل، على حد قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. والله يتولانا بصلته وكرمه .. آمين.

فصل فيمن كانت عنده امرأتان فأكثر

فصل فيمن كانت عنده امرأتان فأكثر ومن كان عند امرأتان فأكثر وأحب أن يتعلم أحكام القسم فقد بسطت الكلام عليها بما لا مزيد عليه، وهي موجودة في حاشيتي على شرح البخاري من كتاب «الحلل الإبريزية من التعليقات البازية»، وكذلك في «نفح العبير»، فمن أحب النظر فيها فليراجع الأحكام هناك، وإنما تركت ذكرها خشية الإطالة. والحمد لله على جزيل ووافر كرمه. وكتب: أبو محمد عشية الأحد، 23 من شهر ذي القعدة من شهور سنة 1434 حامدا مصليا مسلما.

§1/1